عباس تربصتم بالتوبة وثانيها قال مقاتل وتربصتم بمحمد الموت قلتم يوشك أن يموت فنستريح منه وثالثها كنتم تتربصون دائرة السوء لتلتحقوا بالكفار وتتخلصوا من النفاق وثالثها قوله وَارْتَبْتُمْ وفيه وجوه الأول شككتم في وعيد الله وثانيها شككتم في نبوة محمد وثالثها شككتم في البعث والقيامة ورابعها قوله وَغرَّتْكُمُ الاْمَانِى ُّ قال ابن عباس يريد الباطل وهو ما كانوا يتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ يعني الموت والمعنى ما زالوا في خدع الشيطان وغروره حتى أماتهم الله وألقاهم في النار
قوله تعالى وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ سماك بن حرب الْغُرُورِ بضم الغين والمعنى وغركم بالله الاغترار وتقديره على حذف المضاف أي غركم بالله سلامتكم منه مع الاغترار
المسألة الثانية الْغُرُورِ بفتح الغين هو الشيطان لإلقائه إليكم أن لا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة
فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَة ٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِى َ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
الفدية ما يفتدى به وهو قولان الأول لا يؤخذ منكم إيمان ولا توبة فقد زال التكليف وحصل الإلجاء
الثاني بل المراد لا يقبل منكم فدية تدفعون بها العذاب عن أنفسكم كقوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَة ٌ ( البقرة 123 ) واعلم أن الفدية ما يفتدى به فهو يتناول الإيمان والتوبة والمال وهذا يدل على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً على ما تقوله المعتزلة لأنه تعالى بين أنه لا يقبل الفدية أصلاً والتوبة فدية فتكون الآية دالة على أن التوبة غير مقبولة أصلاً وإذا كان كذلك لم تكن التوبة واجبة القبول عقلاً أما قوله وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ففيه بحث وهو عطف الكافر على المنافق يقتضي أن لا يكون المنافق كافراً لوجوب حصول المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه والجواب المراد الذين أظهروا الكفر وإلا فالمنافق كافر
ثم قال تعالى مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِى َ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
وفي لفظ المولى ههنا أقوال أحدها قال ابن عباس مَوْلَاكُمْ أي مصيركم وتحقيقه أن المولى موضع الولي وهو القرب فالمعنى أن النار هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه والثاني قال الكلبي يعني أولى بكم وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة واعلم أن هذا الذي قالوه معنى وليس بتفسير للفظ لأن لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة لصح استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر فكان يجب أن يصح أن يقال هذا مولى من فلان كما يقال هذا أولى من فلان ويصح أن يقال هذا أولى فلان كما(29/198)
يقال هذا مولى فلان ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير وإنما نبهنا على هذه الدقيقة لأن الشريف المرتضى لما تسمك بإمامة علي بقوله عليه السلام ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) قال أحد معاني مولى معناه أولى واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية بأن مولى معناه أولى وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه لأن ما عداه إما بين الثبوت ككونه ابن العم والناصر أو بين الإنتفاء كالمعتق والمعتق فيكون على التقدير الأول عبثاً وعلى التقدير الثاني كذباً وأما نحن فقد بينا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضع معنى لا تفسير وحينئذ يسقط الاستدلال به وفي الآية وجه آخر وهو أن معنى قوله هِى َ مَوْلَاكُمْ أي لا مولى لكم وذلك لأن من كانت النار مولاه فلا مولى له كما يقال ناصره الخذلان ومعينه البكاء أي لا ناصر له ولا معين وهذا الوجه متأكد بقوله تعالى وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ( محمد 11 ) ومنه قوله تعالى يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ ( الكهف 29 )
( 16 )
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاٌّ مَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ الحسن ( ألما يأن ) قال ابن جني أصل لما لم ثم زيد عليها ما فلم نفي لقوله أفعل ولما نفي لقوله قد يفعل وذلك لأنه لما زيد في الإثبات قد لا جرم زيد في نفيه ما إلا أنهم لما ركبوا لم مع ما حدث لها معنى ولفظ أما المعنى فإنها صارت في بعض المواضع ظرفاً فقالوا لما قمت قام زيد أي وقت قيامك قام زيد وأما اللفظ فإنه يجوز أن تقف عليها دون مجزومها فيجوز أن تقول جئت ولما أي ولما يجيء ولا يجوز أن يقول جئت ولم
وأما الذين قرأوا أَلَمْ يَأْنِ فالمشهور ألم يأن من أنى الأمر يأني إذا جاء إناء أتاه أي وقته وقرىء ( ألم يئن ) من أن يئين بمعنى أنى يأني
المسألة الثانية اختلفوا في قوله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فقال بعضهم نزل في المنافقين الذين أظهروا الإيمان وفي قلوبهم النفاق المباين للخشوع والقائلون بهذا القول لعلهم ذهبوا إلى أن المؤمن لا يكون مؤمناً في الحقيقة إلا مع خشوع القلب فلا يجوز أن يقول تعالى ذلك إلا لمن ليس بمؤمن وقال آخرون بل المراد من هو مؤمن على الحقيقة لكن المؤمن قد يكون له خشوع وخشية وقد لا يكون كذلك ثم على هذا القول تحتمل الآية وجوهاً أحدها لعل طائفة من المؤمنين ما كان فيهم مزيد خشوع ولا رقة فحثوا عليه بهذه الآية وثانيها لعل قوماً كان فيهم خشوع كثير ثم زال منهم شدة ذلك الخشوع فحثوا على المعاودة إليها عن الأعمش قال إن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا ليناً في العيش ورفاهية ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية وعن أبي بكر أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده(29/199)
قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال هكذا كنا حتى قست القلوب وأما قوله لِذِكْرِ اللَّهِ ففيه قولان الأول أن تقدير الآية أما حان للمؤمنين أن ترق قلوبهم لذكر الله أي مواعظ الله التي ذكرها في القرآن وعلى هذا الذكر مصدر أضيف إلى الفاعل والقول الثاني أن الذكر مضاف إلى المفعول والمعنى لذكرهم الله أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعاً ولا يكونوا كمن ذكره بالغفلة فلا يخشع قلبه للذكر وقوله تعالى وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ فيه مسائل
المسألة الأولى ( ما ) في موضع جر بالعطف على الذكر وهو موصول والعائد إليه محذوف على تقدير وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ ثم قال ابن عباس في قوله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ يعني القرآن
المسألة الثانية قال أبو علي قرأ نافع وحفص والمفضل عن عاصم وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ خفيفة وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم وَمَا نَزَلَ مشددة وعن أبي عمرو وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ مرتفعة النون مكسورة الزاي والتقدير في القراءة الأولى أن تخشع قلوبهم لذكر الله ولما نزل من الحق وفي القراءة الثانية ولما نزله الله من الحق وفي القراءة الثالثة ولما نزل من الحق
المسألة الثالثة يحتمل أن يكون المراد من الحق هو القرآن لأنه جامع للوصفين الذكر والموعظة وإنه حق نازل من السماء ويحتمل أن يكون المراد من الذكر هو ذكر الله مطلقاً والمراد بما نزل من الحق هو القرآن وإنما قدم الخشوع بالذكر على الخشوع بما نزل من القرآن لأن الخشوع والخوف والخشية لا تحصل إلا عند ذكر الله فأما حصولها عند سماع القرآن فذاك لأجل اشتمال القرآن على ذكر الله ثم قال تعالى وَلاَ يَكُونُواْ قال الفراء هو في موضع نصب معناه ألم يأن أن تخشع قلوبهم وأن لا يكونوا قال ولو كان جزماً على النهي كان صواباً ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء على سبيل الالتفات ثم قال كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ يريد اليهود والنصارى فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاْمَدُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير طول الأمد وجوهاً أحدها طالت المدة بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وثانيها قال ابن عباس مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله وثالثها طالت أعمارهم في الغفلة فحصلت القسوة في قلوبهم بذلك السبب ورابعها قال ابن جبان الأمد ههنا الأمل البعيد والمعنى على هذا طال عليهم الأمد بطول الأمل أي لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم وخامسها قال مقاتل بن سليمان طال عليهم أمد خروج النبي عليه السلام وسادسها طال عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما عن قلوبهم فلا جرم قست قلوبهم فكأنه تعالى نهى المؤمنين عن أن يكونوا كذلك قاله القرظي
المسألة الثانية قرىء ( الأمد ) بالتشديد أي الوقت الأطول ثم قال وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ أي خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين وكأنه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر(29/200)
ثم قال تعالى
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْى ِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
وفيه وجهان الأول أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة فالمواظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث والثاني أن المراد من قوله فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ بعث الأموات فذكر ذلك ترغيباً في الخشوع والخضوع وزجراً عن القساوة
ثم قال تعالى
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو علي الفارسي قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ بالتخفيف وقرأ الباقون وحفص عن عاصم إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ بتشديد الصاد فيهما فعلى القراءة الأولى يكون معنى المصدق المؤمن فيكون المعنى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لأن إقراض الله من الأعمال الصالحة ثم قالوا وهذه القراءة أولى لوجهين الأول أن من تصدق لله وأقرض إذا لم يكن مؤمناً لم يدخل تحت الوعد فيصير ظاهر الآية متروكاً على قراءة التشديد ولا يصير متروكاً على قراءة التخفيف والثاني أن المتصدق هو الذي يقرض الله فيصير قوله إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ وقوله وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ شيئاً واحداً وهو تكرار أما على قراءة التخفيف فإنه لا يلزم التكرار وحجة من نقل وجهان أحدهما أن في قراءة أبي ءانٍ الْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ بالتاء والثاني أن قوله وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً اعتراض بين الخبر والمخبر عنه والاعتراض بمنزلة الصفة فهو للصدقة أشد ملازمة منه للتصديق وأجاب الأولون بأنا لا نحمل قوله وَأَقْرِضُواُ على الاعتراض ولكنا نعطفه على المعنى ألا ترى أن المصدقين والمصدقات معناه إن الذين صدقوا فصار تقدير الآية إن الذين صدقوا وأقرضوا الله
المسألة الثانية في الآية إشكال وهو أن عطف الفعل على الاسم قبيح فما الفائدة في التزامه ههنا قال صاحب الكشاف قوله وَأَقْرِضُواُ معطوف على معنى الفعل في المصدقين لأن اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى صدقوا كأنه قيل إن الذين صدقوا وأقرضوا واعلم أن هذا لا يزيل الإشكال فإنه ليس فيه بيان أنه لم عدل عن ذلك اللفظ إلى هذا اللفظ والذي عندي فيه أن الألف واللام في المصدقين والمصدقات للمعهود فكأنه ذكر جماعة معينين بهذا الوصف ثم قبل ذكر الخبر أخبر عنهم بأنهم أتوا بأحسن أنواع الصدقة وهو الإتيان بالقرض الحسن ثم ذكر الخبر بعد ذلك وهو قوله يُضَاعَفُ لَهُمُ فقوله وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ هو المسمى بحشو اللوزنج كما في قوله إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
المسألة الثالثة من قرأ الْمُصَدّقِينَ بالتشديد اختلفوا في أن المراد هو الواجب أو التطوع أو هما جميعاً أو المراد بالتصدق الواجب وبالإقراض التطوع لأن تسميته بالقرض كالدلالة على ذلك فكل هذه الاحتمالات مذكورة أما قوله يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ فقد تقدم القول فيه(29/201)
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
اعلم أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية حال المؤمنين والمنافقين وذكر الآن حال المؤمنين وحال الكافرين ثم في الآية مسألتان
المسألة الأولى الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وجمع صدقاً إلى صدق في الإيمان بالله تعالى ورسله وفي هذه الآية قولان أحدهما أن الآية عامة في كل من آمن بالله ورسله وهو مذهب مجاهد قال كل من آمن بالله ورسله فهو صديق ثم قرأ هذه الآية ويدل على هذا ما روي عن ابن عباس في قوله هُمُ الصّدّيقُونَ أي الموحدون الثاني أن الآية خاصة وهو قول المقاتلين أن الصديقين هم الذين آمنوا بالرسل حين أتوهم ولم يكذبوا ساعة قط مثل آل ياسين ومثل مؤمن آل فرعون وأما في ديننا فهم ثمانية سبقوا أهل الأرض إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته
المسألة الثانية قوله وَالشُّهَدَاء فيه قولان الأول أنه عطف على الآية الأولى والتقدير إن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء قال مجاهد كل مؤمن فهو صديق وشهيد وتلا هذه الآية جذا القول اختلفوا في أنه لم سمي كل مؤمن شهيد فقال بعضهم لأن المؤمنين هم الشهداء عند ربهم على العباد في أعمالهم والمراد أنهم عدول الآخرة الذي تقبل شهادتهم وقال الحسن السبب في هذا الاسم أن كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه وقال الأصم كل مؤمن شهيد لأنه قائم لله تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من وجوب الإيمان ووجوب الطاعات وحرمة الكفر والمعاصي وقال أبو مسلم قد ذكرنا أن الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وجمع صدقاً إلى صدق في الإيمان بالله تعالى ورسله فصاروا بذلك شهداء على غيرهم القول الثاني أن قوله وَالشُّهَدَاء ليس عطفاً على ما تقدم بل هو مبتدأ وخبره قوله عِندَ رَبّهِمْ أو يكون ذلك صفة وخبره هو قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ وعلى هذا القول اختلفوا في المراد من الشهداء فقال الفراء والزجاج هم الأنبياء لقوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وقال مقاتل ومحمد بن جرير الشهداء هم الذين استشهدوا في سبيل الله وروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما تعدون الشهداء فيكم قالوا المقتول فقال إن شهداء أمتي إذاً لقليل ثم ذكر أن المقتول شهيد والمبطون شهيد والمطعون شهيد ) الحديث
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين أتبعه بذكر حال الكافرين فقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(29/202)
ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخرة فقال
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَة ٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الاٌّ مْوَالِ وَالاٌّ وْلْادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَة ٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المقصود الأصلي من الآية تحقير حال الدنيا وتعظيم حال الآخرة فقال الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر ولا شك أن هذه الأشياء أمور محقرة وأما الآخرة فهي عذاب شديد دائم أو رضوان الله على سبيل الدوام ولا شك أن ذلك عظيم
المسألة الثانية اعلم أن الحياة الدنيا حكمة وصواب ولذلك لما قال تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قَالُواْ إِنّى عِلْمٍ مَالاً تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 ) ولولا أنها حكمة وصواب لما قال ذلك ولأن الحياة خلقه كما قال الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وأنه لا يفعل العبث على ما قال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنين 115 ) وقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ولأن الحياة نعمة بل هي أصل لجميع النعم وحقائق الأشياء لا تختلف بأن كانت في الدنيا أو في الآخرة ولأنه تعالى عظم المنة بخلق الحياة فقال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) فأول ما ذكر من أصناف نعمه هو الحياة فدل مجموع ما ذكرنا على أن الحياة الدنيا غير مذمومة بل المراد أن من صرف هذه الحياة الدنيا لا إلى طاعة الله بل إلى طاعة الله بل إلى طاعة الشيطان ومتابعة الهوى فذاك هو المذموم ثم إنه تعالى وصفها بأمور أولها أنها لَعِبٌ وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جداً ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة وثانيها أنها لَهُوَ وهو فعل الشبان والغالب أن بعد انقضائه لا يبقى إلا الحسرة وذلك لأن العاقل بعد انقضائه يرى المال ذاهباً والعمر ذاهباً واللذة منقضية والنفس ازدادت شوقاً وتعطشاً إليه مع فقدانها فتكون المضار مجتمعة متوالية وثالثها أنها زِينَة ُ وهذا دأب النساء لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح وعمارة البناء المشرف على أن يصير خراباً والاجتهاد في تكميل الناقص ومن المعلوم أن العرضي لا يقاوم الذاتي فإذا كانت الدنيا منقضية لذاتها فاسدة لذاتها فكيف يتمكن العاقل من إزالة هذه المفاسد عنها قال ابن عباس المعنى أن الكافر يشتغل طول حياته بطلب زينة الدنيا دون العمل للآخرة وهذا كما قيل حياتك يا مغرور سهو وغفلة
ورابعها شَهَادَة ُ بَيْنِكُمْ بالصفات الفانية الزائلة وهو إما التفاخر بالنسب أو التفاخر بالقدرة والقوة والعساكر وكلها ذاهبة وخامسها قوله وَتَكَاثُرٌ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلْادِ قال ابن عباس يجمع المال في(29/203)
سخط الله ويتباهى به على أولياء الله ويصرفه في مساخط الله فهو ظلمات بعضها فوق بعض وأنه لا وجه بتبعية أصحاب الدنيا يخرج عن هذه الأقسام وبين أن حال الدنيا إذا لم يخل من هذه الوجوه فيجب أن يعدل عنها إلى ما يؤدي إلى عمارة الآخرة ثم ذكر تعالى لهذه الحياة مثلاً فقال كَمَثَلِ غَيْثٍ يعني المطر ونظيره قوله تعالى وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَاء ( الكهف 45 ) والكاف في قوله كَمَثَلِ غَيْثٍ موضعة رفع من وجهين أحدهما أن يكون صفة لقوله لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَة ٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ والآخر أن يكون خبراً بعد خبر قاله الزجاج وقوله أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ فيه قولان الأول قال ابن مسعود المراد من الكفار الزراع قال الأزهري والعرب تقول للزارع كافر لأنه يكفر البذر الذي يبذره بتراب الأرض وإذا أعجب الزراع نباته مع علمهم به فهو في غاية الحسن الثاني أن المراد بالكفار في هذه الآية الكفار بالله وهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا وحرثها من المؤمنين لأنهم لا يرون سعادة سوى سعادة الدنيا وقوله نَبَاتُهُ أي ما نبت من ذلك الغيث وباقي الآية مفسر في سورة الزمر
ثم إنه تعالى ذكر بعده حال الآخرة فقال وَفِى الاْخِرَة ِ عَذَابٌ شَدِيدٌ أي لمن كانت حياته بهذه الصفة ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته وذلك لأنه لما وصف الدنيا بالحقارة وسرعة الانقضاء بين أن الآخرة إما عذاب شديد دائم وإما رضوان وهو أعظم درجات الثواب ثم قال وَما الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ يعني لمن أقبل عليها وأعرض بها عن طلب الآخرة قال سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم الوسيلة
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة ٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ والأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
ثم قال تعالى سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ والمراد كأنه تعالى قال لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة
واعلم أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ ثم شرح ههنا كيفية تلك المسارعة فقال سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار وقوله وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ فيه مسألتان
المسألة الأولى لا شك أن المراد منه المسارعة إلى ما يوجب المغفرة فقال قوم المراد سابقوا إلى التوبة وقال آخرون المراد سابقوا إلى سائر ما كلفتم به فدخل فيه التوبة وهذا أصح لأن المغفرة والجنة لا ينالان إلا بالانتهاء عن جميع المعاصي والاشتغال بكل الطاعات
المسألة الثانية احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية فقالوا هذه الآية دلت على وجوب المسارعة فوجب أن يكون التراخي محظوراً أما قوله تعالى وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ وقال في آل عمران وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 133 ) فذكروا فيه وجوهاً أحدها أن السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكانت الجنة في عرضها هذا قول مقاتل وثانيها قال عطاء ( عن ) ابن عباس يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه الصفة وثالثها قال السدي إن الله(29/204)
تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات السبع والأرضين السبع ولا شك أن طولها أزيد من عرضها فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك ورابعها أن هذا تمثيل للعبادة بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض وهذا قول الزجاج وخامسها وهو اختيار ابن عباس أن الجنان أربعة قال تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) وقال وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( الرحمن 62 ) فالمراد ههنا تشبيه واحدة من تلك الجنان في العرض بالسموات السبع والأرضين السبع
ثم قال تعالى سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج جمهور الأصحاب بهذا على أن الجنة مخلوقة وقالت المعتزلة هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين الأول أن قوله تعالى أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 ) يدل على أن من صفتها بعد وجودها أن لا تفنى لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) الثاني أن الجنة مخلوقة وهي الآن في السماء السابعة ولا يجوز مع أنها في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السموات قالوا فثبت بهذين الوجهين أنه لا بد من التأويل وذلك من وجهين الأول أنه تعالى لما كان قادراً لا يصح المنع عليه وكان حكيماً لا يصح الخلف في وعده ثم إنه تعالى وعد على الطاعة بالجنة فكانت الجنة كالمعدة المهيأة لهم تشبيهاً لما سيقع قطعاً بالواقع وقد يقول المرء لصاحبه ( أعدت لك المكافأة ) إذا عزم عليها وإن لم يوجدها والثاني أن المراد إذا كانت الآخرة أعدها الله تعالى لهم كقوله تعالى وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 50 ) أي إذا كان يوم القيامة نادى الجواب أن قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ عام وقوله أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ مع قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ خاص والخاص مقدم على العام وأما قوله ثانياً الجنة مخلوقة في السماء السابعة قلنا إنها مخلوقة فوق السماء السابعة على ما قال عليه السلام في صفة الجنة ( سقفها عرش الرحمن ) وأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه أليس أن العرش أعظم المخلوقات مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة
المسألة الثانية قوله سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ فيه أعظم رجاء وأقوى أمل إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطاعات بحكم تصرف الشرع لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بحرف الباء فإنه باق على مفهومه الأصلي وهو التصديق فالآية حجة عليهم ومما يتأكد به ما ذكرناه قوله بعد هذه الآية ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء يعني أن الجنة فضل لا معاملة فهو يؤتيها من يشاء من عباده سواء أطاع أو عصى فإن قيل فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العصاة وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم قلنا نقطع بحصول الجنة لهم ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة وبقوا فيها أبد الآباد فقد كانت الجنة معدة لهم فإن قيل فالمرتد قد آمن بالله فوجب أن يدخل تحت الآية قلت خص من العموم فيبقى العموم حجة فيما عداه(29/205)
ثم قال تعالى ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء زعم جمهور أصحابنا أن نعيم الجنة تفضل محض لا أنه مستحق بالعمل وهذا أيضاً قول الكعبي من المعتزلة واحتجوا على صحة هذا المذهب بهذه الآية أجاب القاضي عنه فقال هذا إنما يلزم لو امتنع بين كون الجنة مستحقة وبين كونها فضلاً من الله تعالى فأما إذا صح اجتماع الصفتين فلا يصح هذا الاستدلال وإنما قلنا إنه لا منافاة بين هذين الوصفين لأنه تعالى هو المتفضل بالأمور التي يتمكن المكلف معها من كسب هذا الاستحقاق فلما كان تعالى متفضلاً بما يكسب أسباب هذا الاستحقاق كان متفضلاً بها قال ولما ثبت أن قوله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء لا بد وأن يكون مشروطاً بما يستحقه ولولا ذلك لم يكن لقوله من قبل سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ معنى
واعلم أن هذا ضعيف لأن كونه تعالى متفضلاً بأسباب ذلك الكسب لا يوجب كونه تعالى متفضلاً بنفس الجنة فإن من وهب من إنسان كاغداً ودواة وقلماً ثم إن ذلك الإنسان كتب بذلك المداد على ذلك الكاغد مصحفاً وباعه من الواهب لا يقال إن أداء ذلك الثمن تفضيل بل يقال إنه مستحق فكذا ههنا وأما قوله أولاً إنه لا بد من الاستحقاق وإلا لم يكن لقوله من قبل سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ معنى فجوابه أن هذا الاستدلال عجيب لأن للمتفضل أن يشرط في تفضله أي شرط شاء ويقول لا أتفضل إلا مع هذا الشرط
ثم قال تعالى وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والمراد منه التنبيه على عظم حال الجنة وذلك لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه وأثنى بسببه على نفسه فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيماً
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَة ٍ فِى الأرض وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
قال الزجاج إنه تعالى لما قال سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ ( الحديد 21 ) بين أن المؤدي إلى الجنة والنار لا يكون إلا بقضاء وقدر فقال مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَة ٍ والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله والمصيبة في الأرض هي قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمار وغلاء الأسعار وتتابع الجوع والمصيبة في الأنفس فيها قولان الأول أنها هي الأمراض والفقر وذهاب الأولاد وإقامة الحدود عليها والثاني أنها تتناول الخير والشر أجمع لقوله بعد ذلك لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( الحديد 23 ) ثم قال إِلاَّ فِى كِتَابٍ يعني مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية دالة على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللوح المحفوظ قال المتكلمون وإنما كتب كل ذلك لوجوه أحدها تستدل الملائكة بذلك المكتوب على كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع الأشياء قبل وقوعها وثانيها ليعرفوا حكمة الله فإنه تعالى مع علمه بأنهم يقدمون على تلك المعاصي خلقهم ورزقهم وثالثها ليحذروا من أمثال تلك المعاصي ورابعها ليشكروا الله تعالى على توفيقه إياهم على الطاعات وعصمته إياهم من المعاصي وقالت الحكماء إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبرات أمراً وهم المقسمات أمراً إنما هي المبادىء لحدوث الحوادث في(29/206)
هذا العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية فتصوراتها لانسياق تلك الأسباب إلى المسببات هو المراد من قوله تعالى إِلاَّ فِى كِتَابٍ
المسألة الثانية استدل جمهور أهل التوحيد بهذه الآية على أنه تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها خلافاً لهشام بن الحكم ووجه الاستدلال أنه تعالى لما كتبها في الكتاب قبل وقوعها وجاءت مطابقة لذلك الكتاب علمنا أنه تعالى عالماً بها بأسرها
المسألة الثالثة قوله وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ يتناول جميع مصائب الأنفس فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبة في اللوح المحفوظ ومثبتة في علم الله تعالى فكان الامتناع من تلك الأعمال محالاً لأن علم الله بوجودها مناف لعدمها والجمع بين المتنافيين محال فلما حصل العلم بوجودها وهذا العلم ممتنع الزوال كان الجمع بين عدمها وبين علم الله بوجودها محالاً
المسألة الرابعة أنه تعالى لم يقل إن جميع الحوادث مكتوبة في الكتاب لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية فإثباتها في الكتاب محال وأيضاً خصص ذلك بالأرض والأنفس وما أدخل فيها أحوال السموات وأيضاً خصص ذلك بمصائب الأرض والأنفس لا بسعادات الأرض والأنفس وفي كل هذه الرموز إشارات وأسرار أما قوله مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا فقد اختلفوا فيه فقال بعضهم من قبل أن نخلق هذه المصائب وقال بعضهم بل المراد الأنفس وقال آخرون بل المراد نفس الأرض والكل محتمل لأن ذكر الكل قد تقدم وإن كان الأقرب نفس المصيبة لأنها هي المقصود وقال آخرون المراد من قبل أن نبرأ المخلوقات والمخلوقات وإن لم يتقدم ذكرها إلا أنها لظهورها يجوز عود الضمير إليها كما في قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ( يوسف 2 )
ثم قال تعالى إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وفيه قولان أحدهما إن حفظ ذلك على الله هين والثاني إن إثبات ذلك على كثرته في الكتاب يسير على الله وإن كان عسيراً على العباد ونظير هذه الآية قوله وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( فاطر 11 )
ثم قال تعالى
لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه اللام تفيد جعل أول الكلام سبباً لآخره كما تقول قمت لأضربك فإنه يفيد أن القيام سبب للضرب وههنا كذلك لأنه تعالى بين أن إخبار الله عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر ومثبتة في الكتاب الذي لا يتغير يوجب أن لا يشتد فرح الإنسان بما وقع وأن لا يشتد حزنه بما لم يقع وهذا هو المراد بقوله عليه السلام ( من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ) وتحقيق الكلام فيه أن على مذهب أهل السنة أن وقوع كل ما وقع واجب وعدم كل ما لم يقع واجب أيضاً لأسباب أربعة أحدها أن الله تعالى علم وقوعه فلو لم يقع انقلب العلم جهلاً ثانيها أن الله أراد وقوعه فلو لم يقع انقلبت(29/207)
الإرادة تمنياً ثالثها أنه تعلقت قدرة الله تعالى بإيقاعه فلو لم يقع لانقلبت تلك القدرة عجزاً رابعها أن الله تعالى حكم بوقوعه بكلامه الذي هو صدق فلو لم يقع لانقلب ذلك الخبر الصدق كذباً فإذن هذا الذي وقع لو لم يقع لتغيرت هذه الصفات الأربعة من كمالها إلى النقص ومن قدمها إلى الحدوث ولما كان ذلك ممتنعاً علمنا أنه لا دافع لذلك الوقوع وحينئذ يزول الغم والحزن عند ظهور هذه الخواطر وهانت عليه المحن والمصائب وأما المعتزلة فهب أنهم ينازعون في القدرة والإرادة ولكنهم يوافقون في العلم والخير وإذا كان الجبر لازماً في هاتين الصفتين فأي فرق بين أن يلزم الجبر بسبب هاتين الصفتين وبين أن يلزم بسبب الصفات الأربع وأما الفلاسفة فالجبر مذهبهم وذلك لأنهم ربطوا حدوث الأفعال الإنسانية بالتصورات الذهنية والتخيلات الحيوانية ثم ربطوا تلك التصورات والتخيلات بالأدوار الفلكية التي لها مناهج مقدرة ويمتنع وقوع ما يخالفها وأما الدهرية الذين لا يثبتون شيئاً من المؤثرات فهم لا بد وأن يقولوا بأن حدوث الحوادث اتفاقي وإذا كان اتفاقياً لم يكن اختيارياً فيكون الجبر لازماً فظهر أنه لا مندوحة عن هذا لأحد من فرق العقلاء سواء أقروا به أو أنكروه فهذا بيان وجه استدلال أهل السنة بهذه الآية قالت المعتزلة الآية دالة على صحة مذهبنا في كون العيد متمكناً مختاراً وذلك من وجوه الأول أن قوله لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ يدل على أنه تعالى إنما أخبرهم بكون تلك المصائب مثبتة في الكتاب لأجل أن يحترزوا عن الحزن والفرح ولولا أنهم قادرون على تلك الأفعال لما بقي لهذه اللام فائدة والثاني أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يريد أن يقع منهم الحزن والفرح وذلك خلاف قول المجبرة إن الله تعالى أراد كل ذلك منهم والثالث أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وهذا يدل على أنه تعالى لا يريد ذلك لأن المحبة والإرادة سواء فهو خلاف قول المجبرة إن كل واقع فهو مراد الله تعالى الرابع أنه تعالى أدخل لام التعليل على فعله بقوله لّكَيْلاَ وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالغرض وأقول العاقل يتعجب جداً من كيفية تعلق هذه الآيات بالجبر والقدر وتعلق كلتا الطائفتين بأكثرها
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قرأ أبو عمرو وحده بِمَا ءاتَاكُمْ قصراً وقرأ الباقون ءاتَاكُمُ ممدوداً حجة أبي عمرو أن ءاتَاكُمُ معادل لقوله فَاتَكُمْ فكما أن الفعل للغائب في قوله فَاتَكُمْ كذلك يكون الفعل للآني في قوله بِمَا ءاتَاكُمْ والعائد إلى الموصول في الكلمتين الذكر المرفوع بأنه فاعل وحجة الباقين أنه إذا مد كان ذلك منسوباً إلى الله تعالى وهو المعطي لذلك ويكون فاعل الفعل في ءاتَاكُمُ ضميراً عائداً إلى اسم الله سبحانه وتعالى والهاء محذوفة من الصلة تقديره بما آتاكموه
المسألة الثالثة قال المبرد ليس المراد من قوله يَسِيرٌ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا نفي الأسى والفرح على الإطلاق بل معناه لا تحزنوا حزناً يخرجكم إلى أن تهلكوا أنفسكم ولا تعتدوا بثواب على فوات ما سلب منكم ولا تفرحوا فرحاً شديد يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا ودليل ذلك قوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فدل بهذا على أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر وأما الفرح بنعمة الله والشكر عليها فغير مذموم وهذا كله معنى ما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبراً وللخير شكراً واحتج القاضي بهذه الآية على أنه تعالى لا يريد أفعال العباد والجواب عنه أن كثيراً من أصحابنا من فرق بين المحبة والإرادة فقال المحبة إرادة مخصوصة وهي إرادة الثواب فلا يلزم من نفي هذه الإرادة نفي مطلق الإرادة(29/208)
ثم قال تعالى
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية قولان الأول أن هذا بدل من قوله كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ كأنه قال لا يحب المختال ولا يحب الذين يبخلون يريد الذين يفرحون الفرح المطغى فإذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم يبخلون به ولا يكفيهم أنهم بخلوا به بل يأمرون الناس بالبخل به وكل ذلك نتيجة فرحهم عند إصابته ثم قال بعد ذلك وَمَن يَتَوَلَّ عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي فإن الله غني عنه القول الثاني أن قوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله وهو في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويخلوا ببيان نعته وهو مبتدأ وخبره محذوف دل عليه قوله وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ وحذف الخبر كثير في القرآن كقوله وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قرأ نافع وابن عامر فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ وحذفوا لفظ هُوَ وكذلك هُوَ في مصاحف أهل المدينة والشأم وقرأ الباقون هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ قال أبو علي ينبغي أن هو في هذه الآية فصلاً لا مبتدأ لأن الفصل حذفه أسهل ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب وقد يحذف فلا يخل بالمعنى كقوله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا ( الكهف 39 )
المسألة الثالثة قوله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ معناه أن الله غني فلا يعود ضرر عليه ببخل ذلك البخيل وقوله الْحَمِيدِ كأنه جواب عن السؤال يذكر ههنا فإنه يقال لما كان تعالى عالماً بأنه يبخل بذلك المال ولا يصرفه إلى وجوه الطاعات فلم أعطاه ذلك المال فأجاب بأنه تعالى حميد في ذلك الإعطاء ومستحق حيث فتح عليه أبواب رحمته ونعمته فإن قصر العبد في الطاعة فإن وباله عائد إليه
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ عَزِيزٌ
ثم قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وفي تفسير البينات قولان الأول وهو قول مقاتل بن سليمان إنها هي المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة والثاني وهو قول مقاتل بن حيان أي أرسلناهم بالأعمال التي تدعوهم إلى طاعة الله وإلى الإعراض عن غير الله والأول هو الوجه الصحيح لأن نبوتهم إنما ثبتت بتلك المعجزات
ثم قال تعالى وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
واعلم أن نظير هذه الآية قوله اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ ( الشورى 17 ) وقال وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ(29/209)
( الرحمن 7 ) وههنا مسائل
المسألة الأولى في وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه أحدها وهو الذي أقوله أن مدار التكليف على أمرين أحدهما فعل ما ينبغي فعله والثاني ترك ما ينبغي تركه والأول هو المقصود بالذات لأن المقصود بالذات لو كان هو الترك لوجب أن لا يخلق أحد لأن الترك كان حاصلاً في الأزل وأما فعل ما ينبغي فعله فإما أن يكون متعلقاً بالنفس وهو المعارف أو بالبدن وهو أعمال الجوارح فالكتاب هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال النفسانية لأن يتميز الحق من الباطل والحجة من الشبهة والميزان هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال البدنية فإن معظم التكاليف الشاقة في الأعمال هو ما يرجع إلى معاملة الخلق والميزان هو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص وأما الجديد ففيه بأس شديد وهو زاجر للخلق عما لا ينبغي والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية والميزان إلى القوة العملية والحديد إلى دفع مالا ينبغي ولما كان أشرف الأقسام رعاية المصالح الروحانية ثم رعاية المصالح الجسمانية ثم الزجر عما لا ينبغي روعي هذا الترتيب في هذه الآية وثانيها المعاملة إما مع الخالق وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم إما الأحباب والمعاملة معهم بالسوية وهي بالميزان أو مع الأعداء والمعاملة معهم بالسيف والحديد وثالثها الأقوام ثلاثة أما السابقون وهم يعاملون الخلق بمقتضى الكتاب فينصفون ولا ينتصفون ويحترزون عن مواقع الشبهات وإما مقتصدون وهم الذين ينصفون وينتصفون فلا بد لهم من الميزان وإما ظالمون وهم الذين ينتصفون ولا ينصفون ولا بد لهم من الحديد والزجر ورابعها الإنسان إما أن يكون في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة ومقام المقربين فههنا لا يسكن إلا إلى الله ولا يعمل إلا بكتاب الله كما قال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وإما أن يكون في مقام الطريقة وهو مقام النفس اللوامة ومقام أصحاب اليمين فلا بد له من الميزان في معرفة الأخلاق حتى يحترز عن طرفي الإفراط والتفريط ويبقى على الصراط المستقيم وإما أن يكون في مقام الشريعة وهو مقام النفس الأمارة وههنا لا بد له من حديد المجاهدة والرياضات الشاقة وخامسها الإنسان إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصول فلا أنس له إلا بالكتاب أو صاحب الطلب والاستدلال فلا بد له من ميزان الدليل والحجة أو صاحب العناد واللجاج فلا بد وأن ينفى من الأرض بالحديد وسادسها أن الدين هو إماالأصول وإما الفروع وبعبارة أخرى إما المعارف وإما الأعمال فالأصول من الكتاب وأما الفروع فالمقصود الأفعال التي فيها عدلهم ومصلحتهم وذلك بالميزان فإنه إشارة إلى رعاية العدل والحديد لتأديب من ترك ذينك الطريقين وسابعها الكتاب إشارة إلى ما ذكر الله في كتابه من الأحكام المقتضية للعدل والإنصاف والميزان إشارة إلى حمل الناس على تلك الأحكام المبنية على العدل والإنصاف وهو شأن الملوك والحديد إشارة إلى أنهم لو تمردوا لوجب أن يحملوا عليهما بالسيف وهذا يدل على أن مرتبة العلماء وهم أرباب الكتاب مقدمة على مرتبة الملوك الذين هم أرباب السيف ووجوه المناسبات كثيرة وفيما ذكرناه تنبيه على الباقي
المسألة الثانية ذكروا في إنزال الميزان وإنزال الحديد قولين الأول أن الله تعالى أنزلهما من السماء روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال مر قومك يزنوا به وعن ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والمقمعة والمطرقة والإبرة والمقعمة ما(29/210)
يحدد به ويدل على صحة هذا ما روى ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح ) والقول الثاني أن معنى هذا الإنزال الإنشاء والتهيئة كقوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ( لزمر 6 ) قال قطرب أَنزَلْنَاهَا ( النور 1 ) أي هيأناها من النزل يقال أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً ومنهم من قال هذا من جنس قوله علفتها تبناً وماء بارداً وأكلت خبزاً ولبناً
المسألة الثالثة ذكر في منافع الميزان أن يقوم الناس بالقسط والقسط والإقساط هو الإنصاف وهو أن تعطى قسط غيرك كما تأخذ قسط نفسك والعادل مقسط قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( الحجرات 9 ) والقاسط الجائر قال تعالى وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ( الجن 15 ) وأما الحديد ففيه البأس الشديد فإن آلات الحروب متخذة منه وفيه أيضاً منافع كثيرة منها قوله تعالى وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ ( الأنبياء 8 ) ومنها أن مصالح العالم إما أصول وإما فروع أما الأصول فأربعة الزراعة والحياكة وبناء البيوت والسلطنة وذلك لأن الإنسان مضطر إلى طعام يأكله وثوب يلبسه وبناء يجلس فيه والإنسان مدني بالطبع فلا تتم مصلحته إلا عند اجتماع جمع من أبناء جنسه يشتغل كل واحد منهم بمهم خاص فحينئذ ينتظم من الكل مصالح الكل وذلك الانتظام لا بد وأن يفضي إلى المزاحمة ولا بد من شخص يدفع ضرر البعض عن البعض وذلك هو السلطان فثبت أنه لا تنتظم مصلحة العالم إلا بهذه الحروف الأربعة أما الزراعة فمحتاجة إلى الحديد وذلك في كرب الأراضي وحفرها ثم عند تكون هذه الحبوب وتولدها لا بد من خبزها وتنقيتها وذلك لا يتم إلا بالحديد ثم الحبوب لا بد من طحنها وذلك لا يتم إلا بالحديد ثم لا بد من خبزها ولا يتم إلا بالنار ولا بد من المقدحة الحديدية وأما الفواكه فلا بد من تنظيفها عن قشورها وقطعها على الوجوه الموافقة للأكل ولا يتم ذلك إلا بالحديد وأما الحياكة فمعلوم أنه يحتاج في آلات الحياكة إلى الحديد ثم يحتاج في قطع الثياب وخياطتها إلى الحديد وأما البناء فمعلوم أن كمال الحال فيه لا يحصل إلا بالحديد وأما أسباب السلطنة فمعلوم أنها لا تتم ولا تكمل إلا بالحديد وعند هذا يظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ويظهر أيضاً أن الذهب لا يقوم مقام الحديد في شيء من هذه المصالح فلو لم يوجد الذهب في الدنيا ما كان يختل شيء من مصالح الدنيا ولو لم يوجد الحديد لاختل جميع مصالح الدنيا ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة جعله سهل الوجدان كثير الوجود والذهب لما قلت الحاجة إليه جعله عزيز الوجود وعند هذا يظهر أثر وجود الله تعالى ورحمته على عبيده فإن كل ما كانت حاجتهم إليه أكثر جعل وجدانه أسهل ولهذا قال بعض الحكماء إن أعظم الأمور حاجة إليه هو الهواء فإنه لو انقطع وصوله إلى القلب لحظة لمات الإنسان في الحال فلا جرم جعله الله أسهل الأشياء وجداناً وهيأ أسباب التنفس وآلاته حتى إن الإنسان يتنفس دائماً بمقتضى طبعه من غير حاجة فيه إلى تكلف عمل وبعد الهواء الماء إلا أنه لما كانت الحاجة إلى الماء أقل من الحاجة إلى الهواء جعل تحصيل الماء أشق قليلاً من تحصيل الهواء وبعد الماء الطعام ولما كانت الحاجة إلى الطعام أقل من الحاجة إلى الماء جعل تحصيل الطعام أشق من تحصيل الماء ثم تتفاوت الأطعمة في درجات الحاجة والعزة فكل ما كانت الحاجة إليه أشد كان وجدانه أسهل وكل ما كان وجدانه أعسر كانت الحاجة إليه أقل والجواهر لما كانت الحاجة إليها قليلة جداً لا جرم كانت عزيزة جداً فعلمنا أن كل شيء كانت الحاجة إليه أكثر كان وجدانه أسهل ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أشد من الحاجة إلى كل شيء فنرجو من(29/211)
فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجداناً قال الشاعر سبحان من خص العزيز بعزه
والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي
نفس فمحتاج إلى أنفاسه
ثم قال تعالى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ عَزِيزٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى وليعلم الله من ينصره أي ينصر دينه وينصر رسله باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين بالغيب أي غائباً عنهم قال ابن عباس ينصرونه ولا يبصرونه ويقرب منه قوله تعالى إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ( محمد 7 )
المسألة الثانية احتج من قال بحدوث علم الله بقوله وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ والجواب عنه أنه تعالى أراد بالعلم المعلوم فكأنه تعالى قال ولتقع نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام ممن ينصره
المسألة الثالثة قال الجبائي قوله تعالى لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فيه دلالة على أنه تعالى أنزل الميزان والحديد ومراده من العباد أن يقوموا بالقسط وأن ينصروا الرسول وإذا كان هذا مراده من الكل فقد بطل قول المجبرة أنه أراد من بعضهم خلاف ذلك جوابه أنه كيف يمكن أن يريد من الكل ذلك مع علمه بأن ضده موجود وأن الجمع بين الضدين محال وأن المحال غير مراد
المسألة الرابعة لما كانت النصرة قد تكون ظاهرة كما يقع من منافق أو ممن مراده المنافع في الدنيا بين تعالى أن الذي أراده النصرة بالغيب ومعناه أن تقع عن إخلاص بالقلب ثم بين تعالى أنه قوي على الأمور عزيز لا يمانع
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّة َ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّة َ وَالْكِتَابَ واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات وأنه أنزل الميزان والحديد وأمر الخلق بأن يقوموا بنصرتهم أتبع ذلك ببيان سائر الأشياء التي أنعم بها عليهم فبين أنه تعالى شرف نوحاً وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة ثم جعل في ذريتهما النبوة والكتاب فما جاء بعدهما أحد بالنبوة إلا وكان من أولادهما وإنما قدم النبوة على الكتاب لأن كمال حال النبي أن يصير صاحب الكتاب والشرع
ثم قال تعالى فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ وفيه مسائل(29/212)
المسألة الأولى فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ أي فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين والمعنى أن منهم مهتد ومنهم فاسق والغلبة للفساق وفي الفاسق ههنا قولان الأول أنه الذي ارتكب الكبيرة سواء كان كافراً أو لم يكن لأن هذا الاسم يطلق على الكافر وعلى من لا يكون كذلك إذا كان مرتكباً للكبيرة والثاني أن المراد بالفاسق ههنا الكافر لأن الآية دلت على أنه تعالى جعل الفساق بالضد من المهتدين فكأن المراد أن فيهم من قبل الدين واهتدى ومنهم من لم يقبل ولم يهتد ومعلوم أن من كان كذلك كان كافراً وهذا ضعيف لأن المسلم الذي عصى قد يقال فيه إنه لم يهتد إلى وجه رشده ودينه
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَة ً وَرَحْمَة ً وَرَهْبَانِيَّة ً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَأاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
قوله تعالى ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءاتَيْنَاهُ الإنجِيلَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى معنى قفاه أتبعه بعد أن مضى والمراد أنه تعالى أرسل بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه السلام فأرسله الله تعالى بعدهم وآتاه الإنجيل
المسألة الثانية قال ابن جني قرأ الحسن وَقَفَّيْنَا عَلَى بفتح الهمزة ثم قال هذا مثال لا نظير له لأن أفعيل وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته لأنه يستخرج به الأحكام والتوراة فوعلة من ورى الزند يرى إذا أخرج النار ومثله الفرقان وهو فعلان من فرقت بين الشيئين فعلى هذا لا يجوز فتح الهمزة لأنه لا نظير له وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع وله وجهان أحدهما أنه شاذ كما حكى بعضهم في البرطيل وثانيهما أنه ظن الإنجيل أعجمياً فحرف مثاله تنبيهاً على كونه أعجمياً
قوله تعالى وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَة ً وَرَحْمَة ً وَرَهْبَانِيَّة ً ابتَدَعُوهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق لله تعالى وكسب للعبد قالوا لأنه تعالى حكم بأن هذه الأشياء مجعولة لله تعالى وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية قال القاضي المراد بذلك أنه تعالى لطف بهم حتى قويت دواعيهم إلى الرهبانية التي هي تحمل الكلفة الزائدة على ما يجب من الخلوة واللباس الخشن والجواب أن هذا ترك للظاهر من غير دليل على أنا وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا أيضاً وذلك لأن حال الاستواء يمتنع حصول الرجحان وإلا فقد حصل الرجحان عند الاستواء والجمع بينهما متناقض وإذا كان الحصول عند الاستواء ممتنعاً كان عند المرجوحية أولى أن يصير ممتنعاً وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض
المسألة الثانية قال مقاتل المراد من الرأفة والرحمة هو أنهم كانوا متوادين بعضهم مع بعض كما وصف الله أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام بذلك في قوله رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 )
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف قرىء ( رآفة ) على فعالة
المسألة الرابعة الرهبانية معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي وقرىء ( ورهبانية ) بالضم كأنها نسبة إلى الرهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان(29/213)
والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة ومتحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف عن ابن عباس أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام غير الملوك التوراة والإنجيل فساح قوم في الأرض ولبسوا الصوف وروى ابن مسعود أنه عليه السلام قال ( يا ابن مسعود أما علمت أن بني إسرائيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلا ثلاث فرق فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبس العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَة ً إلى آخر الآية )
المسألة الخامسة لم يعن الله تعالى بابتدعوها طريقة الذم بل المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها ولذلك قال تعالى بعده مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ
المسألة السادسة رهبانية منصوبة بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره ابتدعوا رهبانية ابتدعوها وقال أبو علي الفارسي الرهبانية لا يستقيم حملها على وَمَا جَعَلْنَا لأن ما يبتدعونه هم لا يجوز أن يكون مجعولاً لله تعالى وأقول هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين ومن أين يليق بأبي على أن يخوض في أمثال هذه الأشياء
ثم قال تعالى مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ أي لم نفرضها نحن عليهم
أما قوله إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوانِ اللَّهِ ففيه قولان أحدهما أنه استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله الثاني أنه استثناء متصل والمعنى أنا ما تعبدناهم بها إلا على وجه ابتغاء مرضاة الله تعالى والمراد أنها ليست واجبة فإن المقصود من فعل الواجب دفع العقاب وتحصيل رضا الله أما المندوب فليس المقصود من فعله دفع العقاب بل المقصود منه ليس إلا تحصيل مرضاة الله تعالى
أما قوله تعالى فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ ففيه أقوال أحدها أن هؤلاء الذين ابتدعوا هذه الرهبانية ما رعوها حق رعايتها بل ضموا إليها التثليث والاتحاد وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام فآمنوا به فهو قوله ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ وثانيها أنا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلا ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لكن لا لهذا الوجه بل لوجه آخر وهو طلب الدنيا والرياء والسمعة وثالثها أنا لما كتباها عليهم تركوها فيكون ذلك ذماً لهم من حيث إنهم تركوا الواجب(29/214)
ورابعها أن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام ولم يؤمنوا به وقوله ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا أي الذين آمنوا بمحمد وكثير منهم فاسقون يعني الذين لم يؤمنوا به ويدل على هذا ما روي أنه عليه السلام قال ( من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون ) وخامسها أن الصالحين من قوم عيسى عليه السلام ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها ثم جاء بعدهم قوم اقتدوا بهم في اللسان وما كانوا مقتدين بهم في العمل فهم الذين ما رعوها حق رعايتها قال عطاء لم يرعوها كما رعاها الحواريون ثم قال وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ والمعنى أن بعضهم قام برعايتها وكثير منهم أظهر الفسق وترك تلك الطريقة ظاهراً وباطناً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه لما قال في الآية الأولى ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم أي من قوم عيسى أَجْرَهُمْ ( الحديد 27 ) قال في هذه الآية ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ والمراد به أولئك فأمرهم أن يتقوا الله ويؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ثم قال يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أي نصيبين من رحمته لإيمانكم أولاً بعيسى وثانياً بمحمد عليه الصلاة والسلام ونظيره قوله تعالى أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ( القصص 54 ) عن ابن عباس أنه نزل في قوم جاءوا من اليمن من أهل الكتاب إلى الرسول وأسلموا فجعل الله لهم أجرين وههنا سؤالان
السؤال الأول ما الكفل في اللغة الجواب قال المؤرج الكفل النصيب بلغة هذيل وقال غيره بل هذه لغة الحبشة وقال المفضل بن مسلمة الكفل كساء يديره الراكب حول السنام حتى يتمكن من القعود على البعير
السؤال الثاني أنه تعالى لما آتاهم كفلين وأعطى المؤمنين كفلاً واحداً كان حالهم أعظم والجواب روى أن أهل الكتاب افتخروا بهذا السبب على المسلمين وهو ضعيف لأنه لا يبعد أن يكون النصيب الواحد أزيد قدراً من النصيبين فإن المال إذا قسم بنصفين كان الكفل الواحد نصفاً وإذا قسم بمائة قسم كان الكفل الواحد جزء من مائة جزء فالنصيب الواحد من القسمة الأولى أزيد من عشرين نصيباً من القسمة الثانية فكذا ههنا ثم قال تعالى وَيَجْعَل لَّكُمْ أي يوم القيامة نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وهو النور المذكور في قوله يَسْعَى نُورُهُم ( الحديد 12 ) وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما أسلفتم من المعاصي وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَى ْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
فيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي هذه آية مشكلة وليس للمفسرين فيها كلام واضح في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها(29/215)
واعلم أن أكثر المفسرين على أن ( لا ) ههنا صلة زائدة والتقدير ليعلم أهل الكتاب وقال أبو مسلم الأصفهاني وجمع آخرون هذه الكلمة ليست بزائدة ونحن نفسر الآية على القولين بعون الله تعالى وتوفيقه أما القول المشهور وهو أن هذه اللفظة زائدة فاعلم أنه لا بد ههنا من تقديم مقدمة وهي أن أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل كانوا يقولون الوحي والرسالة فينا والكتاب والشرع ليس إلا لنا والله تعالى خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وعدهم بالأجر العظيم على ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآية والغرض منها أن يزيل عن قلبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم وغير حاصلة إلا في قومهم فقال إنما بالغنا في هذا البيان وأطنبنا في الوعد والوعيد ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً أما القول الثاني وهو أن لفظة ( لا ) غير زائدة فاعلم أن الضمير في قوله أَلاَّ يَقْدِرُونَ عائد إلى الرسول وأصحابه والتقدير لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله وأنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه ثم قال وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أي وليعلموا أن الفضل بيد الله فيصير التقدير إنا فعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله وإحسانه في أقوام معينين وليعتقدوا أن الفضل بيد الله واعلم أن هذا القول ليس فيه إلا أنا أضمرنا فيه زيادة فقلنا في قوله وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ تقدير وليعتقدوا أن الفضل بيد الله وأما القول الأول فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجد ومن المعلوم أن الإضمار أولى من الحذف لأن الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يوهم ظاهره باطلاً أصلاً أماإذا افتقر إلى الحذف كان ظاهره موهماً للباطل فعلمنا أن هذا القول أولى والله أعلم
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف قرىء ( لكي يعلم ) و ( لكيلا يعلم ) و ( ليعلم ) و ( لأن يعلم ) بأدغام النون في الياء وحكى ابن جني في ( المحتسب ) عن قطرب أنه روي عن الحسن ( ليلا ) بكسر اللام وسكون الياء وحكى ابن مجاهد عنه ليلاً بفتح اللام وجزم الياء من غير همز قال ابن جني وما ذكر قطرب أقرب وذلك لأن الهمزة إذا حذفت بقي لنلا فيجب إدغام النون في اللام فيصير للا فتجتمع اللامات فتجعل الوسطى لسكونها وانكسار ما قبلها ياء فيصير ليلاً وأما رواية ابن مجاهد عنه فالوجه فيه أن لام الجر إذا أضفته إلى المضمر فتحته تقول له فمنهم من قاس المظهر عليه حكى أبو عبيدة أن بعضهم قرأ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ( إبراهيم 46 )
وأما قوله تعالى وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أي في ملكه وتصرفه واليد مثل يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء لأنه قارد مختار يفعل بحسب الاختيار وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والعظيم لا بد وأن يكون إحسانه عظيماً والمراد تعظيم حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في نبوته وشرعه وكتابه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(29/216)
سورة المجادلة
وهي عشرون وآيتان مدنية
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
روي أن خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت رآها زوجها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم وكان بالرجل لمم فلما سلمت راودها فأبت فغضب وكان به خفة فظاهر منها فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني وكثر ولدي جعلني كأمه وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليَّ جاعوا ثم ههنا روايتان يروي أنه عليه السلام قال لها ( ما عندي في أمرك شيء ) وروي أنه عليه السلام قال لها ( حرمت عليه ) فقالت يا رسول الله ما ذكر طلاقاً وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليَّ فقال ( حرمت عليه ) فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووجدي وكلما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمت عليه ) هتفت وشكت إلى الله فبينما هي كذلك إذ تربد وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية ثم إنه عليه الصلاة والسلام أرسل إلى زوجها وقال ( ما حملك على ما صنعت فقال الشيطان فهل من رخصة فقال نعم وقرأ عليه الأربع آيات وقال له هل تستطيع العتق فقال لا والله فقال هل تستطيع الصوم فقال لا والله لولا أني آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلَّ بصري ولظننت أني أموت فقال له هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً فقال لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة فأعانه بخمسة عشر صاعاً وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين مسكيناً ) واعلم أن في هذا الخبر مباحث
الأول قال أبو سليمان الخطابي ليس المراد من قوله في هذا الخبر ( وكان به لمم ) الخبل والجنون إذ لو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحالة لم يكن يلزمه شيء بل معنى اللمم هنا الإلمام بالنساء وشدة(29/217)
الحرص والتوقان إليهن
البحث الثاني أن الظهار كان من أشد طلاق الجاهلية لأنه في التحريم أوكد ما يمكن وإن كان ذلك الحكم صار مقرراً بالشرع كانت الآية ناسخة له وإلا لم يعد نسخاً لأن النسخ إنما يدخل في الشرائع لا في عادة الجاهلية لكن الذي روى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لها ( حرمت ) أو قال ( ما أراك إلا قد حرمت ) كالدلالة على أنه كان شرعاً وأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك
البحث الثالث أن هذه الواقعة تدل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق ولم يبق له في مهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المهم ولنرجع إلى التفسير أماقوله قَدْ سَمِعَ اللَّهُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله قَدْ معناه التوقع لأن رسول الله والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها
المسألة الثانية كان حمزة يدغم الدال في السين من قَدْ سَمِعَ وكذلك في نظائره واعلم أن الله تعالى حكى عن هذه المرأة أمرين أولهما المجادلة وهي قوله تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا أي تجادلك في شأن زوجها وتلك المجادلة أنه عليه الصلاة والسلام كلما قال لها ( حرمت عليه ) قالت والله ما ذكر طلاقاً وثانيهما شكواها إلى الله وهو قولها أشكو إلى الله فاقتي ووجدي وقولها إن لي صبية صغاراً ثم قال سبحانه وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما والمحاورة المراجعة في الكلام من حار الشيء يحور حوراً أي رجع يرجع رجوعاً ومنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور ومنه فما أحار بكلمة أي فما أجاب ثم قال إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي يسمع كلام من يناديه ويبصر من يتضرع إليه
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
قوله تعالى الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ اعلم أن قوله الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ فيه مسألتان
المسألة الأولى ما يتعلق بالمباحث اللغوية والفقهية فنقول في هذه الآية بحثان
أحدهما أن الظهار ما هو الثاني أن المظاهر من هو وقوله مِن نّسَائِهِمْ فيه بحث وهو أن المظاهر منها من هي
أما البحث الأول وهو أن الظهار ما هو ففيه مقامان
المقام الأول في البحث عن هذه اللفظة بحسب اللغة وفيه قولان أحدهما أنه عبارة عن قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي فهو مشتق من الظهر
والثاني وهو صاحب النظم أنه ليس مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعة والتلذذ بل الظهر ههنا مأخوذ من العلو ومنه قوله تعالى فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ ( الكهف 97 ) أي يعلوه وكل من علا شيئاً فقد(29/218)
ظهره ومنه سمي المركوب ظهراً لأن راكبه يعلوه وكذلك امرأة الرجل ظهره لأنه يعلوها بملك البضع وإن لم يكن من ناحية الظهر فكأن امرأة الرجل مركب للرجل وظهر له ويدل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق نزلت عن امرأتي أي طلقتها وفي قولهم أنت عليَّ كظهر أمي حذف وإضمار لأن تأويله ظهرك علي أي ملكي إياك وعلوي عليك حرام كما أن علوي على أمي وملكها حرام علي
المقام الثاني في الألفاظ المستعملة بهذا المعنى في عرف الشريعة الأصل في هذا الباب أن يقال أنت علي كظهر أمي فإما أن يكون لفظ الظهر ولفظ الأم مذكورين وإما أن يكون لفظ الأم مذكوراً دون لفظ الظهر وإما أن يكون لفظ الظهر مذكوراً دون لفظ الأم وإما أن لا يكون واحد منهما مذكوراً فهذه أقسام أربعة
القسم الأول إذا كانا مذكورين وهو معتبر بالاتفاق ثم لا مناقشة في الصلات إذا انتظم الكلام فلو قال أنت علي كظهر أمي أو أنت مني كظهر أمي فهذه الصلات كلها جائزة ولو لم يستعمل صلة وقال أنت كظهر أمي فقيل إنه صريح وقيل يحتمل أن يريد إنها كظهر أمه في حق غيره ولكن هذا الاحتمال كما لو قال لامرأته أنت طالق ثم قال أردت بذلك الإخبار عن كونها طالقاً من جهة فلان
القسم الثاني أن تكون الأم مذكورة ولا يكون الظهر مذكوراً وتفصيل مذهب الشافعي فيه أن الأعضاء قسمان منها ما يكون التشبيه بها غير مشعر بالإكرام ومنها ما يكون التشبيه بها مشعر بالإكرام أما الأول فهو كقوله أنت علي كرجل أمي أو كيد أمي أو كبطن أمي وللشافعي فيه قولان الجديد أن الظهار يثبت والقديم أنه لا يثبت أما الأعضاء التي يكون التشبيه بها سبباً للإكرام فهو كقوله أنت علي كعين أمي أو روح أمي فإن أراد الظهار كان ظهاراً وإن أراد الكرامة فليس بظهار فإن لفظه محتمل لذلك وإن أطلق ففيه تردد هذا تفصيل مذهب الشافعي وأما مذهب أبي حنيفة فقال أبو بكر الرازي في ( أحكام القرآن ) إذا شبه زوجته بعضو من الأم يحل له النظر إليه لم يكن ظهاراً وهو قوله أنت علي كيد أمي أو كرأسها أما إذا شبهها بعضو من الأم يحرم عليه النظر إليه كان ظهاراً كما إذا قال أنت علي كبطن أمي أو فخذها والأقرب عندي هو القول القديم للشافعي وهو أنه لا يصح الظهار بشيء من هذه الألفاظ والدليل عليه أن حل الزوجة كان ثابتاً وبراءة الذمة عن وجوب الكفارة كانت ثابتة والأصل في الثابت البقاء على ما كان ترك العمل به فيما إذا قال أنت علي كظهر أمي لمعنى مفقود في سائر الصور وذلك لأن اللفظ المعهود في الجاهلية هو قوله أنت علي كظهر أمي ولذلك سمي ظهاراً فكان هذا اللفظ بسبب العرف مشعراً بالتحريم ولم يوجد هذا المعنى في سائر الألفاظ فوجب البقاء على حكم الأصل
القسم الثالث ما إذا كان الظهر مذكوراً ولم تكن الأم مذكورة فهذا يدل على ثلاثة مراتب المرتبة الأولى أن يجري التشبيه بالمحرمات من النسب والرضاع وفيه قولان القديم أنه لا يكون ظهاراً والقول الجديد أنه يكون ظهاراً وهو قول أبي حنيفة المرتبة الثانية تشبيهها بالمرأة المحرمة تحريماً مؤقتاً مثل أن يقول لامرأته أنت علي كظهر فلانة وكان طلقها والمختار عندي أن شيئاً من هذا لا يكون ظهاراً ودليله ما ذكرناه في المسألة السالفة وحجة أبي حنيفة أنه تعالى قال وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ وظاهر هذه الآية يقتضي حصول الظهار بكل محرم فمن قصره على الأم فقد خص والجواب أنه تعالى لما قال بعده مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ(29/219)
دل على أن المراد هو الظهار بذكر الأم ولأن حرمة الأم أشد من حرمة سائر المحارم فنقول المقتضي لبقاء الحل قائم على ما بيناه وهذا الفارق موجود فوجب أن لا يجوز القياس
القسم الرابع ما إذا لم يذكر لا الظهر ولا الأم كما لو قال أنت علي كبطن أختي وعلى قياس ما تقدم يجب أن لا يكون ذلك ظهاراً
البحث الثاني في المظاهر وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله الضابط أن كل من صح طلاقه صح ظهاره فعلى هذا ظهار الذمي عنده صحيح وقال أبو حنيفة لا يصح واحتج الشافعي بعموم قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ وأما القياس فمن وجهين الأول أن تأثير الظهار في التحريم والذمي أهل لذلك بدليل صحة طلاقه وإذا ثبت هذا وجب أن يصح هذا التصرف منه قياساً على سائر التصرفات الثاني أن الكفارة إنما وجبت على المسلم زجراً له عن هذا الفعل الذي هو منكر من القور وزور وهذا المعنى قائم في حق الذمي فوجب أن يصح واحتجوا لقول أبي حنيفة بهذه الآية من وجهين الأول احتج أبو بكر الرازي بقوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ وذلك خطاب للمؤمنين فيدل على أن الظهار مخصوص بالمؤمنين الثاني من لوازم الظهار الصحيح وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق بدليل قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ إِلَى قَوْلُهُ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ( المجادلة 3 4 ) وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع لأنه لو وجب لوجب إما مع الكفر وهو باطل بالإجماع أو بعد الإيمان وهو باطل لقوله عليه السلام ( الإسلام يجب ما قبله ) والجواب عن الأول من وجوه أحدها أن قوله مّنكُمْ خطاب مشافهة فيتناول جميع الحاضرين فلم قلتم إنه مختص بالمؤمنين سلمنا أنه مختص بالمؤمنين فلم قلتم إن تخصيصه بالمؤمنين في الذكر يدل على أن حال غيرهم بخلاف ذلك لا سيما ومن مذهب هذا القائل أن التخصيص بالذكر لا يدل على أن حال ما عداه بخلافه سلمنا بأنه يدل عليه لكن دلالة المفهوم أضعف من دلالة المنطوق فكان التمسك بعموم قوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ أولى سلمنا الاستواء في القوة لكن مذهب أبي حنيفة أن العام إذا ورد بعد الخاص كان ناسخاً للخاص والذي تمسكنا به وهو قوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( المجادلة 3 ) متأخر في الذكر عن قوله الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ والظاهر أنه كان متأخراً في النزول أيضاً لأن قوله الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ ليس فيه بيان حكم الظهار وقوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ فيه بيان حكم الظهار وكون المبين متأخراً في النزول عن المجمل أولى والجواب عن الثاني من وجوه الأول أن لوازمه أيضاً أنه متى عجز عن الصوم اكتفى منه بالإطعام فههنا إن تحقق العجز وجب أن يكتفى منه بالإطعام وإن لم يتحقق العجز فقد زال السؤال والثاني أن الصوم يدل عن الإعتاق والبدل أضعف من المبدل ثم إن العبد عاجز عن الإعتاق مع أنه يصح ظهاره فإذا كان فوات أقوى اللازمين لا يوجب المنع مع صحة الظهار ففوات أضعف اللازمين كيف يمنع من القول بصحة الظهار الثالث قال القاضي حسين من أصحابنا إنه يقال إن أردت الخلاص من التحريم فأسلم وصم أما قوله عليه والسلام ( الإسلام يجب ما قبله ) قلنا إنه عام والتكليف بالتكفير خاص والخاص مقدم على العام وأيضاً فنحن لا نكلفه بالصوم بل نقول إذا أردت إزالة التحريم فصم وإلا فلا تصم(29/220)
المسألة الثانية قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك رحمهم الله لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو أن تقول المرأة لزوجها أنت علي كظهر أمي وقال الأزواعي هو يمين تكفرها وهذا خطأ لأن الرجل لا يلزمه بذلك كفارة يمين وهو الأصل فكيف يلزم المرأة ذلك ولأن الظهار يوجب تحريماً بالقول والمرأة لا تملك ذلك بدليل أنها لا تملك الطلاق
المسألة الثالثة قال الشافعي وأبو حنيفة إذا قال أنت علي كظهر أمي اليوم بطل الظهار بمضي اليوم وقال مالك وابن أبي ليلى هو مظاهر أبداً لنا أن التحريم الحاصل بالظهار قابل للتوقيت وإلا لما انحل بالتفكير وإذا كان قابلاً للتوقيت فإذا وقته وجب أن يتقدر بحسب ذلك التوقيت قياساً على اليمين فهذا ما يتعلق من المسائل بقوله تعالى الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ أما قوله تعالى مِن نّسَائِهِمْ فيتعلق به أحكام المظاهر منه واختلفوا في أنه هل يصح الظهار عن الأمة فقال أبو حنيفة والشافعي لا يصح وقال مالك والأوزاعي يصح حجة الشافعي أن الحل كان ثابتاً والتكفير لم يكن واجباً والأصل في الثابت البقاء والآية لا تتناول هذه الصورة لأن قوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( المجادلة 3 ) يتناول الحرائر دون الإماء والدليل عليه قوله أَوْ نِسَائِهِنَّ ( النور 31 ) والمفهوم منه الحرائر ولولا ذلك لما صح عطف قوله أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ لأن الشيء لا يعطف على نفسه وقال تعالى وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ( النساء 23 ) فكان ذلك على الزوجات دون ملك اليمين
المسألة الرابعة فيما يتعلق بهذه الآية من القراءات قال أبو علي قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ بغير الألف وقرأ عاصم يُظَاهِرُونَ بضم الياء وتخفيف الظاء والألف وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي يظاهرون بفتح الياء وبالألف مشددة الظاء قال أبو علي ظاهر من امرأته ظهر مثل ضاعف وضعف وتدخل التاء على كل واحد منهما فيصير تظاهر وتظهر ويدخل حرف المضارعة فيصير يتظاهر ويتظهر ثم تدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها فيصير يظاهر ويظهر وتفتح الياء التي هي حرف المضارعة لأنها للمطاوعة كما يفتحها في يتدحرج الذي هو مطاوع دحرجته فتدحرج وإنما فتح الياء في يظاهر ويظهر لأنه المطاوع كما أن يتدحرج كذلك ولأنه على وزنهما وإن لم يكونا للإلحاق وأما قراءة عاصم يظاهرون فهو مشتق من ظاهر يظاهر إذا أتى بمثل هذا التصرف
المسألة الخامسة لفظة مّنكُمْ في قوله الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصة دون سائر الأمم وقوله تعالى مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية المفضل أُمَّهَاتِهِمْ بالرفع والباقون بالنصب على لفظ الخفض وجه الرفع أنه لغة تميم قال سيبويه وهو أقيس الوجهين وذلك أن النفي كالاستفهام فكما لا يغير الاستفهام الكلام عما كان عليه فكذا ينبغي أن لا يغير النفي الكلام عما كان عليه ووجه النصب أنه لغة أهل الحجاز والأخذ في التنزيل بلغتهم أولى وعليها جاء قوله مَا هَاذَا بَشَرًا ( يوسف 31 ) ووجهه من القياس أن ما تشبه ليس في أمرين أحدهما أن ( ما ) تدخل على المبتدأ والخبر كما أن ( ليس ) تدخل عليهما والثاني أن ( ما ) تنفي ما في الحال كما أن ( ليس ) تنفي ما في الحال وإذا حصلت المشابهة من وجهين وجب حصول المساواة في سائر الأحكام إلا ما خص بالدليل قياساً على باب مالا ينصرف
المسألة الثانية في الآية إشكال وهو أن من قال لامرأته أنت علي كظهر أمي فهو شبه الزوجة(29/221)
بالأم ولم يقل إنها أم فكيف يليق أن يقال على سبيل الإبطال لقوله مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ وكيف يليق أن يقال وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً والجواب أما الكذب إنما لزم لأن قوله أنت علي كظهر أمي إما أن يجعله إخباراً أو إنشاء وعلى التقدير الأول أنه كذب لأن الزوجة محللة والأم محرمة وتشبيه المحللة بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب وإن جعلناه إنشاء كان ذلك أيضاً كذباً لأن كونه إنشاء معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه كان جعله إنشاء في وقوع هذا الحكم يكون كذباً وزوراً وقال بعضهم إنه تعالى إنما وصفه بكونه مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً لأن الأم محرمة تحريماً مؤبداً والزوجة لا تحرم عليه بهذا القول تحريماً مؤبداً فلا جرم كان ذلك منكراً من القول وزوراً وهذا الوجه ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء لا يقتضي وقوع المشابهة بينهما من كل الوجوه فلا يلزم من تشبيه الزوجة بالأم في الحرمة تشبيهها بها في كون الحرمة مؤبدة لأن مسمى الحرمة أعم من الحرمة المؤبدة والمؤقتة
قوله تعالى إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أما الكلام في تفسير لفظة اللائي فقد تقدم في سورة الأحزاب عند قوله وَمَا جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ ( الأحزاب 4 ) ثم في الآية سؤالان وهو أن ظاهرها يقتضي أنه لا أم إلا الوالدة وهذا مشكل لأنه قال في آية آخرى وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ ( النساء 23 ) وفي آية أخرى وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 ) ولا يمكن أن يدفع هذا السؤال بأن المعنى من كون المرضعة أماً وزوجة الرسول أماً حرمة النكاح وذلك لأنا نقول إن بهذا الطريق ظهر أنه لا يلزم من عدم الأمومة الحقيقية عدم الحرمة فإذاً لا يلزم من عدم كون الزوجة أماً عدم الحرمة وظاهر الآية يوهم أنه تعالى استدل بعدم الأمومة على عدم الحرمة وحينئذ يتوجه السؤال والجواب أنه ليس المراد من ظاهر الآية ما ذكره السائل بل تقدير الآية كأنه قيل الزوجة ليست بأم حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة ولم يرد الشرع بجعل هذا اللفظ سبباً لوقوع الحرمة حتى تحصل الحرمة فإذاً لا تحصل الحرمة هناك ألبتة فكان وصفهم لها بالحرمة كذباً وزوراً
ثم قال تعالى وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إما من غير التوبة لمن شاء كما قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء أو بعد التوبة
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا قال الزجاج الَّذِينَ رفع بالابتداء وخبره فعليهم تحرير رقبة ولم يذكر عليهم لأن في الكلام دليلاً عليه وإن شئت أضمرت فكفارتهم تحرير رقبة أما قوله تعالى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فاعلم أنه كثر اختلاف الناس في تفسير هذه الكلمة ولا بد أولاً من بيان أقوال أهل العربية في هذه الكلمة وثانياً من بيان أقوال أهل الشريعة وفيها مسائل(29/222)
المسألة الأولى قال الفراء لا فرق في اللغة بين أن يقال يعودون لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما قالوا أبو علي الفارسي كلمة إلى واللام يتعاقبان كقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا ( الأعراف 43 ) وقال فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ ( الصافات 23 ) وقال تعالى وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ ( هود 36 ) وقال بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ( الزلزلة 5 )
المسألة الثانية لفظ مَا قَالُواْ في قوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فيه وجهان أحدهما أنه لفظ الظهار والمعنى أنهم يعودون إلى ذلك اللفظ والثاني أن يكون المراد بقوله لِمَا قَالُواْ المقول فيه وهو الذي حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه ونظيره قوله تعالى وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ( مريم 80 ) أي ونرثه المقول وقال عليه السلام ( العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ) وإنما هو عائد في الموهوب ويقول الرجل اللهم أنت رجاؤنا أي مرجونا وقال تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 ) أي الموقن به وعلى هذا معنى قوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ أي يعودون إلى الشيء الذي قالوا فيه ذلك القول ثم إذا فسرنا هذا اللفظ بالوجه الأول فنقول قال أهل اللغة يجوز أن يقال عاد لما فعل أي فعله مرة أخرى ويجوز أن يقال عاد لما فعل أي نقض ما فعل وهذا كلام معقول لأن من فعل شيئاً ثم أراد أن يقال مثله فقد عاد إلى تلك الماهية لا محالة أيضاً وأيضاً من فعل شيئاً ثم أراد إبطاله فقد عاد إليه لأن التصرف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلا بالعود إليه
المسألة الثالثة ظهر مما قدمنا أن قوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة ويحتمل أن يكون المراد منه ثم يعودون إلى تكوين مثله مرة أخرى أما الاحتمال الأول فهو الذي ذهب إليه أكثر المجتهدين واختلفوا فيه على وجوه الأول وهو قول الشافعي أن معنى العود لما قالوا السكوت عن الطلاق بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه وذلك لأنه لما ظاهر فقد قصد التحريم فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تمم ما شرع منه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه فإذا سكت عن الطلاق فذاك يدل على أنه ندم على ما ابتدأ به من التحريم فحينئذ تجب عليه الكفارة واحتج أبو بكر الرازي في ( أحكام القرآن ) على فساد هذا القول من وجهين الأول أنه تعالى قال ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ وثم تقتضي التراخي وعلى هذا القول يكون المظاهر عائداً عقيب القول بلا تراخ وذلك خلاف مقتضى الآية الثاني أنه شبهها بالأم والأم لا يحرم إمساكها فتشبيه الزوجة بالأم لا يقتضي حرمة إمساك الزوجة فلا يكون إمساك الزوجة نقضاً لقوله أنت علي كظهر أمي فوجب أن لا يفسر العود بهذا الإمساك والجواب عن الأول أن هذا أيضاً وارد عى قول أبي حنيفة فإنه جعل تفسير العود استباحة الوطء فوجب أن لا يتمكن المظاهر من العود إليها بهذا التفسير عقيب فراغه من التلفظ بلفظ الظهار حتى يحصل التراخي مع أن الأمة مجمعة على أن له ذلك فثبت أن هذا الإشكال وارد عليه أيضاً ثم نقول إنه ما لم ينقض زمان يمكنه أن يطلقها فيه لا يحكم عليه بكونه عائداً فقد تأخر كونه عائداً عن كونه مظاهراً بذلك القدر من الزمان وذلك يكفي في العمل بمقتضى كلمة ثم والجواب عن الثاني أن الأم يحرم إمساكها على سبيل الزوجية ويحرم الاستمتاع بها فقوله أنت علي كظهر أمي ليس فيه بيان أن التشبيه وقع في إمساكها على سبيل الزوجية أو في الاستمتاع بها فوجب حمله على الكل فقوله أنت علي كظهر أمي يقتضي(29/223)
تشبيهها بالأم في حرمة إمساكها على سبيل الزوجية فإذا لم يطلقها فقد أمسكها على سبيل الزوجية فكان هذا الإمساك مناقضاً لمقتضى قوله أنت علي كظهر أمي فوجب الحكم عليه بكونه عائداً وهذا كلام ملخص في تقرير مذهب الشافعي الوجه الثاني في تفسير العود وهو قول أبي حنيفة أنه عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة قالوا وذلك لأنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ثم قصد استباحة هذه الأشياء كان ذلك مناقضاً لقوله أنت علي كظهر أمي واعلم أن هذا الكلام ضعيف لأنه لما شبهها بالأم لم يبين أنه في أي الأشياء شبهها بها فليس صرف هذا التشبيه إلى حرمة الاستمتاع وحرمة النظر أولى من صرفه إلى حرمة إمساكها على سبيل الزوجية فوجب أن يحمل هذا التشبيه على الكل وإذا كان كذلك فإذا أمسكها على سبيل الزوجية لحظة فقد نقض حكم قوله أنت علي كظهر أمي فوجب أن يتحقق العود الوجه الثالث في تفسير العود وهو قول مالك أن العود إليها عبارة عن العزم على جماعها وهذا ضعيف لأن القصة إلى جماعها لا يناقض كونها محرمة إنما المناقض لكونها محرمة القصد إلى استحلال جماعها وحينئذ نرجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله الوجه الرابع في تفسير العود وهو قول طاوس والحسن البصري أن العود إليها عبارة عن جماعها وهذا خطأ لأن قوله تعالى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا بفاء التعقيب في قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ يقتضي كون التكفير بعد العود ويقتضي قوله مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا أن يكون التكفير قبل الجماع وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون التكفير بعد العود وقبل الجماع جب أن يكون العود غير الجماع واعلم أن أصحابنا قالوا العود المذكور ههنا هب أنه صالح للجماع أو للعزم على الجماع أو لاستباحة الجماع إلا أن الذي قاله الشافعي رحمه الله هو أقل ما ينطلق عليه الاسم فيجب تعليق الحكم عليه لأنه هو الذي به يتحقق مسمى العود وأما الباقي فزيادة لا دليل عليها ألبتة
الاحتمال الثاني في قوله ثُمَّ يَعُودُونَ أي يفعلون مثل ما فعلوه وعلى هذا الاحتمال في الآية أيضاً وجوه الأول قال الثوري العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وتقريره أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار فجعل الله تعالى حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية فقال وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ يريد في الجاهلية ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ أي في الإسلام والمعنى أنهم يقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولونه في الجاهلية فكفارته كذا وكذا قال أصحابنا هذا القول ضعيف لأنه تعالى ذكر الظهار وذكر العود بعده بكلمة ثم وهذا يقتضي أن يكون المراد من العود شيئاً غير الظهار فإن قالوا المراد والذين كانوا يظاهرون من نسائهم قبل الإسلام والعرب تضمر لفظ كان كما في قوله وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّياطِينِ أي ما كانت تتلو الشياطين قلنا الإضمار خلاف الأصل القول الثاني قال أبو العالية إذا كرر لفظ الظهار فقد عاد فإن لم يكن يكرر لم يكن عوداً وهذا قول أهل الظاهر واحتجوا عليه بأن ظاهر قوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ يدل على إعادة ما فعلوه وهذا لا يكون إلا بالتكرير وهذا أيضاً ضعيف من وجهين الأول أنه لو كان المراد هذا لكان يقول ثم يعيدون ما قالوا الثاني حديث أوس فإنه لم يكرر الظهار إنما عزم على الجماع وقد ألزمه رسول الله الكفارة وكذلك حديث سلمة بن صخرة البياضي فإنه قال كنت لا أصبر عن الجماع فلما دخل شهر رمضان ظاهرت من امرأتي مخافة أن لا أصبر عنها بعد طلوع الفجر فظاهرت منها شهر رمضان كله ثم لم أصبر فواقعته فأتيت رسول الله(29/224)
فأخبرته بذلك وقلت أمض في حكم الله فقال ( أعتق رقبة ) فأوجب الرسول عليه السلام عليه الكفارة مع أنه لم يذكر تكرار الظهار القول الثالث قال أبو مسلم الأصفهاني معنى العود هو أن يحلف على ما قال أولاً من لفظ الظهار فإنه إذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياساً على مالو قال في بعض الأطعمة إنه حرام عليَّ كلحم الآدمي فإنه لا تلزمه الكفارة فأما إذا حلف عليه لزمه كفارة اليمين وهذا أيضاً ضعيف لأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين هناك وفي قتل الخطأ ولا يمين هناك
أما قوله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا فيما يحرمه الظهار فللشافعي قولان أحدهما أنه يحرم الجماع فقط القول الثاني وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاعات وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ودليله وجوه الأول قوله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فكان ذلك عاماً في جميع ضروب المسيس من لمس بيد أو غيرها والثاني قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ألزمه حكم التحريم بسبب أنه شبهها بظهر الأم فكما أن مباشرة ظهر الأم ومسه يحرم عليه فوجب أن يكون الحال في المرأة كذلك الثالث روى عكرمة ( أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره بذلك فقال اعتزلها حتى تكفر )
المسألة الثانية اختلفوا فيمن ظاهر مراراً فقال الشافعي وأبو حنيفة لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد بالتكرار التأكيد فإنه يكون عليه كفارة واحدة وقال مالك من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة مائة فليس عليه إلا كفارة واحدة دليلنا أن قوله تعالى وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ يقتضي كون الظهار علة لإيجاب الكفارة فإذا وجد الظهار الثاني فقد وجدت علة وجوب الكفارة والظهار الثاني إما أن يكون علة للكفارة الأولى أو لكفارة ثانية والأول باطل لأن الكفارة وجبت بالظهار الأول وتكوين الكائن محال ولأن تأخر العلة عن الحكم محال فعلمنا أن الظهار الثاني يوجب كفارة ثانية واحتج مالك بأن قوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ يتناول من ظاهر مرة واحدة ومن ظاهر مراراً كثيرة ثم إنه تعالى أوجب عليه تحرير رقبة فعلمنا أن التكفير الواحد كاف في الظهار سواء كان مرة واحدة أو مراراً كثيرة والجواب أنه تعالى قال لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَة ِ مَسَاكِينَ ( المائدة 89 ) فهذا يقتضي أن لا يجب في الإيمان الكثيرة إلا كفارة واحدة ولما كان باطلاً فكذا ما قلتموه
المسألة الثالثة رجل تحته أربعة نسوة فظاهر منهن بكلمة واحدة وقال أنتن علي كظهر أمي للشافعي قولان أظهرهما أنه يلزمه أربع كفارات نظراً إلى عدد اللواتي ظاهر منهن ودليله ما ذكرنا أنه ظاهر عن هذه فلزمه كفارة بسبب هذا الظهار وظاهر أيضاً عن تلك فالظهار الثاني لا بد وأن يوجب كفارة أخرى
المسألة الرابعة الآية تدل على إيجاب الكفارة قبل المماسة فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأحمد وإسحق رحمهم الله وقال بعضهم إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان وهو قول عبدالرحمن بن مهدي دليلنا أن الآية دلت على أنه يجب على المظاهر كفارة قبل العود فههنا فاتت صفة القبلية فيبقى أصل وجوب الكفارة وليس في(29/225)
الآية دلالة على أن ترك التقديم يوجب كفارة أخرى
المسألة الخامسة الأظهر أنه لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع قال الفقهاء ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة وامتناع من إيفاء حقها
المسألة السادسة قال أبو حنيفة رحمه الله هذه الرقبة تجزىء سواء كانت مؤمنة أو كافرة لقوله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ فهذا اللفظ يفيد العموم في جميع الرقاب وقال الشافعي لا بد وأن تكون مؤمنة ودليله وجهان الأول أن المشرك نجس لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وكل نجس خبيث بإجماع الأمة وقال تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ( البقرة 267 ) الثاني أجمعنا على أن الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان فكذا ههنا والجامع أن الإعتاق إنعام فتقييده بالإيمان يقتضي صرف هذا الإنعام إلى أولياء الله وحرمان أعداء الله وعدم التقييد بالإيمان قد يفضي إلى حرمان أولياء الله فوجب أن يتقيد بالإيمان تحصيلاً لهذه المصلحة
المسألة السابعة إعتاق المكاتب لا يجزىء عند الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً جاز عن الكفارة وإذا أعتقه بعد أن يؤدي شيئاً فظاهر الرواية أنه لا يجزىء وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجزىء حجة أبي حنيفة أن المكاتب رقبة لقوله تعالى وَفِي الرّقَابِ ( البقرة 117 ) والرقبة مجزئة لقوله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ حجة الشافعي أن المقتضى لبقاء التكاليف بإعتاق الرقبة قائم بعد إعتاق المكاتب وما لأجله ترك العمل به في محل الرقاب غير موجود ههنا فوجب أن يبقى على الأصل بيان المقتضي أن الأصل في الثابت البقاء على ما كان بيان الفارق أن المكاتب كالزائل عن ملك المولى وإن لم يزل عن ملكه لكنه يمكن نقصان في رقه بدليل أنه صار أحق بمكاسبه ويمتنع على المولى التصرفات فيه ولو أتلفه المولى يضمن قيمته ولو وطىء مكاتبته يغرم المهر ومن المعلوم أن إزالة الملك الخالص عن شوائب الضعف أشق على المالك من إزالة الملك الضعيف ولا يلزم من خروج الرجل عن العهدة بإعتاق العبد القن خروجه عن العهدة بإعتاق المكاتب والوجه الثاني أجمعنا على أنه لو أعتقه الوارث بعد موته لا يجزىء عن الكفارة فكذا إذا أعتقه المورث والجامع كون الملك ضعيفاً
المسألة الثامنة لو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة عتق عليه لكنه لا يقع عن الكفارة عند الشافعي وعند أبي حنيفة يقع حجة أبي حنيفة التمسك بظاهر الآية وحجة الشافعي ما تقدم
المسألة التاسعة قال أبو حنيفة الإطعام في الكفارات يتأدى بالتمكين من الطعام وعند الشافعي لا يتأدى إلا بالتمليك من الفقير حجة أبي حنيفة ظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام وحقيقة الإطعام هو التمكين بدليل قول تعالى مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ( المائدة 89 ) وذلك يتأدى بالتمكين والتمليك فكذا ههنا وحجة الشافعي القياس عن الزكاة وصدقة الفطر
المسألة العاشرة قال الشافعي لكل مسكين مد من طعام بلده الذي يقتات منه حنطة أو شعيراً أو أرزاً أو تمراً أو أقطاً وذلك بمد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يعتبر مد حدث بعده وقال أبو حنيفة يعطى كل مسكين نصف(29/226)
صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ولا يجزئه دون ذلك حجة الشافعي أن ظاهر الآية يقتضي الإطعام ومراتب الإطعام مختلفة بالكمية والكيفية فليس حمل اللفظ على البعض أولى من حمله على الباقي فلا بد من حمله على أقل مالا بد منه ظاهراً وذلك هو المد حجة أبي حنيفة ما روي في حديث أوس بن الصامت ( لكل مسكين نصف صاع من بر ) وعن علي وعائشة قالا لكل مسكين مدان من بر ولأن المعتبر حاجة اليوم لكل مسكين فيكون نظير صدقة الفطر ولا يتأدى ذلك بالمد بل بما قلنا فكذلك هنا
المسألة الحادية عشرة لو أطعم مسكيناً واحداً ستين مرة لا يجزىء عند الشافعي وعند أبي حنيفة يجزىء حجة الشافعي ظاهر الآية وهو أنه أوجب إطعام ستين مسكيناً فوجب رعاية ظاهر الآية وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل وللشافعي أن يقول التحكمات غالبة على هذه التقديرات فوجب الامتناع فيها من القياس وأيضاً فلعل إدخال السرور في قلب ستين إنساناً أقرب إلى رضا الله تعالى من إدخال السرور في قلب الإنسان الواحد
المسألة الثانية عشرة قال أصحاب الشافعي إنه تعالى قال في الرقبة فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ وقال في الصوم فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً فذكر في الأول فَمَن لَّمْ يَجِدْ وفي الثاني فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فقالوا من ماله غائب لم ينتقل إلى الصوم بسبب عجزه عن الإعتاق في الحال أما من كان مريضاً في الحال فإنه ينتقل إلى الإطعام وإن كان مرضه بحيث يرجى زواله قالوا والفرق أنه قال في الانتقال إلى الإطعام فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ وهو بسبب المرض الناجز والعجز العاجل غير مستطيع وقال في الرقبة فَمَن لَّمْ يَجِدْ والمراد فمن لم يجد رقبة أو مالاً يشتري به رقبة ومن ماله غائب لا يسمى فاقداً للمال وأيضاً يمكن أن يقال في الفرق إحضار المال يتعلق باختياره وأما إزالة المرض فليس باختياره
المسألة الثالثة عشرة قال بعض أصحابنا الشبق المفرط والغلمة الهائجة عذر في الانتقال إلى الإطعام والدليل عليه أنه عليه السلام لما أمر الأعرابي بالصوم قال له وهل أتيت إلا من قبل الصوم فقال عليه السلام أطعم ) دل الحديث على أن الشبق الشديد عذر في الانتقال من الصوم إلى الإطعام وأيضاً الاستطاعة فوق الوسع والوسع فوق الطاقة فالاستطاعة هو أن يتمكن الإنسان من الفعل على سبيل السهولة ومعلوم أن هذا المعنى لا يتم مع شدة الشبق فهذه جملة مختصرة مما يتعلق بفقه القرآن في هذه الآية والله أعلم
قوله تعالى ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قال الزجاج ذالِكُمْ للتغليظ في الكفارة تُوعَظُونَ بِهِ أي أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه وقال غيره ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ أي تؤمرون به من الكفارة وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من التكفير وتركه(29/227)
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ثم ذكر تعالى حكم العاجز عن الرقبة فقال فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً فدلت الآية على أن التتابع شرط وذكر في تحرير الرقبة والصوم أنه لا بد وأن يوجدا من قبل أن يتماسا ثم ذكر تعالى أن من لم يستطع ذلك فإطعام ستين مسكيناً ولم يذكر أنه لا بد من وقوعه قبل المماسة إلا أنه كالأولين بدلالة الإجماع والمسائل الفقهية المفرعة على هذه الآية كثيرة مذكورة في كتاب الفقه
ثم قال تعالى ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ وفي قوله ذالِكَ وجهان الأول قال الزجاج إنه في محل الرفع والمعنى الفرض ذلك الذي وضعناه الثاني فعلنا ذلك البيان والتعليم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطلاق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى استدلت المعتزلة باللام في قوله لّتُؤْمِنُواْ على أن فعل الله معلل بالغرض وعلى أن غرضه أن تؤمنوا بالله ولا تستمروا على ما كانوا عليه في الجاهلية من الكفر وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الإيمان وعدم الكفر
المسألة الثانية استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية فقال أمرهم بهذه الأعمال وبين أنه أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين فدلت الآية على أن العمل من الإيمان ومن أنكر ذلك قال إنه تعالى لم يقل ( ذلك لتؤمنوا بالله بعمل هذه الأشياء ) ونحن نقول المعنى ذلك لتؤمنوا بالله بالإقرار بهذه الأحكام ثم إنه تعالى أكد في بيان أنه لا بد لهم من الطاعة وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي لمن جحد هذا وكذب به
إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في المحادة قولان قال المبرد أصل المحادة الممانعة ومنه يقال للبواب حداد وللمنوع الرزق محدود قال أبو مسلم الأصفهاني المحادة مفاعلة من لفظ الحديد والمراد المقابلة بالحديد سواء كان ذلك في الحقيقة أو كان ذلك منازعة شديدة شبيهة بالخصومة بالحديد أما المفسرون فقالوا يحادون أي يعادون ويشاقون وذلك تارة بالمحاربة مع أولياء الله وتارة بالتكذيب والصد عن دين الله
المسألة الثانية الضمير في قوله يُحَادُّونَ يمكن أن يكون راجعاً إلى المنافقين فإنهم كانوا يوادون(29/228)
الكافرين ويظاهرون على الرسول عليه السلام فأذلهم الله تعالى ويحتمل سائر الكفار فأعلم الله رسوله أنهم كُبِتُواْ أي خذلوا قال المبرد يقال كبت الله فلاناً إذا أذله والمردود بالذل يقال له مكبوت ثم قال كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ من أعداء الرسل وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ تدل على صدق الرسول وَلِلْكَافِرِينَ بهذه الآيات عَذَابٌ مُّهِينٌ يذهب بعزهم وكبرهم فبين سبحانه أن عذاب هؤلاء المحادين في الدنيا الذل والهوان وفي الآخرة العذاب الشديد
ثم ذكر تعالى ما به يتكامل هذا الوعيد فقال
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٌ
يَوْمٍ منصوب بينبئهم أو بمهين أو بإضمار اذكر تعظيماً لليوم وفي قوله جَمِيعاً قولان أحدهما كلهم لا يترك منهم أحد غير مبعوث والثاني مجتمعين في حال واحدة ثم قال فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ تجليلاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً لحالهم الذي يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤس الإشهاد وقوله أَحْصَاهُ اللَّهُ أي أحاط بجميع أحوال تلك الأعمال من الكمية والكيفية والزمان والمكان لأنه تعالى عالم بالجزئيات ثم قال وَنَسُوهُ لأنهم استحقروها وتهاونوا بها فلا جرم نسوها وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ أي مشاهد لا يخفى عليه شيء ألبتة
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة ٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ
قال ابن عباس أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم وأقول هذا حق لأن كونه تعالى عالماً بالأشياء لا يرى ولكنه معلوم بواسطة الدلائل وإنما أطلق لفظ الرؤية على هذا العلم لأن الدليل على كونه عالماً هو أن أفعاله محكمة متقنة منتسقة منتظمة وكل من كانت أفعاله كذلك فهو عالم
أما المقدمة الأولى فمحسوسة مشاهدة في عجائب السموات والأرض وتركيبات النبات والحيوان
أما المقدمة الثانية فبديهية ولما كان الدليل الدال على كونه تعالى كذلك ظاهراً لا جرم بلغ هذا العلم والاستدلال إلى أعلى درجات الظهور والجلاء صار جارياً مجرى المحسوس المشاهد فلذلك أطلق لفظ الرؤية فقال أَلَمْ تَرَ وأما أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فلأن علمه علم قديم فلو تعلق بالبعض دون البعض من أن جميع المعلومات مشتركة في صحة المعلومية لافتقر ذلك العلم في ذلك التخصيص إلى مخصص وهو على الله تعالى محال فلا جرم وجب كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات واعلم أنه سبحانه قال يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يقل يعلم ما في الأرض وما في السموات وفي رعاية هذا الترتيب سر عجيب
ثم إنه تعالى خص ما يكون من العباد من النجوى فقال(29/229)
مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة ٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن جني قرأ أبو حيوة مَا تَكُونُواْ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ بالتاء ثم قال والتذكير الذي عليه العامة هو الوجه لما هناك من الشياع وعموم الجنسية كقولك ما جاءني من امرأة وما حضرني من جارية ولأنه وقع الفاصل بين الفاعل والمفعول وهو كلمة من ولأن النجوى تأنيثه ليس تأنيثاً حقيقياً وأما التأنيث فلأن تقدير الآية ما تكون نجوى كما يقال ما قامت امرأة وما حضرت جارية
المسألة الثانية قوله مَّا يَكُونُ من كان التامة أي ما يوجد ولا يحصل من نجوى ثلاثة
المسألة الثالثة النجوى التناجي وهو مصدر ومنه قوله تعالى لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ ( النساء 114 ) وقال الزجاج النجوى مشتق من النجوة وهي ما ارتفع ونجا فالكلام المذكور سراً لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير ويجوز أيضاً أن تجعل النجوى وصفاً فيقال قوم نجوى وقوله تعالى وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ( الإسراء 47 ) والمعنى هم ذوو نجوى فحذف المضاف وكذلك كل مصدر وصف به
المسألة الرابعة جر ثلاثة في قوله مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مجروراً بالإضافة والثاني أن يكون النجوى بمعنى المتناجين ويكون التقدير ما يكون من متناجين ثلاثة فيكون صفة
المسألة الخامسة قرأ ابن أبي عبلة ( ثلاثة ) و ( خمسة ) بالنصب على الحال بإضمار يتناجون لأن نجوى يدل عليه
المسألة السادسة أنه تعالى ذكر الثلاثة والخمسة وأهمل أمر الأربعة في البين وذكروا فيه وجوهاً أحدها أن هذا إشارة إلى كمال الرحمة وذلك لأن الثلاثة إذا اجتمعوا فإذا أخذ إثنان في التناجي والمشاورة بقي الواحد ضائعاً وحيداً فيضيق قلبه فيقول الله تعالى أنا جليسك وأنيسك وكذلك الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيداً فريداً أما إذا كانوا أربعة لم يبق واحد منهم فريداً فهذا إشارة إلى أن كل من انقطع عن الخلق ما يتركه الله تعالى ضائعاً وثانيها أن العدد الفرد أشرف من الزوج لأن الله وتر يحب الوتر فخص الأعداد الفرد بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور وثالثها أن أقل مالا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة حتى يكون الإثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات والثالث كالمتوسط الحاكم بينهما فحينئذ تكمل تلك المشورة ويتم ذلك الغرض وهكذا في كل جمع اجتمعوا للمشاورة فلا بد فيهم من واحد يكون حكماً مقبول القول فلهذا السبب لا بد(29/230)
وأن تكون أرباب المشاورة عددهم فرداً فذكر سبحانه الفردين الأولين واكتفى بذكرهما تنبيهاً على الباقي ورابعها أن الآية نزلت في قوم من المنافقين اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين وكانوا على هذين العددين قال ابن عباس نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوماً يتحدثون فقال أحدهم هل يعلم الله ما تقول وقال الثاني يعلم البعض دون البعض وقال الثالث إن كان يعلم البعض فيعلم الكل وخامسها أن في مصحف عبدالله ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا الله رابعهم ولا أربعة إلا الله خامسهم ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا أخذوا في التناجي )
المسألة السابعة قرىء وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ بالنصب على أن لا لنفي الجنس ويجوز أن يكون وَلاَ أَكْثَرَ بالرفع معطوفاً على محل ( لا ) مع ( أدنى ) كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة والثالث يجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله والرابع أن يكون ارتفاعهما عطفاً على محل مِن نَّجْوَى كأنه قيل ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم والخامس يجوز أن يكونا مجروروين عطفاً على نَجْوَى كأنه قيل ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم
المسألة الثامنة قرىء وَلا أَكْبَرَ بالباء المنقطعة من تحت
المسألة التاسعة المراد من كونه تعالى رابعاً لهم والمراد من كونه تعالى معهم كونه تعالى عالماً بكلامهم وضميرهم وسرهم وعلنهم وكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم وقد تعالى عن المكان والمشاهدة
المسألة العاشرة قرأ بعضهم ثُمَّ يُنَبّئُهُم بسكون النون وأنبأ ونبأ واحد في المعنى وقوله ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أي يحاسب على ذلك ويجازي على قدر الاستحقاق ثم قال أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ وهو تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ
ثم إنه تعالى بين حال أولئك الذين نهوا عن النجوى فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ واختلفوا في أنهم من هم فقال الأكثرون هم اليهود ومنهم من قال هم المنافقون ومنهم من قال فريق من الكفار والأول أقرب لأنه تعالى حكى عنهم فقال وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ وهذا الجنس فيما روي وقع من اليهود فقد كانوا إذا سلموا على الرسول عليه السلام قالوا السام عليك يعنون الموت والأخبار في ذلك متظاهرة وقصة عائشة فيها مشهورة
ثم قال تعالى وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ وفيه مسألتان(29/231)
المسألة الأولى قال المفسرون إنه صح أن أولئك الأقوام كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك فلما أكثروا ذلك شكا المسلمون ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ يحتمل وجهين أحدهما أن الإثم والعدوان هو مخالفتهم للرسل في النهي عن النجوى لأن الإقدام على المنهي يوجب الإثم والعدوان سيما إذا كان ذلك الإقدام لأجل المناصبة وإظهار التمرد والثاني أن الإثم والعدوان هو ذلك السر الذي كان يجري بينهم لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أو شيء يسوءهم
المسألة الثانية قرأ حمزة وحده ( ويتنجون ) بغير ألف والباقون يتناجون قال أبو علي ينتجون يفتعلون من النجوى والنجوى مصدر كالدعوى والعدوى فينتجون ويتناجون واحد فإن يفتعلون ويتفاعلون قد يجريان مجرى واحد كما يقال ازدوجوا واعتوروا وتزاوجوا وتعاوروا وقوله تعالى أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا ( الأعراف 38 ) وادركوا فادركوا افتعلوا وادركوا تفاعلوا وحجة من قرأ يتناجون قوله ءامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ ( المجادلة 12 ) وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى ( المجادلة 9 ) فهذا مطاوع ناجيتم وليس في هذا رد لقراءة حمزة ينتجون لأن هذا مثله في الجواز وقوله تعالى أَلَمْ تَرَ قال صاحب الكشاف قرىء ( ومعصيات الرسول ) والقولان ههنا كما ذكرناه في الإثم والعدوان وقوله وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ يعني أنهم يقولون في تحيتك السام عليك يا محمد والسام الموت والله تعالى يقول وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( النمل 59 ) و اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ و مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ ثم ذكر تعالى أنهم يَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ يعني أنهم يقولون في أنفسهم إنه لو كان رسولاً فلم لا يعذبنا الله بهذا الاستخفاف
ثم قال تعالى حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ والمعنى أن تقدم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة أو بحسب المصلحة فإذا لم يقتض المشيئة تقديم العذاب ولم يقتض الصلاح أيضاً ذلك فالعذاب في القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَة ِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
قوله تعالى الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَة ِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى
اعلم أن المخاطبين بقوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ قولين وذلك لأنا إن حملنا قوله فيما تقدم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ( المجادلة 8 ) على اليهود حملنا في هذه الآية قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ على المنافقين أي يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم وإن حملنا ذلك على جميع الكفار من اليهود والمنافقين حملنا هذا على المؤمنين وذلك لأنه تعالى لما ذم اليهود والمنافقين على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية(29/232)
الرسول أتبعه بأن نهى أصحابه المؤمنين أن يسلكوا مثل طريقتهم فقال فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإثْمِ وهو ما يقبح مما يخصهم وَالْعُدْوَانِ وهو يؤدي إلى ظلم الغير أَلَمْ تَرَ وهو ما يكون خلافاً عليه وأمرهم أن يتناجوا بالبر الذي يضاد العدوان وبالتقوى وهو ما يتقي به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي واعلم أن القوم متى تناجوا بما هذه صفته قلت مناجاتهم لأن ما يدعو إلى مثل هذا الكلام يدعو إظهاره وذلك يقرب من قوله لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة ٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ( النساء 114 ) وأيضاً فمتى عرفت طريقة الرجل في هذه المناجاة لم يتأذ من مناجاته أحد
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي إلى حيث يحاسب ويجازي وإلا فالمكان لا يجوز على الله تعالى
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
قوله تعالى إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ الألف واللام في لفظ النَّجْوَى لا يمكن أن يكون للاستغراق لأن في النجوى ما يكون من الله ولله بل المراد منه المعهود السابق وهو النجوى بالإثم والعدوان والمعنى أن الشيطان يحملهم على أن يقدموا على تلك النجوى التي هي سبب لحزن المؤمنين وذلك لأن المؤمنين إذا رأوهم متناجين ثالوا ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا وهزموا ويقع ذلك في قلوبهم ويحزنون له
ثم قال تعالى وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وفيه وجهان أحدهما ليس يضر التناجي بالمؤمنين شيئاً والثاني الشيطان ليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله وقوله إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فقيل بعلمه وقيل بخلقه وتقديره للأمراض وأحوال القلب من الحزن والفرح وقيل بأن يبين كيفية مناجاة الكفار حتى يزول الغم
ثم قال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإن من توكل عليه لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
قوله تعالى الْمُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما نهى عباده المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبة والمودة وقوله تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض من قولهم افسح عني أي تنح ولا تتضاموا يقال بلدة فسيحة ومفازة فسيحة ولك فيه فسحة أي سعة
المسألة الثانية قرأ الحسن وداود بن أبي هند ( تفاسحوا ) قال ابن جني هذا لائق بالغرض لأنه إذا قيل ( تفسحوا ) فمعناه ليكن هناك تفسح وأما التفاسح فتفاعل والمراد ههنا المفاعلة فإنها تكون لما فوق الواحد كالمقاسمة والمكايلة وقرىء فِى الْمَجَالِسِ قال الواحدي والوجه التوحيد لأن المراد مجلس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو واحد ووجه الجمع أن يجعل لكل جالس مجلس على حدة أي موضع جلوس(29/233)
المسألة الثالثة ذكروا في الآية أقوالاً الأول أن المراد مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يتضامون فيه تنافساً على القرب منه وحرصاً على استماع كلامه وعلى هذا القول ذكروا في سبب النزول وجوهاً الأول قال مقاتل بن حيان كان عليه السلام يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ينتظرون أن يوسع لهم فعرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما يحملهم على القيام وشق ذلك على الرسول فقال لمن حوله من غير أهل بدر قم يا فلان قم يا فلان فلم يزل يقيم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه وشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرفت الكراهية في وجوههم وطعن المنافقون في ذلك وقالوا والله ما عدل على هؤلاء إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فنزلت هذه الآية يوم الجمعة الثاني روى عن ابن عباس أنه قال نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن الشماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من الرسول عليه الصلاة والسلام للوقر الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينه كلام ووصف للرسول محبة القرب منه ليسمع كلامه وإن فلاناً لم يفسح له فنزلت هذه الآية وأمر القوم بأن يوسعوا ولا يقوم أحد لأحد الثالث أنهم كانوا يحبون القرب من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان الرجل منهم يكره أن يضيق عليه فربما سأله أخوه أن يفسح له فيأبى فأمرهم الله تعالى بأن يتعاطفوا ويتحملوا المكروه وكان فيهم من يكره أن يمسه الفقراء وكان أهل الصفة يلبسون الصوف ولهم روائح القول الثاني وهو اختيار الحسن أن المراد تفسحوا في مجالس القتال وهو كقوله مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ( آل عمران 121 ) وكان الرجل يأتي الصف فيقول تفسحوا فيأبون لحرصهم على الشهادة والقول الثالث أن المراد جميع المجالس والمجامع قال القاضي والأقرب أن المراد منه مجلس الرسول عليه السلام لأنه تعالى ذكر المجلس على وجه يقتضي كونه معهوداً والمعود في زمان نزول الآية ليس إلا مجلس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الذي يعظم التنافس عليه ومعلوم أن للقرب منه مزية عظيمة لما فيه من سماع حديثه ولما فيه من المنزلة ولذلك قال عليه السلام ( ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ) ولذلك كان يقدم الأفاضل من أصحابه وكانوا لكثرتهم يتضايقون فأمروا بالتفسح إذا أمكن لأن ذلك أدخل في التحبب وفي الاشتراك في سماع مالا بد منه في الدين وإذا صح ذلك في مجلسه فحال الجهاد ينبغي أن يكون مثله بل ربما كان أولى لأن الشديد البأس قد يكون متأخراً عن الصف الأول والحاجة إلى تقدمه ماسة فلا بد من التفسح ثم يقاس على هذا سائر مجالس العلم والذكر
أما قوله تعالى يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فهو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة
واعلم أن هذه الآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه ولذلك قال عليه السلام ( لا يزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه المسلم )(29/234)
ثم قال تعالى ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس إذا قيل لكم ارتفعوا فارتفعوا واللفظ يحتمل وجوهاً أحدها إذا قيل لكم قوموا للتوسعة على الداخل فقوموا وثانيها إذا قيل قوموا من عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا تطولوا في الكلام فقوموا ولا تركزوا معه كما قال وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِى ّ ( الأحزاب 53 ) وهو قول الزجاج وثالثها إذا قيل لكم قوموا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير وتأهبوا له فاشتغلوا به وتأهبوا له ولا تتثاقلوا فيه قال الضحاك وابن زيد إن قوماً تثاقلوا عن الصلاة فأمروا بالقيام لها إذا نودي
المسألة الثانية قرىء انشُزُواْ بكسر الشين وبضمها وهما لغتان مثل يَعْكُفُونَ و يَعْكُفُونَ ( الأعراف 138 ) و يَعْرِشُونَ و يَعْرِشُونَ ( الأعراف 137 )
واعلم أنه تعالى لما نهاهم أولاً عن بعض الأشياء ثم أمرهم ثانياً ببعض الأشياء وعدهم على الطاعات فقال يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامر رسوله والعالمين منهم خاصة درجات ثم في المراد من هذه الرفعة قولان الأول وهو القول النادر أن المراد به الرفعة في مجلس الرسول عليه السلام والثاني وهو القول المشهور أن المراد منه الرفعة في درجات الثواب ومراتب الرضوان
واعلم أنا أطنبنا في تفسير قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) في فضيلة العلم وقال القاضي لا شبهة أن علم العالم يقتضي لطاعته من المنزلة مالا يحصل للمؤمن ولذلك فإنه يقتدى بالعلم في كل أفعاله ولا يقتدى بغير العالم لأنه يعلم من كيفية الاحتراز عن الحرام والشبهات ومحاسبة النفس مالا يعرفه الغير ويعلم من كيفية الخشوع والتذلل في العبادة مالا يعرفه غيره ويعلم من كيفية التوبة وأوقاتها وصفاتها مالا يعرفه غيره ويتحفظ فيما يلزمه من الحقوق مالا يتحفظ منه غيره وفي الوجوه كثرة لكنه كما تعظم منزلة أفعاله من الطاعات في درجة الثواب فكذلك يعظم عقابه فيما يأتيه من الذنوب لمكان علمه حتى لا يمتنع في كثير من صغائر غيره أن يكون كبيراً منه
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَى ْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة ً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى هذا التكليف يشتمل على أنواع من الفوائد أولها إعظام الرسول عليه السلام وإعظام مناجاته فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه وإن وجده بالسهولة استحقره وثانيها(29/235)
نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة وثالثها قال ابن عباس إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى شقوا عليه وأراد الله أن يخفف عن نبيه فلما نزلت هذه الآية شح كثير من الناس فكفوا عن المسألة ورابعها قال مقالت بن حيان إن الأغنياء غلبوا الفقراء على مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وأكثروا من مناجاته حتى كره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طول جلوسهم فأمر الله بالصدقة عند المناجاة فأما الأغنياء فامتنعوا وأما الفقراء فلم يجدوا شيئاً واشتاقوا إلى مجلس الرسول عليه السلام فتمنوا أن لو كانوا يملكون شيئاً فينفقونه ويصلون إلى مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعند هذا التكليف ازدادت درجة الفقراء عند الله وانحطت درجة الأغنياء وخامسها يحتمل أن يكون المراد منه التخفيف عليه لأن أرباب الحاجات كانوا يلحون على الرسول ويشغلون أوقاته التي هي مقسومة على الإبلاغ إلى الأمة وعلى العبادة ويحتمل أنه كان في ذلك ما يشغل قلب بعض المؤمنين لظنه أن فلاناً إنما ناجى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأمر يقتضي شغل القلب فيما يرجع إلى الدنيا وسادسها أنه يتميز به محب الآخرة عن محب الدنيا فإن المال محك الدواعي
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن تقديم الصدقة كان واجباً لأن الأمر للوجوب ويتأكد ذلك بقوله في آخر الآية فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه ومنهم من قال إن ذلك ما كان واجباً بل كان مندوباً واحتج عليه بوجهين الأول أنه تعالى قال ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض والثاني أنه لو كان ذلك واجباً لما أزيل وجوبه بكلام متصل به وهو قوله أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ ( المجادلة 13 ) إلى آخر الآية والجواب عن الأول أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر فالواجب أيضاً يوصف بذلك والجواب عن الثاني أنه لا يلزم من كون الآيتين متصلتين في التلاوة كونهما متصلتين في النزول وهذا كما قلنا في الآية الدالة على وجوب الاعتداد بأربعة أشهر وعشراً إنها ناسخة للاعتداد بحول وإن كان الناسخ متقدماً في التلاوة على المنسوخ ثم اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ فقال الكلبي ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ وقال مقاتل بن حيان بقي ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ
المسألة الثالثة روي عن علي عليه السلام أنه قال إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم فكلما ناجيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قدمت بين يدي نجواي درهماً ثم نسخت فلم يعمل بها أحد وروي عن ابن جريج والكلبي وعطاء عن ابن عباس أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه أحد إلا علي عليه السلام تصدق بدينار ثم نزلت الرخصة قال القاضي والأكثر في الروايات أنه عليه السلام تفرد بالتصدق قبل مناجاته ثم ورد النسخ وإن كان قد روي أيضاً أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك وإن ثبت أنه اختص بذلك فلأن الوقت لم يتسع لهذا الغرض وإلا فلا شبهة أن أكابر الصحابة لا يقعدون عن مثله وأقول على تقدير أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك فهذا لا يجر إليهم طعناً وذلك الإقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه ويوحش قلب الغني فإنه لما لم يفعل الغني ذلك وفعله غيره صار ذلك الفعل سبباً للطعن فيمن لم يفعل فهذا الفعل لما كان سبباً لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء لم يكن في تركه كبير مضرة لأن الذي يكون سبباً للألفة أولى مما يكون سبباً للوحشة وأيضاً فهذه المناجاة ليست من الواجبات(29/236)
ولا من الطاعات المندوبة بل قد بينا أنهم إنما كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ولما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سبباً للطعن
المسألة الرابعة روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال لما نزلت الآية دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( ما تقول في دينار قلت لا يطيقونه قال كم قلت حبة أو شعيرة قال إنك لزهيد ) والمعنى إنك قليل المال فقدرت على حسب حالك
أما قوله تعالى ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ أي ذلك التقديم في دينكم وأطهر لأن الصدقة طهرة
أما قوله فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فالمراد منه الفقراء وهذا يدل على أن من لم يجد ما يتصدق به كان معفواً عنه
المسألة الخامسة أنكر أبو مسلم وقوع النسخ وقال إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقياً فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عمن بقي على نفاقه الأصلي وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت وحاصل قول أبي مسلم أن ذلك التكليف كان مقدراً بغاية مخصوصة فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة فلا يكون هذا نسخاً وهذا الكلام حسن ما به بأس والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله أَءشْفَقْتُمْ ومنهم من قال إنه منسوخ بوجوب الزكاة
أَءَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَى ْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
والمعنى أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من إنفاق المال فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به وتاب الله عليكم ورخص لكم في أن لا تفعلوه فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات فإن قيل ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف وبيانه من وجوه أولها قوله أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ وهو يدل على تقصيرهم وثانيها قوله فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وثالثها قوله وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قلنا ليس الأمر كما قلتم وذلك لأن القوم لما كلفوا بأن يقدموا الصدقة ويشغلوا بالمناجاة فلا بد من تقديم الصدقة فمن ترك(29/237)
المناجاة يكون مقصراً وأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة فهذا أيضاً غير جائز لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول من المناجاة فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم فأما قوله أَءشْفَقْتُمْ فلا يمتنع أن الله تعالى علم ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب فقال هذا القول وأما قوله وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فليس في الآية أنه تاب عليكم من هذا التقصير بل يحتمل أنكم إذا كنتم تائبين راجعين إلى الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة فقد كفاكم هذا التكليف أما قوله وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يعني محيط بأعمالكم ونياتكم
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وينقلون إليهم أسرار المؤمنين مَّا هُم مّنكُمْ أيها المسلمون ولا من اليهود وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ والمراد من هذا الكذب إما ادعاؤهم كونهم مسلمين وإما أنهم كانوا يشتمون الله ورسوله ويكيدون المسلمين فإذا قيل لهم إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل فيحلفون أنا ما قلنا ذلك وما فعلناه فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه
واعلم أن هذه الآية تدل على فساد قول الجاحظ إن الخبر الذي يكون مخالفاً للمخبر عنه إنما يكون كذباً لو علم المخبر كون الخبر مخالفاً للمخبر عنه وذلك لأن لو كان الأمر على ما ذهب إليه لكان قوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ تكراراً غير مقيد يروى أن عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حجرته إذ قال يدخل عليكم رجل ينظر بعين شيطان أو بعيني شيطان فدخل رجل عيناه زرقاوان فقال له لم تسبني فجعل يحلف فنزل قوله وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
والمراد منه عند بعض المحققين عذاب القبر
ثم قال تعالى
اتَّخَذْوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّة ً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ الحسن اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ بكسر الهمزة قال ابن جني هذا على حذف المضاف أي اتخذوا ظهار إيمانهم جنة عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين أو جنة عن أن يقتلهم المسلمون فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب وتقبيح حال الإسلام(29/238)
المسألة الثانية قوله تعالى فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ أي عذاب الآخر وإنما حملنا قوله أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً على عذاب القبر وقوله ههنا فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ على عذاب الآخر لئلا يلزم التكرار ومن الناس من قال المراد من الكل عذاب الآخرة وهو كقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ( النحل 88 )
لَّن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
روي أن واحداً منهم قال لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا فنزلت هذه الآية
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَى ْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ
قال ابن عباس إن المنافق يحلف لله يوم القيامة كذباً كما يحلف لأوليائه في الدنيا كذباً أما الأول فكقوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) وأما الثاني فهو كقوله وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ ( البقرة 56 ) والمعنى أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنه يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب فكان هذا الحلف الذميم يبقى معهم أبداً وإليه الإشارة بقوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) قال الجبائي والقاضي إن أهل الآخرة لا يكذبون فالمراد من الآية أنهم يحلفون في الآخرة أنا ما كنا كافرين عند أنفسنا وعلى هذا الوجه لا يكون هذا الحلف كذباً وقوله أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ أي في الدنيا واعلم أن تفسير الآية بهذا الوجه لا شك أنه يقتضي ركاكة عظيمة في النظم وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 )
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ
قال الزجاج استحوذ في اللغة استولى يقال حاوزت الإبل وحذتها إذا استوليت عليها وجمعتها قال المبرد استحوذ على الشيء حواه وأحاط به وقالت عائشة في حق عمر كان أحوذياً أي سائساً ضابطاً للأمور وهو أحد ما جاء على الأصل نحو استصوب واستنوق أي ملكهم الشيطان واستولى عليهم ثم قال فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ واحتج القاضي به في خلق الأعمال من وجهين الأول ذلك النسيان لو حصل بخلق الله لكانت إضافتها إلى الشيطان كذباً والثاني لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان
ثم قال تعالى
إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ فِى الاٌّ ذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ عَزِيزٌ
أي في جملة من هو أذل خلق الله لأن ذل أحد الخصمين على حسب عز الخصم الثاني فلما كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضاً ولما شرح ذلهم بين عز المؤمنين(29/239)
فقال كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر أَنَاْ وَرُسُلِى بفتح الياء والباقون لا يحركون قال أبو علي التحريك والإسكان جميعاً جائزان
المسألة الثانية غلبة جميع الرسل بالحجة مفاضلة إلا أن منهم من ضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالسيف ومنهم من لم يكن كذلك ثم قال إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ على نصرة أنبيائه عَزِيزٌ غالب لا يدفعه أحد عن مراده لأن كل ما سواه ممكن الوجود لذاته والواجب لذاته يكون غالباً للممكن لذاته قال مقاتل إن المسلمين قالوا إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم فقال عبد الله بن أبي أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم كلا والله إنهم أكثر جمعاً وعدة فأنزل الله هذه الآية
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَائِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
المعنى أنه لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله وذلك لأن من أحب أحداً امتنع أن يحب مع ذلك عدوه وهذا على وجهين أحدهما أنهما لا يجتمعان في القلب فإذا حصل في القلب وداد أعداء الله لم يحصل فيه الإيمان فيكون صاحبه منافقاً والثاني أنهما يجتمعان ولكنه معصية وكبيرة وعلى هذا الوجه لا يكون صاحب هذا الوداد كافراً بسبب هذا الوداد بل كان عاصياً في الله فإن قيل أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاشرتهم فما هذه المودة المحرمة المحظورة قلنا المودة المحظورة هي إرادة منافسه ديناً ودنيا مع كونه كافراً فأما ما سوى ذلك فلا حظر فيه ثم إنه تعالى بالغ في المنع من هذه المودة من وجوه أولها ما ذكر أن هذه المودة مع الإيمان لا يجتمعان وثانيها قوله وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ والمراد أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع الميل ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مغلوباً مطروحاً بسبب الدين قال ابن عباس نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد وعمر بن لخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر وأبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( متعنا بنفسك ) ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير وعلي بن أبي طالب وعبيدة قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يوم بدر أخبر أن هؤلاء لم يوادوا أقاربهم(29/240)
وعشائرهم غضباً لله ودينه وثالثها أنه تعالى عدد نعمه على المؤمنين فبدأ بقوله أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى أن من أنعم الله عليه بهذه النعمة العظيمة كيف يمكن أن يحصل في قلبه مودة أعداء الله واختلفوا في المراد من قوله كِتَابَ أما القاضي فذكر ثلاثة أوجه على وفق قول المعتزلة أحدها جعل في قلوبهم علامة تعرف بها الملائكة ما هم عليه من الإخلاص وثانيها المراد شرح صدورهم للإيمان بالألطاف والتوفيق وثالثها قيل في كِتَابَ قضى أن قلوبهم بهذا الوصف واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة نسلمها للقاضي ونفرع عليها صحة قولنا فإن الذي قضى الله به أخبر عنه وكتبه في اللوح المحفوظ لو لم يقع لانقلب خبر الله الصدق كذباً وهذا محال والمؤدي إلى المحال محال وقال أبو علي الفارسي معناه جمع والكتيبة الجمع من الجيش والتقدير أولئك الذين جمع الله في قلوبهم الإيمان أي استكملوا فلم يكونوا ممن يقولون نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ( النساء 150 ) ومتى كانوا كذلك امتنع أن يحصل في قلوبهم مودة الكفار وقال جمهور أصحابنا كِتَابَ معناه أثبت وخلق وذلك لأن الإيمان لا يمكن كتبه فلا بد من حمله على الإيجاد والتكوين
المسألة الثانية روى المفضل عن عاصم كِتَابَ على فعل مالم يسم فاعله والباقون كِتَابَ على إسناد الفعل إلى الفاعل والنعمة الثانية قوله وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وفيه قولان الأول قال ابن عباس نصرهم على عدوهم وسمى تلك النصرة روحاً لأن بها يحيا أمرهم والثاني قال السدي الضمير في قوله مِنْهُ عائد إلى الإيمان والمعنى أيدهم بروح من الإيمان يدل عليه قوله وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) النعمة الثالثة وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وهو إشارة إلى نعمة الجنة النعمة الرابعة قوله تعالى رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وهي نعمة الرضوان وهي أعظم النعم وأجل المراتب ثم لما عدد هذه النعم ذكر الأمر الرابع من الأمور التي توجب ترك الموادة مع أعداء الله فقال أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وهو في مقابلة قوله فيهم أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ( المجادلة 19 )
واعلم أن الأكثرين اتفقوا على أن قوله لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أراد فتح مكة وتلك القصة معروفة وبالجملة فالآية زجر عن التودد إلى الكفار والفساق
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يقول ( اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت لاَّ تَجِدُ قَوْماً إلى آخره ) والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيد المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين(29/241)
سورة الحشر
وهي عشرون وأربع آيات مدنية
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاِوَّلِ الْحَشْرِ صالح بنو النضير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر فلما هزم المسلمون يوم أحد تابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة وحالفوا أبا سفيان عند الكعبة فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة وكان أخاه من الرضاعة ثم صحبهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم أخرجوا من المدينة فقالوا الموت أحب إلينا من ذلك فتنادوا بالحرب وقيل استمهلوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشرة أيام ليتجهزوا للخروج فبعث إليهم عبد الله بن أبي وقال لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فحصنوا الأزقة فحاصرهم إحدى وعشرون ليلة فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وآيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم فجلوا إلى الشأم إلى أريحاء وأزرعات إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وههنا سؤالات
السؤال الأول ما معنى هذه اللام في قوله لاِوَّلِ الْحَشْرِ الجواب إنها هي اللام في قولك جئت لوقت كذا والمعنى أخرج الذين كفروا عند أول الحشر السؤال الثاني ما معنى أول الحشر الجواب أن الحشر هو أخراج الجمع من مكان إلى مكان وإما أنه لم سمي هذا الحشر بأول الحشر فبيانه من وجوه أحدها وهو قول ابن عباس والأكثرين إن هذا أول حشر أهل الكتاب أي أول مرة حشروا وأخرجوا من جزيرة العرب لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك لأنهم(29/242)
كانوا أهل منعة وعز وثانيها أنه تعالى جعل إخراجهم من المدينة حشراً وجعله أول الحشر من حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام ثم تدركهم الساعة هناك وثالثها أن هذا أول حشرهم وأما آخر حشرهم فهو إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ورابعها معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما يحشرهم لقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله وخامسها قال قتادة هذا أول الحشر والحشر الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وذكروا أن تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار
هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاًّوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى الاٌّ بْصَارِ
قوله تعالى مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ
قال ابن عباس إن المسلمين ظنوا أنهم لعزتهم وقوتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم وإنما ذكر الله تعالى ذلك تعظيماً لهذه النعمة فإن النعمة إذا وردت على المرء والظن بخلافه تكون أعظم فالمسلمون ما ظنوا أنهم يصلون إلى مرادهم في خروج هؤلاء اليهود فيتخلصون من ضرر مكايدهم فلما تيسر لهم ذلك كان توقع هذه النعمة أعظم
قوله تعالى وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللَّهِ
قالوا كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها تمنعهم من رسول الله وفي الآية تشريف عظيم لرسول الله فإنها تدل على أن معاملتهم مع رسول الله هي بعينها نفس المعاملة مع الله فإن قيل ما الفرق بين قولك ظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم وبين النظم الذي جاء عليه قلنا في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم وفي تصيير ضميرهم إسماً وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالون بأحد يطمع في منازعتهم وهذه المعاني لا تحصل في قولك وظنوا أن حصونهم تمنعهم
قوله تعالى فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ في الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية وجهان الأول أن يكون الضمير في قوله فَأَتَاهُمُ عائد إلى اليهود أي فأتاهم عذاب الله وأخذهم من حيث لم يحتسبوا والثاني أن يكون عائداً إلى المؤمنين أي فأتاهم نصر الله وتقويته من حيث لم يحتسبوا ومعنى لم يحتسبوا أي لم يظنوا ولم يخطر ببالهم وذلك بسبب أمرين أحدهما قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة وذلك مما أضعف قوتهم وفتت عضدهم وقل من شوكتهم والثاني بما قذف في قلوبهم من الرعب
المسألة الثانية قوله فَاتَاهُمُ اللَّهُ لا يمكن إجراؤه على ظاهره باتفاق جمهور العقلاء فدل على أن باب التأويل مفتوح وأن صرف الآيات عن ظواهرها بمقتضى الدلائل العقلية جائز
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف قرىء فَاتَاهُمُ اللَّهُ أي فآتاهم الهلاك واعلم أن هذه القراءة لا تدفع ما بيناه من وجوه التأويل لأن هذه القراءة لا تدفع القراءة الأولى فإنها ثابتة بالتواتر ومتى كانت ثابتة بالتواتر لا يمكن دفعها بل لا بد فيها من التأويل(29/243)
قوله تعالى وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قال أهل اللغة الرعب الخوف الذي يستوعب الصدر أي يملؤه وقذفه إثباته فيه وفيه قالوا في صفة الأسد مقذف كأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه واعلم أن هذه الآية تدل على قولنا من أن الأمور كلها لله وذلك لأن الآية دلت على أن وقوع ذلك الرعب في قلوبهم كان من الله ودلت على أن ذلك الرعب سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله فكانت الأفعال بأسرها مسندة إلى الله بهذا الطريق
قوله تعالى يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو علي قرأ أبو عمرو وحده يُخْرِبُونَ مشددة وقرأ الباقون يُخْرِبُونَ خفيفة وكان أبو عمرو يقول الإخراب أن يترك الشيء خراباً والتخريب الهدم وبنو النضير خربوا وما أخربوا قال المبرد ولا أعلم لهذا وجهاً ويخربون هو الأصل خرب المنزل فإنما هو تكثير لأنه ذكر بيوتاً تصلح للقليل والكثير وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في الكلام فيجري كل واحد مجرى الآخر نحو فرحته وأفرحته وحسنه الله وأحسنه وقال الأعمش وأخربت من أرض قوم دياراً
وقال الفراء يُخْرِبُونَ بالتشديد يهدمون وبالتخفيف يخربون منها ويتركونها
المسألة الثانية ذكر المفسرون في بيان أنهم كيف كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وجوهاً أحدها أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا مساكنهم ومنازلهم فجعلوا يخربونها من داخل والمسلمون من خارج وثانيها قال مقاتل إن المنافقين دسوا إليهم أن لا يخرجوا ودربوا على الأزقة وحصنوها فنقضوا بيوتهم وجعلوها كالحصون على أبواب الأزقة وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب وثالثها أن المسلمين إذا ظهروا على درب من دروبهم خربوه وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم وينقبونها من أدبارها ورابعها أن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد واليهود لما أيقنوا بالجلاء وكانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها ويحملونها على الإبل فإن قيل ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين قلنا قال الزجاج لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم
قوله تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ
اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب ( المحصول من أصول الفقه ) على أن القياس حجة فلا نذكره(29/244)
ههنا إلا أنه لا بد ههنا من بيان الوجه الذي أمر الله فيه بالاعتبار وفيه احتمالات أحدها أنهم اعتمدوا على حصونهم وعلى قوتهم وشوكتهم فأباد الله شوكتهم وأزال قوتهم ثم قال فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ولا تعتمدوا على شيء غير الله فليس للزاهد أن يتعمد على زهده فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام وليس للعالم أن يعتمد على علمه أنظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار بل لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل الله ورحمته وثانيها قال القاضي المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الغدر والكفر والطعن في النبوة فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر والكفر في البلاء والجلاء والمؤمنين أيضاً يعتبرون به فيعدلون عن المعاصي
فإن قيل هذا الاعتبار إنما يصح لو قلنا إنهم غدروا وكفروا فعذبوا وكان السبب في ذلك العذاب هو الكفر والغدر إلا أن هذا القول فاسد طرداً وعكساً أما الطرد فلأنه رب شخص غدر وكفر وما عذب في الدنيا وأما العكس فلأن أمثال هذه المحن بل أشد منها وقعت للرسول عليه السلام ولأصحابه ولم يدل ذلك على سوء أديانهم وأفعالهم وإذا فسدت هذه العلة فقد بطل هذا الاعتبار وأيضاً فالحكم الثالث في الأصل هو أنهم يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ وإذا عللنا ذلك بالكفر والغدر يلزم في كل من غدر وكفر أن يخرب بيته بيده وبأيدي المسلمين ومعلوم أن هذا لا يصلح فعلمنا أن هذا الاعتبار غير صحيح والجواب أن الحكم الثابت في الأصل له ثلاث مراتب أولها كونه تخريباً للبيت بأيديهم وأيدي المؤمنين وثانيها وهو أعم من الأول كونه عذاباً في الدنيا وثالثها وهو أعم من الثاني كونه مطلق العذاب والغدر والكفر إنما يناسبان العذاب من حيث هو عذاب فأما خصوص كونه تخريباً أو قتلاً في الدنيا أو في الآخرة فذاك عديم الأثر فيرجع حاصل القياس إلى أن الذين غدروا وكفروا وكذبوا عذبوا من غير اعتبار أن ذلك العذاب كان في الدنيا أو في الآخرة والغدر والكفر يناسبان العذاب فعلمنا أن الكفر والغدر هما السببان في العذاب فأينما حصلا حصل العذاب من غير بيان أن ذلك العذاب في الدنيا أو في الآخرة ومتى قررنا القياس والاعتبار على هذا الوجه زالت المطاعن والنقوض وتم القياس على الوجه الصحيح
المسألة الثانية الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد وسمي المعبر معبراً لأن به تحصل المجاوزة وسمي العلم المخصوص بالتعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول وسميت الألفاظ عبارات لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ولهذا قال المفسرون الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها وفي قوله لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ وجهان الأول قال ابن عباس يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر والثاني قال الفراء لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ يا من عاين تلك الواقعة المذكورة(29/245)
وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابُ النَّارِ
معنى الجلاء في اللغة الخروج من الوطن والتحول عنه فإن قيل أن لَوْلاَ تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره فيلزم من ثبوت الجلاء عدم التعذيب في الدنيا لكن الجلاء نوع من أنواع التعذيب فإذاً يلزم من ثبوت الجلاء عدمه وهو محال قلنا معناه ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل كمافعل بإخوانهم بني قريظة وأما قوله وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابُ النَّارِ فهو كلام مبتدأ وغير معطوف على ما قبله إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم أن لا يوجد لما بينا أن ( لولا ) تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
أما قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فهو يقتضي أن علة ذلك التخريب هو مشاقة الله ورسوله فإن قيل لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب ومعلوم أنه ليس كذلك قلنا هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها
ثم قال وَمَن يُشَاقّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ والمقصود منه الزجر
مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَة ٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَة ً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِى َ الْفَاسِقِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى مّن لّينَة ٍ بيان لِ مَا قَطَعْتُمْ ومحل مَا نصب بقطعتم كأنه قال أي شيء قطعتم وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لأنه في معنى اللينة
المسألة الثانية قال أبو عبيدة اللينة النخلة ما لم تكن عجوة أو برنية وأصل لينة لونة فذهبت الواو لكسرة اللام وجمعها ألوان وهي النخل كله سوى البرني والعجوة وقال بعضهم اللينة النخلة الكريمة كأنهم اشتقوها من اللين وجمعها لين فإن قيل لم خصت اللينة بالقطع قلنا إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشد
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف قرىء ( قوماً على أصلها ) وفيه وجهان أحدهما أنه جمع أصل كرهن ورهن واكتفى فيه بالضمة عن الواو وقرىء ( قائماً على أصوله ) ذهاباً إلى لفظ ما وقوله فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي قطعها بإذن الله وبأمره وَلِيُخْزِى َ الْفَاسِقِينَ أي ولأجل إخزاء الفاسقين أي اليهود أذن الله في قطعها
المسألة الرابعة روي أنه عليه الصلاة والسلام حين أمر أن يقطع نخلهم ويحرق قالوا يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها وكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فنزلت هذه الآية والمعنى أن الله إنما أذن في ذلك حتى يزداد غيظ الكفار وتتضاعف حسرتهم بسبب نفاذ(29/246)
حكم أعدائهم في أعز أموالهم
المسألة الخامسة احتج العلماء بهذه الآية على أن حصون الكفرة وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وتغرق وترمى بالمجانيق وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة وعن ابن مسعود قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال
المسألة السادسة روي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون فسألهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال هذا تركتها لرسول الله وقال هذا قطعتها غيظاً للكفار فاستدلوا به على جواز الاجتهاد وعلى جوازه بحضرة الرسول
وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
قال المبرد يقال فاء يفيء إذا رجع وأفاءه الله إذا رده وقال الأزهري الفيء ما رده الله على أهل دينه من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال إما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين أو يصالحوا على جزية يؤدونها عن رؤوسهم أو مال غير الجزية يفتدون به من سفك دمائهم كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاءوا سوى السلاح ويتركوا الباقي فهذا المال هو الفيء وهو ما أفاء الله على المسلمين أي رده من الكفار إلى المسلمين وقوله مِنْهُمْ أي من يهود بني النضير قوله فَمَا أَوْجَفْتُمْ يقال وجف الفرس والبعير يجف وجفاً ووجيفاً وهو سرعة السير وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع وقوله عَلَيْهِ أي على ما أفاء الله وقوله مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ الركاب ما يركب من الإبل واحدتها راحلة ولا واحد لها من لفظها والعرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير ويسمون راكب الفرس فارساً ومعنى الآية أن الصحابة طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم فذكر الله الفرق بين الأمرين وهو أن الغنيمة ما أتعبتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم عليها الخيل والركاب بخلاف الفيء فإنكم ما تحملتم في تحصيله تعباً فكان الأمر فيه مفوضاً إلى الرسول يضعه حيث يشاء
ثم ههنا سؤال وهو أن أموال بني النضير أخذت بعد القتال لأنهم حوصروا أياماً وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء فوجب أن تكون تلك الأموال من جملة الغنيمة لا من جملة الفيء ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون ههنا وجهين الأول أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير لأنهم أوجفوا عليهم بالخيل والركاب وحاصرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون بل هو في فدك وذلك لأن أهل فدك انجلوا عنه فصارت تلك القرى والأموال في يد الرسول عليه السلام من غير حرب فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ من غلة فدك نفقته ونفقة من يعوله ويجعل الباقي في السلاح والكراع فلما مات ادعت فاطمة عليها السلام أنه كان ينحلها فدكا فقال أبو بكر أنت أعز الناس علي فقراً وأحبهم إلي غنى لكني لا أعرف صحة قولك ولا يجوز أن أحكم بذلك فشهد لها أم أيمن ومولى للرسول عليه السلام فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع فلم يكن فأجرى أبو بكر ذلك على ما كان يجريه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ينفق منه على من كان ينفق عليه الرسول ويجعل ما يبقى في السلاح والكراع وكذلك عمر جعله في يد علي ليجريه على هذا المجرى ورد ذلك في آخر عهد عمر إلى عمر وقال إن بنا غنى وبالمسلمين حاجة إليه وكان عثمان(29/247)
رضي الله عنه يجريه كذلك ثم صار إلى علي فكان يجريه هذا المجرى فالأئمة الأربعة اتفقوا على ذلك والقول الثاني أن هذه الآية نزلت في بني النضير وقراهم وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة وإنما كانوا على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشياً ولم يركب إلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان راكب جمل فلما كانت المقاتلة قليلة والخيل والركب غير حاصل أجراه الله تعالى مجرى مالم يحصل فيه المقاتلة أصلاً فخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتلك الأموال ثم روى أنه قسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة ثم إنه تعالى ذكر حكم الفيء فقال
مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَة ً بَيْنَ الاٌّ غْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
قال صاحب الكشاف لم يدخل العاطف على هذه الجملة لأنها بيان للأولى فهي منها وغير أجنبية عنها واعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله وَلِذِى الْقُرْبَى بنو هاشم وبنو المطلب قال الواحدي كان الفيء في زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مقسوماً على خمسة أسهم أربعة منها لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة وكان الخمس الباقي يقسم على خمسة أسهم سهم منها لرسول الله أيضاً والأسهم الأربعة لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فللشافعي فيما كان من الفيء لرسول الله قولان أحدهما أنه للمجاهدين المرصدين للقتال في الثغور لأنهم قاموا مقام رسول الله في رباط الثغور والقول الثاني أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر يبدأ بالأهم فالأهم هذا في الأربعة أخماس التي كانت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف وقوله تعالى كَى لاَ يَكُونَ دُولَة ً بَيْنَ الاْغْنِيَاء مِنكُمْ فيه مسائل
المسألة الأولى قال المبرد الدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم يكون كذا مرة وكذا مرة والدولة بالفتح انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم فالدولة بالضم اسم ما يتداول وبالفتح مصدر من هذا ويستعمل في الحالة السارة التي تحدث للإنسان فيقال هذه دولة فلان أي تداوله فالدولة اسم لما يتداول من المال والدولة اسم لما ينتقل من الحال ومعنى الآية كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها واقعاً في يد الأغنياء ودولة لهم
المسألة الثانية قرىء ( دولة ) و ( دولة ) بفتح الدال وضمها وقرأ أبو جعفر ( دولة ) مرفوعة الدال والهاء قال أبو الفتح يَكُونَ ههنا هي التامة كقوله وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ ( البقرة 280 ) يعني كي لا يقع دولة جاهلية ثم قال وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ يعني ما أعطاكم الرسول من الفيء(29/248)
فخذوه فهو لكم حلال وما نهاكم عن أخذه فانتهوا وَاتَّقُواْ اللَّهَ في أمر الفيء أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ على ما نهاكم عنه الرسول والأجود أن تكون هذه الآية عامة في كل ما آتى رسول الله ونهى عنه وأمر الفيء داخل في عمومه
لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
اعلم أن هذا بدل من قوله وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( الحشر 7 ) كأنه قيل أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين الذين من صفتهم كذا وكذا ثم إنه تعالى وصفهم بأمور أولها أنهم فقراء وثانيها أنهم مهاجرون وثالثها أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم يعني أن كفار مكة أحوجوهم إلى الخروج فهم الذين أخرجوهم ورابعها أنهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً والمراد بالفضل ثواب الجنة وبالرضوان قوله وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( التوبة 72 ) وخامسها قوله وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي بأنفسهم وأموالهم وسادسها قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ يعني أنهم لما هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين ظهر صدقهم في دينهم وتمسك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه فقال هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لأبي بكر يا خليفة رسول الله والله يشهد على كونهم صادقين فوجب أن يكونوا صادقين في قولهم يا خليفة رسول الله ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته
ثم إنه تعالى ذكر الأنصار وأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفيء إذ للمهاجرين دونهم فقال
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَة ً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
والمراد من الدار المدينة وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين وتقدير الآية والذين تبوءوا المدينة والإيمان من قبلهم فإن قيل في الآية سؤالان أحدهما أنه لا يقال تبوأ الإيمان والثاني بتقدير أن يقال ذلك لكن الأنصار ما تبوءوا الإيمان قبل المهاجرين والجواب عن الأول من وجوه أحدها تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله ولقد رأيتك في الوغى
متقلداً سيفاً ورمحاً(29/249)
وثانيها جعلوا الإيمان مستقراً ووطناً لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه كما أنهم لما سألوا سلمان عن نسبه فقال أنا ابن الإسلام وثالثها أنه سمى المدينة بالإيمان لأن فيها ظهر الإيمان وقوي والجواب عن السؤال الثاني من وجهين الأول أن الكلام على التقديم والتأخير والتقدير والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان والثاني أنه على تقدير حذف المضاف والتقدير تبوءوا الدار والإيمان من قبل هجرتهم ثم قال وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَة ً مّمَّا أُوتُواْ وقال الحسن أي حسداً وحرارة وغيظاً مما أوتي المهاجرون من دونهم وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحرارة لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللام على الملزوم على سبيل الكناية ثم قال وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ يقال آثره بكذا إذا خصه به ومفعول الإيثار محذوف والتقدير ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للأنصار ( إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم وإن شئتم كان لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم فقالوا لا بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة ) فأنزل الله تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ فبين أن هذا الإيثار ليس غنى عن المال ولكنه عن حاجة وخصاصة وهي الفقر وأصلها من الخصاص وهي الفرج وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص الواحد خصاصة وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات ثم قال وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الشح بالضم والكسر وقد قرىء بهما
واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الظافرون بما أرادوا قال ابن زيد من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه فقد وقى شح نفسه
وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن قوله وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ عطف أيضاً على المهاجرين وهم الذين هاجروا من بعد وقيل التابعون بإحسان وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة وذكر تعالى أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان وهو قوله يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ أي غشاً وحسداً وبغضاً
واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون أ الأنصار أو الذين جاءوا من(29/250)
بعدهم وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجاً من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
قال المقاتلان يعني عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل ورفاعة بن زيد كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا يقولون لإخوانهم وهذه الأخوة تحتمل وجوهاً أحدها الأخوة في الكفر لأن اليهود والمنافقين كانوا مشتركين في عموم الكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة وثالثها الأخوة بسبب ما بينهما من المشاركة في عداوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قالوا لليهود لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أي في خذلانكم أَحَداً أَبَداً ووعدوهم النصر أيضاً بقولهم وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ثم إنه تعالى شهد على كونهم كاذبين في هذا القول فقال وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
ولما شهد على كذبهم على سبيل الإجمال أتبعه بالتفصيل فقال
لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
واعلم أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فعلم الموجودات في الأزمنة الثلاثة والمعدومات في الأزمنة الثلاثة وعلم في كل واحد من هذه الوجوه الستة أنه لو كان على خلاف ما وقع كيف كان يكون على ذلك التقدير فههنا أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم وقد كان الأمر كذلك لأن بني النضير لما أخرجوا لم يخرج معهم المنافقين وقوتلوا أيضاً فما نصروهم فأما قوله تعالى وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ فتقديره كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير لا نسلم أن الأمر كما تقول ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول لكنه لا يفيد لك فائدة فكذا ههنا ذكر تعالى أنهم لا ينصرونهم وبتقدير أن ينصروا إلا أنهم لا بد وأن يتركوا تلك النصرة وينهزموا ويتركوا أولئك المنصورين(29/251)
في أيدي الأعداء ونظير هذه الآية قوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فأما قوله ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ففيه وجهان الأول أنه راجع إلى المنافقين يعني لينهز من المنافقون ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ بعد ذلك أي يهلكهم الله ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم والثاني لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين
ثم ذكر تعالى أن خوف المنافقين من المؤمنين أشد من خوفهم من الله تعالى فقال
لاّنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَة ً فِى صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
أي لا يعلمون عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته
لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَة ٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
ثم قال تعالى لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَة ٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ يريد أن هؤلاء اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين إلا إذا كانوا في قرى محصنة بالخنادق والدروب أو من وراء جدر وذلك بسبب أن الله ألقى في قلوبهم الرعب وأن تأييد الله ونصرته معكم وقرىء جُدُرٍ بالتخفيف وجدار وجدر وجدر وهما الجدار
ثم قال تعالى بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ وفيه ثلاثة أوجه أحدها يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما يكون إذا كان بعضهم مع بعض فأما إذا قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة لأن الشجاع يجبن والعز يذل عند محاربة الله ورسوله وثانيها قال مجاهد المعنى أنهم إذا اجتمعوا يقولون لنفعلن كذا وكذا فهم يهددون المؤمنين ببأس شديد من وراء الحيطان والحصون ثم يحترزون عن الخروج للقتال فبأسهم فيما بينهم شديد لا فيما بينهم وبين المؤمنين وثالثها قال ابن عباس معناه بعضهم عدو للبعض والدليل على صحة هذا التأويل قوله تعالى تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى يعني تحسبهم في صورتهم مجتمعين على الألفة والمحبة أما قلوبهم فشتى لأن كل أحد منهم على مذهب آخر وبينهم عداوة شديدة وهذا تشجيع للمؤمنين على قتالهم وقوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ فيه وجهان الأول أن ذلك بسبب أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظ لهم والثاني لا يعقلون أن تشيت القلوب مما يوهن قواهم
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
أي مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب فإن قيل بم انتصب قَرِيبًا قلنا بمثل والتقدير كوجود مثل أهل بدر قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ أي سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله من قولهم كلأ وبيل أي وخيم سيىء العاقبة يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابُ أَلِيمٌ(29/252)
ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً فقال
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّنكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
أي مثل المنافقين الذين غروا بني النضير بقولهم لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ( الحشر 11 ) ثم خذلوهم وما وفوا بعهدهم كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ ثم تبرأ منه في العاقبة والمراد إما عموم دعوة الشيطان إلى الكفر وإما إغواء الشيطان قريشاً يوم بدر بقوله لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ إِلَى قَوْلُهُ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ ( الأنفال 48 ) ثم قال
( 17 )
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال مقاتل فكان عاقبة المنافقين واليهود مثل عاقبة الشيطان والإنسان حيث صارا إلى النار
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف قرأ ابن مسعود ( خالدان فيها ) على أنه خبران و ( في النار ) لغو وعلى القراءة المشهورة الخبر هو الظرف وَأَنزَلْنَا فِيهَا حال وقرىء عَاقِبَتَهُمَا بالرفع ثم قال وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ أي المشركين لقوله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 )
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
ثم إنه تعالى رجع إلى موعظة المؤمنين فقال الظَّالِمِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ الغد يوم القيامة سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له ثم ذكر النفس والغد على سبيل التنكير أما الفائدة في تنكير النفس فاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره كأنه قيل الغد لا يعرف كنهه لعظمه
ثم قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ كرر الأمر بالتقوى تأكيداً أو يحمل الأول على أداء الواجبات والثاني على ترك المعاصي
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
ثم قال تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ وفيه وجهان الأول قال المقاتلان نسوا حق الله فجعلهم ناسين حق أنفسهم حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده الثاني فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أي أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم كقوله لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ ( إبراهيم 43 ) وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 )
ثم قال أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ والمقصود منه الذم واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة بقوله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ( الحشر 18 ) وهدد الكافرين بقوله كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ بين الفرق بين الفريقين فقال(29/253)
لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمُ الْفَآئِزُونَ
واعلم أن التفاوت بين هذين الفريقين معلوم بالضرورة فذكر هذا الفرق في مثل هذا الموضع يكون الغرض منه التنبيه على عظم ذلك الفرق وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعتزلة احتجوا على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان فلو دخل صاحب الكبيرة في الجنة لكان أصحاب النار وأصحاب الجنة يستويان وهو غير جائز وجوابه معلوم
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي وقد بينا وجهه في الخلافيات
لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاٌّ مْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
ثم إنه تعالى لما شرح هذه البيانات عظم أمر القرآن فقال
لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ والمعنى أنه لو جعل في الجبل عقل كما جعل فيكم ثم أنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية الله
ثم قال وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي الغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم ونظير قوله ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً ( البقرة 74 ) واعلم أنه لما وصف القرآن بالعظم ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف أتبع ذلك بشرح عظمة الله فقال
هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
وقيل السر والعلانية وقيل الدنيا والآخرة
اعلم أنه تعالى قدم الغيب على الشهادة في اللفظ وفيه سر عقلي أما المفسرون فذكروا أقوالاً في الغيب والشهادة فقيل الغيب المعدوم والشهادة الموجود ما غاب عن العباد وما شاهدوه
هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
ثم قال هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ وكل ذلك قد تقدم تفسيره
ثم قال الْقُدُّوسُ قرىء بالضم والفتح وهو البليغ في النزاهة في الذات والصافات والأفعال والأحكام والأسماء وقد شرحناه في أول سورة الحديد ومضى شيء منه في تفسير قوله وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) وقال الحسن إنه الذي كثرت بركاته(29/254)
وقوله السَّلَامُ فيه وجهان الأول أنه بمعنى السلامة ومنه دار السلام وسلام عليكم وصف به مبالغة في كونه سليماً من النقائص كما يقال رجاء وغياث وعدل فإن قيل فعلى هذا التفسير لايبقى بين القدوس وبين السلام فرق والتكرار خلاف الأصل قلنا كونه قدوساً إشارة إلى براءته عن جميع العيوب في الماضي والحاضر كونه سليماً إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب في الزمان المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من العيوب فإنه تزول سلامته ولا يبقى سليماً الثاني أنه سلام بمعنى كونه موجباً للسلامة
وقوله الْمُؤْمِنُ فيه وجهان الأول أنه الذي آمن أولياءه عذابه يقال آمنه يؤمنه فهو مؤمن والثاني أنه المصدق إما على معنى أنه يصدق أنبياءه بإظهار المعجزة لهم أو لأجل أن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يشهدون لسائر الأنبياء كما قال لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 ) ثم إن الله يصدقهم في تلك الشهادة وقرىء بفتح الميم يعني المؤمن به على حذف الجار كما حذف في قوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( الأعراف 155 )
وقوله الْمُهَيْمِنُ قالوا معناه الشاهد الذي لا يغيب عنه شيء ثم في أصله قولان قال الخليل وأبو عبيدة هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيب على الشيء وقال آخرون مهيمن أصله مؤيمن من آمن يؤمن فيكون بمعنى المؤمن وقد تقدم استقصاؤه عند قوله وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ( المائدة 48 ) وقال ابن الأنباري المهيمن القائم على خلقه برزقه وأنشد ألا إن خير الناس بعد نبيه
مهيمنه التاليه في العرف والنكر
قال معناه القائم على الناس بعده
وما الْعَزِيزُ فهو إما الذي لا يوجد له نظير وإما الغالب القاهر
وأما الْجَبَّارُ ففيه وجوه أحدها أنه فعال من جبر إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير قال الأزهري وهو لعمري جابر كل كسير وفقير وهو جابر دينه الذي ارتضاه قال العجاج قد جبر الدين الإله فجبر
والثاني أن يكون الجبار من جبره على كذا إذا أكرهه على ما أراده قال السدي إنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراده قال الأزهري هي لغة تميم وكثير من الحجازيين يقولونها وكان الشافعي يقول جبره السلطان على كذا بغير ألف وجعل الفراء الجبار بهذا معنى من أجبره وهي اللغة المعروفة في الإكراه فقال لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين وهما جبار من أجبر ودراك من أدرك وعلى هذا القول الجبار هو القهار الثالث قال ابن الأنباري الجبار في صفة الله الذي لا ينال ومنه قيل للنخلة التي فاتت يد المتناول جبارة الرابع قال ابن عباس الجبار هو الملك العظيم قال الواحدي هذا الذي ذكرناه من معاني الجبار في صفة الله وللجبار معان في صفة الخلق أحدها المسلط كقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( ق 45 ) والثاني العظيم الجسم كقوله إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ( المائدة 22 ) والثالث المتمرد عن عبادة الله كقوله وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً مريم 32 ) والرابع القتال كقوله بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ( الشعراء 130 ) وقوله إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ ( القصص 19 )(29/255)
أما قوله الْمُتَكَبّرُ ففيه وجوه أحدها قال ابن عباس الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وثانيها قال قتادة المتعظم عن كل سوء وثالثها قال الزجاج الذي تعظم عن ظلم العباد ورابعها قال ابن الأنباري المتكبرة ذو الكبرياء والكبرياء عند العرب الملك ومنه قوله تعالى وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِى الاْرْضِ ( يونس ) 78 ) واعلم أن المتكبر في حق الخلق اسم ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حق الخلق لأنه ليس له كبر ولا علو بل ليس معه إلا الحقارة والذلة والمسكنة فإذا أظهر العلو كان كاذباً فكان ذلك مذموماً في حقه أما الحق سبحانه فله جميع أنواع العلو والكبرياء فإذا أظهره فقد أرشد العباد إلى تعريف جلاله وعلوه فكان ذلك في غاية المدح في حقه سبحانه ولهذا السبب لما ذكر هذا الإسم
قال سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ كأنه قيل إن المخلوقين قد يتكبرون ويدعون مشاركة الله في هذا الوصف لكنه سبحانه منزه عن التكبر الذي هو حاصل للخلق لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم فادعاؤهم الكبر يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي أما الحق سبحانه فله العلو والعزة فإذا أظهره كان ذلك ضم كمال إلى كمال فسبحان الله عما يشركون في إثبات صفة المتكبرية للخلق
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِى ءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاٌّ سْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
ثم قال هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ والخلق هو التقدير معناه أنه يقدر أفعاله على وجوه مخصوصة فالخالقية راجعة إلى صفة الإرادة
ثم قال الْبَارِىء وهو بمنزلة قولنا صانع وموجد إلا أنه يفيد اختراع الأجسام ولذلك يقال في الخلق برية ولا يقال في الأعراض التي هي كاللون والطعم
وأما الْمُصَوّرُ فمعناه أنه يخلق صور الخلق على ما يريد وقدم ذكر الخالق على البارىء لأن ترجيح الإرادة مقدم على تأثير القدرة وقدم البارىء على المصور لأن إيجاد الذوات مقدم على إيجاد الصفات
ثم قال تعالى لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى وقد فسرناه في قوله وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 )
أما قوله يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فقد مر تفسيره في أول سورة الحديد والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً(29/256)
سورة الممتحنة
وهي ثلاث عشرة آية مدنية
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ
الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن من جملة ما يتحقق به التعلق بما قبلها هو أنهما يشتركان في بيان حال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع الحاضرين في زمانه من اليهود والنصارى وغيرهم فإن بعضهم أقدموا على الصلح واعترفوا بصدقه ومن جملتهم بنو النضير فإنهم قالوا والله إنه النبي الذي وجدنا نعته وصفته في التوراة وبعضهم أنكروا ذلك وأقدموا على القتال إما على التصريح وإما على الإخفاء فإنهم مع أهل الإسلام في الظاهر ومع أهل الكفر في الباطن وأما تعلق الأول بالآخر فظاهر لما أن آخر تلك السورة يشتمل على الصفات الحميدة لحضرة الله تعالى من الوحدانية وغيرها وأول هذه السورة مشتمل على حرمة الاختلاط مع من لم يعترف بتلك الصفات
المسألة الثانية أما سبب النزول فقد روي أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى أهل مكة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتجهز للفتح ويريد أن يغزوكم فخذوا حذركم ثم أرسل ذلك الكتاب مع امرأة مولاة لبني هاشم يقال لها سارة جاءت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة إلى المدينة فقال عليه السلام أمسلمة جئت قالت لا قال أمهاجرة جئت قالت لا قال فما جاء بك قالت قد ذهب الموالي يوم بدر أي قتلوا في ذلك اليوم فاحتجت حاجة شديدة فحث عليها بني المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً واستحملها ذلك الكتاب إلى أهل مكة فخرجت سائرة فأطلع الله الرسول عليه السلام على ذلك فبعث علياً وعمر وعماراً وطلحة والزبير خلفها وهم فرسان فأدركوها وسألوها عن ذلك فأنكرت وحلفت فقال علي عليه السلام والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله وسل سيفه فأخرجته من عقاص شعرها فجاءوا بالكتاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعرضه على حاطب فاعترف وقال إن لي بمكة أهلاً ومالاً فأردت أن أتقرب منهم وقد علمت أن الله تعالى ينزل بأسه عليهم فصدقه وقبل عذره فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ما يدريك يا عمر لعل الله تعالى قد اطلع على أهل بدر(29/257)
فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم فنزلت وأما تفسير الآية فالخطاب في ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ قد مر وكذلك في الإيمان أنه في نفسه شيء واحد وهو التصديق بالقلب أو أشياء كثيرة وهي الطاعات كما ذهب إليه المعتزلة وأما قوله تعالى لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ فاتخذ يتعدى إلى مفعولين وهما عدوي وأولياء والعدو فعول من عدا كعفو من عفا ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد والعداوة ضد الصداقة وهما لا يجتمعان في محل واحد في زمان واحد من جهة واحدة لكنهما يرتفعان في مادة الإمكان وعن الزجاج والكرابيسي عَدُوّى أي عدو ديني وقال عليه السلام ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) وقال عليه السلام لأبي ذر ( يا أبا ذر أي عرا الإيمان أوثق فقال الله ورسوله أعلم فقال الموالاة في الله والحب في الله والبغض في الله ) وقوله تعالى تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ فيه مسألتان
المسألة الأولى قوله تُلْقُونَ بماذا يتعلق نقول فيه وجوه الأول قال صاحب النظم هو وصف النكرة التي هي أولياء قاله الفراء والثاني قال في الكشاف يجوز أن يتعلق بلا تتخذوا حالاً من ضميره وأولياء صفة له الثالث قال ويجوز أن يكون استئنافاً فلا يكون صلة لأولياء والباء في المودة كهي في قوله تعالى وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ( الحج 25 ) والمعنى تلقون إليهم أخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسره بالمودة التي بينكم وبينهم ويدل عليه تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ
المسألة الثانية في الآية مباحث الأول اتخاذ العدو ولياً كيف يمكن وقد كانت العداوة منافية للمحبة والمودة والمحبة المودة من لوازم ذلك الاتخاذ نقول لا يبعد أن تكون العداوة بالنسبة إلى أمر والمحبة والمودة بالنسبة إلى أمر آخر ألا ترى إلى قوله تعالى إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ ( التغابن 14 ) والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أولادنا أكبادنا ) الثاني لما قال عَدُوّى فلم لم يكتف به حتى قال وَعَدُوَّكُمْ لأن عدو الله إنما هو عدو المؤمنين نقول الأمر لازم من هذا التلازم وإنما لا يلزم من كونه عدواً للمؤمنين أن يكون عدواً لله كما قال إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ الثالث لم قال عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ ولم يقل بالعكس فنقول العداوة بين المؤمن والكافر بسبب محبة الله تعالى ومحبة رسوله فتكون محبة العبد من أهل الإيمان لحضرة الله تعالى لعلة ومحبة حضرة الله تعالى للعبد لا لعلة لما أنه غني على الإطلاق فلا حاجة به إلى الغير أصلاً والذي لا لعلة مقدم على الذي لعلة ولأن الشيء إذا كان له نسبة إلى الطرفين فالطرف الأعلى مقدم على الطرف الأدنى الرابع قال أَوْلِيَاء ولم يقل ولياً والعدو والولي بلفظ فنقول كما أن المعرف بحرف التعريف يتناول كل فرد فكذلك المعرف بالإضافة الخامس منهم من قال الباء زائدة وقد مر أن الزيادة في القرآن لا تمكن والباء مشتملة على الفائدة فلا تكون زائدة في الحقيقة(29/258)
ثم قال تعالى وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى
وَقَدْ كَفَرُواْ الواو للحال أي وحالهم أنهم كفروا بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الدين الْحَقّ وقيل من القرآن يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ يعني من مكة إلى المدينة أَن تُؤْمِنُواْ أي لأن تؤمنوا بِاللَّهِ رَبّكُمْ وقوله إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ قال الزجاج هو شرط جوابه متقدم وهو لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وقوله جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاء مَرْضَاتِى منصوبان لأنهما مفعولان لهما تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة ِ عن مقاتل بالنصيحة ثم ذكر أنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء فقال وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ من المودة للكفار وَمَا أَعْلَنتُمْ أي أظهرتم ولا يبعد أن يكون هذا عاماً في كل ما يخفى ويعلن قال بعضهم هو أعلم بسرائر العبد وخفاياه وظاهره وباطنه من أفعاله وأحواله وقوله وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ يجوز أن تكون الكناية راجعة إلى الإسرار وإلى الإلقاء وإلى اتخاذ الكفار أولياء لما أن هذه الأفعال مذكورة من قبل وقوله تعالى فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ فيه وجهان الأول عن ابن عباس أنه عدل عن قصد الإيمان في اعتقاده وعن مقاتل قد أخطأ قصد الطريق عن الهدى ثم في الآية مباحث
الأول إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ متعلق بلا تتخذوا يعني لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي وتسرون استئناف معناه أي طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي
الثاني لقائل أن يقول رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ الآية قضية شرطية ولو كان كذلك فلا يمكن وجود الشرط وهو قوله إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ بدون ذلك النهي ومن المعلوم أنه يمكن فنقول هذا المجموع شرط لمقتضى ذلك النهي لا للنهي بصريح اللفظ ولا يمكن وجود المجموع بدون ذلك لأن ذلك موجود دائماً فالفائدة في ابتغاء مرضاتي ظاهرة إذ الخروج قد يكون ابتغاء لمرضاة الله وقد لا يكون
الثالث قال تعالى بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ولم يقل بما أسررتم وما أعلنتم مع أنه أليق بما سبق وهو تُسِرُّونَ فنقول فيه من المبالغة ما ليس في ذلك فإن الإخفاء أبلغ من الإسرار دل عليه قوله يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى ( طه 7 ) أي أخفى من السر
الرابع قال بِمَا أَخْفَيْتُمْ قدم العلم بالإخفاء على الإعلان مع أن ذلك مستلزم لهذا من غير عكس هذا بالنسبة إلى علمنا لا بالنسبة إلى علمه تعالى إذ هما سيان في علمه كما مر ولأن المقصود هو بيان ما هو الأخفى وهو الكفر فيكون مقدماً
الخامس قال تعالى وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ ما الفائدة في قوله مّنكُمْ ومن المعلوم أن من فعل هذا الفعل فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ نقول إذا كان المراد من مّنكُمْ من المؤمنين فظاهر لأن من يفعل ذلك الفعل لا يلزم أن يكون مؤمناً(29/259)
ثم إنه أخبر المؤمنين بعداوة كفار أهل مكة فقال
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّو ءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم ويتمكنوا منكم يَكُونُواْ لَكُمْ في غاية العداوة وهو قول ابن عباس وقال مقاتل يظهروا عليكم يصادقوكم وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالضرب وَأَلْسِنَتَهُمْ بالشتم وَوَدُّواْ أن ترجعوا إلى دينهم والمعنى أن أعداء الله لا يخلصون المودة لأولياء الله لما بينهم من المباينة لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ لما عوتب حاطب على ما فعل اعتذر بأن له أرحاماً وهي القرابات والأولاد فيما بينهم وليس له هناك من يمنع عشيرته فأراد أن يتخذ عندهم يداً ليحسنوا إلى من خلفهم بمكة من عشيرته فقال لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم مخافة عليهم ثم قال يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وبين أقاربكم وأولادكم فيدخل أهل الإيمان الجنة وأهل الكفر النار وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي بما عمل حاطب ثم في الآية مباحث
الأول ما قاله صاحب الكشاف إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء كيف يورد جواب الشرط مضارعاً مثله ثم قال وَوَدُّواْ بلفظ الماضي نقول الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب فإن فيه نكتة كأنه قيل وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم
الثاني يَوْمُ الْقِيَامَة ِ ظرف لاي شيء قلنا لقوله لَن تَنفَعَكُمْ أو يكون ظرفاً ليفصل وقرأ ابن كثير يُفَصّلُ بضم الياء وفتح الصاد و يُفَصّلُ على البناء للفاعل وهو الله و ( نفصل ) و ( نفصل ) بالنون
الثالث قال تعالى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ولم يقل خبير مع أنه أبلغ في العلم بالشيء والجواب أن الخبير أبلغ في العلم والبصير أظهر منه فيه لما أنه يجعل عملهم كالمحسوس بحس البصر والله أعلم
ثم قال تعالى
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة ُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لاًّبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
اعلم أن الأسوة ما يؤتسى به مثل القدوة لما يقتدى به يقال هو أسوتك أي أنت مثله وهو مثلك وجمع الأسوة أسى فالأسوة اسم لكل ما يقتدى به قال المفسرون أخبر الله تعالى أن إبراهيم وأصحابه تبرءوا من قومهم وعادوهم وقالوا لهم أَنَاْ بَرَاء مّنكُمْ وأمر أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأنسوا بهم وبقوله قال الفراء يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم في التبرئة من أهله في قوله تعالى إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنكُمْ وقوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وهو مشرك وقال مجاهد نهوا أن يتأسوا باستغفار(29/260)
إبراهيم لأبيه فيستغفرون للمشركين وقال مجاهد وقتادة ائتسوا بأمر إبراهيم كله إلا في استغفاره لأبيه وقيل تبرءوا من كفار قومكم فإن لكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه من المؤمنين في البراءة من قومهم لا في الاستغفار لأبيه وقال ابن قتيبة يريد أن إبراهيم عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وقال ابن الأنباري ليس الأمر على ما ذكره بل المعنى قد كانت لكم أسوة في كل شيء فعله إلا في قوله لأبيه لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وقوله تعالى وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَى ْء هذا من قول إبراهيم لأبيه يقول له ما أغنى عنك شيئاً ولا أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به فوعده الاستغفار رجاء الإسلام وقال ابن عباس كان من دعاء إبراهيم وأصحابه رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا الآية أي في جميع أمورنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا رجعنا بالتوبة عن المعصية إليك إذ المصير ليس إلا إلى حضرتك وفي الآية مباحث
الأول لقائل أن يقول حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ما الفائدة في قوله وَحْدَهُ والإيمان به وبغيره من اللوازم كما قال تعالى كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ( البقرة 285 ) فنقول الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر من لوازم الإيمان بالله وحده إذ المراد من قوله وَحْدَهُ هو وحده في الألوهية ولا نشك في أن الإيمان بألوهية غيره لا يكون إيماناً بالله إذ هو الإشراك في الحقيقة والمشرك لا يكون مؤمناً
الثاني قوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ استثناء من أي شيء هو نقول من قوله أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ لما أنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذوه سنة يستنون بها
الثالث إن كان قوله لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مستثنى من القول الذي سبق وهو أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فما بال قوله وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَى ْء وهو غير حقيق بالاستثناء ألا ترى إلى قوله تعالى قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ اللَّهِ شَيْئاً ( الفتح 11 ) نقول أراد الله تعالى استثناء جملة قوله لأبيه والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده مبني عليه وتابع له كأنه قال أنا استغفر لك وما وسعي إلا الاستغفار
الرابع إذا قيل بم اتصل قوله رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا نقول بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة ويجوز أن يكون المعنى هو الأمر بهذا القول تعليماً للمؤمنين وتتميماً لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفرة والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم تنبيهاً على الإنابة إلى حضرة الله تعالى والاستعاذة به
الخامس إذا قيل ما الفائدة في هذا الترتيب فنقول فيه من الفوائد مالا يحيط به إلا هو والظاهر من تلك الجملة أن يقال التوكل لأجل الإفادة وإفادة التوكل مفتقرة إلى التقوى قال تعالى وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ( الطلاق 2 ) والتقوى الإنابة إذ التقوى الاحتراز عما لا ينبغي من الأمور والإشارة إلى أن المرجع والمصير للخلائق حضرته المقدسة ليس إلا فكأنه ذكر الشيء وذكر عقيبه ما يكون من اللوازم لإفادة ذلك كما ينبغي والقراءة في بَرَاء على أربعة أوجه برآء كشركاء وبراء كظراف وبراء على إبدال الضم من الكسر كرخال وبراء على الوصف بالمصدر والبراء والبراءة مثل الطماء والطماءة(29/261)
ثم قال تعالى
رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاٌّ خِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّة ً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قوله رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً من دعاء إبراهيم قال ابن عباس لا تسلط علينا أعداءنا فيظنوا أنهم على الحق وقال مجاهد لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك وقيل لا تبسط عليهم الرزق دوننا فإن ذلك فتنة لهم وقيل قوله لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً أي عذاباً أي سبباً يعذب به الكفرة وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم وقوله تعالى وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا الآية من جملة ما مر فكأنه قيل لأصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ثم أعاد ذكر الأسوة تأكيداً للكلام فقال لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ أي في إبراهيم والذين معه وهذا هو الحث عن الائتساء بإبراهيم وقومه قال ابن عباس كانوا يبغضون من خالف الله ويحبون من أحب الله وقوله تعالى لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ بدل من قوله لَكُمْ وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة وَمَن يَتَوَلَّ أي يعرض عن الائتساء بهم ويميل إلى مودة الكفار فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِى ُّ عن مخالفة أعدائه الْحَمِيدِ إلى أوليائه أما قوله عَسَى اللَّهُ فقال مقاتل لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقاربهم والبراءة منهم فأنزل الله تعالى قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم أي من كفار مكة مَّوَدَّة َ وذلك بميلهم إلى الإسلام ومخالطتهم مع أهل الإسلام ومناكحتهم إياهم وقيل تزوج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أم حبيبة فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان واسترخت شكيمته في العداوة وكانت أم حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة فتنصر وراودها على النصرانية فأبت وصبرت على دينها ومات زوجها فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى النجاشي فخطبها عليه وساق عنه إليها أربعمائة دينار وبلغ ذلك أباها فقال ذلك الفحل لا يفدغ أنفه و عَسَى وعد من الله تعالى وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّة ً يريد نفراً من قريش آمنوا بعد فتح مكة منهم أبو سفيان بن حرب وأبو سفيان بن الحرث والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام والله تعالى قادر على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ بهم إذا تابوا وأسلموا ورجعوا إلى حضرة الله تعالى قال بعضهم لا تهجروا كل الهجر فإن الله مطلع على الخفيات والسرائر ويروى أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما
ومن المباحث في هذه الحكمة هو أن قوله تعالى رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً إذا كان تأويله لا تسلط علينا أعداءنا مثلاً فلم ترك هذا وأتى بذلك فنقول إذا كان ذلك بحيث يحتمل أن يكون عبارة عن هذا فإذا أتى به فكأنه أتى بهذا وذلك وفيه من الفوائد ما ليس في الاقتصار على واحد من تلك التأويلات
الثاني لقائل أن يقول ما الفائدة في قوله تعالى وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا وقد كان الكلام مرتباً إذا قيل لا تجعلنا فتنة للذين كفروا إنك أنت العزيز الحكيم فنقول إنهم طلبوا البراءة عن الفتنة والبراءة عن الفتنة لا(29/262)
يمكن وجودها بدون المغفرة إذ العاصي لو لم يكن مغفوراً كان مقهوراً بقهر العذاب وذلك فتنة إذ الفتنة عبارة عن كونه مقهوراً و الْحَمِيدِ قد يكون بمعنى الحامد وبمعنى المحمود فالمحمود أي يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم والحامد أي يحمد الخلق ويشكرهم حيث يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال
ثم إنه تعالى بعدما ذكر من ترك انقطاع المؤمنين بالكلية عن الكفار رخص في صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار فقال
لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
اختلفوا في المراد من الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فالأكثرون على أنهم أهل العهد الذين عاهدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ترك القتال والمظاهرة في العداوة وهم خزاعة كانوا عاهدوا الرسول على أن لا يقاتلوه ولا يخرجوه فأمر الرسول عليه السلام بالبر والوفاء إلى مدة أجلهم وهذا قول ابن عباس والمقاتلين والكلبي وقال مجاهد الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا وقيل هم النساء والصبيان وعن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في أسماء بنت أبي بكر قدمت أمها فتيلة عليها وهي مشركة بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول فأمرها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها وعن ابن عباس أنهم قوم من بني هاشم منهم العباس أخرجوا يوم بدر كرهاً وعن الحسن أن المسلمين استأمروا رسول الله في أقربائهم من المشركين أن يصلوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل الآية في المشركين وقال قتادة نسختها آية القتال وقوله أَن تَبَرُّوهُمْ بدل من الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وكذلك أَن تَوَلَّوْهُمْ بدل من الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء وهذا رحمة لهم لشدتهم في العداوة وقال أهل التأويل هذه الآية تدل على جواز البر بين المشركين والمسلمين وإن كانت الموالاة منقطعة وقوله تعالى وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ قال ابن عباس يريد بالصلة وغيرها إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يريد أهل البر والتواصل وقال مقاتل أن توفوا لهم بعهدهم وتعدلوا ثم ذكر من الذين ينهاهم عن صلتهم فقال إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدّينِ أَن تَوَلَّوْهُمْ وفيه لطيفة وهي أنه يؤكد قوله تعالى لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ(29/263)
بم ثن قال تعالى
في نظم هذه الآيات وجه حسن معقول وهو أن المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة إما أن يستمر عناده أو يرجى منه أن يترك العناد أو يترك العناد ويستسلم وقد بين الله تعالى في هذه الآيات أحوالهم وأمر المسلمين أن يعاملوهم في كل حالة على ما يقتضيه الحال
أما قوله تعالى قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنكُمْ ( الممتحنة 4 ) فهو إشارة إلى الحالة الأولى ثم قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّة ً ( الممتحنة 7 ) إشارة إلى الحالة الثانية ثم قوله الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ إشارة إلى الحالة الثالثة ثم فيه لطيفة وتنبيه وحث على مكارم الأخلاق لأنه تعالى ما أمر المؤمنين في مقابلة تلك الأحوال الثلاث بالجزاء إلا بالتي هي أحسن وبالكلام إلا بالذي هو أليق
واعلم أنه تعالى سماهن مؤمنات لصدور ما يقتضي الإيمان وهو كلمة الشهادة منهن ولم يظهر منهن ما هو المنافي له أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان والامتحان وهو الابتلاء بالحلف والحلف لأجل غلبة الظن بإيمانهن وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول للممتحنة ( بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج بالله ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض بالله ما خرجت التماس دنيا بالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله ) وقوله اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ منكم والله يتولى السرائر فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ العلم الذي هو عبارة عن الظن الغالب بالحلف وغيره فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي تردوهن إلى أزواجهن المشركين وقوله تعالى لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ أي أعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور وذلك أن الصلح عام الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة يرد إليهم ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم وكتبوا بذلك العهد كتاباً وختموه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبية فأقبل زوجها مسافر المخزومي وقيل صيفي بن الراهب فقال يا محمد أردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا شرطاً أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف فنزلت بياناً لأن الشرط إنما كان للرجال دون النساء وعن الزهري أنه قال إنها جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي عاتق فجاء أهلها يطلبون من رسول(29/264)
الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يرجعها إليهم وكانت هربت من زوجها عمرو بن العاس ومعها أخواها عمارة والوليد فرد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخويها وحبسها فقالوا أرددها علينا فقال عليه السلام ( كان الشرط في الرجال دون النساء ) وعن الضحاك أن العهد كان إن يأتك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا وإن دخلت في دينك ولها زوج ردت على زوجها الذي أنفق عليها وللنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الشرط مثل ذلك ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد واستحلفها الرسول عليه السلام فحلفت وأعطى زوجها ما أنفق ثم تزوجها عمر وقوله تعالى وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ وَلاَ أي مهورهن إذ المهر أجر البضع وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ والعصمة ما يعتصم به من عهد وغيره ولا عصمة بينكم وبينهن ولا علقة النكاح كذلك وعن ابن عباس أن اختلاف الدارين يقطع العصمة وقيل لا تقعدوا للكوافر وقرىء تُمْسِكُواْ بالتخفيف والتشديد و تُمْسِكُواْ أي ولا تتمسكوا وقوله تعالى ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ وهو إذا لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ولم يدفعوها إليكم فعليهم أن يغرموا صداقها كما يغرم لهم وهو قوله تعالى ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ أي بين المسلمين والكفار وفي الآية مباحث
الأول قوله فَامْتَحِنُوهُنَّ أمر بمعنى الوجوب أو بمعنى الندب أو بغير هذا وذلك قال الواحدي هو بمعنى الاستحباب
الثاني ما الفائدة في قوله اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ وذلك معلوم من غير شك نقول فائدته بيان أن لا سبيل إلى ما تطمئن به النفس من الإحاطة بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما استأثر به علام الغيوب
الثالث ما الفائدة في قوله وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ويمكن أن يكون في أحد الجانبين دون الآخر نقول هذا باعتبار الإيمان من جانبهن ومن جانبهم إذ الإيمان من الجانبين شرط للحل ولأن الذكر من الجانبين مؤكد لارتفاع الحل وفيه من الإفادة مالا يكون في غيره فإن قيل هب أنه كذلك لكن يكفي قوله فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لأنه لا يحل أحدهما للآخر فلا حاجة إلى الزيادة عليه والمقصود هذا لا غير نقول التلفظ بهذا اللفظ لا يفيد ارتفاع الحل من الجانبين بخلاف التلفظ بذلك اللفظ وهذا ظاهر
البحث الرابع كيف سمى الظن علماً في قوله فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ نقول إنه من باب أن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم وأن صاحبه غير داخل في قوله وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 )
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْألُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْألُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَى ْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
روى عن الزهري ومسروق أن من حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة(29/265)
إذا صارت إليهم ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة فأقر المسلمون بحكم الله وأبى المشركون فنزلت وَإِن فَاتَكُمْ شَى ْء مّنْ أَزْواجِكُمْ أي سبقكم وانفلت منكم قال الحسن ومقاتل نزلت في أم حكيم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها عباس بن تميم القرشي ولم ترتد امرأة من غير قريش غيرها ثم عادت إلى الإسلام وقوله تعالى فَعَاقَبْتُمْ أي فغنمتم على قول ابن عباس ومسروق ومقاتل وقال أبو عبيدة أصبتم منهم عقبى وقال المبرد فَعَاقَبْتُمْ أي فعلتم ما فعل بكل يعني ظفرتم وهو من قولك العقبى لفلان أي العاقبة وتأويل العاقبة الكرة الأخيرة ومعنى عاقبتم غزوتم معاقبين غزواً بعد غزو وقيل كانت العقبى لكم والغلبة فأعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا عليهن من المهر وهو قوله فَاتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ وقرىء ( فأعقبتم ) بالتشديد و ( فعقبتم ) بالتخفيف بفتح القاف وكسرها
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايع النساء بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعرفها فقال عليه الصلاة والسلام ( أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً فرفعت هند رأسها وقالت والله لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط فقال عليه الصلاة والسلام ولا تسرقن فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هناة فما أدري أتحل لي أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعرفها فقال لها وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال ولا تزنين فقالت أتزن الحرة وفي رواية مازنت منهن امرأة قط فقال ولا تقتلن أولادكن فقالت ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك رضي الله عنه حتى استلقى وتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ولا تأتين ببهتان تفترينه وهو أن تقذف على زوجها ما ليس منه فقالت هند والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال ولا تعصينني في معروف فقالت والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصينك في شيء ) وقوله وَلاَ يَسْرِقْنَ يتضمن النهي عن الخيانة في الأموال والنقصان من العبادة فإنه يقال أسرق من السارق من سرق من صلاته وَلاَ يَزْنِينَ يحتمل حقيقة الزنا ودواعيه أيضاً على ما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( اليدان تزنيان والعينان(29/266)
تزنيان والرجلان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) وقوله وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ أراد وأد البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية ثم هو عام في كل نوع من قتل الولد وغيره وقوله وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ نهى عن النميمة أي لا تنم إحداهن على صاحبها فيورث القطيعة ويحتمل أن يكون نهياً عن إلحاق الولد بأزواجهن قال ابن عباس لا تلحق بزوجها ولداً ليس منه قال الفراء كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن وذلك أن الولد إذا رضعته الأم سقط بين يديها ورجليها وليس المعنى نهيهن عن الزنا لأن النهي عن الزنا قد تقدم وقوله وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ أي كل أمر وافق طاعة الله وقيل في أمر بر وتقوى وقيل في كل أمر فيه رشد أي ولا يعصينك في جميع أمرك وقال ابن المسيب والكلبي وعبد الرحمن بن زيد وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ أي مما تأمرهن به وتنهاهن عنه كالنوح وتمزيق الثياب وجز الشعر ونتفه وشق الجيب وخمش الوجه ولا تحدث الرجال إلا إذا كان ذا رحم محرم ولا تخلو برجل غير محرم ولا تسافر إلا مع ذي رحم محرم ومنهم من خص هذا المعروف بالنوح وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستقاء بالنجوم والنياحة ) وقال ( النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة عليها سربال من قطران ودرع من جرب ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ) وقوله فَبَايِعْهُنَّ جواب إِذَا أي إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن واختلفوا في كيفية المبايعة فقالوا كان يبايعهن وبين يده وأيديهن ثوب وقيل كان يشترط عليهن البيعة وعمر يصافحهن قاله الكلبي وقيل بالكلام وقيل دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم غمسن أيديهن فيه وما مست يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يد امرأة قط وفي الآية مباحث
البحث الأول قال تعالى إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ ولم يقل فامتحنوهن كما قال في المهاجرات والجواب من وجهين أحدهما أن الامتحان حاصل بقوله تعالى عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ إلى آخره وثانيهما أن المهاجرات يأتين من دار الحرب فلا اطلاع لهن على الشرائع فلا بد من الامتحان وأما المؤمنات فهن في دار الإسلام وعلمن الشرائع فلا حاجة إلى الامتحان
الثاني ما الفائدة في قوله تعالى بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وما وجهه نقول من قال المرأة إذا التقطت ولداً فإنما التقطت بيدها ومشت إلى أخذه برجلها فإذا أضافته إلى زواجها فقد أتت ببهتان تفترينه بين يديها ورجليها وقيل يفترينه على أنفسهن حيث يقلن هذا ولدنا وليس كذلك إذ الولد ولد الزنا وقيل الولد إذا وضعته أمه سقط بين يديها ورجليها
الثالث ما وجه الترتيب في الأشياء المذكورة وتقديم البعض منها على البعض في الآية نقول قدم الأقبح على ما هو الأدنى منه في القبح ثم كذلك إلى آخره وقيل قدم من الأشياء المذكورة ما هو الأظهر فيما بينهم(29/267)
ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاٌّ خِرَة ِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ
قال ابن عباس يريد حاطب ابن أبي بلتعة يقول لا تتولوا اليهود والمشركين وذلك لأن جمعاً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم فنهوا عن ذلك ويئسوا من الآخرة يعني أن اليهود كذبت محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وهم يعرفون أنه رسول الله وأنهم أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم إياه فهم يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور والتقييد بهذا القيد ظاهر لأنهم إذا ماتوا على كفرهم كان العلم بخذلانهم وعدم حظهم في الآخرة قطعياً وهذا هو قول الكلبي وجماعة يعني الكفار الذين ماتوا يئسوا من الجنة ومن أن يكون لهم في الآخرة خير وقال الحسن يعني الأحياء من الكفار يئسوا من الأموات وقال أبو إسحق يئس اليهود الذين عاندوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(29/268)
سورة الصف
أربع عشرة آية مكية
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
وجه التعلق بما قبلها هو أن في تلك السورة بيان الخروج جهاداً في سبيل الله وابتغاء مرضاته بقوله إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاء مَرْضَاتِى ( الممتحنة 1 ) وفي هذه السورة بيان ما يحمل أهل الإيمان ويحثهم على الجهاد بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ( الصف 4 ) وأما الأول بالآخر فكأنه قال إن كان الكفرة بجهلهم يصفون لحضرتنا المقدسة بما لا يليق بالحضرة فقد كانت الملائكة وغيرهم من الإنس والجن يسبحون لحضرتنا كما قال سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أي شهد له بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السموات والأرض و الْعَزِيزُ من عز إذا غلب وهو الذي يغلب على غيره أي شيء كان ذلك الغير ولا يمكن أن يغلب عليه غيره و الْحَكِيمُ من حكم على الشيء إذا قضى عليه وهو الذي يحكم على غيره أي شيء كان ذلك الغير ولا يمكن أن يحكم عليه غيره فقوله سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يدل على الربوبية والوحدانية إذن ثم إنه تعالى قال في البعض من السور سَبَّحَ للَّهِ ( الحديد 1 الحشر 1 ) وفي البعض يُسَبّحُ ( الجمعة 1 التغاب 1 ) وفي البعض سَبِّحِ ( الأعلى 1 ) بصيغة الأمر ليعلم أن تسبيح حضرة الله تعالى دائم غير منقطع لما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان والأمر يدل عليه في الحال وقوله تعالى اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ منهم من قال هذه الآية في حق جماعة من المؤمنين وهم الذين أحبوا أن يعملوا بأحب الأعمال إلى الله فأنزل الله تعالى الْمُشْرِكُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَة ٍ ( الصف 10 ) الآية و إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ ( الصف 4 ) فأحبوا الحياة وتولوا يوم أحد فأنزل الله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَالاً تَفْعَلُونَ(29/269)
وقيل في حق من يقول قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن وفعلت ولم يفعل وقيل إنها في حق أهل النفاق في القتال لأنهم تمنوا القتال فلما أمر الله تعالى به قالوا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ( النساء 77 ) وقيل إنها في حق كل مؤمن لأنهم قد اعتقدوا الوفاء بما وعدهم الله به من الطاعة والاستسلام والخضوع والخشوع فإذا لم يوجد الوفاء بما وعدهم خيف عليهم في كل زلة أن يدخلوا في هذه الآية ثم في هذه الجملة مباحث
الأول قال تعالى سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الحديد 1 الحشر 1 ) في أول هذه السورة ثم قاله تعالى في أول سورة أخرى وهذا هو التكرار والتكرار عيب فكيف هو فنقول يمكن أن يقال كرره ليعلم أنه في نفس الأمر غير مكرر لأن ما وجد منه التسبيح عند وجود العالم بإيجاد الله تعالى فهو غير ما وجد منه التسبيح بعد وجود العالم وكذا عند وجود آدم وبعد وجوده
الثاني قال سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يقل سبح لله السموات والأرض وما فيهما مع أن في هذا من المبالغة ما ليس في ذلك فنقول إنما يكون كذلك إذا كان المراد من التسبيح التسبيح بلسان الحال مطلقاً أما إذا كان المراد هو التسبيح المخصوص فالبعض يوصف كذا فلا يكون كما ذكرتم
الثالث قال صاحب الكشاف لَمْ هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك بم وفيم وعم ومم وإنما حذفت الألف لأن ( ما ) والحرف كشيء واحد وقد وقع استعمالها في كلام المستفهم ولو كان كذلك لكان معنى الاستفهام واقعاً في قوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَالاً تَفْعَلُونَ والاستفهام من الله تعالى محال وهو عالم بجميع الأشياء فنقول هذا إذا كان المراد من الاستفهام طلب الفهم أما إذا كان المراد إلزام من أعرض عن الوفاء ما وعد أو أنكر الحق وأصر على الباطل فلا
ثم قال تعالى
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
والمقت هو البغض ومن استوجب مقت الله لزمه العذاب قال صاحب الكشاف المقت أشد البغض وأبلغه وأفحشه وقال الزجاج ءانٍ في موضع رفع و مَقْتاً منصوب على التمييز والمعنى كبر قولكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله وهذا كقوله تعالى كَبُرَتْ كَلِمَة ً ( الكهف 5 )
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ
قرأ زيد بن علي يُقَاتَلُونَ بفتح التاء وقرىء ( يقتلون ) أن يصفون صفاً والمعنى يصفون أنفسهم عند القتال كأنهم بنيان مرصوص قال الفراء مرصوص بالرصاص يقال رصصت البناء إذا لا يمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة وقال الليث يقال رصصت البناء إذا ضممته والرص انضمام الأشياء بعضها إلى بعض وقال ابن عباس يوضع الحجر على الحجر ثم يرص بأحجار صغار ثم يوضع اللبن عليه(29/270)
فتسميه أهل مكة المرصوص وقال أبو إسحق أعلم الله تعالى أنه يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص وقال ويجوز أن يكون على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص وقيل ضرب هذا المثل للثبات يعني إذا اصطفوا ثبتوا كالبنيان المرصوص الثابت المستقر وقيل فيه دلالة على فضل القتال راجلاً لأن العرب يصطفون على هذه الصفة ثم المحبة في الظاهر على وجهين أحدهما الرضا عن الخلق وثانيها الثناء عليهم بما يفعلون ثم ما وجه تعلق الآية بما قبلها وهو قوله تعالى كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن نقول تلك الآية مذمة المخالفين في القتال وهم الذين وعدوا بالقتال ولم يقاتلوا وهذه الآية محمدة الموافقين في القتال وهم الذين قاتلوا في سبيل الله وبالغوا فيه
ثم قال تعالى
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
معناه اذكر لقومك هذه القصة و إِذْ منصوب بإضمار اذكر أي حين قال لهم تُؤْذُونَنِى وكانوا يؤذونه بأنواع الأذى قولاً وفعلاً فقالوا أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً ( النساء 153 ) لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ ( البقرة 61 ) وقيل قد رموه بالأدرة وقوله تعالى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ اللَّهِ في موضع الحال أي تؤذونني عالمين علماً قطعياً أني رسول الله وقضية علمكم بذلك موجبة للتعظيم والتوقير وقوله فَلَمَّا زَاغُواْ أي مالوا إلى غير الحق أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي أمالها عن الحق وهو قول ابن عباس وقال مقاتل زَاغُواْ أي عدلوا عن الحق بأبدانهم أَزَاغَ اللَّهُ أي أمال الله قلوبهم عن الحق وأضلهم جزاء ما عملوا ويدل عليه قوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ قال أبو إسحق معناه والله لا يهدي من سبق في عمله أنه فاسق وفي هذا تنبيه على عظيم إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حتى إنه يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى وَقَدْ معناه التوكيد كأنه قال وتعلمون علماً يقينياً لا شبهة لكم فيه
ثم قال تعالى
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَى َّ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
قوله إِنّى رَسُولُ اللَّهِ أي اذكروا أني رسول الله أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به في التوراة ومصدقاً بالتوراة وبكتب الله وبأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يصدق بالتوراة على مثل(29/271)
تصديقي فكأنه قيل له ما اسمه فقال اسمه أحمد فقوله يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ جملتان في موضع الجر لأنهما صفتان للنكرة التي هي رسول وفي بَعْدِى اسْمُهُ قراءتان تحريك الياء بالفتح على الأصل وهو الاختيار عند الخليل وسيبويه في كل موضع تذهب فيه الياء لالتقاء ساكنين وإسكانها كما في قوله تعالى وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِى َ فمن أسكن في قوله مِن بَعْدِى اسْمُهُ حذف الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين وهما الياء والسين من اسمه قاله المبرد وأبو علي وقوله تعالى أَحْمَدُ يحتمل معنيين أحدهما المبالغة في الفاعل يعني أنه أكثر حمداً لله من غيره وثانيهما المبالغة من المفعول يعني أنه يحمد بما فيه من الإخلاص والأخلاق الحسنة أكثر ما يحمد غيره
ولنذكر الآن بعض ما جاء به عيسى عليه السلام بمقدم سيدنا محمد عليه السلام في الإنجيل في عدة مواضع أولها في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا ( وأنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد والفارقليط هو روح الحق اليقين ) هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربي وذكر في الإصحاح الخامس عشر هذا اللفظ ( وأما الفارقليط روح القدس يرسله أبي باسمي ويعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء وهو يذكركم ما قلت لكم ) ثم ذكر بعد ذلك بقليل ( وإني قد خبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان ذلك تؤمنون ) وثانيها ذكر في الإصحاح السادس عشر هكذا ( ولكن أقول لكم الآن حقاً يقيناً انطلاقي عنكم خير لكم فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي لم يأتكم الفارقليط وإن انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء هو يفيد أهل العالم ويدينهم ويمنحهم ويوقفهم على الخطيئة والبر والدين ) وثالثها ذكر بعد ذلك بقليل هكذا ( فإن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقوله لكم ولكن لا تقدرون على قبوله والاحتفاظ به ولكن إذا جاء روح الحق إليكم يلهمكم ويؤيدكم بجميع الحق لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء نفسه ) هذا ما في الإنجيل فإن قيل المراد بفارقليط إذا جاء يرشدهم إلى الحق ويعلمهم الشريعة وهو عيسى يجيء بعد الصلب نقول ذكر الحواريون في آخر الإنجيل أن عيسى لما جاء بعد الصلب ما ذكر شيئاً من الشريعة وما علمهم شيئاً من الأحكام وما لبث عندهم إلا لحظة وما تكلم إلا قليلاً مثل أنه قال ( أنا المسيح فلا تظنوني ميتاً بل أنا ناج عند الله ناظر إليكم وإني ما أوحي بعد ذلك إليكم ) فهذا تمام الكلام وقوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيّنَاتِ قيل هو عيسى وقيل هو محمد ويدل على أن الذي جاءهم بالبينات جاءهم بالمعجزات والبينات التي تبين أن الذي جاء به إنما جاء به من عند الله وقوله تعالى هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أي ساحر مبين وقوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي من أقبح ظلماً ممن بلغ افتراؤه المبلغ الذي يفتري على الله الكذب وأنهم قد علموا أن ما نالوه من نعمة وكرامة فإنما نالوه من الله تعالى ثم كفروا به وكذبوا على الله وعلى رسوله وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يوافقهم الله للطاعة عقوبة لهم
وفي الآية بحث وهو أن يقال بم انتصب مُصَدّقاً و مُبَشّرًا أبما في الرسول من معنى الإرسال أم إِلَيْكُمْ نقول بل بمعنى الإرسال لأن إليكم صلة للرسول(29/272)
ثم قال تعالى
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
لِيُطْفِئُواْ أي أن يطفئوا وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك كما زيدت اللام في لا أباً لك تأكيداً لمعنى الإضافة في أباك وإطفاء نور الله تعالى بأفواههم تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هَاذَا سَاحِرٌ ( الصف 6 ) مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه كذا ذكره في الكشاف وقوله وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ قرىء بكسر الراء على الإضافة والأصل هو التنوين قال ابن عباس يظهر دينه وقال صاحب الكشاف متم الحق ومبلغه غايته وقيل دين الله وكتاب الله ورسول الله وكل واحد من هذه الثلاثة بهذه الصفة لأنه يظهر عليهم من الآثار وثانيها أن نور الله ساطع أبداً وطالع من مطلع لا يمكن زواله أصلاً وهو الحضرة القدسية وكل واحد من الثلاثة كذلك وثالثها أن النور نحو العلم والظلمة نحو الجهل أو النور الإيمان يخرجهم من الظلمات إلى النور أو الإسلام هو النور أو يقال الدين وضع إلهي سائق لأولي الألباب إلى الخيرات باختيارهم المحمود وذلك هو النور والكتاب هو المبين قال تعالى تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( الشعراء 2 ) فالإبانة والكتاب هو النور أو يقال الكتاب حجة لكونه معجزاً والحجة هو النور فالكتاب كذلك أو يقال في الرسول إنه النور وإلا لما وصف بصفة كونه رحمة للعالمين إذ الرحمة بإظهار ما يكون من الأسرار وذلك بالنور أو نقول إنه هو النور لأنه بواسطته اهتدى الخلق أو هو النور لكونه مبيناً للناس ما نزل إليهم والمبين هو النور ثم الفوائد في كونه نوراً وجوه منها أنه يدل على علو شأنه وعظمة برهانه وذلك لوجهين أحدهما الوصف بالنور وثانيهما الإضافة إلى الحضرة ومنها أنه إذا كان نوراً من أنوار الله تعالى كان مشرقاً في جميع أقطار العالم لأنه لا يكون مخصوصاً ببعض الجوانب فكان رسولاً إلى جميع الخلائق لما روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( بعثت إلى الأحمر والأسود ) فلا يوجد شخص من الجن والإنس إلا ويكون من أمته إن كان مؤمناً فهو من أمة المتابعة وإن كان كافراً فهو من أمة الدعوة
وقوله تعالى وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ أي اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين وقوله بِالْهُدَى لمن اتبعه وَدِينِ الْحَقّ قيل الحق هو الله تعالى أي دين الله وقيل نعت للدين أي والدين هو الحق وقيل الذي يحق أن يتبعه كل أحد و لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ يريد الإسلام وقيل ليظهره أي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالغلبة وذلك بالحجة وههنا مباحث
الأول وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ والتمام لا يكون إلا عند النقصان فكيف نقصان هذا النور فنقول إتمامه بحسب النقصان في الأثر وهو الظهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب إذ الظهور لا يظهر إلا بالإظهار وهو الإتمام يؤيده قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة 3 ) وعن أبي هريرة أن ذلك عند نزول عيسى من السماء قال مجاهد(29/273)
الثاني قال ههنا مُتِمُّ نُورِهِ ( النور 35 ) وقال في موضع آخر مَثَلُ نُورِهِ وهذا عين ذلك أو غيره نقول هو غيره لأن نور الله في ذلك الموضع هو الله تعالى عند أهل التحقيق وهنا هو الدين أو الكتاب أو الرسول
الثالث قال في الآية المتقدمة وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ وقال في المتأخرة وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فما الحكمة فيه فنقول إنهم أنكروا الرسول وما أنزل إليه وهو الكتاب وذلك من نعم الله والكافرون كلهم في كفران النعم فلهذا قال وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك والمراد من الكافرين ههنا اليهود والنصارى والمشركون وهنا ذكر النور وإطفاءه واللائق به الكفر لأنه الستر والتغطية لأن من يحاول الإطفاء إنما يريد الزوال وفي الآية الثانية ذكر الرسول والإرسال ودين الحق وذلك منزلة عظيمة للرسول عليه السلام وهي اعتراض على الله تعالى كما قال ألا قل لمن ظل لي حاسدا
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله
كأنه لم ترض لي ما وهب
والاعتراض قريب من الشرك ولأن الحاسدين للرسول عليه السلام كان أكثرهم من قريش وهم المشركون ولما كان النور أعم من الدين والرسول لا جرم قابله بالكافرين الذين هم جميع مخالفي الإسلام والإرسال والرسول والدين أخص من النور قابله بالمشركين الذين هم أخص من الكافرين
ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَة ٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
إعلم أن قوله تعالى هَلْ أَدُلُّكُمْ في معنى الأمر عند الفراء يقال هل أنت ساكت أي اسكت وبيانه أن هل بمعنى الاستفهام ثم يتدرج إلى أن يصير عرضاً وحثاً والحث كالإغراء والإغراء أمر وقوله تعالى عَلَى تِجَارَة ٍ هي التجارة بين أهل الإيمان وحضرة الله تعالى كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ ( التوبة 111 ) دل عليه تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ والتجارة عبارة عن معاوضة الشيء بالشيء وكما أن التجارة تنجي التاجر من محنة الفقر ورحمة الصير على ما هو من لوازمه فكذلك هذه التجارة وهي التصديق بالجنان والإقرار باللسان كما قيل في تعريف الإيمان فلهذا قال بلفظ التجارة وكما أن التجارة في الربح والخسران فكذلك في هذا فإن من آمن وعمل صالحاً فله الأجر والربح الوافر واليسار المبين ومن أعرض عن العمل الصالح فله التحسر والخسران المبين وقوله تعالى تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قرىء مخففاً ومثقلاً وَتُؤْمِنُونَ استئناف كأنهم قالوا كيف نعمل فقال تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وهو خبر في معنى الأمر ولهذا أجيب بقوله يَغْفِرْ لَكُمْ وقوله تعالى وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ والجهاد بعد هذين الوجهين ثلاثة جهاد فيما بينه وبين نفسه وهو قهر النفس ومنعها عن(29/274)
اللذات والشهوات وجهاد فيما بينه وبين الخلق وهو أن يدع الطمع منهم ويشفق عليهم ويرحمهم وجهاد فيما بينه بين الدنيا وهو أن يتخذها زاداً المادة فتكون على خمسة أوجه وقوله تعالى ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ يعني الذي أمرتم به من الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله خير لكم من أن تتبعوا أهواءكم إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أي أن كنتم تنتفعون بما عملتم فهو خير لكم وفي الآية مباحث
الأول لم قال تُؤْمِنُونَ بلفظ الخبر نقول للإيذان بوجوب الامتثال عن ابن عباس قالوا لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملنا فنزلت هذه الآية فمكثوا ما شاء الله يقولون يا ليتنا نعلم ما هي فدلهم الله عليها بقوله تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
الثاني ما معنى إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ نقول إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خير لكم كان خيراً لكم وهذه الوجوه للكشاف وأما الغير فقال الخوف من نفس العذاب لا من العذاب الأليم إذ العذاب الأليم هو نفس العذاب مع غيره والخوف من اللوازم كقوله تعالى وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( آل عمران 175 ) ومنها أن الأمر بالإيمان كيف هو بعد قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فنقول يمكن أن يكون المراد من هذه الآية المنافقين وهم الذين آمنوا في الظاهر ويمكن أن يكون أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة فكأنه قال يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة آمنوا بالله وبمحمد رسول الله ويمكن أن يكون أهل الإيمان كقوله فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ( التوبة 124 ) لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً ( الفتح 4 ) وهو الأمر بالثبات كقوله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( إبراهيم 27 ) وهو الأمر بالتجدد كقوله خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( النساء 136 ) وفي قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من جدد وضوءه فكأنما جدد إيمانه ) ومنها أن رجاء النجاة كيف هو إذا آمن بالله ورسوله ولم يجاهد في سبيل الله وقد علق بالمجموع ومنها أن هذا المجموع وهو الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله خبر في نفس الأمر
ثم قال تعالى
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أن قوله تعالى غَفَرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب قوله تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( الصف 11 ) لما أنه في معنى الأمر كما مر فكأنه قال آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله يغفر لكم وقيل جوابه ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ ( الصف 11 ) وجزم يَغْفِرْ لَكُمْ لما أنه ترجمة ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ومحله جزم كقوله تعالى لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن ( المنافقون 10 ) لأن محل فَأَصَّدَّقَ جزم على قوله لَوْلا أَخَّرْتَنِى وقيل جزم يَغْفِرْ لَكُمْ بهل لأنه في معنى الأمر وقوله تعالى وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ إلى آخر الآية من جملة ما قدم بيانه في التوراة ولا يبعد أن يقال إن الله تعالى رغبهم في هذه الآية إلى مفارقة مساكنهم وإنفاق أموالهم والجهاد وهو قوله يَغْفِرْ لَكُمْ وقوله تعالى ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني ذلك(29/275)
الجزاء الدائم هو الفوز العظيم وقد مر وقوله تعالى وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا أي تجارة أخرى في العاجل مع ثواب الآجل قال الفراء وخصلة أخرى تحبونها في الدنيا مع ثواب الآخرة وقوله تعالى نَصْرٌ مّن اللَّهِ هو مفسر للأخرى لأنه يحسن أن يكون نَصْرٌ مّن اللَّهِ مفسراً للتجارة إذ النصر لا يكون تجارة لنا بل هو ريح للتجارة وقوله تعالى وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي عاجل وهو فتح مكة وقال الحسن هو فتح فارس والروم وفي تُحِبُّونَهَا شيء من التوبيخ على محبة العاجل ثم في اة ية مباحث
الأول قوله تعالى وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على تؤمنون لأنه في معنى الأمر كأنه قيل آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك ويقال أيضاً بم نصب من قرأ نَصْراً مِنَ اللَّهِ يَكُونَ قَرِيبًا ( الصف 11 ) فيقال على الاختصاص أو على تنصرون نصراً ويفتح لكم فتحاً أو على يغفر لكم ويدخلكم ويؤتكم خيراً ويرى نصراً وفتحاً هكذا ذكر في الكشاف
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَأامَنَت طَّآئِفَة ٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَة ٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ
ثم قال تعالى الْمُؤْمِنِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ
قوله كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ أمر بإدامة النصرة والثبات عليه أي ودوموا على ما أنتم عليه من النصرة ويدل عليه قراءة ابن مسعود كُونُواْ أَنتُمْ أَنْصَارُ اللَّهِ فأخير عنهم بذلك أي أنصار دين الله وقوله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قال مقاتل يعني من يمنعني من الله وقال عطاء من ينصر دين الله ومنهم من قال أمر الله المؤمنين أن ينصروا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كما نصر الحواريون عيسى عليه السلام وفيه إشارة إلى أن النصر بالجهاد لا يكون مخصوصاً بهذه الأمة والحواريون أصفياؤه وأول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً وحواري الرجل صفيه وخلصاؤه من الحور وهو البياض الخالص وقيل كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها وأما الأنصار فعن قتادة أن الأنصار كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ثم في الآية مباحث
البحث الأول التشبيه محمول على المعنى والمراد كونوا كما كان الحواريون
الثاني ما معنى قوله مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ نقول يجب أن يكون معناه مطابقاً لجواب الحواريين والذي يطابقه أن يكون المعنى من عسكري متوجهاً إلى نصرة الله وإضافة أَنصَارِى خلاف إضافة أَنْصَارُ اللَّهِ لما أن المعنى في الأول الذين ينصرون الله وفي الثاني الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله(29/276)
الثالث أصحاب عيسى قالوا نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وأصحاب محمد لم يقولوا هكذا نقول خطاب عيسى عليه السلام بطريق السؤال فالجواب لازم وخطاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بطريق الإلزام فالجواب غير لازم بل اللازم هو امتثال هذا الأمر وهو قوله تعالى كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ
ثم قال تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَارِى
قال ابن عباس يعني الذين آمنوا في زمن عيسى عليه السلام والذين كفروا كذلك وذلك لأن عيسى عليه السلام لما رفع إلى السماء تفرقوا ثلاث فرق فرقة قالوا كان الله فارتفع وفرقة قالوا كان ابن الله فرفعه إليه وفرقة قالوا كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه وهم المسلمون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس واجتمعت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة فقتلوهم وطردوهم في الأرض فكانت الحالة هذه حتى بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فظهرت المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ وقال مجاهد فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ يعني من اتبع عيسى وهو قول المقاتلين وعلى هذا القول معنى الآية أن من آمن بعيسى ظهروا على من كفروا به فأصبحوا غالبين على أهل الأديان وقال إبراهيم أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأن عيسى كلمة الله وروحه قال الكلبي ظاهرين بالحجة والظهور بالحجة هو قول زيد بن علي رضي الله عنه والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين(29/277)
بداية الجزء الثلاثين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(30/2)
سورة الجمعة
وهي إحدى عشرة آية مدنية
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أنه تعالى قال في أول تلك السورة سَبَّحَ للَّهِ ( الصف 1 ) بلفظ الماضي وذلك لا يدل على التسبيح في المستقبل فقال في أول هذه السورة بلفظ المستقبل ليدل على التسبيح في زماني الحاضر والمستقبل وأما تعلق الأول بالآخر فلأنه تعالى ذكر في آخر تلك السورة أنه كان يؤيد أهل الإيمان حتى صاروا عالين على الكفار وذلك على وفق الحكمة لا للحاجة إليه إذ هو غني على الإطلاق ومنزه عما يخطر ببال الجهلة في الآفاق وفي أول هذه السورة ما يدل على كونه مقدساً ومنزهاً عما لا يليق بحضرته العالية بالاتفاق ثم إذا كان خلق السموات والأرض بأجمعهم في تسبيح حضرة الله تعال فله الملك كما قال تعالى يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لَهُ الْمُلْكُ ( التغابن 1 ) ولا ملك أعظم من هذا وهو أنه خالقهم ومالكهم وكلهم في قبضة قدرته وتحت تصرفه يسبحون له آناء الليل وأطراف النهار بل في سائر الأزمان كما مر في أول تلك السورة ولما كان الملك كله له فهو الملك على الإطلاق ولما كان الكل بخلقه فهو المالك والمالك والملك أشرف من المملوك فيكون متصفاً بصفات يحصل منها الشرف فلا مجال لما ينافيه من الصفات فيكون قدوساً فلفظ الْمَلِكُ إشارة إلى إثبات ما يكون من الصفات العالية ولفظ الْقُدُّوسُ هو إشارة إلى نفي مالا يكون منها وعن الغزالي الْقُدُّوسُ المنزه عما يخطر ببال أوليائه وقد مر تفسيره وكذلك العَزِيزُ الحَكِيمُ ثم الصفات المذكورة قرئت بالرفع على المدح أي هو الملك القدوس ولو قرئت بالنصب لكان وجهاً كقول العرب الحمد لله أهل الحمد كذا ذكره في ( الكشاف ) ثم في الآية مباحث
الأول قال تعالى يُسَبّحُ لِلَّهِ ولم يقل يسبح الله فما الفائدة نقول هذا من جملة ما يجري فيه(30/3)
اللفظان كشكره وشكر له ونصحه ونصح له
الثاني الْقُدُّوسُ من الصفات السلبية وقيل معناه المبارك
الثالث لفظ الْحَكِيمُ يطلق على الغير أيضاً كما قيل في لقمان إنه حكيم نقول الحكيم عند أهل التحقيق هو الذي يضع الأشياء ( في ) مواضعها والله تعالى حكيم بهذا المعنى
ثم إنه تعالى بعدما فرغ من التوحيد والتنزيه شرع في النبوة فقال
هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ
الأمي منسوب إلى أمة العرب لما أنهم أمة أميون لا كتاب لهم ولا يقرأون كتاباً ولا يكتبون وقال ابن عباس يريد الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم وقيل الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه وقد مر بيانه وقرىء الأمين بحذف ياء النسب كما قال تعالى رَسُولاً مّنْهُمْ ( المؤمنون 32 ) يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) نسبه من نسبهم وهو من جنسهم كما قال تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) قال أهل المعاني وكان هو ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً أمياً مثل الأمة التي بعث فيهم وكانت البشارة به في الكتب قد تقدمت بأنه النبي الأمي وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة فكانت حاله مشاكلة لحال الأمة الذين بعث فيهم وذلك أقرب إلى صدقة
وقوله تعالى يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ أي بيناته التي تبين رسالته وتظهر نبوته ولا يبعد أن تكون الآيات هي الآيات التي تظهر منها الأحكام الشرعية والتي يتميز بها الحق من الباطل وَيُزَكّيهِمْ أي يطهرهم من خبث الشرك وخبث ما عداه من الأقوال والأفعال وعند البعض يُزَكّيهِمْ أي يصلحهم يعني يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون به أزكياء أتقياء وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ والكتاب ما يتلى من الآيات والحكمة هي الفرائض وقيل الْحِكْمَة َ السنة لأنه كان يتلو عليهم آياته ويعلمهم سننه وقيل الْكِتَابِ الآيات نصاً والحكمة ما أودع فيها من المعاني ولا يبعد أن يقال الكتاب آيات القرآن والحكمة وجه التمسك بها وقوله تعالى وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ظاهر لأنهم كانوا عبدة الأصنام وكانوا في ضلال مبين وهو الشرك فدعاهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى التوحيد والإعراض عما كانوا فيه وفي هذه الآية مباحث
أحدها احتجاج أهل الكتاب بها قالوا قوله بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يدل على أنه عليه السلام كان رسولاً إلى الأميين وهم العرب خاصة غير أنه ضعيف فإنه لا يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه ألا ترى إلى قوله تعالى وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ( العنكبوت 48 ) أنه لا يفهم منه أنه يخطه بشماله ولأنه(30/4)
لو كان رسولاً إلى العرب خاصة كان قوله تعالى كَافَّة ً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ( سبإ 28 ) لا يناسب ذلك ولا مجال لهذا لما اتفقوا على ذلك وهو صدق الرسالة المخصوصة فيكون قوله تعالى كَافَّة ً النَّاسِ دليلاً على أنه عليه الصلاة والسلام كان رسولاً إلى الكل
ثم قال تعالى
وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
وَءاخَرِينَ عطف على الأميين يعني بعث في آخرين منهم قال المفسرون هم الأعاجم يعنون بهم غير العرب أي طائفة كانت قاله ابن عباس وجماعة وقال مقاتل يعني التابعين من هذه الأمة الذين لم يلحقوا بأوائلهم وفي الجملة معنى جميع الأقوال فيه كل من دخل في الإسلام بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يوم القيامة فالمراد بالأميين العرب وبالآخرين سواهم من الأمم وقوله وَءاخَرِينَ مجرور لأنه عطف على المجرور يعني الأميين ويجوز أن ينتصب عطفاً على المنصوب في وَيُعَلّمُهُمُ ( الجمعة 2 ) أي ويعلمهم ويعلم آخرين منهم أي من الأميين وجعلهم منهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم فالمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلف أجناسهم قال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وأما من لم يؤمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يدخل في دينه فإنهم كانوا بمعزل عن المراد بقوله وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ وإن كان النبي مبعوثاً إليهم بالدعوة فإنه تعالى قال في الآية الأولى وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ ( الجمعة 2 ) وغير المؤمنين ليس من جملة من يعلمه الكتاب والحكمة وَهُوَ الْعَزِيزُ من حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الذل له والفقر إليه والحكيم حيث جعل في كل مخلوق ما يشهد بوحدانيته قوله تعالى ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال ابن عباس يريد حيث ألحق العجم وابناءهم بقريش يعني إذا آمنوا ألحقوا في درجة الفضل بمن شاهد الرسول عليه السلام وشاركوهم في ذلك وقال مقاتل ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يعني الإسلام يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وقال مقاتل بن حيان يعني النبوة فضل الله يؤتيه من يشاء فاختص بها محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والله ذو المن العظيم على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة كما مر وفي الآخرة بتفخيم الجزاء على الأعمال
ثم إنه تعالى ضرب لليهود الذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثلاً فقال
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاة َ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما أثبت التوحيد والنبوة وبين في النبوة أنه عليه السلام بعث إلى الأميين واليهود لما أوردوا تلك الشبهة وهي أنه عليه السلام بعث إلى العرب خاصة ولم يبعث إليهم بمفهوم الآية أتبعه الله تعالى بضرب المثل للذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بالنبي عليه السلام والمقصود منه أنهم لما(30/5)
لم يعملوا بما في التوراة شبهوا بالحمار لأنهم لو عملوا بمقتضاها لانتفعوا بها ولم يوردوا تلك الشبهة وذلك لأن فيها نعت الرسول عليه السلام والبشارة بمقدمه والدخول في دينه وقوله حُمّلُواْ التَّوْرَاة َ أي حملوا العمل بما فيها وكلفوا القيام بها وحملوا وقرىء بالتخفيف والتثقيل وقال صاحب ( النظم ) ليس هو من الحمل على الظهر وإنما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان ومنه قيل للكفيل الحميل والمعنى ضمنوا أحكام التوراة ثم لم يضمنوها ولم يعملوا بما فيها قال الأصمعي الحميل الكفيل وقال الكسائي حملت له حمالة أي كفلت به والأسفار جمع سفر وهو الكتاب الكبير لأنه يسفر عن المعنى إذا قرىء ونظيره شبر وأشبار شبه اليهود إذ لم ينتفعوا بما في التوراة وهي دالة على الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالحمار الذي يحمل الكتب العلمية ولا يدري ما فيها وقال أهل المعاني هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن ولم يعمل به وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ولهذا قال ميمون بن مهران يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية وقوله تعالى لَمْ يَحْمِلُوهَا أي لم يؤدوا حقها ولم يحملوها حق حملها على ما بيناه فشبههم والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها بحمار يحمل كتباً وليس له من ذلك إلا ثقل الحمل من غير انتفاع مما يحمله كذلك اليهود ليس لهم من كتابهم إلا وبال الحجة عليهم ثم ذم المثل والمراد منه ذمهم فقال بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ أي بئس القوم مثلاً الذين كذبوا كما قال سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ ( الأعراف 177 ) وموضع الذين رفع ويجوز أن يكون جراً وبالجملة لما بلغ كذبهم مبلغاً وهو أنهم كذبوا على الله تعالى كان في غاية الشر والفساد فلهذا قال بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ والمراد بالآيات ههنا الآيات الدالة على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول ابن عباس ومقاتل وقيل الآيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا أشبه هنا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال عطاء يريد الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء وههنا مباحث
البحث الأول ما الحكمة في تعيين الحمار من بين سائر الحيوانات نقول لوجوه منها أنه تعالى خلق الْخَيْلِ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً والزينة في الخيل أكثر وأظهر بالنسبة إلى الركوب وحمل الشيء عليه وفي البغال دون وفي الحمار دون البغال فالبغال كالمتوسط في المعاني الثلاثة وحينئذ يلزم أن يكون الحمار في معنى الحمل أظهر وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال وغيرهما من الحيوانات ومنها أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة وذلك في الحمار إظهر ومنها أن في الحمار من الذل والحقارة مالا يكون في الغير والغرض من الكلام في هذا المقام تعيير القوم بذلك وتحقيرهم فيكون تعيين الحمار أليق وأولى ومنها أن حمل الأسفار على الحمار أتم وأعم وأسهل وأسلم لكونه ذلولاً سلس القياد لين الانقياد يتصرف فيه الصبي الغبي من غير كلفة ومشقة وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره ومنها أن رعاية الألفاظ والمناسبة بينها من اللوازم في الكلام وبين لفظي الأسفار والحمار مناسبة لفظية لا توجد في الغير من الحيوانات فيكون ذكره أولى
الثاني يَحْمِلُ ما محله نقول النصب على الحال أو الجر على الوصف كما قال في ( الكشاف ) إذا الحمار كاللئيم في قوله(30/6)
ولقد أمر على اللئيم يسبني
فمررت ثمة قلت لا يعنيني
الثالث قال تعالى بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ كيف وصف المثل بهذا الوصف نقول الوصف وإن كان في الظاهر للمثل فهو راجع إلى القوم فكأنه قال بئس القوم قوماً مثلهم هكذا
ثم إنه تعالى أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا الخطاب لهم وهو قوله تعالى
قُلْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
هذه الآية من جملة ما مر بيانه وقرىء فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ بكسر الواو و هَادُواْ أي تهودوا وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه فلو كان قولكم حقاً وأنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه قال الشاعر ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
فهم يطلبون الموت لا محالة إذا كانت الحالة هذه وقوله تعالى وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ أي بسبب ما قدموا من الكفر وتحريف الآيات وذكر مرة بلفظ التأكيد وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ومرة بدون لفظ التأكيد وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ وقوله أَبَدًا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ أي بظلمهم من تحريف الآيات وعنادهم لها ومكابرتهم إياها
ثم قال تعالى
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يعني أن الموت الذي تفرون منه بما قدمت أيديكم من تحريف الآيات وغيره ملاقيكم لا محالة ولا ينفعكم الفرار ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة يعني ما أشهدتم الخلق من التوراة والإنجيل وعالم بما غيبتم عن الخلق من نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما أسررتم في أنفسكم من تكذيبكم رسالته وقوله تعالى فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إما عياناً مقروناً بلقائكم يوم القيامة أو بالجزاء إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر فقوله إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ هو التنبيه على السعي فيما ينفعهم في الآخرة وقوله فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هو الوعيد البليغ والتهديد الشديد ثم في الآية مباحث
البحث الأول أدخل الفاء لما أنه في معنى الشرط والجزاء وفي قراءة ابن مسعود مُلَاقِيكُمْ من غير فَإِنَّهُ(30/7)
الثاني أن يقال الموت ملاقيهم على كل حال فروا أو لم يفروا فما معنى الشرط والجزاء قيل إن هذا على جهة الرد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم وقد صرح بهذا المعنى وأفصح عنه بالشرط الحقيقي في قوله ومن هاب أسباب المنايا تناله < / 1 }
ولو نال أسباب السماء بسلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِى َ لِلصَّلَواة ِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَة ِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الأرض وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
وجه التعلق بما قبلها هو أن الذين هادوا يفرون من الموت لمتاع الدنيا وطيباتها والذين آمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيباتها كذلك فنبههم الله تعالى بقوله فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ أي إلى ما ينفعكم في الآخرة وهو حضور الجمعة لأن الدنيا ومتاعها فانية والآخرة وما فيها باقية قال تعالى وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 17 ) ووجه آخر في التعلق قال بعضهم قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث افتخروا بأنهم أولياء الله واحباؤه فكذبهم بقوله فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( الجمعة 6 ) وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً وبالسبت وليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم الجمعة وقوله تعالى إِذَا نُودِى َ يعني النداء إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة وهو قول مقاتل وأنه كما قال لأنه لم يكن في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نداء سواء كان إذا جلس عليه الصلاة والسلام على المنبر أذن بلال على باب المسجد وكذا على عهد أبي بكر وعمر وقوله تعالى لِلصَّلَواة ِ أي لوقت الصلاة يدل عليه قوله مِن يَوْمِ الْجُمُعَة ِ ولا تكون الصلاة من اليوم وإنما يكون وقتها من اليوم قال الليث الجمعة يوم خص به لاجتماع الناس في ذلك اليوم ويجمع على الجمعات والجمع وعن سلمان رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سميت الجمعة جمعة لأن آدم جمع فيه خلقه ) وقيل لما أنه تعالى فرغ فيها من خلق الأشياء فاجتمعت فيها المخلوقات قال الفراء وفيها ثلاث لغات التخفيف وهي قراءة الأعمش والتثقيل وهي قراءة العامة ولغة لبني عقيل وقوله تعالى فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ أي فامضوا وقيل فامشوا وعلى هذا معنى السعي المشي لا العدو وقال الفراء المضي والسعي والذهاب في معنى واحد وعن عمر أنه سمع رجلاً يقرأ فَاسْعَوْاْ قال من أقرأك هذا قال أبي قال لا يزال يقرأ بالمنسوخ لو كانت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي وقيل المراد بالسعي القصد دون العدو والسعي التصرف في كل عمل ومنه قوله تعالى فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْى َ قال الحسن والله ما هو سعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب وسعي بالنية وسعي بالرغبة ونحو هذا والسعي ههنا هو العمل عند قوم وهو مذهب مالك والشافعي إذ السعي(30/8)
في كتاب الله العمل قال تعالى وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْرْضِ ( البقرة 205 ) وَأَنْ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ( الليل 4 ) أي العمل وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة ) واتفق الفقهاء على ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كان ) متى أتى الجمعة أتى على هينة ) وقوله إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ الذكر هو الخطبة عند الأكثر من أهل التفسير وقيل هو الصلاة وأما الأحكام المتعلقة بهذه الآية فإنها تعرف من الكتب الفقهية وقوله تعالى وَذَرُواْ الْبَيْعَ قال الحسن إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحل الشراء والبيع وقال عطاء إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء وقال الفراء إنما حرم البيع والشراء إذا نودي للصلاة لمكان الاجتماع ولندرك له كافة الحسنات وقوله تعالى ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ أي في الآخرة إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ما هو خير لكم وأصلح وقوله تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ أي إذا صليتم الفريضة يوم الجمعة فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ هذا صيغة الأمر بمعنى الإباحة لما أن إباحة الانتشار زائلة بفرضية أداء الصلاة فإذا زال ذلك عادت الإباحة فيباح لهم أن يتفرقوا في الأرض ويبتغوا من فضل الله وهو الرزق ونظيره لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ( البقرة 198 ) وقال ابن عباس إذا فرغت من الصلاة فإن شئت فاخرج وإن شئت فصل إلى العصر وإن شئت فاقعد كذلك قوله وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ فإنه صيغة أمر بمعنى الإباحة أيضاً لجلب الرزق بالتجارة بعد المنع بقوله تعالى وَذَرُواْ الْبَيْعَ وعن مقاتل أحل لهم ابتغاء الرزق بعد الصلاة فمن شاء خرج ومن شاء لم يخرج وقال مجاهد إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وقال الضحاك هو إذن من الله تعالى إذا فرغ فإن شاء خرج وإن شاء قعد والأفضل في الابتغاء من فضل الله أن يطلب الرزق أو الولد الصالح أو العلم النافع وغير ذلك من الأمور الحسنة والظاهر هو الأول وعن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد ( و ) قال اللهم أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين وقوله تعالى وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً قال مقاتل باللسان وقال سعيد بن جبير بالطاعة وقال مجاهد لا يكون من الذاكرين كثيراً حتى يذكره قائماً وقاعداً ومضطجعاً والمعنى إذا رجعتم إلى التجارة وانصرفتم إلى البيع والشراء مرة أخرى فاذكروا الله كثيراً قال تعالى رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وعن عمر رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أتيتم السوق فقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير فإن من قالها كتب الله له ألف ألف حسنة وحط عنه ألف ألف خطيئة ورفع له ألف ألف درجة ) وقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ من جملة ما قد مر مراراً وفي الآية مباحث
البحث الأول ما الحكمة في أن شرع الله تعالى في يوم الجمعة هذا التكليف فنقول قال القفال هي أن الله عز وجل خلق الخلق فأخرجهم من العدم إلى الوجود وجعل منهم جماداً ونامياً وحيواناً فكان ما سوى الجماد أصنافاً منها بهائم وملائكة وجن وإنس ثم هي مختلفة المساكن من العلو والسفل فكان أشرف العالم السفلي هم الناس لعجيب تركيبهم ولما كرمهم الله تعالى به من النطق وركب فيهم من العقول والطباع التي بها غاية التعبد بالشرائع ولم يخف موضع عظم المنة وجلالة قدر الموهبة لهم فأمروا بالشكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة التي فيها أنشئت الخلائق وتم وجودها ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ماأنعم الله تعالى به عليهم وإذا كان شأنهم لم يخل من حين ابتدئوا من نعمة تتخللهم وإن منة الله مثبتة عليهم قبل استحقاقهم لها ولكل أهل ملة من الملل المعروفة(30/9)
يوم منها معظم فلليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد وللمسلمين يوم الجمعة روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يوم الجمعة هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غداً وللنصارى بعد غد ) ولما جعل يوم الجمعة يوم شكر وإظهار سرور وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي به تقع شهرته فجمعت الجماعات له كالسنة في الأعياد واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيراً بالنعمة وحثاً على استدامتها بإقامة ما يعود بآلاء الشكر ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى إلى الاجتماع والله أعلم
الثاني كيف خص ذكر الله بالخطبة وفيها ذكر الله وغير الله نقول المراد من ذكر الله الخطبة والصلاة لأن كل واحدة منهما مشتملة على ذكر الله وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة والثناء عليهم والدعاء لهم فذلك ذكر الشيطان
الثالث قوله وَذَرُواْ الْبَيْعَ لم خص البيع من جميع الأفعال نقول لأنه من أهم ما يشتغل به المرء في النهار من أسباب المعاش وفيه إشارة إلى ترك التجارة ولأن البيع والشراء في الأسواق غالباً والغفلة على أهل السوق أغلب فقوله وَذَرُواْ الْبَيْعَ تنبيه للغافلين فالبيع أولى بالذكر ولم يحرم لعينه ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة
الرابع ما الفرق بين ذكر الله أولاً وذكر الله ثانياً فنقول الأول من جملة مالا يجتمع مع التجارة أصلاً إذ المراد منه الخطبة والصلاة كما مر والثاني من جملة ما يجتمع كما في قوله تعالى رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( النور 37 )
ثم قال تعالى
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَة ِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَازِقِينَ
قال مقاتل إن دحية بن خليفة الكلبي أقبل بتجارة من الشام قبل أن يسلم وكان معه من أنواع التجارة وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والصفق وكان ذلك في يوم الجمعة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس وتركوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبق إلا إثنا عشر رجلاً أو أقل كثمانية أو أكثر كأربعين فقال عليه السلام لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة ونزلت الآية وكان من الذين معه أبو بكر وعمر وقال الحسن أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدمت عير والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب يوم الجمعة فسمعوا بها وخرجوا إليها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب الوادي عليهم ناراً ) قال قتادة فعلوا ذلك ثلاث مرات وقوله تعالى أَوْ لَهْواً وهو الطبل وكانوا إذا أنكحوا الجواري يضربون المزامير فمروا يضربون فتركوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقوله انفَضُّواْ إِلَيْهَا أي تفرقوا وقال المبرد مالوا إليها وعدلوا نحوها والضمير في ( إليها ) للتجارة وقال الزجاج انفضوا إليه وإليها ومعناهما واحد كقوله تعالى وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 45 )(30/10)
واعتبر هنا الرجوع إلى التجارة لما أنها أهم إليهم وقوله تعالى وَتَرَكُوكَ قَائِماً اتفقوا على أن هذا القيام كان في الخطبة للجمعة قال جابر ما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الخطبة إلا وهو قائم وسئل عبد الله أكان النبي يخطب قائماً أو قاعداً فقرأ وَتَرَكُوكَ قَائِماً وقوله تعالى قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ أي ثواب الصلاة والثبات مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَارَة ِ من اللهو الذي مر ذكره والتجارة التي جاء بها دحية وقوله تعالى وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ هو من قبيل أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين والمعنى إن أمكن وجود الرازقين فهو خير الرازقين وقيل لفظ الرازق لا يطلق على غيره إلا بطريق المجاز ولا يرتاب في أن الرازق بطريق الحقيقة خير من الرازق بطريق المجاز وفي الآية مباحث
البحث الأول أن التجارة واللهو من قبيل ما لا يرى أصلاً ولو كان كذلك كيف يصح وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً نقول ليس المراد إلا ما يقرب منه اللهو والتجارة ومثله حتى يسمع كلام الله إذ الكلام غير مسموع بل المسموع صوت يدل عليه
الثاني كيف قال انفَضُّواْ إِلَيْهَا وقد ذكر شيئين وقد مر الكلام فيه وقال صاحب ( الكشاف ) تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه
الثالث أن قوله تعالى وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ مناسب للتجارة التي مر ذكرها لا للهو نقول بل هو مناسب للمجموع لماأن اللهو الذي مر ذكره كالتبع للتجارة لما أنهم أظهروا ذلك فرحاً بوجود التجارة كما مر والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين(30/11)
سورة المنافقون
إحدى عشرة آية مدنية
إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن تلك السورة مشتملة على ذكر بعثة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذكر من كان يكذبه قلباً ولساناً بضرب المثل كما قال مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاة َ ( الجمعة 5 ) وهذه السورة على ذكر من كان يكذبه قلباً دون اللسان ويصدقه لساناً دون القلب وأما الأول بالآخر فذلك أن في آخر تلك السورة تنبيهاً لأهل الإيمان على تعظيم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ورعاية حقه بعد النداء لصلاة الجمعة وتقديم متابعته في الأداء على غيره وأن ترك التعظيم والمتابعة من شيم المنافقين والمنافقون هم الكاذبون كما قال في أول هذه السورة إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ يعني عبد الله بن أبي وأصحابه قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وتم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ أي أنه أرسلك فهو يعلم أنك لرسوله وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ أضمروا غير ما أظهروا وإنه يدل على أن حقيقة الإيمان بالقلب وحقيقة كل كلام كذلك فإن من أخبر عن شيء واعتقد بخلافه فهو كاذب لما أن الكذب باعتبار المخالفة بين الوجود اللفظي والوجود الذهني كما أن الجهل باعتبار المخالفة بين الوجود الذهني والوجود الخارجي ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماهم الله كاذبين لما أن قولهم يخالف اعتقادهم وقال قوم لم يكذبهم الله تعالى في قولهم نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ إنما كذبهم بغير هذا من الأكاذيب الصادرة عنهم في قوله تعالى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ ( التوبة 74 ) الآية و يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ ( التوبة 56 ) وجواب إذا قَالُواْ نَشْهَدُ أي(30/12)
أنهم إذا أتوك شهدوا لك بالرسالة فهم كاذبون في تلك الشهادة لما مر أن قولهم يخالف اعتقادهم وفي الآية مباحث
البحث الأول أنهم قالوا نشهد إنك لرسول الله فلو قالوا نعلم إنك لرسول الله أفاد مثل ما أفاد هذا أم لا نقول ما أفاد لأن قولهم نشهد إنك لرسول الله صريح في الشهادة على إثبات الرسالة وقولهم نعلم ليس بصريح في إثبات العلم لما أن علمهم في الغيب عند غيرهم
ثم قال تعالى
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّة ً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
قوله اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّة ً أي ستراً ليستتروا به عما خافوا على أنفسهم من القتل قال في ( الكشاف ) اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّة ً يجوز أن يراد أن قولهم نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ يمين من أيمانهم الكاذبة لأن الشهادة تجري مجرى الحلف في التأكيد يقول الرجل أشهد وأشهد بالله وأعزم وأعزم بالله في موضع أقسم وأولى وبه استشهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين ويجوز أن يكون وصفاً للمنافقين في استخفافهم بالإيمان فإن قيل لم قالوا نشهد ولم يقولوا نشهد بالله كما قلتم أجاب بعضهم عن هذا بأنه في معنى الحلف من المؤمن وهو في المتعارف إنما يكون بالله فلذلك أخبر بقوله نشهد عن قوله بالله
وقوله تعالى فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله وقيل صدوا أي صرفوا ومنعوا الضعفة عن اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سَاء أي بئس مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ حيث آثروا الكفر على الإيمان وأظهروا خلاف ما أضمروا مشاكلة للمسلمين
وقوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا ذلك إشارة إلى قوله سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قال مقاتل ذلك الكذب بأنهم آمنوا في الظاهر ثم كفروا في السر وفيه تأكيد لقوله وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وقوله فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ لا يتدبرون ولا يستدلون بالدلائل الظاهرة قال ابن عباس ختم على قلوبهم وقال مقاتل طبع على قلوبهم بالكفر فهم لا يفقهون القرآن وصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل إنهم كانوا يظنون أنهم على الحق فأخبر تعالى أنهم لا يفقهون أنه طبع على قلوبهم ثم في الآية مباحث
البحث الأول أنه تعالى ذكر أفعال الكفرة من قبل ولم يقل إنهم ساء ما كانوا يعملون فلم قلنا هنا نقول إن أفعالهم مقرونة بالأيمان الكاذبة التي جعلوها جنة أي سترة لأموالهم ودمائهم عن أن يستبيحها المسلمون كما مر
الثاني المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم فما معنى قوله تعالى ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ(30/13)
نقول قال في ( الكشاف ) ثلاثة أوجه أحدها ءامَنُواْ نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ثُمَّ كَفَرُواْ ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وثانيها ءامَنُواْ نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ثُمَّ كَفَرُواْ نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام كقوله تعالى وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وثالثها أن يراد أهل الذمة منهم
الثالث الطبع على القلوب لا يكون إلا من الله تعالى ولما طبع الله على قلوبهم لا يمكنهم أن يتدبروا ويستدلوا بالدلائل ولو كان كذلك لكان هذا حجة لهم على الله تعالى فيقولون إعراضنا عن الحق لغفلتنا وغفلتنا بسبب أنه تعالى طبع على قلوبنا فنقول هذا الطبع من الله تعالى لسوء أفعالهم وقصدهم الإعراض عن الحق فكأنه تعالى تركهم في أنفسهم الجاهلة وأهوائهم الباطلة
ثم قال تعالى
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَة ٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَة ٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
اعلم أن قوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ يعني عبد الله بن أبي ومغيث بن قيس وجد بن قيس كانت لهم أجسام ومنظر تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها وكان عبد الله بن أبي جسيماً صبيحاً فصيحاً وإذا قال سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قوله وهو قوله تعالى وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أي ويقولوا إنك لرسول الله تسمع لقولهم وقرىء يسمع على البناء للمفعول ثم شبههم بالخشب المسندة وفي الخشب التخفيف كبدنة وبدن وأسد وأسد والتثقيل كذلك كثمرة وثمر وخشبة وخشب ومدرة ومدر وهي قراءة ابن عباس والتثقيل لغة أهل الحجاز والخشب لا تعقل ولا تفهم فكذلك أهل النفاق كأنهم في ترك التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب وأما المسندة يقال سند إلى شيء أي مال إليه وأسنده إلى الشيء أي أماله فهو مسند والتشديد للمبالغة وإنما وصف الخشب بها لأنها تشبه الأشجار القائمة التي تنمو وتثمر بوجه ما ثم نسبهم إلى الجبن وعابهم به فقال يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَة ٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ وقال مقاتل إذا نادى مناد في العسكر وانفلتت دابة أو نشدت ضالة مثلاً ظنوا أنهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب وذلك لأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم ويكشف أسرارهم يتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة ثم أعلم ( الله ) رسوله بعداوتهم فقال هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ أن تأمنهم على السر ولا تلتفت إلى ظاهرهم فإنهم الكاملون في العداوة بالنسبة إلى غيرهم وقوله تعالى قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ مفسر وهو دعاء عليهم(30/14)
وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم وتعليم للمؤمنين أن يدعوا بذلك و أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق
وقوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ قال الكلبي لما نزل القرآن على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بصفة المنافقين مشى إليه عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم ويلكم افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم فأتوا رسول الله وتوبوا إليه من النفاق واسألوه أن يستغفر لكم فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار فنزلت وقال ابن عباس لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنفوه وأسمعوه المكروه فقال له بنو أبيه لو أتيت رسول ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يستغفر لك ويرضى عنك فقال لا أذهب إليه ولا أريد أن يستغفر لي وجعل يلوي رأسه فنزلت وعند الأكثرين إنما دعى إلى الاستغفار لأنه قال لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( المنافقون 8 ) وقال لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ( المنافقون 7 ) فقيل له تعال يستغفر لك رسول الله فقال ماذا قلت فذلك قوله تعالى لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ وقرىء لَوَّوْاْ بالتخفيف والتشديد للكثرة والكناية قد تجعل جمعاً والمقصود واحد وهو كثير في أشعار العرب قال جرير لا بارك الله فيمن كان يحسبكم
إلا على العهد حتى كان ما كانا
وإنما خاطب بهذا امرأة وقوله تعالى وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ أي عن استغفار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر تعالى أن استغفاره لا ينفعهم فقال سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ قال قتادة نزلت هذه الآية بعد قوله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وذلك لأنها لما نزلت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خيرني ربي فلأزيدنهم على السبعين ) فأنزل الله تعالى لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ قال ابن عباس المنافقين وقال قوم فيه بيان أن الله تعالى يملك هداية وراء هداية البيان وهي خلق فعل الاهتداء فيمن علم منه ذلك وقيل معناه لا يهديهم لفسقهم وقالت المعتزلة لا يسميهم المهتدين إذا فسقوا وضلوا وفي الآية مباحث
البحث الأول لم شبههم بالخشب المسندة لا بغيره من الأشياء المنتفع بها نقول لاشتمال هذا التشبيه على فوائد كثيرة لا توجد في الغير الأولى قال في ( الكشاف ) شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط ولأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع ويجوز أن يراد بها الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحائط شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جداوهم الثانية الخشب المسندة في الأصل كانت غصناً طرياً يصلح لأن يكون من الأشياء المنتفع بها ثم تصير غليظة يابسة والكافر والمنافق كذلك كان في الأصل صالحاً لكذا وكذا ثم يخرج عن تلك الصلاحية الثالثة الكفرة من جنس الإنس حطب كما قال تعالى حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( الأنبياء 98 ) والخشب المسندة حطب أيضاً الرابعة أن الخشب المسندة إلى الحائط أحد طرفيها إلى جهة والآخر إلى جهة أخرى والمنافقون كذلك لأن المنافق أحد طرفيه وهو الباطن إلى جهة أهل الكفر والطرف الآخر وهو الظاهر إلى جهة أهل الإسلام الخامسة المعتمد عليه الخشب المسندة ما يكون من الجمادات والنباتات والمعتمد عليه للمنافقين كذلك وإذا كانوا من المشركين إذ هو الأصنام إنها من الجمادات أو النباتات
الثاني من المباحث أنه تعالى شبهم بالخشب المسندة ثم قال من بعد ما ينافي هذا التشبيه وهو(30/15)
قوله تعالى يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَة ٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ ( المنافقون 4 ) والخشب المسندة لا يحسبون أصلاً نقول لا يلزم أن يكون المشبه والمشبه به يشتركان في جميع الأوصاف فهم كالخشب المسندة بالنسبة إلى الانتفاع وعدم الانتفاع وليسوا كالخشب المسندة بالنسبة إلى الاستماع وعدم الاستماع للصيحة وغيرها
الثالث قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ولم يقل القوم الكافرين أو المنافقين أو المستكبرين مع أن كل واحد منهم من جملة ما سبق ذكره نقول كل أحد من تلك الأقوام داخل تحت قوله الْفَاسِقِينَ أي الذين سبق ذكرهم وهم الكافرون والمنافقون والمستكبرون
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَة ِ لَيُخْرِجَنَّ الاٌّ عَزُّ مِنْهَا الاٌّ ذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
أخبر الله تعالى بشنيع مقالتهم فقال هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ كذا وكذا وينفضوا أي يتفرقوا وقرىء حَتَّى يَنفَضُّواْ من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم قال المفسرون اقتتل أجير عمر مع أجير عبد الله بن أبي في بعض الغزوات فأسمع أجير عمر عبد الله بن أبي المكروه واشتد عليه لسانه فغضب عبد الله وعنده رهط من قومه فقال أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أقبل على قومه فقال لو أمسكتم النفقة عن هؤلاء يعني المهاجرين لأوشكوا أن يتحولوا عن دياركم وبلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فنزلت وقرىء لَيُخْرِجَنَّ بفتح الياء وقرأ الحسن وابن أبي عيلة لَنَخْرُجَنَّ بالنون ونصب الأعز والأذل وقوله تعالى وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قال مقاتل يعني مفاتيح الرزق والمطر والنبات والمعنى أن الله هو الرزاق قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( يونس 31 ) وقال أهل المعاني خزائن الله تعالى مقدوراته لأن فيها كل ما يشاء مما يريد إخراجه وقال الجنيد خزائن الله تعالى في السموات الغيوب وفي الأرض القلوب وهو علام الغيوب ومقلب القلوب وقوله تعالى وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ أي لا يفقهون أن أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ي س 82 ) وقوله يقولون لَئِن رَّجَعْنَا أي من تلك الغزوة وهي غزوة بني المصطلق إلى المدينة فرد الله تعالى عليه وقال وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ أي الغلبة والقوة ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وعزهم بنصرته إياهم وإظهار دينهم على سائر الأديان وأعلم رسوله بذلك ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ولو علموه ما قالوا مقالتهم هذه قال صاحب ( الكشاف ) وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلاً قال له إن الناس يزعمون أن(30/16)
فيك تيهاً قال ليس بتيه ولكنه عزة فإن هذا العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه وتلا هذه الآية قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى العزة غير الكبر ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلها فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة وتختلف من حيث الحقيقة كاشتباه التواضع بالضعة والتواضع محمود والضعة مذمومة والكبر مذموم والعزة محمودة ولما كانت غير مذمومة وفيها مشاكلة للكبر قال تعالى ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وفيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوف على صراط العزة المنصوب على متن نار الكبر فإن قيل قال في الآية الأولى لاَّ يَفْقَهُونَ وفي الأخرى لاَّ يَعْلَمُونَ فما الحكمة فيه فنقول ليعلم بالأول قلة كياستهم وفهمهم وبالثاني كثرة حماقتهم وجهلهم ولا يفقهون من فقه يفقه كعلم يعلم ومن فقه يفقه كعظم يعظم والأول لحصول الفقه بالتكلف والثاني لا بالتكلف فالأول علاجي والثاني مزاجي
ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
لاَ تُلْهِكُمْ لا تشغلكم كما شغلت المنافقين وقد اختلف المفسرون منهم من قال نزلت في حق المنافقين ومنهم من قال في حق المؤمنين وقوله عَن ذِكْرِ اللَّهِ عن فرائض الله تعالى نحو الصلاة والزكاة والحج أو عن طاعة الله تعالى وقال الضحاك الصلوات الخمس وعند مقاتل هذه الآية وما بعدها خطاب للمنافقين الذين أفروا بالإيمان وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ أي ألهاه ماله وولده عن ذكر الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أي في تجارتهم حيث باعوا الشريف الباقي بالخسيس الفاني وقيل هم الخاسرون في إنكار ما قال به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من التوحيد والبعث
وقال الكلبي الجهاد وقيل هو القرآن وقيل هو النظر في القرآن والتفكر والتأمل فيه وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ قال ابن عباس يريد زكاة المال ومن للتبعيض وقيل المراد هو الإنفاق الواجب مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي دلائل الموت وعلاماته فيسأل الرجعة إلى الدنيا وهو قوله رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ وقيل حضهم على إدامة الذكر وأن لا يضنوا بالأموال أي هلا أمهلتني وأخرت أجلي إلى زمان(30/17)
قليل وهو الزيادة في أجله حتى يتصدق ويتزكى وهو قوله تعالى فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس هذا دليل على أن القوم لم يكونوا مؤمنين إذ المؤمن لا يسأل الرجعة وقال الضحاك لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤد الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة وقرأ هذه الآية وقال صاحب ( الكشاف ) من قبل أن يعاين ما ييأس معه من الإمهال ويضيق به الخناق ويتعذر عليه الإنفاق ويفوت وقت القبول فيتحسر على المنع ويعض أنامله على فقد ما كان متمكناً منه وعن ابن عباس تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل وقوله وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس أحج وقرىء فأكون وهو على لفظ فأصدق وأكون قال المبرد وأكون على ما قبله لأن قوله فَأَصَّدَّقَ جواب للاستفهام الذي فيه التمني والجزم على موضع الفاء وقرأ أبي فأتصدق على الأصل وأكن عطفاً على موضع فأصدق وأنشد سيبويه أبياتاً كثيرة في الحمل على الموضع منها معاوى إننا بشر فأسجح
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب الحديد عطفاً على المحل والباء في قوله بالجبال للتأكيد لا لمعنى مستقبل يجوز حذفه وعكسه قول ابن أبي سلمى بدا لي أني لست مدرك ماضي
ولا سابق شيئاً إذا كان جاثياً
توهم أنه قال بمدرك فعطف عليه قوله سابق عطفاً على المفهوم وأما قراءة أبي عمرو وأكون فإنه حمله على اللفظ دون المعنى ثم أخبر تعالى أنه لا يؤخر من انقضت مدته وحضر أجله فقال الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً يعني عن الموت إذا جاء أجلها قال في ( الكشاف ) هذا نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي وبالجملة فقوله لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ تنبيه على الذكر قبل الموت وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ تنبيه على الشكر لذلك وقوله تعالى وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي لو رد إلى الدنيا ما زكى ولا حج ويكون هذا كقوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) والمفسرون على أن هذا خطاب جامع لكل عمل خيراً أو شراً وقرأ عاصم يعملون بالياء على قوله وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً لأن النفس وإن كان واحداً في اللفظ فالمراد به الكثير فحمل على المعنى والله أعلم وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين(30/18)
سورة التغابن
ثمان عشرة آية مكية
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
وجه التعلق بما قبلها ظاهر لما أن تلك السورة للمنافقين الكاذبين وهذه السورة للمنافقين الصادقين وأيضاً تلك السورة مشتملة على بطالة أهل النفاق سراً وعلانية وهذه السورة على ما هو التهديد البالغ لهم وهو قوله تعالى يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ وأما الأول بالآخر فلأن في آخر تلك السورة التنبيه على الذكر والشكر كما مر وفي أول هذه إشارة إلى أنهم إن أعرضوا عن الذكر والشكر قلنا من الخلق قوم يواظبون على الذكر والشكر دائماً وهم الذين يسبحون كما قال تعالى يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وقوله تعالى لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ معناه إذا سبح لله ما في السموات وما في الأرض فله الملك وله الحمد ولما كان له الملك فهو متصرف في ملكه والتصرف مفتقر إلى القدرة فقال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وقال في ( الكشاف ) قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى وذلك لأن الملك في الحقيقة له لأنه مبدىء لكل شيء ومبدعه والقائم به والمهيمن عليه كذلك الحمد فإن أصول النعم وفروعها منه وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده وقوله تعالى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ قيل معناه وهو على كل شيء أراده قدير وقيل قدير يفعل ما يشاء بقدر ما يشاء لا يزيد عليه ولا ينقص وقد مر ذلك وفي الآية مباحث
الأول أنه تعالى قال في الحديد سَبِّحِ ( الحديد ) والحشر والصف كذلك وفي الجمعة والتغابن يُسَبّحُ لِلَّهِ فما الحكمة فيه نقول الجواب عنه قد تقدم
البحث الثاني قال في موضع سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الحشر 1 ) وفي موضع(30/19)
آخر سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الحديد 1 ) فما الحكمة فيه قلنا الحكمة لا بد منها ولا نعلمها كما هي لكن نقول ما يخطر بالبال وهو أن مجموع السموات والأرض شيء واحد وهو عالم مؤلف من الأجسام الفلكية والعنصرية ثم الأرض من هذا المجموع شيء والباقي منه شيء آخر فقوله تعالى يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ بالنسبة إلى هذا الجزء من المجموع وبالنسبة إلى ذلك الجزء منه كذلك وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال قال تعالى في بعض السور كذا وفي البعض هذا ليعلم أن هذا العالم الجسماني من وجه شيء واحد ومن وجه شيئان بل أشياء كثيرة والخلق في المجموع غير ما في هذا الجزء وغير ما في ذلك أيضاً ولا يلزم من وجود الشيء في المجموع أن يوجد في كل جزء من أجزائه إلا بدليل منفصل فقوله تعالى سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على سبيل المبالغة من جملة ذلك الدليل لما أنه يدل على تسبيح ما في السموات وعلى تسبيح ما في الأرض كذلك بخلاف قوله تعالى سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
ثم قال تعالى
هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ
قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه تعالى خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمناً وكافراً وقال عطاء إنه يريد فمنكم مصدق ومنكم جاحد وقال الضحاك مؤمن في العلانية كافر في السر كالمنافق وكافر في العلانية مؤمن في السر كعمار بن ياسر قال الله تعالى إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 ) وقال الزجاج فمنكم كافر بأنه تعالى خلقه وهو من أهل الطبائع والدهرية ومنكم مؤمن بأنه تعالى خلقه كما قال قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَى ّ شَى ْء خَلَقَهُ ( عيس 17 18 ) وقال أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ( الكهف 37 ) وقال أبو إسحاق خلقكم في بطون أمهاتكم كفاراً ومؤمنين وجاء في بعض التفاسير أن يحي خلق في بطن أمه مؤمناً وفرعون خلق في بطن أمه كافراً دل عليه قوله تعالى أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وقوله تعالى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين من أعمالكم والمعنى أنه تعالى تفضل عليكم بأصل النعم التي هي الخلق فأنظروا النظر الصحيح وكونوا بأجمعكم عباداً شاكرين فما فعلتم مع تمكنكم بل تفرقتم فرقاً فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ أي بالإرادة القديمة على وفق الحكمة ومنهم من قال بالحق أي للحق وهو البعث وقوله وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ يحتمل وجهين أحدهما أحسن أي أتقن وأحكم على وجه لا يوجد بذلك الوجه في الغير وكيف يوجد وقد وجد في أنفسهم من القوى الدالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته دلالة مخصوصة لحسن هذه الصورة وثانيهما أن نصرف الحسن إلى حسن المنظر فإن من نظر في قد الإنسان وقامته وبالنسبة بين أعضائه فقد علم أن صورته أحسن صورة وقوله تعالى وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي البعث وإنما أضافه(30/20)
إلى نفسه لأنه هو النهاية في خلقهم والمقصود منه ثم قال تعالى وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ لأنه لا يلزم من خلق الشيء أن يكون مصوراً بالصورة ولا يلزم من الصورة أن تكون على أحسن الصور ثم قال وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي المرجع ليس إلا له وقوله تعالى يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ نبه بعلمه ما في السموات والأرض ثم بعلمه ما يسره العباد وما يعلنونه ثم بعلمه ما في الصدور من الكليات والجزئيات على أنه لا يخفى عليه شيء لما أنه تعالى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة ألبتة أزلاً وأبداً وفي الآية مباحث
الأول أنه تعالى حكيم وقد سبق في علمه أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر والإصرار عليه فأي حكمة دعته إلى خلقهم نقول إذا علمنا أنه تعالى حكيم علمنا أن أفعاله كلها على وفق الحكمة وخلق هذه الطائفة فعله فيكون على وفق الحكمة ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة
الثاني قال وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وقد كان من أفراد هذا النوع من كان مشوه الصورة سمج الخلقة نقول لا سماجة ثمة لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطاً بيناً لا يظهر حسنه وإلا فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حده
الثالث قوله تعالى وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يوهم الانتقال من جانب إلى جانب وذلك لا يمكن إلا أن يكون الله في جانب فكيف هو قلت ذلك الوهم بالنسبة إلينا وإلى زماننا لا بالنسبة إلى ما يكون في نفس الأمر فإن نفس الأمر بمعزل عن حقيقة الانتقال من جانب إلى جانب إذا كان المنتقل إليه منزهاً عن الجانب وعن الجهة
ثم قال تعالى
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَالِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِى ٌّ حَمِيدٌ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
اعلم أن قوله أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ خطاب لكفار مكة وذلك إشارة إلى الويل الذي ذاقوه في الدنيا وإلى ما أعد لهم من العذاب في الآخرة فقوله فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ أي شدة أمرهم مثل قوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وقوله ذالِكَ بِأَنَّهُ أي بأن الشأن والحديث أنكروا أن يكون الرسول بشراً ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً فكفروا وتولوا وكفروا بالرسل وأعرضوا واستغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم من الأزل وقوله تعالى وَاللَّهُ غَنِى ٌّ حَمِيدٌ من جملة ما سبق والحميد بمعنى المحمود أي المستحق للحمد بذاته ويكون بمعنى الحامد وقوله تعالى زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ قال في ( الكشاف ) الزعيم(30/21)
ادعاء العلم ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( زعموا مطية الكذب ) وعن شريح لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا ويتعدى إلى مفعولين تعدى العلم قال الشاعر ولم أزعمك عن ذلك معزولا
والذين كفروا هم أهل مكة بَلَى إثبات لما بعد أن وهو البعث وقيل قوله تعالى قُلْ بَلَى وَرَبّى يحتمل أن يكون تعليماً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أي يعلمه القسم تأكيداً لما كان يخبر عن البعث وكذلك جميع القسم في القرآن وقوله تعالى وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لا يصرفه صارف وقيل إن أمر البعث على الله يسير لأنهم أنكروا البعث بعد أن صاروا تراباً فأخبر أن إعادتهم أهون في العقول من إنشائهم وفي الآية مباحث
الأول قوله فَكَفَرُواْ يتضمن قوله وَتَوَلَّواْ فما الحاجة إلى ذكره نقول إنهم كفروا وقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية وذلك هو التولي فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدل على التولي ولهذا قال فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ
الثاني قوله وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ يوهم وجود التولي والاستغناء معاً والله تعالى لم يزل غنياً قال في ( الكشاف ) معناه أنه ظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك
الثالث كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث وهم قد أنكروا رسالته نقول إنهم وإن أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً لا مزيد عليه فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون صدق هذا الإخبار أظهر من الشمس عنده وفي اعتقاده والفائدة في الإخبار مع القسم ليس إلا هذا ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسم بعد قسم
ولما بالغ في الإخبار عن البعث والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان قال
فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
قوله فَئَامِنُواْ يجوز أن يكون صلة لما تقدم لأنه تعالى لما ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية وذلك لكفرهم بالله وتكذيب الرسل قال فَئَامِنُواْ أنتم بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة وَالنّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا وهو القرآن فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات وإنما ذكر النور الذي هو القرآن لما أنه مشتمل على الدلالات الظاهرة على البعث ثم ذكر في ( الكشاف ) أنه عنى برسوله(30/22)
والنور محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي بما تسرون وما تعلنون فراقبوه وخافوه في الحالين جميعاً وقوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يريد به يوم القيامة جمع فيه أهل السموات وأهل الأرض و ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ والتغابن تفاعل من الغبن في المجازاة والتجارات يقال غبنه يغبنه غبناً إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته قال ابن عباس رضي الله عنهما إن قوماً في النار يعذبون وقوماً في الجنة يتنعمون وقيل هو يوم يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل وأهل الهدى أهل الضلالة وأهل الإيمان أهل الكفر فلا غبن أبين من هذا وفي الجملة فالغبن في البيع والشراء وقد ذكر تعالى في حق الكافرين أنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة واشتروا الضلالة بالهدى ثم ذكر أنهم ما ربحت تجارتهم ودل المؤمنين على تجارة رابحة فقال هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَة ٍ ( الصف 10 ) الآية وذكر أنهم باعوا أنفسهم بالجنة فخسرت صفقة الكفار وربحت صفقة المؤمنين وقوله تعالى وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يؤمن بالله على ما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة والنار وغير ذلك ويعمل صالحاً أي يعمل في إيمانه صالحاً إلى أن يموت قرىء يجمعكم ويكفر ويدخل بالياء والنون وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أي بوحدانية الله تعالى وبقدرته وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أي بآياته الدالة على البعث أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ثم في الآية مباحث
الأول قال قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ بطريق الإضافة ولم يقل ونوره الذي أنزلنا بطريق الإضافة مع أن النور ههنا هو القرآن والقرآن كلامه ومضاف إليه نقول الألف واللام في النور بمعنى الإضافة كأنه قال ورسوله ونوره الذي أنزلنا
الثاني بم انتصب الظرف نقول قال الزجاج بقوله لَتُبْعَثُنَّ وفي ( الكشاف ) بقوله لَتُنَبَّؤُنَّ أو بخبير لما فيه من معنى الوعيد كأنه قيل والله معاقبكم يوم يجمعكم أو بإضمار اذكر
الثالث قال تعالى في الإيمان وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ بلفظ المستقبل وفي الكفر وقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بلفظ الماضي فنقول تقدير الكلام ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآيتاتنا يدخله جنات ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار
الرابع قال تعالى وَمَن يُؤْمِن بلفظ الواحد و خَالِدِينَ فِيهَا بلفظ الجمع نقول ذلك بحسب اللفظ وهذا بحسب المعنى
الخامس ما الحكمة في قوله وَبِئْسَ الْمَصِيرُ بعد قوله خَالِدِينَ فِيهَا وذلك بئس المصير فنقول ذلك وإن كان في معناه فلا يدل عليه بطريق التصريح فالتصريح مما يؤكده(30/23)
ثم قال تعالى
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
قوله تعالى إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمر الله قاله الحسن وقيل بتقدير الله وقضائه وقيل بإرادة الله تعالى ومشيئته وقال ابن عباس رضي الله عنهما بعلمه وقضائه وقوله تعالى يَهْدِ قَلْبَهُ أي عند المصيبة أو عند الموت أو المرض أو الفقر أو القحط ونحو ذلك فيعلم أنها من الله تعالى فيسلم لقضاء الله تعالى ويسترجع فذلك قوله يَهْدِ قَلْبَهُ أي للتسليم لأمر الله ونظيره قوله الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَة ٌ إلى قوله أُولَائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( البقرة 156 157 ) قال أهل المعاني يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما يهد قلبه إلى ما يحب ويرضى وقرىء أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ بالنون وعن عكرمة يَهْدِ قَلْبَهُ بفتح الدال وضم الياء وقرىء يهدأ قال الزجاج هدأ قلبه يهدأ إذا سكن والقلب بالرفع والنصب ووجه النصب أن يكون مثل مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ يحتمل أن يكون إشارة إلى اطمئنان القلب عند المصيبة وقيل عليم بتصديق من صدق رسوله فمن صدقه فقد هدى قلبه وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فيما جاء به من عند الله يعني هونوا المصائب والنوازل واتبعوا الأوامر الصادرة من الله تعالى ومن الرسول فيما دعاكم إليه
وقوله فَإِن تَوَلَّيْتُمْ أي عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ الظاهر والبيان البائن وقوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ يحتمل أن يكون هذا من جملة ما تقدم من الأوصاف الحميدة لحضرة الله تعالى من قوله لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ ( التغابن 1 ) فإن من كان موصوفاً بهذه الصفات ونحوها فَهُوَ الَّذِى لا إله إِلاَّ هُوَ أي لا معبود إلا هو ولا مقصود إلا هو عليه التوكل في كل باب وإليه المرجع والمآب وقوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بيان أن المؤمن لا يعتمد إلا عليه ولا يتقوى إلا به لما أنه يعتقد أن القادر بالحقيقة ليس إلا هو وقال في ( الكشاف ) هذا بعث لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على التوكل عليه والتقوى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه فإن قيل كيف يتعلق مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ بما قبله ويتصل به نقول يتعلق بقوله تعالى قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ ( التغابن 8 ) لما أن من يؤمن بالله فيصدقه يعلم ألا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله(30/24)
ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاًّنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
قال الكلبي كان الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به بنوه وزوجته فقالوا أنت تذهب وتذرنا ضائعين فمنهم من يطيع أهله ويقيم فحذرهم الله طاعة نسائهم وأولادهم ومنهم من لا يطيع ويقول أما والله لو لم نهاجر ويجمع الله بيننا وبينكم في دار الهجرة لا ننفعكم شيئاً أبداً فلما جمع الله بينهم أمرهم أن ينفقوا ويحسنوا ويتفضلوا وقال مسلم الخراساني نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان أهله وولده يثبطونه عن الهجرة والجهاد وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة فلم يدعهم أزواجهم وأولادهم فهو قوله عدواً لكم فاحذروهم أن تطيعوا وتدعوا الهجرة وقوله تعالى وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ قال هو أن الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوا بالهجرة وفقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجته وولده الذين منعوه الهجرة وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم ولم يصبهم بخير فنزل وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ الآية يعني أن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم ينهون عن الإسلام ويثبطون عنه وهم من الكفار فاحذروهم فظهر أن هذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإيمان ولا تكون بين المؤمنين فأزواجهم وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدواً لهم وفي هؤلاء الأزواج والأولاد الذين منعوا عن الهجرة نزل إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تطيعوهم في معصية الله تعالى وفتنة أي بلاء وشغل عن الآخرة وقيل أعلم الله تعالى أن الأموال والأولاد من جميع ما يقع بهم في الفتنة وهذا عام يعم جميع الأولاد فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه وباشر الفعل الحرام لأجله كغصب مال الغير وغيره وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي جزيل وهو الجنة أخبر أن عنده أجراً عظيماً ليتحملوا المؤونة العظيمة والمعنى لا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم وقوله تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قال مقاتل أي ما أطقتم يجتهد المؤمن في تقوى الله ما استطاع قال قتادة نسخت هذه الآية قوله تعالى اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( آل عمران 102 ) ومنهم من طعن فيه وقال لا يصح لأن قوله تعالى اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون لأنه فوق الطاقة والاستطاعة وقوله اسمعوا أي لله ولرسوله ولكتابه وقيل لما أمركم الله ورسوله به اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الله فيما يأمركم وَأَنْفِقُواْ من أموالكم في حق الله خيراً لأنفسكم والنصب بقوله وَأَنْفِقُواْ كأنه قيل وقدموا خيراً لأنفسكم وهو كقوله يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ ( النساء 170 ) وقوله تعالى وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الشح هو البخل وإنه يعم المال وغيره يقال فلان شحيح بالمال وشحيح بالجاه وشحيح بالمعروف وقيل يوق ظلم نفسه فالشح هو الظلم ومن كان بمعزل عن الشح فذلك من أهل الفلاح فإن قيل إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ يدل على أن الأموال والأولاد كلها من الأعداء و إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ يدل على أن بعضهم من الأعداء دون البعض فنقول هذا في حيز المنع فإنه لا يلزم أن يكون البعض من المجموع الذي مر ذكره من الأولاد يعني من الأولاد من يمنع ومنهم من لا يمنع فيكون البعض منهم عدواً دون البعض(30/25)
ثم قال تعالى
إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
اعلم أن قوله إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي إن تنفقوا في طاعة الله متقاربين إليه يجزكم بالضعف لما أنه شكور يحب المتقربين إلى حضرته حليم لا يعجل بالعقوبة غفور يغفر لكم والقرض الحسن عند بعضهم هو التصدق من الحلال وقيل هو التصدق بطيبة نفسه والقرض هو الذي يرجى مثله وهو الثواب مثل الإنفاق في سبيل الله وقال في ( الكشاف ) ذكر القرض تلطف في الاستدعاء وقوله يُضَاعِفْهُ لَكُمْ أي يكتب لكم بالواحدة عشرة وسبعمائة إلى ما شاء من الزيادة وقرىء ( يضعفه ) شَكُورٍ مجاز أي يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب وكذلك حليم يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء فلا يعاجلكم بالعذاب مع كثرة ذنوبكم ثم لقائل أن يقول هذه الأفعال مفتقرة إلى العلم والقدرة والله تعالى ذكر العلم دون القدرة فقال عَالِمُ الْغَيْبِ فنقول قوله الْعَزِيزُ يدل على القدرة من عز إذا غلب و الْحَكِيمُ على الحكمة وقيل العزيز الذي لا يعجزه شيء والحكيم الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير والله تعالى كذلك فيكون عالماً قادراً حكيماً جل ثناؤه وعظم كبرياؤه والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً(30/26)
سورة الطلاق
إثنتا عشرة آية مدنية
ياأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّة َ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيِّنَة ٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً
الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّة َ
أما التعلق بما قبلها فذلك أنه تعالى قال في أول تلك السورة لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ ( التغابن 1 ) والملك يفتقر إلى التصرف على وجه يحصل منه نظام الملك والحمد يفتقر إلى أن ذلك التصرف بطريق العدل والإحسان في حق المتصرف فيه وبالقدرة على من يمنعه عن التصرف وتقرير الأحكام في هذه السورة متضمن لهذه الأمور المفتقرة إليها تضمناً لا يفتقر إلى التأمل فيه فيكون لهذه السورة نسبة إلى تلك السورة وأما الأول بالآخر فلأنه تعالى أشار في آخر تلك السورة إلى كمال علمه بقوله عَالِمُ الْغَيْبِ ( التغابن 18 ) وفي أول هذه السورة إلى كمال علمه بمصالح النساء وبالأحكام المخصوصة بطلاقهن فكأنه بين ذلك الكلي بهذه الجزئيات وقوله الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طلق حفصة فأتت إلى أهلها فنزلت وقيل راجعها فإنها صوامة قوامة وعلى هذا إنما نزلت الآية بسبب خروجها إلى أهلها لما طلقها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله في هذه الآية وَلاَ يَخْرُجْنَ مِن بُيُوتِهِنَّ وقال الكلبي إنه عليه السلام غضب على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة فنزلت وقال السدي نزلت في عبد الله بن عمر لما طلق امرأته حائضاً والقصة في ذلك مشهورة وقال مقاتل إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل ابن عمر وهم عمرو بن سعيد بن العاص وعتبة بن غزوان فنزلت فيهم وفي قوله تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء وجهان أحدهما أنه نادى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم خاطب أمته لما أنه سيدهم وقدوتهم فإذا خوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب قال أبو إسحق هذا خطاب النبي عليه السلام والمؤمنون داخلون معه في الخطاب وثانيهما أن المعنى يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء فأضمر القول وقال الفراء خاطبه وجعل الحكم للجميع كما تقول للرجل ويحك أما تتقون الله أما(30/27)
تستحيون تذهب إليه وإلى أهل بيته و إِذَا طَلَّقْتُمُ أي إذا أردتم التطليق كقوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ( المائدة 6 ) أي إذا أردتم الصلاة وقد مر الكلام فيه وقوله تعالى فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال عبد الله إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فيطلقها طاهراً من غير جماع وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل والحسن قالوا أمر الله تعالى الزوج بتطليق امرأته إذا شاء الطلاق في طهر لم يجامعها فيه وهو قوله تعالى لِعِدَّتِهِنَّ أي لزمان عدتهن وهو الطهر بإجماع الأمة وقيل لإظهار عدتهن وجماعة من المفسرين قالوا الطلاق للعدة أن يطلقها طاهرة من غير جماع وبالجملة فالطلاق في حال الطهر لازم وإلا لا يكون الطلاق سنياً والطلاق في السنة إنما يتصور في البالغة المدخول بها غير الآيسة والحامل إذ لا سنة في الصغير وغير المدخول بها والآيسة والحامل ولا بدعة أيضاً لعدم العدة بالأقراء وليس في عدد الطلاق سنة وبدعة على مذهب الشافعي حتى لو طلقها ثلاثاً في طهر صحيح لم يكن هذا بدعياً بخلاف ما ذهب إليه أهل العراق فإنهم قالوا السنة في عدد الطلاق أن يطلق كل طلقة في طهر صحيح وقال صاحب ( النظم ) فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ صفة للطلاق كيف يكون وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة للإضافة وهي أصلها ولبيان السبب والعلة كقوله تعالى إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ( الإنسان 9 ) وبمنزلة عند مثل قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( الإسراء 78 ) أي عنده وبمنزلة في مثل قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاِوَّلِ الْحَشْرِ ( الحشر 2 ) وفي هذه الآية بهذا المعنى لأن المعنى فطلقوهن في عدتهن أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن فقال صاحب ( الكشاف ) فطلقوهن مستقبلات لعدتهن كقوله أتيته لليلة بقيت من المحرم أي مستقبلاً لها وفي قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قبل عدتهن ) فإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة العدة المراد أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه يخلين إلى أن تنقضي عدتهن وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات وقال مالك بن أنس لا أعرف طلاقاً إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو متفرقة وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض ما هكذا أمرك الله تعالى إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح فمالك يراعى في طلاق السنة الواحدة والوقت وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت والشافعي يراعي الوقت وحده وقوله تعالى وَأَحْصُواْ الْعِدَّة َ أي أقراءها فاحتفظوا لها واحفظوا الحقوق والأحكام التي تجب في العدة واحفظوا نفس ما تعتدون به وهو عدد الحيض ثم جعل الإحصاء إلى الأزواج يحتمل وجهين أحدهما أنهم هم الذين يلزمهم الحقوق والمؤن وثانيهما ليقع تحصين الأولاد في العدة ثم في الآية مباحث
الأول ما الحكمة في إطلاق السنة وإطلاق البدعة نقول إنما سمي بدعة لأنها إذا كانت حائضاً لم تعتد بأيام حيضها عن عدتها بل تزيد على ثلاثة أقراء فتطول العدة عليها حتى تصير كأنها أربعة أقراء وهي في الحيض الذي طلقت فيه في صورة المعلقة التي لا هي معتدة ولا ذات بعل والعقول تستقبح الإضرار وإذا كانت طاهرة مجامعة لم يؤمن أن قد علقت من ذلك الجمع بولد ولو علم الزوج لم يطلقها وذلك أن الرجل(30/28)
قد يرغب في طلاق امرأته إذا لم يكن بينهما ولد ولا يرغب في ذلك إذا كانت حاملاً منه بولد فإذا طلقها وهي مجامعة وعنده أنها حائل في ظاهر الحال ثم ظهر بها حمل ندم على طلاقها ففي طلاقه إياها في الحيض سوء نظر للمرأة وفي الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه وقد حملت فيه سوء نظر للزوج فإذا طلقت وهي طاهر غير مجامعة أمن هذان الأمران لأنها تعتد عقب طلاقه إياها فتجري في الثلاثة قروء والرجل أيضاً في الظاهر على أمان من اشتمالها على ولد منه
الثاني هل يقع الطلاق المخالف للسنة نقول نعم وهو آثم لما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه فقال له ( أو تلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم )
الثالث كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو غير ذلك نقول الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر وقال محمد وزفر لا يطلق للسنة إلا واحدة وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة ولا يراعى الوقت
الرابع هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة نقول اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا والظاهر الكراهة
الخامس إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغار والحوامل فكيف يصح تخصيصه بذوات الأقراء والمدخول بهن نقول لا عموم ثمة ولا خصوص أيضاً لكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن فجاز أن يراد بالنساء هذا وذاك فلما قيل فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض كذا ذكره في ( الكشاف )
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ
قوله اتَّقُواْ اللَّهَ قال مقاتل اخشوا الله فلا تعصوه فيما أمركم و لاَ تُخْرِجُوهُنَّ أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن فيها قبل الطلاق فإن كانت المساكن عارية فارتجعت كان على الأزواج أن يعينوا مساكن أخرى بطريق الشراء أو بطريق الكراء أو بغير ذلك وعلى الزوجات أيضاً أن لا يخرجن حقاً لله تعالى إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت ليلاً أو نهاراً كان ذلك الخروج حراماً ولا تنقطع العدة
وقوله تعالى إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ قال ابن عباس هو أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن(30/29)
قال الضحاك الأكثرون فالفاحشة على هذا القول هي الزنا وقال ابن عمر الفاحشة خروجهن قبل انقضاء العدة قال السدي والباقون الفاحشة المبينة هي العصيان المبين وهو النشوز وعن ابن عباس إلا أن يبذون فيحل إخراجهن لبذائهن وسوء خلقهن فيحل للأزواج إخراجهن من بيوتهن وفي الآية مباحث
البحث الأول هل للزوجين التراضي على إسقاطها نقول السكنى الواجبة في حال قيام الزوجية حق للمرأة وحدها فلها إبطالها ووجه هذا أن الزوجين ما داما ثابتين على النكاح فإنما مقصودهما المعاشرة والاستمتاع ثم لا بد في تمام ذلك من أن تكون المرأة مستعدة له لأوقات حاجته إليها وهذا لا يكون إلا بأنه يكفيها في نفقتها كطعامها وشرابها وأدمها ولباسها وسكناها وهذه كلها داخلة في إحصاء الأسباب التي بها يتم كل ما ذكرنا من الاستمتاع ثم ما وراء ذلك من حق صيانة الماء ونحوها فإن وقعت الفرقة زال الأصل الذي هو الانتفاع وزواله بزوال الأسباب الموصلة إليه من النفقة عليها واحتيج إلى صيانة الماء فصارت السكنى في هذه الحالة بوجوبها الإحصاء لأسبابها لأن أصلها السكنى لأن بها تحصينها فصارت السكنى في هذه الحالة لا اختصاص لها بالزوج وصيانة الماء من حقوق الله ومما لا يجوز التراضي من الزوجين على إسقاطه فلم يكن لها الخروج وإن رضي الزوج ولا إخراجها وإن رضيت إلا عن ضرورة مثل انهدام المنزل وإخراج غاصب إياها أو نقلة من دار بكراء قد انقضت إجارتها أو خوف فتنة أو سيل أو حريق أو غير ذلك من طريق الخوف على النفس فإذا انقضى ما أخرجت له رجعت إلى موضعها حيث كان الثاني قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ ولم يقل واتقوا الله مقصوراً عليه فنقول فيه من المبالغة ما ليس في ذلك فإن لفظ الرب ينبههم على أن التربية التي هي الإنعام والإكرام بوجوه متعددة غاية التعداد فيبالغون في التقوى حينئذ خوفاً من فوت تلك التربية الثاني ما معنى الجمع بين إخراجهم وخروجهن نقول معنى الإخراج أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك إيذاناً بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك الثالث قرىء بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ و مُّبَيّنَة ٍ فمن قرأ مبينة بالخفض فمعناه أن نفس الفاحشة إذا تفكر فيها تبين أنها فاحشة ومن قرأ مُّبَيّنَة ٍ بالفتح فمعناه أنها مبرهنة بالبراهين ومبينة بالحجج وقوله وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ والحدود هي الموانع عن المجاوزة نحو النواهي والحد في الحقيقة هي النهاية التي ينتهي إليها الشيء قال مقاتل يعود ما ذكر من طلاق السنة وما بعده من الأحكام وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ وهذا تشديد فيمن يتعدى طلاق السنة ومن يطلق لغير العدة فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي ضر نفسه ولا يبعد أن يكون المعنى ومن يتجاوز الحد الذي جعله الله تعالى فقد وضع نفسه موضعاً لم يضعه فيه ربه والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه وقوله تعالى لا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً قال ابن عباس يريد الندم على طلاقها والمحبة لرجعتها في العدة وهو دليل على أن المستحب في التطليق أن يوقع متفرقاً قال أبو إسحق إذا طلقها ثلاثاً في وقت واحد فلا معنى في قوله لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً(30/30)
ثم قال تعالى
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَة َ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَى ْءٍ قَدْراً
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي قاربن انقضاء أجل العدة لا انقضاء أجلهن والمراد من بلوغ الأجل هنا مقاربة البلوغ وقد مر تفسيره قال صاحب ( الكشاف ) هو آخر العدة وشارفته فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة وإتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر العدة ثم يطلقها تطويلاً للعدة وتعذيباً لها
وقوله تعالى وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ أي أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة ذوي عدل وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كما في قوله وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ( البقرة 282 ) وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة وقيل فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث وقيل الإشهاد إنما أمروا به للاحتياط مخافة أن تنكر المرأة المراجعة فتنقضي العدة فتنكح زوجاً ثم خاطب الشهداء فقال وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَة َ وهذا أيضاً مر تفسيره وقوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً قال الشعبي من يطلق للعدة يجعل الله له سبيلاً إلى الرجعة وقال غيره مخرجاً من كل أمر ضاق على الناس قال الكلبي ومن يصبر على المصيبة يجعل الله له مخرجاً من النار إلى الجنة وقرأها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة وقال أكثر أهل التفسير أنزل هذا وما بعده في عوف بن مالك الأشجعي أسر العدو ابناً له فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذكر له ذلك وشكا إليه الفاقة فقال له ( اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ) ففعل الرجل ذلك فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلاً وجاء بها إلى أبيه وقال صاحب ( الكشاف ) فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها فذلك قوله ويرزقه من حيث لا يحتسب ويجوز أنه إن اتقى الله وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيق وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وقال في ( الكشاف ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة كما مر وقوله تعالى وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي من وثق به فيما ناله كفاه الله ما أهمه ولذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ) وقرىء إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ بالإضافة مَا أَمَرَهُ أي نافذ أمره وقرأ المفضل مَا أَمَرَهُ على أن قوله قَدْ جَعَلَ خبر ءانٍ و مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَى ْء قَدْراً أي تقديراً وتوقيتاً وهذا بيان لوجوب التوكل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه قال الكلبي ومقاتل لكل شيء من الشدة والرخاء أجل ينتهي إليه قدر الله تعالى ذلك كله لا يقدم(30/31)
ولا يؤخر وقال ابن عباس يريد قدرت ما خلقت بمشيئتي وقوله فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ إلى قوله مَخْرَجاً آية ومنه إلى قوله قَدْراً آية أخرى عند الأكثر وعند الكوفي والمدني المجموع آية واحدة ثم في هذه الآية لطيفة وهي أن التقوي في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال فقال تعالى وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وقريب من هذا قوله إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( النور 32 ) فإن قيل وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ يدل على عدم الاحتياج للكسب في طلب الرزق وقوله تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ( الجمعة 10 ) يدل على الاحتياج فكيف هو نقول لا يدل على الاحتياج لأن قوله فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ للإباحة كما مر والإباحة مما ينافي الاحتياج إلى الكسب لما أن الاحتياج مناف للتخيير
ثم قال تعالى
وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَة ُ أَشْهُرٍ وَاللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الاٌّ حْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
قوله وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية ذكر الله تعالى في سورة البقرة عدة ذوات الأقراء والمتوفى عنها زوجها وذكر عدة سائر النسوة اللائي لم يذكرن هناك في هذه السورة وروي أن معاذ بن جبل قال يا رسول الله قد عرفنا عدة التي تحيض فما عدة التي لم تحض فنزل وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ وقوله إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن أشكل عليكم حكمهن في عدة التي لا تحيض فهذا حكمهن وقيل إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ الإياس وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أو استحاضة فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَة ُ أَشْهُرٍ فلما نزل قوله تعالى فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَة ُ أَشْهُرٍ قام رجل فقال يا رسول الله فما عدة الصغيرة التي لم تحض فنزل وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ أي هي بمنزلة الكبيرة التي قد يئست عدتها ثلاثة أشهر فقام آخر وقال وما عدة الحوامل يا رسول الله فنزل وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ معناه أجلهن في انقطاع ما بينهن وبين الأزواج وضع الحمل وهذا عام في كل حامل وكان علي عليه السلام يعتبر أبعد الأجلين ويقول وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ( البقرة 234 ) لا يجوز أن يدخل في قوله وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ وذلك لأن أولات الأحمال إنما هو في عدة الطلاق وهي لا تنقض عدة الوفاة إذا كانت بالحيض وعند ابن عباس عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين وأما ابن مسعود فقال يجوز أن يكون قوله وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ مبتدأ خطاب ليس بمعطوف على قوله تعالى وَاللاَّئِى يَئِسْنَ ولما كان مبتدأ يتناول العدد كلها ومما يدل عليه خبر سبيعة بنت الحرث أنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمسة عشر يوماً فأمرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن تتزوج فدل على إباحة النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال وقال الحسن إن وضعت(30/32)
أحد الولدين انقضت عدتها واحتج بقوله تعالى أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ولم يقل أحمالهن لكن لا يصح وقرىء ( أحمالهن ) وقوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي ييسر الله عليه في أمره ويوفقه للعمل الصالح وقال عطاء يسهل الله عليه أمر الدنيا والآخرة وقوله ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ يعني الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله بطاعته ويعمل بما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يكفر عنه سيئاته من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ويعظم له في الآخرة أجراً قاله ابن عباس فإن قيل قال تعالى أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ولم يقل أن يلدن نقول الحمل اسم لجميع ما في بطنهن ولو كان كما قاله لكانت عدتهن بوضع بعض حملهن وليس كذلك
ثم قال تعالى
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَأاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنفِقْ ذُو سَعَة ٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ ءَاتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
قوله تعالى أَسْكِنُوهُنَّ وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ ( الطلاق 4 ) كأنه قيل كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات فقيل أَسْكِنُوهُنَّ قال صاحب ( الكشاف ) ( من ) صلة والمعنى أسكنوهن حيث سكنتم قال أبو عبيدة مّن وُجْدِكُمْ أي وسعكم وسعتكم وقال الفراء على قدر طاقتكم وقال أبو إسحاق يقال وجدت في المال وجداً أي صرت ذا مال وقرىء بفتح الواو أيضاً وبخفضها والوجد الوسع والطاقة وقوله وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ نهي عن مضارتهن بالتضييق عليهن في السكنى والنفقة وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وهذا بيان حكم المطلقة البائنة لأن الرجعية تستحق النفقة وإن لم تكن حاملاً وإن كانت مطلقة ثلاثاً أو مختلعة فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً وعند مالك والشافعي ليس للمبتوتة إلا السكنى ولا نفقة لها وعن الحسن وحماد لا نفقة لها ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا سكنى لك ولا نفقة وقوله أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن يعني حق الرضاع وأجرته وقد مر وهو دليل على أن اللبن وإن خلق لمكان الولد فهو ملك لها وإلا لم يكن لها أن تأخذ الأجر وفيه دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات وإلا لكان لها بعض الأجر دون الكل وقوله تعالى وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ قال عطاء يريد بفضل معروفاً منك وقال مقاتل بتراضي الأب والأم وقال المبرد ليأمر(30/33)
بعضكم بعضاً بالمعروف والخطاب للأزواج من النساء والرجال والمعروف ههنا أن لا يقصر الرجل في حق المرأة ونفقتها ولا هي في حق الولد ورضاعه وقد مر تفسير الائتمار وقيل الائتمار التشاور في إرضاعه إذا تعاسرت هي وقوله تعالى وَإِن تَعَاسَرْتُمْ أي في الأجرة فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى غير الأم ثم بين قدر الإنفاق بقوله لِيُنفِقْ ذُو سَعَة ٍ مّن سَعَتِهِ أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات على قدر سعتهم ومن كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على مقدار ذلك ونظيره عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ( البقرة 236 ) وقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا أي ما أعطاها من الرزق قال السدي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني وقوله سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي بعد ضيق وشدة غنى وسعة ورخاء وكان الغالب في ذلك الوقت الفقر والفاقة فأعلمهم الله تعالى أن يجعل بعد عسر يسراً وهذا كالبشارة لهم بمطلوبهم ثم في الآية مباحث
الأول إذا قيل ( من ) في قوله مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم ما هي نقول هي التبعيضية أي بعض مكان سكناكم إن لم يكن ( لكم ) غير بيت واحد فأسكنوها في بعض جوانبه
الثاني ما موقع مّن وُجْدِكُمْ نقول عطف بيان لقوله مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم وتفسير له أي مكاناً من مسكنكم على قدر طاقتكم
الثالث فإذا كانت كل مطلقة عندكم يجب لها النفقة فما فائدة الشرط في قوله تعالى وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ نقول فائدته أن مدة الحمل ربما طال وقتها فيظن أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار مدة الحمل فنفى ذلك الظن
ثم قال تعالى
وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَة ٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَة ُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الأَلْبَابِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً
قوله تعالى وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ الكلام في كأين قد مر وقوله عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وصف القرية بالعتو والمراد أهلها كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) قال ابن عباس عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا أي أعرضت عنه وقال مقاتل خالفت أمر ربها وخالفت رسله فحاسبناها حساباً شديداً فحاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها العذاب وهو قوله وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً أي عذاباً منكراً عظيماً فسر المحاسبة بالتعذيب وقال(30/34)
الكلبي هذا على التقديم والتأخير يعني فعذبناها في الدنيا وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً والمراد حساب الآخرة وعذابها فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا أي شدة أمرها وعقوبة كفرها وقال ابن عباس عاقبة كفرها وَكَانَ عَاقِبَة ُ أَمْرِهَا خُسْراً أي عاقبة عتوها خساراً في الآخرة وهو قوله تعالى أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً يخوف كفار مكة أن يكذبوا محمداً فينزل بهم ما نزل بالأمم قبلهم وقوله تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى أُوْلِى الالْبَابِ خطاب لأهل الإيمان أي فاتقوا الله عن أن تكفروا به وبرسوله وقوله قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً هو على وجهين أحدهما أنزل الله إليكم ذكراً هو الرسول وإنما سماه ذكراً لأنه يذكر ما يرجع إلى دينهم وعقباهم وثانيهما أنزل الله إليكم ذكراً وأرسل رسولاً وقال في ( الكشاف ) رَسُولاً هو جبريل عليه السلام أبدل من ذِكْراً لأنه وصف بتلاوة آيات الله فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر والذكر قد يراد به الشرف كما في قوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وقد يراد به القرآن كما في قوله تعالى وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ ( النحل 44 ) وقرىء ( رسول ) على هو رسول و يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايَاتِ اللَّهِ مُبَيّنَاتٍ بالخفض والنصب والآيات هي الحجج فبالخفض لأنها تبين الأمر والنبي والحلال والحرام ومن نصب يريد أنه تعالى أوضح آياته وبينها أنها من عنده
وقوله تعالى لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ يعني من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الشبهة إلى نور الحجة ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم
وفي الآية مباحث
الأولى قوله تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى أُوْلِى الالْبَابِ يتعلق بقوله تعالى وَكَأِيّن مّن قَرْيَة ٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا أم لا فنقول قوله فَاتَّقُواْ اللَّهَ يؤكد قول من قال المراد من قرية أهلها لما أنه يدل على أن خطاب الله تعالى لا يكون إلا لذوي العقول فمن لا عقل له فلا خطاب عليه وقيل قوله تعالى وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ مشتمل على الترهيب والترغيب
الثاني الإيمان هو التقوى في الحقيقة وأولوا الألباب الذين آمنوا كانوا من المتقدمين بالضرورة فكيف يقال لهم فَاتَّقُواْ اللَّهَ نقول للتقوى درجات ومراتب فالدرجة الأولى هي التقوى من الشرك والبواقي هي التقوى من المعاصي التي هي غير الشرك فأهل الإيمان إذا أمروا بالتقوى كان ذلك الأمر بالنسبة إلى الكبائر والصغائر لا بالنسبة إلى الشرك
الثالث كل من آمن بالله فقد خرج من الظلمات إلى النور وإذا كان كذلك فحق هذا الكلام وهو قوله تعالى لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءامَنُواْ أن يقال ليخرج الذين كفروا نقول يمكن أن يكون المراد ليخرج الذين يؤمنون على ما جاز أن يراد من الماضي المستقبل كما في قوله تعالى وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ( آل عمران 55 ) أي وإذ يقول الله ويمكن أن يكون ليخرج الذين آمنوا من ظلمات تحدث لهم بعد إيمانهم(30/35)
ثم قال تعالى وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً
قوله وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ فيه معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب وقرىء يُدْخِلْهُ بالياء والنون و قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ زُرْقاً قال الزجاج رزقه الله الجنة التي لا ينقطع نعيمها وقيل رِزْقاً أي طاعة في الدنيا وثواباً في الآخرة ونظيره رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( البقرة 201 )
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاٌّ مْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عِلْمَا
قال الكلبي خلق سبع سموات بعضها فوق بعض مثل القبة ومن الأرض مثلهن في كونها طباقاً متلاصقة كما هو المشهور أن الأرض ثلاث طبقات طبقة أرضية محضة وطبقة طينية وهي غير محضة وطبقة منكشفة بعضها في البحر وبعضها في البر وهي المعمورة ولا بعد في قوله وَمِنَ الاْرْضِ مِثْلَهُنَّ من كونها سبعة أقاليم على حسب سبع سموات وسبع كواكب فيها وهي السيارة فإن لكل واحد من هذه الكواكب خواص تظهر آثار تلك الخواص في كل إقليم من أقاليم الأرض فتصير سبعة بهذا الاعتبار فهذه هي الوجوه التي لا يأباها العقل وما عداها من الوجوه المنقولة عن أهل التفسير فذلك من جملة ما يأباها العقل مثل ما يقال السموات السبع أولها موج مكفوف وثانيها صخر وثالثها حديد ورابعها نحاس وخامسها فضة وسادسها ذهب وسابعها ياقوت وقول من قال بين كل واحدة منها مسيرة خمسمائة سنة وغلظ كل واحدة منها كذلك فذلك غير معتبر عند أهل التحقيق اللهم إلا أن يكون نقل متوتر ( اً ) ويمكن أن يكون أكثر من ذلك والله أعلم بأنه ما هو وكيف هو فقوله اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ مبتدأ وخبر وقرىء مِثْلَهُنَّ بالنصب عطفاً على سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وبالرفع على الإبتداء وخبره مّنَ الاْرْضِ وقوله تعالى يَتَنَزَّلُ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ قال عطاء يريد الوحي بينهن إلى خلقه في كل أرض وفي كل سماء وقال مقاتل يعني الوحي من السماء العليا إلى الأرض السفلى وقال مجاهد يَتَنَزَّلُ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ بحياة بعض وموت بعض وسلامة هذا وهلاك ذاك مثلاً وقال قتادة في كل سماء من سماواته وأرض من أرضه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه وقرىء يُنَزّلٍ الاْمْرُ بَيْنَهُنَّ قوله تعالى لّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ قرىء لِيَعْلَمُواْ بالياء والتاء أي لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السموات والأرض وما جرى من التدبير فيها أن من بلغت قدرته هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يكون لغيره كانت قدرته ذاتية لا يعجزه شيء عما أراده وقوله إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ من قبل ما تقدم ذكره وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَى ْء عِلْمَا يعني بكل شيء من الكليات والجزئيات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء عالم بجميع الأشياء وقادر على الإنشاء بعد الإفناء فتبارك الله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين(30/36)
سورة التحريم
اثنتا عشرة آية مدنية
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّلِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
أما التعلق بما قبلها فذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء واشتراك الخطاب بالطلاق في أول تلك السورة مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة لما كان الطلاق في الأكثر من الصور أو في الكل كما هو مذهب البعض مشتملاً على تحريم ما أحل الله وأما الأول بالآخر فلأن المذكور في آخر تلك السورة يدل على عظمة حضرة الله تعالى كما أنه يدل على كمال قدرته وكمال علمه لما كان خلق السموات والأرض وما فيهما من الغرائب والعجائب مفتقراً إليهما وعظمة الحضرة مما ينافي القدرة على تحريم ما أحل الله ولهذا قال تعالى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ واختلفوا في الذي حرمه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على نفسه قال في ( الكشاف ) روي أنه عليه الصلاة والسلام خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها اكتمي علي وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين وقيل خلا بها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية وروي أن عمر قال لها لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك فنزل جبريل عليه السلام وقال راجعها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وروي أنه ما طلقها وإنما نوه بطلاقها وروي أنه عليه الصلاة والسلام شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له إنا نشم منك ريح المغافير وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكره التفل فحرم العسل فمعناه لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل والأول قول الحسن ومجاهد وقتادة والشعبي ومسروق ورواية ثابت عن أنس قال مسروق حرم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أم ولده وحلف أن لا يقربها فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل له أما الحرام فحلال وأما اليمين التي حلفت عليها فقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وقال(30/37)
الشعبي كان مع الحرام يمين فعوتب في الحرام وإنما يكفر اليمين فذلك قوله تعالى قَدْ فَرَضَ اللَّهُ الآية قال صاحب ( النظم ) قوله لِمَ تُحَرّمُ استفهام بمعنى الإنكار والإنكار من الله تعالى نهي وتحريم الحلال مكروه والحلال لا يحرم إلا بتحريم الله تعالى وقوله تعالى تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْواجِكَ و تَبْتَغِى حال خرجت مخرج المضارع والمعنى لم تحرم مبتغياً مرضات أزواجك قال في ( الكشاف ) تَبْتَغِى إما تفسير لتحرم أو حال أو استئناف وهذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قد غفر لك ما تقدم من الزلة رَّحِيمٌ قد رحمك لم يؤاخذك به ثم في الآية مباحث
البحث الأول لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب وخطاب الوصف وهو النبي ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم فكيف هو نقول الظاهر أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن كما ينبغي
البحث الثاني تحريم ما أحل الله تعالى غير ممكن لما أن الإحلال ترجيح جانب الحل والتحريم ترجيح جانب الحرمة ولا مجال للاجتماع بين الترجيحين فكيف يقال لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ نقول المراد من هذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع بالأزواج لا اعتقاد كونه حراماً بعدما أحل الله تعالى فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) امتنع عن الانتفاع معها مع اعتقاده بكونه حلالاً ومن اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله تعالى بعينه فقد كفر فكيف يضاف إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مثل هذا
البحث الثالث إذا قيل ما حكم تحريم الحلال نقول اختلفت الأئمة فيه فأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيء ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاماً فقد حلف على أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية وإن نوى الظهار فظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن وكذلك إن نوى اثنتين وإن نوى ثلاثاً فكما نوى فإن قال نويت الكذب دين فيما بينه وبين ربه ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء وإن قال كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو وإلا فعلى ما نوى ولا يراه الشافعي يميناً ولكن سبباً ( في الكفارة ) في النساء وحدهن وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده وأما اختلاف الصحابة فيه فكما هو في ( الكشاف ) فلا حاجة بنا إلى ذكر ذلك
ثم قال تعالى
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّة أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِى ّإِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِى َ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ قال مقاتل قد بين الله كما في قوله تعالى سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ( النور 1 ) وقال الباقون قد أوجب قال صاحب ( النظم ) إذا وصل بعلى لم يحتمل غير الإيجاب كما في قوله تعالى قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ(30/38)
( الأحزاب 50 ) وإذا وصل باللام احتمل الوجهين وقوله تعالى تَحِلَّة َ أَيْمَانِكُمْ أي تحليلها بالكفارة وتحلة على وزن تفعلة وأصله تحللة وتحلة القسم على وجهين أحدهما تحليله بالكفارة كالذي في هذه الآية وثانيهما أن يستعمل بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر كما روي في الحديث ( لن يلج النار إلا تحلة القسم ) يعني زماناً يسيراً وقرىء ( كفارة أيمانكم ) ونقل جماعة من المفسرين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حلف أن لا يطأ جاريته فذكر الله له ما أوجب من كفارة اليمين روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الحرام يمين يعني إذا قال أنت علي حرام ولم ينو طلاقاً ولا ظهاراً كان هذا اللفظ موجباً لكفارة يمين وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ أي وليكم وناصركم وهو العليم بخلقه الحكيم فيما فرض من حكمه وقوله تعالى وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِى ُّ إِلَى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يعني ما أسر إلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه واستكتمها ذلك وقيل لما رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الغيرة في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين تحريم الأمة على نفسه والبشارة بأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر قاله ابن عباس وقوله فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي أخبرت به عائشة وأظهره الله عليه أطلع نبيه على قول حفصة لعائشة فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حفصة عند ذلك ببعض ما قالت وهو قوله تعالى عَرَّفَ بَعْضَهُ حفصة وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ لم يخبرها أنك أخبرت عائشة على وجه التكرم والإغضاء والذي أعرض عنه ذكر خلافة أبي بكر وعمر وقرىء ( عرف ) مخففاً أي جازى عليه من قولك للمسيء لأعرفن لك ذلك وقد عرفت ما صنعت قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ ( النساء 63 ) أي يجازيهم وهو يعلم ما في قلوب الخلق أجمعين وقوله تعالى فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ حفصة مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا قَالَ نَبَّأَنِى َ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ وصفه بكون خبيراً بعد ما وصفه بكون عليماً لما أن في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم وفي الآية مباحث
البحث الأول كيف يناسب قوله قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّة َ أَيْمَانِكُمْ إلى قوله لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) نقول يناسبه لما كان تحريم المرأة يميناً حتى إذا قال لامرأته أنت علي حرام فهو يمين ويصير مولياً بذكره من بعد ويكفر
البحث الثاني ظاهر قوله تعالى قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّة َ أَيْمَانِكُمْ إنه كانت منه يمين فهل كفر النبي عليه الصلاة والسلام لذلك نقول عن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين وعن مقاتل أنه أعتق رقبة في تحريم مارية(30/39)
ثم قال تعالى
إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَة ُ بَعْدَ ذَالِكَ ظَهِيرٌ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً
قوله إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ خطاب لعائشة وحفصة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما والتوبة من التعاون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالإيذاء فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا أي عدلت ومالت عن الحق وهو حق الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك حق عظيم يوجد فيه استحقاق العتاب بأدنى تقصير وجواب الشرط محذوف للعلم به على تقدير كان خيراً لكما والمراد بالجمع في قوله تعالى قُلُوبُكُمَا التثنية قال الفراء وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما يكون عليه الجوارح إثنان إثنان في الإنسان كاليدين والرجلين والعينين فلما جرى أكثره على ذلك ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى إثنين مذهب الإثنين وقد مر هذا وقوله تعالى وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ أي وإن تعاونا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالإيذاء فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ أي لم يضره ذلك التظاهر منكما ومولاه أي وليه وناصره مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ رأس الكروبيين قرن ذكره بذكره مفرداً له من الملائكة تعظيماً له وإظهاراً لمكانته ( عنده ) وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس يريد أبا بكر وعمر مواليين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على من عاداه وناصرين له وهو قول المقاتلين وقال الضحاك خيارالمؤمنين وقيل من صلح من المؤمنين أي كل من آمن وعمل صالحاً وقيل من برىء منهم من النفاق وقيل الأنبياء كلهم وقيل الخلفاء وقيل الصحابة وصالح ههنا ينوب عن الجمع ويجوز أن يراد به الواحد والجمع وقوله تعالى وَالْمَلَئِكَة ُ بَعْدَ ذالِكَ أي بعد حضرة الله وجبريل وصالح المؤمنين ظَهِيرٍ أي فوج مظاهر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأعوان له وظهير في معنى الظهراء كقوله وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) قال الفراء والملائكة بعد نصرة هؤلاء ظهير قال أبو علي وقد جاء فعيل مفرداً يراد به الكثرة كقوله تعالى وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ ( المعارج 10 11 ) ثم خوف نساءه بقوله تعالى عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مّنكُنَّ قال المفسرون عسى من الله واجب وقرأ أهل الكوفة أَن يُبْدِلَهُ بالتخفيف ثم إنه تعالى كان عالماً أنه لا يطلقهن لكن أخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدله خيراً منهم تخويفاً لهن والأكثر في قوله طَلَّقَكُنَّ الإظهار وعن أبي عمرو إدغام القاف في الكاف لأنهما من حروف الفم ثم وصف الأزواج اللاتي كان يبدله فقال مُسْلِمَاتٍ أي خاضعات لله بالطاعة مُؤْمِنَاتٍ مصدقات بتوحيد الله تعالى مخلصات قَانِتَاتٍ طائعات وقيل قائمات بالليل للصلاة وهذا أشبه لأنه ذكر السائحات بعد هذا والسائحات الصائمات فلزم أن يكون قيام الليل مع صيام النهار وقرىء ( سيحات ) وهي أبلغ وقيل للصائم سائح لأن السائح لا زاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يطعمه فشبه بالصائم الذي يمسك إلى أن يجيء وقت إفطاره وقيل سائحات مهاجرات ثم قال تعالى ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً لأن أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الدنيا والآخرة بعضها من الثيب وبعضها من الأبكار فالذكر على حسب ما وقع وفيه إشارة إلى أن تزوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليس على حسب الشهوة والرغبة بل على حسب ابتغاء مرضات الله تعالى وفي الآية مباحث
البحث الأول قوله بَعْدَ ذَلِكَ تعظيم للملائكة ومظاهرتهم وقرىء تَظَاهَرَا و تتظاهرا و سِحْرَانِ تَظَاهَرَا
البحث الثاني كيف يكون المبدلات خيراً منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين نقول إذا طلقهن الرسول لعصيانهن له وإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله خيراً منهن(30/40)
البحث الثالث قوله مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ يوهم التكرار والمسلمات والمؤمنات على السواء نقول الإسلام هو التصديق باللسان والإيمان هو التصديق بالقلب وقد لا يتوافقان فقوله مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ تحقيق للتصديق بالقلب واللسان
البحث الرابع قال تعالى ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً بواو العطف ولم يقل فيما عداهما بواو العطف نقول قال في ( الكشاف ) إنها صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات ( فلم يكن بد من الواو )
البحث الخامس ذكر الثيبات في مقام المدح وهي من جملة ما يقلل رغبة الرجال إليهن نقول يمكن أن يكون البعض من الثيب خيراً بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول لاختصاصهن بالمال والجمال أو النسب أو المجموع مثلاً وإذا كان كذلك فلا يقدح ذكر الثيب في المدح لجواز أن يكون المراد مثل ما ذكرناه من الثيب
ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ عَلَيْهَا مَلَائِكَة ٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
قُواْ أَنفُسَكُمْ أي بالانتهاء عما نهاكم الله تعالى عنه وقال مقاتل أن يؤدب المسلم نفسه وأهله فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر وقال في ( الكشاف ) قُواْ أَنفُسَكُمْ بترك المعاصي وفعل الطاعات وَأَهْلِيكُمْ بأن تؤاخذوهم بما تؤاخذون به أنفسكم وقيل قُواْ أَنفُسَكُمْ مما تدعو إليه أنفسكم إذ الأنفس تأمرهم بالشر وقرىء وأهلوكم عطفاً على واو ءامَنُواْ قُواْ وحسن العطف للفاصل و نَارًا نوعاً من النار لا يتقد إلا بالناس والحجارة وعن ابن عباس هي حجارة الكبريت لأنها أشد الأشياء حراً إذا أوقد عليها وقرىء وَقُودُهَا بالضم وقوله عَلَيْهَا مَلَئِكَة ٌ يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم غِلاَظٌ شِدَادٌ في أجرامهم غلظة وشدة أي جفاء وقوة أو في أفعالهم جفاء وخشونة ولا يبعد أن يكونوا بهذه الصفات في خلقهم أو في أفعالهم بأن يكونوا أشداء على أعداء الله رحماء على أولياء الله كما قال تعالى أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 ) وقوله تعالى وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يدل على اشتدادهم لمكان الأمر لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله تعالى والانتقام من أعدائه وفيه إشارة إلى أن الملائكة مكلفون في الآخرة بما أمرهم الله تعالى به وبما ينهاهم عنه والعصيان منهم مخالفة للأمر والنهي
وقوله تعالى يُؤْمَرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ لما ذكر شدة العذاب بالنار واشتداد الملائكة في(30/41)
انتقام الأعداء فقال لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ أي يقال لهم لا تعتذروا اليوم إذ الاعتذار هو التوبة والتوبة غير مقبولة بعد الدخول في النار فلا ينفعكم الاعتذار وقوله تعالى إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يعني إنما أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب في الحكمة وفي الآية مباحث
البحث الأول أنه تعالى خاطب المشركين في قوله فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ وقال أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( البقرة 24 ) جعلها معدة للكافرين فما معنى مخاطبته به المؤمنين نقول الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار فإنهم مع الكفار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا قُواْ أَنفُسَكُمْ باجتناب الفسق مجاورة الذين أعدت لهم هذه النار ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد
البحث الثاني كيف تكون الملائكة غلاظاً شداداً وهم من الأرواح فنقول الغلظة والشدة بحسب الصفات لما كانوا من الأرواح لا بحسب الذات وهذا أقرب بالنسبة إلى الغير من الأقوال
البحث الثالث قوله تعالى لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ في معنى قوله وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فما الفائدة في الذكر فنقول ليس هذا في معنى ذلك لأن معنى الأول أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا ينكرونها ومعنى الثاني أنهم ( يؤدون ) ما يؤمرون به كذا ذكره في ( الكشاف )
ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِى َّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
قوله تَوْبَة ً نَّصُوحاً أي توبة بالغة في النصح وقال الفراء نصوحاً من صفة التوبة والمعنى توبة تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه وهو أنها الصادقة الناصحة ينصحون بها أنفسهم وعن عاصم نَّصُوحاً بضم النون وهو مصدر نحو العقود يقال نصحت له نصحاً ونصاحة ونصوحاً وقال في ( الكشاف ) وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي وهو أن يتوبوا عن القبائح نادمين عليها غاية الندامة لا يعودون وقيل من نصاحة الثوب أي خياطته و عَسَى رَبُّكُمْ إطماع من الله تعالى لعباده
وقوله تعالى يَوْمٌ لاَّ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِى َّ نصب بيدخلكم و لا تعريض لمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسق واستحماد للمؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم ثم المعتزلة تعلقوا بقوله تعالى يَوْمٌ لاَّ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِى َّ(30/42)
وقالوا الإخزاء يقع بالعذاب فقد وعد بأن لا يعذب الذين آمنوا ولو كان أصحاب الكبائر من الإيمان لم نخف عليهم العذاب وأهل السنة أجابوا عنه بأنه تعالى وعد أهل الإيمان بأن لا يخزيهم والذين آمنوا ابتداء كلام وخبره يَسْعَى أو لا عَبْدُ اللَّهِ ثم من أهل السنة من يقف على قوله يَوْمٌ لاَّ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِى َّ أي لا يخزيه في رد الشفاعة والإخزاء الفضيحة أي لا يفضحهم بين يدي الكفار ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه الكفرة وقوله بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي عند المشي وَبِأَيْمَانِهِم عند الحساب لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم وفيه نور وخير ويسعى النور بين أيديهم في موضع وضع الأقدام وبأيمانهم لأن خلفهم وشمالهم طريق الكفرة
وقوله تعالى يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا قال ابن عباس يقولون ذلك عند إطفاء نور المنافقين إشفاقاً وعن الحسن أنه تعالى متمم لهم نورهم ولكنهم يدعون تقرباً إلى حضرة الله تعالى كقوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( محمد 19 ) وهو مغفور وقيل أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر مواطىء قدمه لأن النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه وقيل السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط وبعضهم كالريح وبعضهم حبواً وزحفاً فهم الذين يقولون رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا قاله في ( الكشاف ) وقوله تعالى الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ذكر المنافقين مع أن لفظ الكفار يتناول المنافقين وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي شدد عليهم والمجاهدة قد تكون بالقتال وقد تكون بالحجة تارة باللسان وتارة بالسنان وقيل جاهدهم بإقامة الحدود عليهم لأنهم هم المرتكبون الكبائر لأن أصحاب الرسول عصموا منها وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وقد مر بيانه وفي الآية مباحث
البحث الأول كيف تعلق ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بما سبق وهو قوله عَمُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( التحريم 7 ) فنقول نبههم تعالى على دفع العذاب في ذلك اليوم بالتوبة في هذا اليوم إذ في ذلك اليوم لا تفيد وفيه لطيفة وهي أن التنبيه على الدفع بعد الترهيب فيما مضى يفيد الترغيب بذكر أحوالهم والإنعام في حقهم وإكرامهم
البحث الثاني أنه تعالى لا يخزي النبي في ذلك اليوم ولا الذين آمنوا فما الحاجة إلى قوله مَعَهُ فنقول هي إفادة الاجتماع يعني لا يخزي الله المجموع الذي يسعى نورهم وهذه فائدة عظيمة إذ الاجتماع بين الذين آمنوا وبين نبيهم تشريف في حقهم وتعظيم
البحث الثالث قوله وَاغْفِرْ لَنَا يوهم أن الذنب لازم لكل واحد من المؤمنين والذنب لا يكون لازماً فنقول يمكن أن يكون طلب المغفرة لما هو اللازم لكل ذنب وهو التقصير في الخدمة والتقصير لازم لكل واحد من المؤمنين
البحث الرابع قال تعالى في أول السورة عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ لِمَ تُحَرّمُ ( التحريم 1 ) ومن بعده الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ خاطبه بوصفه وهو النبي لا باسمه كقوله لآدم يا آدم ولموسى يا موسى ولعيسى يا عيسى نقول خاطبه بهذا الوصف ليدل على فضله عليهم وهذا ظاهر
البحث الخامس قوله تعالى وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ يدل على أن مصيرهم بئس المصير مطلقاً إذ المطلق يدل على الدوام وغير المطلق لا يدل لما أنه يطهرهم عن الآثام(30/43)
ثم قال تعالى
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَة َ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّة ِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
قوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً أي بين حالهم بطريق التمثيل أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير اتقاء ولا محاباة ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كانوا فيه من القرابة بينهم وبين نبيهم وإنكارهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما جاء به من عند الله وإصرارهم عليه وقطع العلائق وجعل الأقارب من جملة الأجانب بل أبعد منهم وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبياً كحال امرأة نوح ولوط لما خانتاهما لم يغن هذان الرسولان وقيل لهما في اليوم الآخر ادخلا النار ثم بين حال المسلمين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم كحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى مع كونها زوجة ظالم من أعداء الله تعالى ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفاراً وفي ضمن هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين وهما حفصة وعائشة لما فرط منهما وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده لما في التمثيل من ذكر الكفر وضرب مثلاً آخر في امرأة فرعون آسية بنت مزاحم وقيل هي عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت قصة إلقاء موسى عصاه وتلقف العصا فعذبها فرعون عذاباً شديداً بسبب الإيمان وعن أبي هريرة أنه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس وألقى عليها صخرة عظيمة فقالت رب نجني من فرعون فرقى بروحها إلى الجنة فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه قال الحسن رفعها إلى الجنة تأكل فيها وتشرب وقيل لما قالت رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّة ِ رأت بيتها في الجنة يبنى لأجلها وهو من درة واحدة والله أعلم كيف هو وما هو وفي الآية مباحث
البحث الأول ما فائدة قوله تعالى مّنْ عِبَادِنَا نقول هو على وجهين أحدهما تعظيماً لهم كما مر الثاني إظهاراً للعبد بأنه لا يترجح على الآخر عنده إلا بالصلاح
البحث الثاني ما كانت خيانتهما نقول نفاقهما وإخفاؤهما الكفر وتظاهرهما على الرسولين فامرأة نوح قالت لقومه إنه لمجنون وامرأة لوط كانت تدل على نزول ضيف إبراهيم ولا يجوز أن تكون خيانتهما بالفجور وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط وقيل خيانتهما في الدين
البحث الثالث ما معنى الجمع بين عِندَكَ و فِى الْجَنَّة ِ نقول طلبت القرب من رحمة الله ثم بينت مكان القرب بقولها فِى الْجَنَّة ِ أو أرادت ارتفاع درجتها في جنة المأوى التي هي أقرب إلى العرش(30/44)
ثم قال تعالى
وَمَرْيَمَ ابْنَة َ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ
أحصنت أي عن الفواحش لأنها قذفت بالزنا والفرج حمل على حقيقته قال ابن عباس نفخ جبريل في جيب الدرع ومده بأصبعيه ونفخ فيه وكل ما في الدرع من خرق ونحوه فإنه يقع عليه اسم الفرج وقيل أَحْصَنَتْ تكلفت في عفتها والمحصنة العفيفة فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا أي فرج ثوبها وقيل خلقنا فيه ما يظهر به الحياة في الأبدان وقوله فِيهِ أي في عيسى ومن قرأ ( فيها ) أي في نفس عيسى والنفث مؤنث وأما التشبيه بالنفخ فذلك أن الروح إذا خلق فيه انتشر في تمام الجسد كالريح إذا نفخت في شيء وقيل بالنفخ لسرعة دخوله فيه نحو الريح وصدقت بكلمات ربها قال مقاتل يعني بعيسى ويدل عليه قراءة الحسن ( بكلمة ربها ) وسمي عيسى ( كلمة الله ) في مواضع من القرآن وجمعت تلك الكلمة هنا وقال أبو علي الفارسي الكلمات الشرائع التي شرع لها دون القول فكأن المعنى صدقت الشرائع وأخذت بها وصدقت الكتب فلم تكذب والشرائع سميت بكلمات كما في قوله تعالى وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ( البقرة 124 ) وقوله تعالى صَدَّقْتَ قرىء بالتخفيف والتشديد على أنها جعلت الكلمات والكتب صادقة يعني وصفتها بالصدق وهو معنى التصديق بعينه وقرىء ( كلمة ) و ( كلمات ) و ( كتبه ) و ( كتابه ) والمراد بالكتاب هو الكثرة والشياع أيضاً قوله تعالى وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ الطائعين قاله ابن عباس وقال عطاء من المصلين وفي الآية مباحث
البحث الأول ما كلمات الله وكتبه نقول المراد بكلمات الله الصحف المنزلة على إدريس وغيره وبكتبه الكتب الأربعة وأن يراد جميع ما كلم الله تعالى ( به ) ملائكته وما كتبه في اللوح المحفوظ وغيره وقرىء بِكَلِمَة ٍ اللَّهِ أي بعيسى وكتابه وهو الإنجيل فإن قيل ( لم قيل ) وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ على التذكير نقول لأن القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه ومن للتبعيض قاله في ( الكشاف ) وقيل من القانتين لأن المراد هو القوم وأنه عام ك وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ( آل عمران 43 ) أي كوني من المقيمن على طاعة الله تعالى ولأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام
وأما ضرب المثل بامرأة نوح المسماة بواعلة وامرأة لوط المسماة بواهلة فمشتمل على فوائد متعددة لا يعرفها بتمامها إلا الله تعالى منها التنبيه للرجال والنساء على الثواب العظيم والعذاب الأليم ومنها العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد وفساد الغير لا يضر المصلح ومنها أن الرجل وإن كان في غاية الصلاح فلا يأمن المرأة ولا يأمن نفسه كالصادر من امرأتي نوح ولوط ومنها العلم بأن إحصان المرأة وعفتها مفيدة غاية الإفادة كما أفاد مريم بنت عمران كما أخبر الله تعالى فقال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ ( آل عمران 42 ) ومنها التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب وإلى الثواب بغير حساب وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب وإليه المرجع والمآب جلت قدرته وعلت كلمته لا إله إلا هو وإليه المصير والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين وآله وصحبه وسلم(30/45)
سورة الملك
وهي ثلاثون آية مكية
سورة الملك وتسمى المنجية لأنها تنجي قارئها من عذاب القبر وعن ابن عباس أنه كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها في القبر وهي ثلاثون آية مكية
تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
أما قوله تَبَارَكَ فقد فسرناه في أول سورة الفرقان وأما قوله بِيَدِهِ الْمُلْكُ فاعلم أن هذه اللفظة إنما تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكاً ومالكاً كما يقال بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد ولا مدخل للجارحة في ذلك قال صاحب ( الكشاف ) بِيَدِهِ الْمُلْكُ على كل موجود وَهُوَ عَلَى كُلّ ما لم يوجد من الممكنات قَدِيرٌ وقوله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ فيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية احتج بها من زعم أن المعدوم شيء فقال قوله إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ يقتضي كون مقدوره شيئاً فذلك الشيء الذي هو مقدور الله تعالى إما أن يكون موجوداً أو معدوماً لا جائز أن يكون موجوداً لأنه لو كان قادراً على الموجود لكان إما أن يكون قادراً على إيجاده وهو محال لأن إيجاد الموجود محال وإما أن يكون قادراً على إعدامه وهو محال لاستحالة وقوع الإعدام بالفاعل وذلك لأن القدرة صفة مؤثرة فلا بد لها من تأثير والعدم نفي محض فيستحيل جعل العدم أثر القدرة فيستحيل وقوع الإعدام بالفاعل فثبت أن الشيء الذي هو مقدور الله ليس بموجود فوجب أن يكون معدوماً فلزم أن يكون ذلك المعدوم شيئاً واحتج أصحابنا النافون لكون المعدوم شيئاً بهذه الآية فقالوا لا شك أن الجوهر من حيث إنه جوهر شيء والسواد من حيث هو سواد شيء والله قادر على كل شيء فبمقتضى هذه الآية يلزم أن يكون قادراً على الجوهر من حيث إنه جوهر وعلى السواد من حيث هو سواد وإذا كان(30/46)
كذلك كان كون الجوهر جوهراً والسواد سواداً واقعاً بالفاعل والفاعل المختار لا بد وأن يكون متقدماً على فعله فإذاً وجود الله وذاته متقدم على كون الجوهر جوهراً أو السواد سواداً فيلزم أن لا يكون المعدوم شيئاً وهو المطلوب ثم أجابوا عن شبهة الخصم بأنا لا نسلم أن الإعدام لا يقع بالفاعل ولئن سلمنا ذلك لكن لم يجوز أن يقال المقدور الذي هو معدوم سمي شيئاً لأجل أنه سيصير شيئاً وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه يجب المصير إليه لقيام سائر الدلائل الدالة على أن المعدوم ليس بشيء
المسألة الثانية زعم القاضي أبو بكر في أحد قوليه أن إعدام الأجسام إنما يقع بالفاعل وهذا اختيار أبي الحسن الخياط من المعتزلة ومحمود الخوارزمي وزعم الجمهور منا ومن المعتزلة أنه يستحيل وقوع الإعدام بالفاعل احتج القاضي بأن الموجودات أشياء والله على كل شيء قدير فهو إذاً قادر على الموجودات فإما أن يكون قادراً على إيجادها وهو محال لأن إيجاد الموجود محال أو على إعدامها وذلك يقتضي إمكان وقوع الإعدام بالفاعل
المسألة الثالثة زعم الكعبي أنه تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد وزعم أبو علي وأبو هاشم أنه تعالى غير قادر على مقدور العبد وقال أصحابنا إنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد وعلى غير مقدوره واحتجوا عليه بأن عين مقدور العبد ومثل مقدوره شيء والله على كل شيء قدير فثبت بهذا صحة وجود مقدور واحد بين قادرين
المسألة الرابعة زعم أصحابنا أنه لا مؤثر إلا قدرة الله تعالى وأبطلوا القول بالطبائع على ما يقوله الفلاسفة وأبطلوا القول بالمتولدات على ما يقوله المعتزلة وأبطلوا القول بكون العبد موجداً لأفعال نفسه واحتجوا على الكل بأن الآية دالة على أنه تعالى قادر على كل شيء فلو وقع شيء من الممكنات لا بقدرة الله بل بشيء آخر لكان ذلك الآخر قد منع قدرة الله عن التأثير فيما كان مقدوراً له وذلك محال لأن ما سوى الله ممكن محدث فيكون أضعف قوة من قدرة الله والأضعف لا يمكن أن يدفع الأقوى
المسألة الخامسة هذه الآية دالة على أن الإله تعالى واحد لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً فإما أن يقدر على إيجاد شيء أو لا يقدر فإن لم يقدر ألبتة على إيجاد شيء أصلاً لم يكن إلهاً وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً فيلزم كونه مقدوراً للإله الأول لقوله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ فيلزم وقوع مخلوق بين خالقين وهو محال لأنه إذا كان واحد منهما مستقلاً بالإيجاد يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجاً إليهما وغنياً عنهما وذلك محال
المسألة السادسة احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء فقال لو كان شيئاً لكان قادراً على نفسه لقوله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ لكن كونه قادراً على نفسه محال فيمتنع كونه شيئاً وقال أصحابنا لما دل قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ ( الأنعام 19 ) على أنه تعالى شيء وجب تخصيص هذا العموم فإذاً هذه الآية قد دلت على أن العام المخصوص وارد في كتاب الله تعالى ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز بل واقع
المسألة السابعة زعم جمهور المعتزلة أن الله تعالى قادر على خلق الكذب والجهل والعبث والظلم(30/47)
وزعم النظام أنه غير قادر عليه واحتج الجمهور بأن الجهل والكذب أشياء وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ فوجب كونه تعالى قادراً عليها
المسألة الثامنة احتج أهل التوحيد على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة فإنه تعالى لو حصل في حيز دون حيز لكان ذلك الحيز الذي حكم بحصوله فيه متميزاً عن الحيز الذي حكم بأنه غير حاصل فيه إذ لو لم يتميز أحد الحيزين عن الآخر لاستحال الحكم بأنه تعالى حصل فيه ولم يحصل في الآخر ثم إن امتياز أحد الحيزين عن الآخر في نفسه يقتضي كون الحيز أمراً موجوداً لأن العدم المحض يمتنع أن يكون مشاراً إليه بالحس وأن يكون بعضه متميزاً عن البعض في الحس وأن يكون مقصداً للمتحرك فإذن لو كان الله تعالى حاصلاً في حيز لكان ذلك الحيز موجوداً ولو كان ذلك الحيز موجوداً لكان شيئاً ولكان مقدور الله لقوله تعالى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وإذا كان تحقق ذلك الحيز بقدرة الله وبإيجاده فيلزم أن يكون الله متقدماً في الوجود على تحقق ذلك الحيز ومتى كان كذلك كان وجود الله في الأزل محققاً من غير حيز وله جهة أصلاً والأزلي لا يزول ألبتة فثبت أنه تعالى منزه عن الحيز والمكان أزلاً وأبداً
المسألة التاسعة أنه تعالى قال أولاً بِيَدِهِ الْمُلْكُ ثم قال بعده وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وهذا مشعر بأنه إنما يكون بيده الملك لو ثبت أنه على كل شيء قدير وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه لو وقع مراد العبد ولا يقع مراد الله لكان ذلك مشعراً بالعجز والضعف وبأن لا يكون مالك الملك على الإطلاق فدل ذلك على أنه لما كان مالك الملك وجب أن يكون قادراً على جميع الأشياء
المسألة العاشرة القدير مبالغة في القادر فلما كان قديراً على كل الأشياء وجب أن لا يمنعه ألبتة مانع عن إيجاد شيء من مقدوراته وهذا يقتضي أن لا يجب لأحد عليه شيء وإلا لكان ذلك الوجوب مانعاً له من الترك وأن لا يقبح منه شيء وإلا لكان ذلك القبح مانعاً له من الفعل فلا يكون كاملاً في القدرة فلا يكون قديراً والله أعلم
الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
قوله تعالى الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ فيه مسائل
المسألة الأولى قالوا الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في الموت فقال قوم إنه عبارة عن عدم هذه الصفة وقال أصحابنا إنه صفة وجودية مضادة للحياة واحتجوا على قولهم بأنه تعالى قال الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ والعدم لا يكون مخلوقاً هذا هو التحقيق وروى الكلبي بإسناده عن ابن عباس أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد رائحته شيء إلا مات وخلق الحياة في صورة فارس يلقاه فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ولا يجد ريحتها شيء إلا حيي واعلم أن هذا لا بد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل والتصوير وإلا فالتحقيق هو الذي ذكرناه
المسألة الثانية إنما قدم ذكر الموت على ذكر الحياة مع أن الحياة مقدمة على الموت لوجوه أحدها قال مقاتل يعني بالموت نطفة وعلقة ومضغة والحياة نفخ الروح وثانيها روى عطاء عن ابن عباس قال يريد(30/48)
الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان وثالثها أنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن منادياً ينادي يوم القيامة يا أهل الجنة فيعلمون أنه من قبل الله عز وجل فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم ثم يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ويذبح ثم ينادي يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح ويزداد أهل النار حزناً إلى حزن ) واعلم أنا بينا أن الموت عرض من الأعراض كالسكون والحركة فلا يجوز أن يصير كبشاً بل المراد منه التمثيل ليعلم أن في ذلك اليوم قد انقضى أمر الموت فظهر بما ذكرناه أن أيام الموت هي أيام الدنيا وهي منقضية وأما أيام الآخرة فهي أيام الحياة وهي متأخرة فلما كانت أيام الموت متقدمة على أيام الحياة لا جرم قدم الله ذكر الموت على ذكر الحياة ورابعها إنما قدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض له أهم
المسألة الثالثة اعلم أن الحياة هي الأصل في النعم ولولاها لم يتنعم أحد في الدنيا وهي الأصل أيضاً في نعم الآخرة ولولاها لم يثبت الثواب الدائم والموت أيضاً نعمة على ما شرحنا الحال فيه في مواضع من هذا الكتاب وكيف لا وهو الفاصل بين حال التكليف وحال المجازاة وهو نعمة من هذا الوجه قال عليه الصلاة والسلام ( أكثروا من ذكر هازم اللذات ) وقال لقوم ( لو أكثرتم ذكر هازم اللذات لشغلكم عما أرى ) وسأل عليه الصلاة والسلام عن رجل فأثنوا عليه فقال ( كيف ذكره الموت قالوا قليل قال فليس كما تقولون )
قوله تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ وفيه مسائل
المسألة الأولى الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي وذلك في حق من وجب أن يكون عالماً بجميع المعلومات أزلاً وأبداً محال إلا أنا قد حققنا هذه المسألة في تأويل قوله وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ( البقرة 124 ) والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه ( الابتلاء ) على المختبر
المسألة الثانية احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله لِيَبْلُوَكُمْ قالوا هذه اللام للغرض ونظيره قوله تعالى إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وجوابه أن الفعل في نفسه ليس بابتلاء إلا أنه لما أشبه الابتلاء سمي مجازاً فكذا ههنا فإنه يشبه الغرض وإن لم يكن في نفسه غرضاً فذكر فيه حرف الغرض
المسألة الثالثة اعلم أنا فسرنا الموت والحياة بالموت حال كونه نطفة وعلقة ومضغة والحياة بعد ذلك فوجه الابتلاء على هذا الوجه أن يعلم أنه تعالى هو الذي نقله من الموت إلى الحياة وكما فعل ذلك فلا بد وأن يكون قادراً على أن ينقله من الحياة إلى الموت فيحذر مجيء الموت الذي به ينقطع استدراك ما فات ويستوي فيه الفقير والغني والمولى والعبد وأما إن فسرناهما بالموت في الدنيا وبالحياة في القيامة فالابتلاء فيهما أتم لأن الخوف من الموت في الدنيا حاصل وأشد منه الخوف من تبعات الحياة في القيامة والمراد من الابتلاء أنه هل ينزجر عن القبائح بسبب هذا الخوف أم لا(30/49)
المسألة الرابعة في تعلق قوله لِيَبْلُوَكُمْ بقوله أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وجهان الأول وهو قول الفراء والزجاج إن المتعلق بأيكم مضمر والتقدير ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملاً والثاني قال صاحب ( الكشاف ) لِيَبْلُوَكُمْ في معنى ليعلمكم والتقدير ليعلمكم أيكم أحسن عملاً
المسألة الخامسة ارتفعت ( أي ) بالابتداء ولا يعمل فيها ما قبلها لأنها على أصل الاستفهام فإنك إذا قلت لا أعلم أيكم أفضل كان المعنى لا أعلم أزيد أفضل أم عمرو واعلم أن مالا يعمل فيما بعد الألف فكذلك لا يعمل في ( أي ) لأن المعنى واحد ونظير هذه الآية قوله سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذالِكَ زَعِيمٌ ( القلم 40 ) وقد تقدم الكلام فيه
المسألة السادسة ذكروا في تفسير أَحْسَنُ عَمَلاً وجوهاً أحدها أن يكون أخلص الأعمال وأصوبها لأن العمل إذا كان خالصاً غير صواب لم يقبل وكذلك إذا كان صواباً غير خالص فالخالص أن يكون لوجه الله والصواب أن يكون على السنة وثانيها قال قتادة سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( يقول أيكم أحسن عقلاً ) ثم قال أتمكم عقلاً أشدكم لله خوفاً وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظراً وإنما جاز أن يفسر حسن العمل بتمام العقل لأنه يترتب على العقل فمن كان أتم عقلاً كان أحسن عملاً على ما ذكر في حديث قتادة وثالثها روي عن الحسن أيكم أزهد في الدنيا وأشد تركاً لها واعلم أنه لما ذكر حديث الابتلاء قال بعده وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ أي وهو العزيز الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل الغفور لمن تاب من أهل الإساءة
واعلم أن كونه عزيزاً غفوراً لا يتم إلا بعد كونه قادراً على كل المقدورات عالماً بكل المعلومات أما أنه لا بد من القدرة التامة فلأجل أن يتمكن من إيصال جزاء كل أحد بتمامه إليه سواء كان عقاباً أو ثواباً وأما أنه لا بد من العلم التام فلأجل أن يعلم أن المطيع من هو والعاصي من هو فلا يقع الخطأ في إيصال الحق إلى مستحقه فثبت أن كونه عزيزاً غفوراً لا يمكن ثبوتها إلا بعد ثبوت القدرة التامة والعلم التام فلهذا السبب ذكر الله الدليل على ثبوت هاتين الصفتين في هذا المقام ولما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً لا جرم ذكر أولاً دلائل القدرة وثانياً دلائل العلم
الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ
أما دليل القدرة فهو قوله الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر صاحب ( الكشاف ) في طِبَاقاً ثلاثة أوجه أولها طباقاً أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقاً على طبق وهذا وصف بالمصدر وثانيها أن يكون التقدير ذات طباق وثالثها أن يكون التقدير طوبقت طباقاً
المسألة الثانية دلالة هذه السموات على القدرة من وجوه أحدها من حيث إنها بقيت في جو الهواء معلقة بلا عماد ولا سلسلة وثانيها من حيث إن كل واحد منها اختص بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص وثالثها أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة(30/50)
معينة ورابعها كونها في ذواتها محدثة وكل ذلك يدل على استنادها إلى قادر تام القدرة
وأما دليل العلم فهو قوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي مِن تَفَاوُتٍ والباقون مِن تَفَاوُتٍ قال الفراء وهما بمنزلة واحدة مثل تظهر وتظاهر وتعهد وتعاهد وقال الأخفش تَفَاوُتٍ أجود لأنهم يقولون تفاوت الأمر ولا يكادون يقولون تفوت واختار أبو عبيدة تَفَاوُتٍ وقال يقال تفوت الشيء إذا فات واحتج بما روي في الحديث أن رجلاً تفوت على أبيه في ماله
المسألة الثانية حقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضه ولا يلائمه ومنه قولهم ( تعلق متعلق متفاوت ونقيضه متناسب ) وأما ألفاظ المفسرين فقال السدي من تفاوت أي من اختلاف عيب يقول الناظر لو كان كذا كان أحسن وقال آخرون التفاوت الفطور بدليل قوله بعد ذلك فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ نظيره قوله وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ( ق 6 ) قال القفال ويحتمل أن يكون المعنى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكمة صانعها وأنه لم يخلقها عبثاً
المسألة الثالثة الخطاب في قوله مَّا تَرَى إما للرسول أو لكل مخاطب وكذا القول في قوله فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا
المسألة الرابعة قوله طِبَاقاً صفة للسموات وقوله بعد ذلك مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ صفة أخرى للسموات والتقدير خلق سبع سموات طباقاً ما ترى فيهن من تفاوت إلا أنه وضع مكان الضمير قوله خَلْقِ الرَّحْمَنِ تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب
المسألة الخامسة اعلم أن وجه الاستدلال بهذا على كمال علم الله تعالى هو أن الحس دل أن هذه السموات السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان وكل فاعل كان فعله محكماً متقناً فإنه لا بد وأن يكون عالماً فدل هذه الدلالة على كونه تعالى عالماً بالمعلومات فقوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ إشارة إلى كونها محكمة متقنة
المسألة السادسة احتج الكعبي بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله تعالى قال لأنه تعالى نفى التفاوت في خلقه وليس المراد نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص والعيب فوجب حمله على نفي التفاوت في خلقه من حيث الحكمة فيدل من هذا الوجه على أن أفعال العباد ليست من خلقه على ما فيها من التفاوت الذي بعضه جهل وبعضه كذب وبعضه سفه الجواب بل نحن نحمله على أنه لا تفوت فيه بالنسبة إليه من حيث إن الكل يصح منه بحسب القدرة والإرادة والداعية وإنه لا يقبح منه شيء أصلاً فلم كان حمل الآية على التفاوت من الوجه الذي ذكرتم أولى من حملها على نفي التفاوت من الوجه الذي ذكرناه ثم إنه تعالى أكد بيان كونها محكمة متقنة وقال فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ والمعنى أنه لما قال مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ كأنه قال بعده ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك بالبصر(30/51)
الواحد ولا تعتمد عليه بسبب أنه قد يقع الغلط في النظرة الواحدة ولكن ارجع البصر واردد النظرة مرة أخرى حتى تتيقن أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتة والفطور جمع فطر وهو الشق يقال فطره فانفطر ومنه فطر ناب البعير كما يقال شق ومعناه شق اللحم فطلع قال المفسرون هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ أي من فروج وصدوع وشقوق وفتوق وخروق كل هذا ألفاظهم
ثم قال تعالى
ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ
أمر بتكرير البصر في خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع هل يجد فيه عيباً وخللاً يعني أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل والعيب بل يرجع إليك خاسئاً أي مبعداً من قولك خسأت الكلب إذا باعدته قال المبرد الخاسيء المبعد المصغر وقال ابن عباس الخاسيء الذي لم ير ما يهوى وأما الحسير فقال ابن عباس هو الكليل قال الليث الحسر والحسور الإعياء وذكر الواحدي ههنا احتمالين أحدهما أن يكون الحسير مفعولاً من حسر العين بعد المرئي قال رؤبة يحسر طرف عيناه فضا
الثاني قول الفراء أن يكون فاعلاً من الحسور الذي هو الإعياء والمعنى أنه وإن كرر النظر وأعاده فإنه لا يجد عيباً ولا فطوراً بل البصر يرجع خاسئاً من الكلال والإعياء وههنا سؤالان
السؤال الأول كيف ينقلب البصر خاسئاً حسيراً برجعه كرتين اثنتين الجواب التثنية للتكرار بكثرة كقولهم لبيك وسعديك يريد إجابات متوالية
السؤال الثاني فما معنى ثُمَّ اْرجِعِ الجواب أمره برجع البصر ثم أمره بأن لا يقنع بالرجعة الأولى بل أن يتوقف بعدها ويجم بصره ثم يعيده ويعاوده إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة فإنه لا يعثر على شيء من فطور
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ
اعلم أن هذا هو الدليل الثاني على كونه تعالى قادراً عالماً وذلك لأن هذه الكواكب نظراً إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار خاص وموضع معين وسير معين تدل على أن صانعها قادر ونظراً إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد من كونها زينة لأهل الدنيا وسبباً لانتفاعهم بها تدل على أن صانعها عالم ونظير هذه الآية في سورة الصفات إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَة ٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ( الصافات 7 ) وههنا مسائل(30/52)
المسألة الأولى السَّمَاء الدُّنْيَا القربى وذلك لأنها أقرب السموات إلى الناس ومعناها السماء الدنيا من الناس والمصابيح السرج سميت بها الكواكب والناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح فقيل ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بمصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة أما قوله تعالى وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ فاعلم أن الرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به وذكروا في معرض هذه الآية وجهين الوجه الأول أن الشياطين إذا أرادوا استراق السمع رجموا بها فإن قيل جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها واستمرارها وجعلها رجوماً للشياطين ورميهم بها يقتضي زوالها والجمع بينهما متناقض قلنا ليس معنى رجم الشياطين هو أنهم يرمون بأجرام الكواكب بل يجوز أن ينفصل من الكواكب شعل ترمى الشياطين بها وتلك الشعل هي الشهب وما ذاك إلا قبس يؤخذ من نار والنار باقية الوجه الثاني في تفسير كون الكواكب رجوماً للشياطين أنا جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من المنجمين
المسألة الثانية اعلم أن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا وذلك لأن السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو كانت في سموات أخرى فوقها فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح
واعلم أن أصحاب الهيئة اتفقوا على أن هذه الثوابت مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق كرات السيارات واحتجوا عليه بأن بعض هذه الثوابت في الفلك الثامن فيجب أن تكون كلها هناك وإنما قلنا إن بعضها في الفلك الثامن وذلك لأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بهذه السيارات فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة وإنما قلنا إن هذه الثوابت لما كانت في الفلك الثامن وجب أن تكون كلها هناك لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة فلا بد وأن تكون مركوزة في كرة واحدة
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف فإنه لا يلزم من كون بعض الثوابت فوق السيارات كون كلها هناك لأنه لا يبعد وجود كرة تحت القمر وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارن القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون هذه المصابيح مركوزة في السماء الدنيا فثبت أن مذهب الفلاسفة في هذا الباب ضعيف
المسألة الثالثة اعلم أن منافع النجوم كثيرة منها أن الله تعالى زين السماء بها ومنها أنه يحصل بسببها في الليل قدر من الضوء ولذلك فإنه إذا تكاثف السحاب في الليل عظمت الظلمة وذلك بسبب أن السحاب يحجب أنوارها ومنها أنه يحصل بسببها تفاوت في أحوال الفصول الأربعة فإنها أجسام عظيمة نورانية فإذا قارنت الشمس كوكباً مسخناً في الصيف صار الصيف أقوى حراً وهو مثل نار تضم إلى نار أخرى فإنه لا شك أن يكون الأثر الحاصل من المجموع أقوى ومنها أنه تعالى جعلها علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر على ما قال تعالى وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ( النحل 16 ) ومنها أنه تعالى جعلها رجوماً(30/53)
للشياطين الذين يخرجون الناس من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر يروى أن السبب في ذلك أن الجن كانت تتسمع لخبر السماء فلما بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حرست السماء ورصدت الشياطين فمن جاء منهم مسترقاً للسمع رمي بشهاب فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض فيلقيه إلى الناس فيخلط على النبي أمره ويرتاب الناس بخبره فهذا هو السبب في انقضاض الشهب وهو المراد من قوله وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ومن الناس من طعن في هذا من وجوه أحدها أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة قالوا إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس وإذا بلغ الناس التي دون الفلك احترق بها فتلك الشعلة هي الشهاب وثانيها أن هؤلاء الجن كيف يجوز أن يشاهدوا واحداً وألفاً من جنسهم يسترقون السمع فيحترقون ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم فإن العاقل إذا رأى الهلاك في شيء مرة ومراراً وألفاً امتنع أن يعود إليه من غير فائدة وثالثها أنه يقال في ثخن السماء فإنه مسيرة خمسمائة عام فهؤلاء الجن إن نفذوا في جرم السماء وخرقوا اتصاله فهذا باطل لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور على ما قال فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ( الملك 3 ) وإن كانوا لا ينفذون في جرم السماء فكيف يمكنهم أن يسمعوا أسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم ثم إن جاز أن يسمعوا كلامهم من ذلك البعد العظيم فلا يسمعوا كلام الملائكة حال كونهم في الأرض ورابعها أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة إما لأنهم طالعوها في اللوح المحفوظ أو لأنهم تلقفوها من وحي الله تعالى إليهم وعلى التقديرين فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يتمكن الجن من الوقوف عليها وخامسها أن الشياطين مخلوقون من النار والنار لا تحرق النار بل تقويها فكيف يعقل أن يقال إن الشياطين زجروا عن استراق السمع بهذه الشهب وسادسها أنه كان هذا الحذف لأجل النبوة فلم دام بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وسابعها أن هذه الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض بدليل أنا نشاهد حركتها بالعين ولو كانت قريبة من الفلك لما شاهدنا حركتها كما لم نشاهد حركات الكواكب وإذا ثبت أن هذه الشهب إنما تحدث بالقرب من الأرض فكيف يقال إنها تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك وثامنها أن هؤلاء الشياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة من المغيبات إلى الكهنة فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار حتى يتوصل الكفار بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضرر بهم وتاسعها لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء حتى لا يحتاج في دفعهم عن السماء إلى هذه الشهب
والجواب عن السؤال الأول أنا لا ننكر أن هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأسباب آخر إلا أن ذلك لا ينافي أنها بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام قد توجد بسبب آخر وهو دفع الجن وزجرهم يروى أنه قيل للزهري أكان يرمى في الجاهلية قال نعم قيل أفرأيت قوله تعالى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاْنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ( الجن 9 ) قال غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم )
والجواب عن السؤال الثاني أنه إذا جاء القدر عمي البصر فإذا قضى الله على طائفة منها الحرق لطغيانها وضلالتها قيض لها من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها تقدم على العمل المفضي إلى الهلاك والبوار(30/54)
ووالجواب عن السؤال الثالث أن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام فأما ثخن الفلك فلعله لا يكون عظيماً
وأما الجواب عن السؤال الرابع ما روى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن ابن عباس قال بينا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جالساً في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال ( ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا قالوا كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم ) قال عليه الصلاة والسلام ( فإنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ولا يزال ذلك الخبر من سماء إلى سماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء ويتخطف الجن فيرمون فما جاءوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه
والجواب عن السؤال الخامس أن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فالأقوى يبطل الأضعف
والجواب عن السؤال السادس أنه إنما دام لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر ببطلان الكهانة فلو لم يدم هذا العذاب لعادت الكهانة وذلك يقدح في خبر الرسول عن بطلان الكهانة
والجواب عن السؤال السابع أن البعد على مذهبنا غير مانع من السماع فلعله تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقفوا في تلك الموضع سمعوا كلام الملائكة
والجواب عن السؤال الثامن لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين
والجواب عن السؤال التاسع أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فهذا ما يتعلق بهذا الباب على سبيل الاختصار والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما ذكر منافع الكواكب وذكر أن من جملة المنافع أنها رجوم للشياطين قال بعد ذلك وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ أي أعتدنا للشياطين بعد الإحراق بالشهب في الدنيا عذاب السعير في الآخرة قال المبرد سعرت النار فهي مسعورة وسعير كقولك مقبولة وقبيل واحتج أصحابنا على أن النار مخلوقة الآن بهذه الآية لأن قوله وَأَعْتَدْنَا إخبار عن الماضي
وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
اعلم أنه تعالى بين في أول السورة أنه قادر على جميع الممكنات ثم ذكر بعده أنه وإن كان قادراً على الكل إلا أنه إنما خلق ما خلق لا للعبث والباطل بل لأجل الابتلاء والامتحان وبين أن المقصود من ذلك الابتلاء أن يكون عزيزاً في حق المصرين على الإساءة غفوراً في حق التائبين ومن ذلك كان كونه عزيزاً وغفوراً لا يثبتان إلا إذا ثبت كونه تعالى كاملاً في القدرة والعلم بين ذلك بالدلائل المذكورة وحينئذ ثبت كونه قادراً على تعذيب العصاة فقال وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ أي ولكل من كفر بالله من(30/55)
الشياطين وغيرهم عذاب جهنم ليس الشياطين المرجومون مخصوصين بذلك وقرىء عَذَابَ جَهَنَّمَ بالنصب عطف بيان على قوله عَذَابِ السَّعِيرِ ( الحج 4 ) ثم إنه تعالى وصف ذلك العذاب بصفاته كثيرة
إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِى َ تَفُورُ
الصفة الأولى قوله تعالى إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا
أَلْقَوْاْ طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به فيها ومثله قوله حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) وفي قوله سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وجوه أحدها قال مقاتل سمعوا لجهنم شهيقاً ولعل المراد تشبيه صوت لهب النار بالشهيق قال الزجاج سمع الكفار للنار شهيقاً وهو أقبح الأصوات وهو كصوت الحمار وقال المبرد هو والله أعلم تنفس كتنفس المتغيظ وثانيها قال عطاء سمعوا لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها شهيقاً وثالثها سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ( هود 106 ) والقول هو الأول
الصفة الثانية قوله وَهِى َ تَفُورُ قال الليث كل شيء جاش فقد فار وهو فور القدر والدخان والغضب والماء من العين قال ابن عباس تغلي بهم كغلي المرجل وقال مجاهد تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل ويجوز أن يكون هذا من فور الغضب قال المبرد يقال تركت فلاناً يفور غضباً ويتأكد هذا القول بالآية الآتية
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
الصفة الثالثة قوله تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ يقال فلان يتميز غيظاً ويتعصف غيظاً وغضب فطارت منه ( شعلة في الأرض وشعلة ) في السماء إذا وصفوه بالإفراط فيه وأقول لعل السبب في هذا المجاز أن الغضب حالة تحصل عند غليان دم القلب والدم عند الغليان يصير أعظم حجماً ومقداراً فتتمدد تلك الأوعية عند ازدياد مقادير الرطوبات في البدن فكلما كان الغضب أشد كان الغليان أشد فكان الازدياد أكثر وكان تمدد الأوعية وانشقاقها وتميزها أكثر فجعل ذكر هذه الملازمة كناية عن شدة الغضب فإن قيل النار ليست من الأحياء فكيف يمكن وصفها بالغيظ قلنا الجواب من وجوه أحدها أن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة فلعل الله يخلق فيها وهي نار حياة وثانيها أنه شبه صوت لهبها وسرعة تبادرها بصوت الغضبان وحركته وثالثها يجوز أن يكون المراد غيظ الزبانية
الصفة الرابعة قوله تعالى كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
الفوج الجماعة من الناس والأفواج الجماعات في تعرفه ومنه قوله فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً ( النبأ 18 ) و خَزَنَتُهَا مالك وأعوانه من الزبانية أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ وهو سؤال توبيخ قال الزجاج وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب وفي الآية مسألتان(30/56)
المسألة الأولى احتجت المرجئة على أنه لا يدخل النار أحد إلا الكفار بهذه الآية قالوا لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا كذبنا النذير وهذا يقتضي أن من لم يكذب الله ورسوله لا يدخل النار واعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصر لا يدخل النار وأجاب القاضي عنه بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المحذرة المخوفة ولا أحد يدخل النار إلا وهو مخالف للدليل غير متمسك بموجبه
المسألة الثانية احتج القائلون بأن معرفة الله وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع بهذه الآية وقالوا هذه الآية دلت على أنه تعالى إنما عذبهم لأنه أتاهم النذير وهذا يدل على أنه لو لم يأتهم النذير لما عذبهم
ثم إنه تعالى حكى عن الكفار جوابهم عن ذلك السؤال من وجهين
قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ
الأول قوله تعالى قَالُواْ بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء
واعلم أن قوله بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا اعتراف منهم بعدل الله وإقرار بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل ولكنهم كذبوا الرسل وقالوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء
أما قوله تعالى إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية وجهان الوجه الأول وهو الأظهر أنه من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين الوجه الثاني يجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار والتقدير أن الكفار لما قالوا ذلك الكلام قالت الخزنة لهم إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد من الضلال الكبير ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الهلاك ويحتمل أن يكون سمي عقاب الضلال باسمه
وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ
هذا هو الكلام الثاني مما حكاه الله تعالى عن الكفار جواباً للخزنة حين قالوا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ( الملك 8 ) والمعنى لو كنا نسمع الإنذار سماع من كان طالباً للحق أو نعقله عقل من كان متأملاً متفكراً لما كنا من أصحاب السعير وقيل إنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة الهدى والإضلال بأن قالوا لفظة لو تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره فدلت الآية على أنه ما كان لهم سمع ولا عقل لكن لا شك أنهم كانوا ذوي أسماع وعقول صحيحة وأنهم ما كانوا صم الأسماع ولا مجانين فوجب أن يكون المراد أنه ما كان لهم سمع الهداية ولا عقل الهداية
المسألة الثانية احتج بهذه الآية من قال الدين لا يتم إلا بالتعليم فقال إنه قدم السمع على العقل تنبيهاً على أنه لا بد أولاً من إرشاد المرشد وهداية الهادي ثم إنه يترتب عليه فهم المستجيب وتأمله فيما يلقيه المعلم والجواب أنه إنما قدم السمع لأن المدعو إذا لقي الرسول فأول المراتب أنه يسمع كلامه ثم إنه يتفكر فيه فلما كان السمع مقدماً بهذا السبب على التعقل والتفهم لا جرم قدم عليه في الذكر(30/57)
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) ومن بدع التفاسير أن المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي ثم قال كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم
المسألة الرابعة احتج من فضل السمع على البصر بهذه الآية وقالوا دلت الآية على أن للسمع مدخلاً في الخلاص عن النار والفوز بالجنة والبصر ليس كذلك فوجب أن يكون السمع أفضل
فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لاًّصْحَابِ السَّعِيرِ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار هذا القول قال فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ قال مقاتل يعني بتكذيبهم الرسول وهو قولهم فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء ( الملك 9 ) وقوله بِذَنبِهِمْ فيه قولان أحدهما أن الذنب ههنا في معنى الجمع لأن فيه معنى الفعل كما يقال خرج عطاء الناس أي عطياتهم هذا قول الفراء والثاني يجوز أن يراد بالواحد المضاف الشائع كقوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ ( النحل 34 )
ثم قال فَسُحْقًا لاِصْحَابِ السَّعِيرِ قال المفسرون فبعداً لهم اعترفوا أو جحدوا فإن ذلك لا ينفعهم والسحق البعد وفيه لغتان التخفيف والتثقيل كما تقول في العنق والطنب قال الزجاج سحقاً منصوب على المصدر والمعنى أسحقهم الله سحقاً أي باعدهم الله من رحمته مباعدة وقال أبو علي الفارسي كان القياس سحاقاً فجاء المصدر على الحذف كقولهم عمرك الله واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
وفيه وجهان الوجه الأول أن المراد إن الذين يخشون ربهم وهم في دار التكليف والمعارف النظرية وبهم حاجة إلى مجاهدة الشيطان ودفع الشبه بطريق الاستدلال الوجه الثاني أن هذا إشارة إلى كونه متقياً من جميع المعاصي لأن من يتقي معاصي الله في الخلوة اتقاها حيث يراه الناس لا محالة واحتج أصحابنا بهذه الآية على انقطاع وعيد الفساق فقالوا دلت الآية على أن من كان موصوفاً بهذه الخشية فله الأجر العظيم فإذا جاء يوم القيامة مع الفسق ومع هذه الخشية فقد حصل الأمران فإما أن يثاب ثم يعاقب وهو بالإجماع باطل أو يعاقب ثم ينقل إلى دار الثواب وهو المطلوب
واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار ووعد المؤمنين على سبيل المغايبة رجع بعد ذلك إلى خطاب الكفار فقال
وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
وفيه وجهان الوجه الأول قال ابن عباس كانوا ينالون من رسول الله فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فأنزل الله هذه الآية القول الثاني أنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد فالحال واحد في علمه تعالى بهذا فاحذروا من المعاصي سراً كما تحترزون عنها جهراً(30/58)
فإنه لا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى وكما بين أنه تعالى عالم بالجهر وبالسر بين أنه عالم بخواطر القلوب
ثم إنه تعالى لما ذكر كونه عالماً بالجهر وبالسر وبما في الصدور ذكر الدليل على كونه عالماً بهذه الأشياء فقال
أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى أن معنى الآية أن من خلق شيئاً لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه وهذه المقدمة كما أنها مقررة بهذا النص فهي أيضاً مقررة بالدلائل العقلية وذلك لأن الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين على سبيل القصد والقاصد إلى الشيء لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك الشيء فإن الغافل عن الشيء يستحيل أن يكون قاصداً إليه وكما أنه ثبت أن الخالق لا بد وأن يكون عالماً بماهية المخلوق لا بد وأن يكون عالماً بكميته لأن وقوعه على ذلك المقدار دون ما هو أزيد منه أو أنقص لا بد وأن يكون بقصد الفاعل واختياره والقصد مسبوق بالعلم فلا بد وأن يكون قد علم ذلك المقدار وأراد إيجاد ذلك المقدار حتى يكون وقوع ذلك المقدار أولى من وقوع ما هو أزيد منه أو أنقص منه وإلا يلزم أن يكون اختصاص ذلك المقدار بالوقوع دون الأزيد أو الأنقص ترجيحاً لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال فثبت أن من خلق شيئاً فإنه لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق وبكميته وكيفيته وإذا ثبتت هذه المقدمة فنقول تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن العبد غير موجد لأفعاله من وجهين الوجه الأول قالوا لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها لكنه غير عالم بتفاصيلها فهو غير موجد لها بيان الملازمة من وجهين الأول التمسك بهذه الآية الثاني أن وقوع عشرة أجزاء من الحركة مثلاً ممكن ووقوع الأزيد منه والأنقص منه أيضاً ممكن فاختصاص العشرة بالوقوع دون الأزيد ودون الأنقص لا بد وأن يكون لأجل أن القادر المختار خصه بالإيقاع وإلا لكان وقوعه دون الأزيد والأنقص وقوعاً للممكن المحدث من غير مرجح لأن القادر المختار إذا خص تلك العشرة بالإيقاع فلا بد وأن يكون عالماً بأن الواقع عشرة لا أزيد ولا أنقص فثبت أن العبد لو كان موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها وأما أنه غير عالم بتفاصيلها فلوجوه أحدها أن المتكلمين اتفقوا على أن التفاوت بين الحركة السريعة والبطيئة لأجل تخلل السكنات فالفاعل للحركة البطيئة قد فعل في بعض الأحياز حركة وفي بعضها سكوناً مع أنه لم يخطر ألبتة بباله أنه فعل ههنا حركة وههنا سكوناً وثانيها أن فاعل حركة لا يعرف عدد أجزاء تلك الحركات إلا إذا عرف عدد الأحياز التي بين مبدأ المسكنة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بأن الجواهر الفردية التي تتسع لها تلك المسافة من أولها إلى آخرها كم هي ومعلوم أن ذلك غير معلوم وثالثها أن النائم والمغمى عليه قد يتحرك من جنب إلى جنب مع أنه لا يعلم ماهية تلك الحركة ولا كميتها ورابعها أن عند أبي علي وأبي هاشم الفاعل إنما يفعل معنى يقتضي الحصول في الحيز ثم إن ذلك المعنى الموجب مما لا يخطر ببال أكثر الخلق فظهر بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعاله الوجه الثاني في التمسك بهذه الآية على أن العبد غير موجد أن نقول إنه تعالى لما ذكر أنه عالم بالسر والجهر وبكل ما في الصدور قال بعده أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله لو كان تعالى خالقاً لكل ما يفعلونه في السر والجهر وفي الصدور والقلوب فإنه لو لم يكن خالقاً لها لم يكن قوله أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ مقتضياً كونه تعالى عالماً بتلك الأشياء وإذا كان كذلك ثبت أنه تعالى هو الخالق لجميع ما يفعلونه في السر والجهر من أفعال الجوارح ومن أفعال القلوب(30/59)
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجسام والعالم الذي خلق الأجسام هو العالم بهذه الأشياء قلنا إنه لا يلزم من كونه خالقاً لغيره هذه الأشياء كونه عالماً بها لأن من يكون فاعلاً لشيء لا يجب أن يكون عالماً بشيء آخر نعم يلزم من كونه خالقاً لها كونه عالماً بها لأن خالق الشيء يجب أن يكون عالماً به
المسألة الثانية الآية تحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون مِنْ خَلَاقٍ في محل الرفع والمنصوب يكون مضمراً والتقدير ألا يعلم من خلق مخلوقه وثانيها أن يكون من خلق في محل النصب ويكون المرفوع مضمراً والتقدير ألا يعلم الله من خلق والاحتمال الأول أولى لأن الاحتمال الثاني يفيد كونه تعالى عالماً بذات من هو مخلوقه ولا يقتضي كونه عالماً بأحوال من هو مخلوقه والمقصود من الآية هذا لا الأول وثالثها أن تكون مِنْ في تقدير ما كما تكون ما في تقدير من في قوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وعلى هذا التقدير تكون ما إشارة إلى ما يسره الخلق وما يجهرونه ويضمرونه في صدورهم وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
أما قوله وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فاعلم أنهم اختلفوا في اللَّطِيفُ فقال بعضهم المراد العالم وقال آخرون بل المراد من يكون فاعلاً للأشياء اللطيفة التي تخفى كيفية عملها على أكثر الفاعلين ولهذا يقال إن لطف الله بعباده عجيب ويراد به دقائق تدبيره لهم وفيهم وهذا الوجه أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعده تكراراً
هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بين بالدلائل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون ثم ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد ونظيره من قال لعبده الذي أساء إلى مولاه في السر يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك كل هذا الخير الذي هيأته لك ولا تأمن تأديبي فإني إن شئت جعلت هذه الدار التي هي منزل أمنك ومركز سلامتك منشأ للآفات التي تتحير فيها ومنبعاً للمحن التي تهلك بسببها فكذا ههنا كأنه تعالى قال أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم أنا الذي ذللتها إليكم وجعلتها سبباً لنفعكم فامشوا في مناكبها فإنني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن فهذا هو الوجه في اتصال هذه الآية بما قبلها
المسألة الثانية الذلول من كل شيء المنقاد الذي يذل لك ومصدره الذل وهو الانقياد واللين ومنه يقال دابة ذلول وفي وصف الأرض بالذلول أقوال أحدها أنه تعالى ما جعلها صخرية خشنة بحيث يمتنع المشي عليها كما يمتنع المشي على وجوه الصخرة الخشنة وثانيها أنه تعالى جعلها لينة بحيث يمكن حفرها وبناء الأبنية منها كما يراد ولو كانت حجرية صلبة لتعذر ذلك وثالثها أنها لو كانت حجرية أو(30/60)
كانت مثل الذهب أو الحديد لكانت تسخن جداً في الصيف وكانت تبرد جداً في الشتاء ولكانت الزراعة فيها ممتنعة والغراسة فيها متعذرة ولما كانت كفاتاً للأموات والأحياء ورابعها أنه تعالى سخرها لنا بأن أمسكها في جو الهواء ولو كانت متحركة على الاستقامة أو على الاستدارة لم تكن منقادة لنا
المسألة الثالثة قوله فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا أمر إباحة وكذا القول في قوله وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ
المسألة الرابعة ذكروا في مناكب الأرض وجوهاً أحدها قال صاحب ( الكشاف ) المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأبعده من إمكان المشي عليه فإذا صار البعير بحيث يمكن المشي على منكبه فقد صار نهاية في الانقياد والطاعة فثبت أن قوله فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا كناية عن كونها نهاية في الذلولية وثانيها قول قتادة والضحاك وابن عباس إن مناكب الأرض جبالها وآكامها وسميت الجبال مناكب لأن مناكب الإنسان شاخصة والجبال أيضاً شاخصة والمعنى أني سهلت عليكم المشي في مناكبها وهي أبعد أجزائها عن التذليل فكيف الحال في سائر أجزائها وثالثها أن مناكبها هي الطرق والفجاج والأطراف والجوانب وهو قول الحسن ومجاهد والكلبي ومقاتل ورواية عطاء عن ابن عباس واختيار الفراء وابن قتيبة قال مناكبها جوانبها ومنكبا الرجل جانباه وهو كقوله تعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ بِسَاطاً لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ( نوح 19 20 ) أما قوله وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ أي مما خلقه الله رزقاً لكم في الأرض وَإِلَيْهِ النُّشُورُ يعني ينبغي أن يكون مكثكم في الأرض وأكلكم من رزق الله مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله وأكل من يتيقن أن مصيره إلى الله والمراد تحذيرهم عن الكفر والمعاصي في السر والجهر ثم إنه تعالى بين أن بقاءهم مع هذه السلامة في الأرض إنما كان بفضل الله ورحمته وأنه لو شاء لقلب الأمر عليهم ولأمطر عليهم من سحاب القهر مطر الآفات فقال تقريراً لهذا المعنى
أَءَمِنتُمْ مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِى َ تَمُورُ
واعلم أن هذه الآيات نظيرها قوله تعالى قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ( الأنعام 65 ) وقال فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ ( القصص 81 )
واعلم أن المشبهة احتجوا على إثبات المكان لله تعالى بقوله ءامَنْتُمْ مَّن فِى السَّمَاء والجواب عنه أن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطاً به من جميع الجوانب فيكون أصغر من السماء والسماء أصغر من العرش بكثير فيلزم أن يكون الله تعالى شيئاً حقيراً بالنسبة إلى العرش وذلك باتفاق أهل الإسلام محال ولأنه تعالى قال قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( الأنعام 12 ) فلو كان الله في السماء لوجب أن يكون مالكاً لنفسه وهذا محال فعلمنا أن هذه الآية يجب صرفها عن ظاهرها إلى التأويل ثم فيه وجوه أحدها لم لا يجوزأن يكون تقدير الآية أأمنتم من في السماء عذابه وذلك لأن عادة الله تعالى جارية بأنه إنما ينزل البلاء على من يكفر بالله ويعصيه من السماء فالسماء موضع عذابه تعالى كما أنه موضع نزول رحمته ونعمته وثانيها قال أبو مسلم كانت العرب مقرين بوجود الإله لكنهم كانوا يعتقدون أنه في السماء على وفق قول المشبهة فكأنه تعالى(30/61)
قال لهم أتأمنون من قد أقررتم بأنه في السماء واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء أن يخسف بكم الأرض وثالثها تقدير الآية من في السماء سلطانه وملكه وقدرته والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله وتعظيم قدرته كما قال وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ ( الأنعام 3 ) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين فوجب أن يكون المراد من كونه في السموات وفي الأرض نفاذ أمره وقدرته وجريان مشيئته في السموات وفي الأرض فكذا ههنا ورابعها لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله مَّن فِى السَّمَاء الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام والمعنى أن يخسف بهم الأرض بأمر الله وإذنه وقوله فَإِذَا هِى َ تَمُورُ قالوا معناه إن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فيذهبون والأرض فوقهم تمور فتلقيهم إلى أسفل السافلين وقد ذكرنا تفسير المور فيما تقدم
أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
ثم زاد في التخويف فقال أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً
قال ابن عباس كما أرسل على قوم لوط فقال إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً ( القمر 34 ) والحاصب ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء لشدتها وقيل هو سحاب فيها حجارة
ثم هدد وأوعد فقال فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
قيل في النذير ههنا إنه المنذر يعني محمداً عليه الصلاة والسلام وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك والمعنى فستعملون رسولي وصدقه لكن حين لا ينفعكم ذلك وقيل إنه بمعنى الإنذار والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول و ( كيف ) في قوله كَيْفَ نَذِيرِ ينبىء عما ذكرنا من صدق الرسول وعقوبة الإنذار
واعلم أنه تعالى لما خوف الكفار بهذه التخويفات أكد ذلك التخويف بالمثال والبرهان أما المثال فهو أن الكفار الذين كانوا قبلهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم فقال
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
يعني عاداً وثمود وكفار الأمم وفيه وجهانأحدهما قال الواحدي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أي إنكاري وتغييري أليس وجدوا العذاب حقاً والثاني قال أبو مسلم النكير عقاب المنكر ثم قال وإنما سقط الياء من نذيري ومن نكيري حتى تكون مشابهة لرؤوس الآي المتقدمة عليها والمتأخرة عنها وأما البرهان فهو أنه تعالى ذكر ما يدل على كمال قدرته ومتى ثبت ذلك ثبت كونه تعالى قادراً على إيصال جميع أنواع العذاب إليهم وذلك البرهان من وجوه
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ بَصِيرٌ
البرهان الأول هو قوله تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ(30/62)
صَافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها وَيَقْبِضْنَ ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن فإن قيل لم قال وَيَقْبِضْنَ ولم يقل وقابضات قلنا لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارىء غير أصلي بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح
ثم قال تعالى يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ وذلك لأنها مع ثقلها وضخامة أجسامها لم يكن بقاؤها في جو الهواء إلا بإمساك الله وحفظه وههنا سؤالان
السؤال الأول هل تدل هذه الآية على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله قلنا نعم وذلك لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري للطير
ثم إنه تعالى قال مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ فدل هذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى
السؤال الثاني أنه تعالى قال في النحل ( 79 ) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِى جَوّ السَّمَآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ وقال ههنا مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ فما الفرق قلنا ذكر في النحل أن الطير مسخرات في جو السماء فلا جرم كان إمساكها هناك محض الإلهية وذكر ههنا أنها صافات وقابضات فكان إلهامها إلى كيفية البسط والقبض على الوجه المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن
ثم قال تعالى إِنَّهُ بِكُلّ شَى ْء بَصِيرٌ وفيه وجهان الوجه الأول المراد من البصير كونه عالماً بالأشياء الدقيقة كما يقال فلان بصر في هذا الأمر أي حذق والوجه الثاني أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول إنه تعالى شيء والله بكل شيء بصير فيكون رائياً لنفسه ولجميع الموجودات وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه تعالى يصح أن يكون مرئياً وأن كل الموجودات كذلك فإن قيل البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم يقال فلان بصير بكذا إن كان عالماً به قلنا لا نسلم فإنه يقال إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات
أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ
اعلم أن الكافرين كانوا يمتنعون عن الإيمان ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام وكان تعويلهم على شيئين أحدهما القوة التي كانت حاصلة لهم بسبب مالهم وجندهم والثاني أنهم كانوا يقولون هذه الأوثان توصل إلينا جميع الخيرات وتدفع عنا كل الآفات وقد أبطل الله عليهم كل واحد من هذين الوجهين أما الأول فبقوله أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرَّحْمَنِ وهذا نسق(30/63)
على قوله أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السَّمَاء ( الملك 17 ) والمعنى أم من يشار إليه من المجموع ويقال هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الله إن أرسل عذابه عليكم ثم قال إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ أي من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم
أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
أما الثاني فهو قوله أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ
والمعنى من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم وهذا أيضاً مما لا ينكره ذو عقل وهذا أنه تعالى لو أمسك أسباب الرزق كالمطر والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ والمراد أصروا وتشددوا مع وضوح الحق في عتو أي في تمرد وتكبر ونفور أي تباعد عن الحق وإعراض عنه فالعتو بسبب حرصهم على الدنيا وهو إشارة إلى فساد القوة العملية والنفور بسبب جهلهم وهذا إشارة إلى فساد القوة النظرية
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالعتو والنفور نبه على ما يدل على قبح هذين الوصفين
بم فقال تعالى
أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي أكب مطاوع كبه يقال كببته فأكب ونظيره قشعت الريح السحاب فأقشع قال صاحب ( الكشاف ) ليس الأمر كذلك و ( جاء ) شيء من بناء أفعل مطاوعاً بل قولك أكب معناه دخل في الكب وصار ذا كب وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع وأنفض أي دخل في النفض وهو نفض الوعاء فصار عبارة عن الفقر وألام دخل في اللوم وأما مطاوع كب وقشع فهو انكب وانقشع
المسألة الثانية ذكروا في تفسير قوله يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ وجوهاً أحدها معناه أن الذي يمشي في مكان غير مستو بل فيه ارتفاع وانخفاض فيعثر كل ساعة ويخر على وجهه مكباً فحاله نقيض حال من يمشي سوياً أي قائماً سالماً من العثور والخرور وثانيها أن المتعسف الذي يمشي هكذا وهكذا على الجهالة والحيرة لا يكون كمن يمشي إلى جهة معلومة مع العلم واليقين وثالثها أن الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه لا يكون كالرجل السوي الصحيح البصر الماشي في الطريق المعلوم ثم اختلفوا فمنهم من قال هذا حكاية حال الكافر في الآخرة قال قتادة الكافر أكب على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله تعالى على الطريق السوي يوم القيامة وقال آخرون بل هذا حكاية حال المؤمن والكافر والعالم والجاهل في الدنيا واختلفوا أيضاً فمنهم من قال هذا عام في حق جميع المؤمنين والكفار ومنهم من قال بل المراد منه شخص معين فقال مقاتل المراد أبو جهل والنبي عليه الصلاة والسلام وقال عطاء عن ابن عباس المراد أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب وقال عكرمة هو أبو جهل وعمار بن ياسر
البرهان الثاني على كمال قدرته قوله تعالى
قُلْ هُوَ الَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالاٌّ فْئِدَة َ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ(30/64)
اعلم أنه تعالى لما أورد البرهان أولاً من حال سائر الحيوانات وهو وقوف الطير في الهواء أورد البرهان بعده من أحوال الناس وهو هذه الآية وذكر من عجائب ما فيه حال السمع والبصر والفؤاد ولقد تقدم شرح أحوال هذه الأمور الثلاثة في هذا الكتاب مراراً فلا فائدة في الإعادة واعلم أن في ذكرها ههنا تنبيهاً على دقيقة لطيفة كأنه تعالى قال أعطيتكم هذه الإعطاءات الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه فكأنكم ضيعتم هذه النعم وأفسدتم هذه المواهب فلهذا قال قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وذلك لأن شكر نعمة الله تعالى هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه وأنتم لما صرفتم السمع والبصر والعقل لا إلى طلب مرضاته فأنتم ما شكرتم نعمته ألبتة
البرهان الثالث قوله تعالى
قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانات أولاً ثم بصفات الإنسان ثانياً وهي السمع والبصر والعقل ثم بحدوث ذاته ثالثاً وهو قوله هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ واحتج المتكلمون بهذه الآية على أن الإنسان ليس هو الجوهر المجرد عن التحيز والكمية على ما يقوله الفلاسفة وجماعة من المسلمين لأنه قال قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ فبين أنه ذرأ الإنسان في الأرض وهذا يقتضي كون الإنسان متحيزاً جسماً واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر والنشر ليثبت ما ادعاه من الابتلاء في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ( الملك 2 ) ثم لأجل إثبات هذا المطلوب ذكر وجوهاً من الدلائل على قدرته ثم ختمها بقوله قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ ولما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة لا جرم قال بعده وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فبين بهذا أن جميع ما تقدم ذكره من الدلائل إنما كان لإثبات هذا المطلوب
واعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار شيئين أحدهما أنهم طالبوه بتعيين الوقت
بم وهو قوله تعالى
وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم إنه تعالى قال يقول بلفظ المستقبل فهذا يحتمل ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل ويحتمل الماضي والتقدير فكانوا يقولون هذا الوعد
المسألة الثانية لعلهم كانوا يقولون ذلك على سبيل السخرية ولعلهم كانوا يقولونها إبهاماً للضعفة أنه لما لم يتعجل فلا أصل له
المسألة الثالثة الوعد المسؤول عنه ما هو فيه وجهان أحدهما أنه القيامة والثاني أنه مطلق العذاب وفائدة هذا الاختلاف تظهر بعد ذلك إن شاء الله(30/65)
ثم أجاب الله عن هذا السؤال بقوله تعالى
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
والمراد أن العلم بالوقوع غير العلم بوقت الوقوع فالعلم الأول حاصل عندي وهو كاف في الإنذار والتحذير أما العلم الثاني فليس إلا لله ولا حاجة في كوني نذيراً مبيناً إليه
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً سِي ئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَاذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ
ثم إنه تعالى بين حالهم عند نزول ذلك الوعد فقال تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفيه مسائل
المسألة لأولى قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ الضمير للوعد والزلفة القرب والتقدير فلما رأوه قرباً ويحتمل أنه لما اشتد قربه جعل كأنه في نفس القرب وقال الحسن معاينة وهذا معنى وليس بتفسير وذلك لأن ما قرب من الإنسان رآه معاينة
المسألة الثانية قوله سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ قال ابن عباس اسودت وعلتها الكآبة والقترة وقال الزجاج تبين فيها السوء وأصل السوء القبح والسيئة ضد الحسنة يقال ساء الشيء يسوء فهو سيىء إذا قبح وسيىء يساء إذا قبح وهو فعل لازم ومتعد فمعنى سيئت وجوههم قبحت بأن علتها الكآبة وغشيها الكسوف والقترة وكلحوا وصارت وجوههم كوجه من يقاد إلى القتل
المسألة الثالثة اعلم أن قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً إخبار عن الماضي فمن حل الوعد في قوله وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ ( الملك 25 ) على مطلق العذاب سهل تفسير الآية على قوله فلهذا قال أبو مسلم في قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً يعني أنه لما أتاهم عذاب الله المهلك لهم كالذي نزل بعاد وثمود سيئت وجوههم عند قربه منهم وأما من فسر ذلك الوعد بالقيامة كان قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً معناه فمتى ما رأوه زلفة وذلك لأن قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً إخبار عن الماضي وأحوال القيامة مستقبلة لا ماضية فوجب تفسير اللفظ بما قلناه قال مقاتل فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً أي لما رأوا العذاب في الآخر قريباً
وأما قوله تعالى وَقِيلَ هَاذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم القائلون هم الزبانية وقال آخرون بل يقول بعضهم لبعض ذلك
المسألة الثانية في قوله تَدْعُونَ وجوه أحدها قال الفراء يريد تدعون من الدعاء أي تطلبون وتستعجلون به وتدعون وتدعون واحد في اللغة مثل تذكرون وتذكرون وتدخرون وتدخرون وثانيها أنه من الدعوى معناه هذا الذي كنتم تبطلونه أي تدعون أنه باطل لا يأتيكم أو هذا الذي كنتم بسببه وتدعون أنكم لا تبعثون وثالثها أن يكون هذا استفهاماً على سبيل الإنكار والمعنى أهذا الذي تدعون لا بل كنتم تدعون عدمه
المسألة الثالثة قرأ يعقوب الحضرمي تَدْعُونَ خفيفة من الدعاء وقرأ السبعة تَدْعُونَ مثقلة من الادعاء(30/66)
قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِى َ اللَّهُ وَمَن مَّعِى َ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
اعلم أن هذا الجواب هو من النوع الثاني مما قاله الكفار لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) حين خوفهم بعذاب الله يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى المؤمنين بالهلاك كما قال تعالى أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( الطور 30 ) وقال بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ( الفتح 12 ) ثم إنه تعالى أجاب عن ذلك من وجهين الوجه الأول هو هذه الآية والمعنى قل لهم إن الله تعالى سواء أهلكني بالإماتة أو رحمني بتأخير الأجل فأي راحة لكم في ذلك وأي منفعة لكم فيه ومن الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم أتظنون أن الأصنام تجيركم أو غيرها فإذا علمتم أن لا مجير لكم فهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب وهو العلم بالتوحيد والنبوة والبعث الوجه الثاني في الجواب قوله تعالى
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
والمعنى أنه الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فيعلم أنه لا يقبل دعاءكم وأنتم أهل الكفر والعناد في حقنا مع أنا آمنا به ولم نكفر به كما كفرتم ثم قال وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا لا على غيره كما فعلتم أنتم حيث توكلتم على رجالكم وأموالكم وقرىء فَسَتَعْلَمُونَ على المخاطبة وقرىء بالياء ليكون على وفق قوله فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ ( الكافرين 28 )
واعلم أنه لما ذكر أنه يجب أن يتوكل عليه لا على غيره ذكر الدليل عليه
بم فقال تعالى
قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ
والمقصود أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر أي أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباً في الأرض فمن يأتيكم بماء معين فلا بد وأن يقولوا هو الله فيقال لهم حينئذ فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في المعبودية وهو كقوله أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ ( الواقعة 68 69 ) وقوله غَوْرًا أي غائراً ذاهباً في الأرض يقال غار الماء يغور غوراً إذا نضب وذهب في الأرض والغور ههنا بمعنى الغائر سمي بالمصدر كما يقال رجل عدل ورضا والمعين الظاهر الذي تراه العيون فهو من مفعول العين كمبيع وقيل المعين الجاري من العيون من الإمعان في الجري كأنه قيل ممعن في الجري والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(30/67)
سورة القلم
وهي اثنتان وخمسون آية مكية
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ
ن فيه مسألتان
المسألة الأولى الأقوال المذكورة في هذا الجنس قد شرحناها في أول سورة البقرة والوجوه الزائدة التي يختص بها هذا الموضع أولها أن النون هو السمكة ومنه في ذكر يونس وَذَا النُّونِ ( الأنبياء 87 ) وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدي ثم القائلون بهذا منهم من قال إنه قسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى ومنهم من قال إنه قسم بالحوت الذي احتبس يونس عليه السلام في بطنه ومنهم من قال إنه قسم بالحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه والقول الثاني وهو أيضاً مروي عن ابن عباس واختيار الضحاك والحسن وقتادة أن النون هو الدواة ومنه قول الشاعر إذا ما الشوق يرجع بي إليهم
ألقت النون بالدمع السجوم
فيكون هذا قسماً بالدواة والقلم فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق و ( تارة ) يتحرى بالكتابة والقول الثالث أن النون لوح تكتب الملائكة ما يأمرهم الله به فيه رواه معاوية بن قرة مرفوعاً والقول الرابع أن النون هو المداد الذي تكتب به الملائكة واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأنا إذا جعلناه مقسماً به وجب إن كان جنساً أن نجره وننونه فإن القسم على هذا التقدير يكون بدواة منكرة أو بسمكة منكرة كأنه قيل وسمكة والقلم أو قيل ودواة والقلم وإن كان علماً أن نصرفه ونجره أو لا نصرفه ونفتحه إن جعلناه غير منصرف والقول الخامس أن نون ههنا آخر حروف الرحمن فإنه يجتمع من الرحمن ن اسم الرحمن فذكر الله هذا الحرف الأخير من هذا الاسم والمقصود القسم بتمام هذا الاسم وهذا أيضاً ضعيف لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية بل الحق أنه إما أن يكون اسماً للسورة أو يكون الغرض منه التحدي أو سائر الوجوه المذكورة في أول سورة البقرة(30/68)
المسألة الثانية القراء مختلفون في إظهار النون وإخفائه من قوله ن وَالْقَلَمِ فمن أظهرها فلأنه ينوي بها الوقف بدلالة اجتماع الساكنين فيها وإذا كانت موقوفة كانت في تقدير الانفصال مما بعدها وإذا انفصلت مما بعدها وجب التبيين لأنها إنما تخفى في حروف الفم عند الاتصال ووجه الإخفاء أن همزة الوصل لم تقطع مع هذه الحروف في نحو الم اللَّهِ ( آل عمران 1 ) وقولهم في العدد واحد إثنان فمن حيث لم تقطع الهمزة معها علمنا أنها في تقدير الوصل وإذا وصلتها أخفيت النون وقد ذكرنا هذا في طس ( النمل 1 ) و يس ( يس 1 ) وقال الفراء وإظهارها أعجب إلي لأنها هجاء والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل
وقوله تعالى وَالْقَلَمِ فيه قولان أحدهما أن القسم به هو الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به من في السماء ومن في الأرض قال تعالى وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ لَمْ يَعْلَمْ ( العلق 3 5 ) فمنّ بتيسير الكتابة بالقلم كما منَّ بالنطق فقال خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 3 4 ) ووجه الانتفاع به أن ينزل الغائب منزلة المخاطب فيتمكن المرء من تعريف البعيد به ما يتمكن باللسان من تعريف القريب والثاني أن المقسم به هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن أول ما خلق الله القلم قال ابن عباس أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة فجرى بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة من الآجال والأعمال قال وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض وروى مجاهد عنه قال أول ما خلق الله القلم فقال اكتب القدر فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه قال القاضي هذا الخبر يجب حمله على المجاز لأن القلم الذي هو آلة مخصوصة في الكتابة لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( البقرة 117 ) فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة ومن الناس من زعم أن القلم المذكور ههنا هو العقل وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات قالوا والدليل عليه أنه روي في الأخبار أن أول ما خلق الله القلم وفي خبر آخر أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السموات ومن الزبد الأرض قالوا فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد وإلا حصل التناقض
قوله تعالى وَمَا يَسْطُرُونَ
اعلم أن ما مع ما بعدها في تقدير المصدر فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم فيكون القسم واقعاً بنفس الكتابة ويحتمل أن يكون المراد المسطور والمكتوب وعلى التقديرين فإن حملنا القلم على كل قلم في مخلوقات الله كان المعنى ظاهراً وكأنه تعالى أقسم بكل قلم وبكل ما يكتب بكل قلم وقيل بل المراد ما يسطره الحفظة والكرام الكاتبون ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في يَسْطُرُونَ لهم كأنه قيل وأصحاب القلم وسطرهم أي ومسطوراتهم وأما إن حملنا القلم على ذلك القلم المعين(30/69)
فيحتمل أن يكون المراد بقوله وَمَا يَسْطُرُونَ أي وما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ ولفظ الجمع في قوله يَسْطُرُونَ ليس المراد منه الجمع بل التعظيم أو يكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من الأعمال والأعمار وجميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال
مَآ أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاّجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
اعلم أن قوله مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ فيه مسألتان
المسألة الأولى روي عن ابن عباس أنه عليه السلام غاب عن خديجة إلى حراء فطلبته فلم تجده فإذا به وجهه متغير بلا غبار فقالت له مالك فذكر نزول جبريل عليه السلام وأنه قال له اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ( العلق 1 ) فهو أول ما نزل من القرآن قال ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت ثم صلى وصليت معه ركعتين وقال هكذا الصلاة يا محمد فذكر عليه الصلاة والسلام ذلك لخديجة فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية فسألته فقال أرسلي إليَّ محمداً فأرسلته فأتاه فقال له هل أمرك جبريل عليه السلام أن تدعو إلى الله أحداً فقال لا فقال والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ثم مات قبل دعاء الرسول ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا إنه لمجنون فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون وهو خمس آيات من أول هذه السورة ثم قال ابن عباس وأول ما نزل قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ ( الأعلى 1 ) وهذه الآية هي الثانية
المسألة الثانية قال الزجاج أَنتَ هو اسم مَا و بِمَجْنُونٍ الخبر وقوله بِنِعْمَة ِ رَبّكَ كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك كما يقال أنت بحمد الله عاقل وأنت بحمد الله لست بمجنون وأنت بنعمة الله فهم وأنت بنعمة الله لست بفقير ومعناه أن تلك الصفة المحمودة إنما حصلت والصفة المذمومة إنما زالت بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه وقال عطاء وابن عباس يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة وهو جواب لقولهم وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر 6 ) واعلم أنه تعالى وصفه ههنا بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى نفي الجنون عنه ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها وذلك لأن قوله بِنِعْمَة ِ رَبّكَ يدل على أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون فالله تعالى نبه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له إنه مجنون
الصفة الثانية قوله وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وفي الممنون قولان أحدهما وهو قول الأكثرين أن المعنى غير منقوص ولا مقطوع يقال منَّه السير أي أضعفه والمنين الضعيف ومنَّ الشيء إذا قطعه ومنه قول لبيد(30/70)
غبش كواسب ما يمن طعامها
يصف كلاباً ضارية ونظيره قوله تعالى عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( هود 108 )
والقول الثاني وهو قول مجاهد ومقاتل والكلبي إنه غير مقدر عليك بسبب المنة قالت المعتزلة في تقرير هذا الوجه إنه غير ممنون عليك لأنه ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء والقول الأول أشبه لأن وصفه بأنه أجر يفيد أنه لا منة فيه فالحمل على هذا الوجه يكون كالتكرير ثم اختلفوا في أن هذا الأجر على أي شيء حصل قال قوم معناه إن لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً وقال آخرون المراد إن لك في إظهار النبوة والمعجزات في دعاء الخلق إلى الله وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم فلا تمنعك نسبتها إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم فإن لك بسببه المنزلة العالية عند الله
الصفة الثالثة قوله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا كالتفسير لما تقدم من قوله بِنِعْمَة ِ رَبّكَ وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب وخطأ وذلك لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه ومن كان موصوفاً بتلك الأخلاق والأفعال لم يجز إضافة الجنون إليه لأن أخلاق المجانين سيئة ولما كانت أخلاقه الحميدة كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ولهذا قال قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ ( ص 86 ) أي لست متكلفاً فيما يظهر لكم من أخلاقي لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلاً بل يرجع إلى الطبع وقال آخرون إنما وصف خلقه بأنه عظيم وذلك لأنه تعالى قال له أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وهذا الهدى الذي أمر الله تعالى محمداً بالاقتداء به ليس هو معرفة الله لأن ذلك تقليد وهو غير لائق بالرسول وليس هو الشرائع لأن شريعته مخالفة لشرائعهم فتعين أن يكون المراد منه أمره عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء المتقدمين فيما اختص به من الخلق الكريم فكأن كل واحد منهم كان مختصاً بنوع واحد فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقاً فيهم ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله لا جرم وصف الله خلقه بأنه عظيم وفيه دقيقة أخرى وهي قوله لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وكلمة على للاستعلاء فدل اللفظ على أنه مستعمل على هذه الأخلاق ومستول عليها وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الجميلة كالمولى بالنسبة إلى العبد وكالأمير بالنسبة إلى المأمور
المسألة الثانية الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة واعلم أن الإتيان بالأفعال الجميلة غير وسهولة الإتيان بها غير فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخلق ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والغضب والتشديد في المعاملات والتحبب إلى الناس بالقول والفعل وترك التقاطع والهجران والتساهل في العقود كالبيع وغيره والتسمح بما يلزم من حقوق من له نسب أو كان صهراً له وحصل له حق آخر وروي عن ابن عباس أنه قال معناه وإنك لعلى دين عظيم وروي أن الله تعالى قال له ( لم أخلق ديناً أحب إلي ولا أرضى عندي من هذا الدين الذي اصطفيته لك ولأمتك ) يعني الإسلام واعلم أن هذا القول ضعيف وذلك لأن الإنسان له قوتان قوة نظرية وقوة عملية(30/71)
والدين يرجع إلى كمال القوة النظرية والخلق يرجع إلى كمال القوة العملية فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر ويمكن أيضاً أن يجاب عن هذا السؤال من وجهين الوجه الأول أن الخلق في اللغة هو العادة سواء كان ذلك في إدراك أو في فعل الوجه الثاني أنا بينا أن الخلق هو الأمر الذي باعتباره يكون الإتيان بالأفعال الجميلة سهلاً فلما كانت الروح القدسية التي له شديدة الاستعداد للمعارف الإلهية الحقة وعديمة الاستعداد لقبول العقائد الباطلة كانت تلك السهولة حاصلة في قبول المعارف الحقة فلا يبعد تسمية تلك السهول بالخلق
المسألة الثالثة قال سعيد بن هشام قلت لعائشة ( أخبريني عن خلق رسول الله قالت ألست قرأ القرآن قلت بلى قالت فإنه كان خلق النبي عليه الصلاة والسلام ) وسئلت مرة أخرى فقالت كان خلقه القرآن ثم قرأت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) إلى عشرة آيات وهذا إشارة إلى أن نفسه المقدسة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب وإلى كل ما يتعلق بها وكانت شديدة النفرة عن اللذات البدنية والسعادة الدنيوية بالطبع ومقتضى الفطرة اللهم ارزقنا شيئاً من هذه الحالة وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت ( ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك ) فلهذا قال تعالى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وقال أنس ( خدمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشر سنين فما قال لي في شي فعلته لم فعلت ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت ) وأقول إن الله تعالى وصف ما يرجع إلى قوته النظرية بأنه عظيم فقال وَعَلَّمَكَ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم فقال وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فلم يبق للإنسان بعد هاتين القوتين شيء فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية كانت عظيمة عالية الدرجة كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة
واعلم أنه تعالى لما وصفه بأنه على خلق عظيم قال
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ
أي فسترى يا محمد ويرون يعني المشركين وفيه قولان منهم من حمل ذلك على أحوال الدنيا يعني فستبصر ويبصرون الدنيا أنه كيف يكون عاقبة أمرك وعاقبة أمرهم فإنك تصير معظماً في القلوب ويصيرون دليلين ملعونين وتستولي عليهم بالقتل والنهب قال مقاتل هذا وعيد بالعذاب ببدر ومنهم من حمله على أحوال الآخرة وهو كقوله سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاْشِرُ ( القمر 26 )
بم وأما قوله تعالى
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ
ففيه وجوه أحدها وهو قول الأخفش وأبي عبيدة وابن قتيبة أن الباء صلة زائدة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون كقوله تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( المؤمنين 20 ) أي تنبت الدهن وأنشد أبو عبيدة(30/72)
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
والفراء طعن في هذا الجواب وقال إذا أمكن فيه بيان المعنى الصحيح من دون طرح الباء كان ذلك أولى وأما البيت فمعناه نرجو كشف ما نحن فيه بالفرج أو نرجو النصر بالفرج وثانيها وهو اختيار الفراء والمبرد أن المفتون ههنا بمعنى الفتون وهو الجنون والمصادر تجيء على المفعول نحو المعقود والميسور بمعنى العقد واليسر يقال ليس له معقود رأي أي عقد رأى وهذا قول الحسن والضحاك ورواية عطية عن ابن عباس وثالثها أن الباء بمعنى في ومعنى الآية فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار ورابعها المفتون هو الشيطان إذ لا شك أنه مفتون في دينه وهم لما قالوا إنه مجنون فقد قالوا إن به شيطاناً فقال تعالى سيعلمون غداً بأيهم شيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل ثم قال تعالى
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
وفيه وجهان الأول هو أن يكون المعنى إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذي ضلوا عن سبيله وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون الثاني أن يكون المعنى إنهم رموك بالجنون ووصفوا أنفسهم بالعقل وهم كذبوا في ذلك ولكنهم موصوفون بالضلال وأنت موصوف بالهداية والامتياز الحاصل بالهداية والضلال أولى بالرعاية من الامتياز الحاصل بسبب العقل والجنون لأن ذاك ثمرته السعادة الأبدية ( أ ) و الشقاوة وهذا ثمرته السعادة ( أ ) و الشقاوة في الدنيا
فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار في أمر الرسول ونسبته إلى الجنون مع الذي أنعم الله به عليه من الكمال في أمر الدين والخلق أتبعه بما يدعوه إلى التشدد مع قومه وقوى قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة الكفار فإن هذه السورة من أوائل ما نزل فقال فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ يعني رؤساء أهل مكة وذلك أنهم دعوه إلى دين آبائه فنهاه الله أن يطيعهم وهذا من الله إلهاب وتهييج التشدد في مخالفتهم ثم قال
وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الليث الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام قال المبرد داهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر والمعنى تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض مالا ترضى فتلين لهم ويلينون لك وروى عطاء عن ابن عباس لو تكفر فيكفرون
المسألة الثانية إنما رفع فَيُدْهِنُونَ ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني لأنه قد عدل به إلى(30/73)
طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون كقوله فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( الجن 13 ) على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ قال سيبويه وزعم هارون وكان من القراء أنها في بعض المصاحف ( ودوا لو تدهن فيدهنوا ) واعلم أنه تعالى لما نهاه عن طاعة المكذبين وهذا يتناول النهي عن طاعة جميع الكفار إلا أنه أعاد النهي عن طاعة من كان من الكفار موصفاً بصفات مذمومة وراء الكفر وتلك الصفات هي هذه
الصفة الأولى كونه حلافاً والحلاف من كان كثير الحلف في الحق والباطل وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف ومثله قوله وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَة ً لاِيْمَانِكُمْ ( البقرة 224 )
الصفة الثانية كونه مهيناً قال الزجاج هو فعيل من المهانة ثم فيه وجهان أحدهما أن المهانة هي القلة والحقارة في الرأي والتمييز والثاني أنه إنما كان مهيناً لأن المراد الحلاف في الكذب والكذاب حقير عند الناس وأقول كونه حلافاً يدل على أنه لا يعرف عظمة الله تعالى وجلاله إذ لو عرف ذلك لما أقدم في كل حين وأوان بسبب كل باطل على الاستشهاد باسمه وصفته ومن لم يكن عالماً بعظمة الله وكان متعلق القلب بطلب الدنيا كان مهيناً فهذا يدل على أن عزة النفس لا تحصل إلا لمن عرف نفسه بالعبودية وأن مهانتها لا تحصل إلا لمن غفل عن سر العبودية
الصفة الثالثة كونه همازاً وهو العياب الطعان قال المبرد هو الذي يهمز الناس أي يذكرهم بالمكروه وأثر ذلك يظهر العيب وعن الحسن يلوي شدقيه في أقفية الناس وقد استقصينا ( القول ) فيه في قوله وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ ( الهمزة 1 )
الصفة الرابعة كونه مشاء بنميم أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم يقال نم ينم وينم نماً ونميماً ونميمة
الصفة الخامسة كونه مناعاً للخير وفيه قولان أحدهما أن المراد أنه بخيل والخير المال والثاني كان يمنع أهله من الخير وهو الإسلام وهذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان له عشرة من البنين وكان يقول لهم وما قاربهم لئن تبع دين محمد منكم أحد لا أنفعه بشيء أبداً فمنعهم الإسلام فهو الخير الذي منعهم وعن ابن عباس أنه أبو جهل وعن مجاهد الأسود بن عبد يغوث وعن السدي الأخنس بن شريق
الصفة السادسة كونه معتدياً قال مقاتل معناه أنه ظلوم يتعدى الحق ويتجاوزه فيأتي بالظلم ويمكن حمله على جميع الأخلاق الذميمة يعني أنه نهاية في جميع القبائح والفضائح
الصفة السابعة كونه أثيماً وهو مبالغة في الإثم
الصفة الثامنة العتل وأقوال المفسرين فيه كثيرة وهي محصورة في أمرين أحدهما أنه ذم في الخلق والثاني أنه ذم في الخلق وهو مأخوذ من قولك عتله إذا قاده بعنف وغلظة ومنه قوله تعالى فَاعْتِلُوهُ ( الدخان 47 ) أما الذين حملوه(30/74)
على ذم الخلق فقال ابن عباس في رواية عطاء يريد قوي ضخم وقال مقاتل واسع البطن وثيق الخلق وقال الحسن الفاحش الخلق اللئيم النفس وقال عبيدة بن عمير هو الأكول الشروب القوي الشديد وقال الزجاج هو الغليظ الجافي أما الذين حملوه على ذم الأخلاق فقالوا إنه الشديد الخصومة الفظ العنيف
الصفة التاسعة قوله زَنِيمٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الزنيم أقوال الأول قال الفراء الزنيم هو الدعي الملصق بالقوم وليس منهم قال حسان وأنت زنيم نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والزنمة من كل شيء الزيادة وزنمت الشاة أيضاً إذا شقت أذنها فاسترخت ويبست وبقيت كالشيء المعلق فالحاصل أن الزنيم هو ولد الزنا الملحق بالقوم في النسب وليس منهم وكان الوليد دعياً في قريش وليس من سنخهم ادعاه بعد ثمان عشرة ( ليلة ) من مولده وقيل بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية والقول الثاني قال الشعبي هو الرجل يعرف بالشر واللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها والقول الثالث روى عن عكرمة عن ابن عباس قال معنى كونه زنيماً أنه كانت له زنمة في عنقه يعرف بها وقال مقاتل كان في أصل أذنه مثل زنمة الشاة
المسألة الثانية قول بَعْدَ ذَلِكَ معناه أنه بعدما عدَّ له من المثالب والنقائص فهو عتل زنيم وهذا يدل على أن هذين الوصفين وهو كونه عتلاً زنيماً أشد معايبه لأنه إذا كان جافياً غليظ الطبع قسا قلبه واجترأ على كل معصية ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الولد ولهذا قال عليه الصلاة السلام ( لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده ) وقيل ههنا بَعْدَ ذَلِكَ نظير ثُمَّ في قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 ) وقرأ الحسن ( عتل ) رفعاً على الذم
ثم إنه تعالى بعد تعديد هذه الصفات قال
أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن قوله إِن كَانَ يجوز أن يكون متعلقاً بما قبله وأن يكون متعلقاً بما بعده أما الأول فتقديره ولا تطع كل حلاف مهين أن كان ذا مال وبنين أي لا تطعه مع هذه المثالب ليساره وأولاده وكثرته وأما الثاني فتقديره لأجل أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين والمعنى لأجل أن كان ذا مال وبنين جعل مجازاة هذه النعم التي خولها الله له الكفر بآياته قال أبو علي الفاسي العامل في قوله إِن كَانَ إما أن يكون هو قوله تُتْلَى أو قوله قَالَ أو شيئاً ثالثاً والأول باطل لأن تُتْلَى قد أضيفت إِذَا إليه والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله ألا ترى أنك لا تقول القتال زيداً حين يأتى تريد حين يأتي زيداً ولا يجوز أن يعمل فيه أيضاً قَالَ لأن قَالَ جواب إِذَا وحكم الجواب أن يكون بعدما هو جواب له ولا يتقدم عليه ولما بطل هذان القسمان علمنا أن العامل فيه شيء ثالث دل ما في الكلام عليه وذلك هو يجحد أو يكفر أو يمسك عن قبول الحق أو نحو ذلك وإنما جاز أن يعمل المعنى فيه وإن كان متقدماً عليه لشبهه بالظرف والظرف قد تعمل فيه المعاني وإن تقدم عليها ويدلك على مشابهته للظرف تقدير اللام معه فإن(30/75)
تقدير الآية لأن كان ذا مال وإذا صار كالظرف لم يمتنع المعنى من أن يعمل فيه كما لم يمتنع من أن يعمل في نحو قوله يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ( سبأ 7 ) لما كان ظرفاً والعامل فيه القسم الدال عليه قوله إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ فكذلك قوله أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ تقديره إنه جحد آياتنا لأن كان ذا مال وبنين أو كفر بآياتنا لأن كان ذا مال وبنين
المسألة الثانية قرىء أَءن كَانَ على الاستفهام والتقدير ألأن كان ذال مال كذب أو التقدير أتطيعه لأن كان ذا مال وروى الزهري عن نافع إن كان بالكسر والشرط للمخاطب أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ونظير صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجى إليه في قوله لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ( طه 44 )
واعلم أنه تعالى لما حكى عنه قبائح أفعاله وأقواله قال متوعداً له
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الوسم أثر الكية وما يشبهها يقال وسمته فهو موسوم بسمة يعرف بها إما كية وإما قطع في أذن علامة له
المسألة الثانية قال المبرد الخرطوم ههنا الأنف وإنما ذكر هذا اللفظ على سبيل الاستخفاف به لأن التعبير عن أعضاء الناس بالأسماء الموضوعة لأشباه تلك الأعضاء من الحيوانات يكون استخفافاً كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر
المسألة الثالثة الوجه أكرم موضع في الجسد والأنف أكرم موضع من الوجه لارتفاعه عليه ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا الأنف في الأنف وحمى أنفه وفلان شامخ العرنين وقالوا في الذليل جدع أنفه ورغم أنفه فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة لأن السمة على الوجه شين فكيف على أكرم موضع من الوجه
المسألة الرابعة منهم من قال هذا الوسم يحصل في الآخرة ومنهم من قال يحصل في الدنيا أما على القول الأول ففيه وجوه أولها وهو قول مقاتل وأبي العالية واختيار الفراء أن المراد أنه يسود وجهه قبل دخول النار والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة فإن المراد هو الوجه لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض وثانيها أن الله تعالى سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل القيامة إنه كان غالياً في عداوة الرسول وفي إنكار الدين الحق وثالثها أن في الآية احتمالاً آخر عندي وهو أن ذلك الكافر إنما بالغ في عداوة الرسول وفي الطعن في الدين الحق بسبب الأنفة والحمية فلما كان منشأ هذا الإنكار هو الأنفة والحمية كان منشأ عذاب الآخرة هو هذه الأنفة والحمية فعبر عن هذا الاختصاص بقوله سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ وأما على القول الثاني وهو أن هذا الوسم إنما يحصل في الدنيا ففيه وجوه أحدها(30/76)
قال ابن عباس سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش وروي أنه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال وثانيها أن معنى هذا الوسم أنه يصير مشهوراً بالذكر الرديء والوصف القبيح في العالم والمعنى سنلحق به شيئاً لا يفارقه ونبين أمره بياناً واضحاً حتى لا يخفى كما لا تخفى السمة على الخراطيم تقول العرب للرجل الذي تسبه في مسبة قبيحة باقية فاحشة قد وسمه ميسم سوء والمراد أنه ألصق به عاراً لا يفارقه كما أن السمة لا تنمحي ولا تزول ألبتة قال جرير لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
يريد أنه وسم الفرزدق ( والبعيث ) وجدع أنف الأخطل بالهجاء أي ألقى عليه عاراً لا يزول ولا شك أن هذه المبالغة العظيمة في مذمة الوليد بن المغيرة بقيت على وجه الدهر فكان ذلك كالموسم على الخرطوم ومما يشهد لهذا الوجه قول من قال في زَنِيمٍ إنه يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها وثالثها يروى عن النضر بن شميل أن الخرطوم هو الخمر وأنشد تظل يومك في لهو وفي طرب
وأنت بالليل شراب الخراطيم
فعلى هذا معنى الآية سنحده على شرب الخمر وهو تعسف وقيل للخمر الخرطوم كما يقال لها السلافة وهي ما سلف من عصير العنب أو لأنها تطير في الخياشيم
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال لأجل أن كان ذا مال وبنين جحد وكفر وعصى وتمرد وكان هذا استفهاماً على سبيل الإنكار بين في هذه الآية أنه تعالى إنما أعطاه المال والبنين على سبيل الابتلاء والامتحان وليصرفه إلى طاعة الله وليواظب على شكر نعم الله فإن لم يفعل ذلك فإنه تعالى يقطع عنه تلك النعم ويصب عليه أنواع البلاء والآفات فقال إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ أي كلفنا هؤلاء أن يشكروا على النعم كما كلفنا أصحاب الجنة ذات الثمار أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم روي أن واحداً من ثقيف وكان مسلماً كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء وكان يجعل من كل ما فيها عند الحصاد نصيباً وافراً للفقراء فلما مات ورثها منه بنوه ثم قالوا عيالنا كثير والمال قليل ولا يمكننا أن نعطي المساكين مثل ما كان يفعل أبونا فأحرق الله جنتهم وقيل كانوا من بني إسرائيل وقوله إِذْ أَقْسَمُواْ إذ حلفوا لَيَصْرِمُنَّهَا ليقطعن ثمر نخيلهم مصبحين أي في وقت الصباح قال مقاتل معناه أغدوا سراً إلى جنتكم فاصرموها ولا تخبروا المساكين وكان أبوهم يخبر المساكين فيجتمعون عند صرام جنتهم يقال قد صرم العذق عن النخلة وأصرم النخل إذا حان وقت صرامه وقوله وَلاَ يَسْتَثْنُونَ يعني ولم يقولوا إن شاء الله هذا قول جماعة المفسرين يقال حلف فلان يميناً ليس فيها ثنيا ولا ثنوى ولا ثنية ولا مثنوية ولا استثناء وكله واحد وأصل هذا كله من الثنى وهو الكف والرد وذلك أن الحالف إذا قال والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره فقد رد انعقاد ذلك اليمين واختلفوا في قوله وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فالأكثرون أنهم إنما لم(30/77)
يستثنوا بمشيئة الله تعالى لأنهم كانوا كالواثقين بأنهم يتمكنون من ذلك لا محالة وقال آخرون بل المراد أنهم يصرمون كل ذلك ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إلى المساكين
فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ
طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ أي عذاب من ربك والطائف لا يكون إلا ليلاً أي طرقها طارق من عذاب الله قال الكلبي أرسل الله عليها ناراً من السماء فاحترقت وهم نائمون فأصبحت الجنة كالصريم
واعلم أن الصريم فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى المفعول وأن يكون بمعنى الفاعل وههنا احتمالات أحدها أنها لما احترقت كانت شبيهة بالمصرومة في هلاك الثمر وإن حصل الاختلاف في أمور أخر فإن الأشجار إذا احترقت فإنها لا تشبه الأشجار التي قطعت ثمارها إلا أن هذا الاختلاف وإن حصل من هذا الوجه لكن المشابهة في هلاك الثمر حاصلة وثانيها قال الحسن أي صرم عنها الخير فليس فيها شيء وعلى هذين الوجهين الصريم بمعنى المصروم وثالثها الصريم من الرمل قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمال وجمعه الصرائم وعلى هذا شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال وهي لا تنبت شيئاً ينتفع به ورابعها الصبح يسمى صريماً لأنه انصرم من الليل والمعنى أن تلك الجنة يبست وذهبت خضرتها ولم يبق فيها شيء من قولهم بيض الإناء إذا فرغه وخامسها أنها لما احترقت صارت سوداء كالليل المظلم والليل يسمى صريماً وكذا النهار يسمى أيضاً صريماً لأن كل واحد منهما ينصرم بالآخر وعلى هذا الصريم بمعنى الصارم وقال قوم سمي الليل صريماً لأنه يقطع بظلمته عن التصرف وعلى هذا هو فعيل بمعنى فاعل وقال آخرون سميت الليلة بالصريم لأنها تصرم نور البصر وتقطعه
ثم قال تعالى
فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ
قال مقاتل لما أصبحوا قال بعضهم لبعض اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ ويعني بالحرث الثمار والزروع والأعناب ولذلك قال صارمين لأنهم أرادوا قطع الثمار من هذه الأشجار فإن قيل لم لم يقل اغدوا إلى حرثكم وما معنى على قلنا لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم يغدي عليهم بالجفنة ويراح أي فأقبلوا على حرثكم باكرين
فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ
أي يتسارون فيما بينهم وخفي وخفت وخفد ثلاثتها في معنى(30/78)
كتم ومنه الخفدود للخفاش قال ابن عباس غدوا إليها بصدفة يسر بعضهم إلى بعض الكلام لئلا يعلم أحد من الفقراء والمساكين
ثم قال تعالى
أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ
ءانٍ مفسرة وقرأ ابن مسعود بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلها والنهي للمسكين عن الدخول نهي لهم عن تمكينه منه أي لا تمكنوه من الدخول ( حتى يدخل ) كقولك لا أرينك ههنا ثم قال
وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ
وفيه أقوال الأول الحرد المنع يقال حاردت السنة إذا قل مطرها ومنعت ريعها وحاردت الناقة إذا منعت لبنها فقل اللبن والحرد الغضب وهما لغتان الحرد والحرد والتحريك أكثر وإنما سمي الغضب بالحرد لأنه كالمانع من أن يدخل المغضوب منه في الوجود والمعنى وغدوا وكانوا عند أنفسهم وفي ظنهم قادرين على منع المساكين الثاني قيل الحرد القصد والسرعة يقال حردت حردك قال الشاعر أقبل سيل جاء من أمر الله
يحرد حرد الجنة المغلة
وقطاً حراد أي سراع يعني وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم يقولون نحن نقدر على صرامها ومنع منفعتها عن المساكين والثالث قيل حرد علم لتلك الجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام والحرمان
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
فيه وجوه أحدها أنهم لما رأوا جنتهم محترقة ظنوا أنهم قد ضلوا الطريق فقالوا إِنَّا لَضَالُّونَ ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنع الفقراء وثانيها يحتمل أنهم لما رأوا جنتهم محترقة قالوا إنا لضالون حيث كنا عازمين على منع الفقراء وحيث كنا نعتقد كوننا قادرين على الانتفاع بها بل الأمر انقلب علينا فصرنا نحن المحرومين
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ
قوله تعالى قَالَ أَوْسَطُهُمْ يعني أعدلهم وأفضلهم وبينا وجهه في تفسير قوله أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ يعني هلا تسبحون وفيه وجوه الأول قال الأكثرون معناه هلا تستثنون فتقولون إن شاء الله لأن الله تعالى إنما عابهم بأنهم لا يستثنون وإنما جاز تسمية قول إن شاء الله بالتسبيح لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله عن كل سوء فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله لكان ذلك يوجب عودة نقص إلى قدرة الله فقولك إن شاء الله يزيل هذا النقص فكان ذلك تسبيحاً
واعلم أن لفظ القرآن يدل على أن القوم كانوا يحلفون ويتركون الاستثناء وكان أوسطهم ينهاهم عن ترك الاستثناء ويخوفهم من عذاب الله فلهذا حكى عن ذلك الأوسط أنه قال بعد وقوع الواقعة أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ(30/79)
الثاني أن القوم حين عزموا على منع الزكاة واغتروا بمالهم وقوتهم قال الأوسط لهم توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب فلما رأوا العذاب ذكرهم ذلك الكلام الأول وقال لَوْلاَ تُسَبّحُونَ فلا جرم اشتغل القوم في الحال بالتوبة و
قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
فتكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به لكن بعد خراب البصرة الثالث قال الحسن هذا التسبيح هو الصلاة كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة وإلا لكانت ناهية لهم عن الفحشاء والمنكر ولكانت داعية لهم إلى أن يواظبوا على ذكر الله وعلى قول إن شاء الله ثم إنه تعالى لما حكى عن ذلك الأوسط أنه أمرهم بالتوبة وبالتسبيح حكى عنهم أشياء أولها أنهم اشتغلوا بالتسبيح وقالوا في الحال سبحان ربنا عن أن يجري في ملكه شيء إلا بإرادته ومشيئته ولما وصفوا الله تعالى بالتنزيه والتقديس اعترفوا بسوء أفعالهم وقالوا إنا كنا ظالمين وثانيها
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ
أي يلوم بعضهم بعضاً يقول هذا لهذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي ويقول ذاك لهذا أنت خوفتنا بالفقر ويقول الثالث لغيره أنت الذي رغبتني في جمع المال فهذا هو التلاوم ثم نادوا على أنفسهم بالويل
قَالُواْ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ
والمراد أنهم استعظموا جرمهم ثم قالوا عند ذلك
عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ
عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَا قرىء يُبْدِلَنَا بالتخفيف والتشديد إِنَّا إِلَى رَبّنَا راغِبُونَ طالبون منه الخير راجون لعفوه واختلف العلماء ههنا فمنهم من قال إن ذلك كان توبة منهم وتوقف بعضهم في ذلك قالوا لأن هذا الكلام يحتمل أنهم إنما قالوه رغبة منهم في الدنيا
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَة ِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
ثم قال تعالى كَذَلِكَ الْعَذَابُ يعني كما ذكرنا من إحراقها بالنار وههنا تم الكلام في قصة أصحاب الجنة
واعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة أمران أحدهما أنه تعالى قال أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( القلم 14 15 ) والمعنى لأجل أن أعطاه المال والبنين كفر بالله كلا بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعصية دمر الله على جنتهم فكيف يكون الحال في حق من عاند الرسول وأصر على الكفر والمعصية والثاني أن أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة ويمنعوا الفقراء عنها فقلب الله عليهم القضية فكذا أهل مكة لما خرجوا إلى بد حلفوا على أن يقتلوا محمداً وأصحابه وإذا رجعوا إلى مكة طافوا بالكعبة وشربوا الخمور فأخلف الله ظنهم فقتلوا وأسروا كأهل هذه الجنة
ثم إنه لما خوف الكفار بعذاب الدنيا قال وَلَعَذَابُ الاْخِرَة ِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وهو ظاهر لا حاجة به إلى التفسير(30/80)
ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال السعداء فقال
إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
عِندَ رَبّهِمْ أي في الآخرة جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي جنات ليس لهم فيه إلا التنعم الخالص لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا قال مقاتل لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة
ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الكلام بقوله
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
ومعنى الكلام أن التسوية بين المطيع والعاصي غير جائزة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي فيه دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي فالفاسق لما كان مجرماً وجب أن لا يكون مسلماً والجواب أنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلاً للمجرم ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور فإنهما يتماثلان في الجوهرية والجسمية والحدوث والحيوانية وغيرها من الأمور الكثيرة بل المراد إنكار استوائهما في الإسلام والجرم أو في آثار هذين الأمرين أو المراد إنكار أن يكون أثر إسلام المسلم مساوياً لأثر جرم المجرم عند الله وهذا مسلم لا نزاع فيه فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع أن يجتمع فيه كونه مسلماً ومجرماً
المسألة الثانية قال الجبائي دلت الآية على أن المجرم لا يكون ألبتة في الجنة لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما ولو حصلا في الجنة لحصلت التسوية بينهما في الثواب بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم إذا كان المجرم أطول عمراً من المسلم وكانت طاعاته غير محبطة الجواب هذا ضعيف لأنا بينا أن الآية لا تمنع من حصول التسوية في شيء أصلاً بل تمنع من حصول التسوية في درجة الثواب ولعلهما يستويان فيه بل يكون ثواب المسلم الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى على أنا نقول لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة وذلك لأن حمل الجمع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق مشهور في اللغة والعرف
المسألة الثالثة أن الله تعالى استنكر التسوية بين المسلمين والمجرمين في الثواب فدل هذا على أنه يقبح عقلاً ما يحكى عن أهل السنة أنه يجوز أن يدخل الكفار في الجنة والمطيعين في النار والجواب أنه تعالى استنكر ذلك بحكم الفضل والإحسان لا أن ذلك بسبب أن أحداً يستحق عليه شيئاً
واعلم أنه تعالى لما قال على سبيل الاستبعاد أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ قرر هذا الاستبعاد بأن قال على طريقة الالتفات مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم المعوج ثم قال
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ
وهو كقوله تعالى أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ ( الصافات 156 ) والأصل تدرسون أن لكم ما تتخيرون بفتح أن لأنه مدرس فلما جاءت اللام كسرت وتخير الشيء واختاره أي أخذ خيره ونحوه تنخله وانتخله إذا أخذ منخوله(30/81)
ثم قال تعالى
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَة ٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى يقال لفلان على يمين بكذا إذا ضمنته منه وخلقت له على الوقاء به يعني أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد فإن قيل إلى في قوله إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ بم يتعلق قلنا فيه وجهان الأول أنها متعلقة بقوله بَالِغَة ٌ أي هذه الأيمان في قوتها وكمالها بحيث تبلغ إلى يوم القيامة والثاني أن يكون التقدير أيمان ثابتة إلى يوم القيامة ويكون معنى بالغة مؤكدة كما تقول جيدة بالغة وكل شيء متناه في الصحة والجودة فهو بالغ وأما قوله إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ فهو جواب القسم لأن معنى أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا أم أقسمنا لكم
المسألة الثانية قرأ الحسن بالغة بالنصب وهو نصب على الحال من الضمير في الظرف ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام
سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَالِكَ زَعِيمٌ
والمعنى أيهم بذلك الحكم زعيم أي قائم به وبالاستدلال على سحته كما يقوم زعيم القوم بإصلاح أمورهم ثم قال
أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
وفي تفسيره وجهان الأول المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء الله فيعتقدون أن أولئك الشركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب والخلاص من العقاب وإنماأضاف الشركاء إليهم لأنهم جعلوها شركاء لله وهذا كقوله هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَى ْء ( الروم 40 ) الوجه الثاني في المعنى أم لهم ناس يشاركونهم في هذا المذهب وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي في إثبات هذا المذهب ولا دليل نقلي وهو كتاب يدرسونه فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القول وذلك يدل على أنه باطل من كل الوجوه
واعلم أنه تعالى لما أبطل قولهم وأفسد مقالتهم شرح بعد ذلك عظمة يوم القيامة
يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَة ً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ
فقال يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى يوم منصوب بماذا فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه منصوب بقوله فَلْيَأْتُواْ في قوله فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ ( القلم 41 ) وذلك أن ذلك اليوم يوم شديد فكأنه تعالى قال إن كانوا صادقين في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة لتنفعهم ونشفع لهم وثانيها أنه منصوب بإضمار اذكر وثالثها أن يكون التقدير يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت فحذف للتهويل البليغ وأن ثم من الكوائن مالا يوصف لعظمته
المسألة الثانية هذا اليوم الذي يكشف فيه عن ساق أهو يوم القيامة أو في الدنيا فيه قولان الأول وهو الذي عليه الجمهور أنه يوم القيامة ثم في تفسير الساق وجوه الأول أنه الشدة وروي أنه سئل ابن(30/82)
عباس عن هذه الآية فقال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر سن لنا قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
ثم قال وهو كرب وشدة وروى مجاهد عنه قال هو أشد ساعة في القيامة وأنشد أهل اللغة أبياتاً كثيرة ( منها ) فإن شمرت لك عن ساقها
فدنها ربيع ولا تسأم
ومنها كشفت لكم عن ساقها
وبدا من الشر الصراح
وقال جرير ألا رب سام الطرف من آل مازن
إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال آخر في سنة قد شمرت عن ساقها
حمراء تبرى اللحم عن عراقها
وقال آخر قد شمرت عن ساقها فشدوا
وجدت الحرب بكم فجدوا
ثم قال ابن قتيبة أصل هذا أن الرجل إذاوقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه يشمر عن ساقه فلا جرم يقال في موضع الشدة كشف عن ساقه واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعمال الساق في الشدة مجاز وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى يستحيل أن يكون جسماً فحينئذ يجب صرف اللفظ إلى المجاز وأعلم أن صاحب ( الكشاف ) أورد هذا التأويل في معرض آخر فقال الكشف عن الساق مثل في شدة الأمر فمعنى قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف ثم ولا ساق كما تقول للأقطع الشحيح يده مغلولة ولا يد ثم ولا غل وإنما هو مثل في البخل ثم أخذ يعظم علم البيان ويقول لولاه لما وقفنا على هذه الأسرار وأقول إما أن يدعى أنه صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل أو يقول إنه لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة والأول باطل بإجماع المسلمين ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفة في أمر المعاد فإنهم يقولون في قوله جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( البقرة 25 ) ليس هناك لا أنهار ولا أشجار وإنما هو مثل للذة والسعادة ويقولون في قوله ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ ( الحج 77 ) ليس هناك لا سجود ولا ركوع وإنما هو مثل للتعظيم ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع وفساد الدين وأما إن قال بأنه لا يصار إلى هذا التأويل إلا بعد قيام الدلالة على أنه لا يجوز حمله على ظاهره فهذا هو الذي لم يزل كل أحد من المتكلمين ( إلا ) قال به وعول عليه فأين هذه الدقائق التي استبد هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطة علم البيان فرحم الله أمراً عرف قدره وما تجاوز طوره القول الثاني وهو(30/83)
قول أبي سعيد الضرير يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ أي عن أصل الأمر وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان أي يظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها القول الثالث يوم يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب عظيم واللفظ لا يدل إلا على ساق فأما أن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه والقول الرابع وهو اختيار المشبهة أنه ساق الله تعالى الله عنه روى عن ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام ( أنه تعالى يتمثل للخلق يوم القيامة حين يمر المسلمون فيقول من تعبدون فيقولون نعبد الله فيشهدهم مرتين أو ثلاثاً ثم يقول هل تعرفون ربكم فيقولون سبحانه إذا عرفنا نفسه عرفناه فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خر ساجداً ويبقى المنافقون ظهورهم كالطبق الواحد كأنما فيها السفافيد ) واعلم أن هذا القول باطل لوجوه أحدها أن الدلائل دلت على أن كل جسم محدث لأن كل جسم متناه وكل متناه محدث ولأن كل جسم فإنه لا ينفك عن الحركة والسكون وكل ما كان كذلك فهو محدث ولأن كل جسم ممكن وكل ممكن محدث وثانيها أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن أما لو حملناه على الشدة ففائدة التنكير الدلالة على التعظيم كأنه قيل يوم يكشف عن شدة وأي شدة أي شدة لا يمكن وصفها وثالثها أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق وإنما يحصل بكشف الوجه القول الثاني أن قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ليس المراد منه يوم القيامة بل هو في الدنيا وهذا قول أبي مسلم قال أنه لا يمكن حمله على يوم القيامة لأنه تعالى قال في وصف هذا اليوم وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه كقوله تعالى يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَة َ لاَ بُشْرَى ( الفرقان 22 ) ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلوات إذا حضرت أوقاتها وهو لا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفساً إيمانها وإما حال الهرم والمرض والعجز وقد كانوا قبل ذلك اليوم يدعون إلى السجود وهم سالمون مما بهم الآن إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت أو من العجز والهرم ونظير هذه الآية قوله فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( الواقعة 83 ) واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قاله أبو مسلم فأما قوله إنه لا يمكن حمله على القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل ههنا والتكاليف زائلة يوم القيامة فجوابه أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتخجيل فلم قلتم إن ذلك غير جائز
المسألة الثالثة قرىء يَوْمٍ بالنون و تكشف بالتاء المنقوطة من فوق على البناء للفاعل والمفعول جميعاً والفعل للساعة أو للحال أي يوم يشتد الحال أو الساعة كما تقول كشف الحرب عن ساقها على المجاز وقرىء ( تكشف ) بالتاء المضمومة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف ومنه أكشف الرجل فهو مكشف إذا انقلبت شفته العليا
قوله تعالى وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَة ً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(30/84)
اعلم أنا بينا أنهم لا يدعون إلى السجود تعبداً وتكليفاً ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا ثم إنه تعالى حال ما يدعوهم إلى السجود يسلب عنهم القدرة على السجود ويحول بينهم وبين الاستطاعة حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إلى السجود وهم سالموا الأطراف والمفاصل قال الجبائي لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل ذلك على أنهم في الدنيا كانوا يستطيعون فبطل بهذا قول من قال الكافر لا قدرة له على الإيمان وإن القدرة على الإيمان لا تحصل إلا حال وجود الإيمان والجواب عنه أن علم الله بأنه لا يؤمن مناف لوجود الإيمان والجمع بين المتنافيين محال فالاستطاعة في الدنيا أيضاً غير حاصلة على قول الجبائي
أما قوله خَاشِعَة ً أَبْصَارُهُمْ فهو حال من قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم ما كانوا مواظبين على خدمة مولاهم مثل العبد الذي أعرض عنه مولاه فإنه يكون ذليلاً فيما بين الناس وقوله وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ يعني حين كانوا يدعون إلى الصلوات بالأذان والإقامة وكانوا سالمين قادرين على الصلاة وفي هذا وعيد لمن قعد عن الجماعة ولم يجب المؤذن إلى إقامة الصلاة في الجماعة
فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف فخوفهم بما عنده وفي قدرته من القهر فقال ذرني وإياه يريد كله إليَّ فإني أكفيكه كأنه يقول يا محمد حسبك انتقاماً منه أن تكل أمره إلي وتخلي بيني بينه فإني عالم بما يجب أن يفعل به قادر على ذلك ثم قال سَنَسْتَدْرِجُهُم يقال استدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه وقوله مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ قال أبو روق سَنَسْتَدْرِجُهُم أي كلما أذنبوا ذنباً جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار فالإستدراج إنما حصل في الاغتناء الذي لا يشعرون أنه استدراج وهو الإنعام عليهم لأنهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم ثم قال
وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ
أي أمهلهم كقوله إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) وأطيل لهم المدة والملاوة المدة من الدهر يقال أملى الله له أي أطال الله له الملاوة والملوان الليل والنهار والملأ مقصوراً الأرض الواسعة سميت به لامتدادها وقيل وَأُمْلِى لَهُمْ أي بالموت فلا أعاجلهم به ثم إنه إنما سمي إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً لكون في صورة الكيد ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك واعلم أن الأصحاب تمسكوا بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات فقالوا هذا الذي سماه بالاستدراج وذلك الكيد إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك أو يكون له فيه أثر والأول باطل وإلا لكان هو سائر الأشياء الأجنبية بمثابة واحدة فلا يكون استدراجاً ألبتة ولا كيداً وأما الثاني فهو يقتضي كونه تعالى مريداً لذلك الفعل الذي ينساق إليه ذلك الاستدراج وذلك الكيد لأنه إذا(30/85)
كان تعالى لا يزال يؤكد هذا الجانب ويفتر ذلك الجانب الآخر واعلم أن تأكيد هذا الجانب لا بد وأن ينساق بالآخرة إلى فعله ودخوله في الوجود فلا بد وأن يكون مريداً لدخول ذلك الفعل في الوجود وهو المطلوب أجاب الكعبي عنه فقال المراد سنستدرجهم إلى الموت من حيث لا يعلمون وهذا هو الذي تقتضيه الحكمة فإنهم لو عرفوا الوقت الذي يموتون فيه لصاروا آمنين إلى ذلك الوقت ولأقدموا على المعاصي وفي ذلك إغراء بالمعاصي وأجاب الجبائي عنه فقال سنستدرجهم إلى العذاب من حيث لا يعلمون في الآخرة وأملي لهم في الدنيا توكيداً للحجة عليهم إن كيدي متين فأمهله وأزيح الأعذار عنه ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة فهذا هو المراد من الكيد المتين ثم قال والذي يدل على أن المراد ما ذكرنا أنه تعالى قال قبل هذه الآية فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ ( القلم 44 ) ولا شك أن هذا التهديد إنما وقع بعقاب الآخرة فوجب أن يكون المراد من الاستدراج والكيد المذكورين عقيبه هو عذاب الآخرة أو العذاب الحاصل عند الموت واعلم أن أصحابنا قالوا الحرف الذي ذكرناه وهو أن هذا الإمهال إذا كان متأدياً إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضياً بذلك الطغيان واعلم أن قولهم سَنَسْتَدْرِجُهُم إِلَى قَوْلُهُ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ مفسر في سورة الأعراف
ثم قال تعالى
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
وهذه الآية مع ما بعدها مفسرة في سورة الطور وأقول إنه أعاد الكلام إلى ما تقدم من قوله أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء ( القلم 41 ) والمغرم الغرامة أي لم يطلب منهم على الهداية والتعليم أجراً فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم ذلك عن الإيمان
ثم قال تعالى
أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
وفيه وجهان الأول أن عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ثواب ما هم عليه من الكفر والشرك فلذلك أصروا عليه وهذا استفهام على سبيل الإنكار الثاني أن الأشياء الغائبة كأنها حضرت في عقولهم حتى إنهم يكتبون على الله أي يحكمون عليه بما شاءوا وأرادوا
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ
ثم إنه تعالى لما بالغ في تزييف طريقة الكفار وفي زجرهم عما هم عليه قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وفيه وجهان الأول فاصبر لحكم ربك في إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم والثاني فاصبر لحكم ربك في أن أوجب عليك التبليغ والوحي وأداء الرسالة وتحمل ما يحصل بسبب ذلك من الأذى والمحنة
ثم قال تعالى وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى العامل في إِذْ معنى قوله كَصَاحِبِ الْحُوتِ يريد لا تكن كصاحب الحوت حال ندائه وذلك لأنه في ذلك الوقت كان مكظوماً فكأنه قيل لا تكن مكظوماً(30/86)
المسألة الثانية صاحب الحوت يونس عليه السلام إذ نادى في بطن الحوت بقوله لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنبياء 87 ) وَهُوَ مَكْظُومٌ مملوء غيظاً من كظم السقاء إذا ملأه والمعنى لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبلى ببلائه
ثم قال تعالى
لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَة ٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ
وقرىء ( رحمة من ربه ) وههنا سؤالات
السؤال الأول لم لم يقل لولا أن تداركته نعمة من ربه الجواب إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه وقرأ ابن عباس وابن مسعود تداركته وقرأ الحسن تداركه أي تتداركه على حكاية الحال الماضية بمعنى لولا أن كان يقال فيه تتداركه كما يقال كان زيد سيقوم فمنعه فلان أي كان يقال فيه سيقوم والمعنى كان متوقعاً منه القيام
السؤال الثاني ما المراد من قوله نِعْمَة ٌ مّن رَّبّهِ الجواب المراد من تلك النعمة هو أنه تعالى أنعم عليه بالتوفيق للتوبة وهذا يدل على أنه لا يتم شيء من الصالحات والطاعات إلا بتوفيقه وهدايته
السؤال الثالث أين جواب لولا الجواب من وجهين الأول تقدير الآية لولا هذه النعمة لنبذ بالعراء مع وصف المذمومية فلما حصلت هذه النعمة لا جرم لم يوجد النبذ بالعراء مع هذا الوصف لأنه لما فقد هذا الوصف فقد فقد ذلك المجموع الثاني لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ثم نبذ بعراء القيامة مذموماً ويدل على هذا قوله فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( الاصفات 143 144 ) وهذا كما يقال عرصة القيامة وعراء القيامة
السؤال الرابع هل يدل قوله وَهُوَ مَذْمُومٌ على كونه فاعلاً للذنب الجواب من ثلاثة أوجه الأول أن كلمة لَوْلاَ دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل الثاني لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين الثالث لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ ( القلم 50 ) والفاء للتعقيب
السؤال الخامس ما سبب نزول هذه الآيات الجواب يروى أنها نزلت بأحد حين حل برسول الله ما حل فأراد أن يدعوا على الذين انهزموا وقيل حين أراد أن يدعو على ثقيف
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
فيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية وجهان أحدهما قال ابن عباس رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه والثاني قال قوم ولعله ما كان رسولاً صاحب وحي قبل هذه الواقعة ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولاً وهو المراد من قوله فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا القول الأول لأن احتباسه في بطن الحوت وعدم موته هناك لما لم يكن إرهاصاً ولا كرامة فلا بد وأن يكون معجزة وذلك يقتضي أنه كان رسولاً في تلك الحالة(30/87)
المسألة الثانية احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فالآية تدل على أن ذلك الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه قال الجبائي يحتمل أن يكون معنى جعله أنه أخبر بذلك ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني والجواب أن هذين الوجهين اللذين ذكرتم مجاز والأصل في الكلام الحقيقة
وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
قوله تعالى وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِكْرَ فيه مسألتان
المسألة الأولى إن مخففة من الثقيلة واللام علمها
المسألة الثانية قرىء لَيُزْلِقُونَكَ بضم الياء وفتحها وزلقه وأزلقه بمعنى ويقال زلق الرأس وأزلقه حلقه وقرىء ليزهقونك من زهقت نفسه وأزهقها ثم فيه وجوه أحدها أنهم من أشدة تحديقهم ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك من قولهم نظر إليَّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله قال الشاعر يتقارضون إذا التقوا في موطن
نظراً يزل مواطىء الأقدام
وأنشد ابن عباس لما مر بأقوام حددوا النظر إليه نظروا إلي بأعين محمرة
نظر التيوس إلى شفار الجازر
وبين الله تعالى أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للقرآن وهو قوله لَمَّا سَمِعُواْ الذِكْرَ الثاني منهم من حمله على الإصابة بالعين وههنا مقامان أحدهما الإصابة بالعين هل لها في الجملة حقيقة أم لا الثاني أن بتقدير كونها صحيحة فهل الآية ههنا مفسرة بها أم لا
المقام الأول من الناس من أنكر ذلك وقال تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة وههنا لا مماسة فامتنع حصول التأثير
واعلم أن المقدمة الأولى ضعيفة وذلك لأن الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن فإن كان الأول لم يمتنع اختلاف النفوس في جواهرها وماهياتها وإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً اختلافها في لوازمها وآثارها فلا يستبعد أن يكون لبعض النفوس خاصية في التأثير وإن كان الثاني لم يمتنع أيضاً أن يكون مزاج إنسان واقعاً على وجه مخصوص يكون له أثر خاص وبالجملة فالاحتمال العقلي قائم وليس في بطلانه شبهة فضلاً عن حجة والدلائل السمعية ناطقة بذلك كما يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال ( العين حق ) وقال ( العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر )
والمقام الثاني من الناس من فسر الآية بهذا المعنى قالوا كانت العين في بني أسد وكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه لم أر كاليوم مثله إلا عانه فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك فعصمه الله تعالى وطعن الجبائي في هذا التأويل وقال الإصابة بالعين تنشأ عن استحسان الشيء والقوم ما كانوا ينظرون إلى الرسول عليه السلام على هذا الوجه بل كانوا يمقتونه ويبغضونه والنظر على هذا الوجه لا يقتضي الإصابة بالعين(30/88)
واعلم أن هذا السؤال ضعيف لأنهم وإن كانوا يبغضونه من حيث الدين لعلهم كانوا يستحسنون فصاحته وإيراده للدلائل وعن الحسن دواء الإصابة بالعين قراءة هذه الآية
وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وهو على ما افتتح به السورة
وَمَا هُوَ أي وما هذا القرآن الذي يزعمون أنه دلالة جنونه إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ فإنه تذكير لهم وبيان لهم وأدلة لهم وتنبيه لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد وفيه من الآداب والحكم وسائر العلوم مالا حد له ولا حصر فكيف يدعى من يتلوه مجنوناً ونظيره مما يذكرون مع أنه من أدلة الأمور على كمال الفضل والعقل والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(30/89)
سورة الحاقة
خمسون وآيتان مكية
الْحَاقَّة ُ مَا الْحَآقَّة ُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّة ُ
المسألة الأولى أجمعوا على أن الحاقة هي القيامة واختلفوا في معنى الحاقة على وجوه أحدها أن الحق هو الثابت الكائن فالحاقة الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها وثانيها أنها التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من قولك لا أحق هذا أي لا أعرف حقيقته جعل الفعل لها وهو لأهلها وثالثها أنها ذوات الحواق من الأمور وهي الصادقة الواجبة الصدق والثواب والعقاب وغيرهما من أحوال القيامة أمور واجبة الوقوع والوجود فهي كلها حواق ورابعها أن الْحَاقَّة ُ بمعنى الحقة والحقة أخص من الحق وأوجب تقول هذه حقتي أي حقي وعلى هذا الْحَاقَّة ُ بمعنى الحق وهذا الوجه قريب من الوجه الأول وخامسها قال الليث الْحَاقَّة ُ النازلة التي حقت بالجارية فلا كاذبة لها وهذا معنى قوله تعالى لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَة ٌ ( الواقعة 2 ) وسادسها الْحَاقَّة ُ الساعة التي يحق فيها الجزاء على كل ضلال وهدى وهي القيامة وسابعها الْحَاقَّة ُ هو الوقت الذي يحق على القوم أن يقع بهم وثامنها أنها الحق بأن يكون فيها جميع آثار أعمال المكلفين فإن في ذلك اليوم يحصل الثواب والعقاب ويخرج عن حد الانتظار وهو قول الزجاج وتاسعها قال الأزهري والذي عندي في الْحَاقَّة ُ أنها سميت بذلك لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل أي تخاصم كل مخاصم وتغلبه من قولك حاققته فحققته أي غالبته فغلبته وفلجت عليه وعاشرها قال أبو مسلم الْحَاقَّة ُ الفاعلة من حقت كلمة ربك
المسألة الثانية الحاقة مرفوعة بالابتداء وخبرها مَا الْحَاقَّة ُ والأصل الْحَاقَّة ُ ما هي أي أي شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها فوضع الظاهر موضع المضمر لأنه أهول لها ومثله قوله الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ(30/90)
( القارعة 1 2 ) وقوله وَمَا أَدْرَاكَ أي وأي شيء أعلمك مَا الْحَاقَّة ُ يعني إنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها يعني أنه في العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية أحد ولا وهمه وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك وَمَا في موضع الرفع على الابتداء و أَدْرَاكَ معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَة ِ
قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَة ِ الْقَارِعَة ُ هي التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال والسماء بالانشقاق والانفطار والأرض والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والانكدار وإنما قال كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَة ِ ولم يقل بها ليدل على أن معنى القرع حاصل في الحاقة فيكون ذلك زيادة على وصف شدتها ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك بذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَة ِ
اعلم أن في الطاغية أقوالاً الأول أن الطاغية هي الواقعة المجاوزة للحد في الشدة والقوة قال تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء ( الحاقة 1 ) أي جاوز الحد وقال مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( النجم 17 ) فعلى هذا القول الطاغية نعت محذوف واختلفوا في ذلك المحذوف فقال بعضهم إنها الصيحة المجاوزة في القوة والشدة للصيحات قال تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَة ً واحِدَة ً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ( القمر 31 ) وقال بعضهم إنها الرجفة وقال آخرون إنها الصاعقة والقول الثاني أن الطاغية ههنا الطغيان فهي مصدر كالكاذبة والباقية والعاقبة والعافية أي أهلكوا بطغيانهم على الله إذ كذبوا رسله وكفروا به وهو منقول عن ابن عباس والمتأخرون طعنوا فيه من وجهين الأول وهو الذي قاله الزجاج أنه لما ذكر في الجملة الثانية نوع الشيء الذي وقع به العذاب وهو قوله تعالى بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ( الحاقة 6 ) وجب أن يكون الحال في الجملة الأولى كذلك حتى تكون المناسبة حاصلة والثاني وهو الذي قاله القاضي وهو أنه لو كان المراد ما قالوه لكان من حق الكلام أن يقال أهلكوا لها ولأجلها والقول الثالث بِالطَّاغِيَة ِ أي بالفرقة التي طغت من جملة ثمود فتآمروا بعقر الناقة فعقروها أي أهلكوا بشؤم فرقتهم الطاغية ويجوز أن يكون المراد بالطاغية ذلك الرجل الواحد الذي أقدم على عقر الناقة وأهلك الجميع لأنهم رضوا بفعله وقيل له طاغية كما يقول فلان راوية الشعر وداهية وعلامة ونسابة
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَة ٍ
الصرصر الشديدة الصوت لها صرصرة وقيل الباردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها وأما العاتية ففيها أقوال الأول قال الكلبي عتت على خزنتها يومئذ فلم يحفظوا كم خرج منها ولم يخرج قبل ذلك ولا بعده منها شيء إلا بقدر معلوم قال عليه الصلاة والسلام طغى الماء على خزانه يوم نوح وعتت الريح على خزانها يوم عاد فلم يكن لها عليها سبيل فعلى هذا القول هي عاتية على الخزان الثاني قال عطاء عن ابن عباس يريد(30/91)
الريح عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة من استتار ببناء أو ( استناد إلى جبل ) فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم القول الثالث أن هذا ليس من العتو الذي هو عصيان إنما هو بلوغ الشيء وانتهاؤه ومنه قولهم عتا النبت أي بلغ منتهاه وجف قال تعالى وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ( مريم 8 ) فعاتية أي بالغة منتهاها في القوة والشدة
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ
قوله تعالى سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ حُسُوماً قال مقاتل سلطها عليهم وقال الزجاج أقلعها عليهم وقال آخرون أرسلها عليهم هذه هي الألفاظ المنقولة عن المفسرين وعندي أن فيه لطيفة وذلك لأن من الناس من قال إن تلك الرياح إنما اشتدت لأن اتصالاً فلكياً نجومياً اقتضى ذلك فقوله سَخَّرَهَا فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب وبيان أن ذلك إنما حصل بتقدير الله وقدرته فإنه لولا هذه الدقيقة لما حصل منه التخويف والتحذير عن العقاب وقوله سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ حُسُوماً الفائدة فيه أنه تعالى لو لم يذكر ذلك لما كان مقدار زمان هذا العذاب معلوماً فلما قال سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ صار مقدار هذا الزمان معلوماً ثم لما كان يمكن أن يظن ظان أن ذلك العذاب كان متفرقاً في هذه المدة أزال هذا الظن بقوله حُسُوماً أي متتابعة متوالية واختلفوا في الحسوم على وجوه أحدها وهو قول الأكثرين ( حسوماً ) أي متتابعة أي هذه الأيام تتابعت عليهم بالريح المهلكة فلم يكن فيها فتور ولا انقطاع وعلى هذا القول حسوم جمع حاسم كشهود وقعود ومعنى هذا الحسم في اللغة القطع بالاستئصال وسمي السيف حساماً لأنه يحسم العدو عما يريد من بلوغ عداوته فلما كانت تلك الرياح متتابعة ما سكنت ساعة حتى أتت عليهم أشبه تتابعها عليهم تتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم وثانيها أن الرياح حسمت كل خير واستأصلت كل بركة فكانت حسوماً أو حسمتهم فلم يبق منهم أحد فالحسوم على هذين القولين جمع حاسم وثالثها أن يكون الحسوم مصدراً كالشكور والكفور وعلى هذا التقدير فإما أن ينتصب بفعله مضمراً والتقدير يحسم حسوماً يعني استأصل استئصالاً أو يكون صفة كقولك ذات حسوم أو يكون مفعولاً له أي سخرها عليهم للاستئصال وقرأ السدي حُسُوماً بالفتح حالاً من الريح أي سخرها عليهم مستأصلة وقيل هي أيام العجوز وإنما سميت بأيام العجوز لأن عجوزاً من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها وقيل هي أيام العجز وهي آخر الشتاء
قوله تعالى فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى أي في مهابها وقال آخرون أي في تلك الليالي والأيام صَرْعَى جمع صريع قال مقاتل يعني موتى يريد أنهم صرعوا بموتهم فهم مصرعون صرع الموت(30/92)
ثم قال كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ أي كأنهم أصول نخل خالية الأجواف لا شيء فيها والنخل يؤنث ويذكر قال الله تعالى في موضع آخر كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ( القمر 20 ) وقرىء ( أعجاز نخيل ) ثم يحتمل أنهم شبهوا بالنخيل التي قلعت من أصلها وهو إخبار عن عظيم خلقهم وأجسامهم ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع أي أن الريح قد قطعتهم حتى صاروا قطعاً ضخاماً كأصول النخل وأما وصف النخل بالخواء فيحتمل أن يكون وصفاً للقوم فإن الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف ويحتمل أن تكون الخالية بمعنى البالية لأنها إذا بليت خلت أجوافها فشبهوا بعد أن أهلكوا بالنخيل البالية ثم قال
فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَة ٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الباقية ثلاثة أوجه أحدها إنها البقية وثانيها المراد من نفس باقية وثالثها المراد بالباقية البقاء كالطاغية بمعنى الطغيان
المسألة الثانية ذهب قوم إلى أن المراد أنه لم يبق من نسل أولئك القوم أحد واستدل بهذه الآية على قوله قال ابن جريج كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عقاب الله من الريح فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر فذاك هو قوله فَهَلْ تَرَى لَهُم مّن بَاقِيَة ٍ وقوله فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ( الأحقاف 25 )
القصة الثانية قصة فرعون
وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَة ِ
أي ومن كان قبله من الأمم التي كفرت كما كفر هو و ( من ) لفظ عام ومعناه خاص في الكفار دون المؤمنين قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي وَمِن قَبْلِهِ بكسر القاف وفتح الباء قال سيبويه قبل لما ولي الشيء تقول ذهب قبل السوق ولى قبلك حق أي فيما يليك واتسع فيه حتى صار بمنزلة لي عليك فمعنى مِن قَبْلِهِ أي من عنده من أتباعه وجنوده والذي يؤكد هذه القراءة ما روي أن ابن مسعود وأبياً وأبا موسى قرؤا وَمِنْ روى عن أبي وحده أنه قرأ مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أما قوله وَالْمُؤْتَفِكَاتِ فقد تقدم تفسيرها وهم الذين أهلكوا من قوم لوط على معنى والجماعات المؤتفكات وقوله بِالْخَاطِئَة ِ فيه وجهان الأول أن الخاطئة مصدر كالخطأ والثاني أن يكون المراد بالفعلة أو الأفعال ذات الخطأ العظيم
فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَة ً رَّابِيَة ً
الضمير إن كان عائداً إلى فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ ( الحاقة 9 ) فرسول ربهم هو موسى عليه السلام وإن كان عائداً إلى أهل المؤتفكات فرسول ربهم هو لوط قال الواحدي والوجه أن يقال المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله فَعَصَوْاْ فيكون كقوله إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 16 ) وقوله فَأَخَذَهُمْ أَخْذَة ً رَّابِيَة ً يقال ربا الشيء يربو إذا زاد ثم فيه وجهان(30/93)
الأول أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار الثاني أن عقوبة آل فرعون في الدنيا كانت متصلة بعذاب الآخرة لقوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو
القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام
إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَة ِ
طغى الماء على خزانه فلم يدروا كم خرج وليس ينزل من السماء قطرة قبل تلك الواقعة ولا بعدها إلا بكيل معلوم وسائر المفسرين قالوا طَغَى الْمَاء أي تجاوز حده حتى علا كل شيء وارتفع فوقه و حَمَلْنَاكُمْ أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم ولا شك أن الذين خوطبوا بهذا هم أولاد الذين كانوا في السفينة وقوله فِى الْجَارِيَة ِ يعني في السفينة التي تجري في الماء وهي سفينة نوح عليه السلام والجارية من أسماء السفينة ومنه قوله وَلَهُ الْجَوَارِ ( الرحمن 24 )
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَة ً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَة ٌ
قوله تعالى لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَة ً الضمير في قوله لِنَجْعَلَهَا إلى ماذا يرجع فيه وجهان الأول قال الزجاج إنه عائد إلى الواقعة التي هي معلومة وإن كانت ههنا غير مذكورة والتقدير لنجعل نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة عظة وعبرة الثاني قال الفراء لنجعل السفينة وهذا ضعيف والأول هو الصواب ويدل على صحته قوله وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعِيَة ٌ فالضمير في قوله وَتَعِيَهَا عائد إلى ما عاد إليه الضمير الأول لكن الضمير في قوله وَتَعِيَهَا لا يمكن عوده إلى السفينة فكذا الضمير الأول
قوله تعالى وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعِيَة ٌ فيه مسألتان
المسألة الأولى يقال لكل شيء حفظته في نفسك وعيته ووعيت العلم ووعيت ما قلت ويقال لكل ما حفظته في غير نفسك أوعيته يقال أوعيت المتاع في الوعاء ومنه قول الشاعر
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قوم من الغرق بالسفينة وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم ونفاذ مشيئته ونهاية حكمته ورحمته وشدة قهره وسطوته وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند نزول هذه الآية ( سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي قال علي فما نسيت شيئاً بعد ذلك وما كان لي أن أنسى ) فإن قيل لم قال أُذُنٌ واعِيَة ٌ على التوحيد والتنكير قلنا للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله وأن ما سواها لا يلتفت إليهم وإن امتلأ العالم منهم
المسألة الثانية قراءة العامة وَتَعِيَهَا بكسر العين وروى عن ابن كثير وَتَعِيَهَا ساكنة العين كأنه جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة فخذ فأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من فخذ وكبد وكتف وإنما فعل ذلك لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل فأشبه ما هو من نفس الكلمة وصار كقول من قال وهو وهي ومثل ذلك قوله وَيَتَّقْهِ ( النور 52 ) في قراءة من سكن القاف(30/94)
واعلم أنه تعالى لما حكى هذه القصص الثلاث ونبه بها عن ثبوت القدرة والحكمة للصانع فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة وثبت بثبوت الحكمة إمكان وقوع القيامة
ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة فذكر أولاً مقدماتها فقال
فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَة ٌ وَاحِدَة ٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء نَفْخَة ٌ بالرفع والنصب وجه الرفع أسند الفعل إليها وإنما حسن تذكير الفعل للفصل ووجه النصب أن الفعل مسند إلى الجار والمجرور ثم نصب نفخة على المصدر
المسألة الثانية المراد من هذه النفخة الواحدة هي النفخة الأولى لأن عندها يحصل خراب العالم فإن قيل لم قال بعد ذلك يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ( الحاقة 18 ) والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية قلنا جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والوقوف والحساب فلذلك قال يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ كما تقول جئته عام كذا وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته
وَحُمِلَتِ الأرض وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّة ً وَاحِدَة ً
فيه مسألتان
المسألة الأولى رفعت الأرض والجبال إما بالزلزلة التي تكون في القيامة وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال أو بملك من الملائكة أو بقدرة الله من غير سبب فدكتا أي فدكت الجملتان جملة الأرض وجملة الجبال فضرب بعضها ببعض حتى تندق وتصير كثيباً مهيلاً وهباء منبثاً والدك أبلغ من الدق وقيل فبسطتا بسطة واحدة فصارتا أرضاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً من قولك اندك السنام إذا انفرش وبعير أدك وناقة دكاء ومنه الدكان
المسألة الثانية قال الفراء لا يجوز في دكة ههنا إلا النصب لارتفاع الضمير في دكتا ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كالواحدة والأرض كالواحدة كما قال ءانٍ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً ( الأنبياء 30 ) ثم قال تعالى ولم يقل كن
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ فَهِى َ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة ٌ
أي فيومئذ قامت القيامة الكبرى وانشقت السماء لنزول الملائكة فَهِى َ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة ٌ أي مسترخية ساقطة القوة كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ بعدما كانت محكمة شديدة
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ
ثم قال تعالى وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وفيه مسائل(30/95)
المسألة الأولى قوله وَالْمَلَكُ لم يرد به ملكاً واحداً بل أراد الجنس والجمع
المسألة الثانية الأرجاء في اللغة النواجي يقال رجا ورجوان والجمع الأرجاء ويقال ذلك لحرف البئر وحرف القبر وما أشبه ذلك والمعنى أن السماء إذا انشقت عدلت الملائكة عن مواضع الشق إلى جوانب السماء فإن قيل الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( الزمر 68 ) فكيف يقال إنهم يقفون على أرجاء السماء قلنا الجواب من وجهين الأول أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ثم يموتون الثاني أن المراد الذين استثناهم الله في قوله إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 )
قوله تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ فيه مسائل
المسألة الأولى هذا العرش هو الذي أراده الله بقوله الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ( غافر 7 ) وقوله وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ( الزمر 75 )
المسألة الثانية الضمير في قوله فَوْقَهُمُ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول وهو الأقرب أن المراد فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء والمقصود التمييز بينهم وبين الملائكة الذين هم حملة العرش الثاني قال مقاتل يعني أن الحملة يحملون العرش فوق رؤوسهم و ( مجيء ) الضمير قبل الذكر جائز كقوله في بيته يؤتي الحكم
المسألة الثالثة نقل عن الحسن رحمه الله أنه قال لا أدري ثمانية أشخاص أو ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف أو ثمانية آلاف صف واعلم أن حمله على ثمانية أشخاص أولى لوجوه أحدها ما روى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية ) ويروى ( ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤوسهم وهم مطرقون مسبحون ) ( وقيل بعضهم على صورة الإنسان ) وقيل بعضهم على صورة الأسد وبعضهم على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر وروي ثمانية أملاك في صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاماً وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك الوجه الثاني في بيان أن الحمل على ثمانية أشخاص أولى من الحمل على ثمانية آلاف وذلك لأن الثمانية أشخاص لا بد منهم في صدق اللفظ ولا حاجة في صدق اللفظ إلى ثمانية آلاف فحينئذ يكون اللفظ دالاً على ثمانية أشخاص ولا دلالة فيه على ثمانية آلاف فوجب حمله على الأول الوجه الثالث وهو أن الموضع موضع التعظيم والتهويل فلو كان المراد ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف لوجب ذكره ليزداد التعظيم والتهويل فحيث لم يذكر ذلك علمنا أنه ليس المراد إلا ثمانية أشخاص
المسألة الرابعة قالت المشبهة لو لم يكن الله في العرش لكان حمل العرش عبثاً عديم الفائدة ولا سيما وقد تأكد ذلك بقوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ( الحاقة 18 ) والعرض إنما يكون لو كان الإله حاصلاً في العرش أجاب أهل التوحيد عنه بأنه لا يمكن أن يكون المراد منه أن الله جالس في العرش وذلك لأن كل من كان حاملاً للعرش كان حاملاً لكل ما كان في العرش فلو كان الإله في العرش للزم الملائكة أن يكونوا حاملين لله تعالى وذلك محال لأنه يقتضي احتياج الله إليهم وأن يكونوا أعظم قدرة من الله تعالى وكل ذلك كفر(30/96)
صريح فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل فنقول السبب في هذا الكلام هو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفونه فخلق لنفسه بيتاً يزورونه وليس أنه يسكنه تعالى الله عنه وجعل في ركن البيت حجراً هو يمينه في الأرض إذ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم وجعل على العباد حفظة ليس لأن النسيان يجوز عليه سبحانه لكن هذا هو المتعارف فكذلك لما كان من شأن الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس إليهم على سرير ووقف الأعوان حوله أحضر الله يوم القيامة عرشاً وحضرت الملائكة وحفت به لا لأنه يقعد عليه أو يحتاج إليه بل لمثل ما قلناه في البيت والطواف
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة ٌ
قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ العرض عبارة عن المحاسبة والمساءلة شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله ونظيره قوله وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا وروى ( أن في القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ وأما الثالثة ففيها تنثر الكتب فيأخذ السعيد كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله )
ثم قال لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة ٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية وجهان الأول تقرير الآية تعرضون لا يخفى أمركم فإنه عالم بكل شيء ولا يخفى عليه منكم خافية ونظيره قوله لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَى ْء فيكون الغرض منه المبالغة في التهديد يعني تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلاً الوجه الثاني المراد لا يخفى يوم القيامة ما كان مخفياً منكم في الدنيا فإنه تظهر أحوال المؤمنين فيتكامل بذلك سرورهم وتظهر أحوال أهل العذاب فيظهر بذلك حزنهم وفضيحتهم وهو المراد من قوله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ وَلاَ نَاصِرٍ وفي هذا أعظم الزجر والوعيد وهو خوف الفضيحة
المسألة الثانية قراءة العامة لاَ تَخْفَى بالتاء المنقطة من فوقها واختار أبو عبيدة الياء وهي قراءة حمزة والكسائي قال لأن الياء تجوز للذكر والأنثى والتاء لا تجوز إلا للأنثى وههنا يجوز إسناد الفعل إلى المذكر وهو أن يكون المراد بالخافية شيء ذو خفاء وأيضاً فقد وقع الفصل ههنا بين الاسم والفعل بقوله منكم
واعلم أنه تعالى لما ذكر ما ينتهي هذا العرض إليه قال
فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى هاء صوت يصوت به فيفهم منه معنى خذ كأف وحس وقال أبو القاسم الزجاجي وفيه لغات وأجودها ما حكاه سيبويه عن العرب فقال ومما يؤمر به من المبنيات قولهم هاء يا فتى ومعناه تناول ويفتحون الهمزة ويجعلون فتحها علم المذكر كما قالوا هاك يا فتى فتجعل فتحة الكاف علامة المذكر(30/97)
ويقال للإثنين هاؤما وللجمع هاؤموا وهاؤم والميم في هذا الموضع كالميم في أنتما وأنتم وهذه الضمة التي تولدت في همزة هاؤم إنما هي ضمة ميم الجمع لأن الأصل فيه هاؤموا وأنتموا فاشبعوا الضمة وحكموا للإثنين بحكم الجمع لأن الإثنين عندهم في حكم الجمع في كثير من الأحكام
المسألة الثانية إذا اجتمع عاملان على معمول واحد فإعمال الأقرب جائز بالاتفاق وإعمال الأبعد هل يجوز أم لا ذهب الكوفيون إلى جوازه والبصريون منعوه واحتج البصريون على قولهم بهذه الآية لأن قوله هَاؤُمُ ناصب وقوله اقْرَؤُاْ ناصب أيضاً فلو كان الناصب هو الأبعد لكان التقدير هاؤم كتابيه فكان يجب أن يقول اقرأوه ونظيره اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً واعلم أن هذه الحجة ضعيفة لأن هذه الآية دلت على أن الواقع ههنا إعمال الأقرب وذلك لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه هل يجوز إعمال الأبعد أم لا وليس في الآية تعرض لذلك وأيضاً قد يحذف الضمير لأن ظهوره يغني عن التصريح به كما في قوله وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ فلم لا يجوز أن يكون ههنا كذلك ثم احتج الكوفيون بأن العامل الأول متقدم في الوجود على العامل الثاني والعامل الأول حين وجد اقتضى معمولاً لامتناع حصول العلة دون المعمول فصيرورة المعمول معمولاً للعامل الأول متقدم على وجود العامل الثاني والعامل الثاني إنما وجد بعد أن صار معمولاً للعامل الأول فيستحيل أن يصير أيضاً معمولاً للعامل الثاني لامتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين ولامتناع تعليل ما وجد قبل بما يوجد بعد وهذه المسألة من لطائف النحو
المسألة الثالثة الهاء للسكت فِى كِتَابيَهْ وكذا في حِسَابِيَهْ وحق هذه الهاءات أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل ولما كانت هذه الهاءات مثبتة في المصحف والمثبتة في المصحف لا بد وأن تكون مثبتة في اللفظ ولم يحسن إثباتها في اللفظ إلا عند الوقف لا جرم استحبوا الوقف لهذا السبب وتجاسر بعضهم فأسقط هذه الهاءات عند الوصل وقرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغيرها وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف جميعاً لاتباع المصحف
المسألة الرابعة اعلم أنه لما أوتي كتابيه بيمينه ثم إنه يقول هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ دل ذلك على أنه بلغ الغاية في السرور لأنه لما أعطى كتابه بيمينه علم أنه من الناجين ومن الفائزين بالنعيم فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله وقيل يقول ذلك لأهل بيته وقرابته
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه يقول
إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ
وفيه وجوه الأول المراد منه اليقين الاستدلالي وكل ما ثبت بالاستدلال فإنه لا ينفك من الخواطر المختلفة فكان ذلك شبيهاً بالظن الثاني التقدير إني كنت أظن أني ألاقي حسابي فيؤاخذني الله بسيئاتي فقد تفضل علي بالعفو ولم يؤاخذني بها فهاؤم اقرؤا كتابيه وثالثها روي أبو هريرة أنه عليه السلام قال ( إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى كتابه فتظهر حسناته في ظهر كفه وتكتب سيئاته في بطن كفه فينظر إلى سيئاته فيحزن فيقال له اقلب كفك فينظر فيه فيرى حسناته فيفرح ثم يقول هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ءانٍ ظَنَنتُ عِندَ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ(30/98)
على سبيل الشدة وأما الآن فقد فرح الله عني ذلك الغم وأما في حق الأشقياء فيكون ذلك على الضد مما ذكرنا ورابعها ظننت أي علمت وإنما أجرى مجرى العلم لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام يقال أظن ظناً كاليقين أن الأمر كيت وكيت وخامسها المراد إني ظننت في الدنيا أن بسبب الأعمال التي كنت أعملها في الدنيا سأصل في القيامة إلى هذه الدرجات وقد حصلت الآن على اليقين فيكون الظن على ظاهره لأن أهل الدنيا لا يقطعون بذلك
ثم بين تعالى عاقبة أمره فقال
فَهُوَ فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى وصف العيشة بأنها راضية فيه وجهان الأول المعنى أنها منسوبة إلى الرضا كالدارع والنابل والنسبة نسبتان نسبة بالحروف ونسبة بالصيغة والثاني أنه جعل الرضا للعيشة مجازأ مع أنه صاحب العيشة
المسألة الثانية ذكروا في حد الثواب أنه لا بد وأن يكون منفعة ولا بد وأن تكون خالصة عن الشوائب ولا بد وأن تتكون دائمة ولا بد وأن تكون مقرونة بالتعظيم فالمعنى إنما يكون مرضياً به من جميع الجهات لو كان مشتملاً على هذه الصفات فقوله عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ كلمة حاوية لمجموع هذه الشرائط التي ذكرناها
فِى جَنَّة ٍ عَالِيَة ٍ
ثم قال فِى جَنَّة ٍ عَالِيَة ٍ وهو أن من صار في عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ أي يعيش عيشاً مرضياً في جنة عالية والعلو إن أريد به العلو في المكان فهو حاصل لأن الجنة فوق السموات فإن قيل أليس أن منازل البعض فوق منازل الآخرين فهؤلاء السافلون لا يكونون في الجنة العالية قلنا إن كون بعضها دون بعض لا يقدح في كونها عالية وفوق السموات وإن أريد العلو في الدرجة والشرف فالأمر كذلك وإن أريد به كون تلك الأبنية عالية مشرفة فالأمر أيضاً كذلك
قُطُوفُهَا دَانِيَة ٌ
ثم قال قُطُوفُهَا دَانِيَة ٌ أي ثمارها قريبة التناول يأخذها الرجل كما يريد إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً وإن أحب أن تدنو إلي فيه دنت والقطوف جمع قطف وهو المقطوف
ثم قال تعالى
كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الاٌّ يَّامِ الْخَالِيَة ِ
والمعنى يقال لهم ذلك وفيه مسائل
المسألة الأولى منهم من قال قوله كُلُواْ ليس بأمر إيجاب ولا ندب لأن الآخرة ليست دار تكليف ومنهم من قال لا يبعد أن يكون ندباً إذا كان الغرض منه تعظيم ذلك الإنسان وإدخال السرور في قلبه
المسألة الثانية إنما جمع الخطاب في قوله كلوا بعد قوله فهو في عيشة لقوله فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ ومن مضمن معنى الجمع(30/99)
المسألة الثالثة قوله مَا أَسْلَفْتُمْ أي قدمتم من أعمالكم الصالحة ومعنى الإسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالإقراض ومنه يقال أسلف في كذا إذا قدم فيه ماله والمعنى بما عملتم من الأعمال الصالحة والأيام الخالية المراد منها أيام الدنيا والخالية الماضية ومنه قوله وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى و تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ وقال الكلبي بِمَا أَسْلَفْتُمْ يعني الصوم وذلك أنهم لما أمروا بالأكل والشرب دل ذلك على أنه لمن امتنع في الدنيا عنه بالصوم طاعة لله تعالى
المسألة الرابعة قوله بِمَا أَسْلَفْتُمْ يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بسبب عملهم وذلك يدل على أن العمل موجب للثواب وأيضاً لو كانت الطاعات فعلاً لله تعالى لكان قد أعطى الإنسان ثوباً لا على فعل فعله الإنسان وذلك محال وجوابه معلوم
وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ
واعلم أنه تعالى بين أنه لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله خجل منها وصار العذاب الحاصل من تلك الخجالة أزيد من عذاب النار فقال ليتهم عذبوني بالنار وما عرضوا هذا الكتاب الذي ذكرني قبائح أفعالي حتى لا أقع في هذه الخجالة وهذا ينبهك على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني وقوله وَلَمْ أَدْرِ أي ولم أدر أي شيء حسابيه لأنه حاصل ولا طائل له في ذلك الحساب وإنما كله عليه
يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة َ
ثم قال حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة َ الضمير في يا ليتها إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول إلى الموتة الأولى وهي وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة و يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة َ القاطعة عن الحياة وفيها إشارة إلى الإنتهاء والفراغ قال تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ ( الجمعة 10 ) ويقال قضى على فلان أي مات فالمعنى يا ليت الموتة التي متها كانت القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما وصلت إليه قال قتادة تمني الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت وشر من الموت ما يطلب له الموت قال الشاعر وشر من الموت الذي إن لقيته
تمنيت منه الموت والموت أعظم
والثاني أنه عائد إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب والمعنى يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي لأنه رأى تلك الحالة أبشع وأمر مما ذاقه من مرارة الموت وشدته فتمناه عندها ثم قال
مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَة ٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ(30/100)
مَا أَغْنَى نفي أو استفهام على وجه الإنكار أي أي شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار ونظيره قوله وَيَأْتِينَا فَرْداً وقوله هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ في المراد بلسطانيه وجهان أحدهما قال ابن عباس ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها على محمد في الدنيا وقال مقاتل ضلت عني حجتي يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك والثاني ذهب ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيراً ذليلاً وقيل معناه إنني إنما كنت أنازع المحقين بسبب الملك والسلطان فالآن ذهب ذلك الملك وبقي الوبال
واعلم أنه تعالى ذكر سرور السعداء أولاً ثم ذكر أحوالهم في العيش الطيب وفي الأكل والشرب كذا ههنا ذكر غم الأشقياء وحزنهم ثم ذكر أحوالهم في الغل والقيد وطعام الغسلين فأولها أن تقول خزنة جهنم خذوه فيبتدر إليه مائة ألف ملك وتجمع يده إلى عنقه فذاك قوله فَغُلُّوهُ وقوله ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ قال المبرد أصليته النار إذا أوردته إياها وصليته أيضاً كما يقال أكرمته وكرمته وقوله ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ معناه لا تصلوه إلى الجحيم وهي النار العظمى لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس ثم في سلسلة وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة وكل شيء مستمر بعد شيء على الولاء والنظام فهو مسلسل وقوله ذَرْعُهَا معنى الذرع في اللغة التقدير بالذراع من اليد يقال ذرع الثوب يذرعه ذرعاً إذا قدره بذراعه وقوله سَبْعُونَ ذِرَاعاً فيه قولان أحدهما أنه ليس الغرض التقدير بهذا المقدار بل الوصف بالطول كما قال إن تستغفر لهم سبعين مرة يريد مرات كثيرة والثاني أنه مقدر بهذا المقدار ثم قالوا كل ذراع سبعون باعاً وكل باع أبعد مما بين مكة والكوفة وقال الحسن الله أعلم بأي ذراع هو وقوله فَاْسْلُكُوهُ قال المبرد يقال سلكه في الطريق وفي القيد وغير ذلك وأسلكته معناه أدخلته ولغة القرآن سلكته قال الله تعالى مَا سَلَكَكُمْ فِى وقال كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( الشعراء 200 ) قال ابن عباس تدخل السلسلة من دبره وتخرج من حلقه ثم يجمع بين ناصيته وقدميه وقال الكلبي كما يسلك الخيط في اللؤلؤ ثم يجعل في عنقه سائرها وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في تطويل هذه السلسلة الجواب قال سويد بن أبي نجيح بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة وإذا كان الجمع من الناس مقيدين بالسلسة الواحدة كان العذاب على كل واحد منهم بذلك السبب أشد
السؤال الثاني سلك السلسلة فيهم معقول أما سلكهم في السلسلة فما معناه الجواب سلكه في السلسلة أن تلوى على جسده حتى تلتف عليه أجزاؤها وهو فيما بينها مزهق مضيق عليه لا يقدر على حركة وقالوا الفراء المعنى ثم اسلكوا فيه السلسلة كما يقال أدخلت رأسي في القلنسوة وأدخلتها في رأسي ويقال الخاتم لا يدخل في إصبعي والإصبع هو الذي يدخل في الخاتم
السؤال الثالث لم قال في سلسلة فاسلكوه ولم يقل فاسلكوه في سلسلة الجواب المعنى في تقديم السلسلة على السلك هو الذي ذكرناه في تقديم الجحيم على التصلية أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة لأنها أفظع من سائر السلاسل السؤال الرابع ذكر الأغلال والتصلية بالفاء وذكر السلك في هذه السلسة بلفظ ثم فما الفرق الجواب ليس المراد من كلمة ثم تراخي المدة بل التفاوت في مراتب العذاب(30/101)
واعلم أنه تعالى لما شرح هذا العذاب الشديد ذكر سببه فقال
إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
فالأول إشارة إلى فساد حال القوة العاقلة والثاني إشارة إلى فساد حال القوة العملية وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه قولان أحدهما ولا يحض على بذل طعام المسكين والثاني أن الطعام ههنااسم أقيم مقام الإطعام كما وضع العطاء مقام الإعطاء في قوله
وبعد عطائك المائة الرتاعا
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف قوله وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المساكين أحدهما عطفه على الكفر وجعله قرينة له والثاني ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بمن يترك الفعلا
المسألة الثالثة دلت الآية على أن الكفار يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة وهو المراد من قولنا إنهم مخاطبون بفروع الشرائع وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الباقيا وقيل المراد منه منع الكفار وقولهم أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ ( يس 47 )
ثم قال
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ
أي ليس له في الآخرة حميم أي قريب يدفع عنه ويحزن عليه لأنهم يتحامون ويفرون منه كقوله وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً وكقوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ
بم قوله تعالى
وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ
فيه مسألتان
المسألة الأولى يروى أن ابن عباس سئل عن الغسلين فقال لا أدري ما الغسلين وقال الكلبي وهو ماء يسيل من أهل النار من القيح والصديد والدم إذا عذبوا فهو غِسْلِينٍ فعلين من الغسل
المسألة الثانية الطعام ما هيء للأكل فلما هيء الصديد ليأكله أهل النار كان طعاماً لهم ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم لهم مقام الطعام فسمى طعاماً كما قال
تحية بينهم ضرب وجيع
والتحية لا تكون ضرباً إلا أنه لما أقيم مقامه جاز أن يسمى به(30/102)
لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ
ثم إنه تعالى ذكر أن الغسلين أكل من هو فقال لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ الآثمون أصحاب الخطايا وخطىء الرجل إذا تعمد الذنب وهم المشركون وقرىء الخاطيون بإبدال الهمزة ياء والخاطون بطرحها وعن ابن عباس أنه طعن في هذه القراءة وقال ما الخاطيون كلنا نخطو إنما هو الخاطئون ما الصابون إنما هو الصابئون ويجوز أن يجاب عنه بأن المراد الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله
واعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على إمكان القيامة ثم على وقوعها ثم ذكر أحوال السعداء وأحوال الأشقياء ختم الكلام بتعظيم القرآن فقال
فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى منهم من قال المراد أقسم ولا صلة أو يكون رد الكلام سبق ومنهم من قال لا ههنا نافية للقسم كأنه قال لا أقسم على أن هذا القرآن قَوْلَ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( الحاقة 40 ) يعني أنه لوضوحه يستغني عن القسم والاستقصاء في هذه المسألة سنذكره في أول سورة لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 1 )
المسألة الثانية قوله بِمَا تُبْصِرُونَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ يوم جميع الأشياء على الشمول لأنها لا تخرج من قسمين مبصر وغير مبصر فشمل الخالق والخلق والدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجن والنعم الظاهرة والباطنة
ثم قال تعالى
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
واعلم أنه تعالى ذكر في سورة ( التكوير 1 ) إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ مثل هذا الكلام والأكثرون هناك على أن المراد منه جبريل عليه السلام والأكثرون ههنا على أن المراد منه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واحتجوا على الفرق بأن ههنا لما قال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن والقوم ما كانوا يصفون جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة بل كانوا يصفون محمداً بهذين الوصفين وأما في سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ لما قال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ثم قال بعده وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ( التكوير 25 ) كان المعنى إنه قول ملك كريم لا قول شيطان رجيم فصح أن المراد من الرسول الكريم ههنا هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي تلك السورة هو جبريل عليه السلام وعند هذا يتوجه السؤال أن الأمة مجمعة على أن القرآن كلام الله تعالى وحينئذ يلزم أن يكون الكلام الواحد كلاماً لله تعالى ولجبريل ولمحمد وهذا غير معقول والجواب أنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب فهو كلام الله تعالى بمعنى أنه تعالى هو الذي أظهره في اللوح المحفوظ وهو الذي رتبه ونظمه وهو كلام جبريل عليه السلام بمعنى أنه هو الذي أنزله من السموات إلى الأرض وهو كلام محمد بمعنى أنه هو الذي أظهره للخلق ودعا الناس إلى الإيمان به وجعله حجة لنبوته
ثم قال تعالى
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
وههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ الجمهور تؤمنون وتذكرون بالتاء المنقوطة من فوق على الخطاب إلا ابن كثير(30/103)
فإنه قرأهما بالياء على المغايبة فمن قرأ على الخطاب فهو عطف على قوله بِمَا تُبْصِرُونَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ( الحاقة 38 39 ) ومن قرأ على المغايبة سلك فيه مسلك الالتفات
المسألة الثانية قالوا لفظة ما في قوله قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ لغو وهي مؤكدة وفي قوله قَلِيلاً وجهان الأول قال مقاتل يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله والمعنى لا يؤمنون أصلاً والعرب يقولون قلما يأتينا يريدون لا يأتينا الثاني أنهم قد يؤمنون في قلوبهم إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً ولا يتمون الاستدلال ألا ترى إلى قوله إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ إلا أنه في آخر الأمر قال إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ( المدثر 24 )
المسألة الثالثة ذكر في نفي الشاعرية قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وفي نفي الكاهنية مَّا تَذَكَّرُونَ والسبب فيه كأنه تعالى قال ليس هذا القرآن قولاً من رجل شاعر لأن هذا الوصف مباين لصنوف الشعر كلها إلا أنكم لا تؤمنون أي لا تقصدون الإيمان فلذلك تعرضون عن التدبر ولو قصدتم الإيمان لعلمتم كذب قولكم إنه شاعر لمفارقة هذا التركيب ضروب الشعر ولا أيضاً بقول كاهن لأنه وارد بسبب الشياطين وشتمهم فلا يمكن أن يكون ذلك بإلهام الشياطين إلا أنكم لا تتذكرون كيفية نظم القرآن واشتماله على شتم الشياطين فلهذا السبب تقولون إنه من باب الكهانة
بم قوله تعالى
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ
اعلم أن نظير هذه الآية قوله في الشعراء أَنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( الشعراء 192 194 ) فهو كلام رب العالمين لأنه تنزيله وهو قول جبريل لأنه نزل به وهو قول محمد لأنه أنذر الخلق به فههنا أيضاً لما قال فيما تقدم إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( الحاقة 40 ) أتبعه بقوله تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ حتى يزول الإشكال وقرأ أبو السمال تنزيلاً أي نزل تنزيلاً
ثم قال تعالى
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاٌّ قَاوِيلِ
قرىء وَلَوْ تَقَوَّلَ على البناء للمفعول التقول افتعال القول لأن فيه تكلفاً من المفتعل وسمي الأقوال المنقولة أقاويل تحقيراً لها كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول والمعنى ولو نسب إلينا قولاً لم نقله
ثم قال تعالى
لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية وجوه الأول معناه لأخذنا بيده ثم لضربنا رقبته وهذا ذكره على سبيل التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم فإنهم لا يمهلونه بل يضربون رقبته في الحال وإنما خص اليمين بالذكر لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يلحقه بالسيف وهو أشد على المعمول به ذلك العمل لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ومعناه لأخذنا بيمينه(30/104)
كماأن قوله لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ لقطعنا وتينه وهذا تفسير بين وهو منقول عن الحسن البصري القول الثاني أن اليمين بمعنى القوة والقدرة وهو قول الفراء والمبرد والزجاج وأنشدوا قول الشماخ إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
والمعنى لأخذ منه اليمين أي سلبنا عنه القوة والباء على هذا التقدير صلة زائدة قال ابن قتيبة وإنما قام اليمين مقام القوة لأن قوة كل شيء في ميامنه والقول الثالث قال مقاتل لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الصافات 28 ) يعني انتقمنا منه بالحق واليمين على هذا القول بمعنى الحق كقوله تعالى إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ أي من قبل الحق
اعلم أن حاصل هذه الوجوه أنه لو نسب إلينا قولاً لم نقله لمنعناه عن ذلك إما بواسطة إقامة الحجة فإنا كنا نقيض له من يعارضه فيه وحينئذ يظهر للناس كذبه فيه فيكون ذلك إبطالاً لدعواه وهدماً لكلامه وإما بأن نسلب عنده القدرة على التكلم بذلك القول وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب
المسألة الثانية الوتين هو العرق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قطع مات الحيوان قال أبو زيد وجمعه الوتن و ( يقال ) ثلاثة أوتنة والموتون الذي قطع وتينه قال ابن قتيبة ولم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه فكان كمن قطع وتينه ونظيره قوله علي السلام ( ما زالت أكله خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع ابهرى ) والأبهر عرق يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال هذا أوأن يقتلني السم وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره ثم قال
فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
قال مقاتل والكلبي معناه ليس منكم أحد يحجزنا عن ذلك الفعل قال الفراء والزجاج إنما قال حاجزين في صفة أحد لأن أحداً هنا في معنى الجمع لأنه اسم يقع في النفي العام مستوياً فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومنه قوله تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( البقرة 285 ) وقوله لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( الأحزاب 32 ) واعلم أن الخطاب في قوله فَمَا مِنكُم للناس
واعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن تنزيل من الله الحق بواسطة جبريل على محمد الذي من صفته أنه ليس بشاعر ولا كاهن بين بعد ذلك أن القرآن ما هو فقال
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَة ٌ لِّلْمُتَّقِينَ
وقد بينا في أول سورة البقرة ( 2 ) في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ما فيه من البحث ثم قال
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ
له بسبب حب الدنيا فكأنه تعالى قال أما من اتقى حب الدنيا فهو يتذكر بهذا القرآن وينتفع وأما من مال إليها فإنه يكذب بهذا القرآن ولا يقربه(30/105)
وأقول للمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية على أن الكفر ليس من الله وذلك لأنه وصف القرآن بأنه تذكرة للمتقين ولم يقل بأنه إضلال للمكذبين بل ذلك الضلال نسبه إليهم فقال وإنا لنعلم أن منكم مكذبين ونظيره قوله في سورة النحل وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا ( النحل ) واعلم أن الجواب عنه ما تقدم
ثم قال تعالى
وَإِنَّهُ لَحَسْرَة ٌ عَلَى الْكَافِرِينَ
الضمير في قوله إِلَى َّ أَنَّهُ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول أنه عائد إلى القرآن فكأنه قيل وإن القرآن لحسرة على الكافرين إما يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به أو في دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين والثاني قال مقاتل وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم ودل عليه قوله وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ ( الحاقة 49 )
ثم قال تعالى
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ
معناه أنه حق يقين أي حق لا بطلان فيه ويقين لا ريب فيه ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتأكيد ثم قال
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
إما شكراً على ما جعلك أهلاً لإيحائه إليك وإما تنزيهاً له عن الرضا بأن ينسب إليه الكاذب من الوحي ما هو بريء عنه وأما تفسير قوله فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ فمذكور في أول سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى وفي تفسير قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والله سبحانه وتعالى أعلم وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين(30/106)
سورة المعارج
أربعون وأربع آيات
سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ
اعلم أن قوله تعالى سَأَلَ فيه قراءتان منهم من قرأه بالهمزة ومنهم من قرأه بغير همزة أما الأولون وهم الجمهور فهذه القراءة تحتمل وجوهاً من التفسير الأول أن النضر بن الحرث لما قال اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعنى قوله سَأَلَ سَائِلٌ أي دعا داع بعذاب واقع من قولك دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ومنه قوله تعالى يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَة ٍ ءامِنِينَ ( الدخان 55 ) قال ابن الأنباري وعلى هذا القول تقدير الباء الإسقاط وتأويل الآية سأل سائل عذاباً واقعاً فأكد بالباء كقوله تعالى وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة ِ ( مريم 25 ) وقال صاحب الكشاف لما كان سَأَلَ معناه ههنا دعا لا جرم عدى تعديته كأنه قال دعا داع بعذاب من الله الثاني قال الحسن وقتادة لما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وخوف المشركين بالعذاب قال المشركون بعضهم لبعض سلوا محمداً لمن هذا العذاب وبمن يقع فأخبره الله عنه بقوله سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ قال ابن الأنباري والتأويل على هذا القول ( سأل سائل ) عن عذاب والباء بمعنى عن كقوله فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
وقال تعالى فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ( الفرقان 59 ) وقال صاحب ( الكشاف ) سَأَلَ على هذا الوجه في تقدير عنى واهتم كأنه قيل اهتم مهتم بعذاب واقع الثالث قال بعضهم هذا السائل هو رسول الله استعجل بعذاب الكافرين فبين الله أن هذا العذاب واقع بهم فلا دافع له قالوا والذي يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في آخر الآية فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ( المعارج 5 ) وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره بالصبر(30/107)
الجميل أما القراءة الثانية وهي ( سال ) بغير همز فلها وجهان أحدهما أنه أراد سَأَلَ بالهمزة فخفف وقلب قال سألت قريش رسول الله فاحشة
ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
والوجه الثاني أن يكون ذلك من السيلان ويؤيده قراءة ابن عباس سال سيل والسيل مصدر في معنى السائل كالغور بمعنى الغائر والمعنى اندفع عليهم واد بعذاب وهذا قول زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد قالا سال واد من أودية جهنم بعذاب واقع أما سَائِلٌ فقد اتفقوا على أنه لا يجوز فيه غير الهمز لأنه إن كان من سأل المهموز فهو بالهمز وإن لم يكن من المهموز كان بالهمز أيضاً نحو قائل وخائف إلا أنك إن شئت خففت الهمزة فجعلتها بين بين وقوله تعالى بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ فيه وجهان وذلك لأنا إن فسرنا قوله سَأَلَ بما ذكرنا من أن النضر طلب العذاب كان المعنى أنه طلب طالب عذاباً هو واقع لا محالة سواء طلب أو لم يطلب وذلك لأن ذلك العذاب نازل للكافرين في الآخرة واقع بهم لا يدفعه عنهم أحد وقد وقع بالنضر في الدنيا لأنه قتل يوم بدر وهو المراد من قوله لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ وأما إذا فسرناه بالوجه الثاني وهو أنهم سألوا الرسول عليه السلام أن هذا العذاب بمن ينزل فأجاب الله تعالى عنه بأنه واقع للكافرين والقول الأول وهو السديد وقوله مِنَ اللَّهِ فيه وجهان الأول أن يكون تقدير الآية بعذاب واقع من الله للكافرين الثاني أن يكون التقدير ليس له دافع من الله أي ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع من جهته فإنه إذا أوجبت الحكمة وقوعه امتنع أن لا يفعله الله وقوله ذِي الْمَعَارِجِ المعارج جمع معرج وهو المصعد ومنه قوله تعالى وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( الزخرف 33 ) والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً أحدها قال ابن عباس في رواية الكلبي ذِي الْمَعَارِجِ أي ذي السموات وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها وثانيها قال قتادة ذي الفواضل والنعم وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة وثالثها أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة وعندي فيه وجه رابع وهو أن هذه السموات كما أنها متفاوتة في الارتفاع والانخفاض والكبر والصغر فكذا الأرواح الملكية مختلفة في القوة والضعف والكمال والنقص وكثرة المعارف الإلهية وقوتها وشدة القوة على تدبير هذا العالم وضعف تلك القوة ولعل نور إنعام الله وأثر فيض رحمته لا يصل إلى هذا العالم إلا بواسطة تلك الأرواح إما على سبيل العادة أولا كذلك على ما قال فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً ( الذاريات 4 ) فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً ( النازعات 5 ) فالمراد بقوله مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ الإشارة إلى تلك الأرواح المختلفة التي هي كالمصاعد لارتفاع مراتب الحاجات من هذا العالم إليها وكالمنازل لنزول أثر الرحمة من ذلك العالم إلى ما ههنا
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة ٍ
وههنا مسائل
المسألة الأولى اعلم أن عادة الله تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم بالذكر كما في هذه الآية وكما في قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً ( النبأ 38 ) وهذا يقتضي أن الروح أعظم ( من ) الملائكة قدراً ثم ههنا دقيقة وهي أنه تعالى ذكر عند العروج(30/108)
الملائكة أولاً والروح ثانياً كما في هذه الآية وذكر عند القيام الروح أولاً والملائكة ثانياً كما في قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً وهذا يقتضي كون الروح أولاً في درجة النزول وآخراً في درجة الصعود وعند هذا قال بعض المكاشفين إن الروح نور عظيم هو أقرب الأنوار إلى جلال الله ومنه تتشعب أرواح سائر الملائكة والبشر في آخر درجات منازل الأرواح وبين الطرفين معارج مراتب الأرواح الملكية ومدارج منازل الأنوار القدسية ولا يعلم كميتها إلا الله وأما ظاهر قول المتكلمين وهو أن الروح هو جبريل عليه السلام فقد قررنا هذه المسألة في تفسير قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً ( النبأ 38 )
المسألة الثانية احتج القائلون بأن الله في مكان إما في العرش أو فوقه بهذه الآية من وجهين الأول أن الآية دلت على أن الله تعالى موصوف بأنه ذو المعارج وهو إنما يكون كذلك لو كان في جهة فوق والثاني قوله تَعْرُجُ الْمَلَئِكَة ُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فبين أن عروج الملائكة وصعودهم إليه وذلك يقتضي كونه تعالى في جهة فوق والجواب لما دلت الدلائل على امتناع كونه في المكان والجهة ثبت أنه لا بد من التأويل فأما وصف الله بأنه ذو المعارج فقد ذكرنا الوجوه فيه وأما حرف ( إلى ) في قوله تَعْرُجُ الْمَلَئِكَة ُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فليس المراد منه المكان بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده كقوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ ( هود 123 ) المراد الانتهاء إلى موضع العز والكرامة كقوله إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى ( الصافات 99 ) ويكون هذا إشارة إلى أن دار الثواب أعلى الأمكنة وأرفعها
المسألة الثالثة الأكثرون على أن قوله فِى يَوْمٍ من صلة قوله تَعْرُجُ أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم وقال مقاتل بل هذا من صلة قوله بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( المعارج 1 ) وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير والتقدير سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وعلى التقدير الأول فذلك اليوم إما أن يكون في الآخرة أو في الدنيا وعلى تقدير أن يكون في الآخرة فذلك الطول إما أن يكون واقعاً وإما أن يكون مقدراً فهذه هي الوجوه التي تحملها هذه الآية ونحن نذكر تفصيلها القول الأول هو أن معنى الآية أن ذلك العروج يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنة وهو يوم القيامة وهذا قول الحسن قال وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية ولفنيت الجنة والنار عند تلك الغاية وهذا غير جائز بل المراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ثم بعد ذلك يستقر أهل النار في دركات النيران نعوذ بالله منها واعلم أن هذا الطول إنما يكون في حق الكافر أما في حق المؤمن فلا والدليل عليه الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( الفرقان 24 ) واتفقوا على ( أن ) ذلك ( المقيل والمستقر ) هو الجنة وأماالخبر فما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما طول هذا اليوم فقال ( والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا ) ومن الناس من قال إن ذلك الموقف وإن طال فهو يكون سبباً لمزيد السرور والراحة لأهل الجنة ويكون سبباً لمزيد الحزن والغم لأهل النار الجواب عنه أن الآخرة دار جزاء فلا بد من أن يعجل للمثابين ثوابهم ودار الثواب هي الجنة لا الموقف فإذن لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار القول الثاني هو أن هذه المدة واقعة في الآخرة لكن على سبيل التقدير لا على سبيل التحقق والمعنى أنه لو اشتغل بذلك القضاء(30/109)
والحكومة أعقل الخلق وأذكاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحكومة في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا وأيضاً الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة ثم إنهم يصعدون إليها في ساعة قليلة وهذا قول وهب وجماعة من المفسرين القول الثالث وهو قول أبي مسلم إن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء فبين تعالى أنه لا بد في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم وهذا اليوم مقدر بخمسين ألف سنة ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوماً لأنا لا ندري كم مضى وكم بقي القول الرابع تقدير الآية سأل سائل بعذاب واقع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يحتمل أن يكون المراد منه استطالة ذلك اليوم لشدته على الكفار ويحتمل أن يكون المراد تقدير مدته وعلى هذا فليس المراد تقدير العذاب بهذا المقدار بل المراد التنبيه على طول مدة العذاب ويحتمل أيضاً أن العذاب الذي سأله ذلك السائل يكون مقدراً بهذه المدة ثم إنه تعالى ينقله إلى نوع آخر من العذاب بعد ذلك فإن قيل روى ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن هذه الآية وعن قوله فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ٍ ( السجدة 5 ) فقال أيام سماها الله تعالى هو أعلم بها كيف تكون وأكره أن أقول فيها مالا أعلم فإن قيل فما قولكم في التوفيق بين هاتين الآيتين قلنا قال وهب في الجواب عن هذا ما بين أسفل العالم إلى أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة لأن عرض كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى فقوله تعالى فِى يَوْمٍ يريد من أيام الدنيا وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا ومقدار ألف سنة لو صعدوا إلى أعالي العرش
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
فيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن هذا متعلق بسأل سائل لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله والتكذيب بالوحي وكان ذلك مما يضجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمر بالصبر عليه وكذلك من يسأل عن العذاب لمن هو فإنما يسأل على طريق التعنت من كفار مكة ومن قرأ سَأَلَ سَائِلٌ فمعناه جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر فقد جاء وقت الانتقام
المسألة الثانية قال الكلبي هذه الآية نزلت قبل أن يؤمر الرسول بالقتال
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً
الضمير في يَرَوْنَهُ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول أنه عائد إلى العذاب الواقع والثاني أنه عائد إلى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة ٍ ( المعارج 4 ) أي يستبعدونه على جهة الإحالة و نحن يَكُونَ قَرِيبًا هيناً في(30/110)
قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر فالمراد بالبعيد البعيد من الإمكان وبالقريب القريب منه
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْألُ حَمِيمٌ حَمِيماً
فيه مسألتان
المسألة الأولى يَوْمَ تَكُونُ منصوب بماذا فيه وجوه أحدها بقريباً والتقدير ونراه قريباً يوم تكون السماء كالمهل أي يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم وثانيها التقدير سأل سائل بعذاب واقع يوم تكون السماء كالمهل والثالث التقدير يوم تكون السماء كالمهل كان كذا وكذا والرابع أن يكون بدلاً من يوم والتقدير سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يوم تكون السماء كالمهل
المسألة الثانية أنه ذكر لذلك اليوم صفات
الصفة الأولى أن السماء تكون فيه كالمهل وذكرنا تفسير المهل عند قوله بِمَاء كَالْمُهْلِ قال ابن عباس كدردى الزيت وروى عنه عطاء كعكر القطران وقال الحسن مثل الفضة إذا أذيبت وهو قول ابن مسعود
الصفة الثانية أن تكون الجبال فيه كالعهن ومعنى العهن في اللغة الصوف المصبوغ ألواناً وإنما وقع التشبيه به لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح
الصفة الثالثة قوله وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس الحميم القريب الذي يعصب له وعدم السؤال إنما كان لاشتغال كل أحد بنفسه وهو كقوله تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ( الحج 2 ) وقوله يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ إلى قوله لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( عبس 37 ) ثم في الآية وجوه أحدها أن يكون التقدير لا يسأل حميم عن حميمه فحذف الجار وأوصل الفعل الثاني لا يسأل حميم حميمه كيف حالك ولا يكلمه لأن لكل أحد ما يشغله عن هذا الكلام الثالث لا يسأل حميم حميماً شفاعة ولا يسأل حميم حميماً إحساناً إليه ولا رفقاً به
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وَلاَ يَسْئَلُ بضم الياء والمعنى لا يسأل حميم عن حميمه ليتعرف شأنه من جهته كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه وهذا أيضاً على حذف الجار قال الفراء أي لا يقال لحميم أين حميمك ولست أحب هذه القراءة لأنها مخالفة لما أجمع عليه القراء
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ
قوله تعالى يُبَصَّرُونَهُمْ يقال بصرت به أبصر قال تعالى بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ ( طه 96 ) ويقال بصرت زيد بكذا فإذا حذفت الجار قلت بصرني زيد كذا فإذا أثبت الفعل للمفعول به وقد حذفت الجار(30/111)
قلت بصرني زيداً فهذا هو معنى يبصرونهم وإنما جمع فقيل يبصرونهم لأن الحميم وإن كان مفرداً في اللفظ فالمراد به الكثرة والجميع والدليل عليه قوله تعالى فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ( الشعراء 100 ) ومعنى يبصرونهم يعرفونهم أي يعرف الحميم الحميم حتى يعرفه وهو مع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه فإن قيل ما موضع يبصرونهم قلنا فيه وجهان الأول أنه متعلق بما قبله كأنه لما قال وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( المعارج 10 ) قيل لعله لا يبصره فقيل يبصرونهم ولكنهم لاشتغالهم بأنفسهم لا يتمكنون من تساؤلهم الثاني أنه متعلق بما بعده والمعنى أن المجرمين يبصرون المؤمنين حال ما يود أحدهم أن يفدي نفسه لكل ما يملكه فإن الإنسان إذا كان في البلاد الشديد ثم رآه عدوه على تلك الحالة كان ذلك في نهاية الشدة عليه
الصفة الرابعة قوله يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المجرم هو الكافر وقيل يتناول كل مذنب
المسألة الثانية قرىء يَوْمَئِذٍ بالجر والفتح على البناء لسبب الإضافة إلى غير متمكن وقرىء أيضاً مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بتنوين عَذَابِ ونصب يَوْمَئِذٍ وانتصابه بعذاب لأنه في معنى تعذيب
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُأوِيهِ وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ
فصيلة الرجل أقاربه الأقربون الذين فصل عنهم وينتهي إليهم لأن المراد من الفصيلة المفصولة لأن الولد يكون منفصلاً من الأبوين قال عليه السلام ( فاطمة بضعة مني ) فلما كان هو مفصولاً منهما كانا أيضاً مفصولين منه فسميا فصيلة لهذا السبب وكان يقال للعباس فصيلة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن العم قائم مقام الأب وأما قوله تُوِيهِ فالمعنى تضمه انتماء إليها في النسب أو تمسكاً بها في النوائب
وقوله ثُمَّ يُنجِيهِ فيه وجهان الأول أنه معطوف على يَفْتَدِي ( المعارج 11 ) والمعنى يود المجرم لو يفتدي بهذه الأشياء ثم ينجيه والثاني أنه متعلق بقوله وَمَن فِى الاْرْضِ والتقدير يود لو يفتدي بمن في الأرض ثم ينجيه و ثُمَّ لاستبعاد الإنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك وهيهات أن ينجيه
بم قوله تعالى
كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَة ً لِّلشَّوَى
كَلاَّ ردع للمجرم عن كونه بحيث يود الافتداء ببنيه وعلى أنه لا ينفعه ذلك الافتداء ولا ينجيه من العذاب ثم قال أَنَّهَا وفيه وجهان الأول أن هذا الضمير للنار ولم يجر لها ذكر إلا أن ذكر العذاب دل عليها والثاني يجوز أن يكون ضمير القصة ولظى من أسماء النار قال الليث اللظى اللهب الخالص يقال لظت النار تلظى لظى وتلظت تلظياً ومنه قوله نَاراً تَلَظَّى ولظى علم للنار منقول من اللظى وهو معرفة لا ينصرف فلذلك لم ينون وقوله نَزَّاعَة ً مرفوعة وفي سبب هذا الارتفاع وجوه الأول أن تجعل الهاء في أنها عماد أو تجعل لظى اسم إن ونزاعة خبر إن كأنه قيل إن لظى نزاعة والثاني أن تجعل الهاء ضمير القصة ولظى مبتدأ ونزاعة خبراً وتجعل الجملة خبراً عن ضمير القصة والتقدير إن القصة لظى نزاعة للشوى والثالث أن ترتفع على الذم والتقدير إنها لظى وهي نزاعة للشوى وهذا قول الأخفش والفراء والزجاج وأما قراءة النصب(30/112)
ففيها ثلاثة أوجه أحدها قال الزجاج إنها حال مؤكدة كما قال هُوَ الْحَقُّ مُصَدّقاً وكما يقول أنا زيد معروفاً اعترض أبو علي الفارسي على هذا وقال حمله على الحال بعيد لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال فإن قلت في قوله لَظَى معنى التلظي والتلهب فهذا لا يستقيم لأن لظى اسم علم لماهية مخصوصة والماهية لا يمكن تقييدها بالأحوال إنما الذي يمكن تقييده بالأحوال هو الأفعال فلا يمكن أن يقال رجلاً حال كونه عالماً ويمكن أن يقال رأيت رجلاً حال كونه عالماً وثانيها أن تكون لظى اسماً لنار تتلظى تلظياً شديداً فيكون هذا الفعل ناصباً لقوله نَزَّاعَة ً وثالثها أن تكون منصوبة على الاختصاص والتقدير إنها لظى أعنيها نزاعة للشوى ولم تمنع
المسألة الثالثة الشوى الأطراف وهي اليدان والرجلان ويقال للرامي إذا لم يصب المقتل أشوى أي أصاب الشوى والشوى أيضاً جلد الرأس واحدتها شواة ومنه قول الأعشى قالت قتيلة ماله
قد جللت شيباً شواته
هذا قول أهل اللغة قال مقاتل تنزع النار الهامة والأطراف فلا تترك لحماً ولا جلداً إلا أحرقته وقال سعيد بن جبير العصب والعقب ولحم الساقين واليدين وقال ثابت البناني لمكارم وجه بني آدم واعلم أن النار إذا أفنت هذه الأعضاء فالله تعالى يعيدها مرة أخرى كما قال نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ
بم قوله تعالى
تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى
فيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في أن لظى كيف تدعو الكافر فذكروا وجوهاً أحدها أنها تدعوهم بلسان الحال كما قيل سل الأرض من أشق أنهارك وغرس أشجارك فإن لم تجبك جؤاراً أجابتك اعتباراً فههنا لما كان مرجع كل واحد من الكفار إلى زاوية من زوايا جهنم كأن تلك المواضع تدعوهم وتحضرهم وثانيها أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحاً إلي يا كافر إلي يا منافق ثم تلتقطهم التقاط الحب وثالثها المراد أن زبانية النار يدعون فأضيف ذلك الدعاء إلى النار بحذف المضاف ورابعها تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله أي أهلكك وقوله مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى يعني من أدبر عن الطاعة وتولى عن الإيمان وَجُمِعَ المال فَأَوْعَى أي جعله في وعاء وكنزه ولم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة فيها فقوله أَدْبَرَ وَتَوَلَّى إشارة إلى الإعراض عن معرفة الله وطاعته وقوله وَجَمَعَ فَأَوْعَى إشارة إلى حب الدنيا فجمع إشارة إلى الحرص وأوعى إشارة إلى الأمل ولا شك أن مجامع آفات الدين ليست إلا هذه
بم قوله تعالى
إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً
فيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم المراد بالإنسان ههنا الكافر وقال آخرون بل هو على عمومه بدليل أنه استثنى منه إلا المصلين(30/113)
المسألة الثانية يقال هلع الرجل يهلع هلعاً وهلاعاً فهو هالع وهلوع وهو شدة الحرص وقلة الصبر يقال جاع فهلع وقال الفراء الهلوع الضجور وقال المبرد الهلع الضجر يقال نعوذ بالله من الهلع عند منازلة الأقران وعن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبدالله بن طاهر ما الهلع فقلت قد فسره الله ولا تفسير أبين من تفسيره هو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع وإذا ناله خير بخل ومنعه الناس
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً نظير لقوله خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ وليس المراد أنه مخلوق على هذا الوصف والدليل عليه أن الله تعالى ذمه عليه والله تعالى لا يذم فعله ولأنه تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك هذه الخصلة المذمومة ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى لما قدروا على تركها واعلم أن الهلع لفظ واقع على أمرين أحدهما الحالة النفسانية التي لأجلها يقدم الإنسان على إظهار الجزع والتضرع والثاني تلك الأفعال الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالة النفسانية أما تلك الحالة النفسانية فلا شك أنها تحدث بخلق الله تعالى لأن من خلقت نفسه على تلك الحالة لا يمكنه إزالة تلك الحالة من نفسه ومن خلق شجاعاً بطلاً لا يمكنه إزالة تلك الحالة عن نفسه بل الأفعال الظاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدام عليها فهي أمور اختيارية أما الحالة النفسانية التي هي الهلع في الحقيقة فهي مخلوقة على سبيل الاضطرار
بم قوله تعالى
إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً
المراد من الشر والخير الفقر والغنى أو المرض والصحة فالمعنى أنه إذا صار فقيراً أو مريضاً أخذ في الجزع والشكاية وإذا صار غنياً أو صحيحاً أخذ في منع المعروف وشح بماله ولم يلتفت إلى الناس فإن قيل حاصل هذا الكلام أنه نفور عن المضار طالب للراحة وهذا هو اللائق بالعقل فلم ذمه الله عليه قلنا إنما ذمه عليه لأنه قاصر النظر على الأحوال الجسمانية العاجلة وكان من الواجب عليه أن يكون مشغولاً بأحوال الآخرة فإذا وقع في مرض أو فقر وعلم أنه فعل الله تعالى كان راضياً به لعلمه أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وإذا وجد المال والصحة صرفهما إلى طلب السعادات الأخروية واعلم أنه استثنى من هذه الحالة المذكورة المذمومة من كان موصوفاً بثمانية أشياء
( 22 )
إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ
أولها قوله إِلاَّ الْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ فإن قيل قال عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ثم عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( المعارج 34 ) قلنا معنى دوامهم عليها أن لا يتركوها في شيء من الأوقات ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها حتى يؤتى بها على أكمل الوجوه وهذا الاهتمام إنما يحصل تارة بأمور سابقة على الصلاة وتارة بأمور لاحقة بها وتارة بأمور متراخية عنها أما الأمور السابقة فهو أن يكون قبل دخول وقتها متعلق القلب بدخول أوقاتها ومتعلق بالوضوء وستر العورة وطلب القبلة ووجدان الثوب(30/114)
والمكان الطاهرين والإتيان بالصلاة في الجماعة وفي المساجد المباركة وأن يجتهد قبل الدخول في الصلاة في تفريغ القلب عن الوساوس والإلتفات إلى ما سوى الله تعالى وأن يبالغ في الاحتراز عن الرياء والسمعة وأما الأمور المقارنة فهو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً وأن يكون حاضر القلب عند القراءة فاهماً للأذكار مطلعاً على حكم الصلاة وأما الأمور المتراخية فهي أن لا يشتغل بعد إقامة الصلاة باللغو واللهو واللعب وأن يحترز كل الاحتراز عن الإتيان بعدها بشيء من المعاصي
وثانيها قوله تعالى
وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ
اختلفوا في الحق المعلوم فقال ابن عباس والحسن وابن سيرين إنه الزكاة المفروضة قال ابن عباس من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق قالوا والدليل على أن المراد به الزكاة المفروضة وجهان الأول أن الحق المعلوم المقدر هو الزكاة أما الصدقة فهي غير مقدرة الثاني وهو أنه تعالى ذكر هذا على سبيل الاستثناء ممن ذمه فدل على أن الذي لا يعطى هذا الحق يكون مذموماً ولا حق على هذه الصفة إلا الزكاة وقال آخرون هذا الحق سوى الزكاة وهو يكون على طريق الندب والاستحباب وهذا قول مجاهد وعطاء والنخعي وقوله لَّلسَّائِلِ يعني الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم
وثالثها قوله
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ
أي يؤمنون بالبعث والحشر
ورابعها قوله تعالى
وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ
والإشفاق يكون من أمرين إما الخوف من ترك الواجبات أو الخوف من الإقدام على المحظورات وهذا كقوله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ ( المؤمنون 60 ) وكقوله سبحانه الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ( الحج 35 ) ومن يدوم به الخوف والإشفاق فيما كلف يكون حذراً من التقصير حريصاً على القيام بما كلف به من علم وعمل
ثم إنه تعالى أكد ذلك الخوف فقال
إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ
والمراد أن الإنسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي واحترز عن المحظورات بالكلية بل يجوز أن يكون قد وقع منه تقصير في شيء من ذلك فلا جرم يكون خائفاً أبد
وخامسها قوله تعالى
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ
وقد مر تفسيره في سورة المؤمنين(30/115)
وسادسها قوله
وَالَّذِينَ هُمْ لاًّمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
وقد تقدم تفسيره أيضاً
وسابعها قوله
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ
قرىء بشهادتهم وبشهاداتهم قال الواحدي والإفراد أولى لأنه مصدر فيفرد كما تفرد المصادر وإن أضيف لجمع كقوله لصوت الحمير ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات وكثرت ضروبها فحسن الجمع من جهة الاختلاف وأكثر المفسرين قالوا يعني الشهادات عند الحكام يقومون بها بالحق ولا يكتمونها وهذه الشهادات من جملة الأمانات إلا أنه تعالى خصها من بينها إبانة لفضلها لأن في إقامتها إحياء الحقوق وفي تركها إبطالها وتضييعها وروى عطاء عن ابن عباس قال يريد الشهادة بأن الله واحد لا شريك له
وثامنها قوله
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
وقد تقدم تفسيره
ثم وعد هؤلاء وقال
أُوْلَائِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ
ثم ذكر بعده ما يتعلق بالكفار فقال
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ
المهطع المسرع وقيل الماد عنقه وأنشدوا فيه بمكة أهلها ولقد أراهم
بمكة مهطعين إلى السماع
والوجهان متقاربان روى أن المشركين كانوا يحتفون حول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حلقاً حلقاً وفرقاً فرقاً يستمعون ويستهزئون بكلامه ويقولون إذا دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت هذه الآية فقوله مُهْطِعِينَ أي مسرعين نحوك مادين أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك وقال أبو مسلم ظاهر الآية يدل على أنهم هم المنافقون فهم الذين كانوا عنده وإسراعهم المذكور هو الإسراع في الكفر كقوله لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ ثم قال
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ
وذلك لأنهم كانوا عن يمينه وعن شماله مجتمعين ومعنى عِزِينَ جماعات في تفرقة واحدها عزة وهي العصبة من الناس قال الأزهري وأصلها من قولهم عزا فلان نفسه إلى بني فلان يعزوها عزواً إذا انتهى إليهم والاسم العزوة وكان العزة كل جماعة اعتزوها إلى أمر واحد واعلم أن هذا من المنقوص الذي جاز جمعه بالواو والنون عوضاً من المحذوف وأصلها عزوة والكلام في هذه كالكلام في عِضِينَ ( الحجر 91 ) وقد تقدم وقيل كان المستهزئون خمسة أرهط ثم قال
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِى ءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّة َ نَعِيمٍ
والنعيم ضد البؤس والمعنى أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي كما يدخلها المسلمون(30/116)
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ
ثم قال كَلاَّ وهو ردع لهم عن ذلك الطمع الفاسد
ثم قال إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الغرض من هذا الاستدلال على صحة البعث كأنه قال لما قدرت على أن أخلقكم من النطفة وجب أن أكون قادراً على بعثكم
المسألة الثانية ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً أحدها أنه لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث فكأنه قيل لهم كلا إنكم منكرون للبعث فمن أين تطمعون في دخول الجنة وثانيها أن المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين فقال تعالى هؤلاء المستهزئون مخلوقون مما خلقوا فكيف يليق بهم هذا الاحتقار وثالثها أنهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة فلو لم يتصفوا بالإيمان والمعرفة فكيف يليق بالحكيم إدخالهم الجنة ثم قال
فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ
يعني مشرق كل يوم من السنة ومغربه أو مشرق كل كوكب ومغربه أو المراد بالمشرق ظهور دعوة كل نبي وبالمغرب موته أو المراد أنواع الهدايات والخذلانات إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ وهو مفسر في قوله وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وقوله فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ مفسر في آخر سورة والطور واختلفوا في أن ما وصف الله نفسه بالقدرة عليه من ذلك هل خرج إلى الفعل أم لا فقال بعضهم بدل الله بهم الأنصار والمهاجرين فإن حالتهم في نصرة الرسول مشهورة وقال آخرون بل بدل الله كفر بعضهم بالإيمان وقال بعضهم لم يقع هذا التبديل فإنهم أو أكثرهم بقوا على جملة كفرهم إلى أن ماتوا وإنما كان يصح وقوع التبديل بهم لو أهلكوا لأن مراده تعالى بقوله إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ بطريق الإهلاك فإذا لم يحصل ذلك فكيف يحكم بأن ذلك قد وقع وإنما هدد تعالى القوم بذلك لكي يؤمنوا
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ جْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَة ً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ
ثم ذكر تعالى ذلك اليوم الذي تقدم ذكره فقال يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ عَنْهُمْ سِرَاعاً وهو كقوله فَإِذَا هُم مّنَ الاْجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ
قوله تعالى كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَة ً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ
اعلم أن في نَصَبٌ ثلاث قراءات أحدها وهي قراءة الجمهور نَصَبٌ بفتح النون والنصب كل شيء نصب والمعنى كأنهم إلى علم لهم يستبقون والقراءة الثانية نَصَبٌ بضم النون وسكون الصاد وفيه وجهان أحدهما النصب والنصب لغتان مثل الضعف والضعف وثانيهما أن يكون جمع نصب كشقف(30/117)
جمع شقف والقراءة الثالثة نَصَبٌ بضم النون والصاد وفيه وجهان أحدهما أن يكون النصب والنصب كلاهما يكونان جمع نصب كأسد وأسد جمع أسد وثانيهما أن يكون المراد من النصب الأنصاب وهي الأشياء التي تنصب فتعبد من دون الله كقوله وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وقوله يُوفِضُونَ يسرعون ومعنى الآية على هذا الوجه أنهم يوم يخرجون من الأجداث يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصارهم وبقية السورة معلومة والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(30/118)
سورة نوح عليه السلام
عشرون وثمان آيات مكية
إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ في قوله ءانٍ وجهان أحدهما أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل والمعنى أرسلناه بأن قلنا له أنذر أي أرسلناه بالأمر بالإندار الثاني قال الزجاج يجوز أن تكون مفسرة والتقدير إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أي أنذر قومك وقرأ ابن مسعود أُنذِرَ بغير أن على إرادة القول
ثم قال مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قال مقاتل يعني الغرق بالطوفان
واعلم أن الله تعالى لما أمره بذلك امتثل ذلك الأمر
قَالَ ياقَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
أَنِ اعْبُدُواْ هو نظير أَنْ أَنذِرِ ( نوح 1 ) في الوجهين ثم إنه أمر القوم بثلاثة أشياء بعبادة الله وتقواه وطاعة نفسه فالأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح والأمر بتقواه يتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات وقوله وَأَطِيعُونِ يتناول أمرهم بطاعته وجميع المأمورات والمنهيات وهذا وإن كان داخلاً في الأمر بعبادة الله وتقواه إلا أنه خصه بالذكر تأكيداً في ذلك التكليف ومبالغة في تقريره ثم إنه تعالى لما كلفهم بهذه الأشياء الثلاثة وعدهم عليها(30/119)
بشيئين أحدهما أن يزيل مضار الآخرة عنهم وهو قوله يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ الثاني يزيل عنهم مضار الدنيا بقدر الإمكان وذلك بأن يؤخر أجلهم إلى أقصى الإمكان وههنا سؤالات
السؤال الأول ما فائدة مِنْ في قوله يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ والجواب من وجوه أحدها أنها صلة زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم والثاني أن غفران الذنب هو أن لا يؤاخذ به فلو قال يغفر لكم ذنوبكم لكان معناه أن لا يؤاخذكم بمجموع ذنوبكم وعدم المؤاخذة بالمجموع لا يوجب عدم المؤاخذة بكل واحد من آحاد المجموع فله أن يقول لا أطالبك بمجموع ذنوبك ولكني أطالبك بهذا الذنب الواحد فقط أما لما قال يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ كان تقديره يغفر كل ما كان من ذنوبكم وهذا يقتضي عدم المؤاخذة على مجموع الذنوب وعدم المؤاخذة أيضاً على كل فرد من أفراد المجموع الثالث أن قوله يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ هب أنه يقتضي التبعيض لكنه حتى لأن من آمن فإنه يصير ما تقدم من ذنوبه على إيمانه مغفوراً أما ما تأخر عنه فإنه لا يصير بذلك السبب مغفوراً فثبت أنه لا بد ههنا من حرف التبعيض
السؤال الثاني كيف قال وَيُؤَخّرْكُمْ مع إخباره بامتناع تأخير الأجل وهل هذا إلا تناقض الجواب قضى الله مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم الله ألف سنة وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى أي إلى وقت سماه الله وجعله غاية الطول في العمر وهو تمام الألف ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول لا بد من الموت
السؤال الثالث ما الفائدة في قوله لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الجواب الغرض الزجر عن حب الدنيا وعن التهالك عليها والإعراض عن الدين بسبب حبها يعني أن غلوهم في حب الدنيا وطلب لذاتها بلغ إلى حيث يدل على أنهم شاكون في الموت بم قوله تعالى
قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِى إِلاَّ فِرَاراً
اعلم أن هذا من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره وذلك لأنا نرى إنسانين يسمعان دعوة الرسول في مجلس واحد بلفظ واحد فيصير ذلك الكلام في حق أحدهما سبباً لحصول الهداية والميل والرغبة وفي حق الثاني سبباً لمزيد العتو والتكبر ونهاية النفرة وليس لأحد أن يقول إن تلك النفرة والرغبة حصلتا باختيار المكلف فإن هذا مكابرة في المحسوس فإن صاحب النفرة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك النفرة وصاحب الرغبة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك الرغبة ومتى حصلت تلك النفرة وجب أن يحصل عقيبه التمرد والإعراض وإن حصلت الرغبة وجب أن يحصل عقيبه الانقياد والطاعة فعلمنا أن إفضاء سماع تلك الدعوة في حق أحدهما إلى الرغبة المستلزمة لحصول الطاعة والانقياد وفي حق الثاني إلى النفرة المستلزمة لحصول التمرد والعصيان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره فإن قيل هب أن حصول النفرة والرغبة ليس باختياره لكن حصول العصيان عند النفرة يكون باختياره فإن العبد متمكن مع تلك النفرة أن ينقاد ويطيع قلنا إنه لو حصلت النفرة غير معارضة بوجه من وجوه الرغبة بل خالصة عن جميع(30/120)
شوائب الرغبة امتنع أن يحصل معه الفعل وذلك لأنه عندما تحصل النفرة والرغبة لم يحصل الفعل ألبتة فعند حصول النفرة انضم إلى عدم المقتضي وجود المانع فبأن يصير الفعل ممتنعاً أولى فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على القضاء والقدر
وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً
ثم قال تعالى وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
اعلم أن نوحاً عليه السلام إنما دعاهم إلى العبادة والتقوى والطاعة لأجل أن يغفر لهم فإن المقصود الأول هو حصول المغفرة وأما الطاعة فهي إنما طلبت ليتوسل بها إلى تحصيل المغفرة ولذلك لما أمرهم بالعبادة قال يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( نوح 4 ) فلما كان المطلوب الأول من الدعوة حصول المغفرة لا جرم قال وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ واعلم أنه عليه السلام لما دعاهم عاملوه بأشياء
أولها قوله جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءاذانِهِمْ والمعنى أنهم بلغوا في التقليد إلى حيث جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا الحجة والبينة
وثانيها قوله وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ أي تغطوا بها إما لأجل أن لا يبصروا وجهه كأنهم لم يجوزوا أن يسمعوا كلامه ولا أن يروا وجهه وإما لأجل المبالغة في أن لا يسمعوا فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم ثم استغشوا ثيابهم مع ذلك صار المانع من السماع أقوى
وثالثها قوله وَأَصَرُّواْ والمعنى أنهم أصروا على مذهبهم أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق
ورابعها قوله وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً أي عظيماً بالغاً إلى النهاية القصوى
ثم قال تعالى
ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً
واعلم أن هذه الآيات تدل على أن مراتب دعوته كانت ثلاثة فبدأ بالمناصحة في السر فعاملوه بالأمور الأربعة ثم ثنى بالمجاهرة فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار وكلمة ثُمَّ دالة على تراخي بعض هذه المراتب عن بعض إما بحسب الزمان أو بحسب الرتبة لأن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بين الإسرار والجهار أغلظ من الجهار وحده فإن قيل بم انتصب جِهَاراً قلنا فيه وجوه أحدها أنه منصوب بدعوتهم نصب المصدر لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار فنصب به نصب القرفصاء بقعد لكونها أحد أنواع القعود وثانيها أنه أريد بدعوتهم جاهرتهم وثالثها أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهاراً أي مجاهراً به ورابعها أن يكون مصدراً في موضع الحال أي مجاهراً(30/121)
بم قوله تعالى
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً
قال مقاتل إن قوم نوح لما كذبوه زماناً طويلاً حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فرجعوا فيه إلى نوح فقال نوح استغفروا ربكم من الشرك حتى يفتح عليكم أبواب نعمه
واعلم أن الاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات ويدل عليه وجوه أحدها أن الكفر سبب لخراب العالم على ما قال في كفر النصارى تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً ( مريم 90 91 ) فلما كان الكفر سبباً لخراب العالم وجب أن يكون الإيمان سبباً لعمارة العالم وثانيها الآيات منها هذه الآية ومنها قوله وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ ( الأعراف 96 ) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ ( المائدة 66 ) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَة ِ لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ( الجن 16 ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 2 3 ) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ( طه 132 ) وثالثها أنه تعالى قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فإذا اشتغلوا بتحصيل المقصود حصل ما يحتاج إليه في الدنيا على سبيل التبعية ورابعها أن عمر خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له ما رأيناك استسقيت فقال لقد استسقيت بمجاديح السماء المجدح ثلاثة كواكب مخصوصة ونوءه يكون عزيزاً شبه عمر إلا استغفاراً بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء وعن بكر بن عبدالله أن أكثر الناس ذنوباً أقلهم استغفاراً وأكثرهم استغفاراً أقلهم ذنوباً وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال استغفر الله وشكا إليه آخر الفقر وآخر قلة النسل وآخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له بعض القوم أتاك رجال يشكون إليك أنواعاً من الحاجة فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا له الآية وههنا سؤالات
الأول أن نوحاً عليه السلام أمر الكفار قبل هذه الآية بالعبادة والتقوى والطاعة فأي فائدة في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار الجواب أنه لما أمرهم بالعبادة قالوا له إن كان الدين القديم الذي كنا عليه حقاً فلم تأمرنا بتركه وإن كان باطلاً فكيف يقبلنا بعد أن عصيناه فقال نوح عليه السلام إنكم وإن كنتم عصيتموه ولكن استغفروه من تلك الذنوب فإنه سبحانه كان غفاراً
السؤال الثاني لم قال إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ولم يقل إنه غفار قلنا المراد إنه كان غفاراً في حق كل من استغفروه كأنه يقول لا تظنوا أن غفاريته إنما حدثت الآن بل هو أبداً هكذا كان فكأن هذا هو حرفته وصنعته
بم وقوله تعالى
يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً
واعلم أن الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة ولذلك قال تعالى وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ(30/122)
فلا جرم أعلمهم الله تعالى ههنا أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا
والأشياء التي وعدهم من منافع الدنيا في هذه الآية خمسة أولها قوله يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وفي السماء وجوه أحدها ( أن ) المطر منها ينزل إلى السحاب وثانيها أن يراد بالسماء السحاب وثالثها أن يراد بالسماء المطر من قوله إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا
والمدرار الكثير الدرور ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كقولهم رجل أو امرأة معطار ومتفال وثانيها قوله وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وهذا لا يختص بنوع واحد من المال بل يعم الكل وثالثها قوله وَبَنِينَ ولا شك أن ذلك مما يميل الطبع إليه ورابعها قوله وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين وخامسها قوله وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ثم قال
مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً
وفيه قولان الأول أن الرجاء ههنا بمعنى الخوف ومنه قول الهذلي
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
والوقار العظمة والتوقير التعظيم ومنه قوله تعالى وَتُوَقّرُوهُ بمعنى ما بالكم لا تخافون لله عظمة وهذا القول عندي غير جائز لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة فلو قلنا إن لفظة الرجاء في اللغة موضوعة بمعنى الخوف لكان ذلك ترجيحاً للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية المنقولة بالتواتر وهذا يفضي إلى القدح في القرآن فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتاً وإثباته نفياً بهذا الطريق الوجه الثاني ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن المعنى مالكم لا تأملون لله توقيراً أي تعظيماً والمعنى مالكم لا تكونوا على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم و لِلَّهِ بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة للوقار
بم وقوله تعالى
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً
في موضع الحال كأنه قال مالكم لا تؤمنون بالله والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أي تارات خلقكم أولاً تراباً ثم خلقكم نطفاً ثم خلقكم علقاً ثم خلقكم مضغاً ثم خلقكم عظاماً ولحماً ثم أنشأكم خلقاً آخر وعندي فيه وجه ثالث وهو أن القوم كانوا يبالغون في الاستخفاف بنوح عليه السلام فأمرهم الله تعالى بتوقيره وترك الاستخفاف به فكأنه قال لهم إنكم إذا وقرتم نوحاً وتركتم الاستخفاف به كان ذلك لأجل الله فما لكم لا ترجون وقاراً وتأتون به لأجل الله ولأجل أمره وطاعته فإن كل ما يأتي به الإنسان لأجل الله فإنه لا بد وأن يرجوا منه خيراً ووجه رابع وهو أن الوقار وهو الثبات من وقر إذا ثبت واستقر فكأنه قال مَالَكُمْ وعند هذا تم الكلام ثم قال على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( الجن 13 ) أي لا ترجون لله ثباتاً وبقاء فإنكم لو رجوتم ثباته وبقاءه لخفتموه ولما أقدمتم على الاستخفاف برسله وأوامره والمراد من قوله تَرْجُونَ أي تعتقدون لأن الراجي للشيء معتقد له(30/123)
واعلم أنه لما أمر في هذه الآية بتعظيم الله استدل على التوحيد بوجوه من الدلائل
الأول قوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً وفيه وجهان الأول قال الليث الطورة التارة يعني حالاً بعد حال كما ذكرنا أنه كان نطفة ثم علقة إلى آخر التارات الثاني قال ابن الأنباري الطور الحال والمعنى خلقكم أصنافاً مختلفين لا يشبه بعضكم بعضاً ولما ذكر هذا الدليل من الأنفس على التوحيد أتبعه بذكر دليل التوحيد من الآفاق على العادة المعهودة في كل القرآن
الدليل الثاني على التوحيد قوله تعالى
أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً
واعلم أنه تعالى تارة يبدأ بدلائل الأنفس وبعدها بدلائل الآفاق كما في هذه الآية وذلك لأن نفس الإنسان أقرب الأشياء إليه فلا جرم بدأ بالأقرب وتارة يبدأ بدلائل الآفاق ثم بدلائل الأنفس إما لأن دلائل الآفاق أبهر وأعظم فوقعت البداية بها لهذا السبب أو لأجل أن دلائل الأنفس حاضرة لا حاجة بالعاقل إلى التأمل فيها إنما الذي يحتاج إلى التأمل فيه دلائل الآفاق لأن الشبه فيها أكثر فلا جرم تقع البداية بها وههنا سؤالات
السؤال الأول قوله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً يقتضي كون بعضها منطبقاً على البعض وهذا يقتضي أن لا يكون بينها فرج فالملائكة كيف يسكنون فيها الجواب الملائكة أرواح فلعل المراد من كونها طباقاً كونها متوازية لا أنها متماسة
السؤال الثاني كيف قال وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً والقمر ليس فيها بأسرها بل في السماء الدنيا والجواب هذا كما يقال السلطان في العراق ليس المراد أن ذاته حاصلة في جميع أحياز العراق بل إن ذاته في حيز من جملة أحياز العراق فكذا ههنا
السؤال الثالث السراج ضوءه عرضي وضوء القمر عرضي متبدل فتشبيه القمر بالسراج أولى من تشبيه الشمس به الجواب الليل عبارة عن ظل الأرض والشمس لما كانت سبباً لزوال ظل الأرض كانت شبيهة بالسراج وأيضاً فالسراج له ضوء والضوء أقوى من النور فجعل الأضعف للقمر والأقوى للشمس ومنه قوله تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ( يونس 5 )
الدليل الثالث على التوحيد قوله تعالى
وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً
واعلم أنه تعالى رجع ههنا إلى دلائل الأنفس وهو كالتفسير لقوله خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ( نوح 14 ) فإنه بين أنه تعالى(30/124)
خلقهم من الأرض ثم يردهم إليها ثم يخرجهم منها مرة أخرى أما قوله أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية وجهان أحدهما معنى قوله أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ أي أنبت أباكم من الأرض كما قال إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) والثاني أنه تعالى أنبت الكل من الأرض لأنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات المتولد من الأرض
المسألة الثانية كان ينبغي أن يقال أنبتكم إنباتاً إلا أنه لم يقل ذلك بل قال أنبتكم نباتاً والتقدير أنبتكم فنبتم نباتاً وفيه دقيقة لطيفة وهي أنه لو قال أنبتكم إنباتاً كان المعنى أنبتكم إنباتاً عجيباً غريباً ولما قال أنبتكم نباتاً كان المعنى أنبتكم فنبتم نباتاً عجيباً وهذا الثاني أولى لأن الإنبات صفة لله تعالى وصفة الله غير محسوسة لنا فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا بواسطة إخبار الله تعالى وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى فلا يمكن إثباته بالسمع أما لما قال أَنبَتَكُمْ نَبَاتاً على معنى أنبتكم فنبتم نباتاً عجيباً كاملاً كان ذلك وصفاً للنبات بكونه عجيباً كاملاً وكون النبات كذلك أمر مشاهد محسوس فيمكن الاستدلال به على كمال قدرة الله تعالى فكان هذا موافقاً لهذا المقام فظهر أن العدول من تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف أما قوله ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا فهو إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن من أنه تعالى لما كان قادراً على الابتداء كان قادراً على الإعادة وقوله وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً أكده بالمصدر كأنه قال يخرجكم حقاً لا محالة
الدليل الرابع قوله تعالى
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً
أي طرقاً واسعة واحدها فج وهو مفسر فيما تقدم
واعلم أن نوحاً عليه السلام لما دعاهم إلى الله ونبههم على هذه الدلائل الظاهرة حكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم
قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً
فالأول قوله قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وذلك لأنه قال في أول السورة أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ( نوح 3 ) فكأنه قال قلت لهم أطيعون فهم عصوني
الثاني قوله وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكر في الآية الأولى أنهم عصوه وفي هذه الآية أنهم ضموا إلى عصيانه معصية أخرى وهي طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر وقوله مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً يعني هذان وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما لما صارا سبباً للخسارة في الآخرة فكأنهما صارا محض الخسار(30/125)
والأمر كذلك في الحقيقة لأن الدنيا في جنب الآخرة كالعدم فإذا صارت المنافع الدنيوية أسباباً للخسار في الآخرة صار ذلك جارياً مجرى اللقمة الواحدة من الحلو إذا كانت مسمومة سم الوقت واستدل بهذه الآية من قال إنه ليس لله على الكافر نعمة لأن هذه النعم استدراجات ووسائل إلى العذاب الأبدي فكانت كالعدم ولهذا المعنى قال نوح عليه السلام في هذه الآية لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً
المسألة الثانية قرىء وَوَلَدُهُ بضم الواو واعلم أن الولد بالضم لغة في الولد ويجوز أن يكون جمعاً إما جمع ولد كالفلك وههنا يجوز أن يكون واحداً وجمعاً
النوع الثالث من قبائح أفعالهم قوله تعالى
وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً
فيه مسائل
المسألة الأولى وَمَكَرُواْ معطوف على مَن لَّمْ يَزِدْهُ ( نوح 21 ) لأن المتبوعين هم الذين مكروا وقالوا للأتباع لاَ تَذَرُنَّ وجمع الضمير وهو راجع إلى مِنْ لأنه في معنى الجمع
المسألة الثانية قرىء كُبَّاراً و كُبَّاراً بالتخفيف والتثقيل وهو مبالغة في الكبير فأول المراتب الكبير والأوسط الكبار بالتخفيف والنهاية الكبار بالتثقيل ونظيره جميل وجمال وجمال وعظيم وعظام وعظام وطويل وطوال وطوال
المسألة الثالثة المكر الكبار هو أنهم قالوا لأتباعهم لاَ تَذَرُنَّ وُدّاً فهم منعوا القوم عن التوحيد وأمروهم بالشرك ولما كان التوحيد أعظم المراتب لا جرم كان المنع منه أعظم الكبائر فلهذا وصفه الله تعالى بأنه كبار واستدل بهذا من فضل علم الكلام على سائر العلوم فقال الأمر بالشرك كبار في القبح والخزي فالأمر بالتوحيد والإرشاد وجب أن يكون كباراً في الخير والدين
المسألة الرابعة أنه تعالى إنما سماه مَكْرًا لوجهين الأول لما في إضافة الإلهية إليهم من الحيلة الموجبة لاستمرارهم على عبادتها كأنهم قالوا هذه الأصنام آلهة لكم وكانت آلهة لآبائكم فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين كافرين وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك ولما كان اعتراف الإنسان على نفسه وعلى جميع أسلافه بالقصور والنقص والجهل شاقاً شديداً صارت الإشارة إلى هذه المعاني بلفظ ءالِهَتَكُمْ صارفاً لهم عن الدين فلأجل اشتمال هذا الكلام على هذه الحيلة الخفية سمى الله كلامهم مَكْرًا الثاني أنه تعالى حكى عن أولئك المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد فلعلهم قالوا لأتباعهم إن آلهتكم خير من إله نوح لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد وإله نوح لا يعطيه شيئاً لأنه فقير فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح وهذا مثل مكر فرعون إذ قال أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ ( الزخرف 51 ) وقال أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِى َ عَلَيْهِ أَسْوِرَة ٌ مّن ذَهَبٍ ( الزخرف 52 53 )
المسألة الخامسة ذكر أبو زيد البلخي في كتابه في الرد على عبدة الأصنام أن العلم بأن هذه الخشبة(30/126)
المنحوتة في هذه الساعة ليست خالقة للسموات والأرض والنبات والحيوان علم ضروري والعلوم الضرورية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها بين العقلاء وعبادة الأوثان دين كان موجوداً قبل مجيء نوح عليه السلام بدلالة هذه الآية وقد استمر ذلك الدين إلى هذا الزمان وأكثر سكان أطراف المعمورة على هذا الدين فوجب حمل هذا الدين على وجه لا يعرف فساده بضرورة العقل وإلا لما بقي هذه المدة المتطاولة في أكثر أطراف العالم فإذاً لا بد وأن يكون للذاهبين إلى ذلك المذهب تأويلات أحدها قال أبو معشر جعفر بن محمد المنجم هذه المقالة إنما تولدت من مذهب القائلين بأن الله جسم وفي مكان وذلك لأنهم قالوا إن الله نور هو أعظم الأنوار والملائكة الذين هم حافون حول العرش الذي هو مكانه هم أنوار صغيرة بالنسبة إلى ذلك النور الأعظم فالذين اعتقدوا هذا المذهب اتخذوا صنماً هو أعظم الأصنام على صورة إلههم الذي اعتقدوه واتخذوا أصناماً متفاوتة بالكبر والصغر والشرف والخسة على صورة الملائكة المقربين واشتغلوا بعبادة تلك الأصنام على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فدين عبادة الأوثان إنما ظهر من اعتقاد التجسيم الوجه الثاني وهو أن جماعة الصابئة كانوا يعتقدون أن الإله الأعظم خلق هذه الكواكب الثابتة والسيارة وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها فالبشر عبيد هذه الكواكب والكواكب عبيد الإله الأعظم فالبشر يجب عليهم عبادة الكواكب ثم إن هذه الكواكب كانت تطلع مرة وتغيب أخرى فاتخذوا أصناماً على صورها واشتغلوا بعبادتها وغرضهم عبادة الكواكب الوجه الثالث أن القوم الذين كانوا في قديم الدهر كانوا منجمين على مذهب أصحاب الأحكام في إضافات سعادات هذا العالم ونحوساتها إلى الكواكب فإذا اتفق في الفلك شكل عجيب صالح لطلسم عجيب فكانوا يتخذون ذلك الطلسم وكان يظهر منه أحوال عجيبة وآثار عظيمة وكانوا يعظمون ذلك الطلسم ويكرمونه ويشتغلون بعبادته وكانوا يتخذون كل طلسم على شكل موافق لكوكب خاص ولبرج خاص فقيل كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر الوجه الرابع أنه كان يموت أقوام صالحون فكانوا يتخذون تماثيل على صورهم ويشتغلون بتعظيمها وغرضهم تعظيم أولئك الأقوام الذين ماتوا حتى يكونوا شافعين لهم عند الله وهو المراد من قولهم مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) الوجه الخامس أنه ربما مات ملك عظيم أو شخص عظيم فكانوا يتخذون تمثالاً على صورته وينظرون إليه فالذين جاؤا بعد ذلك ظنوا أن آباءهم كانوا يعبدونها فاشتغلوا بعبادتها لتقليد الآباء أو لعل هذه الأسماء الخمسة وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أسماء خمسة من أولاد آدم فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ففعلوا فلما مات أولئك قال لمن بعدهم إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم ولهذا السبب نهى الرسول عليه السلام عن زيارة القبور أولاً ثم أذن فيها على ما يروى أنه عليه السلام قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة السادس الذين يقولون إنه تعالى جسم وإنه يجوز عليه الانتقال والحلول لا يستبعدون أن يحل تعالى في شخص إنسان أو في شخص صنم فإذا أحسوا من ذلك الصنم المتخذ على وجه الطلسم حالة عجيبة خطر ببالهم أن الإله حصل في ذلك الصنم ولذلك فإن جمعاً من قدماء الروافض لما رأوا أن علياً عليه السلام قلع باب خيبر وكان ذلك على خلاف المعتاد قالوا إن الإله حل في بدنه وإنه هو الإله الوجه السابع لعلهم اتخذوا تلك الأصنام كالمحراب ومقصودهم بالعبادة هو الله فهذا(30/127)
جملة ما في هذا الباب وبعضها باطلة بدليل العقل فإنه لما ثبت أنه تعالى ليس بجسم بطل اتخاذ الصنم على صورة الإله وبطل القول أيضاً بالحلول والنزول ولما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات بطل القول بالوسايط والطلسمات ولما جاء الشرع بالمنع من اتخاذ الصنم بطل القول باتخاذها محاريب وشفعاء
المسألة السادسة هذه الأصنام الخمسة كانت أكبر أصنامهم ثم إنها انتقلت عن قوم نوح إلى العرب فكان ود لكلب وسواع لهمدان ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير ولذلك سمت العرب بعبد ود وعبد يغوث هكذا قيل في الكتب وفيه إشكال لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان فكيف بقيت تلك الأصنام وكيف انتقلت إلى العرب ولا يمكن أن يقال إن نوحاً عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها فكيف يمكن أن يقال إنه وضعها في السفينة سعياً منه في حفظها
المسألة السابعة قرىء لاَ تَذَرُنَّ وُدّاً بفتح الواو وبضم الواو قال الليث ود بفتح الواو صنم كان لقوم نوح ود بالضم صنم لقريش وبه سمي عمرو بن عبد ود وأقول على قول الليث وجب أن لا يجوز ههنا قراءة ود بالضم لأن هذه الآيات في قصة نوح لا في أحوال قريش وقرأ الأعمش وَلاَ بالصرف وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف إما التعريف ووزن الفعل وإما التعريف والعجمة فلعله صرفهما لأجل أنه وجد أخواتهما منصرفة ودا وسواعا ونسرا
واعلم أن نوحاً لما حكى عنهم أنهم قالوا لأتباعهم كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ قال وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً فيه وجهان الأول أولئك الرؤساء قد أضلوا كثيراً قبل هؤلاء الموصين ( بأن يتمسكوا ) بعبادة الأصنام وليس هذا أول مرة اشتغلوا بالإضلال الثاني يجوز أن يكون الضمير عائداً إلى الأصنام كقوله إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) وأجرى الأصنام على هذا القول مجرى الآدميين كقوله أَلَهُمْ أَرْجُلٌ وأما قوله تعالى وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً ففيه سؤالان
الأول كيف موقع قوله وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ الجواب كأن نوحاً عليه السلام لما أطنب في تعديد أفعالهم المنكرة وأقوالهم القبيحة امتلأ قلبه غيظاً وغضباً عليهم فختم كلامه بأن دعا عليهم
السؤال الثاني إنما بعث ليصرفهم عن الضلال فكيف يليق به أن يدعو الله في أن يزيد في ضلالهم الجواب من وجهين الأول لعله ليس المراد الضلال في أمر الدين بل الضلال في أمر دنياهم وفي ترويج مكرهم وحيلهم الثاني الضلال العذاب لقوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ( القمر 47 )
مِّمَّا خَطِي ئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً
ثم إنه تعالى لما حكى كلام نوح عليه السلام قال بعده مّمَّا خَطَايَاهُمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً وفيه مسائل
المسألة الأولى ( ما ) صلة كقوله فَبِمَا نَقْضِهِم ( النساء 155 ) فَبِمَا رَحْمَة ٍ ( النساء 159 ) والمعنى من خطاياهم أي من أجلها وبسببها وقرأ ابن مسعود مِنْ فأخر كلمة ما وعلى هذه القراءة لا تكون ما صلة زائدة لأن ما مع ما بعده في تقرير المصدر(30/128)
واعلم أن تقديم قوله مّمَّا خَطَايَاهُمْ لبيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان ( فإدخالهم النار ) إلا من أجل خطيآتهم فمن قال من المنجمين إن ذلك إنما كان بسبب أنه انقضى في ذلك الوقت نصف الدور الأعظم وما يجري مجرى هذه الكلمات كان مكذباً لصريح هذه الآية فيجب تكفيره
المسألة الثانية قرىء خَطِيئَاتِهِمْ بالهمزة وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها و خَطَايَاهُمْ و خَطِيئَاتِهِمْ بالتوحيد على إرادة الجنس ويجوز أن يراد به الكفر واعلم أن الخطايا والخطيئآت كلاهما جمع خطيئة إلا أن الأول جمع تكسير والثاني جمع سلامة وقد تقدم الكلام فيها في ( البقرة 58 ) عند قوله نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وفي ( الأعراف 161 ) عند قوله خَطِيئَاتِكُمْ
المسألة الثالثة تمسك أصحابنا في إثبات عذاب القبر بقوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً وذلك من وجهين الأول أن الفاء في قوله فَأُدْخِلُواْ نَاراً تدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق فلا يمكن حملها على عذاب الآخرة وإلا بطلت دلالة هذه الفاء الثاني أنه قال فَادْخُلُواْ على سبيل الإخبار عن الماضي وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك قال مقاتل والكلبي معناه أنهم سيدخلون في الآخرة ناراً ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصحة كونه وصدق الوعد به كقوله وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ ( الأعراف 50 ) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 44 ) واعلم أن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل فإن قيل إنما تركنا هذا الظاهر لدليل وهو أن من مات في الماء فإنا نشاهده هناك فكيف يمكن أن يقال إنهم في تلك الساعة أدخلوا ناراً والجواب هذا الإشكال إنما جاء لاعتقاد أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل وهذا خطأ لما بينا أن هذا الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عمره مع أنه كان صغير الجثة في أول عمره ثم إن أجزاءه دائماً في التحلل والذوبان ومعلوم أن الباقي غير المتبدل فهذا الإنسان عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باق من أول عمره إلى الآن فلم لا يجوز أن يقال إنه وإن بقيت هذه الجثة في الماء إلا أن الله تعالى نقل تلك الأجزاء الأصلية الباقية التي كان الإنسان المعين عبارة عنها إلى النار والعذاب
ثم قال تعالى فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة تلك الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام وما قدرت تلك الأصنام على دفع عذاب الله عنهم وهو كقوله أَمْ لَهُمْ الِهَة ٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا واعلم أن هذه الآية حجة على كل من عول على شيء غير الله تعالى
وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً
قال المبرد دَيَّاراً لا تستعمل إلا في النفي العام يقال ما بالدار ديار ولا تستعمل في جانب الإثبات قال أهل العربية هو فيعال من الدور(30/129)
وأصله ديوار فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى قال الفراء والزجاج وقال ابن قتيبة ما بها ديار أي نازل دار ثم قال تعالى
إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً
فإن قيل كيف عرف نوح عليه السلام ذلك قلنا للنص والاستقراء أما النص فقوله تعالى وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ وأما الاستقراء فهو أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فعرف طباعهم وجربهم وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه ويقول احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك وقوله وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً فيه وجهان أحدهما أنهم يكونون في علمك كذلك والثاني أنهم سيصيرون كذلك
رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِى َ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً
واعلم أنه عليه السلام لما دعا على الكفار قال بعده رَبّ اغْفِرْ لِى أي فيما صدر عني من ترك الأفضل ويحتمل أنه حين دعا على الكفار إنما دعا عليهم بسبب تأذيه منهم فكان ذلك الدعاء عليهم كالانتقام فاستغفر عن ذلك لما فيه من طلب حظ النفس
ثم قال وَلِوَالِدَى َّ أبوه لمك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش وكانا مؤمنين وقال عطاء لم يكن بين نوح وآدم عليهما السلام من آبائه كافر وكان بينه وبين آدم عشرة آباء وقرأ الحسن بن علي ( ولولدي ) يريد ساما وحاما
ثم قال تعالى وَلَمْ دَخَلَ بَيْتِى َ مُؤْمِناً قيل مسجدي وقيل سفينتي وقيل لمن دخل في ديني فإن قيل فعلى هذا التفسير يصير قوله مُؤْمِناً مكرراً قلنا إن من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مؤمناً بقلبه وقد لا يكون والمعنى ولمن دخل في ديني دخولاً مع تصديق القلب
ثم قال تعالى وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إنما خص نفسه أولاً بالدعاء ثم المتصلين به لأنهم أولى وأحق بدعائه ثم عم المؤمنين والمؤمنات
ثم ختم الكلام مرة أخرى بالدعاء على الكافرين فقال وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً أي هلاكاً ودماراً وكل شيء أهلك فقد تبر ومنه قوله إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وقوله وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم بالكلية فإن قيل ما جرم الصبيان حين أغرقوا والجواب من وجوه الأول أن الله تعالى أيبس أصلاب آبائهم وأعقم أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة أو ( تسعين ) فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا ويدل عليه قوله اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إلى قوله وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ( نوح 10 12 ) وهذا يدل بحسب المفهوم على أنهم إذا لم يستغفروا فإنه تعالى لا يمددهم بالبنين الثاني قال الحسن علم الله براءة الصبيان فأهلكهم بغير عذاب الثالث غرقوا معهم لا على وجه العقاب بل كما يموتون بالغرق والحرق وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين(30/130)
سورة الجن
وهي عشرون وثمان آيات مكية
قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَأامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً
قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف الناس قديماً وحديثاً في ثبوت الجن ونفيه فالنقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكاره وذلك لأن أبا علي بن سينا قال في رسالته في حدود الأشياء الجن حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة ثم قال وهذا شرح للاسم فقوله وهذا شرح للاسم يدل على أن هذا الحد شرح للمراد من هذا اللفظ وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج وأما جمهور أرباب الملل والمصدقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجن واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات ويسمونها بالأرواح السفلية وزعموا أن الأرواح السفلية أسرع إجابة إلا أنها أضعف وأما الأرواح الفلكية فهي أبطأ إجابة إلا أنها أقوى واختلف المثبتون على قولين فمنهم من زعم أنها ليست أجساماً ولا حالة في الأجسام بل هي جواهر قائمة بأنفسها قالوا ولا يلزم من هذا أن يقال إنها تكون مساوية لذات الله لأن كونها ليست أجساماً ولا جسمانية سلوب والمشاركة في السلوب لا تقتضي المساواة في الماهية قالوا ثم إن هذه الذوات بعد اشتراكها في هذا السلب أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل فبعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها كريمة محبة للخيرات وبعضها دنيئة خسيسة محبة للشرور والآفات ولا يعرف عدد أنواعهم وأصنافهم إلا الله قالوا وكونها موجودات مجردة لا يمنع من كونها عالمة بالخبريات قادرة على الأفعال فهذه الأرواح يمكنها أن تسمع وتبصر وتعلم الأحوال الخبرية وتفعل الأفعال المخصوصة ولما ذكرنا أن ماهياتها مختلفة لا جرم لم يبعد أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة تعجز عنها قدر البشر ولا يبعد أيضاً أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم وكما أنه دلت الدلائل الطبية على أن المتعلق الأول للنفس الناطقة التي ليس الإنسان إلا هي هي الأرواح وهي أجسام(30/131)
بخارية لطيفة تتولد من ألطف أجزاء الدم وتتكون في الجانب الأيسر من القلب ثم بواسطة تعلق النفس بهذه الأرواح تصير متعلقة بالأعضاء التي تسري فيها هذه الأرواح لم يبعد أيضاً أن يكون لكل واحد من هؤلاء الجن تعلق بجزء من أجزاء الهواء فيكون ذلك الجزء من الهواء هو المتعلق الأول لذلك الروح ثم بواسطة سيران ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحصل لتلك الأرواح تعلق وتصرف في تلك الأجسام الكثيفة ومن الناس من ذكر في الجن طريقة أخرى فقال هذه الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها وازدادت قوة وكمالاً بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق أن حدث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن فسبب تلك المشاكلة يحصل لتلك النفس المفارقة تعلق ما لهذا البدن وتصير تلك النفس المفارقة كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن الجنسية علة الضم فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكاً وتلك الإعانة إلهاماً وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطاناً وتلك الإعانة وسوسة
والقول الثاني في الجن أنهم أجسام ثم القائلون بهذا المذهب اختلفوا على قولين منهم من زعم أن الأجسام مختلفة في ماهياتها إنما المشترك بينها صفة واحدة وهي كونها بأسرها حاصلة في الحيز والمكان والجهة وكونها موصوفة بالطول والعرض والعمق وهذه كلها إشارة إلى الصفات والاشتراك في الصفات لا يقتضي الإشتراك في تمام الماهية لما ثبت أن الأشياء المختلفة في تمام الماهية لا يمتنع اشتراكها في لازم واحد قالوا وليس لأحد أن يحتج على تماثل الأجسام بأن يقال الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد وحقيقة واحدة فيلزم أن لا يحصل التفاوت في ماهية الجسم من حيث هو جسم بل إن حصل التفاوت حصل في مفهوم زائد على ذلك وأيضاً فلأنه يمكننا تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف والعلوي والسفلي ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فالأقسام كلها مشتركة في الجسمية والتفاوت إنما يحصل بهذه الصفات وهي اللطافة والكثافة وكونها علوية وسفلية قالوا وهاتان الحجتان ضعيفتان
أما الحجة الأولى فلأنا نقول كما أن الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد وحقيقة واحدة فكذا العرض من حيث إنه عرض له حد واحد وحقيقة واحدة فيلزم منه أن تكون الأعراض كلها متساوية في تمام الماهية وهذا مما لا يقوله عاقل بل الحق عند الفلاسفة أنه ليس للأعراض ألبتة قدر مشترك بينها من الذاتيات إذا لو حصل بينها قدر مشترك لكان ذلك المشترك جنساً لها ولو كان كذلك لما كانت التسعة أجناساً عالية بل كانت أنواع جنس واحد إذا ثبت هذا فنقول الأعراض من حيث إنها أعراض لها حقيقة واحدة ولم يلزم من ذلك أن يكون بينها ذاتي مشترك أصلاً فضلاً عن أن تكون متساوية في تمام الماهية فلم لا يجوز أن يكون الحال في الجسم كذلك فإنه كما أن الأعراض مختلفة في تمام الماهية ثم إن تلك المختلفات متساوية في وصف عارض وهو كونها عارضة لموضوعاتها فكذا من الجائز أن تكون ماهيات الأجسام مختلفة في تمام ماهياتها ثم إنها تكون متساوية في وصف عارض وهو كونها مشاراً إليها بالحس وحاصلة في الحيز والمكان وموصوفة بالأبعاد الثلاثة فهذا الاحتمال لا دافع له أصلاً
وأما الحجة الثانية وهي قولهم إنه يمكن تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف فهي أيضاً منقوضة بالعرض فإنه يمكن تقسيم العرض إلى الكيف والكم ولم يلزم أن يكون هناك قدر مشترك من الذاتي فضلاً(30/132)
عن التساوي في كل الذاتيات فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا أيضاً كذلك إذا ثبت أنه لا امتناع في كون الأجسام مختلفة ولم يدل دليل على بطلان هذا الاحتمال فحينئذ قالوا لا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الهواء في الماهية ثم تكون تلك الماهية تقتضي لذاتها علماً مخصوصاً وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة وعلى هذا التقدير يكون القول بالجن ظاهر الاحتمال وتكون قدرتها على التشكل بالأشكال المختلفة ظاهرة الاحتمال
القول الثاني قول من قال الأجسام متساوية في تمام الماهية والقائلون بهذا المذهب أيضاً فرقتان
الفرقة الأولى زعموا أن البنية ليست شرطاً للحياة وهذا قول الأشعري وجمهور أتباعه وأدلتهم في هذا الباب ظاهرة قوية قالوا ولو كانت البنية شرطاً للحياة لكان إما أن يقال إن الحياة الواحدة قامت بمجموع الأجزاء أو يقال قام بكل واحد من الأجزاء حياة على حدة والأول محال لأن حلول العرض الواحد في المحال الكثيرة دفعة واحدة غير معقول والثاني أيضاً باطل لأن الأجزاء التي منها تألف الجسم متساوية والحياة القائمة بكل واحد منها مساوية للحياة القائمة بالجزء الآخر وحكم الشيء حكم مثله فلو افتقر قيام الحياة بهذا الجزء إلى قيام تلك الحياة بذلك الجزء لحصل هذا الافتقار من الجانب الآخر فيلزم وقوع الدور وهو محال وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ ثبت أن قيام الحياة بهذا الجزء لا يتوقف على قيام الحياة الثانية بذلك الجزء الثاني وإذا بطل هذا التوقف ثبت أنه يصح كون الجزء الواحد موصوفاً بالحياة والعلم والقدرة والإرادة وبطل القول بأن البنية شرط قالوا وأما دليل المعتزلة وهو أنه لا بد من البنية فليس إلا الاستقراء وهو أنا رأينا أنه متى فسدت البنية بطلت الحياة ومتى لم تفسد بقيت الحياة فوجب توقف الحياة على حصول البنية إلا أن هذا ركيك فإن الاستقراء لا يفيد القطع بالوجوب فما الدليل على أن حال من لم يشاهد كحال ما شوهد وأيضاً فلأن هذا الكلام إنما يستقيم على قول من ينكر خرق العادات أما من يجوزها فهذا لا يتمشى على مذهبه والفرق بينهما في جعل بعضها على سبيل العادة وجعل بعضها على سبيل الوجوب تحكم محض لا سبيل إليه فثبت أن البنية ليست شرطاً في الحياة وإذا ثبت هذا لم يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علماً بأمور كثيرة وقدرة على أشياء شاقة شديدة وعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن سواء كانت أجسامهم لطيفة أو كثيفة وسواء كانت أجزاؤهم كبيرة أو صغيرة
القول الثاني أن البنية شرط الحياة وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادراً على الأفعال الشاقة فههنا مسألة أخرى وهي أنه هل يمكن أن يكون المرئي حاضراً والموانع مرتفعة والشرائط من القرب والبعد حاصلة وتكون الحاسة سليمة ثم مع هذا لا يحصل الإدراك أو يكون هذا ممتنعاً عقلاً أما الأشعري وأتباعه فقد جوزوه وأما المعتزلة فقد حكموا بامتناعه عقلاً والأشعري احتج على قوله بوجوه عقلية ونقلية أما العقلية فأمران الأول أنا نرى الكبير من البعد صغيراً وما ذاك إلا أنا نرى بعض أجزاء ذلك البعيد دون البعض مع أن نسبة الحاسة وجميع الشرائط إلى تلك الأجزاء المرئية كهي بالنسبة إلى الأجزاء التي هي غير مرئية فعلمنا أن مع حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول الشرائط وانتفاء الموانع لا يكون الإدراك واجباً الثاني أن الجسم الكبير لا معنى له إلا مجموع تلك الأجزاء المتألفة فإذا رأينا ذلك الجسم الكبير على مقدار من البعد فقد رأينا تلك الأجزاء فإما أن تكون رؤية هذا الجزء مشروطة برؤية ذلك الجزء الآخر(30/133)
أو لا تكون فإن كان الأول يلزم الدور لأن الأجزاء متساوية فلو افتقرت رؤية هذا الجزء إلى رؤية ذلك الجزء لافتقرت أيضاً رؤية ذلك الجزء إلى رؤية هذا الجزء فيقع الدور وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ رؤية الجوهر الفرد على ذلك القدر من المسافة تكون ممكنة ثم من المعلوم أن ذلك الجوهر الفرد لو حصل وحده من غير أن ينضم إليه سائر الجواهر فإنه لا يرى فعلمنا أن حصول الرؤية عند اجتماع الشرائط لا يكون واجباً بل جائزاً وأما المعتزلة فقد عولوا على أنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بحضرتنا طبلات وبوقات ولا نراها ولا نسمعها فإذا عارضناهم بسائر الأمور العادية وقلنا لهم فجوزوا أن يقال انقلبت مياه البحار ذهب وفضة والجبال ياقوتاً وزبرجداً أو حصلت في السماء حال ما غمضت العين ألف شمس وقمر ثم كما فتحت العين أعدمها الله عجزوا عن الفرق والسبب في هذا التشوش أن هؤلاء المعتزلة نظروا إلى هذه الأمور المطردة في مناهج العادات فوهموا أن بعضها واجبة وبعضها غير واجبة ولم يجدوا قانوناً مستقيماً ومأخذاً سليماً في الفرق بين البابين فتشوش الأمر عليهم بل الواجب أن يسوى بين الكل فيحكم على الكل بالوجوب كما هو قول الفلاسفة أو على الكل بعدم الوجوب كما هو قول الأشعري فأما التحكم في الفرق فهو بعيد إذا ثبت هذا ظهر جواز القول بالجن فإن أجسامهم وإن كانت كثيفة قوية إلا أنه يمتنع أن لا تراها وإن كانوا حاضرين هذا على قول الأشعري فهذا هو تفصيل هذه الوجوه وأنا متعجب من هؤلاء المعتزلة أنهم كيف يصدقون ما جاء في القرآن من إثبات الملك والجن مع استمرارهم على مذاهبهم وذلك لأن القرآن دل على أن للملائكة قوة عظيمة على الأفعال الشاقة والجن أيضاً كذلك وهذه القدرة لا تثبت إلا في الأعضاء الكثيفة الصلبة فإذاً يجب في الملك والجن أن يكون كذلك ثم إن هؤلاء الملائكة حاضرون عندنا أبداً وهم الكرام الكاتبون والحفظة ويحضرون أيضاً عند قبض الأرواح وقد كانوا يحضرون عند الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأن أحداً من القوم ما كان يراهم وكذلك الناس الجالسون عند من يكون في النزع لا يرون أحداً فإن وجبت رؤية الكثيف عند الحضور فلم لا نراها وإن لم تجب الرؤية فقد بطل مذهبهم وإن كانوا موصفون بالقوة والشدة مع عدم الكثافة والصلابة فقد بطل قولهم إن البنية شرط الحياة وإن قالوا إنها أجسام لطيفة وحية ولكنها للطافتها لا تقدر على الأعمال الشاقة فهذا إنكار لصريح القرآن وبالجملة فحالهم في الإقرار بالملك والجن مع هذه المذاهب عجيب وليتهم ذكروا على صحة مذاهبهم شبهة مخيلة فضلاً عن حجة مبينة فهذا هو التنبيه على ما في هذا الباب من الدقائق والمشكلات وبالله التوفيق
المسألة الثانية اختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام هل رأى الجن أم لا
فالقول الأول وهو مذهب ابن عباس أنه عليه السلام ما رآهم قال إن الجن كانوا يقصدون السماء في الفترة بين عيسى ومحمد فيستمعون أخبار السماء ويلقونها إلى الكهنة فلما بعث الله محمداً عليه السلام حرست السماء وحيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت الشهب عليهم فرجعوا إلى إبليس وأخبروه بالقصة فقال لا بد لهذا من سبب فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها واطلبوا السبب فوصل جمع من أولئك الطالبين إلى تهامة فرأوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا والله هو الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك رجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ(30/134)
فأخبر الله تعالى محمداً عليه السلام عن ذلك الغيب وقال قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ كذا وكذا قال وفي هذا دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن إذ لو رآهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي فإن ما عرف وجوده بالمشاهدة لا يسند إثباته إلى الوحي فإن قيل الذين رموا بالشهب هم الشياطين والذين سمعوا القرآن هم الجن فكيف وجه الجمع قلنا فيه وجهان الأول أن الجن كانوا مع الشياطين فلما رمي الشياطين أخذ الجن الذين كانوا معهم في تجسس الخبر الثاني أن الذين رموا بالشهب كانوا من الجن إلا أنه قيل لهم شياطين كما قيل شياطين الجن والإنس فإن الشيطان كل متمرد بعيد عن طاعة الله واختلفوا في أن أولئك الجن الذين سمعوا القرآن من هم فروى عاصم عن ذر قال قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسمعوا قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم انصرفوا فذلك قوله وَإِذَا صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ ( الأحقاف 29 ) وقيل كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم
القول الثاني وهو مذهب ابن مسعود أنه أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام قال ابن مسعود قال عليه الصلاة والسلام ( أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي فسكتوا ثم قال الثانية فسكتوا ثم قال الثالثة فقال عبدالله قلت أنا أذهب معك يا رسول الله قال فانطلق حتى إذا جاء الحجون عند شعب ابن أبي دب خط علي خطاً فقال لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه فغاب عن بصري فقمت فأومأ إلي بيده أن أجلس ثم تلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ولصقوا بالأرض حتى صرت أسمع صوتهم ولا أراهم وفي رواية أخرى فقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما أنت قال أنا نبي الله قالوا فمن يشهد لك على ذلك قال هذه الشجرة تعالي يا شجرة فجاءت تجر عروقها لها قعاقع حتى انصبت بين يديه فقال على ماذا تشهدين لي قالت أشهد أنك رسول الله قال اذهبي فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت قال ابن مسعود فلما عاد إلي قال أردت أن تأتيني قلت نعم يا رسول الله قال ما كان ذلك لك هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحد بعظم ولا بعر
واعلم أنه لا سبيل إلى تكذيب الروايات وطريق التوفيق بين مذهب ابن عباس ومذهب ابن مسعود من وجوه أحدها لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولاً فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود وثانيها أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة إلا أنه عليه السلام أمر بالذهاب إليهم وقراءة القرآن عليهم إلا أنه عليه السلام ما عرف أنهم ماذا قالوا وأي شيء فعلوا فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وقالوا كذا وثالثها أن الواقعة كانت مرة واحدة وهو عليه السلام رآهم وسمع كلامهم وهم آمنوا به ثم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لقومهم على سبيل الحكاية قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ وكان كذا وكذا فأوحى الله إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما قالوه لأقوامهم وإذا كانت هذه الوجوه محتملة فلا سبيل إلى التكذيب(30/135)
المسألة الثالثة اعلم أن قوله تعالى قُلْ أمر منه تعالى لرسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى الله في واقعة الجن وفيه فوائد إحداها أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس فقد بعث إلى الجن وثانيها أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول وثالثها أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس ورابعها أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا وخامسها أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس
المسألة الرابعة الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء كالإلهام وإنزال الملك ويكون ذلك في سرعة من قولهم الوحي الوحي والقراءة المشهورة أَوْحَى بالألف وفي رواية يونس وهرون عن أبي عمرو وَحْى ٌ بضم الواو بغير ألف وهما لغتان يقال وحي إليه وأوحى إليه وقرىء أحي بالهمز من غير واو وأصله وحي فقلبت الواو همزة كما يقال أعد وأزن نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ ( المرسلات 11 ) وقوله تعالى أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فيه مسائل
المسألة الأولى أجمعوا على أن قوله أَنَّهُ اسْتَمَعَ بالفتح وذلك لأنه نائب فاعل أُوحِى َ فهو كقوله وَأُوحِى َ إِلَى هَاذَا الْقُرْءانُ ( الأنعام 19 ) وأجمعوا على كسر إنا في قوله إِنَّا سَمِعْنَا لأنه مبتدأ محكي بعد القول ثم ههنا قراءتان إحداهما أن نحمل البواقي على الموضعين اللذين بينا أنهم أجمعوا عليهما فما كان من الوحي فتح وما كان من قول الجن كسر وكلها من قول الجن إلا الآخرين وهما قوله وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ( الجن 18 ) وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ ( الجن 19 ) وثانيهما فتح الكل والتقدير فآمنا به وآمنا بأنه تعالى جد ربنا وبأنه كان يقول سفيهنا وكذا البواقي فإن قيل ههنا إشكال من وجهين أحدهما أنه يقبح إضافة الإيمان إلى بعض هذه السورة فإنه يقبح أن يقال وآمنا بأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً والثاني وهو أنه لا يعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض لا يقال آمنا به وزيد بل يقال آمنا به وبزيد والجواب عن الإشكالين أنا إذا حملنا قوله آمنا على معنى صدقنا وشهدنا زال الإشكالان
المسألة الثانية نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة روي أن ذلك النفر كانوا يهوداً وذكر الحسن أن فيهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين ثم اعلم أن الجن حكوا أشياء
النوع الأول مما حكوه قوله تعالى فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله فَلَمَّا قُضِى َ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ( الأحقاف 29 ) قُلْ أُوحِى َ أي خارجاً عن حد أشكاله ونظائره و ( عجباً ) مصدر يوضع موضع العجيب ولا شك أنه أبلغ من العجيب يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ أي إلى الصواب وقيل إلى التوحيد يَهْدِى إِلَى أي بالقرآن ويمكن أن يكون المراد فآمنا بالرشد الذي في القرآن وهو التوحيد وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً أي ولن نعود إلى ما كنا(30/136)
عليه من الإشراك به وهذا يدل على أن أولئك الجن كانوا من المشركين
النوع الثاني مما ذكره الجن أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك نزهوا ربهم عن الصاحبة والولد فقالوا
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَة ً وَلاَ وَلَداً
وفيه مسائل
المسألة الأولى في الجد قولان الأول الجد في اللغة العظمة يقال جد فلان أي عظم ومنه الحديث ( كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد فينا ) أي جد قدره وعظم لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها والولد للتكثر به والاستئناس وهذه من سمات الحدوث وهو سبحانه منزه عن كل نقص
القول الثاني الجد الغنى ومنه الحديث ( لا ينفع ذا الجد منك الجد ) قال أبو عبيدة أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه وكذلك الحديث الآخر ( قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون ) يعني أصحاب الغنى في الدنيا فيكون المعنى وأنه تعالى غنى عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد
وعندي فيه قول ثالث وهو أن جد الإنسان أصله الذي منه وجوده فجعل الجد مجازاً عن الأصل فقوله تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا معناه تعالى أصل ربنا وأصله حقيقته المخصوصة التي لنفس تلك الحقيقة من حيث إنها هي تكون واجبة الوجود فيصير المعنى أن حقيقته المخصوصة متعالية عن جميع جهات التعلق بالغير لأن الواجب لذاته يجب أن يكون واجب الوجود من جميع جهاته وما كان كذلك استحال أن يكون له صاحبة وولد
المسألة الثانية قرىء يَقُولُ رَبَّنَا بالنصب على التمييز و جَدُّ رَبّنَا بالكسر أي صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد وكأن هؤلاء الجن لما سمعوا القرآن تنبهوا لفساد ما عليه كفرة الجن فرجعوا أولاً عن الشرك وثانياً عن دين النصارى
النوع الثالث مما ذكره الجن قوله تعالى
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً
السفه خفة العقل والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولاً هو في نفسه شطط لفرط ما أشط فيه
واعلم أنه لما كان الشطط هو مجاوزة الحد وليس في اللفظ ما يدل على أن المراد مجاوزة الحد في جانب النفي أو في جانب الإثبات فحينئذ ظهر أن كلا الأمرين مذموم فمجاوزة الحد في النفي تفضي إلى التعطيل ومجاوزة الحد في الإثبات تفضي إلى التشبيه وإثبات الشريك والصاحبة والولد وكلا الأمرين شطط ومذموم
النوع الرابع قوله تعالى
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً
وفيه مسألتان
المسألة الأولى معنى الآية أنا إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أنه لا يقال الكذب على الله فلما(30/137)
سمعنا القرآن علمنا أنهم قد يكذبون وهذا منهم إقرار بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد وأنهم إنما تخلصوا عن تلك الظلمات ببركة الاستدلال والاحتجاج
المسألة الثانية قوله كَذِبًا بم نصب فيه وجوه أحدها أنه وصف مصدر محذوف والتقدير أن لن تقول الإنس والجن على الله قولاً كذباً وثانيها أنه نصب نصب المصدر لأن الكذب نوع من القول وثالثها أن من قرأ أَن لَّن تَقُولَ وضع كَذِبًا موضع تقوّلاً ولم يجعله صفة لأن التقوّل لا يكون إلا كذباً
النوع الخامس قوله تعالى
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فيه قولان الأول وهو قول جمهور المفسرين أن الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال أعوذ بسيد هذا الوادي أو بعزيز هذا المكان من شر سفهاء قومه فيبيت في جوار منهم حتى يصبح وقال آخرون كان أهل الجاهلية إذا قحطوا بعثوا رائدهم فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فيناديهم فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي من أن يصيبنا آفة يعنون الجن فإن لم يفزعهم أحد نزلوا وربما تفزعهم الجن فيهربون القول الثاني المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضاً لكن من شر الجن مثل أن يقول الرجل أعوذ برسول الله من شر جن هذا الوادي وأصحاب هذا التأويل إنما ذهبوا إليه لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن وهذا ضعيف فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلاً أما قوله فَزَادوهُمْ رَهَقاً قال المفسرون معناه زادوهم إثماً وجرأة وطغياناً وخطيئة وغياً وشراً كل هذا من ألفاظهم قال الواحدي الرهق غشيان الشيء ومنه قوله تعالى وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ( يونس 26 ) وقوله تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ ( عبس 41 ) ورجل مرهق أي يغشاه السائلون ويقال رهقتنا الشمس إذا قربت والمعنى أن رجال الإنس إنما استعاذوا بالجن خوفاً من أن يغشاهم الجن ثم إنهم زادوا في ذلك الغشيان فإنهم لما تعوذوا بهم ولم يتعوذوا بالله استذلوهم واجترؤا عليهم فزادوهم ظلماً وهذا معنى قول عطاء خبطوهم وخنقوهم وعلى هذا القول زادوا من فعل الجن وفي الآية قول آخر وهو أن زادوا من فعل الإنس وذلك لأن الإنس لما استعاذوا بالجن فالجن يزدادون بسبب ذلك التعوذ طغياناً فيقولون سدنا الجن والإنس والقول الأول هو اللائق بمساق الآية والموافق لنظمها
النوع السادس قوله تعالى
وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً
اعلم أن هذه الآية والتي قبلها يحتمل أن يكونا من كلام الجن ويحتمل أن يكونا من جملة الوحي فإن كانا من كلام الجن وهو الذي قاله بعضهم مع بعض كان التقدير وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن وإن كانا من الوحي كان التقدير وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش وعلى التقديرين فالآية دلت على أن الجن كما أنهم كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني ففيهم من ينكر البعث ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يبعث أحداً للرسالة على ما هو مذهب البراهمة واعلم أن حمله على كلام الجن أولى لأن ما قبله وما بعده كلام الجن فإلقاء كلام أجنبي عن كلام الجن في البين غير لائق(30/138)
النوع السابع قوله تعالى
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً
اللمس المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف يقال لمسه والتمسه ومثله الجس يقال جسوه بأعينهم وتجسسوه والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذلك وصف بشديد ولو ذهب إلى معناه لقيل شداداً
النوع الثامن قوله تعالى
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاٌّ نَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً
أي كنا نستمع فالآن متى حاولنا الاستماع رمينا بالشهب وفي قوله شِهَاباً رَّصَداً وجوه أحدها قال مقاتل يعني رمياً من الشهب ورصداً من الملائكة وعلى هذا يجب أن يكون التقدير شهاباً ورصداً لأن الرصد غير الشهاب وهو جمع راصد وثانيها قال الفراء أي شهاباً قد أرصد له ليرجم به وعلى هذا الرصد نعت للشهاب وهو فعل بمعنى مفعول وثالثها يجوز أن يكون رصداً أي راصداً وذلك لأن الشهاب لما كان معداً له فكأن الشهاب راصد له ومترصد له واعلم أنا قد استقصينا في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 ) فإن قيل هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث ويدل عليه أمور أحدها أن جميع الفلاسفة المتقدمين تكلموا في أسباب انقضاض هذه الشهب وذلك يدل على أنها كانت موجودة قبل المبعث وثانيها قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ذكر في خلق الكواكب فائدتين التزيين ورجم الشياطين وثالثها أن وصف هذا الانقضاض جاء في شعر أهل الجاهلية قال أوس بن حجر فانقض كالدريّ يتبعه
نقع يثور تخاله طنبا
وقال عوف بن الخرع يرد علينا العير من دون إلفه
أو الثور كالدرى يتبعه الدم
وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما ( بينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية فقالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم ) الحديث إلى آخره ذكرناه في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ قالوا فثبت بهذه الوجوه أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث فما معنى تخصيصها بمحمد عيه الصلاة والسلام والجواب مبني على مقامين
المقام الأول أن هذه الشهب ما كانت موجودة قبل المبعث وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وأبي بن كعب روي عن ابن عباس قال كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا(30/139)
الكلمة زادوا فيها تسعاً أما الكلمة فإنها تكون حقة وأما الزيادات فتكون باطلة فلما بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منعوا مقاعدهم ولم تكن النجوم يرى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس ما هذا إلا لأمر حدث في الأرض فبعث جنوده فوجدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قائماً يصلي الحديث إلى آخره وقال أبي بن كعب لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى بعث رسول الله فرمي بها فرأت قريش أمراً ما رأوه قبل ذلك فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون رقابهم يظنون أنه الفناء فبلغ ذلك بعض أكابرهم فقال لم فعلتم ما أرى قالوا رمي بالنجوم فرأيناها تتهافت من السماء فقال اصبروا فإن تكن نجوماً معروفة فهو وقت فناء الناس وإن كانت نجوماً لا تعرف فهو أمر قد حدث فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال في الأمر مهلة وهذا عند ظهور نبي فما مكثوا إلا يسيراً حتى قدم أبو سفيان على أمواله وأخبر أولئك الأقوام بأنه ظهر محمد بن عبدالله ويدعي أنه نبي مرسل وهؤلاء زعموا أن كتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعناً منهم في هذه المعجزة وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم ومنحولة
المقام الثاني وهو الأقرب إلى الصواب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث إلا أنها زيدت بعد المبعث وجعلت أكمل وأقوى وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القرآن لأنه قال فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ ( الجن 8 ) وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة وكذلك قوله نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها فعلى هذا الذي حمل الجن على الضرب في البلاد وطلب السبب إنما هو كثرة الرجم ومنع الاستراق بالكلية
النوع التاسع قوله تعالى
وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً
وفيه قولان أحدهما أنا لا ندري أن المقصود من المنع من الاستراق هو أشر أريد بأهل الأرض أم صلاح وخير والثاني لا ندري أن المقصود من إرسال محمد الذي عنده منع من الاستراق هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك من كذب من الأمم أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا
النوع العاشر قوله تعالى
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً
أي منا الصالحون المتقون أي ومنا قوم دون ذلك فحذف الموصوف كقوله وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) ثم المراد بالذين هم دون الصالحين من فيه قولان الأول أنهم المقتصدون الذين يكونون في الصلاح غير كاملين والثاني أن المراد من لا يكون كاملاً في الصلاح فيدخل فيه المقتصدون والكافرون والقدة من قدد كالقطعة من قطع ووصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق وفي تفسير الآية وجوه أحدها المراد كنا ذوي طرائق قدداً أي ذوي مذاهب مختلفة قال السدي(30/140)
الجن أمثالكم فيهم مرجئة وقدرية وروافض وخوارج وثانيها كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة وثالثها كانت طرائقنا طرائق قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه
النوع الحادي عشر قوله تعالى
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً
الظن بمعنى اليقين و فِى الاْرْضِ و هَرَباً فيه وجهان الأول أنهما حالان أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء والثاني لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمراً ولن نعجزه هرباً إن طلبنا
النوع الثاني عشر قوله تعالى
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءَامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً
لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى أي القرآن قال تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) بِهِ إِنَّهُ أي آمنا بالقرآن فَلاَ يَخَافُ فهو لا يخاف أي فهو غير خائف وعلى هذا يكون الكلام في تقدير جملة من المبتدأ والخبر أدخل الفاء عليها لتصير جزاء للشرط الذي تقدمها ولولا ذاك لقيل لا يخف فإن قيل أي فائدة في رفع الفعل وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال لا يخف قلنا الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك فكأنه قيل فهو لا يخاف فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص لذلك دون غيره لأن قوله فهو لا يخاف معناه أن غيره يكون خائفاً وقرأ الأعمش فَلاَ يُخَفَّفُ وقوله تعالى بَخْساً وَلاَ رَهَقاً البخس النقص والرهق الظلم ثم فيه وجهان الأول لا يخاف جزاء بخس ولا رهق لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا ( رهق ) ظلم أحداً فلا يخاف جزاءهما الثاني لا يخاف أن يبخس بل يقطع بأنه يجزي الجزاء الأوفى ولا يخاف أن ترهقه ذلة من قوله تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ
النوع الثالث عشر قوله تعالى
( 14 )
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَائِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً
القاسط الجائر والمقسط العادل وذكرنا معنى قسط وأقسط في أول سورة النساء فالقاسطون الكافرون الجائرون عن طريق الحق وعن سعيد بن جبير أن الحجاج قال له حين أراد قتله ما تقول في قال قاسط عادل فقال القوم ما أحسن ما قال حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل فقال الحجاج يا جهلة إنه سماني ظالماً مشركاً وتلا لهم قوله وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ وقوله ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( الأنعام 1 ) تَحَرَّوْاْ رَشَداً أي قصدوا طريق الحق قال أبو عبيدة تحروا توخوا قال المبرد أصل التحري من قولهم ذلك أحرى أي أحق وأقرب وبالحري أن تفعل كذا أي يجب عليك
ثم إن الجن ذموا الكافرين فقالوا
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً
وفيه سؤالان(30/141)
الأول لمَ ذكر عقاب القاسطين ولمْ يذكر ثواب المسلمين الجواب بل ذكر ثواب المؤمنين وهو قوله تعالى تَحَرَّوْاْ رَشَداً ( الجن 14 ) أي توخوا رشداً عظيماً لا يبلغ كنهه إلا الله تعالى ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب
السؤال الثاني الجن مخلوقين من النار فكيف يكونون حطباً للنار الجواب أنهم وإن خلقوا من النار لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية وصاروا لحماً ودماً هكذا قيل وههنا آخر كلام الحسن
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَة ِ لاّسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً
هذا من جملة الموحى إليه والتقدير قل أوحي إلي أنه استمع نفر وأن لو استقاموا فيكون هذا هو النوع الثاني مما أوحي إليه وههنا مسائل
المسألة الأولى ( أن ) مخففة من الثقيلة والمعنى وأوحي إليَّ أن الشأن والحديث لو استقاموا لكان كذا وكذا قال الواحدي وفصل لو بينها وبين الفعل كفصل لا والسين في قوله أَن لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً و عَلِمَ أَن سَيَكُونُ
المسألة الثانية الضمير في قوله اسْتَقَامُواْ إلى من يرجع فيه قولان قال بعضهم إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم أي هؤلاء القاسطون لو آمنا لفعلنا بهم كذا وكذا وقال آخرون بل المراد الإنس واحتجوا عليه بوجهين الأول أن الترغيب بالانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بالإنس لا بالجن والثاني أن هذه الآية إنما نزلت بعدما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين أقصى ما في الباب أنه لم يتقدم ذكر الإنس ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مجرى قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) وقال القاضي الأقرب أن الكل يدخلون فيه وأقول يمكن أن يحتج لصحة قول القاضي بأنه تعالى لما أثبت حكماً معللاً بعلة وهو الاستقامة وجب أن يعم الحكم بعموم العلة
المسألة الثالثة الغدق بفتح الدال وكسرها الماء الكثير وقرىء بهما يقال غدقت العين بالكسر فهي غدقة وروضة مغدقة أي كثيرة الماء ومطر مغدوق وغيداق وغيدق إذا كان كثير الماء وفي المراد بالماء الغدق في هذه الآية ثلاثة أقوال أحدها أنه الغيث والمطر والثاني وهو قول أبي مسلم أنه إشارة إلى الجنة كما قال جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وثالثها أنه المنافع والخيرات جعل الماء كناية عنها لأن الماء أصل الخيرات كلها في الدنيا
المسألة الرابعة إن قلنا الضمير في قوله اسْتَقَامُواْ راجع إلى الجن كان في الآية قولان أحدهما لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ونظيره قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ ( المائدة 65 ) وقوله وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لاَكَلُواْ ( المائدة 66 ) وقوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ ( الطلاق 2 3 ) وقوله فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إلى قوله وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ( نوح 12 ) وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع فإن اللائق بالجن هو هذا الماء المشروب والثاني أن يكون المعنى وأن لو استقام الجن الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق ونظيره قوله تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ(30/142)
( الزخرف 33 ) واختار الزجاج الوجه الأول قال لأنه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فتكون راجعة إلى الطريقة المعروفة المشهورة وهي طريقة الهدى والذاهبون إلى التأويل الثاني استدلوا عليه بقوله بعد هذه الآية لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ فهو كقوله إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) ويمكن الجواب عنه أن من آمن فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام أيضاً ابتلاء واختباراً حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا وهل ينفقه في طلب مراضي الله أو في مراضي الشهوة والشيطان وأما الذين قالوا الضمير عائد إلى الإنس فالوجهان عائدان فيه بعينه وههنا يكون إجراء قوله لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً على ظاهره أولى لأن انتفاع الإنس بذلك أتم وأكمل
المسألة الخامسة احتج أصحابنا بقوله لِنَفْتِنَهُمْ على أنه تعالى يضل عباده والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هي الاختبار كما يقال فتنت الذهب بالنار لاخلق الضلال واستدلت المعتزلة باللام في قوله لِنَفْتِنَهُمْ على أنه تعالى إنما يفعل لغرض وأصحابنا أجابوا أن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله وقوله تعالى وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ أي عن عبادته أو عن موعظته أو عن وحيه يسلكه وقرىء بالنون مفتوحة ومضمومة أي ندخله عذاباً والأصل نسلكه في عذاب كقوله مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( المدثر 42 ) إلا أن هذه العبارة أيضاً مستقيمة لوجهين الأول أن يكون التقدير نسلكه في عذاب ثم حذف الجار وأوصل الفعل كقوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( الأعراف 155 ) والثاني أن يكون معنى نسلكه أي ندخله يقال سلكه وأسلكه والصعد مصدر صعد يقال صعد صعداً وصعوداً فوصف به العذاب لأنه ( يصعد فوق طاقة ) المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه ومنه قول عمر ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح يريد ما شق علي ولا غلبني وفيه قول آخر وهو ما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن صعداً جبل في جهنم وهو صخرة ملساء فيكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة فإذا بلغ أعلاها جذب إلى أسفلها ثم يكلف الصعود مرة أخرى فهذا دأبه أبداً ونظير هذه الآية قوله تعالى سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ( المدثر 17 )
النوع الثالث من جملة الموحى قوله تعالى
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً
وفيه مسائل
المسألة الأولى التقدير قل أوحي إلي أن المساجد لله ومذهب الخليل أن التقدير ولأن المساجد لله فلا تدعوا فعلى هذا اللام متعلقة ( بلا تدعوا أي ) فلا تدعوا مع الله أحداً في المساجد لأنها لله خاصة ونظيره قوله وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ على معنى ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون أي لأجل هذا المعنى فاعبدون
المسألة الثانية اختلفوا في المساجد على وجوه أحدها وهو قول الأكثرين أنها المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين وذلك أن أهل الكتاب يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس فأمر الله المسلمين بالإخلاص والتوحيد وثانيها قال الحسن أراد بالمساجد البقاع كلها قال عليه الصلاة والسلام ( جعلت لي الأرض مسجداً ) كأنه تعالى قال الأرض كلها مخلوقة لله(30/143)
تعالى فلا تسجدوا عليها لغير خالقها وثالثها روي عن الحسن أيضاً أنه قال المساجد هي الصلوات فالمساجد على هذا القول جمع مسجد بفتح الجيم والمسجد على هذا القول مصدر بمعنى السجود ورابعها قال سعيد بن جبير المساجد الأعضاء التي يسجد العبد عليها وهي سبعة القدمان والركبتان واليدان والوجه وهذا القول اختيار ابن الأنباري قال لأن هذه الأعضاء هي التي يقع السجود عليها وهي مخلوقة لله تعالى فلا ينبغي أن يسجد العاقل عليها لغير الله تعالى وعلى هذا القول معنى المساجد مواضع السجود من الجسد واحدها مسجد بفتح الجيم وخامسها قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما يريد بالمساجد مكة بجميع ما فيها من المساجد وذلك لأن مكة قبلة الدنيا وكل أحد يسجد إليها قال الواحدي وواحد المساجد على الأقوال كلها مسجد بفتح الجيم إلا على قول من يقول إنها المواضع التي بنيت للصلاة فإن واحدها بكسر الجيم لأن المواضع والمصادر كلها من هذا الباب بفتح العين إلا في أحرف معدودة وهي المسجد والمطلع والمنسك والمسكن والمنبت والمفرق والمسقط والمجزر والمحشر والمشرق والمغرب وقد جاء في بعضها الفتح وهو المنسك والمسكن والمفرق والمطلع وهو جائز في كلها وإن لم يسمع
المسألة الثالثة قال الحسن من السنة إذا دخل الرجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله لأن قوله فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً في ضمنه أمر بذكر الله وبدعائه
النوع الرابع من جملة الموحى قوله تعالى
وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً
اعلم أن عبدالله هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قول الجميع ثم قال الواحدي إن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى لأن الرسول لا يليق أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة وهذا غير بعيد كما في قوله يَوْمٍ يُحْشَرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً والأكثرون على أنه من جملة الموحى إذ لو كان من كلام الجن لكان ما ليس من كلام الجن وفي خلل ما هو كلام الجن مختلاً بعيداً عن سلامة النظم وفائدة هذا الاختلاف أن من جعله من جملة الموحى فتح الهمزة في أن ومن جعله من كلام الجن كسرها ونحن نفسر الآية على القولين أما على قول من قال إنه من جملة الموحى فالضمير في قوله كَادُواْ إلى من يعود فيه ثلاثة أوجه أحدها إلى الجن ومعنى قَامَ يَدْعُوهُ أي قام يعبده يريد قيامه لصلاة الفجر حين أتاه الجن فاستمعوا القراءة كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي يزدحمون عليه متراكمين تعجباً مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً وإعجاباً بما تلا من القرآن لأنهم رأوا مالم يروا مثله وسمعوا ما لم يسمعوا مثله والثاني لما قدم رسول الله يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين في عبادتهم الأوثان كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه والثالث وهو قول قتادة لما قام عبدالله تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من عاداه وأما على قول من قال إنه من كلام الجن فالوجهان أيضاً عائدان فيه وقوله لِبَداً فهو جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض وارتكم بعضه على بعض وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقاً شديداً فقد لبدته ومنه اشتقاق هذه اللبود التي تفرش ويقال لبدة الأسد لما يتلبد من الشعر بين كتفيه ومنه قول زهير(30/144)
لدى أسد شاكي السلاح مقذف
له لبد أظفاره لم تقلم
وقرىء لِبَداً بضم اللام واللبدة في معنى اللبدة وقرىء لِبَداً جمع لابد كسُجِّد وساجد وقرىء أيضاً لِبَداً بضم اللام والباء جمع لبود كصبر جمع صبور فإن قيل لم سمي محمداً بعبدالله وما ذكره برسول الله أو نبي الله قلنا لأنه إن كان هذا الكلام من جملة الموحى فاللائق بتواضع الرسول أن يذكر نفسه بالعبودية وإن كان من كلام الجن كان المعنى أن عبدالله لما اشتغل بعبودية الله فهؤلاء الكفار لم اجتمعوا ولم حاولوا منعه منه مع أن ذلك هو الموافق لقانون العقل
قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً
قرأ العامة قال على الغيبة وقرأ عاصم وحمزة قُلْ حتى يكون نظيراً لما بعده وهو قوله قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ ( الجن 21 ) قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى ( الجن 22 ) قال مقاتل إن كفار مكة قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا ) فأنزل الله قُلْ إِنَّمَا ادْعُواْ رَبّى وهذا حجة لعاصم وحمزة ومن قرأ قَالَ حمل ذلك على أن القوم لما قالوا ذلك أجابهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله إِنَّمَا أَدْعُو رَبّى فحكى الله ذلك عنه بقوله قَالَ أو يكون ذاك من بقية حكاية الجن أحوال الرسول لقومهم
قُلْ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً
إما أن يفسر الرشد بالنفع حتى يكون تقدير الكلام لا أملك لكم غياً ولا رشداً ويدل عليه قراءة أبي ( غياً ولا رشداً ) ومعنى الكلام أن النافع والضار والمرشد والمغوي هو الله وإن أحداً من الخلق لا قدرة له عليه
قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
قوله تعالى قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدًا قال مقاتل إنهم قالوا اترك ما تدعوا إليه ونحن نجيرك فقال الله له قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ
ثم قال تعالى وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ وحرزاً قال المبرد مُلْتَحَدًا مثل قولك منعرجاً والتحد معناه في اللغة مال فالملتحد المدخل من الأرض مثل السرب الذاهب في الأرض
إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً
قوله تعالى إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ ذكروا في هذا الاستثناء وجوهاً أحدها أنه استثناء من قوله لا أَمْلِكُ ( الجن 21 ) أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً من الله وقوله قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى ( الجن 22 ) جملة معترضة وقعت في البين لتأكيد نفي الاستطاعة عنه وبيان عجزه على معنى أنه تعالى إن أراد به سوءاً لم يقدر أحد أن يجيره منه وهذا قول الفراء وثانيها وهو قول الزجاج أنه نصب على البدل من قوله مُلْتَحَدًا ( الجن 22 ) والمعنى ولن أجد من دونه ملجأ إلا بلاغاً أي لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به وأقول هذا الاستثناء منقطع لأنه تعالى لما لم يقل ولن أجد ملتحداً بل قال وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً(30/145)
والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا لأن البلاغ من الله لا يكون من دون الله بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه ثالثها قال بعضهم ( إلا ) معناه إن ( لا ) ومعناه إن لا أبلغ بلاغاً كقولك ( إلا ) قياماً فقعوداً والمعنى إن لا أبلغ لم أجد ملتحداً فإن قيل المشهور أنه يقال بلغ عنه قال عليه السلام ( بلغوا عني بلغوا عني ) فلم قال ههنا بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ قلنا ( من ) ليست ( بصفة للتبلغ ) إنما هي بمنزلة ( من ) في قوله بَرَاءة ٌ مّنَ اللَّهِ بمعنى بلاغاً كائناً من الله أما قوله تعالى وَرِسَالَاتِهِ فهو عطف على بَلاَغاً كأنه قال لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات والمعنى إلا أن أبلغ عن الله فأقول قال الله كذا ناسباً القول إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان
قوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ قال الواحدي إن مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ولذلك حمل سيبويه قوله وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ( المائدة 95 ) وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ ( البقرة 126 ) فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( الجن 13 ) على أن المبتدأ فيها مضمر وقال صاحب ( الكشاف ) وقرىء فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ على تقدير فجزاؤه أن له نار جهنم كقولك فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ( الأنفال 41 ) أي فحكمه أن لله خمسه
ثم قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً حملاً على معنى الجمع في ( من ) وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة مخلدون في النار وأن هذا العموم يشملهم كشموله الكفار قالوا وهذا الوعيد مشروط بشرط أن لا يكون هناك توبة ولا طاعة أعظم منها قالوا وهذا العموم أقوى في الدلالة على هذا المطلوب من سائر العمومات لأن سائر العمومات ما جاء فيها قوله أَبَدًا فالمخالف يحمل الخلود على المكث الطويل أما ههنا ( فقد ) جاء لفظ الأبد فيكون ذلك صريحاً في إسقاط الاحتمال الذي ذكره المخالف والجواب أنا بينا في سورة البقرة وجوه الأجوبة على التمسك بهذه العمومات ونزيد ههنا وجوهاً أحدها أن تخصيص العموم بالواقعة التي لأجلها ورد ذلك العموم عرف مشهور فإن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار ساعة فقال الزوج إن خرجت فأنت طالق يفيد ذلك اليمين بتلك الساعة المعينة حتى إنها لو خرجت في يوم آخر لم تطلق فههنا أجرى الحديث في التبليغ عن الله تعالى ثم قال وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني جبريل فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ أي من يعص الله في تبليغ رسالاته وأداء وحيه فإن له نار جهنم وإذا كان ما ذكرنا محتملاً سقط وجه الاستدلال الوجه الثاني وهو أن هذا الوعيد لا بد وأن يتناول هذه الصورة لأن من القبيح أن يذكر عقيب هذه الواقعة حكماً لا تعلق له بها فيكون هذا الوعيد وعيداً على ترك التبليغ من الله ولا شك أن ترك التبليغ من الله أعظم الذنوب والعقوبة المترتبة على أعظم الذنوب لا يجوز أن تكون مرتبة على جميع الذنوب لأن الذنوب المتفاوتة في الصغر والكبر لا يجوز أن تكون متساوية في العقوبة وإذا ثبت أن هذه العقوبة على هذا الذنب وثبت أن ما كان عقوبة على هذا الذنب لا يجوز أن يكون عقوبة على سائر الذنوب علمنا أن هذا الحكم مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى سائر الذنوب الوجه الثالث وهو أنه تعالى ذكر عمومات الوعيد في سائر آيات القرآن غير مقيدة بقيد الأبد وذكرها ههنا مقيدة بقيد الأبد فلا بد في هذا التخصيص من سبب ولا سبب إلا أن هذا الذنب أعظم الذنوب وإذا كان السبب في هذا التخصيص هذا المعنى علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى جميع الذنوب وإذا ثبت أن هذا الوعيد مختص بفاعل هذا(30/146)
الذنب صارت الآية دالة على أن حال سائر المذنبين بخلاف ذلك لأن قوله فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً معناه أن هذه الحالة له لا لغيره وهذا كقوله لَكُمْ دِينَكُمْ أي لكم لا لغيركم وإذا ثبت أن لهم هذه الحالة لا لغيرهم وجب في سائر المذنبين أن لا يكون لهم نار جهنم على سبيل التأبيد فظهر أن هذه الآية حجة لنا عليهم وعلى تمسكهم بالآية سؤال آخر وهو أن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنما يتناول من عصى الله ورسوله بجميع أنواع المعاصي وذلك هو الكافر ونحن نقول بأن الكافر يبقى في النار مؤبداً وإنما قلنا إن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنما يتناول من عصى الله بجميع أنواع المعاصي لأن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ يصح استثناء جميع أنواع المعاصي عنه مثل أن يقال ومن يعص الله إلا في الكفر وإلا في الزنا وإلا في شرب الخمر ومن مذهب القائلين بالوعيد أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلاً تحت اللفظ وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ متناولاً لمن أتى بكل المعاصي والذي يكون كذلك هو الكافر فالآية مختصة بالكافر على هذا التقدير فسقط وجه الاستدلال بها فإن قيل كون الإنسان الواحد آتياً لجميع أنواع المعاصي محال لأن من المحال أن يكون قائلاً بالتجسم وأن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل وإذا كان ذلك محالاً فحمل الآية عليه غير جائز قلنا تخصيص العام بدليل العقل جائز فقولنا وَمَن يَعْصِ اللَّهَ يفيد كونه آتياً بجميع أنواع المعاصي ترك العمل به في القدر الذي امتنع عقلاً حصوله فيبقى متناولاً للآتي بجميع الأشياء التي يمكن الجمع بينها ومن المعلوم أن الجمع بين الكفر وغيره ممكن فتكون الآية مختصة به
المسألة الثانية تمسك القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية فقالوا تارك المأمور به عاص لقوله تعالى أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ( طه 93 ) لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ( التحريم 6 ) لا أَعْصِى لَكَ أمْراً ( الكهف 69 ) والعاصي مستحق للعقاب لقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً
حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً
فإن قيل ما الشيء الذي جعل ما بعد حتى غاية له قلنا فيه وجهان الأول أنه متعلق بقوله يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( الجن 19 ) والتقدير أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون ( عدده ) حتى إذا رأوا ما يوعدون من يوم بدر وإظهار الله له عليهم أو من يوم القيامة فَسَيَعْلَمُونَ أيهم أضعف ناصراً وأقل عدداً الثاني أنه متعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده كأنه قيل هؤلاء لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا كان كذا كان كذا واعلم أن نظير هذه الآية قوله في مريم حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَة َ ( مريم 75 ) واعلم أن الكافر لا ناصر له ولا شفيع يوم القيامة على ما قال مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( غافر 18 ) وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) ويفر كل أحد منهم من صاحبه على ما قال يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ ( عبس 34 ) إلى آخره يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ( الحج 2 ) وأما المؤمنون فلهم العزة والكرامة والكثرة قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ(30/147)
( الرعد 23 24 ) والملك القدوس يسلم عليهم سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ فهناك يظهر أن القوة والعدد في جانب المؤمنين أو في جانب الكفار
قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى أَمَداً
قال مقاتل لما سمعوا قوله حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ( الجن 24 ) قال النضر بن الحرث متى يكون هذا الذي توعدنا به فأنزل الله تعالى قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ إلى آخره والمعنى أن وقوعه متيقن أما وقت وقوعه فغير معلوم وقوله أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً أي غاية وبعداً وهذا كقوله وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ( الأنبياء 109 ) فإن قيل أليس أنه قال ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) فكان عالماً بقرب وقوع القيامة فكيف قال ههنا لا أدري أقريب أم بعيد قلنا المراد بقرب وقوعه هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى فهذا القدر من القرب معلوم وأما معنى معرفة القرب القريب وعدم ذلك فغير معلوم
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً
ثم قال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ لفظة ( من ) في قوله مِن رَّسُولٍ تبيين لمن ارتضى يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي يكون رسولاً قال صاحب ( الكشاف ) وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف الكرامات إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيها أيضاً إبطال الكهانة والسحر والتنجيم لأن أصحابها أبعد شيء من الإرتضاء وأدخله في السخط قال الواحدي وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن
واعلم أن الواحدي يجوز الكرامات وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعض الوقائع في المستقبل ونسبة الآية إلى الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله صاحب ( الكشاف ) وإن زعم أنها لا تدل على المنع من الإلهامات الحاصلة للأولياء فينبغي أن لا يجعلها دالة على المنع من الدلائل النجومية فأما التحكم بدلالتها على المنع من الأحكام النجومية وعدم دلالتها على الإلهامات الحاصلة للأولياء فمجرد التشهي وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه والذي تدل عليه أن قوله عَلَى غَيْبِهِ ليس فيه صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقيب قوله إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً ( الجن 25 ) يعني لا أدري وقت وقوع القيامة ثم قال بعده عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً أي وقت وقوع القيامة من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد وبالجملة فقوله عَلَى غَيْبِهِ لفظ مفرد مضاف فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد فأما العموم فليس في اللفظ دلالة عليه فإن قيل فإذا حملتم ذلك على القيامة فكيف قال إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله قلنا بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة وكيف لا وقد قال وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ تَنزِيلاً ( الفرقان 25 ) ولا شك أن الملائكة(30/148)
يعلمون في ذلك الوقت قيام القيامة وأيضاً يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعاً كأنه قال عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص وهو قيام القيامة أحداً ثم قال بعده لكن من ارتضى من رسول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جواباً لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به والاستحقار لدينه ومقالته
واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس مراد الله من هذه الآية أن لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات إلا الرسل والذي يدل عليه وجوه أحدها أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل زمان ظهوره وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب وثانيها أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير وأن المعبر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل ويكون صادقاً فيه وثالثها أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل فذكرت أشياء ثم إنها وقعت على وفق كلامها
قال مصنف الكتاب ختم الله له بالحسنى وأنا قد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة أخباراً على سبيل التفصيل وجاءت تلك الوقائع على وفق خبرها وبالغ أبو البركات في كتاب المعتبر في شرح حالها وقال لقد تفحصت عن حالها مدة ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً
ورابعها أنا نشاهد ( ذلك ) في أصحاب الإلهامات الصادقة وليس هذا مختصاً بالأولياء بل قد يوجد في السحرة أيضاً من يكون كذلك نرى الإنسان الذي يكون سهم الغيب على درجة طالعه يكون كذلك في كثير من أخباره وإن كان قد يكذب أيضاً في أكثر تلك الأخبار ونرى الأحكام النجومية قد تكون مطابقة وموافقة للأمور وإن كانوا قد يكذبون في كثير منها وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن وذلك باطل فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرناه والله أعلم
أما قوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً فالمعنى أنه يسلك من بين يدي من ارتضى للرسالة وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي حفظة من الملائكة يحفظونه من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم حتى يبلغ ما أوحى به إليه ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونه ولا يضرونه وعن الضحاك ( ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين ( الذين ) يتشبهون بصورة الملك )
لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْءٍ عَدَداً
قوله تعالى لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ فيه مسائل
المسألة الأولى وحَّد الرسول في قوله إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ( الجن 27 ) ثم جمع في قوله أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ ونظيره ما تقدم من قوله فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ ( الجن 23 )(30/149)
المسألة الثانية احتج من قال بحدوث علم الله تعالى بهذه الآية لأن معنى الآية ليعلم الله أن قد أبلغوا الرسالة ونظيره قوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ( محمد 31 ) والجواب من وجهين الأول قال قتادة ومقاتل ليعلم محمد أن الرسل قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة وعلى هذا اللام في قوله لِيَعْلَمَ متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام كأنه قيل أخبرناه بحفظ الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ الحق ويجوز أن يكون المعنى ليعلم الرسول أن قد أبلغوا أي جبريل والملائكة الذين يبعثون إلى الرسل رسالات ربهم فلا يشك فيها ويعلم أنها حق من الله الثاني وهو اختيار أكثر المحققين أن المعنى ليعلم الله أن قد أبلغ الأنبياء رسالات ربهم والعلم ههنا مثله في قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ( آل عمران 142 ) والمعنى ليبلغوا رسالات ربهم فيعلم ذلك منهم
المسألة الثالثة قرىء لِيَعْلَمَ على البناء للمفعول
أما قوله وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ فهو يدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات وأما قوله وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْء عَدَداً فهو يدل على كونه عالماً بجميع الموجودات فإن قيل إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي وقوله كُلّ شَى ْء يدل على كونه غير متناه فلزم وقوع التناقض في الآية قلنا لا شك أن إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي فأما لفظة كُلّ شَى ْء فإنها لا تدل على كونه غير متناه لأن الشيء عندنا هو الموجودات والموجودات متناهية في العدد وهذه الآية أحد ما يحتج به على أن المعدوم ليس بشيء وذلك لأن المعدوم لو كان شيئاً لكانت الأشياء غير متناهية وقوله وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْء عَدَداً يقتضي كون تلك المحصيات متناهية فيلزم الجمع بين كونها متناهية وغير متناهية وذلك محال فوجب القطع بأن المعدوم ليس بشيء حتى يندفع هذا التناقض
والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين(30/150)
سورة المزمل عليه السلام
وهي عشرون آية مكية
ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ
فيه مسألتان
المسألة الأولى أجمعوا على أن المراد بالمزمل النبي عليه السلام وأصله المتزمل بالتاء وهو الذي تزمل بثيابه أي تلفف بها فأدغم التاء في الزاي ونحوه المدثر في المتدثر واختلفوا لم تزمل بثوبه على وجوه أحدها قال ابن عباس أول ما جاءه جبريل عليه السلام خافه وظن أن به مساً من الجن فرجع من الجبل مرتعداً وقال زملوني فبينا هو كذلك إذ جاء جبريل وناداه وقال يا أيها المزمل وثانيها قال الكلبي إنما تزمل النبي عليه السلام بثيابه للتهيء للصلاة وهو اختيار الفراء وثالثها أنه عليه السلام كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة وقيل يا أيها النائم المتزمل بثوبه قم واشتغل بالعبودية ورابعها أنه كان متزملاً في مرط لخديجة مستأنساً بها فقيل له عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ الَّيْلَ كأنه قيل اترك نصيب النفس واشتغل بالعبودية وخامسها قال عكرمة يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً أي حمله والزمل الحمل وازدمله احتمله
المسألة الثانية قرأ عكرمة الْمُزَّمّلُ و الْمُدَّثّرُ ( المدثر 1 ) بتخفيف الزاي والدال وتشديد الميم والثاء على أنه اسم فاعل أو مفعول فإن كان على اسم الفاعل كان المفعول محذوفاً والتقدير يا أيها المزمل نفسه والمدثر نفسه وحذف المفعول في مثل هذا المقام فصيح قال تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء أي أوتيت من كل شيء شيئاً وإن كان على أنه اسم المفعول كان ذلك لأنه زمل نفسه أو زمله غيره وقرىء ( يا أيها المتزمل ) على الأصل
قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً
وقوله تعالى قُمِ الَّيْلَ فيه مسألتان(30/151)
المسألة الأولى قال ابن عباس إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله لقوله قُمِ الَّيْلَ وظاهر الأمر للوجوب ثم نسخ واختلفوا في سبب النسخ على وجوه أولها أنه كان فرضاً قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بها وثانيها أنه تعالى لما قال قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ فكان الرجل لا يدري كم صلى وكم بقي من الليل فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب وشق عليهم ذلك حتى ورمت أقدامهم وسوقهم فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في آخر هذه السورة فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ( المزمل 20 ) وذلك في صدر الإسلام ثم قال ابن عباس وكان بين أول هذا الإيجاب وبين نسخه سنة وقال في رواية أخرى إن إيجاب هذا كان بمكة ونسخه كان بالمدينة ثم نسخ هذا القدر أيضاً بالصلوات الخمس والفرق بين هذا القول وبين القول الأول أن في هذا القول نسخ وجوب التهجد بقوله فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ ( المزمل 20 ) ثم نسخ هذا بإيجاب الصلوات وفي القول الأول نسخ إيجاب التهجد بإيجاب الصلوات الخمس ابتداء وقال بعض العلماء التهجد ما كان واجباً قط والدليل عليه وجوه أولها قوله وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة ً لَّكَ ( الإسراء 79 ) فبين أن التهجد نافلة له لا فرض وأجاب ابن عباس عنه بأن المعنى زيادة وجوب عليك وثانيها أن التهجد لو كان واجباً على الرسول لوجب على أمته لقوله وَاتَّبِعُوهُ ( الأعراف 158 ) وورود النسخ على خلاف الأصل وثالثها استدل بعضهم على عدم الوجوب بأنه تعالى قال نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ففوض ذلك إلى رأي المكلف وما كان كذلك لا يكون واجباً وهذا ضعيف لأنه لا يبعد في العقل أن يقول أوجبت عليك قيام الليل فأما تقديره بالقلة والكثرة فذاك مفوض إلى رأيك ثم إن القائلين بعدم الوجوب أجابوا عن التمسك بقوله قُمِ الَّيْلَ وقالوا ظاهر الأمر يفيد الندب لأنا رأينا أوامر الله تعالى تارة تفيد الندب وتارة تفيد الإيجاب فلا بد من جعلها مفيدة للقدر المشترك بين الصورتين دفعاً للاشتراك والمجاز وما ذاك إلا ترجيح جانب الفعل على جانب الترك وأما جواز الترك فإنه ثابت بمقتضى الأصل فلما حصل الرجحان بمقتضى الأمر وحصل جواز الترك بمقتضى الأصل كان ذلك هو المندوب والله أعلم
المسألة الثانية قرأ أبو السمال قُمِ الَّيْلَ بفتح الميم وغيره بضم الميم قال أبو الفتح بن جني الغرض من هذه الحركة الهرب من التقاء الساكنين فأي الحركات تحرك فقد حصل الغرض وحكى قطرب عنهم قم الليل وقل الحق برفع الميم واللام وبع الثوب ثم قال من كسر فعلى أصل الباب ومن ضم أتبع ومن فتح فقد مال إلى خفة الفتح
قوله تعالى إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
اعلم أن الناس قد أكثروا في تفسير هذه الآية وعندي فيه وجهان ملخصان الأول أن المراد بقوله إِلاَّ قَلِيلاً الثلث والدليل عليه قوله تعالى في آخر هذه السورة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ( المزمل 20 ) فهذه الآية دلت على أن أكثر المقادير الواجبة الثلثان فهذا يدل على أن نوم الثلث جائز وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد في قوله قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً هو الثلث فإذاً قوله قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً(30/152)
معناه قم ثلثي الليل ثم قال نّصْفَهُ والمعنى أو قم نصفه كما تقول جالس الحسن أو ابن سيرين أي جالس ذا أو ذا أيهما شئت فتحذف واو العطف فتقدير الآية قم الثلثين أو قم النصف أو انقص من النصف أو زد عليه فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة ويكون الثلث أقصى النقصان فيكون الواجب هو الثلث والزائد عليه يكون مندوباً فإن قيل فعلى هذا التأويل يلزمكم أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد ترك الواجب لأنه تعالى قال إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ فمن قرأ نصفه وثلثه بالخفض كان المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف وأقل من الثلث فإذا كان الثلث واجباً كان عليه السلام تاركاً للواجب قلنا إنهم كانوا يقدرون الثلث بالاجتهاد فربما أخطأوا في ذلك الاجتهاد ونقصوا منه شيئاً قليلاً فيكون ذلك أدنى من ثلث الليل المعلوم بتحديد الأجزاء عند الله ولذلك قال تعالى لهم عِلْمٍ أَلَّن تُحْصُوهُ ( المزمل 20 ) الوجه الثاني أن يكون قوله نّصْفَهُ تفسيراً لقوله قَلِيلاً وهذا التفسير جائز لوجهين الأول أن نصف الشيء قليل بالنسبة إلى كله والثاني أن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن عهدة ذلك التكليف بيقين إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً فيكون الباقي بعد ذلك أقل منه وإذا ثبت هذا فنقول قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً معناه قم الليل إلا نصفه فيكون الحاصل قم نصف الليل ثم قال أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً يعني أو انقص من هذا النصف نصفه حتى يبقى الربع ثم قال أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يعني أو زد على هذا النصف نصفه حتى يصير المجموع ثلاثة أرباعه وحينئذ يرجع حاصل الآية إلى أنه تعالى خيره بين أن يقوم تمام النصف وبين أن يقوم ربع الليل وبين أن يقوم ثلاثة أرباعه وعلى هذا التقدير يكون الواجب الذي لا بد منه هو قيام الربع والزائد عليه يكون من المندوبات والنوافل وعلى هذا التأويل يزول الإشكال الذي ذكرتم بالكلية لأن قوله إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ( المزمل 20 ) يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقم ثلثي الليل ولا نصفه ولا ثلثه لأن الواجب لما كان هو الربع فقط لم يلزم من ترك قيام الثلث ترك شيء من الواجبات فزال السؤال المذكور والله أعلم
قوله تعالى وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً قال الزجاج رتل القرآن ترتيلاً بينه تبييناً والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن إنما يتم بأن يتبين جميع الحروف ويوفي حقها من الإشباع قال المبرد أصله من قولهم ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير وقال الليث الترتيل تنسيق الشيء وثغر رتل حسن التنضيد ورتلت الكلام ترتيلاً إذا تملهت فيه وأحسنت تأليفه وقوله تعالى تَرْتِيلاً تأكيد في إيجاب الأمر به وأنه مما لا بد منه للقارى ء
واعلم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلالته وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف وحينئذ يستنير القلب بنور معرفة الله والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني لأن النفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية ومن ابتهج بشيء أحب ذكره ومن أحب(30/153)
شيئاً لم يمر عليه بسرعة فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكما المعرفة
إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً
ذكروا في تفسير الثقيل وجوهاً أحدها وهو المختار عندي أن المراد من كونه ثقيلاً عظم قدره وجلالة خطره وكل شيء نفس وعظم خطره فهو ثقل وثقيل وثاقل وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء قَوْلاً ثَقِيلاً يعني كلاماً عظيماً ووجه النظم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل فكأنه قال إنما أمرتك بصلاة الليل لأنا سنلقي عليك قولاً عظيماً فلا بد وأن تسعى في صيرورة نفسك مستعدة لذلك القول العظيم ولا يحصل ذلك الاستعداد إلا بصلاة الليل فإن الإنسان في الليلة الظلماء إذا اشتغل بعبادة الله تعالى وأقبل على ذكره والثناء عليه والتضرع بين يديه ولم يكن هناك شيء من الشواغل الحسية والعوائق الجسمانية استعدت النفس هنالك لإشراق جلال الله فيها وتهيأت للتجرد التام والانكشاف الأعظم بحسب الطاقة البشرية فلما كان لصلاة الليل أثر في صيرورة النفس مستعدة لهذا المعنى لا جرم قال إني إنما أمرتك بصلاة الليل لأنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً فصير نفسك مستعدة لقبول ذلك المعنى وتمام هذا المعنى ما قال عليه الصلاة والسلام ( إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ) وثانيها قالوا المراد بالقول الثقيل القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين عامة وعلى رسول الله خاصة لأنه يتحملها بنفسه ويبلغها إلى أمته وحاصله أن ثقله راجع إلى ثقل العمل به فإنه لا معنى للتكليف إلا إلزام ما في فعله كلفة ومشقة وثالثها روى عن الحسن أنه ثقيل في الميزان يوم القيامة وهو إشارة إلى كثرة منافعه وكثرة الثواب في العمل به ورابعها المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يثقل عند نزول الوحي إليه روي أن الوحي نزل عليه وهو على ناقته فثقل عليها حتى وضعت جرانها فلم تستطع أن تتحرك وعن ابن عباس كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد وجهه وعن عائشة رضي الله عنها ( رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقاً ) وخامسها قال الفراء قَوْلاً ثَقِيلاً أي ليس بالخفيف ولا بالسفساف لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى وسادسها قال الزجاج معناه أنه قول متين في صحته وبيانه ونفعه كما تقول هذا كلام رزين وهذا قول له وزن إذا كنت تستجيده وتعلم أنه وقع موقع الحكمة والبيان وسابعها قال أبو علي الفارسي إنه ثقيل على المنافقين من حيث إنه يهتك أسرارهم ومن حيث إنه يبطل أديانهم وأقوالهم وثامنها أن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه ولا يزول فجعل الثقيل كناية عن بقاء القرآن على وجه الدهر كما قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) وتاسعها أنه ثقيل بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته والفقهاء أقبلوا على البحث عن أحكامه وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه فوائد ما وصل إليها المتقدمون فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله فصار كالحمل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله وعاشرها أنه ثقيل لكونه مشتملاً على المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والفرق بين هذه الأقسام مما لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون المحيطون بجميع العلوم العقلية والحكمية فلما كان كذلك لا جرم كانت الإحاطة به ثقيلة على أكثر الخلق(30/154)
إِنَّ نَاشِئَة َ الَّيْلِ هِى َ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً
قوله تعالى إِنَّ نَاشِئَة َ الَّيْلِ يقال نشأت تنشأ نشأ فهي ناشئة والإنشاء الإحداث فكل ما حدث ( فهو ناشىء ) فإنه يقال للذكر ناشىء وللمؤنث ناشئة إذا عرفت هذا فنقول في الناشئة قولان أحدهما أنها عبارة عن ساعات الليل والثاني أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في ساعات الليل أما القول الأول فقال أبو عبيدة ناشئة الليل ساعاته وأجزاؤه المتتالية المتعاقبة فإنها تحدث واحدة بعد أخرى فهي ناشئة بعد ناشئة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال الليل كله ناشئة روى ابن أبي مليكة قال سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل فقال الليل كله ناشئة وقال زين العابدين رضي الله عنه ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والكسائي قالوا لأن ناشئة الليل هي الساعة التي منها يبتدىء سواد الليل القول الثاني هو تفسير الناشئة بأمور تحدث في الليل وذكروا على هذا القول وجوهاً أحدها قالوا ناشئة الليل هي النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت وثانيها ناشئة الليل عبارة عن قيام الليل بعد النوم قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة ومنه ناشئة الليل وعندي فيه وجه ثالث وهو أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات ألبتة فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإلهية وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات فلا تتفرغ للأحوال الروحانية فالمراد من ناشئة الليل تلك الواردات الروحانية والخواطر النورانية التي تنكشف في ظلمة الليل بسبب فراغ الحواس وسماها ناشئة الليل لأنها لا تحدث إلا في الليل بسبب أن الحواس الشاغلة للنفس معطلة في الليل ومشغولة في النهار ولم يذكر أن تلك الأشياء الناشئة منها تارة أفكار وتأملات وتارة أنوار ومكاشفات وتارة انفعالات نفسانية من الابتهاج بعالم القدس أو الخوف منه أو تخيلات أحوال عجيبة فلما كانت تلك الأمور الناشئة أجناساً كثيرة لا يجمعها جامع إلا أنها أمور ناشئة حادثة لا جرم لم يصفها إلا بأنها ناشئة الليل
أما قوله تعالى هِى َ أَشَدُّ أي مواطأة وملاءمة وموافقة وهي مصدر يقال واطأت فلاناً على كذا مواطأة ووطأة ومنه عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّة َ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ( التوبة 37 ) أي ليوافقوا فإن فسرنا الناشئة بالساعات كان المعنى أنها أشد موافقة لما يرد من الخشوع والإخلاص وإن فسرناها بالنفس الناشئة كان المعنى شدة المواطأة بين القلب واللسان وإن فسرناها بقيام الليل كان المعنى مايراد من الخشوع والإخلاص وإن فسرناها بما ذكرت كان المعنى أن إفضاء تلك المجاهدات إلى حصول المكاشفات في الليل أشد منه في النهار وعن الحسن أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق
المسألة الثانية قرىء أَشَدَّ بالفتح والكسر وفيه وجهان الأول قال الفراء أشد ثبات قدم لأن(30/155)
النهار يضطرب فيه الناس ويتقلبون فيه للمعاش والثاني أثقل وأغلظ على المصلى من صلاة النهار وهو من قولك اشتدت على القوم وطأة سلطانهم إذا ثقل عليهم معاملتهم معه وفي الحديث ( اللهم أشدد وطأتك على مضر ) فأعلم الله نبيه أن الثواب في قيام الليل على قدر شدة الوطأة وثقلها ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها واختار أبو عبيدة القراءة الأولى قال لأنه تعالى لما أمره بقيام الليل ذكر هذه الآية فكأنه قال إنما أمرتك بصلاة الليل لأن موافقة القلب واللسان فيه أكمل وأيضاً الخواطر الليلية إلى المكاشفات الروحانية أتم
قوله تعالى وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً فيه مسألتان
المسألة الأولى أَقْوَمُ قَلِيلاً قال ابن عباس أحسن لفظاً قال ابن قتيبة لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات ويخلص القول ولا يكون دون تسمعه وتفهمه حائل
المسألة الثانية قرأ أنس ( وأصوب قيلا ) فقيل له يا أبا حمزة إنما هي وَأَقْوَمُ قِيلاً فقال أنس ( إن أقوم ) وأصوب وأهيأ واحد قال ابن جني وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني فإذا وجدوها لم يلتفتوا إلى الألفاظ ونظيره ما روى أن أبا سوار الغنوي كان يقرأ ( فحاسوا خلال الديار ) بالحاء غير المعجمة فقيل له إنما هو جاسوا فقال حاسوا وجاسوا واحدو أنا أقول يجب أن نحمل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك تفسيراً للفظ القرآن لا على أنه جعله نفس القرآن إذ لو ذهبنا إلى ما قاله ابن جني لارتفع الاعتماد عن ألفاظ القرآن ولجوزنا أن كل أحد عبر عن المعنى بلفظ رآه مطابقاً لذلك المعنى ثم ربما أصاب في ذلك الاعتقاد وربما أخطأ وهذا يجر إلى الطعن في القرآن فثبت أنه حمل ذلك على ما ذكرناه
إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال المبرد سبحاً أي تقلباً فيما يجب ولهذا سمي السابح سابحاً لتقلبه بيديه ورجليه ثم في كيفية المعنى وجهان الأول إن لك في النهار تصرفاً وتقلباً في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل فلهذا السبب أمرتك بالصلاة في الليل الثاني قال الزجاج أي إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة فلك في النهار فراغه فاصرفه إليه
المسألة الثانية قرىء سبخاً بالخاء المنقطة من فوق وهو استعارة من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه فإن القلب في النهار يتفرغ بسبب الشواغل وتختلف همومه بسبب الموجبات المختلفة واعلم أنه تعالى أمر رسوله أولاً بقيام الليل ثم ذكر السبب في أنه لم خص الليل بذلك دون النهار ثم بين أن أشرف الأعمال المأمور بها عند قيام الليل ما هو
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً
وهذه الآية تدل على أنه تعالى أمر بشيئين أحدهما الذكر والثاني التبتل أما الذكر فاعلم أنه إنما قال كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ ههنا وقال في آية أخرى وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 205 ) لأنه لا بد في أول الأمر من ذكر الاسم باللسان مدة ثم يزول الاسم(30/156)
ويبقى المسمى فالدرجة الأولى هي المراد بقوله ههنا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ والمرتبة الثانية هي المراد بقوله في السورة الأخرى وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ وإنما تكون مشتغلاً بذكر الرب إذا كنت في مقام مطالعة ربوبيته وربوبيته عبارة عن أنواع تربيته لك وإحسانه إليك فما دمت في هذا المقام تكون مشغول القلب بمطالعة آلائه ونعمائه فلا تكون مستغرق القلب به وحينئذ يزداد الترقي فتصير مشتغلاً بذكر إلهيته وإليه الإشارة بقوله فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ ( البقرة 200 ) وفي هذا المقام يكون الإنسان في مقام الهيبة والخشية لأن الإلهية إشارة إلى القهارية والعزة والعلو والصمدية ولا يزال العبد يرقى في هذا المقام متردداً في مقامات الجلال والتنزيه والتقديس إلى أن ينتقل منها إلى مقام الهوية الأحدية التي كلت العبارات عن شرحها وتقاصرت الإشارات عن الانتهاء إليها وهناك الانتهاء إلى الواحد الحق ثم يقف لأنه ليس هناك نظير في الصفات حتى يحصل الانتقال من صفة إلى صفة ولا تكون الهوية مركبة حتى ينتقل نظر العقل من جزء إلى جزء ولا مناسبة لشيء من الأحوال المدركة عن النفس حتى تعرف على سبيل المقايسة فهي الظاهرة لأنها مبدأ ظهور كل ظاهر وهي الباطنة لأنها فوق عقول كل المخلوقات فسبحان من احتجب عن العقول لشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره وأما قوله تعالى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن جميع المفسرين فسروا التبتل بالإخلاص وأصل التبتل في اللغة القطع وقيل لمريم البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة وصدقة بتلة منقطعة من مال صاحبها وقال الليث التبتيل تمييز الشيء عن الشيء والبتول كل امرأة تنقبض من الرجال لا رغبة لها فيهم إذا عرفت ذلك فاعلم أن للمفسرين عبارات قال الفراء يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلى أمر الله وطاعته وقال زيد بن أسلم التبتل رفض الدنيا مع كل ما فيها والتماس ما عند الله واعلم أن معنى الآية فوق ما قاله هؤلاء الظاهريون لأن قوله وَتَبَتَّلْ أي انقطع عن كل ما سواه إليه والمشغول بطلب الآخرة غير متبتل إلى الله تعالى بل التبتل إلى الآخرة والمغشول بعبادة الله متبتل إلى العبادة لا إلى الله والطالب لمعرفة الله متبتل إلى معرفة الله لا إلى الله فمن آثر العبادة لنفس العبادة أو لطلب الثواب أو ليصير متعبداً كاملاً بتلك العبودية للعبودية فهو متبتل إلى غير الله ومن آثر العرفان للعرفان فهو متبتل إلى العرفان ومن آثر العبودية لا للعبودية بل للمعبود وآثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول وهذا مقام لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال ومن أراده فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر ولا يجد الإنسان لهذا مثالاً إلا عند العشق الشديد إذا مرض البدن بسببه وانحبست القوى وعميت العينان وزالت الأغراض بالكلية وانقطعت النفس عما سوى المعشوق بالكلية فهناك يظهر الفرق بين التبتل إلى المعشوق وبين التبتل إلى رؤية المعشوق
المسألة الثانية الواجب أن يقال وتبتل إليه تبتلاً أو يقال بتل نفسك إليه تبتيلاً لكنه تعالى لم يذكرهما واختار هذه العبارة الدقيقة وهي أن المقصود بالذات إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف(30/157)
والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلاً إلى الله لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعاً إلى الله إلا أنه لا بد أولاً من التبتيل حتى يحصل التبتل كما قال تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا فذكر التبتل أولاً إشعاراً بأنه المقصود بالذات وذكر التبتيل ثانياً إشعاراً بأنه لا بد منه ولكنه مقصود بالغرض
واعلم أنه تعالى لما أمره بالذكر أولاً ثم بالتبتل ثانياً ذكر السبب فيه فقال تعالى
رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن التبتل إليه لا يحصل إلا بعد حصول المحبة والمحبة لا تليق إلا بالله تعالى وذلك لأن سبب المحبة إما الكمال وإما التكميل أما الكمال فلأن الكمال محبوب لذاته إذ من المعلوم أنه يمتنع أن يكون كل شيء إنما كان محبوباً لأجل شيء آخر وإلا لزم التسلسل فإذاً لا بد من الانتهاء إلى ما يكون محبوباً لذاته والكمال محبوب لذاته فإن من اعتقد أن فلاناً الذي كان قبل هذا بألف سنة كان موصوفاً بعلم أزيد من علم سائر الناس مال طبعه إليه وأحبه شاء أم أبى ومن اعتقد في رستم أنه كان موصوفاً بشجاعة زائدة على شجاعة سائر الناس أحبه شاء أم أبى فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته وكمال الكمال لله تعالى فالله تعالى محبوب لذاته فمن لم يحصل في قلبه محبته كان ذلك لعدم علمه بكماله وأما التكميل فهو أن الجواد محبوب والجواد المطلق هو الله تعالى فالمحبوب المطلق هو الله تعالى والتبتل المطلق لا يمكن أن يحصل إلا إلى الله تعالى لأن الكمال المطلق له والتكميل المطلق منه فوجب أن لا يكون التبتل المطلق إلا إليه واعلم أن التبتل الحاصل إليه بسبب كونه مبدأ للتكميل مقدم على التبتل الحاصل إليه بسبب كونه كاملاً في ذاته لأن الإنسان في مبدأ السير يكون طالباً للحصة فيكون تبتله إلى الله تعالى بسبب كونه مبدأ للتكميل والإحسان ثم في آخر السير يترقى عن طلب الحصة كما بينا من أنه يصير طالباً للمعروف لا للعرفان فيكون تبتله في هذه الحالة بسبب كونه كاملاً فقوله رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إشارة إلى الحالة الأولى التي هي أول درجات المتبتلين وقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ إشارة إلى الحالة الثانية التي هي منتهى درجات المتبتلين ومنتهى أقدام الصديقين فسبحان من له تحت كل كلمة سر مخفي ثم وراء هاتين الحالتين مقام آخر وهو مقام التفويض وهو أن يرفع الاختيار من البين ويفوض الأمر بالكلية إليه فإن أراد الحق به أن يجعله متبتلاً رضي بالتبتل لا من حيث إنه هو بل من حيث إنه مراد الحق وإن أراد به عدم التبتل رضي بعدم التبتل لا من حيث إنه عدم التبتيل بل من حيث إنه مراد الحق وههنا آخر الدرجات وقوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً إشارة إلى هذه الحالة فهذا ما جرى به القلم في تفسير في هذه الآية وفي الزوايا خبايا ومن أسرار هذه الآية بقايا وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ( لقمان 27 )
المسألة الثانية رَبّ فيه قراءتان إحداهما الرفع وفيه وجهان أحدهما على المدح والتقدير هو رب المشرق فيكون خبر مبتدأ محذوف كقوله بِشَرّ مّن ذالِكُمُ النَّارُ وقوله مَتَاعٌ قَلِيلٌ(30/158)
( آل عمران 197 ) أي تقلبهم متاع قليل والثاني أن ترفعه بالابتداء وخبره الجملة التي هي لاَ إله إِلاَّ هُوَ والعائد إليه الضمير المنفصل والقراءة الثانية الخفض وفيها وجهان الأول على البدل مِن رَبّكَ ( المزمل 8 ) والثاني قال ابن عباس على القسم بإضمار حرف القسم كقولك الله لأفعلن وجوابه لاَ إله إِلاَّ هُوَ كما تقول والله لا أحد في الدار إلا زيد وقرأ ابن عباس رَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ
أما قوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً فالمعنى أنه لما ثبت أنه لا إله إلا هو لزمك أن تتخذه وكيلاً وأن تفوض كل أمورك إليه وههنا مقام عظيم فإنه لما كانت معرفة أنه لا إله إلا هو توجب تفويض كل الأمور إليه دل هذا على أن من لا يفوض كل الأمور إليه فإنه غير عالم بحقيقة لا إله إلا هو وتقريره أن كل ما سواه ممكن ومحدث وكل ممكن ومحدث فإنه مالم ينته إلى الواجب لذاته لم يجب ولما كان الواجب لذاته واحداً كان جميع الممكنات مستندة إليه منتهية إليه وهذا هو المراد من قوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وقال بعضهم وَكِيلاً أي كفيلاً بما وعدك من النصر والإظهار
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً
المعنى إنك لما اتخذتني وكيلاً فاصبر على ما يقولون وفوض أمرهم إلي فإنني لما كنت وكيلاً لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بإصلاح أمور نفسك واعلم أن مهمات العباد محصورة في أمرين كيفية معاملتهم مع الله وكيفية معاملتهم مع الخلق والأول أهم من الثاني فلما ذكر تعالى في أول هذه السورة ما يتعلق بالقسم الأول أتبعه بما يتعلق بالقسم الثاني وهو سبحانه جمع كل ما يحتاج إليه من هذا الباب في هاتين الكلمتين وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطاً للناس أو مجانباً عنهم فإن خالطهم فلا بد له من المصابرة على إيذائهم وإيحاشهم فإنه إن كان يطمع منهم في الخير والراحة لم يجد فيقع في الغموم والأحزان فثبت أن من أراد مخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير فأما إن ترك المخالطة فذاك هو الهجر الجميل فثبت أنه لا بد لكل إنسان من أحد هذين الأمرين والهجر الجميل أن يجانبهم بقلبه وهواه ويخالفهم في الأفعال مع المدارة والإغضاء وترك المكافأة ونظيره فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ( النساء 63 ) وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) فَأَعْرَضَ عَمَّ مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ( النجم 29 ) قال المفسرون هذه الآية إنما نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بالأمر بالقتال وقال آخرون بل ذلك هو الأخذ بإذن الله فيما يكون أدعى إلى القبول فلا يرد النسخ في مثله وهذا أصح
وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَة ِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً
اعلم أنه إذا اهتم إنسان بمهم وكان غيره قادراً على كفاية ذلك المهم على سبيل التمام والكمال قال له ذرني أنا وذاك أي لا حاجة مع اهتمامي بذاك إلى شيء آخر وهو كقوله فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ ( القلم 44 ) وقوله أُوْلِى النَّعْمَة ِ بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة يقال أنعم بك ونعمك عيناً أي أسرَّ عينك وهم صناديد قريش وكانوا أهل تنعم وترفه وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً فيه وجهان أحدهما المراد من القليل الحياة الدنيا والثاني المراد من القليل تلك المدة القليلة الباقية إلى يوم بدر فإن الله أهلكهم في ذلك اليوم(30/159)
ثم ذكر كيفية عذابهم عند الله فقال
إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّة ٍ وَعَذَاباً أَلِيماً
أي إن لدينا في الآخرة ما يضاد تنعمهم في الدنيا وذكر أموراً أربعة أولها قوله أَنكَالاً واحدها نكل ونكل قال الواحدي النكل القيد وقال صاحب الكشاف النكل القيد الثقيل وثانيها قوله وَجَحِيماً ولا حاجة به إلى التفسير وثالثها قوله وَطَعَاماً ذَا غُصَّة ٍ الغصة ما يغص به الإنسان وذلك الطعام هو الزقوم والضريع كما قال تعالى لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ( الغاشية 6 ) قالوا إنه شوك كالعوسج يأخذ بالحلق يدخل ولا يخرج ورابعها قوله وَعَذَاباً أَلِيماً والمراد منه سائر أنواع العذاب واعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية أما الأنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة فبعد البدن يشتد الحنين مع أن آلات الكسب قد بطلت فصارت تلك كالأنكال والقيود المانعة له من التخلص إلى عالم الروح والصفاء ثم يتولد من تلك القيود الروحانية نيران روحانية فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها يوجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء ثم إنه لا يجده فإنه يحترق قلبه عليه فذاك هو الجحيم ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق فذاك هو المراد من قوله وَطَعَاماً ذَا غُصَّة ٍ ثم إنه بسبب هذه الأحوال بقي محروماً عن تجلي نور الله والانخراط في سلك المقدسين وذلك هو المراد من قوله وَعَذَاباً أَلِيماً والتنكير في قوله وَعَذَاباً يدل على أن هذا العذاب أشد مما تقدم وأكمل واعلم أني لا أقول المراد بهذه الآيات هو ما ذكرته فقط بل أقول إنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية وحصول المراتب الأربعة الروحانية ولا يمتنع حمله عليهما وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازاً متعارفاً مشهوراً
ثم إنه تعالى لما وصف العذاب أخبر أنه متى يكون ذلك فقال تعالى
يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج يَوْمٍ منصوب بقول إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً ( المزمل 12 ) أي ننكل بالكافرين ونعذبهم يوم ترجف الأرض
المسألة الثانية الرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة والكثيب القطعة العظيمة من الرمل تجتمع محدودبة وجمعه الكثبان وفي كيفية الاشتقاق قولان أحدهما أنه من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول والثاني قال الليث الكثيب نثر التراب أو الشيء يرمي به والفعل اللازم انكثب ينكثب انكثاباً وسمي الكثيب كثيباً لأن ترابه دقاق كأنه مكثوب منثور بعضه على بعض لرخاوته وقوله مَّهِيلاً أي سائلاً قد أسيل يقال تراب مهيل ومهيول أي مصبوب ومسيل الأكثر في اللغة مهيل وهو مثل قولك مكيل ومكيول ومدين ومديون وذلك أن الياء تحذف منه الضمة فتسكن والواو أيضاً ساكنة فتحذف الواو(30/160)
لالتقاء الساكنين ذكره الفراء والزجاج وإذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى يفرق تركيب أجزاء الجبال وينسفها نسفاً ويجعلها كالعهن المنفوش فعند ذلك تصير كالكثيب ثم إنه تعالى يحركها على ما قال وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ ( الكهف 47 ) وقال وَهِى َ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ( النمل 88 ) وقال وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ ( النبإ 20 ) فعند ذلك تصير مهيلاً فإن قيل لم لم يقل وكانت الجبال كثباناً مهيلة قلنا لأنها بأسرها تجتمع فتصير كثيباً واحداً مهيلاً
واعلم أنه تعالى لما خوف المكذبين أولي النعمة بأهوال القيامة خوفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا فقال تعالى
إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً
واعلم أن الخطاب لأهل مكة والمقصود تهديدهم بالأخذ الوبيل وههنا سؤالات
السؤال الأول لم نكر الرسول ثم عرف الجواب التقدير أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه فأخذناه أخذاً وبيلاً فأرسلنا إليكم أيضاً رسولاً فعصيتم ذلك الرسول فلا بد وأن نأخذكم أخذاً وبيلا
السؤال الثاني هل يمكن التمسك بهذه الآية في إثبات أن القياس حجة والجواب نعم لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى فإن قيل هب أن القياس في هذه الصورة حجة فلم قلتم إنه في سائر الصور حجة وحينئذ يحتاج إلى قياس سائر القياسات على هذا القياس فيكون ذلك إثباتاً للقياس بالقياس وإنه غير جائز قلنا لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم بل وجه التمسك هو أن نقول لولا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظناً يجب اشتراكهما في الحكم وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم ههنا فإن لقائل أن يقول لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حالة العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة ههنا فلا يلزم حصول الأخذ الوبيل ههنا ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم بالتسوية في الحكم فهذا الجزم لا بد وأن يقال إنه كان مسبوقاً بتقرير أنه متى وقع الاشتراك في المناط الظاهر وجب الجزم بالاشتراك في الحكم وإن مجرد احتمال الفرق بالأشياء التي لا يعلم كونها مناسبة للحكم لا يكون قادحاً في تلك التسوية فلا معنى لقولنا القياس حجة إلا هذا
السؤال الثالث لم ذكر في هذا الموضع قصة موسى وفرعون على التعيين دون سائر الرسل والأمم الجواب لأن أهل مكة ازدروا محمداً عليه الصلاة والسلام واستخفوا به لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى موسى لأنه رباه وولد فيما بينهم وهو قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً ( الشعراء 18 )
السؤال الرابع ما معنى كون الرسول شاهداً عليهم الجواب من وجهين الأول أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم الثاني المراد كونه مبيناً للحق في الدنيا ومبيناً لبطلان ما هم عليه من(30/161)
الكفر لأن الشاهد بشهادته يبين الحق ولذلك وصفت بأنها بينة فلا يمتنع أن يوصف عليه الصلاة والسلام بذلك من حيث إنه بين الحق وهذا بعيد لأن الله تعالى قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) أي عدولاً خياراً لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) فبين أنه يكون شاهداً عليهم في المستقبل ولأن حمله على الشهادة في الآخرة حقيقة وحمله على البيان مجاز والحقيقة أولى
السؤال الخامس ما معنى الوبيل الجواب فيه وجهان الأول الوبيل الثقيل الغليظ ومنه قولهم صار هذا وبالاً عليهم أي أفضى به إلى غاية المكروه ومن هذا قيل للمطر العظيم وابل والوبيل العصا الضخمة الثاني قال أبو زيد الوبيل الذي لا يستمرأ وماء وبيل وخيم إذا كان غير مريء وكلأ مستوبل إذا أدت عاقبته إلى مكروه إذا عرفت هذا فنقول قوله فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً يعني الغرق قاله الكلبي ومقاتل وقتادة
ثم إنه تعالى عاد إلى تخويفهم بالقيامة مرة أخرى فقال تعالى
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي في الآية تقديم وتأخير أي فكيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم
المسألة الثانية ذكر صاحب ( الكشاف ) في قوله يَوْماً وجوهاً الأول أنه مفعول به أي فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهوله إن بقيتم على الكفر والثاني أن يكون ظرفاً أي وكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا والثالث أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء لأن تقوى الله لا معنى لها إلا خوف عقابه
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين الأول قوله يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وفيه وجهان الأول أنه مثل في الشدة يقال في اليوم الشديد يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب لأن كثرة الهموم توجب انقصار الروح إلى داخل القلب وذلك الانقصار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية وانطفاء الحرارة الغريزية وضعفها يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط وذلك يوجب ابيضاض الشعر فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوا الشيب كناية عن الشدة والمحنة وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الوالدان شيباً حقيقة لأن إيصال الألم والخوف إلى الصبيان غير جائز يوم القيامة الثاني يجوز أن يكون المراد وصف ذلك اليوم بالطول وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب ولقد سألني بعض الأدباء عن قول المعري
وظلم يملأ الفودين شيباً(30/162)
وقال كيف يفضل هذا التشبيه الذي في القرآن على بيت المعري فقلت من وجوه الأول أن امتلاء الفودين من الشيب ليس بعجب أما صيرورة الولدان شيباً فهو عجيب كأن شدة ذلك اليوم تنقلهم من سن الطفولية إلى سن الشيخوخة من غير أن يمروا فيما بين الحالتين بسن الشباب وهذا هو المبالغة العظيمة في وصف اليوم بالشدة وثانيها أن امتلاء الفودين من الشيب معناه ابيضاض الشعر وقد يبيض الشعر لعلة مع أن قوة الشباب تكون باقية فهذا ليس فيه مبالغة وأما الآية فإنها تدل على صيرورة الولدان شيوخاً في الضعف والنحافة وعدم طراوة الوجه وذلك نهاية في شدة ذلك اليوم وثالثها أن امتلاء الفودين من الشيب ليس فيه مبالغة لأن جانبي الرأس موضع للرطوبات الكثيرة البلغمية ولهذا السبب فإن الشيب إنما يحدث أولاً في الصدغين وبعده في سائر جوانب الرأس فحصول الشيب في الفودين ليس بمبالغة إنما المبالغة هو استيلاء الشيب على جميع أجزاء الرأس بل على جميع أجزاء البدن كما هو مذكور في الآية والله أعلم
النوع الثاني من أهوال يوم القيامة قوله السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ وهذا وصف لليوم بالشدة أيضاً وأن السماء على عظمها وقوتها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق ونظيره قوله إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الانفطار 1 ) وفيه سؤالان
السؤال الأول لم لم يقل منفطرة الجواب من وجوه أولها روى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء إنما قال السَّمَاء مُنفَطِرٌ ولم يقل منفطرة لأن مجازها مجاز السقف تقول هذا سماء البيت وثانيها قال الفراء السماء تؤنث وتذكر وهي ههنا في وجوه التذكير وأنشد شعراً فلو رفع السماء إليه قوما
لحقنا بالنجوم مع السحاب
وثالثها أن تأنيث السماء ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز تذكيره
قال الشاعر
والعين بالإثمد الخيري مكحول
وقال الأعشى فلا مزنة ودقت ودقها
ولا أرض أبقل إبقالها
ورابعها أن يكون السماء ذات انفطار فيكون من باب الجراد المنتشر والشجر الأخضر وأعجاز نخل منقعر وكقولهم امرأة مرضع أي ذات رضاع
السؤال الثاني ما معنى مُنفَطِرٌ بِهِ الجواب من وجوه أحدها قال الفراء المعنى منفطر فيه وثانيها أن الباء في ( به ) مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما ينفطر به وثالثها يجوز أن يراد السماء مثقلة به إثقالاً يؤدي إلى انفطارها لعظم تلك الواقعة عليها وخشيتها منها كقوله ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 187 )
أما قوله كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً فاعلم أن الضمير في قوله وَعْدَهُ يحتمل أن يكون عائداً إلى المفعول وأن يكون عائداً إلى الفاعل أما الأول فأن يكون المعنى وعد ذلك اليوم مفعول أي الوعد المضاف إلى ذلك اليوم واجب الوقوع لأن حكمة الله تعالى وعلمه يقتضيان إيقاعه وأما الثاني فأن يكون المعنى وعد(30/163)
الله واقع لا محالة لأنه تعالى منزه عن الكذب وههنا وإن لم يجر ذكر الله تعالى ولكنه حسن عود الضمير إليه لكونه معلوماً واعلم أنه تعالى بدأ في أول السورة بشرح أحوال السعداء ومعلوم أن أحوالهم قسمان أحدهما ما يتعلق بالدين والطاعة للمولى فقدم ذلك والثاني ما يتعلق بالمعاملة مع الخلق وبين ذلك بقوله وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ( المزمل 10 ) وأما الأشقياء فقد بدأ بتهديدهم على سبيل الإجمال وهو قوله تعالى وَذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ ( المزمل 11 ) ثم ذكره بعده أنواع عذاب الآخرة ثم ذكر بعده عذاب الدنيا وهو الأخذ الوبيل في الدنيا ثم وصف بعده شدة يوم القيامة فعند هذا تم البيان بالكلية فلا جرم ختم ذلك الكلام بقوله
إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَة ٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً
أي هذه الآيات تذكرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً واتخاذ السبيل عبارة عن الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَة ٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لاًّنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَة ٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ فيه مسألتان
المسألة الأولى المراد من قوله إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ أقل منهما وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز وإذا بعدت كثر ذلك
المسألة الثانية قرىء وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب والمعنى أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف ( والثلث ) وقرىء وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالجر أي تقوم أقل من الثلثين والنصف والثلث لكنا بينا في تفسير قوله قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ( المزمل 2 ) أنه لا يلزم من هذا أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام كان تاركاً للواجب وقوله تعالى وَطَائِفَة ٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وهم أصحابك يقومون من الليل هذا المقدار المذكور
قوله تعالى وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ يعني أن العالم بمقادير أجزاء الليل والنهار ليس إلا الله تعالى
قوله تعالى عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فيه مسألتان
المسألة الأولى الضمير في أَن لَّن تُحْصُوهُ عائد إلى مصدر مقدر أي علم أنه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة ولا يمكنكم أيضاً تحصيل تلك المقادير على سبيل الطعن والاحتياط إلا مع المشقة التامة قال مقاتل كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر به من قيام ما فرض عليه(30/164)
المسألة الثانية احتج بعضهم على تكليف مالا يطاق بأنه تعالى قال لَّن تُحْصُوهُ أي لن تطيقوه ثم إنه كان قد كلفهم به ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد صعوبته لا أنهم لا يقدرون عليه كقول القائل ما أطيق أن أنظر إلى فلان إذا استثقل النظر إليه
وقوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ هو عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر كقوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ ( البقرة 187 ) والمعنى أنه رفع التبعة عنكم في ترك هذا العمل كما رفع التبعة عن التائب
قوله تعالى فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ وفيه قولان الأول أن المراد من هذه القراءة الصلاة لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة فأطلق اسم الجزء على الكل أي فصلوا ما تيسر عليكم ثم ههنا قولان الأول قال الحسن يعني في صلاة المغرب والعشاء وقال آخرون بل نسخ وجوب ذلك التهجد واكتفى بما تيسر منه ثم نسخ ذلك أيضاً بالصلوات الخمس القول الثاني أن المراد من قوله فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ قراءة القرآن بعينها والغرض منه دراسة القرآن ليحصل الأمن من النسيان قيل يقرأ مائة آية وقيل من قرأ مائة آية كتب من القانتين وقيل خمسين آية ومنهم من قال بل السورة القصيرة كافية لأن إسقاط التهجد إنما كان دفعاً للحرج وفي القراءة الكثيرة حرج فلا يمكن اعتبارها وههنا بحث آخر وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال سقط عن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قيام الليل وصارت تطوعاً وبقي ذلك فرضاً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ثم إنه تعالى ذكر الحكمة في هذا النسخ فقال تعالى عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى
واعلم أن تقدير هذه الآية كأنه قيل لم نسخ الله ذلك فقال لأنه علم كذا وكذا والمعنى لتعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض للتجارة والمجاهدين في سبيل الله أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم وأما المسافرون والمجاهدون فهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم وهذا السبب ما كان موجوداً في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال تعالى إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً ( المزمل 7 ) فلا جرم ما صار وجوب التهجد منسوخاً في حقه ومن لطائف هذه الآية أنه تعالى سوى بين المجاهدين والمسافرين للكسب الحلال وعن ابن مسعود ( أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء ) ثم أعاد مرة أخرى قوله فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وذلك للتأكيد ثم قال وَإِذْ أَخَذْنَا يعني المفروضة وَإِذْ أَخَذْنَا أي الواجبة وقيل زكاة الفطر لأنه لم يكن بمكة زكاة وإنما وجبت بعد ذلك ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنياً(30/165)
قوله تعالى وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه يريد سائر الصدقات وثانيها يريد أداء الزكاة على أحسن وجه وهو إخراجها من أطيب الأموال وأكثرها نفعاً للفقراء ومراعاة النية وابتغاء وجه الله والصرف إلى المستحق وثالثها يريد كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال
ثم ذكر تعالى الحكمة في إعطاء المال فقال وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس تجدوه عند الله خيراً وأعظم أجراً من الذي تؤخره إلى وصيتك عند الموت وقال الزجاج وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً لكم من متاع الدنيا والقول ما قاله ابن عباس
المسألة الثانية معنى الآية وما تقدموا لأنفسكم من خير فإنكم تجدوه عند الله خيراً وأعظم أجراً إلا أنه قال هو خيراً للتأكيد والمبالغة وقرأ أبو السمال هو خير وأعظم أجراً بالرفع على الابتداء والخبر ثم قال وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ لذنوبكم والتقصيرات الصادرة منكم خاصة في قيام الليل أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوب المؤمنين رَّحِيمٌ بهم وفي الغفور قولان أحدهما أنه غفور لجميع الذنوب وهو قول مقاتل والثاني أنه غفور لمن يصر على الذنب احتج مقاتل على قوله بوجهين الأول أن قوله غَفُورٌ رَّحِيمٌ يتناول التائب والمصر بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده عنه وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل والثاني أن غفران التائب واجب عند الخصم ولا يحصل المدح بأداء الواجب والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقاً للمدح والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين(30/166)
سورة المدثر
خمسون وست آيات مكية وعند بعضهم
أنها أول ما نزل
ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ
فيه مسائل
المسألة الأولى المدثر أصله المتدثر وهو الذي يتدثر بثيابه لينام أو ليستدفىء يقال تدثر بثوبه والدثار اسم لما يتدثر به ثم أدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما
المسألة الثانية أجمعوا على أن المدثر هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واختلفوا في أنه عليه الصلاة والسلام لم سمي مدثراً فمنهم من أجراه على ظاهره وهو أنه كان متدثراً بثوبه ومنهم من ترك هذا الظاهر أما على الوجه الأول فاختلفوا في أنه لأي سبب تدثر بثوبه على وجوه أحدها أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن روى جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال ( كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئاً فنظرت فوقي فرأيت الملك قاعداً على عرش بين السماء والأرض فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت دثروني دثروني وصبوا علي ماء بارداً فنزل جبريل عليه السلام بقوله رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ ) وثانيها أن النفر الذين آذوا رسول الله وهم أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل اجتمعوا وقالوا إن وفود العرب يجتمعون في أيام الحج ويسألوننا عن أمر محمد فكل واحد منا يجيب بجواب آخر فواحد يقول مجنون وآخر يقول كاهن وآخر يقول شاعر فالعرب يستدلون باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة فتعالوا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد فقال واحد إنه شاعر فقال الوليد سمعت كلام عبيد بن الأبرص وكلام أمية بن أبي الصلت وكلامه ما يشبه كلامهما وقال آخرون كاهن قال الوليد ومن الكاهن قالوا الذي يصدق تارة ويكذب أخرى قال الوليد ما كذب محمد قط فقال آخر إنه مجنون فقال الوليد ومن يكون المجنون قالوا مخيف الناس فقال الوليد ما أخيف بمحمد أحد قط ثم قام الوليد وانصرف إلى(30/167)
بيته فقال الناس صبأ الوليد بن المغيرة فدخل عليه أبو جهل وقال مالك يا أبا عبد شمس هذه قريش تجمع لك شيئاً زعموا أنك احتججت وصبأت فقال الوليد مالي إليه حاجة ولكني فكرت في محمد فقلت إنه ساحر لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه وبين الأخوين وبين المرأة وزوجها ثم إنهم أجمعوا على تلقيب محمد عليه الصلاة والسلام بهذا اللقب ثم إنهم خرجوا فصرخوا بمكة والناس مجتمعون فقالوا إن محمداً لساحر فوقعت الضجة في الناس أن محمداً ساحر فلما سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزوناً فتدثر بثوبه فأنزل الله تعالى رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام كان نائماً متدثراً بثيابه فجاءه جبريل عليه السلام وأيقظه وقال رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ كأنه قال له اترك التدثر بالثياب والنوم واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله له
القول الثاني أنه ليس المراد من المدثر المتدثر بالثياب وعلى هذا الاحتمال فيه وجوه أحدها أن المراد كونه متدثراً بدثار النبوة والرسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى وزينه برداء العلم ويقال تلبس فلان بأمر كذا فالمراد رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ بدثار النبوة قُمْ فَأَنذِرْ ( المدثر 2 ) وثانيها أن المتدثر بالثوب يكون كالمختفي فيه وأنه عليه الصلاة والسلام في جبل حراء كان كالمختفي من الناس فكأنه قيل يا أيها المتدثر بدثار الخمول والاختفاء قم بهذا الأمر واخرج من زاوية الخمول واشتغل بإنذار الخلق والدعوة إلى معرفة الحق وثالثها أنه تعالى جعله رحمة للعالمين فكأنه قيل له يا أيها المدثر بأثواب العلم العظيم والخلق الكريم والرحمة الكاملة قم فأنذر عذاب ربك
المسألة الثالثة عن عكرمة أنه قرىء على لفظ اسم المفعول من دثره كأنه قيل له دثرت هذا الأمر وعصيت به وقد سبق نظيره في المزمل
قُمْ فَأَنذِرْ
في قوله قُمِ وجهان أحدهما قم من مضجعك والثاني قم قيام عزم وتصميم وفي قوله فَأَنذِرْ وجهان أحدهما حذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا وقال ابن عباس قم نذيراً للبشر احتج القائلون بالقول الأول بقوله تعالى وَأَنذِرِ واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ ( سبأ 28 ) وههنا قول ثالث وهو أن المراد فاشتغل بفعل الإنذار كأنه تعالى يقول له تهيأ لهذه الحرفة فإنه فرق بين أن يقال تعلم صنعة المناظرة وبين أن يقال ناظر زيداً
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
فيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير التكبير وجوهاً أحدها قال الكلبي عظم ربك مما يقوله عبدة الأوثان وثانيها قال مقاتل هو أن يقول الله أكبر روى أنه ( لما نزلت هذه الآية قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال الله أكبر كبيراً فكبرت خديجة وفرحت وعلمت أنه أوحى إليه ) وثالثها المراد منه التكبير في الصلوات فإن قيل هذه السورة نزلت في أول البعث وما كانت الصلاة واجبة في ذلك الوقت قلنا لا يبعد أنه كانت له عليه السلام صلوات تطوعية فأمر أن يكبر ربه فيها ورابعها يحتمل عندي أن يكون المراد أنه لما قيل له قُمْ فَأَنذِرْ قيل بعد ذلك وَرَبَّكَ فَكَبّرْ عن اللغو والعبث(30/168)
واعلم أنه ما أمرك بهذا الإنذار إلا لحكمة بالغة ومهمات عظيمة لا يجوز لك الإخلال بها فقوله وَرَبُّكَ كالتأكيد في تقرير قوله قُمْ فَأَنذِرْ وخامسها عندي فيه وجه آخر وهو أنه لما أمره بالإنذار فكأن سائلاً سأل وقال بماذا ينذر فقال أن يكبر ربه عن الشركاء والأضداد والأنداد ومشابهة الممكنات والمحدثات ونظير قوله في سورة النحل أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ ( النحل 2 ) وهذا تنبيه على أن الدعوة إلى معرفة الله ومعرفة تنزيهه مقدمة على سائر أنواع الدعوات
المسألة الثانية الفاء في قوله فَكَبّرْ ذكروا فيه وجوهاً أحدها قال أبو الفتح الموصلي يقال زيداً فاضرب وعمراً فاشكر وتقديره زيداً اضرب وعمراً اشكر فعنده أن الفاء زائدة وثانيها قال الزجاج دخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية والمعنى قم فكبر ربك وكذلك ما بعده على هذا التأويل وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) الفاء لإفادة معنى الشرط والتقدير وأي شيء كان فلا تدع تكبيره
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
اعلم أن تفسير هذه الآية يقع على أربعة أوجه أحدها أن يترك لفظ الثياب والتطهير على ظاهره والثاني أن يترك لفظ الثياب على حقيقته ويحمل لفظ التطهير على مجازه الثالث أن يحمل لفظ الثياب على مجازه ويترك لفظ التطهير على حقيقته والرابع أن يحمل اللفظان على المجاز أما الاحتمال الأول وهو أن يترك لفظ الثياب ولفظ التطهير على حقيقته فهو أن نقول المراد منه أنه عليه الصلاة والسلام أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار وعلى هذا التقدير يظهر في الآية ثلاثة احتمالات أحدها قال الشافعي المقصود منه الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس وثانيها قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كان المشركون ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات وثالثها روي أنهم ألقوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سلى شاة فشق عليه ورجع إلى بيته حزيناً وتدثر بثيابه فقيل رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ( المدثر 1 2 ) ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار وَرَبَّكَ فَكَبّرْ ( المدثر 3 ) عن أن لا ينتقم منهم وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ عن تلك النجاسات والقاذورات الاحتمال الثاني أن يبقى لفظ الثياب على حقيقته ويجعل لفظ التطهير على مجازه فهنا قولان الأول أن المراد من قوله فَطَهّرْ أي فقصر وذلك لأن العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم فكانت ثيابهم تتنجس ولأن تطويل الذيل إنما يفعل للخيلاء والكبر فنهى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك القول الثاني وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ أي ينبغي أن تكون الثياب التي تلبسها مطهرة عن أن تكون مغصوبة أو محرمة بل تكون مكتسبة من وجه حلال الاحتمال الثالث أن يبقى لفظ التطهير على حقيقته ويحمل لفظ الثياب على مجازه وذلك أن يحمل لفظ الثياب على الحقيقة وذلك لأن العرب ما كانوا يتنظفون وقت الاستنجاء فأمر عليه الصلاة والسلام بذلك التنظيف وقد يجعل لفظ الثياب كناية عن النفس
قال عنترة فشككت بالرمح الأصم ثيابه ( أي نفسه )
ولهذا قال ليس الكريم على القنا بمحرم(30/169)
الاحتمال الرابع وهو أن يحمل لفظ الثياب ولفظ التطهير على المجاز وذكروا على هذا الاحتمال وجوهاً الأول وهو قول أكثر المفسرين وقلبك فطهر عن الصفات المذمومة وعن الحسن وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ قال وخلقك فحسن قال القفال وهذا يحتمل وجوهاً أحدها أن الكفار لما لقبوه بالساحر شق ذلك عليه جداً حتى رجع إلى بيته وتدثر بثيابه وكان ذلك إظهار جزع وقلة صبر يقتضيه سوء الخلق فقيل له قُمْ فَأَنذِرْ ( المدثر 2 ) ولا تحملنك سفاهتهم على ترك إنذارهم بل حسن خلقك والثاني أنه زجر عن التخلق بأخلاقهم فقيل له طهر ثيابك أي قلبك عن أخلاقهم في الافتراء والتقول والكذب وقطع الرحم والثالث فطهر نفسك وقلبك عن أن تعزم على الانتقام منهم والإساءة إليهم ثم إذا فسرنا الآية بهذا الوجه ففي كيفية اتصالها بما قبلها وجهان الأول أن يقال إن الله تعالى لما ناداه في أول السورة فقال رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ ( المدثر 1 ) وكان التدثر لباساً والدثار من الثياب قيل طهر ثيابك التي أنت متدثر بها عن أن تلبسها على هذا التفكر والجزع والضجر من افتراء المشركين الوجه الثاني أن يفسر المدثر بكونه متدثراً بالنبوة كأنه قيل يا أيها المتدثر بالنبوة طهر ما تدثرت به عن الجزع وقلة الصبر والغضب والحقد فإن ذلك لا يليق بهذا الدثار ثم أوضح ذلك بقوله وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ ( المدثر 7 ) واعلم أن حمل المدثر على المتصف ببعض الصفات جائز يقال فلان طاهر الجيب نقي الذيل إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ويقال فلان دنس الثياب إذا كان موصوفاً بالأخلاق الذميمة قال الشاعر فلا أب وابناً مثل مروان وابنه
إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
والسبب في حسن هذه الكناية وجهان الأول أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان فلهذا السبب جعلوا الثواب كناية عن الإنسان يقال المجد في ثوبه والعفة في إزاره والثاني أن الغالب أن من طهر باطنه فإنه يطهر ظاهره الوجه الثاني في تأويل الآية أن قوله وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ أمر له بالاحتراز عن الآثام والأوزار التي كان يقدم عليها قبل النبوة وهذا على تأويل من حمل قوله وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ ( الشرح 2 3 ) على أيام الجاهلية الوجه الثاني في تأويل الآية قال محمد بن عرفة النحوي معناه نساءك طهرهن وقد يكنى عن النساء بالثياب قال تعالى هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ( البقرة 187 ) وهذا التأويل بعيد لأن على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ
فيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في الرجز وجوهاً الأول قال العتبي الرجز العذاب قال الله تعالى لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ ( الأعراف 134 ) أي العذاب ثم سمي كيد الشيطان رجزاً لأنه سبب للعذاب وسميت الأصنام رجزاً لهذا المعنى أيضاً فعلى هذا القول تكون الآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي ثم على هذا القول احتمالان أحدهما أن قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ يعني كل ما يؤدي إلى الرجز فاهجره والتقدير وذا الزجر فاهجر أي ذا العذاب فيكون المضاف محذوفاً والثاني أنه سمي إلى ما يؤدي إلى العذاب عذاباً تسمية للشيء باسم ما يجاوره ويتصل به القول الثاني أن الرجز اسم للقبيح المستقذر وهو معنى(30/170)
الرجس فقوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ كلام جامع في مكارم الأخلاق كأنه قيل له اهجر الجفاء والسفه وكل شيء قبيح ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز وهذا يشاكل تأويل من فسر قوله وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ ( المدثر 4 ) على تحسين الخلق وتطهير النفس عن المعاصي والقبائح
المسألة الثانية احتج من جوز المعاصي على الأنبياء بهذه الآية قال لولا أنه كان مشتغلاً بها وإلا لما زجر عنها بقوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ والجواب المراد منه الأمر بالمداومة على ذلك الهجران كما أن المسلم إذا قال اهدنا فليس معناه أنا لسنا على الهداية فاهدنا بل المراد ثبتنا على هذه الهداية فكذا ههنا
المسألة الثالثة قرأ عاصم في رواية حفص والرجز بضم الراء في هذه السورة وفي سائر القرآن بكسر الراء وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالكسر وقرأ يعقوب بالضم ثم قال الفراء هما لغتان والمعنى واحد وفي كتاب الخليل الرجز بضم الراء عبادة الأوثان وبكسر الراء العذاب ووسواس الشيطان أيضاً رجز وقال أبو عبيدة أفشى اللغتين وأكثرهما الكسر
وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ
فيه مسائل
المسألة الأولى القراءة المشهورة تستكثر برفع الراء وفيه ثلاثة أوجه أحدها أن يكون التقدير ولا تمنن لتستكثر فتنزع اللام فيرتفع وثانيها أن يكون التقدير لا تمنن أن تستكثر ثم تحذف أن الناصبة فتسلم الكلمة من الناصب والجازم فترتفع ويكون مجاز الكلام لا تعط لأن تستكثر وثالثها أنه حال متوقعة أي لا تمنن مقدراً أن تستكثر قال أبو علي الفارسي هو مثل قولك مررت برجل معه صقر صائداً به غدا أي مقدراً للصيد فكذا ههنا المعنى مقدراً الاستكثار قال ويجوز أن يحكي به حالاً أتية إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في تفسير الآية وجوهاً أحدها أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء إنذار القوم وتكبير الرب وتطهير الثياب وهجر الرجز ثم قال وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ أي لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما تفعله بل اصبر على ذلك كله لوجه ربك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه قال الحسن لا تمنن على ربك بحسناتك فتستكثرها وثانيها لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام فإنك إنما فعلت ذلك بأمر الله فلا منة لك عليهم ولهذا قال وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ ( المدثر 7 ) وثالثها لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر أي لتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به مالك ورابعها لا تمنن أي لا تضعف من قولهم حبل منين أي ضعيف يقال منه السير أي أضعفة والتقدير فلا تضعف أن تستكثر من هذه الطاعات الأربعة التي أمرت بها قبل هذه الآية ومن ذهب إلى هذا قال هو مثل قوله أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ ( الزمر 64 ) أي أن أعبد فحذفت أن وذكر الفراء أن في قراءة عبد الله ( ولا تمتن تستكثر ) وهذا يشهد لهذا التأويل وهذا القول اختيار مجاهد وخامسها وهو قول أكثر المفسرين أن معنى قوله وَلاَ تَمْنُن أي لا تعط يقال مننت فلاناً كذا أي أعطيته قال هَاذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ( ص 39 ) أي فأعط أو أمسك وأصله أن من أعطى فقد من فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة فالمعنى ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه وعلى هذا التأويل سؤالات
السؤال الأول ما الحكمة في أن الله تعالى منعه من هذا العمل الجواب الحكمة فيه من وجوه الأول لأجل أن تكون عطاياه لأجل الله لا لأجل طلب الدنيا فإنه نهى عن طلب الدنيا في قوله وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ(30/171)
( الحجر 88 ) وذلك لأن طلب الدنيا لا بد وأن تكون الدنيا عنده عزيزة ومن كان كذلك لم يصلح لأداء الرسالة الثاني أن من أعطى غيره القليل من الدنيا ليأخذ الكثير لا بد وأن يتواضع لذلك الغير ويتضرع له وذلك لا يليق بمنصب النبوة لأنه يوجب دناءة الآخذ ولهذا السبب حرمت الصدقات عليه وتنفير المأخوذ منه ولهذا قال أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ( الطور 40 )
السؤال الثاني هذا النهي مختص بالرسول عليه الصلاة والسلام أم يتناول الأمة الجواب ظاهر اللفظ لا يفيد العموم وقرينة الحال لا تقتضي العموم لأنه عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة وهذا المعنى غير موجود في الأمة ومن الناس من قال هذا المعنى في حق الأمة هو الرياء والله تعالى منع الكل من ذلك
السؤال الثالث بتقدير أن يكون هذا النهي مختصاً بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهو نهي تحريم أو نهي تنزيه والجواب ظاهر النهي للتحريم الوجه السادس في تأويل الآية قال القفال يحتمل أن يكون المقصد من الآية أن يحرم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعطي لأحد شيئاً لطلب عوض سواء كان ذلك العوض زائداً أو ناقصاً أو مساوياً ويكون معنى قوله تَسْتَكْثِرُ أي طالباً للكثرة كارهاً أن ينقص المال بسبب العطاء فيكون الاستكثار ههنا عبارة عن طلب العوض كيف كان وإنما حسنت هذه الاستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائداً على العطاء فسمى طلب الثواب استكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها فسمي الولد ربيباً ثم اتسع الأمر فسمي ربيبا وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً ومن ذهب إلى هذا القول قال السبب فيه أن يصير عطاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خالياً عن انتظار العوض والتفات الناس إليه فيكون ذلك خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى الوجه السابع أن يكون المعنى ولا تمنن على الناس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثاراً منك لتلك العطية بل ينبغي أن تستقلها وتستحقرها وتكون كالمتعذر من ذلك المنعم عليه في ذلك الإنعام فإن الدنيا بأسرها قليلة فكيف ذلك القدر الذي هو قليل في غاية القلة بالنسبة إلى الدنيا وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة كالمرتبة فالوجه الأول معناه كونه عليه الصلاة والسلام ممنوعاً من طلب الزيادة في العوض والوجه الثاني معناه كونه ممنوعاً عن طلب مطلق العوض زائداً كان أو مساوياً أو ناقصاً والوجه الثالث معناه أن يعطي وينسب نفسه إلى التقصير ويجعل نفسه تحت منة المنعم عليه حيث قبل منه ذلك الإنعام الوجه الثامن معناه إذا أعطيت شيئاً فلا ينبغي أن تمن عليه بسبب أنك تستكثر تلك العطية فإن المن محبط لثواب العمل قال تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ بِرَبّ النَّاسِ ( البقرة 264 )
المسألة الثانية قرأ الحسن تَسْتَكْثِرُ بالجزم وأكثر المحققين أبوا هذه القراءة ومنهم من قبلها وذكروا في صحتها ثلاثة أوجه أحدها كأنه قيل لا تمنن لا تستكثر وثانيها أن يكون أراد تستكثر فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات كما حكاه أبو زيد في قوله تعالى بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ بإسكان اللام وثالثها أن يعتبر حال الوقف وقرأ الأعمش تَسْتَكْثِرُ بالنصب بإضمار أن كقوله ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى
ويؤيده قراءة ابن مسعود ولا تمنن أن تستكثر(30/172)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ
فيه وجوه أحدها إذا أعطيت المال فاصبر على ترك المن والاستكثار أي أترك هذا الأمر لأجل مرضاة ربك وثانيها إذا أعطيت المال فلا تطلب العوض وليكن هذا الترك لأجل ربك وثالثها أنا أمرناك في أول هذه السورة بأشياء ونهيناك عن أشياء فاشتغل بتلك الأفعال والتروك لأجل أمر ربك فكأن ما قبل هذه الآية تكاليف بالأفعال والتروك وفي هذه الآية بين ما لأجله يجب أن يؤتى بتلك الأفعال والتروك وهو طلب رضا الرب ورابعها أنا ذكرنا أن الكفار لما اجتمعوا وبحثوا عن حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قام الوليد ودخل داره فقال القوم إن الوليد قد صبأ فدخل عليه أبو جهل وقال إن قريشاً جمعوا لك مالاً حتى لا تترك دين آبائك فهو لأجل ذلك المال بقي على كفره فقيل لمحمد إنه بقي على دينه الباطل لأجل المال وأما أنت فاصبر على دينك الحق لأجل رضا الحق لا لشيء غيره وخامسها أن هذا تعريض بالمشركين كأنه قيل له وَرَبَّكَ فَكَبّرْ ( المدثر 3 ) لا الأوثان وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ ( المدثر 4 ) ولا تكن كالمشركين نجس البدن والثياب وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ( المدثر 5 ) ولا تقربه كما تقربه الكفار وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ( المدثر 6 ) كما أراد الكفار أن يعطوا الوليد قدراً من المال وكانوا يستكثرون ذلك القليل وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ على هذه الطاعات لا للأغراض العاجلة من المال والجاه
فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ
اعلم أنه تعالى لما تمم ما يتعلق بإرشاد قدوة الأنبياء وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عدل عنه إلى شرح وعيد الأشقياء وهو هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى الفاء في قوله فَإِذَا نُقِرَ للسبب كأنه قال اصْبِر عَلَى أَذَاهُمْ فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى أنت عاقبة صبرك عليه
المسألة الثانية اختلفوا في أن الوقت الذي ينقر في الناقور أهو النفخة الأولى أم النفخة الثانية فالقول الأول أنه هو النفخة الأولى قال الحليمي في كتاب المنهاج أنه تعالى سمى الصور بأسمين أحدهما الصور والآخر الناقور وقول المفسرين إن الناقور هو الصور ثم لا شك أن الصور وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معاً فإن نفخة الإصعاق تخالف نفخة الإحياء وجاء في الأخبار أن في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلها وأنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية فيخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى فيحتمل أن يكون الصور محتوياً على آلتين ينقر في إحداهما وينفخ في الأخرى فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر والنفخ لتكون الصيحة أهد وأعظم وإذا نفخ فيه للإحياء لم ينقر فيه واقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها لا تنقيرها من أجسادها والنفخة الأولى للتنقير وهو نظير صوت الرعد فإنه إذا اشتد فربما مات سامعه والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت هذا آخر كلام الحليمي رحمه الله ولى فيه إشكال وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق وذلك اليوم غير شديد(30/173)
على الكافرين لأنهم يموتون في تلك الساعة إنما اليوم الشديد على الكافرين عند صيحة الإحياء ولذلك يقولون يا ليتها كانت القاضية أي يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى والقول الثاني إنه النفخة الثانية وذلك لأن الناقور هو الذي ينقر فيه أي ينكت فيجوز أنه إذا أريد أن ينفخ في المرة الثانية نقر أولاً فسمى ناقوراً لهذا المعنى وأقول في هذا اللفظ بحث وهو أن الناقور فاعول من النقر كالهاضوم ما يهضم به والحاطوم ما يحطم به فكان ينبغي أن يكون الناقور ما ينقر به لا ما ينقر فيه
المسألة الثالثة العامل في قوله فَإِذَا نُقِرَ هو المعنى الذي دل عليه قوله يَوْمٌ عَسِيرٌ ( المدثر 9 ) والتقدير إذا نقر في الناقور عسر الأمر وصعب
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
فيه مسائل
المسألة الأولى قوله فذلك إشارة إلى اليوم الذي ينقر فيه في الناقور والتقدير فذلك اليوم يَوْمٌ عَسِيرٌ وأما يَوْمَئِذٍ ففيه وجوه الأول أن يكون تفسيراً لقوله فَذَلِكَ لأن قوله فَذَلِكَ يحتمل أن يكون إشارة إلى النقر وأن يكون إشارة إلى اليوم المضاف إلى النقر فكأنه قال فذلك أعني اليوم المضاف إلى النقر يَوْمٌ عَسِيرٌ فيكون يَوْمَئِذٍ في محل النصب والثاني أن يكون يَوْمَئِذٍ مرفوع المحل بدلاً من ذلك وَيَوْمَ عَسِيرٌ خبر كأنه قيل فيوم النقر يَوْمٌ عَسِيرٌ فعلى هذا يومئذ في محل الرفع لكونه بدلاً من ذلك إلا أنه لما أضيف اليوم إلى إذ وهو غير متمكن بني على الفتح الثالث أن تقدير الآية فذلك النقر يومئذ نقر يَوْمٌ عَسِيرٌ على أن يكون العامل في يَوْمَئِذٍ هو النقر
المسألة الثانية عسر ذلك اليوم على الكافرين لأنهم يناقشون في الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم ويحشرون زرقاً وتتكلم جوارحهم فيفتضحون على رؤوس الأشهاد وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لأنهم لا يناقشون في الحساب ويحشرون بيض الوجوه ثقال الموازين ويحتمل أن يكون إنما وصفه الله تعالى بالعسر لأنه في نفسه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين على ما روى أن الأنبياء يومئذ يفزعون وأن الولدان يشيبون إلا أنه يكون هول الكفار فيه أشد فعلى القول الأول لا يحسن الوقف على قوله يَوْمٌ عَسِيرٌ فإن المعنى أنه على الكافرين عسير وغير يسير وعلى القول الثاني يحسب الوقف لأن المعنى أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر مخصوص فيه بزيادة خاصة وهو أنه عليه غير يسير فإن قيل فما فائدة قوله غَيْرُ يَسِيرٍ وعسير مغن عنه الجواب أما على القول الأول فالتكرير للتأكيد كما تقول أنا لك محب غير مبغض وولي غير عدو وأما على القول الثاني فقوله عَسِيرٌ يفيد أصل العسر الشامل للمؤمنين والكافرين وقوله غَيْرُ يَسِيرٍ يفيد الزيادة التي يختص بها الكافر لأن العسر قد يكون عسراً قليلاً يسيراً وقد يكون عسراً كثيراً فأثبت أصل العسر للكل وأثبت العسر بصفة الكثرة والقوة للكافرين
المسألة الثالثة قال ابن عباس لما قال إنه غير يسير على الكافرين كان يسيراً على المؤمنين فبعض من قال بدليل الخطاب قال لولا أن دليل الخطاب حجة وإلا لما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافر كونه يسيراً على المؤمن(30/174)
ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً
أجمعوا على أن المراد ههنا الوليد بن المغيرة وفي نصب قوله وحيداً وجوه الأول أنه نصب على الحال ثم يحتمل أن يكون حالاً من الخالق وأن يكون حالاً من المخلوق وكونه حالاً من الخالق على وجهين الأول ذرني وحدي معه فإني كاف في الانتقام منه والثاني خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد وأما كونه حالاً من المخلوق فعلى معنى أني خلقته حال ما كان وحيداً فريداً لا مال له ولا ولد كقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الأنعام 94 ) القول الثاني أنه نصب على الذم وذلك لأن الآية نزلت في الوليد وكان يلقب بالوحيد وكان يقول أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي نظير فالمراد ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ أعني وحيداً وطعن كثير من المتأخرين في هذا الوجه وقالوا لا يجوز أن يصدقه الله في دعواه أنه وحيد لا نظير له وهذا السؤال ذكره الواحدي وصاحب الكشاف وهو ضعيف من وجوه الأول أنا لما جعلنا الوحيد اسم علم فقد زال السؤال لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة بل هو قائم مقام الإشارة الثاني لم لا يجوز أن يحمل على كونه وحيداً في ظنه واعتقاده ونظيره قوله تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) الثالث أن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف بل هو كان يدعى لنفسه أنه وحيد في هذه الأمور فيمكن أن يقال أنت وحيد لكن في الكفر والخبث والدناءة القول الثالث أن وحيداً مفعول ثان لخلق قال أبو سعيد الضرير الوحيد الذي لا أب له وهو إشارة إلى الطعن في نسبه كما في قوله عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ( القلم 13 )
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً
في تفسير المال الممدود وجوه الأول المال الذي يكون له مدد يأتي من الجزء بعد الجزء على الدوام فلذلك فسره عمر بن الخطاب بغلة شهر شهر وثانيها أنه المال الذي يمد بالزيادة كالضرع والزرع وأنواع التجارات وثالثها أنه المال الذي امتد مكانه قال ابن عباس كان ماله ممدوداً ما بين مكة إلى الطائف ( من ) الإبل والخيل والغنم والبساتين الكثيرة بالطائف والأشجار والأنهار والنقد الكثير وقال مقاتل كان له بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفاً فالممدود هنا كما في قوله وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( الواقعة 30 ) أي لا ينقطع ورابعها أنه المال الكثير وذلك لأن المال الكثير إذا عدد فإنه يمتد تعديده ومن المفسرين من قدر المال الممدود فقال بعضهم ألف دينار وقال آخرون أربعة آلاف وقال آخرون ألف ألف وهذه التحكمات مما لا يميل إليها الطبع السليم
وَبَنِينَ شُهُوداً
فيه وجهان الأول بنين حضوراً معه بمكة لا يفارقونه البتة لأنهم كانوا أغنياء فما كانوا محتاجين إلى مفارقته لطلب كسب ومعيشة وكان هو مستأنساً بهم طيب القلب بسبب حضورهم والثاني يجوز أن يكون المراد من كونهم شهوداً أنهم رجال يشهدون معه المجامع والمحافل وعن مجاهد كانوا عشرة وقيل سبعة كلهم رجال الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد(30/175)
شمس أسلم منهم ثلاثة خالد وعمارة وهشام
وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً
أي وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا ولهذا المعنى يدعى بهذا فيقال أدام الله تمهيده أي بسطته وتصرفه في الأمور ومن المفسرين من جعل هذا التمهيد البسطة في العيش وطول العمر وكان الوليد من أكابر قريش ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
لفظ ثم ههنا معناه التعجب كما تقول لصاحبك أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني ونظيره قوله تعالى الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( الأنعام 1 ) فمعنى ( ثم ) ههنا للإنكار والتعجب ثم تلك الزيادة التي كان يطمع فيها هل هي زيادة في الدنيا أو في الآخرة فيه قولان الأول قال الكلبي ومقاتل ثم يرجو أن أزيد في ماله وولده وقد كفر بي الثاني أن تلك الزيادة في الآخرة قيل إنه كان يقول إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي ونظيره قوله تعالى أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ( مريم 77 )
كَلاَّ إِنَّهُ كان لاٌّ يَاتِنَا عَنِيداً
ثم قال تعالى كَلاَّ وهو ردع له عن ذلك الطمع الفاسد قال المفسرون ولم يزل الوليد في نقصان بعد قوله كَلاَّ حتى افتقر ومات فقيراً
قوله تعالى إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً إنه تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلاً قال لم لا يزاد فقيل لأنه كان لآياتنا عنيداً والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير وفي هذه الآية إشارة إلى أمور كثيرة من صفاته أحدها أنه كان معانداً في جميع الدلائل الدالة على التوحيد والعدل والقدرة وصحة النبوة وصحة البعث وكان هو منازعاً في الكل منكراً للكل وثانيها أن كفره كان كفر عناد كان يعرف هذه الأشياء بقلبه إلا أنه كان ينكرها بلسانه وكفر المعاند أفجش أنواع الكفر وثالثها أن قوله إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً يدل على أنه من قديم الزمان كان على هذه الحرفة والصنعة ورابعها أن قوله إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً يفيد أن تلك المعاندة كانت منه مختصة بآيات الله تعالى وبيناته فإن تقديره إنه كان لآياتنا عنيداً لا لآيات غيرنا فتخصيصه هذا العناد بآيات الله مع كونه تاركاً للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
أي سأكلفه صعوداً وفي الصعود قولان الأول أنه مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق مثل قوله يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ( الجن 17 ) وصعود من قولهم عقبة صعود وكدود شاقة المصعد والثاني أن صعوداً اسم لعقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت وعنه عليه الصلاة والسلام ( الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي كذلك فيه أبداً )
ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده فقال
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
يقال فكر في الأمر وتفكر إذا نظر فيه وتدبر ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاماً وهيأه وهو المراد من قوله فَقَدَرَ(30/176)
ثم قال تعالى
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
وهذا إنما يذكر عند التعجب والاستعظام ومثله قولهم قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره ومعناه أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك وإذا عرفت ذلك فنقول إنه يحتمل ههنا وجهين أحدهما أنه تعجيب من قوة خاطره يعني أنه لا يمكن القدح في أمر محمد عليه السلام بشبهة أعظم ولا أقوى مما ذكره هذا القائل والثاني الثناء عليه على طريقة الاستهزاء يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط
ثم قال
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
والمقصود من كلمه ثم ههنا الدلالة على أن الدعاء عليه في الكرة الثانية أبلغ من الأولى
ثم قال
ثُمَّ نَظَرَ
والمعنى أنه أولاً فكر وثانياً قدر وثالثاً نظر في ذلك المقدر فالنظر السابق للاستخراج والنظر اللاحق للتقدير وهذا هو الاحتياط فهذه المراتب الثلاثة متعلقة بأحوال قلبه
ثم إنه تعالى وصف بعد ذلك أحوال وجهه فقال
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن قوله عَبَسَ وَبَسَرَ يدل على أنه كان عارفاً في قلبه صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أنه كان يكفر به عناداً ويدل عليه وجوه الأول أنه بعد أن تفكر وتأمل قدر في نفسه كلاماً عزم على أنه يظهره ظهرت العبوسة في وجهه ولو كان معتقداً صحة ذلك الكلام لفرح باستنباطه وإدراكه ولكنه لما لم يفرح به علمنا أنه كان يعلم ضعف تلك الشبهة إلا أنه لشدة عناده ما كان يجد شبهة أجود من تلك الشبهة فلهذا السبب ظهرت العبوسة في وجهه الثاني ما روي أن الوليد مر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقرأ حم السجدة فلما وصل إلى قوله فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَة ً مّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ ( فصلت 13 ) أنشده الوليد بالله وبالرحم أن يسكت وهذا يدل على أنه كان يعلم أنه مقبول الدعاء صادق اللهجة ولما رجع الوليد قال لهم والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليعلو وما يعلى عليه فقالت قريش صبأ الوليد ولو صبأ لتصبأن قريش كلها فقال أبو جهل أنا أكفيكموه ثم دخل عليه محزوناً فقال مالك يا ابن الأخ فقال إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه وهذه قريش تجمع لك مالاً ليكون ذلك عوضاً مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد فقال والله ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالاً ولكني تفكرت في أمره كثيرة فلم أجد شيئاً يليق به إلا أنه ساحر فأقول استعظامه للقرآن واعترافه بأنه ليس من كلام الجن والإنس يدل على أنه كان في ادعاء السحر معانداً لأن السحر يتعلق بالجن والثالث أنه كان يعلم أن أمر السحر مبني على الكفر بالله والأفعال المنكرة وكان من الظاهر أن محمداً لا يدعو إلا إلى الله فكيف يليق به السحر فثبت بمجموع هذه الوجوه أنه إنما عَبَسَ وَبَسَرَ لأنه كان يعلم أن الذي يقوله كذب وبهتان
المسألة الثانية قال الليث عبس يعبس فهو عابس إذا قطب ما بين عينيه فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل كلح فإن اهتم لذلك وفكر فيه قيل بسر فإن غضب مع ذلك قيل بسل(30/177)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ
أدبر عن سائر الناس إلى أهله واستكبر أي تعظم عن الإيمان فقال إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ وإنما ذكره بفاء التعقيب ليعلم أنه لما ولى واستكبر ذكر هذه الشبهة وفي قوله يُؤْثَرُ وجهان الأول أنه من قولهم أثرت الحديث آثره أثراً إذا حدثت به عن قوم في آثارهم أي بعدما ماتوا هذا هو الأصل ثم صار بمعنى الرواية عمن كان والثاني يؤثر على جميع السحر وعلى هذا يكون هو من الإيثار
ثم قال
إِنْ هَاذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ
والمعنى أن هذا قول البشر ينسب ذلك إلى أنه ملتقط من كلام غيره ولو كان الأمر كما قال لتمكنوا من معارضته إذ طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن الوليد إنما كان يقول هذا الكلام عناداً منه لأنه روي عنه أنه لما سمع من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حم السجدة ) وخرج من عند الرسول عليه السلام قال سمعت من محمد كلاماً ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن وإن له الحلاوة وإن عليه لطلاوة وأنه يعلو ولا يعلى عليه فلما أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن الذي قاله ههنا من أنه قول البشر إنما ذكره على سبيل العناد والتمرد لا على سبيل الاعتقاد
ثم قال
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
قال ابن عباس سَقَرَ اسم للطبقة السادسة من جهنم ولذلك لا ينصرف للتعريف والتأنيث
ثم قال
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
الغرض التهويل
ثم قال
لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ
واختلفوا فمنهم من قال هما لفظان مترادفان معناهما واحد والغرض من التكرير التأكيد والمبالغة كما يقال صد عني وأعرض عني ومنهم من قال لا بد من الفرق ثم ذكروا وجوهاً أحدها أنها لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئاً فإذا أعيدوا خلقاً جديداً فلا تذر أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت وهكذا أبداً وهذا رواية عطاء عن ابن عباس وثانيها لا تبقي من المستحقين للعذاب إلا عذبتهم ثم لا تذر من أبدان أولئك المعذبين شيئاً إلا أحرقته وثالثها لا تبقي من أبدان المعذبين شيئاً ثم إن تلك النيران لا تذر من قوتها وشدتها شيئاً إلا وتستعمل تلك القوة والشدة في تعذيبهم
ثم قال
لَوَّاحَة ٌ لِّلْبَشَرِ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في اللواحة قولان الأول قال الليث لاحه العطش ولوحه إذا غيره فاللواحة هي المغيرة قال الفراء تسود البشرة بإحراقها والقول الثاني وهو قول الحسن والأصك أن معنى اللواحة أنها تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام وهو كقوله وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ( النازعات 36 ) ولواحة على هذا القول من لاح الشيء يلوح إذا لمع نحو البرق وطعن القائلون بهذا الوجه في الوجه الأول وقالوا إنه لا يجوز أن يصفها بتسويد البشرة مع قوله إنها لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ ( المدثر 28 )
المسألة الثانية قرىء لَوَّاحَة ٌ نصباً على الاختصاص للتهويل(30/178)
ثم قال
عَلَيْهَا تِسْعَة َ عَشَرَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أنه يلي أمر تلك النار ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكاً وقيل تسعة عشر صنفاً وقيل تسعة عشر صفاً وحكى الواحدي عن المفسرين أن خزنة النار تسعة عشر مالك ومعه ثمانية عشر أعينهم كالبرق وأنيابهم كالصياصي وأشعارهم تمس أقدامهم يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر نزعت منهم الرأفة والرحمة يأخذ أحدهم سبعين ألفاً في كفه ويرميهم حيث أراد من جهنم
المسألة الثانية ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً أحدها وهو الوجه الذي تقوله أرباب الحكمة أن سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية هو القوى الحيوانية والطبيعية
أما القوى الحيوانية فهي الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب ومجموعهما اثنتا عشرة
وأما القوى الطبيعة فهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وهذه سبعة فالمجموع تسعة عشر فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسعة عشر لا جرم كان عدد الزبانية هكذا وثانيها أن أبواب جهنم سبعة فستة منها للكفار وواحد للفساق ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة والمجموع ثمانية عشر وأما باب الفساق فليس هناك زبانية بسبب ترك الاعتقاد ولا بسبب ترك القول بل ليس إلا بسبب ترك العمل فلا يكون على بابهم إلا زبانية واحدة فالمجموع تسعة عشر وثالثها أن الساعات أربعة وعشرون خمسة منها مشغولة بالصلوات الخمس فيبقى منها تسعة عشر مشغولة بغير العبادة فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر
المسألة الثالثة قراءة أبي جعفر ويزيد وطلحة بن سليمان عَلَيْهَا تِسْعَة َ عَشَرَ على تقطيع فاعلان قال ابن جني في المحتسب والسبب أن الاسمين كاسم واحد فكثرت الحركات فأسكن أول الثاني للتخفيف وجعل ذلك أمارة القوة اتصال أحد الإسمين بصاحبه وقرأ أنس بن مالك تِسْعَة َ عَشَرَ قال أبو حاتم هذه القراءة لا تعرف لها وجهاً إلا أن يعني تسعة أعشر جمع عشير مثل يمين وأيمن وعلى هذا يكون المجموع تسعين
وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِى َ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ
قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً روي أنه لما نزل قوله تعالى عَلَيْهَا تِسْعَة َ عَشَرَ ( المدثر 30 ) قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم قال ابن أبي كبشة إن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الجمع العظيم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهما فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنينا فلما قال أبو جهل وأبو الأشد ذلك قال المسلمون ويحكم لا تقاس الملائكة بالحدادينا فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا يسوى بينهما والمعنى لا تقاس الملائكة بالسجانين(30/179)
والحداد السجان الذي يحبس النار فأنزل الله تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً واعلم أنه تعالى إنما جعلهم ملائكة لوجوه أحدها ليكونوا بخلاف جنس المعذبين لأن الجنسية مظنة الرأفة والرحمة ولذلك بعث الرسول المبعوث إلينا من جنسنا ليكون له رأفة ورحمة بنا وثانيها أنهم أبعد الخلق عن معصية الله تعالى وأقواهم على الطاعات الشاقة وثالثها أن قوتهم أعظم من قوة الجن والإنس فإن قيل ثبت في الأخبار أن الملائكة مخلوقون من النور والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار قلنا مدار القول في إثبات القيامة على كونه تعالى قادراً على كل الممكنات فكما أنه لا استبعاد في أن يبقى الحي في مثل ذلك العذاب الشديد أبد الآباد ولا يموت فكذا لا استبعاد في بقاء الملائكة هناك من غير ألم
ثم قال تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا العدد إنما صار سبباً لفتنة الكفار من وجهين الأول أن الكفار يستهزئون يقولون لم لم يكونوا عشرين وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود الثاني أن الكفار يقولون هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله إلى قيام القيامة وأما أهل الإيمان فلا يلتفتون إلى هذين السؤالين
أما السؤال الأول فلأن جملة العالم متناهية فلا بد وأن يكون للجواهر الفردة التي منها تألفت جملة هذا العالم عدد معين وعند ذلك يجيء ذلك السؤال وهو أنه لم خصص ذلك العدد بالإيجاد ولم يزد على ذلك العدد جوهر آخر ولم ينقص وكذا القول في إيجاد العالم فإنه لما كان العالم محدثاً والإله قديماً فقد تأخر العالم عن الصانع بتقدير مدة غير متناهية فلم لم يحدث العالم قبل أن حدث بتقدير لحظة أو بعد أن وجد بتقدير لحظة وكذا القول في تقدير كل واحد من المحدثات بزمانه المعين وكل واحد من الأجسام بأجزائه المحدودة المعدودة ولا جواب عن شيء من ذلك إلا بأنه قادر مختار والمختار له أن يرجح الشيء على مثله من غير علة وإذا كان هذا الجواب هو المعتمد في خلق جملة العالم فكذا في تخصيص زبانية النار بهذا العدد
وأما السؤال الثاني فضعيف أيضاً لأنه لا يبعد في قدرة الله تعالى أن يعطي هذا العدد من القدرة والقوة ما يصيرون به قادرين على تعذيب جملة الخلق ومتمكنين من ذلك من غير خلل وبالجملة فمدار هذين السؤالين على القدح في كمال قدرة الله فأما من اعترف بكونه تعالى قادراً على مالا نهاية له من المقدورات وعلم أنه أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذه الاستبعادات بالكلية
المسألة الثانية احتج من قال إنه تعالى قد يريد الإضلال بهذه الآية قال لأن قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ(30/180)
يدل على أن المقصود الأصلي إنما هو فتنة الكافرين أجابت المعتزلة عنه من وجوه أحدها قال الجبائي المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر على أن يقوي هؤلاء التسعة عشر على مالا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء وثانيها قال الكعبي المراد من الفتنة الامتحان حتى يفوض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الخالق سبحانه وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به وثالثها أن المراد من الفتنة ما وقعوا فيه من الكفر بسبب تكذيبهم بعدد الخزنة والمعنى إلا فتنة على الذين كفروا ليكذبوا به وليقولوا ما قالوا وذلك عقوبة لهم على كفرهم وحاصله راجع إلى ترك الألطاف والجواب أنه لا نزاع في شيء مما ذكرتم إلا أنا نقول هل لإنزال هذه المتشابهات أثر في تقوية داعية الكفر أم لا فإذا لم يكن له أثر في تقوية داعية الكفر كان إنزالها كسائر الأمور الأجنبية فلم يكن للقول بأن إنزال هذه المتشابهات فتنة للذين كفروا وجه ألبتة وإن كان له أثر في تقوية داعية الكفر فقد حصل المقصود لأنه إذا ترجحت داعية الفعل صارت داعية الترك مرجوحة والمرجوح يمتنع أن يؤثر فالترك يكون ممتنع الوقوع فيصير الفعل واجب الوقوع والله أعلم واعلم أنه تعالى بين أن المقصود من إنزال هذا المتشابه أمور أربعة أولها لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وثانيها وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِيمَاناً وثالثها وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ورابعها وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً واعلم أن المقصود من تفسير هذه الآيات لا يتلخص إلا بسؤالات وجوابات
السؤال الأول لفظ القرآن يدل على أنه تعالى جعل افتتان الكفار بعدد الزبانية سبباً لهذه الأمور الأربعة فما الوجه في ذلك والجواب أنه ما جعل افتتانهم بالعدد سبباً لهذه الأشياء وبيانه من وجهين الأول التقدير وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا وإلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب كما يقال فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك قالوا والعاطفة قد تذكر في هذا الموضع تارة وقد تحذف أخرى الثاني أن المراد من قوله وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ هو أنه وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر إلا أنه وضع فتنة للذين كفروا موضع تسعة عشر كأنه عبر عن المؤثر باللفظ الدال على الأثر تنبيهاً على أن هذا الأثر من لوازم ذلك المؤثر
السؤال الثاني ما وجه تأثير إنزال هذا المتشابه في استيقان أهل الكتاب الجواب من وجوه أحدها أن هذا العدد لما كان موجوداً في كتابهم ثم إنه عليه السلام أخبر على وفق ذلك من غير سابقة دراسة وتعلم فظهر أن ذلك إنما حصل بسبب الوحي من السماء فالذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل الكتاب يزدادون به إيماناً وثانيها أن التوراة والإنجيل كانا محرفين فأهل الكتاب كانوا يقرأون فيهما أن عدد الزبانية هو هذا القدر ولكنهم ما كانوا يعولون على ذلك كل التعويل لعلمهم بتطرق التحريف إلى هذين الكتابين فلما سمعوا ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قوي إيمانهم بذلك واستيقنوا أن ذلك العدد هو الحق والصدق وثالثها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعلم من حال قريش أنه متى أخبرهم بهذا العدد العجيب فإنهم يستهزئون به ويضحكون منه لأنهم كانوا يستهزئون به في إثبات التوحيد والقدرة والعلم مع أن تلك المسائل أوضح وأظهر فكيف في ذكر هذا العدد العجيب ثم إن استهزاءهم برسول الله وشدة سخريتهم به ما منعه من إظهار هذا الحق فعند هذا يعلم كل أحد أنه لو كان غرض محمد ( صلى الله عليه وسلم ) طلب الدنيا والرياسة لاحترز عن ذكر هذا(30/181)
العدد العجيب فلما ذكره مع علمه بأنهم لا بد وأن يستهزئوا به علم كل عاقل أن مقصوده منه إنما هو تبليغ الوحي وأنه ما كان يبالي في ذلك لا بتصديق المصدقين ولا بتكذيب المكذبين
السؤال الثالث ما تأثير هذه الواقعة في ازدياد إيمان المؤمنين الجواب أن المكلف مالم يستحضر كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحادثات منزهاً عن الكذب والحلف لا يمكنه أن ينقاد لهذه العدة ويعترف بحقيقتها فإذا اشتغل باستحضار تلك الدلائل ثم جعل العلم الإجمالي بأنه صادق لا يكذب حكيم لا يجهل دافعاً للتعجب الحاصل في الطبع من هذا العدد العجيب فحينئذ يمكنه أن يؤمن بحقيقة هذا العدد ولا شك أن المؤمن يصير عند اعتبار هذه المقامات أشد استحضاراً للدلائل وأكثر انقياداً للدين فالمراد بازدياد الإيمان هذا
السؤال الرابع حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزيادة والنقصان فما قولكم في هذه الآية الجواب نحمله على ثمرات الإيمان وعلى آثاره ولوازمه
السؤال الخامس لما أثبت الاستيقان لأهل الكتاب وأثبت زيادة الإيمان للمؤمنين فما الفائدة في قوله بعد ذلك وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ الجواب أن المطلوب إذا كان غامضاً دقيق الحجة كثير الشبهة فإذا اجتهد الإنسان فيه وحصل له اليقين فربما غفل عن مقدمة من مقدمات ذلك الدليل الدقيق فيعود الشك والشبهة فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك فالمقصود من إعادة هذا الكلام هو أنه حصل لهم يقين جازم بحيث لا يحصل عقيبه ألبتة شك ولا ريب
السؤال السادس جمهور المفسرين قالوا في تفسير قوله الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ إنهم الكافرون وذكر الحسين بن الفضل البجلي أن هذه السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق فالمرض في هذه الآية ليس بمعنى النفاق والجواب قول المفسرين حق وذلك لأنه كان في معلوم الله تعالى أن النفاق سيحدث فأخبر عما سيكون وعلى هذا تصير هذه الآية معجزة لأنه إخبار عن غيب سيقع وقد وقع على وفق الخبر فيكون معجزاً ويجوز أيضاً أن يراد بالمرض الشك لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم كانوا قاطعين بالكذب
السؤال السابع هب أن الاستيقان وانتفاء الارتياب يصح أن يكونا مقصودين من إنزال هذا المتشابه فكيف صح أن يكون قول الكافرين والمنافقين مقصوداً الجواب أما على أصلنا فلا إشكال لأنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء وسيأتي مريد تقرير لهذا في الآية الآتية وأما عند المعتزلة فإن هذه الحالة لما وقعت أشبهت الغرض في كونه واقعاً فأدخل عليه حرف اللام وهو كقوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ
السؤال الثامن لم سموه مثلاً الجواب أنه لما كان هذا العدد عدداً عجيباً ظن القوم أنه ربما لم يكن مراد الله منه ما أشعر به ظاهره بل جعله مثلاً لشيء آخر وتنبيهاً على مقصود آخر لا جرم سموه مثلاً
السؤال التاسع القوم كانوا ينكرون كون القرآن من عند الله فكيف قالوا ماذا أراد الله بهذا مثلاً الجواب أما الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون فكانوا في الظاهر معترفين بأن القرآن من عند الله فلا جرم قالوا ذلك باللسان وأما الكفار فقالوه على سبيل التهكم أو على سبيل الاستدلال بأن القرآن لو كان من عند الله لما قال مثل هذا الكلام(30/182)
قوله تعالى كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء وجه الاستدلال بالآية للأصحاب ظاهر لأنه تعالى ذكر في أول الآية قوله وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ثم ذكر في آخر الآية وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً ثم قال كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء أما المعتزلة فقد ذكروا الوجوه المشهورة التي لهم أحدها أن المراد من الإضلال منع الألطاف وثانيها أنه لما اهتدى قوم باختيارهم عند نزول هذه الآيات وضل قوم باختيارهم عند نزولها أشبه ذلك أن المؤثر في ذلك الاهتداء وذلك الإضلال هو هذه الآيات وهو كقوله فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ( التوبة 124 ) وكقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا ( التوبة 125 ) وثالثها أن المراد من قوله يُضِلَّ ومن قوله يَهْدِى حكم الله بكونه ضالاً ويكون مهتدياً ورابعها أنه تعالى يضلهم يوم القيامة عن دار الثواب وهذه الكلمات مع أجوبتها تقدمت في سورة البقرة في قوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 )
قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ فيه وجوه أحدها وهو الأولى أن القوم استقبلوا ذلك العدد فقال تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ فهب أن هؤلاء تسعة عشر إلا أن لكل واحد منهم من الأعوان والجنود مالا يعلم عددهم إلا الله وثانيها وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق وهو جل جلاله يعلمها وثالثها أنه لا حاجة بالله سبحانه في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة فإنه هو الذي يعذبهم في الحقيقة وهو الذي يخلق الآلام فيهم ولو أنه تعالى قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلة العذاب فجنود الله غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية
قوله تعالى وَمَا هِى َ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ الضمير في قوله وَمَا هِى َ إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى سقر والمعنى وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر والثاني أنه عائد إلى هذه الآيات المشتملة على هذه المتشابهات وهي ذكرى لجميع العالمية وإن كان المنتفع بها ليس إلا أهل الإيمان
كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ
ثم قال تعالى كَلاَّ وفيه وجوه أحدها أنه إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون وثانيها أنه ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيراً وثالثها أنه ردع لقول أبي جهل وأصحابه إنهم يقدرون على مقاومة خزنة النار ورابعها أنه ردع لهم عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة
ثم قال تعالى وَالْقَمَرِ وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وفيه قولان الأول قال الفراء والزجاج دبر وأدبر بمعنى واحد كقبل وأقبل ويدل على هذا قراءة من قرأ إذا دبر وروى أن مجاهداً سأل ابن عباس عن قوله دُبُرٍ فسكت حتى إذا أدبر الليل قال يا مجاهد هذا حين دبر الليل وروى أبو الضحى أن ابن عباس كان يعيب(30/183)
هذه القراءة ويقول إنما يدبر ظهر البعير قال الواحدي والقراءتان عند أهل اللغة سواء على ما ذكرنا وأنشد أبو علي وأبى الذي ترك الملوك وجمعهم
بصهاب هامدة كأمس الدابر
القول الثاني قال أبو عبيدة وابن قتيبة دبر أي جاء بعد النهار يقال دبرني أي جاء خلفي ودبر الليل أي جاء بعد النهار قال قطرب فعلى هذا معنى إذا دبر إذا أقبل بعد مضي النهار
وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ
أي أضاء وفي الحديث ( أسفروا بالفجر ) ومنه قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ( عبس 38 ) أي مضيئة
ثم قال تعالى
إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الكلام هو جواب القسم أو تعليل لكلام والقسم معترض للتوكيد
المسألة الثانية قال الواحدي ألف إحدى مقطوع ولا تذهب في الوصل وروي عن ابن كثير أنه قرأ إنها لإحدى الكبر بحذف الهمزة كما يقال ويلمه وليس هذا الحذف بقياس والقياس التخفيف وهو أن يجعل بين بين
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) الكبر جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظير ذلك السوافي جمع السافياء وهو التراب الذي سفته الريح والقواصع في جميع القاصعاء كأنهما جمع فاعلة
المسألة الرابعة إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبْرَى يعني أن سقر التي جرى ذكرها لإحدى الكبر والمراد من الكبر دركات جهنم وهي سبعة جهنم ولظى والحطمة والسعير وسقر والجحيم والهاوية أعاذنا الله منها
نَذِيراً لِّلْبَشَرِ
نذيراً تمييز من إحدى على معنى أنها لإحدى الدواهي إنذاراً كما تقول هي إحدى النساء عفافاً وقيل هو حال وفي قراءة أبي نذير بالرفع خبر أو بحذف المبتدأ
ثم قال تعالى
لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الآية وجهان الأول أن يَتَقَدَّمَ في موضع الرفع بالابتداء ولمن شاء خبر مقدم عليه كقولك لمن توضأ أن يصلي ومعناه التقدم والتأخر مطلقان لمن شاءهما منكم والمراد بالتقدم والتأخر السبق إلى الخير والتخلف عنه وهو في معنى قوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) الثاني لمن شاء بدل من قوله للبشر والتقدير إنها نذير لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر نظيره وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ ( آل عمران 97 )
المسألة الثانية المعتزلة احتجوا بهذه الآية على كون العبد متمكناً من الفعل غير مجبور عليه وجوابه أن هذه الآية دلت على أن فعل العبد معلق على مشيئته لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة الله تعالى لقوله(30/184)
وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الإنسان 3 ) وحينئذ تصير هذه الآية حجة لنا عليهم وذكر الأصحاب عن وجه الاستدلال بهذه الآية جوابين آخرين الأول أن معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين التهديد كقوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) الثاني أن هذه المشيئة لله تعالى على معنى لمن شاء الله منكم أن يتقدم أو يتأخر
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة ٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ
قال صاحب ( الكشاف ) رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ( الطور 21 ) لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصيغة لقيل رهين لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل كل نفس بما كسبت رهن ومنه بيت الحماسة أبعد الذي بالنعف نعف كواكب
رهينة رمس ذي تراب وجندل
كأنه قال رهن رمس والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عن رقاب أنفسهم بسبب أعمالهم الحسنة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق ثم ذكروا وجوهاً في أن أصحاب اليمين من هم أحدها قال ابن عباس هم المؤمنون وثانيها قال الكلبي هم الذين قال ( فيهم ) الله تعالى ( هؤلاء في الجنة ولا أبالي ) وهم الذين كانوا على يمين آدم وثالثها قال مقاتل هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار ورابعها قال علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عمر هم أطفال المسلمين قال الفراء وهو أشبه بالصواب لوجهين الأول لأن الولدان لم يكتسبوا إثماً يرتهنون به والثاني أنه تعالى ذكر في وصفهم فقال فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ وهذا إنما يليق بالولدان لأنهم لم يعرفوا الذنوب فسألوا مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( المدثر 40 42 ) وخامسها عن ابن عباس هم الملائكة
فِى جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ
قوله تعالى فِي جَنَّاتِ أي هم في جنات لا يكتنه وصفها
ثم قال تعالى يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ وفيه وجهان الأول أن تكون كلمة عن صلة زائدة والتقدير يتساءلون المجرمين فيقولون لهم ما سلككم في سقر فإنه يقال سألته كذا ويقال سألته عن كذا الثاني أن يكون المعنى أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين فإن قيل فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقولوا ما سلكهم في سقر قلنا أجاب صاحب ( الكشاف ) عنه فقال المراد من هذا أن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون قلنا لهم مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ وفيه وجه آخر وهو أن يكون المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم فلما رأوهم قالوا لهم مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( المدثر 42 ) والإضمارات كثيرة في القرآن(30/185)
مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ
المقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل والمعنى ما حبسكم في هذه الدركة من النار فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة أولها قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ وثانيها لم نك نطعم المسكين وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة والزكاة الواجبة لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذبوا على تركه وثالثها وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ والمراد منه الأباطيل ورابعها وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ أي بيوم القيامة حتى أتانا اليقين أي الموت قال تعالى حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 ) والمعنى أنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت وظاهر اللفظ يدل على أن كل أحد من أولئك الأقوام كان موصوفاً بهذه الخصال الأربعة واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بترك فروع الشرائع والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول من أصول الفقه فإن قيل لم أخر التكذيب وهو أفحش تلك الخصال الأربعة قلنا أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذبين بيوم الدين والغرض تعظيم هذا الذنب كقوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 )
ثم قال تعالى
فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ
واحتج أصحابنا على ثبوت الشفاعة للفساق بمفهوم هذه الآية وقالوا إن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين
ثم قال تعالى
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ
أي عن الذكر وهو العظة يريد القرآن أو غيره من المواعظ ومعرضين نصب على الحال كقولهم مالك قائماً
ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بحمر نافرة فقال
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَة ٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة ٍ
قال ابن عباس يريد الحمر الوحشية ومستنفرة أي نافرة يقال نفر واستنفر مثل سخر واستسخر وعجب واستعجب وقرىء بالفتح وهي المنفرة المحمولة على النفار قال أبو علي الفارسي الكسر في مستنفرة أولى ألا ترى أنه قال فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة ٍ وهذا يدل على أنها هي استنفرت ويدل على صحة ما قال أبو علي أن محمد بن سلام قال سألت أبا سوار الغنوي وكان أعرابياً فصيحاً فقلت كأنهم حمر ماذا فقال مستنفرة طردها قسورة قلت إنما هو(30/186)
فرت من قسورة قال أفرت قلت نعم قال فمستنفرة إذا
ثم قال تعالى فَرَّتْ يعني الحمر مِن قَسْوَرَة ٍ
وذكروا في القسورة وجوهاً أحدها أنها الأسد يقال ليوث قساور وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة سمي بذلك لأنه يقهر السباع قال ابن عباس الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت كذلك هؤلاء المشركين إذا رأوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) هربوا منه كما يهرب الحمار من الأسد ثم قال ابن عباس القسورة هي الأسد بلسان الحبشة وخالف عكرمة فقال الأسد بلسان الحبشة عنبسة وثانيها القسورة جماعة الرماة الذين يتصيدونها قال الأزهري هو اسم جمع للرماة لا واحد له من جنسه وثالثها القسورة ركز الناس وأصواتهم ورابعها أنها ظلمة الليل قال صاحب ( الكشاف ) وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله ولا ترى مثل نفار حمير الوحش وإطرادها في العدو إذا خافت من شيء
ثم قال تعالى
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِى ءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَة ً
أنهم قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان ونؤمر فيه باتباعك ونظيره لَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ ( الأسراء 93 ) وقال وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ وقيل إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة من النار وقيل كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك وهذا من الصحف المنشرة بمعزل إلا أن يراد بالصحف المنشرة الكتابات الظاهرة المكشوفة وقرأ سعيد بن جبير صُحُفاً مُّنَشَّرَة ً بتخفيفهما على أن أنشر الصحف ونشرها واحد كأنزله ونزله
ثم قال تعالى
كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاٌّ خِرَة َ
كَلاَّ وهو ردع لهم عن تلك الإرادة وزجر عن اقتراح الآيات
ثم قال تعالى بَل لاَّ يَخَافُونَ الاْخِرَة َ فلذلك أعرضوا عن التأمل فإنه لما حصلت المعجزات الكثيرة كفت في الدلالة على صحة النبوة فطلب الزيادة يكون من باب التعنت
ثم قال تعالى
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَة ٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
ثم قال تعالى كَلاَّ وهو ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة
ثم قال تعالى إِنَّهُ تَذْكِرَة ٌ يعني تذكرة بليغة كافية فَمَن شَاء ذَكَرَهُ أي جعله نصب عينه فإن نفع ذلك راجع إليه والضمير في أَنَّهُ وذكره للتذكرة في قوله الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 ) وإنما ذكر ( ت ) لأنها في معنى الذكر أو القرآن
ثم قال تعالى
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة ِ
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ
قالت المعتزلة يعني إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه والجواب أنه تعالى نفى الذكر(30/187)
مطلقاً واستثنى عنه حال المشيئة المطلقة فيلزم أنه متى حصلت المشيئة أن يحصل الذكر فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصل المشيئة وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهرية ترك للظاهر وقرىء يذكرون بالياء والتاء مخففاً ومشدداً
ثم قال تعالى هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة ِ أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا ويطيعوا وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين(30/188)
سورة القيامة
أربعون آية مكية
لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة ِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى المفسرون ذكروا في لفظة لا في قوله لاَ أُقْسِمُ ثلاثة أوجه الأول أنها صلة زائدة والمعنى أقسم بيوم القيامة ونظيره لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ وقوله مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ ( آل عمران 159 ) وهذا القول عندي ضعيف من وجوه أولها أن تجويز هذا يفضي إلى الطعن في القرآن لأن على هذا التقدير يجوز جعل النفي إثباتاً والإثبات نفياً وتجويزه يفضي إلى أن لا يبقى الاعتماد على إثباته ولا على نفيه وثانيها أن هذا الحرف إنما يزاد في وسط الكلام لا في أوله فإن قيل ( فال ) كلام عليه من وجهين الأول لا نسلم أنها إنما تزاد في وسط الكلام ألا ترى إلى أمرىء القيس كيف زادها في مستهل قصيدته وهي قوله لا وأبيك ابنة العامري
لا يدعى القوم أني أفر
الثاني هب أن هذا الحرف لا يزاد في أول الكلام إلا أن القرآن كله كالسورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض والدليل عليه أنه قد يذكر الشيء في سورة ثم يجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى وَقَالُواْ يأَيُّهَا أَيُّهَا الَّذِينَ نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر 6 ) ثم جاء جوابه في سورة أخرى وهو قوله مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ وإذا كان كذلك كان أول هذه السورة جارياً مجرى وسط الكلام والجواب عن الأول أن قوله لا وأبيك قسم عن النفي وقوله لاَ أُقْسِمُ نفي للقسم فتشبيه أحدهما بالآخر غير جائز وإنما قلنا إن قوله لا أقسم نفي للقسم لأنه على وزان قولنا لا أقتل لا أضرب لا أنصر ومعلوم أن ذلك يفيد النفي والدليل عليه أنه لو حلف لا يقسم كان البر بترك القسم والحنث بفعل القسم فظهر أن البيت(30/189)
المذكور ليس من هذا الباب وعن الثاني أن القرآن كالسورة الواحدة في عدم التناقض فإما في أن يقرن بكل آية ما قرن بالآية الأخرى فذلك غير جائز لأنه يلزم جواز أن يقرن بكل إثبات حرف النفي في سائر الآيات وذلك يقتضي انقلاب كل إثبات نفياً وانقلاب كل نفي إثباتاً وإنه لا يجوز وثالثها أن المراد من قولنا لا صلة أنه لغو باطل يجب طرحه وإسقاطه حتى ينتظم الكلام ومعلوم أن وصف كلام الله تعالى بذلك لا يجوز القول الثاني للمفسرين في هذه الآية ما نقل عن الحسن أنه قرأ لأقسم على أن اللام للابتداء وأقسم خبر مبتدأ محذوف معناه لأنا أقسم ويعضده أنه في مصحف عثمان بغير ألف واتفقوا في قوله ولا أقسم بالنفس اللوامة على لا أقسم قال الحسن معنى الآية أني أقسم بيوم القيامة لشرفها ولا أقسم بالنفس اللوامة لخساستها وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة وقال لو كان المراد هذا لقال لأقسمن لأن العرب لا تقول لأفعل كذا وإنما يقولون لأفعلن كذا إلاأن الواحدي حكى جواز ذلك عن سيبويه والفراء واعلم أن هذا الوجه أيضاً ضعيف لأن هذه القراءة شاذة فهب أن هذا الشاذ استمر فما الوجه في القراءة المشهورة المتواترة ولا يمكن دفعها وإلا لكان ذلك قدحاً فيما ثبت بالتواتر وأيضاً فلا بد من إضمار قسم آخر لتكون هذه اللام جواباً عنه فيصير التقدير والله لأقسم بيوم القيامة فيكون ذلك قسماً على قسم وإنه ركيك ولأنه يفضي إلى التسلسل القول الثالث أن لفظة لا وردت للنفي ثم ههنا احتمالان الأول أنها وردت نفياً لكلام ذكر قبل القسم كأنهم أنكروا البعث فقيل لا ليس الأمر على ما ذكرتم ثم قيل أقسم بيوم القيامة وهذا أيضاً فيه إشكال لأن إعادة حرف النفي مرة أخرى في قوه وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة ِ مع أن المراد ما ذكروه تقدح في فصاحة الكلام
الاحتمال الثاني أن لا ههنا لنفي القسم كأنه قال لا أقسم عليكم بذلك اليوم وتلك النفس ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنا قادرون على أن نفعل ذلك وهذا القول اختيار أبي مسلم وهو الأصح ويمكن تقدير هذا القول على وجوه أخر أحدها كأنه تعالى يقول لاَ أُقْسِمُ بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإن هذا المطلوب أعظم وأجل من أن يقسم عليه بهذه الأشياء ويكون الغرض من هذا الكلام تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه وثانيها كأنه تعالى يقول لاَ أُقْسِمُ بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإن إثباته أظهر وأجلى وأقوى وأحرى من أن يحاول إثباته بمثل هذا القسم ثم قال بعده أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( القيامة 3 ) أي كيف خطر بباله هذا الخاطر الفاسد مع ظهور فساده وثالثها أن يكون الغرض منه الاستفهام على سبيل الإنكار والتقدير ألا أقسم بيوم القيامة ألا أقسم بالنفس اللوامة على أن الحشر والنشر حق
المسألة الثانية ذكروا في النفس اللوامة وجوهاً أحدها قال ابن عباس إن كل نفس فإنها تلوم نفسها يوم القيامة سواء كانت برة أو فاجرة أما البرة فلأجل أنها لم لم تزد على طاعتها وأما الفاجرة فلأجل أنها لم لم تشتغل بالتقوى وطعن بعضهم في هذا الوجه من وجوه الأول أن من يستحق الثواب لا يجوز أن يلوم نفسه على ترك الزيادة لأنه لو جاز منه لوم نفسه على ذلك لجاز من غيره أن يلومها عليه الثاني أن الإنسان إنما يلوم نفسه عند الضجارة وصيق القلب وذلك لا يليق بأهل الجنة حال كونهم في الجنة ولأن المكلف يعلم أنه لا مقدار من الطاعة إلا ويمكن الإتيان بما هو أزيد منه فلو كان ذلك موجباً للوم لامتنع الانفكاك عنه وما كان كذلك لا يكون مطلوب الحصول ولا يلام على ترك تحصيله والجواب عن الكل أن يحمل اللوم(30/190)
على تمني الزيادة وحينئذ تسقط هذه الأسئلة وثانيها أن النفس اللوامة هي النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة بسبب أنها تركت التقوى
ثالثها أنها هي النفوس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الطاعة وعن الحسن أن المؤمن لا تراه إلا لائماً نفسه وأما الجاهل فإنه يكون راضياً بما هو فيه من الأحوال الخسيسة ورابعها أنها نفس آدم لم تزل تلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة وخامسها المراد نفوس الأشقياء حين شاهدت أحوال القيامة وأهوالها فإنها تلوم نفسها على ما صدر عنها من المعاصي ونظيره قوله تعالى أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ ( الزمر 56 ) وسادسها أن الإنسان خلق ملولا فأي شيء طلبه إذا وجده مله فحينئذ يلوم نفسه على أني لم طلبته فلكثرة هذا العمل سمي بالنفس اللوامة ونظيره قوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( المعارج 19 21 ) واعلم أن قوله لوامة ينبىء عن التكرار والإعادة وكذا القول في لوام وعذاب وضرار
المسألة الثالثة إعلم أن في الآية إشكالات أحدها ما المناسبة بين القيامة وبين النفس اللوامة حتى جمع الله بينهما في القسم وثانيها المقسم عليه هو وقوع القيامة فيصير حاصلة أنه تعالى أقسم بوقوع القيامة وثالثها لم قال لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ولم يقل والقيامة كما قال في سائر السور والطور والذاريات والضحى والجواب عن الأول من وجوه أحدها أن أحوال القيامة عجيبة جداً ثم المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النفوس اللوامة أعني سعادتها وشقاوتها فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشدية وثانيها أن القسم بالنفس اللوامة تنبيه على عجائب أحوال النفس على ما قال عليه الصلاة والسلام ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) ومن أحوالها العجيبة قوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وقوله إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ إلى قوله وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ( الأحزاب 72 ) وقال قائلون القسم وقع بالنفس اللوامة على معنى التعظيم لها من حيث إنها أبداً تستحقر فعلها وجدها واجتهادها في طاعة الله وقال آخرون إنه تعالى أقسم بالقيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة وهذا على القراءة الشاذة التي رويناها عن الحسن فكأنه تعالى قال أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ تعظيماً لها ولا أقسم بالنفس تحقيراً لها لأن النفس اللوامة إما أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها وإما أن تكون فاسقة مقصرة في العمل وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة
وأما السؤال الثاني فالجواب عنه ما ذكرنا أن المحققين قالوا القسم بهذه الأشياء قسم بربها وخالقها في الحقيقة فكأنه قيل أقسم برب القيامة على وقوع يوم القيامة
وأما السؤال الثالث فجوابه أنه حيث أقسم قال وَالطُّورِ الطُّورِ وَالذرِيَاتِ ( الذاريات 1 ) وأما ههنا فإنه نفي كونه تعالى مقسماً بهذه الأشياء فزال السؤال والله تعالى أعلم
أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّى َ بَنَانَهُ
فيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في جواب القسم وجوهاً أحدها وهو قول الجمهور أنه محذوف على تقدير(30/191)
ليبعثن ويدل عليه أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ وثانيها قال الحسن وقع القسم على قوله بَلَى قَادِرِينَ وثالثها وهو أقرب أن هذا ليس بقسم بل هو نفي للقسم فلا يحتاج إلى الجواب فكأنه تعالى يقول لا أقسم بكذا وكذا على شيء ولكني أسألك أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ
المسألة الثانية المشهور أن المراد من الإنسان إنسان معين روي أن عدي بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول فيهما ( اللهم اكفني شر جاري السوء ) قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن بك كيف يجمع الله العظام فنزلت هذه الآية وقال ابن عباس يريد الإنسان ههنا أبا جهل وقال جمع من الأصوليين بل المراد بالإنسان المكذب بالبعث على الإطلاق
المسألة الثالثة قرأ قتادة أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ على البناء للمفعول والمعنى أن الكافر ظن أن العظام بعد تفرقها وصيرورتها تراباً واختلاط تلك الأجزاء بغيرها وبعدما نسفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض لا يمكن جمعها مرة أخرى وقال تعالى في جوابه بَلَى فهذه الكلمة أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع فكأنه قيل بل يجمعها وفي قوله قَادِرِينَ وجهان الأول وهو المشهور أنه حال من الضمير في نجمع أي نجمع العظام قادرين على تأليفها جميعها وإعادتها إلى التركيب الأول وهذا الوجه عندي فيه إشكال وهو أن الحال إنما يحسن ذكره إذا أمكن وقوع ذلك الأمر لا على تلك الحالة تقول رأيت زيداً راكباً لأنه يمكن أن نرى زيد غير راكب وههنا كونه تعالى جامعاً للعظام يستحيل وقوعه إلا مع كونه قادراً فكان جعله حالاً جارياً مجرى بيان الواضحات وإنه غير جائز والثاني أن تقدير الآية كنا قادرين على أن نسوي بنانه في الإبتداء فوجب أن نبقي قادرين على تلك التسوية في الانتهاء وقرىء قادرون أي ونحن قادرون وفي قوله عَلَى أَن نُّسَوّى َ بَنَانَهُ وجوه أحدها أنه نبه بالبنان على بقية الأعضاء أي نقدر على أن نسوي بنانه بعد صيرورته تراباً كما كان وتحقيقه أن من قدر على الشيء في الابتداء قدر أيضاً عليه في الإعادة وإنما خص البنان بالذكر لأنه آخر ما يتم خلقه فكأنه قيل نقدر على ضم سلاماته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولاً من غير نقصان ولا تفاوت فكيف القول في كبار العظام وثانيها بلى قادرين على أن نسوي بنانه أي نجعلها مع كفه صفيحة مستوية لا شقوق فيها كخف البعير فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وسائر الأعمال اللطيفة التي يستعان عليها بالأصابع والقول الأول أقرب إلى الصواب
بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ
اعلم أن قوله بَلْ يُرِيدُ عطف على أيحسب فيجوز فيه أن يكون أيضاً استفهاماً كأنه استفهم عن شيء ثم استفهم عن شيء آخر ويجوز أن يكون إيجاباً كأنه استفهم أولاً ثم أتى بهذا الإخبار ثانياً وقوله لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ فيه قولان الأول أي ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه وعن سعيد بن جبير يقدم الذنب ويؤخر التوبة يقول سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله القول الثاني ليفجر أمامه أي ليكذب بما أمامه من البعث والحساب لأن من كذب حقاً كان كاذباً وفاجراً(30/192)
والدليل عليه قوله يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 6 ) فالمعنى يريد الإنسان ليفجر أمامه أي ليكذب بيوم القيامة وهو أمامه فهو يسأل أيان يوم القيامة متى يكون ذلك تكذيباً له
ثم قال تعالى
يَسْألُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة ِ
أي يسأل سؤال مستنعت مستبعد لقيام الساعة في قوله أيان يوم القيامة ونظيره يقولون متى هذا الوعد واعلم أن إنكار البعث تارة يتولد من الشبهة وأخرى من الشهوة أما من الشبهة فهو الذي حكاه الله تعالى بقوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( القيامة 3 ) وتقريره أن الإنسان هو هذا البدن فإذا مات تفرقت أجزاء البدن واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء التراب وتفرقت في مشارق الأرض ومغاربها فكان تمييزها بعد ذلك عن غيرها محالاً فكان البعث محالاً واعلم أن هذه الشبهة ساقطة من وجهين الأول لا نسلم أن الإنسان هو هذا البدن فلم لا يجوز أن يقال إنه شيء مدبر لهذا البدن فإذا فسد هذا البدن بقي هو حياً كما كان وحينئذ يكون الله تعالى قادراً على أن يرده إلى أي بدن شاء وأراد وعلى هذا القول يسقط السؤال وفي الآية إشارة إلى هذا لأنه أقسم بالنفس اللوامة ثم قال أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن الثاني إن سلمنا أن الإنسان هو هذا البدن فلم قلتم إنه بعد تفريق أجزائه لا يمكن جمعه مرة أخرى وذلك لأنه تعالى عالم بجميع الجزئيات فيكون عالماً بالجزء الذي هو بدن عمرو وهو تعالى قادر على كل الممكنات وذلك التركيب من الممكنات وإلا لما وجد أولاً فيلزم أن يكون قادراً على تركيبها ومتى ثبت كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات قادراً على جميع الممكنات لا يبقى في المسألة إشكال
وأما القسم الثاني وهو إنكار من أنكر المعاد بناء على الشهوة فهو الذي حكاه الله تعالى بقوله بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( القيامة 5 ) ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه إلى الاسترسال في الشهوات والاستكثار من اللذات لا يكاد يقر بالحشر والنشر وبعث الأموات لئلا تتنغص عليه اللذات الجسمانية فيكون أبداً منكراً لذلك قائلاً على سبيل الهزؤ والسخرية أيان يوم القيامة
ثم إنه تعالى ذكر علامات القيامة فقال
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر من علامات القيامة في هذا الموضع أموراً ثلاثة أولها قوله فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ قرىء بكسر الراء وفتحها قال الأخفش المكسورة في كلامهم أكثر والمفتوحة لغة أيضاً قال الزجاج برق بصره بكسر الراء يبرق برقاً إذا تحير والأصل فيه أن يكثر الإنسان من النظر إلى لمعان البرق فيؤثر ذلك في ناظره ثم يستعمل ذلك في كل حيرة وإن لم يكن هناك نظر إلى البرق كما قالوا قمر بصره إذا فسد من النظر إلى القمر ثم استعير في الحيرة وكذلك بعل الرجل في أمره أي تحير ودهش وأصله من قولهم بعلت المرأة إذا فاجأها زوجها فنظرت إليه وتحيرت وأما برق بفتح الراء فهو من البريق أي لمع من شدة شخوصه وقرأ أبو السمال بلق بمعنى انفتح وانفتح يقال بلق الباب وأبلقته وبلقته فتحته(30/193)
المسألة الثانية اختلفوا في أن هذه الحالة متى تحصل فقيل عند الموت وقيل عند البعث وقيل عند رؤية جهنم فمن قال إن هذا يكون عند الموت قال إن البصر يبرق على معنى يشخص عند معاينة أسباب الموت والملائكة كما يوجد ذلك في كل واحد إذا قرب موته ومن مال إلى هذا التأويل قال إنهم إنما سألوه عن يوم القيامة لكنه تعالى ذكر هذه الحادثة عند الموت والسبب فيه من وجهين الأول أن المنكر لما قال أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 6 ) على سبيل الاستهزاء فقيل له إذا برق البصر وقرب الموت زالت عنه الشكوك وتيقن حينئذ أن الذي كان عليه من إنكار البعث والقيامة خطأ الثاني أنه إذا قرب موته وبرق بصره تيقن أن إنكار البعث لأجل طلب اللذات الدنيوية كان باطلاً وأما من قال بأن ذلك إنما يكون عند قيام القيامة قال لأن السؤال إنما كان عن يوم القيامة فوجب أن يقع الجواب بما يكون من خواصه وآثاره قال تعالى إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ ( إبراهيم 41 ) وثانيها قوله وَخَسَفَ الْقَمَرُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى يحتمل أن يكون المراد من خسوف القمر ذهاب ضوئه كما نعقله من حاله إذا خسف في الدنيا ويحتمل أن يكون المراد ذهابه بنفسه كقوله فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ ( القصص 81 )
المسألة الثانية قرىء وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( يس 40 ) على البناء للمفعول وثالثها قوله وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في كيفية الجمع وجوهاً أحدها أنه تعالى قال لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ فإذا جاء وقت القيامة أدرك كل واحد منهما صاحبه واجتمعا وثانيها جمعا في ذهاب الضوء فهو كما يقال الشافعي يجمع ما بين كذا وكذا في حكم كذا وثالثها يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار وقيل يجمعان ثم يقذفان في البحر فهناك نار الله الكبرى واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها في قوله وخسف القمر وجمع الشمس والقمر إنما تستقيم على مذهب من يجعل برق البصر من علامات القيامة فأما من يجعل برق البصر من علامات الموت قال معنى وَخَسَفَ الْقَمَرُ أي ذهب ضوء البصر عند الموت يقال عين خاسفة إذا فقئت حتى غابت حدقتها في الرأس وأصلها من خسفت الأرض إذا ساخت بما عليها وقوله وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كناية عن ذهاب الروح إلى عالم الآخرة كأن الآخرة كالشمس فإنه يظهر فيها المغيبات وتتضح فيها المبهمات والروح كالقمر فإنه كما أن القمر يقبل النور من الشمس فكذا الروح تقبل نور المعارف من عالم الآخرة ولا شك أن تفسير هذه الآيات بعلامات القيامة أولى من تفسيرها بعلامات الموت وأشد مطابقة لها
المسألة الثانية قال الفراء إنما قال جمع ولم يقل جمعت لأن المراد أنه جمع بينهما في زوال النور وذهاب الضوء وقال الكسائي المعنى جمع النوران أو الضياءان وقال أبو عبيدة القمر شارك الشمس في الجمع وهو مذكر فلا جرم غلب جانب التذكير في اللفظ قال الفراء قلت لمن نصر هذا القول كيف تقولون الشمس جمع والقمر فقالوا جمعت فقلت ما الفرق بين الموضعين فرجع عن هذا القول
المسألة الثالثة طعنت الملاحدة في الآية وقالوا خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر والجواب الله تعالى قادر على أن يجعل القمر منخسفاً سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس أو لم تكن والدليل عليه أن الأجسام متماثلة فيصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر(30/194)
والله قادر على كل الممكنات فوجب أن يقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال
قوله تعالى يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أي يقول هذا الإنسان المنكر للقيامة إذا عاين هذه الأحوال أين المفر والقراءة المشهورة بفتح الفاء وقرىء أيضاً بكسر الفاء والمفر بفتح الفاء هو الفرار قال الأخفش والزجاج المصدر من فعل يفعل مفتوح العين وهو قول جمهور أهل اللغة والمعنى أين الفرار وقول القائل أين الفرار يحتمل معنيين أحدهما أنه لا يرى علامات مكنة الفرار فيقول حينئذ أين الفرار كما إذا أيس من وجدان زيد يقول أين زيد والثاني أن يكون المعنى إلى أين الفرار وأما المفر بكسر الفاء فهو الموضع فزعم بعض أهل اللغة أن المفر بفتح الفاء كما يكون اسماً للمصدر فقد يكون أيضاً اسماً للموضع والمفر بكسر الفاء كما يكون اسماً للموضع فقد يكون مصدراً ونظيره المرجع
كَلاَّ لاَ وَزَرَ
قوله تعالى كَلاَّ وهو ردع عن طلب المفر لاَ وَزَرَ قال المبرد والزجاج أصل الوزر الجبل المنيع ثم يقال لكل ما التجأت إليه وتحصنت به وزر وأنشد المبرد قول كعب بن مالك الناس آلت علينا فيك ليس لنا
إلا السيوف وأطراف القنا وزر
ومعنى الآية أنه لا شيء يعتصم به من أمر الله
ثم قال تعالى
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
وفيه وجهان أحدهما أن يكون المستقر بمعنى الاستقرار بمعنى أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره وينصبوا إلى غيره كما قال إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى ( العلق 8 ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( النور 42 ) أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاْمُورُ ( الشورى 53 ) وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 12 ) الثاني أن يكون المعنى إلى ربك مستقرهم أي موضع قرارهم من جنة أو نار أي مفوض ذلك إلى مشيئته من شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار
يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
بما قدم من عمل عمله وبما أخر من عمل لم يعمله أو بما قدم من ماله فتصدق به وبما أخره فخلفه أو بما قدم من عمل الخير والشر وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة فعمل بها بعده وعن مجاهد أنه مفسر بأول العمل وآخره ونظيره قوله فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( المجادلة 6 ) وقال وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ ( يس 12 ) واعلم أن الأظهر أن هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند العرض والمحاسبة ووزن الأعمال ويجوز أن يكون عند الموت وذلك أنه إذا مات بين له مقعده من الجنة والنار
بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة ٌ
اعلم أنه تعالى لما قال خَلَقَ الإِنسَانَ يومئذ بأعماله قال بل لا يحتاج إلى أن ينبئه غير غيره وذلك لأن نفسه شاهدة بكونه فاعلاً لتلك الأفعال مقدماً عليها ثم في قوله بَصِيرَة ٌ وجهان الأول قال الأخفش جعله في نفسه بصيرة كما يقال فلان جود وكرم فههنا أيضاً كذلك لأن الإنسان بضرورة عقله يعلم(30/195)
أن ما يقربه إلى الله ويشغله بطاعته وخدمته فهو السعادة وما يبعده عن طاعة الله ويشغله بالدنيا ولذاتها فهو الشقاوة فهب أنه بلسانه يروج ويزور ويرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق لكنه بعقله السليم يعلم أن الذي هو عليه في ظاهره جيد أو رديء والثاني أن المراد جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل وهو كقوله يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ( النور 24 ) وقوله وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ( يس 36 ) وقوله شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم ( فصلت 20 ) فأما تأنيث البصيرة فيجوز أن يكون لأن المراد بالإنسان ههنا الجوارح كأنه قيل بل جوارح الإنسان كأنه قيل بل جوارح الإنسان على نفس الإنسان بصيرة وقال أبو عبيدة هذه الهاء لأجل المبالغة كقوله رجل راوية وطاغية وعلامة
واعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الإنسان يخبر يوم القيامة بأعماله ثم ذكر في هذه الآية أنه شاهد على نفسه بما عمل فقال الواحدي هذا يكون من الكفار فإنهم ينكرون ما عملوا فيختم الله على أفواههم وينطق جوارحهم
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ
للمفسرين فيه أقوال الأول قال الواحدي المعاذير جمع معذرة يقال معذرة ومعاذر ومعاذير قال صاحب ( الكشاف ) جمع المعذرة معاذر والمعاذير ليس جمع معذرة وإنما هو اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر والمعنى أن الإنسان وإن اعتذر عن نفسه وجادل عنها وأتى بكل عذر وحجة فإنه لا ينفعه ذلك لأنه شاهد على نفسه القول الثاني قال الضحاك والسدي والفراء والمبرد والزجاج المعاذير الستور واحدها معذار قال المبرد هي لغة يمانية قال صاحب ( الكشاف ) إن صحت هذه الرواية فذاك مجاز من حيث إن الستر يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب والمعنى على هذا القول أنه وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل فإن نفسه شاهدة عليه
لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
فيه مسائل
المسألة الأولى زعم قوم من قدماء الروافض أن هذا القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص عنه واحتجوا عليه بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها ولو كان هذا الترتيب من الله تعالى لما كان الأمر كذلك
واعلم أن في بيان المناسبة وجوهاً أولها يحتمل أن يكون الاستعجال المنهي عنه إنما اتفق للرسول عليه السلام عند إنزال هذه الآيات عليه فلا جرم نهى عن ذلك الاستعجال في هذا الوقت وقيل له لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وهذا كما أن المدرس إذا كان يلقي على تلميذه شيئاً فأخذ التلميذ يلتفت يميناً وشمالاً فيقول المدرس في أثناء ذلك الدرس لا تلتفت يميناً وشمالاً ثم يعود إلى الدرس فإذا نقل ذلك الدرس مع هذا الكلام في أثنائه فمن لم يعرف السبب يقول إن وقوع تلك الكلمة في أثناء ذلك الدرس غير مناسب لكن من عرف الواقعة علم أنه حسن الترتيب وثانيها أنه تعالى نقل عن الكفار أنهم يحبون(30/196)
السعادة العاجلة وذلك هو قوله بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( القيامة 5 ) ثم بين أن التعجيل مذموم مطلقاً حتى التعجيل في أمور الدين فقال لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وقال في آخر الآية كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة َ ( القيامة 20 ) وثالثها أنه تعالى قال بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة ٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ( القيامة 14 15 ) فههنا كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يظهر التعجيل في القراءة مع جبريل وكان يجعل العذر فيه خوف النسيان فكأنه قيل له إنك إذا أتيت بهذا العذر لكنك تعلم أن الحفظ لا يحصل إلا بتوفيق الله وإعانته فاترك هذا التعجيل واعتمد على هداية الله تعالى وهذا هو المراد من قوله لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ ( القيامة 16 17 ) ورابعها كأنه تعالى قال يا محمد إن غرضك من هذا التعجيل أن تحفظه وتبلغه إليهم لكن لا حاجة إلى هذا فإن الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة ٌ ( القيامة 14 ) وهم بقلوبهم يعلمون أن الذي هم عليه من الكفر وعبادة الأوثان وإنكار البعث منكر باطل فإذا كان غرضك من هذا التعجيل أن تعرفهم قبح ما هم عليه ثم إن هذه المعرفة حاصلة عندهم فحينئذ لم يبق لهذا التعجيل فائدة فلا جرم قال لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ وخامسها أنه تعالى حكى عن الكافر أنه يقول أين المفر ثم قال تعالى كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( القيامة 11 12 ) فالكافر كأنه كان يفر من الله تعالى إلى غيره فقيل لمحمد إنك في طلب حفظ القرآن تستعين بالتكرار وهذا استعانة منك بغير الله فاترك هذه الطريقة واستعن في هذا الأمر بالله فكأنه قيل إن الكافر يفر من الله إلى غيره وأما أنت فكن كالمضاد له فيجب أن تفر من غير الله إلى الله وأن تستعين في كل الأمور بالله حتى يحصل لك المقصود على ما قال إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ ( القيامة 17 ) وقال في سورة أخرى وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبّى زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) أي لا تستعن في طلب الحفظ بالتكرار بل اطلبه من الله تعالى وسادسها ما ذكره القفال وهو أن قوله لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ ليس خطاباً مع الرسول عليه السلام بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( القيامة 13 ) فكان ذلك للإنسان حال ما ينبأ بقبائح أفعاله وذلك بأن يعرض عليه كتابه فيقال له اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ( الإسراء 14 ) فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فيقال له لا تحرك به لسانك لتعجل به فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال ثم إن علينا بيان أمره وشرح مراتب عقوبته وحاصل الأمر من تفسير هذه الآية أن المراد منه أنه تعالى يقرأ على الكافر جميع أعماله على سبيل التفصيل وفيه أشد الوعيد في الدنيا وأشد التهويل في الآخرة ثم قال القفال فهذا وجه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به
المسألة الثانية احتج من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية فقال إن ذلك الاستعجال إن كان بإذن الله تعالى فكيف نهاه عنه وإن كان لا بإذن الله تعالى فقد صدر الذنب عنه الجواب لعل ذلك الاستعجال كان مأذوناً فيه إلى وقت النهي عنه ولا يبعد أن يكون الشيء مأذوناً فيه في وقت ثم يصير منهياً عنه في وقت آخر ولهذا السبب قلنا يجوز النسخ
المسألة الثالثة روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يشتد عليه حفظ التنزيل وكان إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل مخافة أن لا يحفظ فأنزل تعالى لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ أي بالوحي والتنزيل والقرآن وإنما جاز هذا الإضمار وإن لم يجر له ذكر لدلالة الحال عليه كما(30/197)
أضمر في قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) ونظير قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ( طه 114 ) وقوله لِتَعْجَلَ بِهِ أي لتعجل بأخذه
أما قوله تعالى
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ
ففيه مسائل
المسألة الأولى كلمة على للوجوب فقوله إن علينا يدل على أن ذلك كالواجب على الله تعالى أما على مذهبنا فذلك الوجوب بحكم الوعد وأما على قول المعتزلة فلأن المقصود من البعثة لا يتم إلا إذا كان الوحي محفوظاً مبرأ عن النسيان فكان ذلك واجباً نظراً إلى الحكمة
المسألة الثانية قوله إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ معناه علينا جمعه في صدرك وحفظك وقوله وَقُرْءانَهُ فيه وجهان أحدهما أن المراد من القرآن القراءة وعلى هذا التقدير ففيه احتمالان أحدهما أن يكون المراد جبريل عليه السلام سيعيده عليك حتى تحفظه والثاني أن يكون المراد إنا سنقرئك يا محمد إلى أن تصير بحيث لا تنساه وهو المراد من قوله سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) فعلى هذا الوجه الأول القارىء جبريل عليه السلام وعلى الوجه الثاني القارىء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والوجه الثاني أن يكون المراد من القرآن الجمع والتأليف من قولهم ما قرأت الناقة سلاقط أي ما جمعت وبنت عمرو بن كلثوم لم تقرأ جنيناً وقد ذكرنا ذلك عند تفسير القرء فإن قيل فعلى هذا الوجه يكون الجمع والقرآن واحداً فيلزم التكرار قلنا يحتمل أن يكون المراد من الجمع جمعه في نفسه ووجوده الخارجي ومن القرآن جمعه في ذهنه وحفظه وحينئذ يندفع التكرار
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ
فيه مسألتان
المسألة الأولى جعل قراءة جبريل عليه السلام قراءته وهذا يدل على الشرف العظيم لجبريل عليه السلام ونظيره في حق محمد عليه الصلاة والسلام مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( النساء 80 )
المسألة الثالثة قال ابن عباس معناه فإذا قرأه جبريل فاتبع قرآنه وفيه وجهان الأول قال قتادة فاتبع حلاله وحرامه والثاني فاتبع قراءته أي لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراءة جبريل لكن يجب أن تسكت حتى يتم جبريل عليه السلام القراءة فإذا سكت جبريل فخذ أنت في القراءة وهذا الوجه أولى لأنه عليه السلام أمر أن يدع القراءة ويستمع من جبريل عليه السلام حتى إذا فرغ جبريل قرأه وليس هذا موضع الأمر باتباع ما فيه من الحلال والحرام قال ابن عباس فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا نزل عليه جبريل بعد هذه الآية أطرق واستمع فإذا ذهب قرأه
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
فيه مسألتان
المسألة الأولى الآية تدل على أنه عليه السلام كان يقرأ مع قراءة جبريل عليه السلام وكان يسأل في(30/198)
أثناء قراءته مشكلاته ومعانيه لغاية حرصه على العلم فنهى النبي عليه السلام عن الأمرين جميعاً أما عن القراءة مع قراءة جبريل فبقوله فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ( القيامة 18 ) وأما عن إلقاء الأسئلة في البيان فبقوله ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
المسألة الثانية احتج من جوز تأخير البيان عن وقت الخطاب بهذه الآية وأجاب أبو الحسين عنه من وجهين الأول أن ظاهر الآية يقتضي وجوب تأخير البيان عن وقت الخطاب وأنتم لا تقولون به الثاني أن عندنا الواجب أن يقرن باللفظ إشعاراً بأنه ليس المراد من اللفظ ما يقتضيه ظاهره فأما البيان التفصيلي فيجوز تأخيره فتحمل الآية على تأخير البيان التفصيلي وذكر القفال وجهاً ثالثاً وهو أن قوله ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أي ثم إنا نخبرك بأن علينا بيانه ونظيره قوله تعالى فَكُّ رَقَبَة ٍ إلى قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 13 17 ) والجواب عن الأول أن اللفظ لا يقتضي وجوب تأخير البيان بل يقتضي تأخير وجوب البيان وعندنا الأمر كذلك لأن وجوب البيان لا يتحقق إلا عند الحاجة وعن الثاني أن كلمة ثم دخلت مطلق البيان فيتناول البيان المجمل والمفصل وأما سؤال القفال فضعيف أيضاً لأنه ترك للظاهر من غير دليل
المسألة الثالثة قوله تعالى ثُمَّ أَنَابَ عَلَيْنَا بَيَانَهُ يدل على أن بيان المجمل واجب على الله تعالى أما عندنا فبالوعد والتفضل وأما عند المعتزلة فبالحكمة
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة َ وَتَذَرُونَ الاٌّ خِرَة َ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) كَلاَّ ردع لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن عادة العجلة وحث على الأناة والتؤدة وقد بالغ في ذلك باتباعه قوله بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة َ كأنه قال بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة وتذرون الأخرة وقال سائر المفسرين كَلاَّ معناه حقاً أي حقاً تحبون العاجلة وتذرون الآخرة والمعنى أنهم يحبون الدنيا ويعملون لها ويتركون الآخرة ويعرضون عنها
المسألة الثانية قرىء تحبون وتذرون بالتاء والياء وفيه وجهان الأول قال الفراء القرآن إذا نزل تعريفاً لحال قوم فتارة ينزل على سبيل المخاطبة لهم وتارة ينزل على سبيل المغايبة كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ( يونس 22 ) الثاني قال أبو علي الفارسي الياء على ما تقدم من ذكر الإنسان في قوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ ( القيامة 3 ) والمراد منه الكثرة كقوله إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ( المعارج 19 ) والمعنى أنهم يحبون ويذرون والتاء على قل لهم بل تحبون وتذرون
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ
قال الليث نضر اللون والشجر والورق ينضر نضرة والنضرة النعمة والناضر الناعم والنضر الحسن من كل شيء ومنه يقال للون إذا كان مشرقاً ناضر فيقال أخضر ناضر وكذلك في جميع الألوان ومعناه الذي يكون له برق وكذلك يقال شجر ناضر وروض ناضر ومنه قوله عليه السلام ( نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ) الحديث أكثر الرواة رواه بالتخفيف وروى عكرمة عن الأصمعي فيه التشديد وألفاظ المفسرين مختلفة في تفسير الناضر ومعناها واحد قالوا(30/199)
مسرورة ناعمة مضيئة مسفرة مشرقة بهجة وقال الزجاج نضرت بنعيم الجنة كماقال تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ ( المطففين 24 )
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة ٌ
اعلم أن جمهور أهل السنة يتمسكون بهذه الآية في إثبات أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة أما المعتزلة فلهم ههنا مقامان أحدهما بيان أن ظاهره لا يدل على رؤية الله تعالى والثاني بيان التأويل
أما المقام الأول فقالوا النظر المقرون بحرف إلى ليس اسماً للرؤية بل لمقدمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماس لرؤيته ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة وكالإصغاء بالنسبة إلى السماع فكما أن نظر القلب مقدمة للمعرفة والإصغاء مقدمة للسماع فكذا نظر العين مقدمة للرؤية قالوا والذي يدل على أن النظر ليس اسماً للرؤية وجوه الأول قوله تعالى وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( الأعراف 198 ) أثبت النظر حال عدم الرؤية فدل على أن النظر غير الرؤية والثاني أن النظر يوصف بما لا توصف به الرؤية يقال نظر إليه نظراً شرزاً ونظر غضبان ونظر راض وكل ذلك لأجل أن حركة الحدقة تدل على هذه الأحوال ولا توصف الرؤية بشيءمن ذلك فلا يقال رآه شزراً ورآه رؤية غضبان أو رؤية راض الثالث يقال انظر إليه حتى تراه ونظرت إليه فرأيته وهذا يفيد كون الرؤية غاية للنظر وذلك يوجب الفرق بين النظر والرؤية الرابع يقال دور فلان متناظرة أي متقابلة فمسمى النظر حاصل ههنا ومسمى الرؤية غير حاصل الخامس قوله الشاعر وجوه ناظرات يوم بدر
إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
أثبت النظر المقرون بحرف إلى مع أن الرؤية ما كانت حاصلة السادس احتج أبو علي الفارسي على أن النظر ليس عبارة عن الرؤية التي هي إدراك البصر بل هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو الجهة التي فيها الشيء الذي يراد رؤيته لقول الشاعر فيامي هل يجزي بكائي بمثله
مراراً وأنفاسي إليك الزوافر
وأنى متى أشرف على الجانب الذي
به أنت من بين الجوانب ناظراً
قال فلو كان النظر عبارة عن الرؤية لما طلب الجزاء عليه لأن المحب لم يطلب الثواب على رؤية المحبوب فإن ذلك من أعظم مطالبه قال ويدل على ذلك أيضاً قول الآخر ونظرة ذي شجن وامق
إذا ما الركائب جاوزن ميلا
والمراد منه تقليب الحدقة نحو الجانب الذي فيه المحبوب فعلمنا بهذه الوجوه أن النظر المقرون بحرف إلى ليس اسماً للرؤية السابع أن قوله إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ معناه أنها تنظر إلى ربها خاصة ولا تنظر إلى غيره وهذا معنى تقديم المفعول ألا ترى إلى قوله إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( القيامة 12 ) إلى ربك يومئذ المساق ( القيامة 30 ) ( القيامة 30 ) أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاْمُورُ ( الشورى 53 ) وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( البقرة 8 ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( آ ل عمران 28 ) عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( الشورى 10 ) كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد(30/200)
في موقف القيامة فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( يونس 62 ) فلما دلت الآية على أن النظر ليس إلا إلى الله ودل العقل على أنهم يرون غير الله علمنا أن المراد من النظر إلى الله ليس هو الرؤية الثامن قال تعالى وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 77 ) ولو قال لا يراهم كفي فلما نفى النظر ولم ينف الرؤية دل على المغايرة فثبت بهذه الوجوه أن النظر المذكور في هذه الآية ليس هو الرؤية
المقام الثاني في بيان التأويل المفصل وهو من وجهين الأول أن يكون الناظر بمعنى المنتظر أي أولئك الأقوام ينتظرون ثواب الله وهو كقول القائل إنما أنظر إلى فلان في حاجتي والمراد أنتظر نجاحها من جهته وقال تعالى فَنَاظِرَة ٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ( النمل 35 ) وقال وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ ( البقرة 280 ) لا يقال النظر المقرون بحرف إلى غير مستعمل في معنى الانتظار ولأن الانتظار غم وألم وهو لا يليق بأهل السعادة يوم القيامة لأنا نقول الجواب عن الأول من وجهين الأول النظر المقرون بحرف إلى قد يستعمل بمعنى الانتظار والتوقع والدليل عليه أنه يقال أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي والمراد منه التوقع والرجاء وقال الشاعر وإذا نظرت إليك من ملك
والبحر دونك زدتني نعما
وتحقيق الكلام فيه أن قولهم في الانتظار نظرت بغير صلة فإنما ذلك في الانتظار لمجيء الإنسان بنفسه فأما إذا كان منتظراً لرفده ومعونته فقد يقال فيه نظرت إليه كقول الرجل وإنما نظري إلى الله ثم إليك وقد يقول ذلك من لا يبصر ويقول الأعمى في مثل هذا المعنى عيني شاخصة إليك ثم إن سلمنا ذلك لكن لا نسلم إن المراد من إلى ههنا حرف التعدي بل هو واحد الآلاء والمعنى وجوه يومئذ ناضرة نعمة ربها منتظرة
وأما السؤال الثاني وهو أن الانتظار غم وألم فجوابه أن المنتظر إذا كان فيما ينتظره على يقين من الوصول إليه فإنه يكون في أعظم اللذات
التأويل الثاني أن يضمر المضاف والمعنى إلى ثواب ربها ناظرة قالوا وإنما صرنا إلى هذا التأويل لأنه لما دلت الدلائل السمعية والعقلية على أنه تعالى تمتنع رؤيته وجب المصير إلى التأويل ولقائل أن يقول فهذه الآية تدل أيضاً على أن النظر ليس عبارة عن تقليب الحدقة لأنه تعالى قال لا ينظر إليهم وليس المراد أنه تعالى يقلب الحدقة إلى جهنم فإن قلتم المراد أنه لا ينظر إليهم نظر الرحمة كان ذلك جوابنا عما قالوه
التأويل الثالث أن يكون معنى إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ أنها لا تسأل ولا ترغب إلا إلى الله وهو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام ( اعبد الله كأنك تراه ) فأهل القيامة لشدة تضرعهم إليه وانقطاع أطماعهم عن غيره صاروا كأنهم ينظرون إليه الجواب قوله ليس النظر عبارة عن الرؤية قلنا ههنا مقامان
الأول أن تقيم الدلالة على أن النظر هو الرؤية من وجهين الأول ما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام وهو قوله أَنظُرْ إِلَيْكَ ( الأعراف 143 ) فلو كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب(30/201)
المرئي لاقتضت الآية أن موسى عليه السلام أثبت لله تعالى وجهة ومكاناً وذلك محال الثاني أنه جعل النظر أمراً مرتباً على الإرادة فيكون النظر متأخراً عن الإرادة وتقليب الحدقة غير متأخر عن الإرادة فوجب أن يكون النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب المرئي
المقام الثاني وهو الأقرب إلى الصواب سلمنا أن النظر عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته لكنا نقول لما تعذر حمله على حقيقته وجب حمله على مسببه وهو الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وحمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ولا تعلق بينه وبين الانتظار فكان حمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار
أما قوله النظر جاء بمعنى الانتظار قلنا لنا في الجواب مقامان
الأول أن النظر الوارد بمعنى الانتظار كثير في القرآن ولكنه لم يقرن ألبتة بحرف إلى كقوله تعالى انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ( الحديد 13 ) وقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ( الأعراف 53 ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ( البقرة 210 ) والذي ندعيه أن النظر المقرون بحرف إلى المعدي إلى الوجوه ليس إلا بمعنى الرؤية أو بالمعنى الذي يستعقب الرؤية ظاهر فوجب أن لا يرد بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك
وأما قول الشاعر وجوه ناظرات يوم بدر
إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
قلنا هذا الشعر موضوع والرواية الصحيحة وجوه ناظرات يوم بكر
إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
والمراد من هذا الرحمن مسيلمة الكذاب لأنهم كانوا يسمونه رحمن اليمامة فأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه التخلص من الأعداء وأما قول الشاعر
وإذا نظرت إليك من ملك
فالجواب أن قوله وإذا نظرت إليك لا يمكن أن يكون المراد منه الانتظار لأن مجرد الانتظار لا يستعقب العطية بل المراد من قوله وإذا نظرت إليك وإذا سألتك لأن النظر إلى الإنسان مقدمة المكالمة فجاز التعبير عنه به وقوله كلمة إلى ههنا ليس المراد منه حرف التعدي بل واحد الآلاء قلنا إن إلى على هذا القول تكون اسماً للماهية التي يصدق عليه أنها نعمة فعلى هذا يكفي في تحقق مسمى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة وإن كان في غاية القلة والحقارة وأهل الثواب يكونون في جميع مواقف القيامة في النعم العظيمة المتكاملة ومن كان حاله كذلك كيف يمكن أن يبشر بأنه يكون في توقع الشيء الذي ينطلق عليه اسم النعمة ومثال هذا أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حالك في العظمة والقوة بعد سنة بحيث تكون متوقعاً لحصول اللقمة الواحدة من الخبز والقطرة الواحدة من الماء وكما أن ذلك فاسد من القول فكذا هذا
المقام الثاني هب أن النظر المعدي بحرف إلى المقرون بالوجوه جاء في اللغة بمعنى الانتظار لكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه لأن لذة الانتظار مع يقين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا فلا بد وأن يحصل في(30/202)
الآخرة شيء أزيد منه حتى يحسن ذكره في معرض الترغيب في الآخرة ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول لأن ذلك معلوم بالعقل فبطل ما ذكروه من التأويل
وأما التأويل الثاني وهو أن المراد إلى ثواب ربها ناظرة فهذا ترك للظاهر وقوله إنما صرنا إليه لقيام الدلائل العقلية والنقلية على أن الله لا يرى قلنا بينا في الكتب العقلية ضعف تلك الوجوه فلا حاجة ههنا إلى ذكرها والله أعلم
وقوله تعالى
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة ٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة ٌ
الباسر الشديد العبوس والباسل أشد منه ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه والمعنى أنها عابسة كالحة قد أظلمت ألوانها وعدمت آثار السرور والنعمة منها لما أدركها من الشقاء واليأس من رحمة الله ولما سودها الله حين ميز الله أهل الجنة والنار وقد تقدم تفسير البسور عند قوله عَبَسَ وَبَسَرَ ( المدثر 22 ) وإنما كانت بهذه الصفة لأنها قد أيقنت أن العذاب نازل وهو قوله تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة ٌ والظن ههنا بمعنى اليقين هكذا قاله المفسرون وعندي أن الظن إنما ذكر ههنا على سبيل التهكم كأنه قيل إذا شاهدوا تلك الأحوال حصل فيهم ظن أن القيامة حق وأما الفاقرة فقال أبو عبيدة الفاقرة الداهية وهو اسم للوسم الذي يفقر به على الأنف قال الأصمعي الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلى العظم أو قريب منه ثم يجعل فيه خشبة يجر البعير بها ومنه قيل عملت به الفاقرة قال المبرد الفاقرة داهية تكسر الظهر وأصلها من الفقرة والفقارة كأن الفاقرة داهية تكسر فقار الظهر وقال ابن قتيبة يقال فقرت الرجل كما يقال رأسته وبطنته فهو مفقور واعلم أن من المفسرين من فسر الفاقرة بأنواع العذاب في النار وفسرها الكلبي فقال الفاقرة هي أن تحجب عن رؤية ربها ولا تنظر إليه
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِى َ
قوله تعالى كَلاَّ قال الزجاج كلا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة وعلمتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين وقال آخرون كَلاَّ أي حقاً إذا بلغت التراقي كان كذا وكذا والمقصود أنه لما بين تعظيم أحوال الآخرة بين أن الدنيا لا بد فيها من الانتهاء والنفاد والوصول إلى تجرع مرارة الموت وقال مقاتل كَلاَّ أي لا يؤمن الكافر بما ذكر من أمر القيامة ولكنه لا يمكنه أن يدفع أنه لا بد من الموت ومن تجرع آلامها وتحمل آفاتها
ثم إنه تعالى وصف تلك الحالة التي تفارق الروح فيها الجسد فقال إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِى َ وفيه مسألتان(30/203)
المسألة الأولى المراد إذا بلغت النفس أو الروح أخبر عما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب بذلك كقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ والتراقي جمع ترقوة وهي عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين
واعلم أنه يكنى ببلوغ النفس التراقي عن القرب من الموت ومنه قول دريد بن الصمة ورب عظيمة دافعت عنها
وقد بلغت نفوسهم التراقي
ونظيره قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( الأحزاب 10 )
المسألة الثالثة قال بعض الطاعنين إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها عن القلب ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي تبقى الحياة حتى يقال فيه من راق وحتى تلتف الساق بالساق والجواب المراد من قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِى َ أي إذا حصل القرب من تلك الحالة
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في راق وجهان الأول أن يكون من الرقية يقال رقاه يرقيه رقية إذا عوذه بما يشفيه كما يقال بسم الله أرقيك وقائل هذا القول على هذا الوجه هم الذين يكونون حول الإنسان المشرف على الموت ثم هذا الاستفهام يحتمل أن يكون بمعنى الطلب كأنهم طلبوا له طبيباً يشفيه وراقياً يرقيه ويحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار كما يقول القائل عند اليأس من الذي يقدر أن يرقي هذا الإنسان المشرف على الموت الوجه الثاني أن يكون قوله مَنْ رَاقٍ من رقى يرقي رقياً ومنه قوله تعالى وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ وعلى هذا الوجه يكون قائل هذا القول هم الملائكة قال ابن عباس إن الملائكة يكرهون القرب من الكافر فيقول ملك الموت من يرقى بهذا الكافر وقال الكلبي يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض أيهم يرقى بروحه إلى السماء فهو مَنْ رَاقٍ
المسألة الثانية قال الواحدي إن إظهار النون عند حروف الفم لحسن فلا يجوز إظهار نون من في قوله مَنْ رَاقٍ وروى حفص عن عاصم إظهار النون في قوله مَنْ رَاقٍ و بَلْ رَانَ ( المطففين 14 ) قال أبو علي الفارسي ولا أعرف وجه ذلك قال الواحدي والوجه أن يقال قصد الوقف على من وبل فأظهرها ثم ابتدأ بما بعدهما وهذا غير مرضي من القراءة
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ
قال المفسرون المراد أنه أيقن بمفارقته الدنيا ولعله إنما سمي اليقين ههنا بالظن لأن الإنسان ما دام يبقى روحه متعلقاً ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة على ما قال كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة َ ( القيامة 20 ) ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت بل الظن(30/204)
الغالب مع رجاء الحياة أو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم
واعلم أن الآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن لأنه تعالى سمى الموت فراقاً والفرق إنما يكون لو كانت الروح باقية فإن الفراق والوصال صفة والصفة تستدعي وجود الموصوف
ثم قال تعالى
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ
الالتفاف هو الاجتماع كقوله تعالى جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ( الإسراء 104 ) وفي الساق قولان القول الأول أنه الأمر الشديد قال أهل المعاني لأن الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقه فقيل للأمر الشديد ساق وتقول العرب قامت الحرب على ساق أي اشتدت قال الجعدي أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها
وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
ثم قال والمراد بقوله وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التفت شدة مفارقة الدنيا ولذاتها وشدة الذهاب أو التفت شدة ترك الأهل وترك الولد وترك المال وترك الجاه وشدة شماتة الأعداء وغم الأولياء وبالجملة فالشدائد هناك كثيرة كشدة الذهاب إلى الآخرة والقدوم على الله أو التفت شدة ترك الأحباب والألياء وشدة الذهاب إلى دار الغربة والقول الثاني أن المراد من الساق هذا العضو المخصوص ثم ذكروا على هذا القول وجوهاً أحدها قال الشعبي وقتادة هما ساقاه عند الموت أما رأيته في النزع كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى والثاني قال الحسن وسعيد بن المسيب هما ساقاه إذا التفتا في الكفن والثالث أنه إذا مات يبست ساقاه والتصقت إحداهما بالأخرى
ثم قال تعالى
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ
المساق مصدر من ساق يسوق كالمقال من قال يقول ثم فيه وجهان أحدهما أن يكون المراد أن المسوق إليه هو الرب والثاني أن يكون المراد أن السائق في ذلك اليوم هو الرب أي سوق هؤلاء مفوض إليه
فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى شرح كيفية عمله فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه وفيما يتعلق بدنياه أما ما يتعلق بأصول الدين فهو أنه ما صدق بالدين ولكنه كذب به وأما ما يتعلق بفروع الدين فهو أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض وأما ما يتعلق بدنياه فهو أنه ذهب إلى أهله يتمطى ويتبختر ويختال في مشيته واعلم أن الآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة كما يستحقهما بترك الإيمان
المسألة الثانية قوله فَلاَ صَدَّقَ حكاية عمن فيه قولان الأول أنه كناية عن الإنسان في قوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( القيامة 3 ) ألا ترى إلى قوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( القيامة 36 ) وهو معطوف على قوله يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 6 ) والقول الثاني أن الآية نزلت في أبي جهل
المسألة الثالثة في يتمطى قولان أحدهما أن أصله يتمطط أي يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه(30/205)
فقلبت الطاء فيه ياء كما قيل في تقصى أصله تقصص والثاني من المطا وهو الظهر لأنه يلويه وفي الحديث ( إذا مشت أمتي المطيطي ) أي مشية المتبختر
المسألة الرابعة قال أهل العربية لا ههنا في موضع لم فقوله فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى أي لم يصدق ولم يصل وهو كقوله فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ ( البلد 11 ) أي لم يقتحم وكذلك ما روي في الحديث ( أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا استهل ) قال الكسائي لم أر العرب قالت في مثل هذا كلمة وحدها حتى تتبعها بأخرى إما مصرحاً أو مقدراً أما المصرح فلا يقولون لا عبدالله خارج حتى يقولون ولا فلان ولا يقولون مررت برجل لا يحسن حتى يقولوا ولا يجمل وأما المقدر فهو كقوله فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ ثم اعترض الكلام فقال وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ فَكُّ رَقَبَة ٍ أَوْ إِطْعَامٌ ( البلد 12 14 ) وكان التقدير لا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً فاكتفى به مرة واحدة ومنهم من قال التقدير في قوله فَلاَ اقتَحَمَ أي أفلا اقتحم وهلا اقتحم
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى
قال قتادة والكلبي ومقاتل أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيد أبي جهل ثم قال أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى توعده فقال أبو جهل بأي شيء تهددني لا تستطع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً وإني لأعز أهل هذا الوادي ثم انسل ذاهباً فأنزل الله تعالى كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام ومعنى قوله أَوْلَى لَكَ بمعنى ويل لك وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه قال القاضي المعنى بعد ذلك فبعداً ( لك ) في أمر دنياك وبعداً لك في أمر أخراك وقال آخرون المعنى الويل لك مرة بعد ذلك وقال القفال هذا يحتمل وجوهاً أحدها أنه وعيد مبتدأ من الله للكافرين والثاني أنه شيء قاله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعدوه فاستنكره عدو الله لعزته عند نفسه فأنزل الله تعالى مثل ذلك والثالث أن يكون ذلك أمراً من الله لنبيه بأن يقولها لعدو الله فيكون المعنى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ( القيامة 33 ) فقل له يا محمد أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أي احذر فقد قرب منك مالا قبل لك به من المكروه
أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى
أي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب بعمله في الآخرة والسدي في اللغة المهمل يقال أسديت إبلي إسداء أهملتها
واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة قوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( القيامة 3 ) أعاد في آخر السورة ذلك وذكر في صحة البعث والقيامة دليلين الأول قوله أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( القيامة 36 ) ونظيره قوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) وقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 ) وتقريره أن إعطاء القدرة والآلة والعقل بدون التكليف والأمر بالطاعة والنهي عن المفاسد يقتضي كونه تعالى راضياً بقبائح الأفعال وذلك لا يليق بحكمته فإذاً لا بد من التكليف والتكليف لا يحسن ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة(30/206)
الدليل الثاني على صحة القول بالحشر الاستدلال بالخلقة الأولى على الإعادة وهو المراد من قوله تعالى
أَلَمْ يَكُ نُطْفَة ً مِّن مَّنِى ٍّ يُمْنَى
وفيه مسألتان
المسألة الأولى النطفة هي الماء القليل وجمعها نطاف ونطف يقول ألم يك ماء قليلاً في صلب الرجل وترائب المرأة وقوله مّن مَّنِى ّ يُمْنَى أي يصب في الرحم وذكرنا الكلام في يمنى عند قوله مِن نُّطْفَة ٍ إِذَا تُمْنَى ( النجم 46 ) وقوله أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ ( الواقعة 58 ) فإن قيل ما الفائدة في يمنى في قوله مّن مَّنِى ّ يُمْنَى قلنا فيه إشارة إلى حقارة حاله كأنه قيل إنه مخلوق من المني الذي جرى على مخرج النجاسة فلا يليق بمثل هذا الشيء أن يتمرد عن طاعة الله تعالى إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز كما في قوله تعالى في عيسى ومريم كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ( المائدة 75 ) والمراد منه قضاء الحاجة
المسألة الثانية في يمنى في هذه السورة قراءتان التاء والياء فالتاء للنطفة على تقدير ألم يك نطفة تمنى من المني والياء للمني من مني يمنى أي يقدر خلق الإنسان منه
ثُمَّ كَانَ عَلَقَة ً فَخَلَقَ فَسَوَّى
قوله تعالى ثُمَّ كَانَ عَلَقَة ً أي الإنسان كان علقة بعد النطفة
أما قوله تعالى فَخَلَقَ فَسَوَّى ففيه وجهان الأول فخلق فقدر فسوى فعدل الثاني فخلق أي فنفخ فيه الروح فسوى فكمل أعضاءه وهو قول ابن عباس ومقاتل
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِى َ الْمَوْتَى
ثم قال تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان الزَّوْجَيْنِ يعني الصنفين
ثم فسرهما فقال الذَّكَرَ وَالاْنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِى َ الْمَوْتَى والمعنى أليس ذلك الذي أنشأ هذه الأشياء بقادر على الإعادة روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قرأها قال سبحانك بلى والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد سيد المرسلين وآله وصحبه وسلم(30/207)
سورة الإنسان
إحدى وثلاثون آية مكية
هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
اتفقوا على أن هَلُ ههنا وفي قوله تعالى هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ِ ( الغاشية 1 ) بمعنى قد كما تقول هل رأيت صنيع فلان وقد علمت أنه قد رآه وتقول هل وعظتك هل أعطيتك ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته وقد تجيء بمعنى الجحد تقول وهل يقدر أحد على مثل هذا وأما أنها تجيء بمعنى الاستفهام فظاهر والدليل على أنها ههنا ليست بمعنى الاستفهام وجهان الأول ما روي أن الصديق رضي الله عنه لما سمع هذه الآية قال يا ليتها كانت تمت فلا نبتلي ولو كان ذلك استفهاماً لما قال ليتها تمت لأن الاستفهام إنما يجاب بلا أو بنعم فإذا كان المراد هو الخبر فحينئذ يحسن ذلك الجواب الثاني أن الاستفهام على الله تعالى محال فلا بد من حمله على الخبر
المسألة الأولى اختلفوا في الإنسان المذكور ههنا فقال جماعة من المفسرين يريد آدم عليه السلام ومن ذهب إلى هذا قال إن الله تعالى ذكر خلق آدم في هذه الآية ثم عقب بذكر ولده في قوله إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ( الإنسان 2 ) والقول الثاني أن المراد بالإنسان بنو آدم بدليل قوله إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ فالإنسان في الموضعين واحد وعلى هذا التقدير يكون نظم الآية أحسن
المسألة الثانية حِينٍ فيه قولان الأول أنه طائفة من الزمن الطويل الممتد وغير مقدر في نفسه والثاني أنه مقدر بالأربعين فمن قال المراد بالإنسان هو آدم قال المعنى أنه مكث آدم عليه السلام أربعين سنة طيناً إلى أن نفخ فيه الروح وروى عن ابن عباس أنه بقي طيناً أربعين سنة وأربعين من صلصال وأربعين من حمأ مسنون فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة فهو في هذه المدة ما كان شيئاً مذكوراً وقال الحسن خلق الله تعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دواب البر والبحر في الأيام الستة التي خلق فيها السموات(30/208)
والأرض وآخر ما خلق آدم عليه السلام وهو قوله لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً فإن قبل إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً والآية تقتضي أنه قد مضى على الإنسان حال كونه إنساناً حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً قلنا إن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح وسيصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان والذين يقولون الإنسان هو النفس الناطقة وإنها موجودة فبل وجود الأبدان فالإشكال عنهم زائل واعلم أن الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث ومتى كان كذلك فلا بد من محدث قادر
المسألة الثالثة لم يكن شيئاً مذكوراً محله النصب على الحال من الإنسان كأنه قيل هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور أو الرفع على الوصف لحين تقديره هل أتى على الإنسان حين لم يكن فيه شيئاً
إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
قوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ فيه مسائل
المسألة الأولى المشج في اللغة الخلط يقال مشج يمشج مشجاً إذا خلط والأمشاج الأخلاط قال ابن الأعرابي واحدها مشج ومشيج ويقال للشيء إذا خلط مشيج كقولك خليط وممشوج كقولك مخلوط قال الهذلي كأن الريش والفوقين منه
خلاف النصل شط به مشيج
يصف السهم بأنه قد بعد في الرمية فالتطخ ريشه وفرقاه بدم يسير قال صاحب ( الكشاف ) الأمشاج لفظ مفرد وليس يجمع بدليل أنه صفة للمفرد وهو قوله نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ ويقال أيضاً نطفة مشيج ولا يصح أن يكون أمشاجاً جمعاً للمشج بل هما مثلان في الإفراد ونظيره برمة أعشار أي قطع مسكرة وثوب أخلاق وأرض سباسب واختلفوا في معنى كون النطفة مختلطة فالأكثرون على أنه اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة كقوله يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ( الطارق 7 ) قال ابن عباس هو اختلاط ماء الرجل وهو أبيض غليظ وماء المرأة وهو أصفر رقيق فيختلطان ويخلق الولد منهما فما كان من عصب وعظم وقوة فمن نطفة الرجل وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة قال مجاهد هي ألوان النطفة فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء وقال عبدالله أمشاجها عروقها وقال الحسن يعني من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة وذلك أن المرأة إذا تلقت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها فاختلطت النطفة بالدم وقال قتادة الأمشاج هو أنه يختلط الماء والدم أولاً ثم يصير علقة ثم يصير مضغة وبالجملة فهو عبارة عن انتقال ذلك الجسم من صفة إلى صفة ومن حال إلى حال وقال قوم إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطاً من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والتقدير من نطفة ذات أمشاج فحذف المضاف وتم الكلام قال بعض العلماء الأولى هو أن المراد اختلاط نطفة الرجل والمرأة لأن الله تعالى وصف النطفة بأنها أمشاج وهي إذا صارت علقة فلم يبق فيها وصف أنها نطفة ولكن هذا الدليل لا يقدح في أن المراد كونها أمشاجاً من الأرض والماء والهواء والحار(30/209)
أما قوله تعالى نَّبْتَلِيهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى نبتليه معناه لنبتليه وهو كقول الرجل جئتك أقضي حقك أي لأقضي حقك وأتيتك أستمنحك أي لأستمنحك كذا قوله نَّبْتَلِيهِ أي لنبتليه ونظيره قوله وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ( المدثر 6 ) أي لتستكثر
المسألة الثانية نبتليه في موضع الحال أي خلقناه مبتلين له يعني مريدين ابتلاءه
المسألة الثالثة في الآية قولان أحدهما أن فيه تقديماً وتأخيراً والمعنى فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً لنبتليه والقول الثاني أنه لا حاجة إلى هذا التغيير والمعنى إنا خلقناه من هذه الأمشاج لا للبعث بل للابتلاء والامتحان
ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر فقال فَجَعَلْنَا سَمِيعاً بَصِيراً والسمع والبصر كنايتان عن الفهم والتمييز كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ مَالاً يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ( مريم 42 ) وأيضاً قد يراد بالسميع المطيع كقوله سمعاً وطاعة وبالبصير العالم يقال فلان بصير في هذا الأمر ومنهم من قال بل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان والله تعالى خصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
قوله تعالى إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ أخبر الله تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال وفيه مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل والأمر كذلك لأن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف وهي الحواس الظاهرة والباطنة فإذا أحس بالمحسوسات تنبه لمشاركات بينها ومباينات ينتزع منها عقائد صادقة أولية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي آلة العقل لأن بتركيباتها يمكن التوصل إلى استعلام المجهولات النظرية فثبت أن الحس مقدم في الوجود على العقل ولذلك قيل من فقد حساً فقد علماً ومن قال المراد من كونه سميعاً بصيراً هو العقل قال إنه لما بين في الآية الأولى أنه أعطاه العقل بين في هذه الآية أنه إنما أعطاه العقل ليبين له السبيل ويظهر له أن الذي يجب فعله ما هو والذي لا يجوز ما هو
المسألة الثانية السبيل هو الذي يسلك من الطريق فيجوز أن يكون المراد بالسبيل ههنا سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك ويكون معنى هديناه أي عرفناه وبينا كيفية كل واحد منهما له كقوله تعالى وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( البلد 10 ) ويكون السبيل اسماً للجنس فلهذا أفرد لفظه كقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 2 ) ويجوز أن يكون المراد بالسبيل هو سبيل الهدى لأنها هي الطريقة المعروفة المستحقة لهذا الاسم على الإطلاق فأما سبيل الضلالة فإنما هي سبيل بالإضافة ألا ترى إلى قوله تعالى إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ(30/210)
( الأحزاب 67 ) وإنما أضلوهم سبيل الهدى ومن ذهب إلى هذا جعل معنى قوله هَدَيْنَاهُ أي أرشدناه وإذا أرشد لسبيل الحق فقد نبه على تجنب ما سواها فكان اللفظ دليلاً على الطريقين من هذا الوجه
المسألة الثالثة المراد من هداية السبيل خلق الدلائل وخلق العقل الهادي وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب كأنه تعالى قال خلقتك للابتلاء ثم أعطيتك كل ما تحتاج إليه لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ ( الأنفال 42 ) وليس معناه خلقنا الهداية ألا ترى أنه ذكر السبيل فقال هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ أي أريناه ذلك
المسألة الرابعة قال الفراء هديناه السبيل وإلى السبيل وللسبيل كل ذلك جائز في اللغة
قوله تعالى إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً فيه مسائل
المسألة الأولى في الآية أقوال
الأول أن شاكر أو كفوراً حالان من الهاء في هديناه السبيل أي هديناه السبيل كونه شاكراً وكفوراً والمعنى أن كل ما يتعلق بهداية الله وإرشاده فقد تم حالتي الكفر والإيمان
والقول الثاني أنه انتصب قوله شاكراً وكفوراً بإضمار كان والتقدير سواء كان شاكراً أو كان كفوراً
والقول الثالث معناه إنا هديناه السبيل ليكون إما شاكراً وإما كفوراً أي ليتميز شكره من كفره وطاعته من معصيته كقوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( هود 7 ) وقوله وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ ( العنكبوت 3 ) وقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( محمد 31 ) قال القفال ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل قول القائل قد نصحت لك إن شئت فأقبل وإن شئت فاترك أي فإن شئت فتحذف الفاء فكذا المعنى إنا هديناه السبيل فإما شاكراً وإما كفوراً فتحذف الفاء وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد أي إنا هديناه السبيل فإن شاء فليكفر وإن شاء فليشكر فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا كقوله وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 )
القول الرابع أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل أي إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز
واعلم أن هذه الأقوال كلها لائقة بمذهب المعتزلة
والقول الخامس وهو المطابق لمذهب أهل السنة واختيار الفراء أن تكون إما هذه الآية كإما في قوله إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ( التوبة 106 ) والتقدير إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ثم جعلناه تارة شَاكِراً أو تارة كَفُورًا ويتأكد هذا التأويل بما روي أنه قرأ أبو السمال بفتح الهمزة في أَمَّا والمعنى أما شاكراً فبتوفيقنا وأما كفوراً فبخذلاننا قالت المعتزلة هذا التأويل باطل لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية تهديد الكفار فقال إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً ( الإنسان 4 ) ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده(30/211)
عليه ولما بطل هذا التأويل ثبت أن الحق هو التأويل الأول وهو أنه تعالى هدى جميع المكلفين سواء آمن أو كفر وبطل بهذا قول المجبرة أنه تعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان أجاب أصحابنا بأنه تعالى لما علم من الكافر أنه لا يؤمن ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بأن يجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان وهذا تكليف بالجمع بين المتنافيين فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز أيضاً أن يخلق الكفر فيه ولا يصير ذلك عذراً في سقوط الوعيد وإذا ثبت هذا ظهر أن هذا التأويل هو الحق وأن التأويل اللائق بقول المعتزلة ليس بحق وبطل به قول المعتزلة
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر نعمه على الإنسان فابتدأ بذكر النعم الدنيوية ثم ذكر بعده النعم الدينية ثم ذكر هذه القسمة
واعلم أنه لا يمكن تفسير الشاكر والكفور بمن يكون مشتغلاً بفعل الشكر وفعل الكفران وإلا لم يتحقق الحصر بل المراد من الشاكر الذي يكون مقراً معترفاً بوجوب شكر خالقه عليه والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه إما لأنه ينكر الخالق أو لأنه وإن كان يثبته لكنه ينكر وجوب الشكر عليه وحينئذ يتحقق الحصر وهو أن المكلف إما أن يكون شاكراً وإما أن يكون كفوراً واعلم أن الخوارج احتجوا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين المطيع والكافر قالوا لأن الشاكر هو المطيع والكفور هو الكافر والله تعالى نفى الواسطة وذلك يقتضي أن يكون كل ذنب كفراً وأن يكون كل مذنب كافراً واعلم أن البيان الذي لخصناه يدفع هذا الإشكال فإنه ليس المراد من الشاكر الذي يكون مشتغلاً بفعل الشكر فإن ذلك باطل طرداً وعكساً أما الطرد فلأن اليهودي قد يكون شاكراً لربه مع أنه لا يكون مطيعاً لربه والفاسق قد يكون شاكراً لربه مع أنه لا يكون مطيعاً لربه وأما العكس فلأن المؤمن قد لا يكون مشتغلاً بالشكر ولا بالكفران بل يكون ساكناً غافلاً عنهما فثبت أنه لا يمكن تفسير الشاكر بذلك بل لا بد وأن يفسر الشاكر بمن يقر بوجوب الشكر والكفور بمن لا يقر بذلك وحينئذ يثبت الحصر ويسقط سؤالهم بالكلية والله أعلم
إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً إِنَّ الاٌّ بْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
قوله تعالى إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً
اعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين أتبعهما بالوعيد والوعد وفيه مسائل
المسألة الأولى الاعتداد هو إعداد الشيء حتى يكون عتيداً حاضراً متى احتيج إليه كقوله تعالى هَاذَا مَا لَدَى َّ عَتِيدٌ ( ق 23 ) وأما السلاسل فتشد بها أرجلهم وأما الأغلال فتشد بها أيديهم إلى رقابهم وأما السعير فهو النار التي تسعر عليهم فتوقد فيكونون حطباً لها وهذا من أغلظ أنواع الترهيب والتخويف
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الجحيم بسلاسلها وأغلالها مخلوقة لأن قوله تعالى أَعْتَدْنَا أخبار عن الماضي قال القاضي إنه لما توعد بذلك على التحقيق صار كأنه موجود قلنا هذا الذي ذكرتم ترك للظاهر فلا يصار إليه إلا لضرورة
المسألة الثالثة قرىء سلاسلاً بالتنوين وكذلك قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ ومنهم من يصل بغير تنوين ويقف(30/212)
بالألف فلمن نون وصرف وجهان أحدهما أن الأخفش قال قد سمعنا من العرب صرف جميع مالا ينصرف قال وهذا لغة الشعراء لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه فجرت ألسنتهم على ذلك الثاني أن هذه الجموع أشبهت الآحاد لأنهم قالوا صواحبات يوسف فلما جمعوه جمع الآحاد المنصرفة جعلوها في حكمها فصرفوها وأما من ترك الصرف فإنه جعله كقوله لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ ( الحج 40 ) وأما إلحاق الألف في الوقف فهو كإلحاقها في قوله الظُّنُونَاْ فيشبه ذلك بالإطلاق في القوافي
ثم إنه تعالى ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً الأبرار جمع بر كالأرباب جمع رب والقول في حقيقة البر قد تقدم في تفسير قوله تعالى وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ ( البقرة 177 ) ثم ذكر من أنواع نعيمهم صفة مشروبهم فقال يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ يعني من إناء فيه الشراب ولهذا قال ابن عباس ومقاتل يريد الخمر وفي الآية سؤالان
السؤال الأول أن مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً فما السبب في ذكره ههنا الجواب من وجوه أحدها أن الكافور اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته فالمعنى أن ذلك الشراب يكون ممزوجاً بماء هذه العين وثانيها أن رائحة الكافور عرض فلا يكون إلا في جسم فإذا خلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب سمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً وثالثها أي بأس في أن يخلق الله تعالى الكافور في الجنة لكن من طعم طيب لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرة ثم إنه تعالى يمزجه بذلك المشروب كما أنه تعالى سلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضار
السؤال الثاني ما فائدة كان في قوله كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً الجواب منهم من قال إنها زائدة والتقدير من كأس مزاجها كافوراً وقيل بل المعنى كان مزاجها في علم الله وحكمه كافورا
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً
المسألة الأولى إن قلنا الكافور اسم النهر كان عيناً بدلاً منه وإن شئت نصبت على المدح والتقدير أعني عيناً أما إن قلنا إن الكافور اسم لهذا الشيء المسمى بالكافور كان عيناً بدلاً من محل من كأس على تقدير حذف مضاف كأنه قيل يشربون خمراً خمر عين ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
المسألة الثانية قال في الآية الأولى يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ ( الإنسان 5 ) وقال ههنا يشرب بها فذكر هناك من وههنا الباء والفرق أن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول شربت الماء بالعسل(30/213)
المسألة الثالثة قوله يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ عام فيفيد أن كل عباد الله يشربون منها والكفار بالاتفاق لا يشربون منها فدل على أن لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان إذا ثبت هذا فقوله وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ( الزمر 7 ) لا يتناول الكفار بل يكون مختصاً بالمؤمنين فيصير تقدير الآية ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر فلا تدل الآية على أنه تعالى لا يريد كفر الكافر
قوله تعالى يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً معناه يفجرونها حيث شاؤا من منازلهم تفجيراً سهلا لا يمتنع عليهم واعلم أنه سبحانه لما وصف ثواب الأبرار في الآخرة شرح أعمالهم التي بها استوجبوا ذلك الثواب
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً
فالأول قوله تعالى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الإيفاء بالشيء هو الإتيان به وافياً أما النذر فقال أبو مسلم النذر كالوعد إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر وإن كان من الله تعالى فهو وعد واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن يقول لله على كذا وكذا من الصدقة أو يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله تعالى مثل أن يقول إن شفى الله مريضي أو رد غائبي فعلى كذا كذا واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر كما إذا قال إن دخل فلان الدار فعلى كذا فمن الناس من جعله كاليمين ومنهم من جعله من باب النذر إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين في تفسير الآية أقوال أولها أن المراد من النذر هو النذر فقط ثم قال الأصم هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر عى أداء الواجبات لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان بما أوجبه الله عليه أوفى وهذا التفسير في غاية الحسن وثانيها المراد بالنذر ههنا كل ما وجب عليه سواء وجب بإيجاب الله تعالى ابتداء أو بأن أوجبه المكلف على نفسه فيدخل فيه الإيمان وجميع الطاعات وذلك لأن النذر معناه الإيجاب وثالثها قال الكلبي المراد من النذر العهد والعقد ونظيره قوله تعالى أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) فسمى فرائضه عهداً وقال أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) سماها عقوداً لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان
المسألة الثانية هذه الآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر لأنه تعالى عقبه بيخافون يوماً وهذا يقتضي أنهم إنما وفوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً وتأكد هذا بقوله تعالى وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ ( النحل 91 ) بعد توكيدها وبقوله ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ ( الحج 29 ) فيحتمل ليوفوا أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم
المسألة الثالثة قال الفراء وجماعة من أرباب المعاني كان في قوله كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ( الإنسان 5 ) زائدة وأما ههنا فكان محذوفة والتقدير كانوا يوفون بالنذر ولقائل أن يقول إنا بينا أن كان في قوله كَانَ مِزَاجُهَا ( الإنسان 5 ) ليست بزائدة وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها وذلك لأنه تعالى ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي سيشربون فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال ثم قال السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنهم الآن يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
النوع الثاني من أعمال الأبرار التي حكاها الله تعالى عنهم قوله تعالى وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً(30/214)
واعلم أن تمام الطاعة لا يحصل إلا إذا كانت النية مقرونة بالعمل فلما حكى عنهم العمل وهو قوله يُوفُونَ حكى عنهم النية وهو قوله وَيَخَافُونَ يَوْماً وتحقيقه قوله عليه السلام ( إنما الأعمال بالنيات ) وبمجموع هذين الأمرين سماهم الله تعالى بالأبرار وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله وكل ما كان فعلاً لله فهو يكون حكمة وصواباً وما كان كذلك لا يكون شراً فكيف وصفها الله تعالى بأنها شر الجواب أنها إنما سميت شراً لكونها مضرة بمن تنزل عليه وصعبة عليه كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شروراً
السؤال الثاني ما معنى المستطير الجواب فيه وجهان أحدهما الذي يكون فاشياً منتشراً بالغاً أقصى المبالغ وهو من قولهم استطار الحريق واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر فإن قيل كيف يمكن أن يقال شر ذلك اليوم مستطير منتشر مع أنه تعالى قال في صفة أوليائه لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) قلنا الجواب من وجهين الأول أن هول القيامة شديد ألا ترى أن السموات تنشق وتنفطر وتصير كالمهل وتتناثر الكواكب وتتكور الشمس والقمر وتفرغ الملائكة وتبدل الأرض غير الأرض وتنسف الجبال وتسجر البحار وهذا الهول عام يصل إلى كل المكلفين على ما قال تعالى يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ( الحج 2 ) وقال يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ( المزمل 17 ) إلا أنه تعالى بفضله يؤمن أولياءه من ذلك الفزع والجواب الثاني أن يكون المراد أن شر ذلك اليوم يكون مستطيراً في العصاة والفجار وأما المؤمنون فهم آمنون كما قال لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ( الزخرف 68 ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ( فاطر 44 ) إلا أن أهل العقاب في غاية الكثرة بالنسبة إلى أهل الثواب فأجرى الغالب مجرى الكل على سبيل المجاز
القول الثاني في تفسير المستطير أنه الذي يكون سريع الوصول إلى أهله وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع
السؤال الثالث لم قال كان شره مستطيراً ولم يقل وسيكون شره مستطيراً الجواب اللفظ وإن كان للماضي إلا أنه بمعنى المستقبل وهو كقوله وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ ( الأحزاب 15 ) ويحتمل أن يكون المراد إنه كان شره مستطيراً في علم الله وفي حكمته كأنه تعالى يعتذر ويقول إيصال هذا الضرر إنما كان لأن الحكمة تقتضيه وذلك لأن نظام العالم لا يحصل إلا بالوعد والوعيد وهما يوجبان الوفاء به لاستحالة الكذب في كلامي فكأنه تعالى يقول كان ذلك في الحكمة لازماً فلهذا السبب فعلته
النوع الثالث من أعمال الأبرار قوله تعالى
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً
اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله تعالى وإليه الإشارة بقول تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ( الإنسان 7 ) والشفقة على خلق الله وإليه الإشارة بقوله وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ وههنا مسائل
المسألة الأولى لم يذكر أحد من أكابر المعتزلة كأبي بكر الأصم وأبي علي الجبائي وأبي القاسم الكعبي وأبي مسلم الأصفهاني والقاضي عبد الجبار بن أحمد في تفسيرهم أن هذه الآيات نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام والواحدي من أصحابنا ذكر في كتاب ( البسيط ) أنها نزلت في حق علي عليه السلام وصاحب ( الكشاف ) من المعتزلة ذكر هذه القصة فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أناس معه فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صائمين فلما أمسوا ووضعواالطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه وجاءهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين ودخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه السلام وقال خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك فأقرأها السورة ) والأولون يقولون إنه تعالى ذكر في أول السورة أنه إنما خلق الخلق للابتلاء والامتحان ثم بين أنه هدى الكل وأزاح عللهم ثم بين أنهم انقسموا إلى شاكر وإلى كافر ثم ذكر وعيد الكافر ثم أتبعه بذكر وعد الشاكر فقال إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ ( الإنسان 5 ) وهذه صيغة جمع فتتناول جميع الشاكرين والأبرار ومثل هذا لا يمكن تخصيصه بالشخص الواحد لأن نظم السورة من أولها إلى هذا الموضع يقتضي أن يكون هذا بياناً لحال كل من كان من الأبرار والمطيعين فلو جعلناه مختصاً بشخص واحد لفسد نظم السورة والثاني أن الموصوفين بهذه الصفات مذكورون بصيغة الجمع كقوله إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ مِنْ وَيُطْعِمُونَ ( الإنسان 5 7 8 ) وهكذا إلى آخر الآيات فتخصيصه بجمع معنيين خلاف الظاهر ولا ينكر دخول علي بن أبي طالب عليه السلام فيه ولكنه أيضاً داخل في جميع الآيات الدالة على شرح أحوال المطيعين فكما أنه داخل فيها فكذا غيره من أتقياء الصحابة والتابعين داخل فيها فحينئذ لا يبقى للتخصيص معنى ألبتة اللهم إلا أن يقال السورة نزلت عند صدور طاعة مخصوصة عنه ولكنه قد ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الثانية الذين يقولون هذه الآية مختصة بعلي بن أبي طالب عليه السلام قالوا المراد من قوله وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً هو ما رويناه أنه عليه السلام أطعم المسكين واليتيم والأسير وأما الذين يقولون الآية عامة في حق جميع الأبرار ( فإنهم ) قالوا إطعام الطعام كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه ووجه ذلك أن أشرف أنواع الإحسان هو الإحسان بالطعام وذلك لأن قوام الأبدان بالطعام ولا حياة إلا به وقد يتوهم إمكان الحياة مع فقد ما سواه فلما كان الإحسان لا جرم عبر به عن جميع وجوه المنافع والذي يقوي ذلك أنه يعبر بالأكل عن(30/215)
جميع وجوه المنافع فيقال أكل فلان ماله إذا أتلفه في سائر وجوه الإتلاف وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) وقال وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) إذا ثبت هذا فنقول إن الله تعالى وصف هؤلاء الأبرار بأنهم يواسون بأموالهم أهل الضعف والحاجة وأما قوله تعالى عَلَى حُبّهِ ففيه وجهان أحدهما أن يكون الضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونظيره لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( البقرة 177 ) لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) فقد وصفهم الله تعالى بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم على ما قال وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ ( الحشر 9 ) والثاني قال الفضيل بن عياض على حب الله أي لحبهم لله واللام قد تقام مقام على وكذلك تقام على مقام اللام ثم إنه تعالى ذكر أصناف من تجب مواساتهم وهم ثلاثة أحدهم المسكين وهو العاجز عن الاكتساب بنفسه والثاني اليتيم وهو الذي مات كاسبه فيبقى عاجزاً عن الكسب لصغره مع أنه مات كسبه والثالث الأسير وهو المأخوذ من قومه المملوك ( ه ) رقبته الذي لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلة وهؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى ههنا هم الذين ذكرهم في قوله فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ فَكُّ رَقَبَة ٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة ٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 11 16 ) وقد ذكرنا اختلاف الناس في المسكين قبل هذا أما الأسير فقد اختلفوا فيه على أقوال أحدها قال ابن عباس والحسن وقتادة إنه الأسير من المشركين روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث الأسارى من المشركين ليحفظوا وليقام بحقهم وذلك لأنه يجب إطعامهم إلى أن يرى الإمام رأيه فيهم من قتل أو فداء أو استرقاق ولا يمتنع أيضاً أن يكون المراد هو الأسير كافراً كان أو مسلماً لأنه إذا كان مع الكفر يجب إطعامه فمع الإسلام أولى فإن قيل لما وجب قتله فكيف يجب إطعامه قلنا القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى ولا يجب إذا عوقب بوجه أن يعاقب بوجه آخر ولذلك لا يحسن فيمن يلزمه القصاص أن يفعل به ما هو دون القتل ثم هذا الإطعام على من يجب فنقول الإمام يطعمه فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين وثانيها قال السدي الأسير هو المملوك وثالثها الأسير هو الغريم قال عليه السلام ( غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك ) ورابعها الأسير هو المسجون من أهل القبلة وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وروى ذلك مرفوعاً من طريق الخدري أنه عليه السلام قال مِسْكِيناً فقيراً وَيَتِيماً لا أب له وَأَسِيراً قال المملوك المسجون وخامسها الأسير هو الزوجة لأنهن أسراء عند الأزواج قال عليه الصلاة والسلام ( اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم أعوان ) قال القفال واللفظ يحتمل كل ذلك لأن الأصل الأسر هو الشد بالقد وكان الأسير يفعل به ذلك حبساً له ثم سمي بالأسير من شد ومن لم يشد فعاد المعنى إلى الحبس
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين بين أن لهم فيه غرضين أحدهما تحصيل رضا الله وهو المراد من قوله إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ والثاني الاحتراز من خوف يوم القيامة وهو المراد من قوله إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ إلى قوله قَمْطَرِيراً يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون هؤلاء الأبرار قد قالوا هذه الأشياء باللسان إما لأجل أن يكون ذلك القول منعاً لأولئك المحتاجين عن المجازاة بمثله أو بالشكر لأن إحسانهم مفعول لأجل الله تعالى فلا معنى لمكافأة الخلق وإما أن يكون(30/216)
لأجل أن يصير ذلك القول تفقيهاً وتنبيهاً على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله حتى يقتدي غيرهم بهم في تلك الطريقة وثانيها أن يكونوا أرادوا أن يكون ذلك وثالثها أن يكون ذلك بياناً وكشفاً عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئاً وعن مجاهد أنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأثنى عليهم
المسألة الثانية اعلم أن الإحسان من الغير تارة يكون لأجل الله تعالى وتارة يكون لغير الله تعالى إما طلباً لمكافأة أو طلباً لحمد وثناء وتارة يكون لهما وهذا هو الشرك والأول هو المقبول عند الله تعالى وأما القسمان الباقيان فمردودان قال تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ ( البقرة 264 ) وقال وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زَكَواة ٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ( الروم 39 ) ولا شك أن التماس الشكر من جنس المن والأذى إذا عرفت هذا فنقول القوم لما قالوا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ بقي فيه احتمال أنه أطعمه لوجه الله ولسائر الأغراض على سبيل التشريك فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً
المسألة الثالثة الشكور والكفور مصدران كالشكر والكفر وهو على وزن الدخول والخروج هذا قول جماعة أهل اللغة وقال الأخفش إن شئت جعلت الشكور جماعة الشكر وجعلت الكفور جماعة الكفر لقول فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا ( الإسراء 99 ) مثل برد وبرود وإن شئت مصدراً واحداً في معنى جمع مثل قعد قعوداً وخرج خروجاً
المسألة الرابعة قوله إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يحتمل وجهين أحدهما أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لإرادة مكافأتكم والثاني أنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة فإن قيل إنه تعالى حكى عنهم الإيفاء بالنذر وعلل ذلك بخوف القيامة فقط ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين بطلب رضاء الله وبالخوف عن القيامة فما السبب فيه قلنا الإيفاء بالنذر دخل في حقيقة طلب رضاء الله تعالى وذلك لأن النذر هو الذي أوجبه الإنسان على نفسه لأجل الله فلما كان كذلك لا جرم ضم إليه خوف القيامة فقط أما الإطعام فإنه لا يدخل في حقيقة طلب رضا الله فلا جرم ضم إليه طلب رضا الله وطلب الحذر من خوف القيامة
المسألة الخامسة وصف اليوم بالعبوس مجازاً على طريقتين أحدهما أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولهم نهارك صائم روي أن الكافر يحبس حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران والثاني أن يشبه في شدته وضراوته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل
المسألة السادسة قال الزجاج جاء في التفسير أن قمطريراً معناه تعبيس الوجه فيجتمع ما بين العينين قال وهذا سائغ في اللغة يقال اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها يعني أن معنى قمطر في اللغة جمع وقال الكلبي قمطريراً يعني شديداً وهو قول الفراء وأبي عبيدة والمبرد وابن قتيبة قالوا يوم قمطرير وقماطر إذا كان صعباً شديداً أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء قال الواحدي هذا معنى والتفسير هو الأول(30/217)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَة ً وَسُرُوراً
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين طلب رضا الله والخوف من القيامة بين في هذه الآية أنه أعطاهم هذين الغرضين أما الحفظ من هول القيامة فهو المراد بقوله فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وسمى شدائدها شراً توسعاً على ما علمت واعلم أن هذه الآية أحد ما يدل على أن شدائد الآخرة لا تصل إلا إلى أهل العذاب وأما طلب رضاء الله تعالى فأعطاهم بسببه نضرة في الوجه وسروراً في القلب وقد مر تفسير وَلَقَّاهُمْ في قوله وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّة ً ( الفرقان 75 ) وتفسير النضرة في قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ ( القيامة 23 ) والتنكير في سروراً للتعظيم والتفخيم
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّة ً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاٌّ رَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً
والمعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستاناً فيه مأكل هنيء وحريراً فيه ملبس بهي ونظيره قوله تعالى وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( الحج 23 ) أقول وهذا يدل على أن المراد من قوله إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ ( الإنسان 9 ) ليس هو الإطعام فقط بل جميع أنواع المواساة من الطعام والكسوة ولما ذكر تعالى طعامهم ولباسهم وصف مساكنهم ثم إن المعتبر في المساكن أمور
أحدها الموضع الذي يجلس فيه فوصفه بقوله مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاْرَائِكِ وهي السرر في الحجال ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعت وفي نصب متكئين وجهان الأول قال الأخفش إنه نصب على الحال والمعنى وجزاهم جنة في حال اتكائهم كما تقول جزاهم ذلك قياماً والثاني قال الأخفش وقد يكون على المدح
والثاني هو المسكن فوصفه بقوله لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وفيه وجهان أحدهما أن هواءها معتدل في الحر والبرد والثاني أن الزمهرير هو القمر في لغة طيء هكذا رواه ثعلب وأنشد وليلة ظلامها قد اعتكر
قطعتها والزمهرير ما زهر
والمعنى أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها إلى شمس وقمر
وَدَانِيَة ً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً
والثالث كونه بستاناً نزهاً فوصفه الله تعالى بقوله وَدَانِيَة ً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وفي الآية سؤالان الأول ما السبب في نصب وَدَانِيَة ً الجواب ذكر الأخفش والكسائي والفراء والزجاج فيه وجهين أحدهما الحال بالعطف على قوله مُتَّكِئِينَ كما تقول في الدار عبدالله متكئاً ومرسلة عليه الحجال لأنه حيث قال عليهم رجع إلى ذكرهم والثاني الحال بالعطف على محل يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) والتقدير غير رائين فيها شمساً ولا زمهريراً وَدَانِيَة ً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم كأنه قيل وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والبرد ودنو الظلال عليهم والثالث أن يكون دانية نعتاً للجنة والمعنى وجزاهم جنة دانية وعلى هذا الجواب تكون دانية صفة(30/218)
لموصوف محذوف كأنه قيل وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها وذلك لأنهم وعدوا جنتين وذلك لأنهم خافوا بدليل قوله إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا ( الإنسان 10 ) وكل من خاف فله جنتان بدليل قوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) وقرىء وَدَانِيَة ً بالرفع على أن ظِلَالُهَا مبتدأ وَدَانِيَة ً خبر والجملة في موضع الحال والمعنى لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) والحال أن ظلالها دانية عليهم
السؤال الثاني الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس فإن كان لا شمس في الجنة فكيف يحصل الظل هناك والجواب أن المراد أن أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلله منها
قوله تعالى وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ذكروا في ذللت وجهين الأول قال ابن قتيبة ذللت أدنيت منهم من قولهم حائط ذليل إذا كان قصير السمك والثاني ظللت أي جعلت منقادة ولا تمتنع على قطافها كيف شاءوا قال البراء بن عازب ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاءوا فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه
واعلم أنه تعالى لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف بعد ذلك شرابهم وقدم عليه وصف تلك الأواني التي فيها يشربون فقال
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأانِيَة ٍ مِّن فِضَّة ٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّة ٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً
في الآية سؤالات
السؤال الأول قال تعالى وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ ( الزخرف 71 ) والصحاف هي القصاع والغالب فيها الأكل فإذا كان ما يأكلون فيه ذهباً فما يشربون فيه أولى أن يكون ذهباً لأن العادة أن يتنوق في إناء الشرب مالا يتنوق في إناء الأكل وإذا دلت هذه الآية على أن إناء شربهم يكون من الذهب فكيف ذكر ههنا أنه من الفضة والجواب أنه لا منافاة بين الأمرين فتارة يسقون بهذا وتارة بذاك
السؤال الثاني ما الفرق بين الآنية والأكواب الجواب قال أهل اللغة الأكواب الكيزان التي لا عرى لها فيحتمل أن يكون على معنى أن الإناء يقع فيه الشرب كالقدح والكوب ما صب منه في الإناء كالإبريق
السؤال الثالث ما معنى كانت الجواب هو من يكون في قوله كُنْ فَيَكُونُ أي تكونت قوارير بتكوين الله تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين
السؤال الرابع كيف تكون هذه الأكواب من فضة ومن قوارير الجواب عنه من وجوه أحدها أن أصل القوارير في الدنيا الرمل وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة فكما أن الله تعالى قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية فكذلك هو قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة فالغرض من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة فضة الجنة إلى رمل الدنيا فكما أنه لا نسبة بين(30/219)
هذين الأصلين فكذا بين القارورتين في الصفاء واللطافة وثانيها قال ابن عباس ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء وإذا كان كذلك فكمال الفضة في بقائها ونقائها وشرفها إلا أنه كثيف الجوهر وكمال القارورة في شفافيتها وصفائها إلا أنه سريع الانكسار فآنية الجنة آنية يحصل فيها من الفضة بقاؤها ونقاؤها وشرف جوهرها ومن القارورة صفاؤها وشفافيتها وثالثها أنها تكون فضة ولكن لها صفاء القارورة ولا يستبعد من قدرة الله تعالى الجمع بين هذين الوصفين ورابعها أن المراد بالقوارير في الآية ليس هو الزجاج فإن العرب تسمى ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة ورق وصفاً قارورة فمعنى الآية وَأَكْوابٍ مِن فِضَّة ٍ مستديرة صافية رقيقة
السؤال الخامس كيف القراءة في قَوَارِيرَاْ قَوارِيرَ الجواب قرئا غير منونين وبتنوين الأول وبتنوينهما وهذا التنوين بدل عن ألف الإطلاق لأنه فاصلة وفي الثاني لاتباعه الأول لأن الثاني بدل من الأول فيتبع البدل المبدل وقرىء قَوارِيرَ مِن فِضَّة ٍ بالرفع على هي قوارير وقدروها صفة لقوارير من فضة
أما قوله تعالى قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال المفسرون معناه قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً على قدر ريهم لا يزيد ولا ينقص من الري ليكون ألذ لشربهم وقال الربيع بن أنس إن تلك الأواني تكون بمقدار ملء الكف لم تعظم فيثقل حملها
المسألة الثانية أن منتهى مراد الرجل في الآنية التي يشرب منها الصفاء والنقاء والشكل أما الصفاء فقد ذكره الله تعالى بقوله كَانَتْ قَوَارِيرَاْ وأما النقاء فقد ذكره بقوله من فضة وأما الشكل فقد ذكره بقوله قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً
المسألة الثالثة المقدر لهذا التقدير من هو فيه قولان الأول أنهم هم الطائفون الذين دل عليهم قوله تعالى وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ وذلك أنهم قدروا شرابها على قدر ري الشارب والثاني أنهم هم الشاربون وذلك لأنهم إذا اشتهوا مقداراً من المشروب جاءهم على ذلك القدر
واعلم أنه تعالى لما وصف أواني مشروبهم ذكر بعد ذلك وصف مشروبهم فقال
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً
العرب كانوا يحبون جعل الزنجبيل في المشروب لأنه يحدث فيه ضرباً من اللذع فلما كان كذلك وصف الله شراب أهل الجنة بذلك ولا بد وأن تكون في الطيب على أقصى الوجوه قال ابن عباس وكل ما ذكره الله تعالى في القرآن مما في الجنة فليس منه في الدنيا إلا الاسم وتمام القول ههنا مثل ما ذكرناه في قوله كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً
فيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن الأعرابي لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن فعلى هذا لا يعرف له اشتقاق وقال الأكثرون يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ وقد زيدت الباء في التركيب(30/220)
حتى صارت الكلمة خماسية ودلت على غاية السلاسة قال الزجاج السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة والفائدة في ذكر السلسبيل هو أن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل وليس فيه لذعة لأن نقيض اللذع هو السلاسة وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن معناه سل سبيلاً إليها وهو بعيد إلا أن يراد أن جملة قول القائل سلسبيلا جعلت علماً للعين كما قيل تأبط شراً وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح
المسألة الثانية في نصب عيناً وجهان أحدهما أنه بدل من زنجبيلاً وثانيهما أنه نصب على الاختصاص
المسألة الثالثة سلسبيلاً صرف لأنه رأس آية فصار كقوله الظنونا والسبيلا وقد تقدم في هذه السورة بيان ذلك واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادماً في تلك المجالس
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً
فقال وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الواقعة والأقرب أن المراد به دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة قال الفراء يقال مخلدون مسورون ويقال مقرطون وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون
والصفة الثالثة قوله تعالى إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وفي كيفية التشبيه وجوه أحدها شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور ولو كان صفاً لشبهوا باللؤلؤ المنظوم ألا ترى أنه تعالى قال وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين وثانيها أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وثالثها قال القاضي هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفاً للمجتمع منه
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً
وفيه مسائل
المسألة الأولى رأيت هل له مفعول فيه قولان الأول قال الفراء المعنى وإذا رأيت ما ثم وصلح إضمار ما كما قال لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ يريد ما بينكم قال الزجاج لا يجوز إضمار ما لأن ثم صلة وما موصولها ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة الثاني أنه ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر والغرض منه أن يشبع ويعم كأنه قيل وإذا وجدت الرؤية ثم ومعناه أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير وثم في موضع النصب على الظرف يعني في الجنة
المسألة الثانية اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب(30/221)
واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها فالملك الكبير الذي ذكره الله ههنا لا بد وأن يكون مغايراً لتلك اللذات الحقيرة وما هو إلا أن تصير نفسه منقشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت وأما ما هو على أصول المتكلمين فالوجه فيه أيضاً أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره قال ابن عباس لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه ويقال إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كمايرى أدناه وقيل لا زوال له وقيل إذا أرادوا شيئاً حصل ومنهم من حمله على التعظيم فقال الكلبي هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان
المسألة الثالثة قال بعضهم قوله وَإِذَا رَأَيْتَ خطاب لمحمد خاصة والدليل عليه أن رجلاً قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أرأيت إن دخلت الجنة أترى عيناي ما ترى عيناك فقال نعم فبكى حتى مات وقال آخرون بل هو خطاب لكل أحد
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّة ٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً
قوله تعالى عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحمزة عاليهم بإسكان الياء والباقون بفتح الياء أما القراءة الأولى فالوجه فيها أن يكون عاليهم مبتدأ وثياب سندس خبره والمعنى ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس فإن قيل عاليهم مفرد وثياب سندس جماعة والمبتدأ إذا كان مفرداً لا يكون خبره جمعاً قلنا المبتدأ وهو قوله عَالِيَهُمْ وإن كان مفرداً في اللفظ فهو جمع في المعنى نظيره قوله تعالى مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ ( المؤمنون 67 ) كأنه أفرد من حيث جعل بمنزلة المصدر أما القراءة الثانية وهي فتح الياء فذكروا في هذا النصب ثلاثة أوجه الأول أنه نصب على الظرف لأنه لما كان عالي بمعنى فوق أجرى مجراه في هذا الإعراب كما كان قوله وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ كذلك وهو قول أبي علي الفارسي والثاني أنه نصب على الحال ثم هذا أيضاً يحتمل وجوهاً أحدها قال أبو علي الفارسي التقدير ولقاهم نضرة وسروراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس وثانيها التقدير وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس وثالثها أن يكون التقدير ويطوف على الأبرار ولدان حال ما يكون الأبرار عاليهم ثياب سندس ورابعها حسبتهم لؤلؤاً منثوراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس فعلى الاحتمالات الثلاثة الأول تكون الثياب الأبرار وعلى الاحتمال الرابع تكون الثياب ثياب الولدان الوجه الثالث في سبب هذا النصب أن يكون التقدير رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس
المسألة الثانية قرأ نافع وعاصم خضر واستبرق كلاهما بالرفع وقرأ الكسائي وحمزة كلاهما بالخفض وقرأ ابن كثير خضر بالخفض واستبرق بالرفع وقرأ أبو عمرو وعبدالله بن عامر خضر بالرفع(30/222)
واستبرق بالخفض وحاصل الكلام فيه أن خضراً يجوز فيه الخفض والرفع أما الرفع فإذا جعلتها صفة لثياب وذلك ظاهر لأنها صفة مجموعة لموصوف مجموعة وأما الخفض فإذا جعلتها صفة سندس لأن سندس أريد به الجنس فكان في معنى الجمع وأجاز الأخفش وصف اللفظ الذي يراد به الجنس بالجمع كما يقال أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض إلا أنه قال إنه قبيح والدليل على قبحه أن العرب تجيء بالجمع الذي هو في لفظ الواحد فيجرونه مجرى الواحد وذلك قولهم حصى أبيض وفي التنزيل مّنَ الشَّجَرِ الاْخْضَرِ و أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ إذ كانوا قد أفردوا صفات هذا الضرب من الجمع فالواحد الذي في معنى الجمع أولى أن تفرد صفته وأما استبرق فيحوز فيه الرفع والخفض أيضاً معاً أما الرفع فإذا أريد به العطف على الثياب كأنه قيل ثياب سندس واستبرق وأما الخفض فإذا أريد إضافة الثياب إليه كأنه قيل ثياب سندس واستبرق والمعنى ثيابهما فأضاف الثياب إلى الجنسين كما يقال ثياب خز وكتان ويدل على ذلك قوله تعالى وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ واعلم أن حقائق هذه الآية قد تقدمت في سورة الكهف
المسألة الثالثة السندس ما رق من الديباج والاستبرق ما غلظ منه وكل ذلك داخل في اسم الحرير قال تعالى وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ثم قيل إن الذين هذا لباسهم هم الولدان المخلدون وقيل بل هذا لباس الأبرار وكأنهم يلبسون عدة من الثياب فيكون الذي يعلوها أفضلها ولهذا قال عَالِيَهُمْ وقيل هذا من تمام قوله مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاْرَائِكِ ومعنى عَالِيَهُمْ أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس والمعنى أن حجالهم من الحرير والديباج
قوله تعالى وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّة ٍ وفيه سؤالات
السؤال الأول قال تعالى في سورة الكهف أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ( الكهف 31 ) فكيف جعل تلك الأساور ههنا من فضة والجواب من ثلاثة أوجه أحدها أنه لا منافاة بين الأمرين فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة أو على الجمع كما تفعل النساء في الدنيا وثانيها أن الطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب فالله تعالى يعطي كل أحد ما تكون رغبته فيه أتم وميله إليه أشد وثالثها أن هذه الأسورة من الفضة إنما تكون للوالدان الذين هم الخدم وأسورة الذهب للناس
السؤال الثاني السوار إنما يليق بالنساء وهو عيب للرجال فكيف ذكر الله تعالى ذلك في معرض الترغيب الجواب أهل الجنة جرد مرد شباب فلا يبعد أن يحلوا ذهباً وفضة وإن كانوا رجالاً وقيل هذه الأسورة من الفضة والذهب إنما تكون لنساء أهل الجنة وللصبيان فقط ثم غلب في اللفظ جانب التذكير وفي الآية وجه آخر وهو أن آلة أكثر الأعمال هي اليد وتلك الأعمال والمجاهدات هي التي يتوسل بها إلى تحصيل المعارف الإلهية والأنوار الصمدية فتكون تلك الأعمال جارية مجرى الذهب والفضة التي يتوسل بهما إلى تحصيل المطالب فلما كانت تلك الأعمال صادرة من اليد كانت تلك الأعمال جارية مجرى سوار(30/223)
الذهب والفضة فسميت الأعمال والمجاهدات بسوار الذهب والفضة وعبر عن تلك الأنوار الفائضة عن الحضرة الصمدية بقوله وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً وبالجملة فقوله وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّة ٍ إشارة إلى قوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا وقوله وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إشارة إلى قوله لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا فهذا احتمال خطر بالبال والله أعلم بمراده
قوله تعالى وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً الطهور فيه قولان الأول المبالغة في كونه طاهراً ثم فيه على هذا التفسير احتمالات أحدها أنه لا يكون نجساً كخمر الدنيا وثانيها المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة يعني ما مسته الأيدي الوضرة وما داسته الأقدام الدنسة وثالثها أنها لا تؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك القول الثاني في الطهور أنه المطهر وعلى هذا التفسير أيضاً في الآية احتمالان أحدهما قال مقاتل هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد وما كان في جوفه من قذر وأذى وثانيهما قال أبو قلابة يؤتون الطعام والشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيشربون فتطهر بذلك بطونهم ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهراً لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية فإن قيل قوله تعالى وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ هو عين ما ذكر تعالى قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور والزنجبيل والسلسبيل أو هذا نوع آخر قلنا بل هذا نوع آخر ويدل عليه وجوه أحدها دفع التكرار وثانيها أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه فقال وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ وذلك يدل على فضل في هذا دون غيره وثالثها ما روينا أنه تقدم إليهم الأطعمة والأشربة فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك وهذا يدل على أن هذا الشراب مغاير لتلك الأشربة ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك وكل ذلك يدل على المغايرة ورابعها وهو أن الروح من عالم الملائكة والأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة وعظمائهم على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوى البدن وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة فبعضها تكون كافورية على طبع البرد واليبس ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والانقباض وبعضها تكون زنجبيلية على طبع الحر واليبس فيكون صاحب هذه الحالة قليل الالتفات إلى ما سوى الله تعالى قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات ثم لا تزال الروح البشرية منتقلة من ينبوع إلى ينبوع ومن نور إلى نور ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله وعز كماله فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب من ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة بل فنيت لأن نور ما سوى الله تعالى يضمحل في مقابلة نور الله وكبريائه وعظمته وذلك هو آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الإرتقاء والكمال فلهذا السبب ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار على قوله وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً(30/224)
واعلم أنه تعالى لما تمم شرح أحوال السعداء قال تعالى
إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً
اعلم أن في الآية وجهين الأول قال ابن عباس المعنى أنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم لنعيمها إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله تعالى لكم إلى هذا الوقت فهو كله لكم بأعمالكم على قلة أعمالكم كما قال حاكياً عن الملائكة إنهم يقولون لأهل الجنة سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 24 ) وقال كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الاْيَّامِ الْخَالِيَة ِ ( الحاقة 24 ) والغرض من ذكر هذا الكلام أن يزداد سرورهم فإنه يقال للمعاقب هذا بعملك الرديء فيزداد غمه وألم قلبه ويقال للمثاب هذا بطاعتك فيكون ذلك تهنئة له وزيادة في سروره والقائل بهذا التفسير جعل القول مضمراً أي ويقال لهم هذا الكلام الوجه الثاني أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى لعباده في الدنيا فكأنه تعالى شرح جواب أهل الجنة أن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبادي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها وبقي في الآية سؤالان
السؤال الأول إذا كان فعل العبد خلفاً لله فكيف يعقل أن يكون فعل الله جزاء على فعل الله الجواب الجزء هو الكافي وذلك لا ينافي كونه فعلاً لله تعالى
السؤال الثاني كون سعي العبد مشكوراً لله يقتضي كون الله شاكراً له والجواب كون الله تعالى شاكراً للعبد محال إلا على وجه المجاز وهو من ثلاثة أوجه الأول قال القاضي إن الثواب مقابل لعلمهم كما أن الشكر مقابل للنعم الثاني قال القفال إنه مشهور في كلام الناس أن يقولوا للراضي بالقليل والمثني به إنه شكور فيحتمل أن يكون شكر الله لعباده هو رضاه عنهم بالقليل من الطاعات وإعطاؤه إياهم عليه ثواباً كثيراً الوجه الثالث أن منتهى درجة العبد أن يكون راضياً من ربه مرضياً لربه على ما قال أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 27 28 ) وكونها راضية من ربه أقل درجة من كونها مرضية لربه فقوله إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء إشارة إلى الأمر الذي به تصير النفس راضية من ربه وقوله وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً إشارة إلى كونها مرضية لربه ولما كانت هذه الحال أعلى المقامات وآخر الدرجات لا جرم وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً
اعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم بقوله هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ( الإنسان 1 ) ثم بين أنه سبحانه خلقه من أمشاج والمراد منه إما كونه مخلوقاً من العناصر الأربعة أو من الأخلاط الأربعة أو من ماء الرجل والمرأة أو من الأعضاء والأرواح أو من البدن(30/225)
والنفس أو من أحوال متعاقبة على ذلك الجسم مثل كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً وعلى أي هذه الوجوه تحمل هذه الآية فلذلك يدل على أنه لا بد من الصانع المختار جل جلاله وعظم كبرياؤه ثم بين بعد ذلك أني ما خلقته ضائعاً عاطلاً باطلاً بل خلقته لأجل الابتلاء والامتحان وإليه الإشارة بقوله نَّبْتَلِيهِ ( الإنسان 2 ) وههنا موضع الخصومة العظيمة القائمة بين أهل الجبر والقدر ثم ذكر تعالى أني أعطيته جميع ما يحتاج إليه عند الابتلاء والامتحان وهو السمع والبصر والعقل وإليه الإشارة بقوله فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( الإنسان 2 ) ولما كان العقل أشرف الأمور المحتاج إليها في هذا الباب أفرده عن السمع والبصر فقال إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ( الإنسان 3 ) ثم بين أن الخلق بعد هذه الأحوال صاروا قسمين منهم شاكر ومنهم كفور وهذا الإنقسام باختيارهم كما هو تأويل القدرية أو من الله على ما هو تأويل الجبرية ثم إنه تعالى ذكر عذاب الكفار على الاختصار ثم ذكر بعد ذلك ثواب المطيعين على الاستقصاء وهو إلى قوله وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ( الإنسان 22 ) واعلم أن الاختصار في ذكر العقاب مع الإطناب في شرح الثواب يدل على أن جانب الرحمة أغلب وأقوى فظهر مما بينا أن السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان أحوال الآخرة ثم إنه تعالى شرع بعد ذلك في أحوال الدنيا وقدم شرح أحوال المطيعين على شرح أحوال المتمردين أما المطيعون فهم الرسول وأمته والرسول هو الرأس والرئيس فلهذا خص الرسول بالخطاب واعلم أن الخطاب إما النهي وإما الأمر ثم إنه تعالى قبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من النهي والأمر قدم مقدمة في تقوية قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإزالة الغم والوحشة عن خاطره وإنما فعل ذلك لأن الاشتغال بالطاعة والقيام بعهدة التكليف لا يتم إلا مع فراغ القلب ثم بعد هذه المقدمة ذكر نهيه عن بعض الأشياء ثم بعد الفراغ عن النهي ذكر أمره ببعض الأشياء وإنما قدم النهي على الأمر لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع وإزالة مالا ينبغي مقدم على تحصيل ما ينبغي ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال المتمردين والكفار على ما سيأتي تفصيل بيانه ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن هذه السورة وقعت على أحسن وجوه الترتيب والنظام فالحمد لله الذي نور عقل هذا المسكين الضعيف بهذه الأنوار وله الشكر عليه أبد الآباد
ولنرجع إلى التفسير فنقول أما تلك المقدمة فهي قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ تَنزِيلاً واعلم أن المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله فلا جرم بالغ وكرر الضمير بعد إيقاعه اسماً لأن تأكيداً على تأكيد أبلغ كأنه تعالى يقول إن كان هؤلاء الكفار يقولون إن ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد والمبالغة إن ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي وهذا فيه فائدتان
إحداهما إزالة الوحشة المتقدمة الحاصلة بسبب طعن أولئك الكفار فإن بعض الجهال وإن طعنوا فيه إلا أن جبار السموات عظمه وصدقه
والثانية تقويته على تحمل التكليف المستقبل وذلك لأن الكفار كانوا يبالغون في إيذائه وهو كان يريد مقاتلتهم فلما أمره الله تعالى بالصبر على ذلك الإيذاء وترك المقاتلة وكان ذلك شاقاً عليه فقال له أَنَاْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ تَنزِيلاً فكأنه قال له إني ما نزلت عليك هذا القرآن مفرقاً منجماً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين ولقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال فاصبر لحكم ربك(30/226)
الصادر عن الحكمة المحضة المبرأ عن العيب والعبث والباطل
ثم إنه تعالى لما قدم هذه المقدمة ذكر النهي فقال تعالى
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً
فإما أن يكون المعنى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ في تأخير الإذن في القتال ونظيره فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( الأعراف 87 ) أو يكون المعنى عاماً في جميع التكاليف أي فاصبر في كل ما حكم به ربك سواء كان ذلك تكليفاً خاصاً بك من العبادات والطاعات أو متعلقاً بالغير وهو التبليغ وأداء الرسالة وتحمل المشاق الناشئة من ذلك ثم في الآية سؤالات
السؤال الأول قوله فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ دخل فيه أن لاَ تُطِعْهُ أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ فكأن ذكره بعد هذا تكريراً الجواب الأول أمر بالمأمورات والثاني نهى عن المنهيات ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح فيكون التصريح به مفيداً
السؤال الثاني أنه عليه السلام ما كان يطيع أحداً منهم فما الفائدة في هذا النهي الجواب المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوات الداعية إلى الفساد وأن أحداً لو استغنى عن توفيق الله وإمداده وإرشاده لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم لأنه لا بد له من الرغبة إلى الله والتضرع إليه في أن يصونه عن الشبهات والشهوات
السؤال الثالث ما الفرق بين الآثم والكفور الجواب الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت والكفور هو الجاحد للنعمة فكل كفور آثم أما ليس كل آثم كفوراً وإنما قلنا إن الآثم عام في المعاصي كلها لأنه تعالى قال وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ( النساء 48 ) فسمى الشرك إثماً وقال وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ ( البقرة 283 ) وقال وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ( الأنعام 120 ) وقال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ( البقرة 219 ) فدلت هذه الآيات على أن هذا الإثم شامل لكل المعاصي واعلم أن كل من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان لأنه لما عبد غيره فقد عصاه وجحد إنعامه إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان الأول أن المراد شخص معين ثم منهم من قال الآثم والكفور هو شخص واحد وهو أبو جهل ومنهم من قال الآثم هو الوليد والكفور هو عتبة قال القفال ويدل عليه أنه تعالى سمي الوليد أثيماً في قوله وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ إلى قوله مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( القلم 10 12 ) وروى صاحب الكشاف أن الآثم هو عتبة والكفور هو الوليد لأن عتبة كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع الفسوق والوليد كان غالياً في الكفر والقول الأول أولى لأنه متأيد بالقرآن يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولداً وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالاً فقرأ عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله فَانٍ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَة ً مّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ ( فصلت 1 13 ) فانصرفا عنه وقال أحدهما ظننت أن الكعبة ستقع علي القول الثاني أن الآثم(30/227)
والكفور مطلقان غير مختصين بشخص معين وهذا هو الأقرب إلى الظاهر ثم قال الحسن الآثم هو المنافق والكفور مشركوا العرب وهذا ضعيف بل الحق ما ذكرناه من أن الآثم عام والكفور خاص
السؤال الرابع كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ الجواب الْكَفُورَ أخبث أنواع الآثم فخصه بالذكر تنبيهاً على غاية خبثه ونهاية بعده عن الله
السؤال الخامس كلمة أو تقتضي النهي عن طاعة أحدهما فلم لم يذكر الواو حتى يكون نهياً عن طاعتهما جميعاً الجواب ذكروا فيه وجهين الأول وهو الذي ذكره الزجاج واختاره أكثر المحققين أنه لو قيل ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما لأن النهي عن طاعة مجموع شخصين لا يقتضي النهي عن طاعة كل واحد منهما وحده أما النهي عن طاعة أحدهما فيكون نهياً عن طاعة مجموعهما لأن الواحد داخل في المجموع ولقائل أن يقول هذا ضعيف لأن قوله لاَ تُطِعْهُ هذا وهذا معناه كن مخالفاً لأحدهما ولا يلزم من إيجاب مخالفة أحدهما إيجاب مخالفتهما معاً فإنه لا يبعد أن يقول السيد لعبده إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه أما إذا توافقا فلا تخالفهما والثاني قال الفراء تقدير الآية لا تطع منهم أحداً سواء كان أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ كقول الرجل لمن يسأله شيئاً لا أعطيك سواء سألت أو سكت
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا النهي عقبه بالأمر فقال
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
وفي هذه الآية قولان
الأول أن المراد هو الصلاة قالوا لأن التقييد بالبكرة والأصيل يدل على أن المراد من قوله وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ الصلوات ثم قالوا البكرة هي صلاة الصبح والأصيل صلاة الظهر والعصر وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ المغرب والعشاء فتكون هذه الكلمات جامعة الصلوات الخمس وقوله وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً المراد منه التهجد ثم اختلفوا فيه فقال بعضهم كان ذلك من الواجبات على الرسول عليه السلام ثم نسخ كما ذكرنا في سورة المزمل واحتجوا عليه بأن قوله فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ أمر وهو للوجوب لا سيما إذا تكرر على سبيل المبالغة وقال آخرون بل المراد التطوع وحكمه ثابت
القول الثاني أن المراد من قوله وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ إلى آخر الآية ليس هو الصلاة بل المراد التسبيح الذي هو القول والاعتقاد والمقصود أن يكون ذاكراً لله في جميع الأوقات ليلاً ونهاراً بقلبه ولسانه وهو المراد من قوله عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ( الأحزاب 41 )
واعلم أن في الآية لطيفة أخرى وهي أنه تعالى قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ تَنزِيلاً ( الإنسان 23 ) أي هديناك إلى هذه الأسرار وشرحنا صدرك بهذه الأنوار وإذ قد فعلنا بك ذلك فكن منقاداً مطيعاً لأمرنا وإياك وأن تكون منقاداً مطيعاً لغيرنا ثم لما أمره بطاعته ونهاه عن طاعة غيره قال وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وهذا إشارة إلى أن العقول البشرية ليس عندها إلا معرفة الأسماء والصفات أما معرفة الحقيقة فلا فتارة يقال له وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وهو إشارة إلى معرفة الأسماء وتارة يقال له وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ وهو(30/228)
إشارة إلى مقام الصفات وأما معرفة الحقيقة المخصوصة التي هي المستلزمة لسائر اللوازم السلبية والإضافية فلا سبيل لشيء من الممكنات والمحدثات إلى الوصول إليها والاطلاع عليها فسبحان من اختفى عن العقول لشدة ظهوره واحتجب عنها بكمال نوره
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله بالتعظيم والنهي والأمر عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين فقال تعالى
إِنَّ هَاؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَة َ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً
والمراد أن الذي حمل هؤلاء الكفار على الكفر وترك الالتفات والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ليس هو الشبهة حتى ينتفعوا بالدلائل المذكورة في أول هذه السورة بل الشهوة والمحبة لهذه اللذات العاجلة والراحات الدينية وفي الآية سؤالان
السؤال الأول لم قال وراءهم ولم يقل قدامهم الجواب من وجوه أحدها لما لم يلتفتوا إليه وأعرضوا عنه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم وثانيها المراد ويذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل فأسقط المضاف وثالثها أن تستعمل بمعنى قدام كقوله مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ( إبراهيم 16 ) وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ ( الكهف 79 )
السؤال الثاني ما السبب في وصف يوم القيامة بأنه يوم ثقيل الجواب استعير الثقل لشدته وهوله من الشيء الثقيل الذي يتعب حامله ونحوه ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 187 )
ثم إنه تعالى لما ذكر أن الداعي لهم إلى هذا الكفر حب العاجل قال
نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً
والمراد أن حبهم للعاجلة يوجب عليهم طاعة الله من حيث الرغبة ومن حيث الرهبة أما من حيث الرغبة فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة وخلق جميع ما يمكن الانتفاع به فإذا أحبوا اللذات العاجلة وتلك اللذات لا تحصل إلا عند حصول المنتفع وحصول المنتفع به وهذان لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده فهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله ولتكاليفه وترك التمرد والإعراض وأما من حيث الرهبة فلأنه قدر على أن يميتهم وعلى أن يسلب النعمة عنهم وعلى أن يلقيهم في كل محنة وبلية فلأجل من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم أن ينقادوا لله وأن يتركوا هذا التمرد وحاصل الكلام كأنه قيل لهم هب أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة مستحسنة إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله والإنقياد له فلو أنكم توسلتم به إلى الكفر بالله والإعراض عن حكمه لكنتم قد تمردتم وهذا ترتيب حسن في السؤال والجواب وطريقة لطيفة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أهل اللغة الأسر الربط والتوثيق ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقد وفرس مأسور الخلق وفرس مأسور بالعقب والمعنى شددنا توصيل أعضائهم بعضاً ببعض وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب
المسألة الثانية وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ أي إذا شئنا أهلكناهم وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلاً منهم وهو كقوله عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ والغرض منه بيان الاستغناء التام عنهم كأنه قيل لا حاجة بنا إلى(30/229)
أحد من المخلوقين ألبتة وبتقدير أن تثبت الحاجة فلا حاجة إلى هؤلاء الأقوام فإنا قادرون على إفنائهم وعلى إيجاد أمثالهم ونظيره قوله تعالى أَن يَشَاء يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً ( النساء 133 ) وقال إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( إبراهيم 19 20 ) ثم قيل بدلنا أمثالهم أي في الخلقة وإن كانوا أضدادهم في العمل وقيل أمثالهم في الكفر
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف في قوله وَإِذَا شِئْنَا إن حقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ( محمد 38 ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ( النساء 133 ) واعلم أن هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف لأن كل واحد من إن وإذا حرف الشرط إلا أن حرف إن لا يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع فلا يقال إن طلعت الشمس أكرمتك أما حرف إذا فإنه يستعمل فيما كان معلوم الوقوع تقول آتيك إذا طلعت الشمس فههنا لما كان الله تعالى عالماً بأنه سيجيء وقت يبدل الله فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف إذا
إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَة ٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال السعداء وأحوال الأشقياء قال بعده إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَة ٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ والمعنى أن هذه السورة بما فيها من الترتيب العجيب والنسق البعيد والوعد والوعيد والترغيب والترهيب تذكرة للمتأملين وتبصرة للمستبصرين فمن شاء الخيرة لنفسه في الدنيا والآخرة اتخذ إلى ربه سبيلاً واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه واعلم أن هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر فالقدري يتمسك بقوله تعالى فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً ويقول إنه صريح مذهبي ونظيره فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ والجبري يقول متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منه صريح مذهب الجبر وذلك لأن قوله فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً يقتضي أن تكون مشيئة العبد متى كانت خالصة فإنها تكون مستلزمة للفعل وقوله بعد ذلك وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ يقتضي أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد ومستلزم المستلزم مستلزم فإذا مشيئة الله مستلزمة لفعل العبد وذلك هو الجبر وهكذا الاستدلال على الجبر بقوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ثم التقرير ما تقدم
واعلم أن الاستدلال على هذا الوجه الذي لخصناه لا يتوجه عليه كلام القاضي إلا أنا نذكره وننبه على ما فيه من الضعف قال القاضي المذكور في هذه الآية اتخاذ السبيل إلى الله ونحن نسلم أن الله قد شاءه لأنه تعالى قد أمر به فلا بد وأن يكون قد شاءه وهذا لا يقتضي أن يقال العبد لا يشاء إلا ما قد شاءه الله على الإطلاق إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أنه تعالى قد أراده وشاءه
واعلم أن هذا الكلام الذي ذكره القاضي لا تعلق له بالاستدلال على الوجه الذي ذكرناه وأيضاً فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص هذا العام بالصورة التي مر ذكرها فيما قبل هذه الآية وذلك ضعيف لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام به لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث يعم تلك الصورة وسائر الصور بقي في الآية سؤال يتعلق بالإعراب وهو أن يقال ما محل أن(30/230)
يشاء الله وجوابه النصب على الظرف وأصله إلا وقت مشيئة الله وكذلك قراءة ابن مسعود ( إلا ما شاء الله ) لأن ما مع الفعل كأن معه وقرىء أيضاً يشاءون بالياء
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً أي عليماً بأحوالهم وما يكون منهم حيث خلقهم مع علمه بهم
ثم ختم السورة فقال
يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
اعلم أن خاتمة هذه السورة عجيبة وذلك لأن قوله وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الإنسان 30 ) يدل على أن جميع ما يصدر عن العبد فبمشيئة الله وقوله يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً يدل على أن دخول الجنة والنار ليس إلا بمشيئة الله فخرج من آخر هذه السورة إلا الله وما هو من الله وذلك هو التوحيد المطلق الذي هو آخر سير الصديقين ومنتهى معارجهم في أفلاك المعارف الإلهية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ إن فسرنا الرحمة الإيمان فالآية صريحة في أن الإيمان من الله وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله وفضله وإحصانه لا بسبب الاستحقاق وذلك لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجهل والحاجة المحالين على الله والمفضي إلى المحال محال فتركه محال فوجوده واجب عقلاً وعدمه ممتنع عقلاً وما كان كذلك لا يكون معلقاً على المشيئة ألبتة وأيضاً فلأن من كان مديوناً من إنسان فأدى ذلك الدين إلى مستحقه لا يقال بأنه إنما دفع ذلك القدر إليه على سبيل الرحمة والتفضل
المسألة الثانية قوله وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً يدل على أنه جف القلم بما هو كائن لأن معنى أعد أنه علم ذلك وقضى به وأخبر عنه وكتبه في اللوح المحفوظ ومعلوم أن التغيير على هذه الأشياء محال فكان الأمر على ما بيناه وقلناه
المسألة الثالثة قال الزجاج نصب الظالمين لأن قبله منصوباً والمعنى يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين وقوله أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً كالتفسير لذلك المضمر وقرأ عبدالله بن الزبير والظالمون وهذا ليس باختيار لأنه معطوف على يدخل من يشاء وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية غير حسن وأما قوله في حم عسق يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ فإنما ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصبه في المعنى فلم يجز أن يعطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء وههنا قوله أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً يدل على ذلك الناصب المضمر فظهر الفرق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(30/231)
سورة المرسلات
وهي خمسون آية ميكة
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والنَّاشِرَاتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه الكلمات الخمس إما أن يكون المراد منها جنساً وحداً أو أجناساً مختلفة أما الاحتمال الأول فذكروا فيه وجوهاً الأول أن المراد منها بأسرها الملائكة فالمرسلات هم الملائكة الذين أرسلهم الله إما بإيصال النعمة إلى قوم أو لإيصال النقمة إلى آخرين وقوله عُرْفاً فيه وجوه أحدها متتابعة كشعر العرف يقال جاؤا عرفاً واحداً وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه والثاني أن يكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكرة فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة فهذا المعنى فيهم ظاهر وإن كانوا لأجل العذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم والثالث أن يكون مصدراً كأنه قيل والمرسلات أرسالاً أي متتابعة وانتصاب عرفاً على الوجه الأول على الحال وعلى الثاني لكونه مفعولاً أي أرسلت للإحسان والمعروف وقوله فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً فيه وجهان الأول يعني أن الله تعالى لما أرسل أولئك الملائكة فهم عصفوا في طيرانهم كما تعصف الرياح والثاني أن هؤلاء الملائكة يعصفون بروح الكافر يقال عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه يقال ناقة عصوف أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريح في السرعة وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم قال الشاعر في فيلق شهباء ملمومة
تعصف بالمقبل والمدبر(30/232)
وقوله تعالى والنَّاشِراتِ نَشْراً معناه أنهم نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض أو نشروا الشرائع في الأرض أو نشروا الرحمة أو العذاب أو المراد الملائكة الذين ينشرون الكتب يوم الحساب وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم قال تعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً وبالجملة فقد نشروا الشيء الذي أمروا بإيصاله إلى أهل الأرض ونشره فيهم وقوله تعالى فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً معناه أنهم يفرقون بين الحق والباطل وقوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً معناه أنهم يلقون الذكر إلى الأنبياء ثم المراد من الذكر يحتمل أن يكون مطلق العلم والحكمة كما قال يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) ويحتمل أن يكون المراد هو القرآن خاصة وهو قوله الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ وقوله وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ وهذا الملقى وإن كان هو جبريل عليه السلام وحده إلا أنه يجوز أن يسمى الواحد باسم الجماعة على سبيل التعظيم
واعلم أنك قد عرفت أن المقصود من القسم التنبيه على جلالة المقسم به وشرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه أحدها شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى كما قال تعالى وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 50 ) لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) وثانيها أنهم أقسام فمنهم من يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء ومنهم من يرسل للزوم بني آدم لكتابة أعمالهم طائفة منهم بالنهار وطائفة منهم بالليل ومنهم من يرسل لقبض أرواح بني آدم ومنهم من يرسل بالوحي من سماء إلى أخرى إلى أن ينزل بذلك الوحي ملك السماء إلى الأرض ومنهم الملائكة الذين ينزلون كل يوم من البيت المعمور إلى الكعبة على ما روي ذلك في الإخبار فهذا مما ينتظمه قوله وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً ثم ما فيها من سرعة السير وقطع المسافات الكثيرة في المدة اليسيرة كقوله تَعْرُجُ الْمَلَئِكَة ُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة ٍ ثم ما فيها من نشر أجنحتهم العظيمة عند الطيران ونشر العلم والحكمة والنبوة والهداية والإرشاد والوحي والتنزيل وإظهار الفرق بين الحق والباطل بسبب إنزال ذلك الوحي والتنزيل وإلقاء الذكر في القلب واللسان بسبب ذلك الوحي وبالجملة فالملائكة هم الوسائط بين الله تعالى وبين عباده في الفوز بجميع السعادات العاجلة والآجلة والخيرات الجسمانية والروحانية فلذلك أقسم الله بهم
القول الثاني أن المراد من هذه الكلمات الخمس بأسرها الرياح أقسم الله برياح عذاب أرسلها عرفاً أي متتابعة كشعر العرف كما قال يُرْسِلُ الرّيَاحَ ( الروم 46 ) وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ ( الحجر 22 ) ثم إنها تشتد حتى تصير عواصف ورياح رحمة نشرت السحاب في الجو كما قال وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( النمل 63 ) وقال اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاء ( الروم 48 ) ويجوز أيضاً أن يقال الرياح تعين النبات والزرع والشجر على النشور والإنبات وذلك لأنها تلقح فيبرز النبات بذلك على ما قال تعالى وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ ( الحجر 22 ) فبهذا الطريق تكون الرياح ناشرة للنبات وفي كون الرياح فارقة وجوه أحدها أن الرياح تفرق بعض أجزاء السحاب عن بعض وثانيها أن الله تعالى خرب بعض القرى بتسليط الرياح عليها كما قال وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ( الحاقة 6 ) وذلك سبب لظهور الفرق بين أولياء الله وأعداء الله وثالثها أن عند حدوث الرياح المختلفة وترتيب الآثار العجيبة عليها من تموج السحاب وتخريب الديار تصير الخلق مضطرين إلى الرجوع إلى الله(30/233)
والتضرع على باب رحمته فيحصل الفرق بين المقر والمنكر والموحد والملحد وقوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً معناه أن العاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع وتهدم الصخور والجبال وترفع الأمواج تمسك بذكر الله والتجأ إلى إعانة الله فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب ولا شك أن هذه الإضافة تكون على سبيل المجاز من حيث إن الذكر حصل عند حدوث هذه
القول الثالث من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمسة على القرآن وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن فقوله وَالْمُرْسَلَاتِ المراد منها الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل عليه السلام إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقوله عُرْفاً أي نزلت هذه الآيات بكل عرف وخير وكيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة والموصلة إلى مجامع الخيرات فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً فالمراد أن دولة الإسلام والقرآن كانت ضعيفة في الأول ثم عظمت وقهرت سائر الملل والأديان فكأن دولة القرآن عصفت بسائر الدول والملل والأديان وقهرتها وجعلتها باطلة دائرة وقوله والنَّاشِراتِ نَشْراً المراد أن آيات القرآن نشرت آثار الحكمة والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً وقوله فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فذلك ظاهر لأن آيات القرآن هي التي تفرق بين الحق والباطل ولذلك سمي الله تعالى القرآن فرقاناً وقوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً فالأمر فيه ظاهر لأن القرآن ذكر كما قال تعالى ص وَالْقُرْءانِ ذِى الذّكْرِ ( ص 1 ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ ( الأنبياء 50 ) وتذكرة كما قال وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَة ٌ لّلْمُتَّقِينَ ( الحاقة 48 ) وذكرى كما قال ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( الأنعام 90 ) فظهر أنه يمكن تفسير هذه الكلمات الخمسة بالقرآن وهذا وإن لم يذكره أحد فإنه محتمل
القول الرابع يمكن حملها أيضاً على بعثة الأنبياء عليهم السلام وَالْمُرْسَلَاتِ هم الأشخاص الذين أرسلوا بالوحي المشتمل على كل خير ومعروف فإنه لا شك أنهم أرسلوا بلا إله إلا الله وهو مفتاح كل خير ومعروف عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً معناه أن أمر كل رسول يكون في أول الأمر حقيراً ضعيفاً ثم يشتد ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح والنَّاشِراتِ نَشْراً المراد منه انتشار دينهم ومذهبهم ومقالتهم فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً المراد أنهم يفرقون بين الحق والباطل والتوحيد والإلحاد فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً المراد أنهم يدعون الخلق إلى ذكر الله ويأمرونهم به ويحثونهم عليه
القول الخامس أن يكون المراد أن الرجل قد يكون مشتغلاً بمصالح الدنيا مستغرقاً في طلب لذاتها وراحاتها ففي أثناء ذلك يرد في قلبه داعية الإعراض عن الدنيا والرغبة في خدمة المولى فتلك الدواعي هي المرسلات عرفاً ثم هذه المرسلات لها أثران أحدهما إزالة حب ماسوى الله تعالى عن القلب وهو المراد من قوله فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والثاني ظهور أثر تلك الداعية في جميع الجوارح والأعضاء حتى لا يسمع إلا الله ولا يبصر إلا الله ولا ينظر إلا الله فذلك هو قوله والنَّاشِراتِ نَشْراً ثم عند ذلك ينكشف له نور جلال الله فيراه موجوداً ويرى كل ما سواه معدوماً فذلك قوله فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً ثم يصير العبد كالمشتهر في محبته ولا يبقى في قلبه ولسانه إلا ذكره فذلك قوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً
واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة وإن كانت غير مذكورة إلا أنها محتملة جداً وأما الاحتمال الثاني وهو أن لا يكون المراد من الكلمات الخمس شيئاً واحداً ففيه وجوه الأول ما ذكره الزجاج واختيار القاضي وهو أن الثلاثة الأول هي الرياح فقوله وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً هي الرياح التي تتصل على(30/234)
العرف المعتاد والعاصفات ما يشتد منه عَصْفاً والنَّاشِراتِ ما ينشر السحاب أما قوله فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فهم الملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل والحلال والحرام بما يتحملونه من القرآن والوحي وكذلك قوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً أنها الملائكة المتحملة للذكر الملقية ذلك إلى الرسل فإن قيل وما المجانسة بين الرياح وبين الملائكة حتى يجمع بينهما في القسم قلنا الملائكة روحانيون فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح القول الثاني أن الإثنين الأولين هما الرياح فقوله وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً هما الرياح والثلاثة الباقية الملائكة لأنها تنشر الوحي والدين ثم لذلك الوحي أثران أحدهما حصول الفرق بين المحق والمبطل والثاني ظهور ذكر الله في القلوب والألسنة وهذا القول ما رأيته لأحد ولكنه ظاهر الاحتمال أيضاً والذي يؤكده أنه قال وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً عطف الثاني على الأول بحرف الفاء ثم ذكر الواو فقال والنَّاشِراتِ نَشْراً وعطف الإثنين الباقيين عليه بحرف الفاء وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة القول الثالث يمكن أيضاً أن يقال المراد بالأولين الملائكة فقوله وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً ملائكة الرحمة وقوله فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ملائكة العذاب والثلاثة الباقية آيات القرآن لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح وتفرق بين الحق والباطل وتلقي الذكر في القلوب والألسنة وهذا القول أيضاً ما رأيته لأحد وهو محتمل ومن وقف على ما ذكرناه أمكنه أن يذكر فيه وجوهاً والله أعلم بمراده
المسألة الثانية قال القفال الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم والواو في بعض مبني على الأصل وهو أن عند أهل اللغة الفاء تقتضي الوصل والتعلق فإذا قيل قام زيد فذهب فالمعنى أنه قام ليذهب فكان قيامه سبباً لذهابه ومتصلاً به وإذا قيل قام وذهب فهما خبران كل واحد منهما قائم بنفسه لا يتعلق بالآخر ثم إن القفال لما مهد هذا الأصل فرع الكلام عليه في هذه الآية بوجوه لا يميل قلبي إليها وأنا أفرع على هذا الأصل فأقول أما من جعل الأولين صفتين لشيء والثلاثة الأخيرة صفات لشيء واحد فالإشكال عنه زائل وأما من جعل الكل صفات لشيء واحد فنقول إن حملناها على الملائكة فالملائكة إذا أرسلت طارت سريعاً وذلك الطيران هو العصف فالعصف مرتب على الإرسال فلا جرم ذكر الفاء أما النشر فلا يترتب على الإرسال فإن الملائكة أول ما يبلغون الوحي إلى الرسل لا يصير في الحال ذلك الدين مشهوراً منتشراً بل الخلق يؤذون الأنبياء في أول الأمر وينسبونهم إلى الكذب والسحر والجنون فلا جرم لم يذكر الفاء التي تفيد بل ذكر الواو بلى إذا حصل النشر ترتب عليه حصول الفرق بين الحق والباطل وظهور ذكر الحق على الألسنة فلا جرم ذكر هذين الأمرين بحرف الفاء فكأنه والله أعلم قيل يا محمد إني أرسلت الملك إليك بالوحي الذي هو عنوان كل سعادة وفاتحة كل خير ولكن لا تطمع في أن ننشر ذلك الأمر في الحالة ولكن لا بد من الصبر وتحمل المشقة ثم إذا جاء وقت النصرة أجعل دينك ظاهراً منتشراً في شرق العالم وغربه وعند ذلك الانتشار يظهر الفرق فتصير الأديان الباطلة ضعيفة ساقطة ودينك هو الدين الحق ظاهراً غالباً وهنالك يظهر ذلك الله على الألسنة وفي المحاريب وعلى المنابر ويصير العالم مملوأ من ذكر الله فهذا إذا حملنا هذه الكلمات الخمس على الملائكة ومن عرف هذا الوجه أمكنه ذكر ما شابهه في الرياح وسائر الوجوه والله أعلم
أما قوله عُذْراً أَوْ نُذْراً ففيه مسألتان(30/235)
المسألة الأولى فيهما قراءتان التخفيف وهو قراءة أبي عمرو وعاصم من رواية حفص والباقون قرأوا بالتثقيل أما التخفيف فلا نزاع في كونه مصدراً والمعنى إعذاراً وإنذاراً وأما التثقيل فزعم أبو عبيدة أنه جمع وليس بمصدر وأما الأخفش والزجاج فزعما أنه مصدر والتثقيل والتخفيف لغتان وقرر أبو علي قول الأخفش والزجاج وقال العذر والعذير والنذر والنذير مثل النكر والنكير ثم قال أبو علي ويجوز في قراءة من ثقل أن يكون عذراً جمع عاذر كشرف وشارف وكذلك النذر يجوز أن يكون جمع نذير قال تعالى هَاذَا نَذِيرٌ مّنَ النُّذُرِ الاْوْلَى ( النجم 56 )
المسألة الثانية في النصب ثلاثة أوجه أما على تقدير كونه مصدراً فوجهان أحدهما أن يكون مفعولاً على البدل من قوله ذكراً والثاني أن يكون مفعولاً له والمعنى والملقيات ذكراً للأعذار والإنذار وأما على تقدير كونه جمعاً فنصب على الحال من الإلقاء والتقدير فالملقيات ذكراً حال كونهم عاذرين ومنذرين
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ
جواب القسم والمعنى إن الذي توعدون به من مجيء يوم القيامة لكائن نازل وقال الكلبي المراد أن كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع واحتج القائلون بالتفسير الأول بأنه تعالى ذكر عقيب هذه الآيات علامات يوم القيامة فدل على أن المراد من هذه الآية هو القيامة فقط ثم إنه ذكر علامات وقوع هذا اليوم
أولها قوله تعالى
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ
وذكرنا تفسير الطمس عند قوله رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ ( يونس 88 ) وبالجملة فيحتمل أن يكون المراد محقت ذواتها وهو موافق لقوله انتَثَرَتْ ( الإنفطار 2 ) و انكذرت ( التكوير 2 ) وأن يكون المراد محقت أنوارها والأول أولى لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور
وثانيها قوله
وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ
طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ الفرج الشق يقال فرجه الله فانفرج وكل مشقوق فرج فههنا قوله فرجت أي شقت نظيره وَإِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الانشقاق 1 ) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ ( الفرقان 25 ) وقال ابن قتيبة معناه فتحت نظيره وفتحت السماء قال الشاعر الفارجي باب الأمير المبهم
وثالثها قوله
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ
وفيه وجهان أحدهما نسفت كالحب المغلث إذا نسف بالمنسف ومنه قوله لَّنُحَرّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ ونظيره وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً ( الواقعة 5 ) وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً ( المزمل 14 ) فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً والثاني اقتلعت بسرعة من أماكنها من انتسفت الشيء إذا اختطفته وقرىء طُمِسَتْ و فُرِجَتْ و نُسِفَتْ مشددة(30/236)
ورابعها قوله تعالى
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى أقتت أصلها وقتت ويدل عليه وجوه أحدها قراءة أبي عمرو وقتت بالواو وثانيها أن أصل الكلمة من الوقت وثالثها أن كل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة فإنها تبدل على الإطراد همزة أولاً وحشواً ومن ذلك أن تقول صلى القوم إحدانا وهذه أجوه حسان وأدؤر في جمع دار والسبب فيه أن الضمة من جنس الواو فالجمع بينهما يجري مجرى جمع المثلين فيكون ثقيلاً ولهذا السبب كان كسر الياء ثقيلاً
أما قوله تعالى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ فلا يجوز فيه البدل لأن الضمة غير لازمة ألا ترى أنه لا يسوغ في نحو قولك هَاذَا وَعْدُ أن تبدل
المسألة الثانية في التأقيت قولان الأول وهو قول مجاهد والزجاج أنه تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم وهذا ضعيف وذلك لأن هذه الأشياء جعلت علامات لقيام القيامة كأنه قيل إذا كان كذا وكذا كانت القيامة ولا يليق بهذا الموضع أن يقال وإذا بين لهم الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم قامت القيامة لأن ذلك البيان كان حاصلاً في الدنيا ولأن الثلاثة المتقدمة هي الطمس والفرج والنسف مختصة بوقت قيام القيامة فكذا هذا التوقيت يجب أن يكون مختصاً بوقت قيام القيامة القول الثاني أن المراد بهذا التأقيت تحصيل الوقت وتكوينه وهذا أقرب أيضاً إلى مطابقة اللفظ لأن بناء التفعيلات على تحصيل تلك الماهيات فالتسويد تحصيل السواد والتحريك تحصيل الحركة فكذا التأقيت تحصيل الوقت ثم إنه ليس في اللفظ بيان أنه تحصيل لوقت أي شيء وإنما لم يبين ذلك ولم يعين لأجل أن يذهب الوهم إلى كل جانب فيكون التهويل فيه أشد فيحتمل أن يكون المراد تكوين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم وأن يكون هو الوقت الذي يجتمعون فيه للفوز بالثواب وأن يكون هو وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به وسؤال الأمم عما أجابوهم كما قال فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وأن يكون هو الوقت الذي يشاهدون الجنة والنار والعرض والحساب والوزن وسائر أحوال القيامة وإليه الإشارة بقوله وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ
لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ
أي أخرت كأنه تعالى يعجب العباد من تعظيم ذلك اليوم فقال لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم وظهور ما كانوا يدعون الخلق إلى الإيمان به من الأهوال والعرض والحساب ونشر الدواوين ووضع الموازين
ثم إنه تعالى بين ذلك فقال
لِيَوْمِ الْفَصْلِ
قال ابن عباس رضي الله عنهما يوم يفصل الرحمن بين الخلائق وهذا كقوله إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ
ثم أتبع ذلك تعظيماً ثانياً فقال
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ أي وما علمك بيوم الفصل وشدته ومهابته
ثم أتبعه بتهويل ثالث فقال
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
أي للمكذبين بالتوحيد والنبوة والمعاد وبكل ما ورد من الأنبياء عليهم السلام وأخبروا عنه بقي ههنا سؤالان(30/237)
السؤال الأول كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الجواب هو في أصله مصدر منصوب ساد مسد فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ويجوز ويلا بالنصب ولكن لم يقرأ به
السؤال الثاني أين جواب قوله فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ الجواب من وجهين أحدهما التقدير إنما توعدون لواقع إذا النجوم طمست وهذا ضعيف لأنه يقع في قوله فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ الثاني أن الجواب محذوف والتقدير فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وإذا وإذا فحينئذ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة
أَلَمْ نُهْلِكِ الاٌّ وَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاٌّ خِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن المقصود من هذه الصورة تخويف الكفار وتحذيرهم عن الكفر
فالنوع الأول من التخويف أنه أقسم على أن اليوم الذي يوعدون به وهو يوم الفصل واقع ثم هول فقال وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ثم زاد في التهويل فقال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
والنوع الثاني من التخويف ما ذكر في هذه الآية وهو أنه أهلك الكفرة المتقدمين بسبب كفرهم فإذا كان الكفر حاصلاً في هؤلاء المتأخرين فلا بد وأن يهلكهم أيضاً ثم قال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ كأنه يقول أما الدنيا فحاصلهم الهلاك وأما الآخرة فالعذاب الشديد وإليه الإشارة بقوله خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَة َ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ وفي الآية سؤالان الأول ما المراد من الأولين والآخرين الجواب فيه قولان الأول أنه أهلك الأولين من قوم نوح وعاد وثمود ثم أتبعهم الآخرين قوم شعيب ولوط وموسى كذلك نفعل بالمجرمين وهم كفار قريش وهذا القول ضعيف لأن قوله نُتْبِعُهُمُ الاْخِرِينَ بلفظ المضارع فهو يتناول الحال والاستقبال ولا يتناول الماضي ألبتة القول الثاني أن المراد بالأولين جميع الكفار الذين كانوا قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقوله ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاْخِرِينَ على الاستئناف على معنى سنفعل ذلك ونتبع الأول الآخر ويدل على الاستئناف قراءة عبدالله سنتبعهم فإن قيل قرأ الأعرج ثم نتبعهم بالجزم وذلك يدل على الاشتراك في ألم وحينئذ يكون المراد به الماضي لا المستقبل قلنا القراءة الثابتة بالتواتر نتبعهم بحركة العين وذلك يقتضي المستقبل فلو اقتضت القراءة بالجزم أن يكون المراد هو الماضي لوقع التنافي بين القراءتين وإنه غير جائز فعلمنا أن تسكين العين ليس للجزم للتخفيف كما روي في بيت امرىء القيس
واليوم أشرب غير مستحقب
ثم إنه تعالى لما بين أنه يفعل بهؤلاء المتأخرين مثل ما يفعل بأولئك المتقدمين قال إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي هذا الإهلاك إنما نفعله بهم لكونهم مجرمين فلا جرم في جميع المجرمين لأن عموم(30/238)
العلة يقتضي عموم الحكم
ثم قال تعالى وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ أي هؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا فالمصيبة العظمى والطامة الكبرى معدة لهم يوم القيامة
السؤال الثاني المراد من الإهلاك في قوله أَلَمْ نُهْلِكِ الاْوَّلِينَ هو مطلق الإماتة أو الإماتة بالعذاب فإن كان ذلك هو الأول لم يكن تخويفاً للكفار لأن ذلك أمر حاصل للمؤمن والكافر فلا يصلح تحذيراً للكافر وإن كان المراد هو الثاني وهو الإماتة بالعذاب فقوله ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاْخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ يقتضي أن يكون الله قد فعل بكفار قريش مثل ذلك ومن المعلوم أنه لم يوجد ذلك وأيضاً فلأنه تعالى قال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ الجواب لم لا يجوز أن يكون المراد منه الإماتة بالتعذيب وقد وقع ذلك في حق قريش وهو يوم بدر سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالثاً مغايراً للأمرين اللذين ذكروهما وهو الإماتة المستعقبة للذم واللعن فكأنه قيل إن أولئك المتقدمين لحرصهم على الدنيا عاندوا الأنبياء وخاصموهم ثم ماتوا فقد فاتتهم الدنيا وبقي اللعن عليهم في الدنيا والعقوبة الأخروية دائماً سرمداً فهكذا يكون حال هؤلاء الكفار الموجودين ومعلوم أن مثل هذا الكلام من أعظم وجوه الزجر
أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من تخويف الكفار ووجه التخويف فيه من وجهين الأول أنه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم وكلما كانت نعمة الله عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش وكلما كان كذلك كان العقاب أعظم فلهذا قال عقيب ذكر هذا الإنعام وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الوجه الثاني أنه تعالى ذكرهم كونه قادراً على الابتداء وظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة لا جرم قال في حقهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ وأما التفسير فهو أن قوله أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ أي من النطفة كقوله ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَة ٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ وهو الرحم لأن ما يخلق منه الولد لا بد وأن يثبت في الرحم ويتمكن بخلاف مالا يخلق منه الولد ثم قال إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ والمراد كونه في الرحم إلى وقت الولادة وذلك الوقت معلوم لله تعالى لا لغيره كقوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ إلى قوله وَيَعْلَمُ مَا فِى الاْرْحَامِ فَقَدَرْنَا قرأ نافع وعبدالله بن عامر بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف أما التشديد فالمعنى إنا قدرنا ذلك تقديراً فنعم المقدرون له نحن ويتأكد هذا الوجه بقوله تعالى مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ولأن إيقاع الخلق على هذا التقدير والتحديد نعمة من المقدر على المخلوق فحسن ذكره في موضع ذكر(30/239)
المنة والنعمة ومن طعن في هذه القراءة قال لو صحت هذه القراءة لوجب أن يقال فقدرنا فنعم المقدرون وأجيب عنه بأن العرب قد تجمع بين اللغتين قال تعالى فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً وأما القراءة بالتخفيف ففيها وجهان الأول أنه من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ حيث خلقناه في أحسن الصور والهيئات والثاني أنه يقال قدرت الشيء بالتخفيف على معنى قدرته قال الفراء العرب تقول قدر عليه الموت وقدر عليه الموت وقدر عليه رزقه وقدر بالتخفيف والتشديد قال تعالى فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من تخويف الكفار وذلك لأنه ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس وفي هذه الآية ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق ثم قال في آخر الآية وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ والسبب فيه ما قدمنا أن النعم كلما كانت أكثر كانت الجناية أقبح فكان استحقاق الذم عاجلاً والعقاب آجلاً أشد وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية لأن النعم التي في الأنفس كالأصل للنعم التي في الآفاق فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان الانتفاع بشيء من المخلوق ممكناً
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا ثلاثة أشياء أولها الأرض وإنما قدمها لأن أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجية هو الأرض ومعنى الكفات في اللغة الضم والجمع يقال كفت الشيء أي ضممته ويقال جراب كفيت وكفت إذا كان لا يضيع شيئاً مما يجعل فيه ويقال للقدر كفت قال صاحب الكشاف هو اسم ما يكفت كقولهم الضمام والجماع لما يضم ويجمع ويقال هذا الباب جماع الأبواب وتقول شددت الشيء ثم تسمي الخيط الذي تشد به الشيء شداداً وبه انتصب أحياء وأمواتاً كأنه قيل كافتة أحياء وأمواتاً أو بفعل مضمر يدل عليه وهو نكفت ويكون المعنى نكفتكم أحياء وأمواتاً فينصبان على الحال من الضمير هذا هو اللغة ثم في المعنى وجوه أحدها أنها تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها والمعنى أن الأحياء يسكنون في منازلهم والأموات يدفنون في قبورهم ولهذا كانوا يسمون الأرض أما لأنها في ضمها للناس كالأم التي تضم ولدها وتكفله ولما كانوا يضمون إليها جعلت كأنها تضمهم وثانيها أنها كفات الأحياء بمعنى أنها تكفت ما ينفصل الأحياء من الأمور المستقذرة فأما أنها تكفت ( الأحياء ) حال كونهم على ظهرها فلا وثالثها أنها كفات الأحياء بمعنى أنها جامعة لما يحتاج الإنسان إليه في حاجاته من مأكل ومشرب لأن كل ذلك يخرج من الأرض والأبنية الجامعة للمصالح الدافعة للمضار مبنية منها ورابعها أن قوله أَحْيَاء وَأَمْواتاً معناه راجع إلى الأرض والحي ما أنبت والميت مالم ينبت بفي في الآية سؤالان
الأول لم قيل أَحْيَاء وَأَمْواتاً على التنكير وهي كفات الأحياء والأموات جميعاً الجواب هو من(30/240)
تنكير التفخيم كأنه قيل تكفت أحياء لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون
السؤال الثاني هل تدل هذه الآية على وجوب قطع النباش الجواب نقل القفال أن ربيعة قال دلت الآية على أن الأرض كفات الميت فتكون حرزاً له والسارق من الحرز يجب عليه القطع
النوع الثاني من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ فقوله رَوَاسِى َ أي ثوابت على ظهر الأرض لا تزول و شَامِخَاتٍ أي عاليات وكل عال فهو شامخ ويقال للمتكبر شامخ بأنفه ومنافع خلقة الجبال قد تقدمت في هذا الكتاب
النوع الثالث من النعم قوله تعالى وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً الفرات هو الغاية في العذوبة وقد تقدم تفسيره في قوله هَاذَا عَذَابٌ فُرَاتٌ
انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَة ٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع الخامس من وجوه تخويف الكفار وهو بيان كيفية عذابهم في الآخرة فأما قوله انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ فالمعنى أنه يقال لهم انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ من العذاب والظاهر أن القائلين هم خزنة النار وانطلقوا الثاني تكرير وقرأ يعقوب تُكَذّبُونَ انطَلِقُواْ على لفظ الماضي والمعنى أنهم انقادوا للأمر لأجل أنهم مضطرون إليه لا يستطيعون امتناعاً منه وهذا بعيد لأنه كان ينبغي أن يقال فانطلقوا بالفاء ليرتبط آخر الكلام بأوله قال المفسرون إن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس ولا كنان فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم ويمتد ذلك اليوم ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله فهناك يقولون فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ويقال للمكذبين انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ من عذاب الله وعقابه وقوله إِلَى ظِلّ يعني دخان جهنم كقوله وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ ثم إنه تعالى وصف هذا الظل بصفات
الصفة الأولى قوله ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ وفيه وجوه أحدها قال الحسن ما أدري ما هذا الظل ولا سمعت فيه شيئاً وثانيها قال قوم المراد بقوله إلى ظل ذي ثلاث شعب كون النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم وتسمية النار بالظل مجاز من حيث إنها محيطة بهم من كل جانب كقوله لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ وقال تعالى يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وثالثها قال قتادة بل المراد الدخان وهو من قوله أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وسرادق النار هو الدخان ثم إن شعبة من ذلك الدخان على يمينه وشعبة أخرى على يساره وشعبة ثالثة من فوقه وأقول هذا غير مستبعد لأن الغضب عن يمينه والشهوة عن شماله والقوة الشيطانية في دماغه ومنبع جميع الآفاق الصادرة عن الإنسان في عقائده وفي أعماله ليس إلا هذه الثلاثة فتولدت من(30/241)
هذه الينابيع الثلاثة أنواع من الظلمات ويمكن أيضاً أن يقال ههنا درجات ثلاثة وهي الحس والخيال والوهم وهي مانعة للروح عن الاستنارة بأنوار عالم القدس والطهارة ولكل واحد من تلك المراتب الثلاثة نوع خاص من الظلمة ورابعها قال قوم هذا كناية عن كون ذلك الدخان عظيماً فإن الدخان العظيم ينقسم إلى شعب كثيرة وخامسها قال أبو مسلم ويحتمل في ثلاث شعب ما ذكره بعد ذلك وهو أنه غير ظليل وأنه لا يغني من اللهب وبأنها ترمى بشرر كالقصر
الصفة الثانية لذلك الظل قوله لاَّ ظَلِيلٍ وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين والمعنى أن ذلك الظل لا يمنع حر الشمس
الصفة الثالثة قوله تعالى وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ يقال أغن عني وجهك أي أبعده لأن الغني عن الشيء يباعده كما أن المحتاج يقاربه قال صاحب ( الكشاف ) إنه في محل الجر أي وغيره مغن عنهم من حر اللهب شيئاً قال القفال وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن هذا الظل إنما يكون في جهنم فلا يظلهم من حرها ولا يسترهم من لهيبها وقد ذكر الله في سورة الواقعة الظل فقال فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( الواقعة 42 44 ) وهذا كأنه في جهنم إذا دخلوها ثم قال لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ فيحتمل أن يكون قوله لاَّ ظَلِيلٍ في معنى لاَّ بَارِدٍ وقوله وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ في معنى وَلاَ كَرِيمٍ أي لا روح له يلجأ إليه من لهب النار والثاني أن تكوُّنَ ذلك إنما يكون قبل أن يدخلوا جهنم بل عندما يحسبون للحساب والعرض فيقال لهم إن هذا الظل لا يظلكم من حر الشمس ولا يدفع لهب النار وفي الآية وجه ثان وهو الذي قاله قطرب وهو أن اللهب ههنا هو العطش يقال لهب لهباً ورجل لهبان وامرأة لهبى
الصفة الرابعة قوله تعالى إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ قال الواحدي يقال شررة وشرر وشرارة وشرار وهو ما تطاير من النار متبدداً في كل جهة وأصله من شررت الثوب إذا أظهرته وبسطته للشمس والشرار ينبسط متبدداً واعلم أن الله تعالى وصف النار التي كان ذلك الظل دخاناً لها بأنها ترمي بالشرارة العظيمة والمقصود منه بيان أن تلك النار عظيمة جداً ثم إنه تعالى شبه ذلك الشرر بشيئين الأول بالقصر وفي تفسيره قولان أحدهما أن المراد منه البناء المسمى بالقصر قال ابن عباس يريد القصور العظام الثاني أنه ليس المراد ذلك ثم على التقدير ففي التفسير وجوه أحدها أنها جمع قصرة ساكنة الصاد كتمرة وتمر وجمرة وجمر قال المبراد يقال للواحد من الحطب الجزل الغليظ قصرة والجمع قصر قال عبد الرحمن بن عابس سألت ابن عباس عن القصر فقال هو خشب كنا ندخره للشتاء نقطعه وكنا نسميه القصر وهذا قول سعيد بن جبير ومقاتل والضحاك إلا أنهم قالوا هي أصول النخل والشجر العظام قال صاحب ( الكشاف ) قرىء كالقصر بفتحتين وهي أعناق الإبل أو أعناق النخل نحو شجرة وشجر وقرأ ابن مسعود كالقصر بمعنى القصر كرهن ورهن وقرأ سعيد بن جبير كالقصر في جمع قصرة كحاجة وحوج
التشبيه الثاني قوله تعالى كَأَنَّهُ جِمَالَة ٌ صُفْرٌ وفيه مسألتان(30/242)
المسألة الأولى جمالات جمع جمال كقوهم رجالات ورجال وبيوتات وبيوت وقرأ ابن عباس حمالات بضم الجيم وهو قراءة يعقوب وذكروا وجوهاً أحدها قيل الجمالات بالضم الحبال الغلاظ وهي حبال السفن ويقال لها القلوس ومنهم من أنكر ذلك وقال المعروف في الحبال إنما هو الجمل بضم الجيم وتشديد الميم وقرىء حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ وثانيها قيل هي قطع النحاس وهو مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس ومعظم أهل اللغة لا يعرفونه وثالثها قال الفراء يجوز أن يكون الجمالات بالضم من الشيء المجمل يقال أجملت الحساب وجاء القوم جملة أي مجتمعين والمعنى أن هذه الشررة ترتفع كأنها شيء مجموع غليظ أصفر وهذا قول الفراء ورابعها قال الفراء يجوز أن يقال جمالات بضم الجيم جمع جمال بضم الجيم وجمال بضم الجيم يكون جمع جمل كما يقاله رخل ورخال ورخال
القراءة الثاني جملة بكسر الجيم هي جمع جمل مثل حجر وحجارة قال أبو علي والتاء إنما لحقت جمالاً لتأنيث الجمع كما لحقت في فحل وفحالة
القراءة الرابعة جملة بضم الجيم وهي القلس وقيل صفر لإرادة الجنس أما قوله صفر فالأكثرون على أن المراد منه سود تضرب إلى الصفرة قال الفراء لا ترى أسود من الإبل إلا وهو مشوب صفرة والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كان أشبه بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة وزعم بعض العلماء أن المراد هو الصفرة لا السواد لأن الشرر إنما يسمى شرراً ما دام يكون ناراً ومتى كان ناراً كان أصفر وإنما يصير أسود إذا انطفأ وهناك لا يسمى شرراً وهذا القول عندي هو الصواب
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى شبه الشرر في العظم بالقصر وفي اللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر وقيل أيضاً إن ابتداء الشرر يعظم فيكون كالقصر ثم يفترق فتكون تلك القطع المتفرقة المتتابعة كالجمالات الصفر واعلم أنه نقل عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ أن هذا التشبيه إنما ورد في بلاد العرب وقصورهم قصيرة السمك جارية مجرى الخيمة فبين تعالى أنها ترمى بشرر كالقصر فلما سمع أبو العلاء المعري بهذا تصرف فيه وشبهه بالخيمة من الأديم وهو قوله حمراء ساطعة الذوائب في الدجى
ترمى بكل شرارة كطراف
ثم زعم صاحب الكشاف أنه ذكر ذلك معارضة لهذه الآية وأقول كان الأولى لصاحب الكشاف أن لا يذكر ذلك وإذ قد ذكره فلا بد لنا من تحقيق الكلام فيه فنقول تشبيه الشرارة بالطراف يفيد التشبيه في الشكل والعظم أما الشكل فمن وجهين الأول أن الشرارة تكون قبل انشعابها كالنقطة من النار فإذا انشعبت اتسعت فهي كالنقطة التي تتسع فهي تشبه الخيمة فإن رأسها كالنقطة ثم إنها لا تزال تتسع شيئاً فشيئاً الثاني أن الشرارة كالكرة أو الأسطوانة فهي شديدة الشبه بالخيمة المستديرة وأما التشبيه بالخيمة في النظم فالأمر ظاهر هذا منتهى هذا التشبيه وأما وجه القدح فيه فمن وجوه الأول أن لون الشرارة أصفر يشوبها شيء من السواد وهذا المعنى حاصل في الجمالات(30/243)
الصفر وغير حاصل في الخيمة من الأديم الثاني أن الجمالات متحركة والخيمة لا تكون متحركة فتشبيه الشرار المتحرك بالجمالات المتحركة أولى والثالث أن الشرارات متتابعة يجيء بعضها خلف البعض وهذا المعنى حاصل في الجمالات الصفر وغير حاصل في الطراف الرابع أن القصر مأمن الرجل وموضع سلامته فتشبيه الشرر بالقصر تنبيه على أنه إنما تولدت آفته من الموضع الذي توقع منه الأمن والسلامة وحال الكافر كذلك فإنه كان يتوقع الخير والسلامة من دينه ثم إنه ما ظهرت له آفة ولا محنة إلا من ذلك الدين والخيمة ليست مما يتوقع منها الأمن الكلي الخامس أن العرب كانوا يعتقدون أن كل الجمال في ملك الجمال وتمام النعم إنما يحصل بملك النعم ولهذا قال تعالى وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ فتشبيه الشرر بالجمال السود كالتهكم بهم كأنه قيل لهم كنتم تتوقعون من دينكم كرامة ونعمة وجمالاً إلا أن ذلك الجمال هو هذه الشرارات التي هي كالجمال وهذا المعنى غير حاصل في الطراف السادس أن الجمال إذا انفردت واختلط بعضها بالبعض فكل من وقع فيما بين أيديها وأرجلها في ذلك الوقت نال بلاء شديداً وألماً عظيماً فتشبيه الشرارات بها حال تتابعها يفيد حصول كمال الضرر والطراف ليس كذلك السابع الظاهر أن القصر يكون في المقدار أعظم من الطراف والجمالات الصفر تكون أكثر في العدد من الطراف فتشبيه هذه الشرارات بالقصر وبالجمالات يقتضي الزيادة في المقدار وفي العدد وتشبهها بالطراف لا يفيد شيئاً من ذلك ولما كان المقصود هو التهويل والتخويف كان التشبيه الأول أولى الثامن أن التشبيه بالشيئين في إثبات وصفين أقوى في ثبوت ذينك الصفين من التشبيه بالشيء الواحد في إثبات ذينك الوصفين وبيانه أن من سمع قوله إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ تسارع ذهنه إلى أن المراد إثبات عظم تلك الشرارات ثم إذا سمع بعد ذلك قوله كَأَنَّهُ جِمَالَة ٌ صُفْرٌ تسارع ذهنه إلى أن المراد كثرة تلك الشرارات وتتابعها ولونها أما من سمع أن الشرار كالطراف يبقى ذهنه متوقفاً في أن المقصود بالتشبيه إثبات العظم أو إثبات اللون فالتشبيه بالطراف كالمجمل والتشبيه بالقصر وبالجمالات الصفر كالبيان المفصل المكرر المؤكد ولما كان المقصود من هذا البيان هو التهويل والتخويف فكلما كان بيان وجوه العذاب أتم وأبين كان الخوف أشد فثبت أن هذا التشبيه أتم التاسع أنه قال في أول الآية انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ والإنسان إنما يكون طيب العيش وقت الانطلاق والذهاب إذا كان راكباً وإنما يجد الظل الطيب إذا كان في قصره فوقع تشبيه الشرارة بالقصر والجمالات كأنه قيل له مركوبك هذه الجمالات وظلك في مثل هذا القصر وهذا يجري مجرى التهكم بهم وهذا المعنى غير حاصل في الطراف العاشر من المعلوم أن تطاير القصر إلى الهواء أدخل في التعجب من تطاير الخيمة لأن القصر يكون مركباً من اللبن والحجر والخشب وهذه الأجسام أدخل في الثقل والاكتناز من الخيمة المتخذة إما من الكرباس أو من الأديم والشيء كلما كان أثقل وأشد اكتنازاً كان تطايره في الهواء أبعد فكانت النار التي تطير القصر إلى الهواء أقوى من النار التي تطير الطراف في الهواء ومعلوم أن المقصود تعظيم أمر النار في الشدة والقوة فكان التشبيه بالقصر أولى الحادي عشر وهو أن سقوط القصر على الإنسان أدخل في الإيلام والإيجاع من سقوط الطراف عليه فتشبيه تلك الشرارات بالقصر يفيد أن تلك الشرارات إذا ارتفعت في الهواء ثم سقطت على الكافر فإنها تؤلمه إيلاماً شديداً فصار ذلك تنبيهاً على أنه لا يزال يسقط عليه من الهواء شرارات كالقصور بخلاف وقوع الطراف على الإنسان فإنه لا يؤلم في الغاية الثاني عشر أن الجمال في أكثر الأمور تكون موقرة فتشبيه الشرارات بالجمال تنبيه على أن مع كل واحد من تلك الشرارات أنواعاً من البلاء والمحنة لا يحصي عددهاإلا الله فكأنه قيل تلك الشرارات كالجمالات الموقرة بأنواع المحنة والبلاء وهذا المعنى غير حاصل في الطراف فكان التشبيه(30/244)
بالجمالات أتم
واعلم أن هذه الوجوه توالت على الخاطر في اللحظة الواحدة ولو تضرعنا إلى الله تعالى في طلب الأزيد لأعطانا أي قدر شئناً بفضله ورحمته ولكن هذه الوجوه كافية في بيان الترجيح والزيادة عليها تعد من الأطناب والله أعلم
هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
نصب الأعمش يوم أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ اعلم أن هذا هو النوع السادس من أنواع تخويف الكفار وتشديد الأمر عليهم وذلك لأنه تعالى بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح ولا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم فيجتمع في حقه في هذا المقام أنواع من العذاب أحدها عذاب الخجالة فإنه يفتضح على رءوس الأشهاد ويظهر لكل قصوره وتقصيره وكل من له عقل سليم علم أن عذاب الخجالة أشد من القتل بالسيف والاحتراق بالنار وثانيها وقوف العبد الآبق على باب المولى ووقوعه في يده مع علمه بأنه الصادق الذي يستحيل الكذب عليه على ما قال مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وثالثها أنه يرى في ذلك الموقف خصماءه الذين كان يستخف بهم ويستحقرهم فائزين بالثواب والتعظيم ويرى نفسه فائزاً بالخزي والنكال وهذه ثلاثة أنواع من العذاب الروحاني ورابعها العذاب الجسماني وهو مشاهدة النار وأهوالها نعوذ بالله منها فلما اجتمعت في حقه هذه الوجوه من العذاب بل ما هو مما لا يصف كنهه إلا الله لا جرم قال تعالى في حقهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ وفي الآية سؤالان
الأول كيف يمكن الجمع بين قوله هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وقوله ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ وقوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وقوله وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ويروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن هذا السؤال والجواب عنه من وجوه أحدها قال الحسن فيه إضمار والتقدير هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة ولا يؤذن لهم فيعتذرون لأنه ليس لهم فيما عملوه عذر صحيح وجواب مستقيم فإذا لم ينطقوا بحجة سليمة وكلام مستقيم فكأنهم لم ينطقوا لأن من نطق بما لا يفيد فكأنه لم ينطق ونظيره ما يقال لمن ذكر كلاماً غير مفيد ما قلت شيئاً وثانيها قال الفراء أراد بقوله يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ تلك الساعة وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه كما يقول آتيك يوم يقدم فلان والمعنى ساعة يقدم وليس المراد باليوم كله لأن القدوم إنما يكون في ساعة يسيرة ولا يمتد في كل اليوم وثالثها أن قوله لاَ يَنطِقُونَ لفظ مطلق والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع ولا في الأوقات بدليل أنك تقول فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير وتارة تقول فلان لا ينطق بشيء ألبتة وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق قدر مشترك بين أن لا ينطق ببعض الأشياء وبين أن لا ينطق بكل الأشياء وكذلك تقول فلان لا ينطق في هذه الساعة وتقول فلان لا ينطق ألبتة وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق مشترك بين الدائم والموقت وإذا كان كذلك فمفهوم لا ينطق يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء وفي بعض الأوقات وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر فيكفي في صدق قوله لاَ يَنطِقُونَ(30/245)
أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت السؤال وهذا الذي ذكرناه إشارة إلى صحة الجوابين الأولين بحسب النظر العقلي فإن قيل لو حلف لا ينطق في هذا اليوم فنطق في جزء من أجزاء اليوم يحنث قلنا مبني الإيمان على العرف والذي ذكرناه بحث عن مفهوم اللفظ من حيث إنه هو ورابعها أن هذه الآية وردت عقيب قول خزنة جهنم لهم انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ فينقادون ويذهبون فكأنه قيل إنهم كانوا يؤمرون في الدنيا بالطاعات فما كانوا يلتفتون أما في هذه الساعة ( فقد ) صاروا منقادين مطيعين في مثل هذا الكليف الذي هو أشق من كل شيء تنبيهاً على أنهم لو تركوا الخصومة في الدنيا لما احتاجوا في هذا الوقت إلى هذا الانقياد الشاق والحاصل أن قوله هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ متقيد بهذا الوقت في هذا العمل وتقييد المطلق بسبب مقدمة الكلام مشهور في العرف بدليل أن المرأة إذا قالت أخرج هذه الساعة من الدار فقال الزوج لو خرجت فأنت طالق فإنه يتقيد هذا المطلق بتلك الخرجة فكذا ههنا
السؤال الثاني قوله وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ يوهم أن لهم عذراً وقد منعوا من ذكره وهذا لا يليق بالحكيم والجواب أنه ليس لهم في الحقيقة عذر ولكن ربما تخيلوا خيالاً فاسداً أن لهم فيه عذراً فهم لا يؤذن لهم في ذلك ذكر العذر الفاسد ولعل ذلك العذر الفاسد هو أن يقول لما كان الكل بقضائك وعلمك ومشيئتك وخلقك فلم تعذبني عليه فإن هذا عذر فاسد إذ ليس لأحد أن يمنع المالك عن التصرف في ملكه كيف شاء وأراد فإن قيل أليس أنه قال رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وقال وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً والمقصود من كل ذلك أن لا يبقى في قلبه أن له عذراً فهب أن عذره في موقف القيامة فاسد فلم لا يؤذن له في ذكره حتى يذكره ثم بيبن له فساده قلنا لما تقدم الأعذار والإنذار في الدنيا بدليل قوله فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً كان إعادتها غير مفيدة
السؤال الثالث لم لم يقل ولا يؤذن لهم فيعتذرون كما قال لا يَقْضِى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ الجواب الفاء ههنا للنسق فقط ولا يفيد كونه جزاء ألبتة ومثله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ بالرفع والنصب وإنما رفع يعتذرون بالعطف لأنه لو نصب لكان ذلك يوهم أنهم ما يعتذرون لأنهم لم يؤذنوا في الاعتذار وذلك يوهم أن لهم فيه عذراً منعوا عن ذكره وهو غير جائز أما لما رفع كان المعنى أنهم لم يؤذنوا في العذر وهم أيضاً لم يعتذروا لا لأجل عدم الإذن بل لأجل عدم العذر في نفسه ثم إن فيه فائدة أخرى وهي حصول الموافقة في رءوس الآيات لأن الآيات بالواو والنون ولو قيل فيعتذروا لم تتوافق الآيات ألا ترى أنه قال في سورة اقتربت الساعة إِلَى شَى ْء نُّكُرٍ فثقل لأن آياتها مثقلة وقال في موضع آخر وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً وأجمع القراء على تثقيل الأول وتخفيف الثاني ليوافق كل منهما ما قبله(30/246)
هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالاٌّ وَّلِينَ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع السابع من أنواع تهديد الكفار وهذا القسم من باب التعذيب بالتقريع والتخجيل فأما قوله هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ فاعلم أن ذلك اليوم يقع فيه نوعان من الحكومة أحدهما ما بين العبد والرب وفي هذا القسم كل ما يتعلق بالرب فلا حاجة فيه إلى الفصل وهو ما يتعلق بالثواب الذي يستحقه المرء على عمله وكذا في العقاب إنما يحتاج إلى الفصل فيما يتعلق بجانب العبد وهو أن تقرر عليهم أعمالهم التي عملوها حتى يعترفوا
والقسم الثاني ما يكون بين العباد بعضهم مع بعض فإن هذا يدعى على ذاك أنه ظلمني وذاك يدعى على هذا أنه قتلني فههنا لا بد فيه من الفصل وقوله جَمَعْنَاكُمْ وَالاْوَّلِينَ كلام موضح لقوله هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ لأنه لما كان هذا اليوم يوم فصل حكومات جميع المكلفين فلا بد من إحضار جميع المكلفين لا سيما عند من لا يجوز القضاء على الغائب ثم قال فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ يشير به إلى أنهم كانوا يدفعون الحقوق عن أنفسهم بضروب الحيل والكيد فكأنه قال فههنا إن أمكنكم أن تفعلوا مثل تلك الأفعال المنكرة من الكيد والمكر والخداع والتلبيس فافعلوا وهذا كقوله تعالى فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ثم إنهم يعلمون أن الحيل منقطعة والتلبيسات غير ممكنة فخطاب الله تعالى لهم في هذه الحالة بقوله فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ نهاية في التخجيل والتقريع وهذا من جنس العذاب الروحاني فلهذا قال عقيبة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِي ئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع الثامن من أنواع تهديد الكفار وتعذيبهم وذلك لأن الخصومة الشديدة والنفرة العظيمة كانت في الدنيا قائمة بين الكفار والمؤمنين فصارت تلك النفرة بحيث أن الموت كان أسهل على الكافر من أن يرى للمؤمن دولة وقوة فلما بين الله تعالى في هذه السورة اجتماع أنواع العذاب والخزي والنكال على الكفار بين في هذه الآية اجتماع أنواع السعادة والكرامة في حق المؤمن حتى أن الكافر حال ما يرى نفسه في غاية الذل والهوان والخزي والخسران ويرى خصمه في نهاية العز والكرامة والرفعة والمنقبة تتضاعف حسرته وتتزايد غمومه وهمومه وهذا أيضاً من جنس العذاب الروحاني فلهذا قال في هذه الآية وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال مقاتل والكلبي المراد من قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين يتقون الشرك بالله وأقول هذا القول عندي هو الصحيح الذي لا معدل عنه ويدل عليه وجوه أحدها أن المتقي عن الشرك يصدق عليه أنه متق لأن المتقي عن الشرك ماهية مركبة من قيدين أحدهما أنه متق والثاني خصوص كونه عن الشرك ومتى وجد المركب فقد وجد كل واحد من مفرداته لا محالة فثبت أن كل من صدق عليه أنه متق عن الشرك فقد صدق عليه أنه متق أقصى ما في الباب أن يقال هذه الآية على هذا التقدير تتناول كل من كان متقياً لأي شيء كان إلا أنا نقول كونه كذلك لا يقدح فيما قلناه لأنه خص كل من لم يكن متقياً عن جميع أنواع الكفر فيبقى فيما عداه حجة لأن العالم الذي دخل التخصيص يبقى حجة فيما عداه وثانيها أن(30/247)
هذه السورة من أولها إلى آخرها مرتبة في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم عليه فهذه الآية يجب أن تكون مذكورة لهذا الغرض وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها والنظم إنما يبقى لو كان هذا الوعد حاصلاً للمؤمنين بسبب إيمانهم لأنه لما تقدم وعيد الكافر بسبب كفره وجب أن يقرن ذلك بوعد المؤمن بسبب إيمانه حتى يصير ذلك سبباً في الزجر عن الكفر فأما أن يقرن به وعد المؤمن بسبب طاعته فذلك غير لائق بهذا النظم والترتيب فثبت بما ذكرنا أن المراد من قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ كل من كان متقياً عن الشرك والكفر وثالثها أن حمل اللفظ على المسمى الكامل أولى وأكمل أنواع التقوى هو التقوى عن الكفر والشرك فكان حمل اللفظ عليه أولى
المسألة الثانية أنه تعالى لما بعث الكفار إلى ظل ذي ثلاث شعب أعد في مقابلته للمؤمنين ثلاثة أنواع من النعمة أولها قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ كأنه قيل ظلالهم ما كانت ظليلة وما كانت مغنية عن اللهب والعطش أما المتقون فظلالهم ظليلة وفيها عيون عذبة مغنية لهم عن العطش وحاجزة بينهم وبين اللهب ومعهم الفواكه التي يشتهونها ويتمنونها ولما قال للكفار انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ قال للمتقين كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً فإما أن يكون ذلك الإذن من جهة الله تعالى لا بواسطة وما أعظمها أو من جهة الملائكة على وجه الإكرام ومعنى هَنِيئَاً أي خالص اللذة لا يشوبه سقم ولا تنغيص
المسألة الثالثة اختلف العلماء في أن قوله كُلُواْ وَاشْرَبُواْ أمر أو إذن قال أبو هاشم هو أمر وأراد الله منهم الأكل والشرب لأن سرورهم يعظم بذلك وإذا علموا أن الله أراده منهم جزاء على عملهم فكما يزيد إجلالهم وإعظامهم بذلك فكذلك يريد نفس الأكل والشرب معهم وقال أبو علي ذلك ليس بأمر وإنما يريد بقوله على وجه الإكرام لأن الأمر والنهي إنما يحصلان في زمان التكليف وليس هذا صفة الآخرة
المسألة الرابعة تمسك من قال العمل يوجب الثواب بالباء في قوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهذا ضعيف لأن الباء للإضافة ولما جعل الله تعالى ذلك العمل علامة لهذا الثواب كان الإتيان بذلك العمل كالآلة الموصلة إلى تحصيل ذلك الثواب وقوله إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ المقصود منه أن يذكر الكفار ما فاتهم من النعم العظيمة ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل تلك الخيرات وإذا لم يفعلوا ذلك لا جرم وقعوا فيما وقعوا فيه
كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار كأنه تعالى يقول للكافر حال كونه في الدنيا إنك إنما عرضت نفسك لهذه الآفات التي وصفناها ولهذه المحن التي شرحناها لأجل حبك للدنيا ورغبتك في طيباتها وشهواتها إلا أن هذه الطيبات قليلة بالنسبة إلى تلك الآفات العظيمة والمشتغل بتحصيلها يجري مجرى لقمة واحدة من الحلواء وفيها السم المهلك فإنه يقال لمن يريد أكلها ولا يتركها بسبب نصيحة(30/248)
الناصحين وتذكير المذكرين كل هذا وويل لك منه بعد هذا فإنك من الهالكين بسببه وهذا وإن كان في اللفظ أمراً إلا أنه في المعنى نهي بليغ وزجر عظيم ومنع في غاية المبالغة
ثم قال تعالى
وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع العاشر من أنواع تخويف الكفار كأنه قيل لهم هب أنكم تحبون الدنيا ولذاتها ولكن لا تعرضوا بالكلية عن خدمة خالقكم بل تواضعوا له فإنكم إن آمنتم ثم ضممتم إليه طلب اللذات وأنواع المعاصي حصل لكم رجاء الخلاص عن عذاب جهنم والفوز بالثواب كما قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ثم إن هؤلاء الكفار لا يفعلوا ذلك ولا ينقادون لطاعته ويبقون مصرين على جهلهم وكفرهم وتعريضهم أنفسهم للعقاب العظيم فلهذا قال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ أي الويل لمن يكذب هؤلاء الأنبياء الذين يرشدونهم إلى هذه المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة وههنا مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ المراد به الصلاة وهذا ظاهر لأن الركوع من أركانها فبين تعالى أن هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع وأنهم حال كفرهم كما يستحقون الذم والعقاب بترك الإيمان فكذلك يستحقون الذم والعقاب بترك الصلاة لأن الله تعالى ذمهم حال كفرهم على ترك الصلاة وقال قوم آخرون المراد بالركوع الخضوع والخشوع لله تعالى وأن لا يعبد سواه
المسألة الثانية القائلون بأن الأمر للوجوب استدلوا بهذه الآية لأنه تعالى ذمهم بمجرد ترك المأمور به وهذا يدل على أن مجرد الأمر للوجوب فإن قيل إنهم كفار فلكفرهم ذمهم قلنا إنه تعالى ذمهم على كفرهم من وجوه كثيرة إلا أنه تعالى إنما ذمهم في هذه الآية لأنهم تركوا المأمور به فعلمنا أن ترك المأمور به غير جائز
فَبِأَى ِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها بالوجوه العشرة التي شرحناها وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجب من الكفار وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع تجليها ووضوحها فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ قال القاضي هذه الآية تدل على أن القرآن محدث لأنه تعالى وصفه بأنه حديث والحديث ضد القديم والضدان لا يجتمعان فإذا كان حديثاً وجب أن لا يكون قديماً وأجاب الأصحاب أن المراد منه هذه الألفاظ ولا نزاغ في أنها محدثة والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين(30/249)
بداية الجزء الحادى والثلاثين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(31/2)
سورة النبأ
أربعون آية مكية
عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى عَمَّ أصله حرف جر دخل ما الاستفهامية قال حسان رحمه الله تعالى على ما قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد
والاستعمال الكثير على الحذف والأصل قليل ذكروا في سبب الحذف وجوهاً أحدها قال الزجاج لأن الميم تشرك الغنة في الألف فصارا كالحرفين المتماثلين وثانيها قال الجرجاني إنهم إذا وصفوا ما في استفهام حذفوا ألفها تفرقة بينها وبين أن تكون اسماً كقولهم فيم وبم ولم وعلام وحتام وثالثها قالوا حذفت الألف لاتصال ما بحرف الجر حتى صارت كجزء منه لتنبىء عن شدة الاتصال ورابعها السبب في هذا الحذف التخفيف في الكلام فإنه لفظ كثير التداول على اللسان
المسألة الثانية قوله عَمَّ يَتَسَاءلُونَ أنه سؤال وقوله عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ جواب السائل والمجيب هو الله تعالى وذلك يدل على علمه بالغيب بل بجميع المعلومات فإن قيل ما الفائدة في أن يذكر الجواب معه قلنا لأن إيراد الكلام في معرض السؤال والجواب أقرب إلى التفهيم والإيضاح ونظيره لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ( غافر 16 )
المسألة الثالثة قرأ عكرمة وعيسى بن عمر ( عما ) وهو الأصل وعن ابن كثير أنه قرأ عمه بهاء السكت ولا يخلو إما أن يجري الوصل مجرى الوقف وإما أن يقف ويبتدىء ب يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ على أن يضمر يتساءلون لأن ما بعده يفسره كشيء مبهم ثم يفسره(31/3)
المسألة الرابعة ( ما ) لفظة وضعت لطلب ماهيات الأشياء وحقائقها تقول ما الملك وما الروح وما الجن والمراد طلب ماهياتها وشرح حقائقها وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً ثم إن الشيء العظيم الذي يكون لعظمه وتفاقم مرتبته ويعجز العقل عن أن يحيط بكنهه يبقى مجهولاً فحصل بين الشيء المطلوب بلفظ ما وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه والمشابهة إحدى أسباب المجاز فبهذا الطريق جعل مَا دليلاً على عظمة حال ذلك المطلوب وعلو رتبته ومنه قوله تعالى وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ ( المطففين 8 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ ( البلد 12 ) وتقوو زيد وما زيد
المسألة الخامسة التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضاً كالتقابل وقد يستعمل أيضاً في أن يتحدثوا به وإن لم يكن من بعضهم لبعض سؤال قال تعالى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ( الطور 25 ) قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ يِقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ ( الصافات 52 51 ) فهذا يدل على معنى التحدث فيكون معنى الكلام عم يتحدثون وهذا قول الفراء
المسألة السادسة أولئك الذين كانوا يتساءلون من هم فيه احتمالات الاحتمال الأول أنهم هم الكفار والدليل عليه قوله تعالى كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ( النبأ 5 4 ) الضمير في يتساءلون وهم فيه مختلفون وسيعلمون راجع إلى شيء واحد وقوله كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ تهديد والتهديد لا يليق إلا بالكفار فثبت أن الضمير في قوله يَتَسَاءلُونَ عائد إلى الكفار فإن قيل فما تصنع بقوله هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ مع أن الكفار كانوا متفقين في إنكار الحشر قلنا لا نسلم أنهم كانوا متفقين في إنكار الحشر وذلك لأن منهم من كان يثبت المعاد الروحاني وهم جمهور النصارى وأما المعاد الجسماني فمنهم من كان شاكاً فيه كقوله وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت 50 ) ومنهم من أصر على الإنكار ويقول إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( المؤمنون 37 ) ومنهم من كان مقرّاً به لكنه كان منكراً لنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد حصل اختلافهم فيه وأيضاً هب أنهم كانوا منكرين له لكن لعلهم اختلفوا في كيفية إنكاره فمنهم من كان ينكره لأنه كان ينكر الصانع المختار ومنهم من كان ينكره لاعتقاده أن إعادة المعدوم ممتنعة لذاتها والقادر المختار إنما يكون قادراً على ما يكون ممكناً في نفسه وهذا هو المراد بقوله هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
والاحتمال الثاني أن الذين كانوا يتساءلون هم الكفار والمؤمنون وكانوا جميعاً يتساءلون عنه أما المسلم فليزداد بصيرة ويقيناً في دينه وأما الكافر فعلى سبيل السخرية أو على سبيل إيراد الشكوك والشبهات
والاحتمال الثالث أنهم كانوا يسألون الرسول ويقولون ما هذا الذي تعدنا به من أمر الآخرة
أما قوله تعالى عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكر المفسرون في تفسير النبأ العظيم ثلاثة أوجه أحدها أنه هو القيامة وهذا هو الأقرب ويدل عليه وجوه أحدها قوله سَيَعْلَمُونَ والظاهر أن المراد منه أنهم سيعلمون هذا الذي يتساءلون عنه حين لا تنفعهم تلك المعرفة ومعلوم أن ذلك هو القيامة وثانيها أنه تعالى بين كونه قادراً على جميع الممكنات بقوله أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً إلى قوله يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ ( طه 102 )(31/4)
وذلك يقتضي أنه تعالى إنما قدم هذه المقدمة لبيان كونه تعالى قادراً على إقامة القيامة ولما كان الذي أثبته الله تعالى بالدليل العقلي في هذه السورة هو هذه المسألة ثبت أن النبأ العظيم الذي كانوا يتساءلون عنه هو يوم القيامة وثالثها أن العظيم اسم لهذا اليوم بدليل قوله أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( المطففين 6 4 ) وقوله قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ( ص 68 67 ) ولأن هذا اليوم أعظم الأشياء لأن ذلك منتهى فزع الخلق وخوفهم منه فكان تخصيص اسم العظيم به لائقاً والقول الثاني إِنَّهُ لَقُرْءانٌ ( الواقعة 77 ) واحتج القائلون بهذا الوجه بأمرين الأول أن النبأ العظيم هو الذي كانوا يختلفون فيه وذلك هو القرآن لأن بعضهم جعله سحراً وبعضهم شعراً وبعضهم قال إنه أساطير الأولين فأما البعث ونبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد كانوا متفقين على إنكارهما وهذا ضعيف لأنا بينا أن الاختلاف كان حاصلاً في البعث الثاني أن النبأ اسم الخبر لا اسم المخبر عنه فتفسير النبأ بالقرآن أولى من تفسيره بالبعث أو النبوة لأن ذلك في نفسه ليس بنبأ بل منبأ عنه ويقوى ذلك أن القرآن سمي ذكراً وتذكرة وذكرى وهداية وحديثاً فكان اسم النبأ به أليق منه بالبعث والنبوة والجواب عنه أنه إذا كان اسم النبأ أليق بهذه الألفاظ فاسم العظيم أليق بالقيامة وبالنبوة لأنه لا عظمة في الألفاظ إنما العظمة في المعاني وللأولين أن يقولوا إنها عظيمة أيضاً في الفصاحة والاحتواء على العلوم الكثيرة ويمكن أن يجاب أن العظيم حقيقة في الأجسام مجاز في غيرها وإذا ثبت التعارض بقي ما ذكرنا من الدلائل سليماً القول الثالث أن النبأ العظيم هو نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا وذلك لأنه لما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام جعلوا يتساءلون بينهم ماذا الذي حدث فأنزل الله تعالى عَمَّا يَتَسَاءلُونَ وذلك لأنهم عجبوا من إرسال الله محمداً عليه الصلاة والسلام إليهم كما قال تعالى بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ ( ق 2 ) وعجبوا أيضاً أن جاءهم بالتوحيد كما قال أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) فحكى الله تعالى عنهم مساءلة بعضهم بعضاً على سبيل التعجب بقوله عَمَّ يَتَسَاءلُونَ
المسألة الثانية في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه أحدها وهو قول البصريين أن قوله عَمَّ يَتَسَاءلُونَ كلام تام ثم قال عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ والتقدير يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ إلا أنه حذف يتساءلون في الآية الثانية لأن حصوله في الآية الأولى يدل عليه وثانيها أن يكون قوله عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ استفهاماً متصلاً بما قبله والتقدير عم يتساءلون أعن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون إلا أنه اقتصر على ما قبله من الاستفهام إذ هو متصل به وكالترجمة والبيان له كما قرىء في قوله أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( الصافات 16 ) بكسر الألف من غير استفهام لأن إنكارهم إنما كان للبعث ولكنه لما ظهر الاستفهام في أول الكلام اقتصر عليه فكذا ههنا وثالثها وهو اختيار الكوفيين أن الآية الثانية متصلة بالأولى على تقدير لأي شيء يتساءلون عن النبأ العظيم وعم كأنها في المعنى لأي شيء وهذا قول الفراء
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
قال القفال كلا لفظة وضعت لرد شيء قد تقدم هذا هو الأظهر منها في الكلام والمعنى ليس الأمر كما يقوله هؤلاء في النبأ العظيم إنه باطل أو إنه لا يكون(31/5)
وقال قائلون كلا معناه حقاً ثم إنه تعالى قرر ذلك الردع والتهديد فقال كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ وهو وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون أن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له واقع لا ريب فيه وأما تكرير الردع ففيه وجهان الأول أن الغرض من التكرير التأكيد والتشديد ومعنى ثم الإشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول وأشد والثاني أن ذلك ليس بتكرير ثم ذكروا وجوهاً أحدها قال الضحاك الآية الأولى للكفار والثانية للمؤمنين أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم وثانيها قال القاضي ويحتمل أن يريد بالأول سيعلمون نفس الحشر والمحاسبة ويريد بالثاني سيعلمون نفس العذاب إذا شاهدوه وثالثها كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ما الله فاعل بهم يوم القيامة ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ أن الأمر ليس كما كانوا يتوهمون من أن الله غير باعث لهم ورابعها كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ما يصل إليهم من العذاب في الدنيا وكما جرى على كفار قريش يوم بدر ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ بما ينالهم في الآخرة
المسألة الثالثة جمهور القراء قرأوا بالياء المنقطة من تحت في ( سيعلمن ) وروي بالتاء المنقطة من فوق عن ابن عامر قال الواحدي والأول أولى لأن ما تقدم من قوله هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( النبأ 3 ) على لفظ الغيبة والتاء على قل لهم ستعلمون وأقول يمكن أن يكون ذلك على سبيل الالتفات وهو ههنا متمكن حسن كمن يقول إن عبدي يقول كذا وكذا ثم يقول لعبده إنك ستعرف وبال هذا الكلام
أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم إنكار البعث والحشر وأراد إقامة الدلالة على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات وذلك لأنه مهما ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث وإنما أثبت هذين الأصلين بأن عدد أنواعاً من مخلوقاته الواقعة على وجه الإحكام والإتقان فإن تلك الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم ومتى ثبت هذان الأصلان وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض ثبت لا محالة كونه تعالى قادراً على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها وعلى إيجاد عالم الآخرة فهذا هو الإشارة إلى كيفية النظم
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا من عجائب مخلوقاته أموراً فأولها قوله أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً والمهاد مصدر ثم ههنا احتمالات أحدها المراد منه ههنا الممهود أي ألم نجعل الأرض ممهودة وهذا من باب تسمية المفعول بالمصدر كقولك هذا ضرب الأمير وثانيها أن تكون الأرض وصفت بهذا المصدر كما تقول زيد جود وكرم وفضل كأنه لكماله في تلك الصفة صارعين تلك الصفة وثالثها أن تكون بمعنى ذات مهاد وقرىء مهداً ومعناه أن الأرض للخلق كالمهد للصبي وهو الذي مهد له فينوم عليه
واعلم أنا ذكرنا في تفسير سورة البقرة عند قوله جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً ( البقرة 22 ) كل ما يتعلق من الحقائق بهذه الآية
وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً
وثانيها قوله تعالى وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً أي للأرض ( كي ) لا تميد بأهلها فيكمل كون الأرض مهاداً(31/6)
بسبب ذلك قد تقدم أيضاً
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً
وثالثها قوله تعالى وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْواجاً وفيه قولان الأول المراد الذكر والأنثى كما قال وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( النجم 45 ) والثاني أن المراد منه كل زوجين و ( كل ) متقابلين من القبيح والحسن والطويل والقصير وجميع المتقابلات والأضداد كما قال وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( الذاريات 49 ) وهذا دليل ظاهر على كمال القدرة ونهاية الحكمة حتى يصح الابتلاء والامتحان فيتعبد الفاضل بالشكر والمفضول بالصبر ويتعرف حقيقة كل شيء بضده فالإنسان إنما يعرف قدر الشباب عند الشيب وإنما يعرف قدر الأمن عند الخوف فيكون ذلك أبلغ في تعريف النعم
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
ورابعها قوله تعالى وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً طعن بعض الملاحدة في هذه الآية فقالوا السبات هو النوم والمعنى وجعلنا نومكم نوماً واعلم أن العلماء ذكروا في التأويل وجوهاً أولها قال الزجاج سُبَاتاً موتاً والمسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة ودليله أمران أحداهما قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ ( الأنعام 60 ) إلى قوله ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ ( الأنعام 60 ) والثاني أنه لما جعل النوم موتاً جعل اليقظة معاشاً أي حياة في قوله وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 11 ) وهذا القول عندي ضعيف لأن الأشياء المذكورة في هذه الآية جلائل النعم فلا يليق الموت بهذا المكان وأيضاً ليس المراد بكونه موتاً أن الروح انقطع عن البدن بل المراد منه انقطاع أثر الحواس الظاهرة وهذا هو النوم ويصير حاصل الكلام إلى إنا جعلنا نومكم نوماً وثانيها قال الليث السبات النوم شبه الغشي يقال سبت المريض فهو مسبوت وقال أبو عبيدة السبات الغشية التي تغشى الإنسان شبه الموت وهذا القول أيضاً ضعيف لأن الغشي ههنا إن كان النوم فيعود الإشكال وإن كان المراد بالسبات شدة ذلك الغشي فهو باطل لأنه ليس كل نوم كذلك ولأنه مرض فلا يمكن ذكره في أثناء تعديد النعم وثالثها أن السبت في أصل اللغة هو القطع يقال سبت الرجل رأسه يسبته سبتاً إذا حلق شعره وقال ابن الأعرابي في قوله سُبَاتاً أي قطعاً ثم عند هذا يحتمل وجوهاً الأول أن يكون المعنى وجعلنا نومكم نوماً متقطعاً لا دائماً فإن النوم بمقدار الحاجة من أنفع الأشياء أما دوامه فمن أضر الأشياء فلما كان انقطاعه نعمة عظيمة لا جرم ذكره الله تعالى في معرض الإنعام الثاني أن الإنسان إذا تعب ثم نام فذلك النوم يزيل عنه ذلك التعب فسميت تلك الإزالة سبتاً وقطعاً وهذا هو المراد من قول ابن قتيبة وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً أي راحة وليس غرضه منه أن السبات اسم للراحة بل المقصود أن النوم يقطع التعب ويزيله فحينئذ تحصل الراحة الثالث قال المبرد وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً أي جعلناه نوماً خفيفاً يمكنكم دفعه وقطعه تقول العرب رجل مسبوت إذا كان النوم يغالبه وهو يدافعه كأنه قيل وجعلنا نومكن نوماً لطيفاً يمكنكم دفعه وما جعلناه غشياً مستولياً عليكم فإن ذلك من الأمراض الشديدة وهذه الوجوه كلها صحيحة
وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً
وخامسها قوله تعالى وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً قال القفال أصل اللباس هو الشيء الذي يلبسه الإنسان ويتغطى به فيكون ذلك مغطياً له فلما كان الليل يغشى الناس بظلمته فيغطيهم جعل لباساً لهم(31/7)
وهذا السبت سمي الليل لباساً على وجه المجاز والمراد كون الليل ساتراً لهم وأما وجه النعمة في ذلك فهو أن ظلامة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عدو أو بياتاً له أو إخفاء مالا يحب الإنسان إطلاع غيره عليه قال المتنبي وكم لظلام الليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب
وأيضاً فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع عنه أذى الحر والبرد فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الإنسان وفي طراوة أعضائه وفي تكامل قواه الحسية والحركية ويندفع عنه أذى التعب الجسماني وأذى الأفكار الموحشة النفسانية فإن المريض إذا نام بالليل وجد الخفة العظيمة
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً
وسادسها قوله تعالى وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً في المعاش وجهان أحدهما أنه مصدر يقال عاش يعيش عيشاً ومعاشاً ومعيشة وعيشة وعلى هذا التقدير فلا بد فيه من إضمار والمعنى وجعلنا النهار وقت معاش والثاني أن يكون معاشاً مفعلاً وظرفاً للتعيش وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار ومعنى كون النهار معاشاً أن الخلق إنما يمكنهم التقلب في حوائجهم ومكاسبهم في النهار لا في الليل
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
وسابعها قوله تعالى وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً أي سبع سموات شداداً جمع شديدة يعني محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان لا فطور فيها ولا فروج ونظيره وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ( الأنبياء 32 ) فإن قيل لفظ البناء يستعمل في أسافل البيت والسقف في أعلاه فكيف قال وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً قلنا البناء يكون أبعد من الآفة والانحلال من السقف فذكر قوله وَبَنَيْنَا إشارة إلى أنه وإن كان سقفاً لكنه في البعد عن الانحلال كالبناء فالغرض من اختيار هذا اللفظ هذه الدقيقة
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَأاباً لَّابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَآءً وِفَاقاً
وثامنها قوله تعالى وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً كلام أهل اللغة مضطرب في تفسير الوهاج فمنهم من قال الوهج مجمع النور والحرارة فبين الله تعالى أن الشمس بالغة إلى أقصى الغايات في هذين الوصفين وهو المراد بكونها وهاجاً وروى الكلبي عن ابن عباس أن الوهاج مبالغة في النور فقط يقال للجوهر إذا تلألأ توهج وهذا يدل على أن الوهاج يفيد الكمال في النور ومنه قول الشاعر يصف النور
نوارها متباهج يتوهج وفي كتاب الخليل الوهج حر النار والشمس وهذا يقتضي أن الوهاج هو البالغ في الحر واعلم أن أي هذه الوجود إذا ثبت فالمقصود حاصل
وتاسعها قوله وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا أما المعصرات ففيها قولان الأول وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس وقول مجاهد ومقاتل والكلبي وقتادة إنها الرياح التي تثير السحاب ودليله قوله تعالى الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا الروم 48 فإن قيل على هذا التأويل كان ينبغي أن يقال وأنزلنا بالمعصرات قلنا الجواب من وجهين الأول أن المطر إنما ينزل من السحاب والسحاب إنما(31/8)
يثيره الرياح فصح أن يقال هذا المطر إنما حصل من تلك الرياح كما يقال هذا من فلان أي من جهته وبسببه والثاني أن من ههنا بمعنى الباء والتقدير وأنزلنا بالمعصرات أي بالرياح المثيرة للسحاب ويروى عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعكرمة أنهم قرأوا وأنزلنا بالمعصرات وطعن الأزهري في هذا القول وقال الأعاصير من الرياح ليست من رياح المطر وقد وصف الله تعالى المعصرات بالماء الثجاج وجوابه إن الإعصار ليست من رياح المطر فلم لا يجوز أن تكون المعصرات من رياح المطر القول الثاني وهو الرواية الثانية عن ابن عباس واختيار أبي العالية والربيع والضحاك أنها السحاب وذكروا في تسمية السحاب بالمعصرات وجوها أحدها قال المؤرج المعصرات السحائب بلغة قريش وثانيها قال المازني يجوز أن تكون المعصرات هي السحائب ذوات الأعاصير فغن السحائب إذا عصرتها الأعاصير لا بد وأن ينزل المطر منها وثالثها أن المعصرات هي السحائب التي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك أجز الزرع إذا حان له أن يجز ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض وأما الثجاج فاعلم أن الثج شدة الانصباب يقال مطر ثجاج ودم ثجاج أي شديد الانصباب
واعلم أن الثج قد يكون لازما وهو بمعنى الانصباب كما ذكرنا وقد يكون متعديا بمعنى الصب وفي الحديث { أفضل الحج العج والثج } أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي وكان ابن عباس مثجا أي يثج الكلام ثجا في خطبته وقد فسروا الثجاج في هذه الآية على الوجهين وقال الكلبي ومقاتل وقتادة الثجاج ههنا المتدفق المنصب وقال الزجاج معناه الصباب كأنه يثج نفسه أي يصب وبالجملة فالمراد تتابع القطر حتى يكثر الماء فيعظم النفع به
قوله تعالى لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا في الآية مسائل
المسألة الأولى كل شيء نبت من الأرض فإما أن لا يكون له ساق وإما أن يكون فإن لم يكن له ساق فإما أن يكون له أكمام وهو الحب وإما أن لا يكون له أكمام وهو الحشيش وهو المراد هنا بقوله نباتا وإلى هذين القسمين الإشارة بقوله تعالى كلوا وارعوا أنعامكم طه 54 وأما الذي له ساق فهو الشجر فإذا اجتمع منها شيء كثير سميت جنة فثبت بالدليل العقلي انحصار ما ينبت في الأرض في هذه الأقسام الثلاثة وإنما قدم الله تعالى الحب لأنه هو الأصل في الغذاء وإنما ثنى بالنبات لاحتياج سائر الحيوانات إليه وإنما أخر الجنات في الذكر لأن الحاجة إلى الفواكه ليست ضرورية
المسألة الثانية اختلفوا في ألفافا فذكر صاحب الكشاف أنه لا واحد له كالأوزاع والأخياف والأوزاع الجماعات المتفرقة والأخياف الجماعات المختلطة وكثير من اللغويين أثبتوا له واحدا ثم اختلفوا فيه فقال الأخفش والكسائي واحدها لف بالكسر وزاد الكسائي لف بالضم وأنكر المبرد الضم وقال بل واحدها لفاء وجمعها لف وجمع لف ألفاف وقيل يحتمل أن يكون جمع لفيف كشريف وأشرف نقله القفال رحمه الله إذا عرفت هذا فنقول قوله وجنات ألفافا أي ملتفة والمعنى أن كل جنة فإن ما فيها من الشجر تكون مجتمعة متقاربة ألا تراهم يقولون امرأة لفاء إذا كانت غليظة الساق مجتمعة اللحم يبلغ من(31/9)
تقاربه أن يتلاصق
المسألة الثالثة كان الكعبي من القائلين بالطبائع فاحتج بقوله تعالى لنخرج به حبا ونباتا وقال إنه يدل على بطلان قول من قال إن الله تعالى لا يفعل شيئا بواسطة شيء آخر
قوله تعالى إن يوم الفصل كان ميقاتا
اعلم أن التسعة التي عددها الله تعالى نظرا إلى حدوثها في ذواتها وصفاتها ونظرا إلى إمكانها في ذواتها وصفاتها تدل على القادر المختار ونظرا إلى ما فيها من الأحكام والإتقان تدل على أن فاعلها عالم ثم إن ذلك الفاعل القديم يجب أن يكون علمه وقدرته واجبين إذ لو كانا جائزين لافتقر إلى فاعل آخر ويلزم التسلسل وهو محال وإذا كان العلم والقدرة واجبين وجب أن يكون قادرا على جميع الممكنات عالما بجميع المعلومات وقد ثبت الإمكان وثبت عموم القدرة في الجسمية فكل ما صح على واحد منها صح على الآخر فكما يصح على الأجسام السلفية الانشقاق والانفطار والظلمة وجب أن يصح ذلك على الأجسام وإذا ثبت الإمكان وثبت عموم القدرة والعلم ثبت أنه تعالى قادر على تخريب الدنيا وقادر على إيجاد عالم آخر وعند ذلك ثبت أن القول بقيام القيامة ممكن عقلا وإلى ههنا يمكن إثباته بالعقل فأما ما وراء ذلك من وقت حدوثها وكيفية حدوثها فلا سبيل إليه إلا بالسمع ثم إنه تعالى تكلم في هذه الأشياء بقوله إن يوم الفصل كان ميقاتا ثم إنه تعالى ذكر بعض أحوال القيامة فأولها قوله إن يوم الفصل كان ميقاتا والمعنى أن هذا اليوم كان في تقدير الله وحكمه حدا تؤقت به الدنيا أو حدا للخلائق ينتهون إليه أو كان ميقاتا لما وعد الله من الثواب والعقاب أو كان ميقاتا لاجتماع كل الخلائق في فصل الحكومات وقطع الخصومات
وثانيهاك قوله تعالى يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا
اعلم أن يوم تنفخ بدل من يوم الفصل أو عطف بيان وهذا النفخ هو النفخة الأخيرة التي عندها يكون الحشر والنفخ في الصور فيه قولان أحدهما أن الصور جمع الصورة فالنفخ في الصورة عبارة عن نفخ الأرواح في الأجساد والثاني أن الصورة عبارة عن قرن ينفخ فيه وتمام الكلام في الصور وما قيل فيه قد تقدم في سورة الزمر وقوله فتأتون أفواجا معناه أنهم يأتون ذلك المقام فوجا فوجا حتى يتكامل اجتماعهم قال عطاء كل نبي يأتي مع أمته ونظيره قوله تعالى يوم ندعوا كل أناس بإمامهم الإسراء 71 وقيل جماعات مختلفة وروى صاحب الكشاف عن معاذ أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فقال عليه السلام { يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ، ثم أرسل عينيه وقال : يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي ، وبعضهم صم بكم ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على(31/10)
جذوع من نار وبعضهم أشد نتنا من الجيف وبعضهم ملبسون جبالا سابغة من قطران لازقة بجلودهم فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا وأما العمي فالذين يجورون في الحكم وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعمالهم وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم أعمالهم وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران وأما المصلبون على جذوع من النار فالسعاة بالناس إلى السلطان وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله تعالى من أموالهم وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء
وثالثها قوله تعالى وفتحت السماء فكانت أبوابا
قرأ عاصم وحمزة والكسائي فتحت خفيفة والباقون بالتثقيل والمعنى كثرت أبوابها المنفتحة لنزول الملائكة قال القاضي وهذا الفتح هو المعنى قوله إذا السماء انشقت الانشقاق 1 وإذا السماء انفطرت الأنفطار 1 إذ الفتح والتشقق والتفطر تتقارب وأقول هذا ليس بقوي لأن المفهوم من فتح الباب غير المفهوم من التشقق والتفطر فربما كانت السماء أبوابا ثم تفتح تلك الأبواب مع أنه لا يحصل في جرم السماء تشقق ولا تفطر بل الدلائل السمعية دلت على أن عند حصول فتح هذه الأبواب يحصل التشقق والتفطر والفناء بالكلية فإن قيل قوله وفتحت السماء فكانت أبوابا يفيد أن السماء بكليتها تصير ابوابا فكيف يعقلق ذلك قلنا فيه وجوه أحدها أن تلك الأبواب لما كثرت جدا صارت كأنها ليست إلا أبوابا منفتحة كقوله وفجرنا الأرض عيونا القمر 12 أي كأن كلها صارت عيونا تتفجر وثانيها قال الواحدي هذا من باب تقدير حذف المضاف والتقدير فكانت ذات أبواب وثالثها أن الضمير في قوله فكنت أبوابا عائد إلى مضمر والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبوابا لنزول الملائكة كما قال تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا الفجر 22
ورابعها قوله تعالى وسيرت الجبال فكانت سرابا
اعلم أن الله تعالى ذكر في مواضع من كتابه أحوال هذه الجبال على وجوه مختلفة ويمكن الجمع بينها على الوجه الذي نقوله وهو أن أول أحوالها الاندكاك وهو قوله وحملت الأرض والجبال فدكتاب دكة واحدة الحاقة 14
والحالة الثانية لها أن تصير كالعهن المنفوش القارعة 5 وذكر الله تعالى ذلك في قوله يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش القارعة 5 وقوله يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن المعارج 9
الحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع وتتبدد بعد أن كانت كالعهن وهو قوله إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء مبثا لاواقعة 4(31/11)
الحالة الرابعة أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها وهو المراد من قوله فقل ينسفها ربي نسفا طه 105
والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها شعاعا في الهواء كأنها غبار فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجساما جامدة وهي في الحقيقة مارة إلا أن مرورها بسبب مرور الرياح بها صيرها منكدة متفتتة وهي قوله تمر مر السحاب النمل 88 ثم بين أن تلك الحركة حصلت بقهره وتسخيره فقال ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة الكهف 47
الحالة السادسة أن تصير سرابا بمعنى لا شيء فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا كما أن من يرى السراب من بعد إذا جاء الموضع الذي كان يراه فيه لم يجده شيئا والله أعلم
واعلم أن الأحوال المذكورة إلى ههنا هي أحوال عامة ومن ههنا يصف أهوال جهنم وأحوالها
فأولها قوله تعالى إن جهنم كانت مرصادا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن يعمر أن جهنم بفتح الهمزة على تعليل قيام الساعة بأن جهنم كانت مرصادا للطاغين كأنه قيل كان كذلك لإقامة الجزاء
المسألة الثانية كانت مرصادا أي في علم الله تعالى وقيل صارت وهذان القولان نقلهما القفال رحمه الله تعالى وفيه وجه ثالث ذكره القاضي فإنا إذا فسرنا المرصاد بالمرتقب أفاد ذلك أن جهنم كانت كالمنتظرة لقدومهم من قديم الزمان وكالمستدعية والطالبة لهم
المسألة الثالثة في المرصاد قولان أحدهما أن المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه كالمضمار اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل والمنهاج اسم للمكان الذي ينهج فيه وعلى هذا الوجه فيه احتمالان أحدهما أن خزنة جهنم يرصدون الكفار والثاني أن مجاز المؤمنين وممرهم كان على جهنم لقوله وإن منكم إلا واردها مريم 71 فخزنة الجنة يستقبلون المؤمنين عند جهنم ويرصدونهم عندها
القول الثاني أن المرصاد مفعال من الرصد وهو الترقب بمعنى أن ذلك يكثر منه والمفعال من أبنية المبالغة كالمنظار والمعمار والمطعان قيل إنها ترصد أعداء الله وتشق عليهم كما قال تعالى تكاد تميز من الغيظ الملك 8 قيل ترصد كل كافر ومنافق والقائلون بالقول الأول استدلوا على صحة قولهم بقوله تعالى إن ربك لبالمرصاد الفجر 14 ولو كان المرصاد نعتا لوجب أن يقال إن ربك لمرصاد
المسالة الرابعة دلت الاية على أن جهنم كانت مخلوقة لقوله تعالى إن جهنم كانت مرصادا أي معدة وإذا كان كذلك كانت الجنة أيضا كذلك لأنه لا قائل بالفرق(31/12)
وثانيها قوله للطاغين مآبا وفيه وجهان إن قلنا إنه مرصاد فقط كان قوله للطاغين من تمام ما قبله والتقدير إن جهنم كانت مرصادا للطاغين ثم قوله مآبا بدل من قوله مرصادا وإن قلنا بأنها كانت مرصادا مطلقا للكفار وللمؤمنين كان قوله إن جهنم كانت مرصادا كلاما تاما وقوله للطاغين مآبا كلام مبتدأ كأنه قيل إن جهنم مرصاد للكل ومآب للطاغين خاصة ومن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله مرصادا أما من ذهب إلى القول الثاني وقف عليه ثم يقول المراد بالطاغين من تكبر على ربه وطغى في مخالفته ومعارضته وقوله مآبا أي مصيرا ومقرا
وثالثها قوله لابثين فيها أحقابا اعلم أنه تعالى لما بين أن جهنم مآب للطاغين وبين كمية استقرارهم هناك فقال لابثين فيها أحقابا وههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ الجمهور لابثين وقرأ حمزة لبثين وفيه وجهان قال الفراء هما بمعنى واحد يقال لابث ولبث مثل طامع وطمع وفاره وفره وهو كثير وقال صاحب الكشاف واللبث أقوى لأن اللابث من وجد منه اللبث ولا يقال لبث إلا لمن شأنه اللبث وهو أن يستقر في المكان ولا يكاد ينفك عنه
المسألة الثانية قال الفراء أصل الحقب من الترادف والتتابع يقال أحقب إذا أردف ومنه الحقيبة ومنه كل من حمل وزرا فقد احتقب فيجوز على هذا المعنى لابثين فيها أحقابا أي دهورا متتابعة يتبع بعضها بعضا ويدل عليه قوله تعالى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا الكهف 60 يحتمل سنين متتابعة إلى أن أبلغ أو آنس واعلم أن الأحقاب واحدها حقب وهو ثمانون سنة عند أهل اللغة والحقب السنون واحدتها حقبة وهي زمان من الدهر لا وقت له ثم نقل عن المفسرين فيه وجوه أحدها قال عطاء والكلبي ومقاتل عن ابن عباس في قوله أحقابا الحقب الواحد بضع وثمانون سنة والسنة ثلثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة من أيام الدنيا ونحو هذا روى ابن عمر مرفوعا وثانيها سأل هلال الهجري عليا عليه السلام فقال الحقب مائة سنة والسنة اثنا عشر شهرا والشهر ثلاثون يوما واليوم ألف سنة وثالثها قال الحسن الأحقاب لا يدري أحد ما هي ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدون فإن قيل قوله أحقابا وإن طالت إلا أنها متناهية وعذاب أهل النار غير متناه بل لو قال لابثين فيها الأحقاب لم يكن هذا السؤال واردا ونظير هذا السؤال قوله في أهل القبلة إلا ما شاء ربك هود 107 قلنا الجواب من وجوه الأول أن لفظ الأحقاب لا يدل على مضي حقب له نهاية وإنما الحقب الواحد متناه والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا كلما مضى حقب تبعه حقب آخر وهكذا إلى الأبد والثاني قال الزجاج المعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذقون في الأحقاب بردا ولا شرابا فهذه الأحقاب توقيت لنوع من العذاب وهو أن لا يذوقوا بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ثم يبدلون بعد الأحقاب عن الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب وثالثها هب أن قوله أحقابا يفيد التناهي لكن دلالة هذا على الخروج دلالة المفهوم والمنطوق دل على أنهم لا يخرجون قال تعالى يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم المائدة 37(31/13)
ولا شك أن المنطوق راجح وذكر صاحب الكشاف في الآية وجها آخر وهو أن يكون أحقابا من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فينتصب حالا عنهم بمعنى لابثين فيها حقبين مجدبين وقوله لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا تفسير له
ورابعها قوله تعالى
لا يذقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا
وفيه مسائل
المسألة الأولى إن اخترنا قول الزجاج كان قوله ولا يذقون فيها بردا ولا شرابا متصلا بما قبله والضمير في قوله فيها عائدا إلى الأحقاب وإن لم نقل به كان هذا كلاما مستأنفا مبتدأ والضمير في قوله عائدا إلى جهنم
المسألة الثانية في قوله بردا وجهان الأول أنه البرج المعروف والمراد أنهم لا يذقون مع شدة الحر ما يكون فيه راحة من ريح باردة أو ظل يمنع من نار ولا يجدون شرابا يسكن عطشهم ويزيل الحرقة عن بواطنهم والحاصل أنهم لا يجدون هواء باردا والثاني البرد ههنا النوم وهو قول الأخفش والكسائي والفراء وقطرب والعتبي قال الفراء وإنما سمي النوم بردا لأنه يبرد صاحبه فإن العطشان ينام فيبرد بالنوم وأنشد أبو عبيدة والمبرد في بيان أن المراد النوم قول الشاعر بردت مراشفها علي فصدني
عنها وعن رشفاتها البرد
يعني النوم قال المبرد ومن أمثال العرب منع البرد البرد أي أصابني من البرد ما منعني من النوم وأعلم أن القول الأول أولى لأنه إذا أمكن حمل اللفظ على الحقيقة المشهورة فلا معنى لحمله على المجاز النادر الغريب والقائلون بالقول الثاني تمسكوا في إثباته بوجهين الأول أنه لا يقال ذقت البرد ويقال ذقت النوم الثاني أنهم يذقون برد الزمهرير فلا يصح أن يقال إنهم ذاقوا بردا وهب أن ذلك البرد برد تأذوا به ولكن كيف كان فقد ذاقوا البرد والجواب عن الأول كما أن ذوق البرد مجاز فكذا ذوق النوم أيضا مجاز ولأن المراد من قوله لا يذقون فيها بردا أي لا يستنشقون فيها نفسا باردا ولا هواء باردا والهواء المستنشق ممره الفم والأنف فجاز إطلاق لفظ الذوق عليه والجواب عن الثاني أنه لم يقل لا يذقون فيها البرد بل قال لا يذوقون فيها بردا واحدا وهو البرد الذي ينتفعون به ويستريحون إليه
المسألة الثالثة ذكروا في الحميم أنه الصفر المذاب وهو باطل بل الحميم الماء الحار المغلي جدا
المسألة الرابعة ذكروا في الغساق وجوها
أحدها قال أبو معاذ كنت أسمع مشايخنا يقولون الغساق فارسية معربة يقولون للشيء الذي يتقذرونه(31/14)
خاشاك وثانيها أن الغساق هو الشيء البارد الذي لا يطاق وهو الذي يسمى بالزمهرير وثالثها الغساق ما يسيل من أعين أهل النار وجلودهم من الصديد والقيح والعرق وسائر الرطوبات المستقذرة وفي كتاب الخليل غسقت عينه تغسق غسقا وغساقا ورابعها الغساق هو المنتن وجليله ما روي أنه عليه السلام قال { لو أن دلوا من الغساق يهراق على الدنيا لأنتن أهل الدنيا } وخامسها أن الغاسق هو المظلم قال تعالى ومن شر غاسق إذا وقب الفلق 3 فيكون الغساق شرابا أسود مكروها يستوحش كما يستوحش الشيء المظلم إذا عرفت هذا فنقول إن فسرنا الغساق بالبارد كان التقدير لا يذوقون فيها بردا إلا غساقا ولا شرابا إلا حميما إلا أنهما جمعا لأجل انتظام الآي ومثله من الشعر قول امرئ القيس كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
لدى وكرها العناب والحشف البالي
والمعنى كأن قلوب الطير رطبا العناب ويابسا الحشف البالي أما إذا فسرنا الغساق بالصديد أو بالنتن احتمل أن يكون الاستثناء بالحميم والغساق راجعا إلى البرد والشراب معا وأن يكون مختصا بالشراب فقط
أما الاحتمال الأول فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شراباً إلا الحميم البالغ في الحميم والصديد المنتن
وأما الاحتمال الثاني فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شراباً إلا الحميم البالغ في السخونة أو الصديد المنتن والله أعلم بمراده فإن قيل الصديد لا يشرب فكيف استثنى من الشراب قلنا إنه مائع فأمكن أن يشرب في الجملة فإن ثبت أنه غير ممكن كان ذلك استثناء من غير الجنس ووجهه معلوم
المسألة الخامسة قرأ حمزة والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه غساقاً بالتشديد فكأنه فعال بمعنى سيال وقرأ الباقون بالتخفيف مثل شراب والأول نعت والثاني اسم
واعلم أنه تعالى لما شرح أنواع عقوبة الكفار بين فيما بعده أنه جَزَاء وِفَاقاً وفي المعنى وجهان الأول أنه تعالى أنزل بهم عقوبة شديدة بسبب أنهم أتوا بمعصية شديدة فيكون العقاب وِفَاقاً للذنب ونظيره قوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) والثاني أنه وِفَاقاً من حيث لم يزد على قدر الاستحقاق ولم ينقص عنه وذكر النحوين فيه وجوهاً أحدها أن يكون الوفاق والموافق واحداً في اللغة والتقدير جزاء موافقاً وثانيها أن يكون نصباً على المصدر والتقدير جزاء وافق أعمالهم وِفَاقاً وثالثها أن يكون وصف بالمصدر كما يقال فلان فضل وكرم لكونه كاملاً في ذلك المعنى كذلك ههنا لما كان ذلك الجزاء كاملاً في كونه على وفق الاستحقاق وصف الجزاء بكونه وِفَاقاً ورابعها أن يكون بحذف المضاف والتقدير جزاء ذا وفاق وقرأ أبو حيوة وِفَاقاً فعال من الوفق فإن قيل كيف يكون هذا العذاب البالغ في الشدة الغير المتناهي بحسب المدة وِفَاقاً للإتيان بالكفر لحظة واحدة وأيضاً فعلى قول أهل السنة إذا كان الكفر واقعاً بخلق الله وإيجاده فكيف يكون هذا وفاقاً له وأما على مذهب المعتزلة فكان علم الله بعدم إيمانهم حاصلاً ووجود إيمانهم مناف بالذات لذلك العلم فمع قيام أحد المتنافيين كان التكليف بإدخال المنافي الثاني في الوجود ممتنعاً لذاته وعينه ويكون تكليفاً بالجمع بين المتنافيين فكيف(31/15)
يكون مثل هذا العذاب الشديد الدائم وفاقاً لمثل هذا الجرم قلنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد
واعلم أنه تعالى لما بين على الإجمال أن ذلك الجزاء كان على وفق جرمهم شرح أنواع جرائمهم وهي بعد ذلك نوعان
إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً
أولهما قوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وفيه سؤالان
الأول وهو أن الحساب شيء شاق على الإنسان والشيء الشاق لا يقال فيه إنه يرجى بل يجب أن يقال إنهم كانوا لا يخشون حساباً والجواب من وجوه أحدها قال مقاتل وكثير من المفسرين قوله لا يرجون معناه لا يخافون ونظيره قولهم في تفسير قوله تعالى مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( نوح 13 ) وثانيها أن المؤمن لا بد وأن يرجو رحمة الله لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر فقوله إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً إشارة إلى أنهم ما كانوا مؤمنين وثالثها أن الرجاء ههنا بمعنى التوقع لأن الراجي للشيء متوقع له إلا أن أشرف أقسام التوقع هو الرجاء فسمى الجنس باسم أشرف أنواعه ورابعها أن في هذه الآية تنبيهاً على أن الحساب مع الله جانب الرجاء فيه أغلب من جانب الخوف وذلك لأن للعبد حقاً على الله تعالى بحكم الوعد في جانب الثواب ولله تعالى حق على العبد في جانب العقاب والكريم قد يسقط حق نفسه ولا يسقط ما كان حقاً لغيره عليه فلا جرم كان جانب الرجاء أقوى في الحساب فلهذا السبب ذكر الرجاء ولم يذكر الخوف
السؤال الثاني أن الكفار كانوا قد أتوا بأنواع من القبائح والكبائر فما السبب في أن خص الله تعالى هذا النوع من الكفر بالذكر في أول الأمر الجواب لأن رغبة الإنسان في فعل الخيرات وفي ترك المحظورات إنما تكون بسبب أن ينتفع به في الآخرة فمن أنكر الآخرة لم يقدم على شيء من المستحسنات ولم يحجم عن شيء من المنكرات فقوله إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً تنبيه على أنهم فعلوا كل شر وتركوا كل خير
وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كِذَّاباً
والنوع الثاني من قبائح أفعالهم قوله وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً اعلم أن للنفس الناطقة الإنسانية قوتين نظرية وعملية وكمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ولذلك قال إبراهيم رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 ) هَبْ لِى حُكْماً ( الشعراء 83 ) إشارة إلى كمال القوة النظرية وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ إشارة إلى كمال القوة العملية فههنا بين الله تعالى رداءة حالهم في الأمرين أما في القوة العملية فنبه على فسادها بقوله إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً ( النبأ 27 ) أي كانوا مقدمين على جميع القبائح والمنكرات وغير راغبين في شيء من الطاعات والخيرات
وأما في القوة النظرية فنبه على فسادها بقوله وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً أي كانوا منكرين بقلوبهم للحق(31/16)
ومصرين على الباطل وإذا عرفت ما ذكرناه من التفسير ظهر أنه تعالى بين أنهم كانوا قد بلغوا في الرداءة والفساد إلى حيث يستحيل عقلاً وجود ما هو أزيد منه فلما كانت أفعالهم كذلك كان اللائق بها هو العقوبة العظيمة فثبت بهذا صحة ما قدمه في قوله جَزَاء وِفَاقاً ( النبأ 26 ) فما أعظم لطائف القرآن مع أن الأدوار العظيمة قد استمرت ولم ينتبه لها أحد فالحمدلله حمداً يليق بعلو شأنه وبرهانه على ما خص هذا الضعيف بمعرفة هذه الأسرار
واعلم أن قوله تعالى وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً يدل على أنهم كذبوا بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن وذلك يدل على كمال حال القوة النظرية في الرداءة والفساد والبعد عن سواء السبيل وقوله كِذَّاباً أي تكذيباً وفعال من مصادر التفعيل وأنشد الزجاج لقد طال ماريثتني عن صحابتي
وعن حوج قضَّاؤها من شفائنا
من قضَّيت قضَّاء قال الفراء هي لغة فصيحة يمانية ونظيره خرَّقت القميص خرَّاقاً وقال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني الحلو أحب إليك أم العِصَّار وقال صاحب ( الكشاف ) كنت أفسر آية فقال بعضهم لقد فسرتها فِسَّاراً ما سمع به وقرىء بالتخفيف وفيه وجوه أحدها أنه مصدر كَذَّب بدليل قوله فصدقتها أو كذبتها
والمرء ينفعه كذابه
وهو مثل قوله تعالى أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( نوح 17 ) يعني وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وثانيها أن ينصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب وثالثها أن يجعل الكذاب بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة وقرىء أيضاً كذلك وهو جمع كاذب أي كذبوا بآياتنا كاذبين وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب يقال رجل كذاب كقولك حسان وبخال فيجعل صفة لمصدر كذبوا أي تكذيباً كذاباً مفرطاً كذبه
وَكُلَّ شَى ْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً
واعلم أنه تعالى لما بين أن فساد حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية بلغ إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات بين أن تفاصيل تلك الأحوال في كميتها وكيفيتها معلومة له وقدر له ما يستحق عليه من العقاب معلوم له فقال وَكُلَّ شَى ْء أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج كُلٌّ منصوب بفعل مضمر يفسره أَحْصَيْنَاهُ والمعنى وأحصينا كل شيء وقرأ أبو السمال وكل بالرفع على الابتداء
المسألة الثانية قوله وَكُلَّ شى ْء أَحْصَيْنَاهُ أي علمنا كل شيء كما هو علماً لا يزول ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( المجادلة 6 ) واعلم أن هذه الآية تدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل وذلك لأنه تعالى ذكر هذا تقريراً لما ادعاه من قوله جَزَاء وِفَاقاً ( النبأ 26 ) كأنه تعالى يقول أنا عالم بجميع ما فعلوه وعالم بجهات تلك الأفعال وأحوالها واعتباراتها(31/17)
التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلا قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم ومعلوم أن هذا القدر إنما يتم لو ثبت كونه تعالى عالماً بالجزئيات وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كان كافراً قطعاً
المسألة الثالثة قوله أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً فيه وجهان أحدهما تقديره أحصيناه إحصاء وإنما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم ولهذا قال عليه السلام ( قيدوا العلم بالكتابة ) فكأنه تعالى قال وكل شيء أحصيناه إحصاء مساوياً في القوة والثبات والتأكيد للمكتوب فالمراد من قوله كتاباً تأكيد ذلك الإحصاء والعلم واعلم أن هذا التأكيد إنما ورد على حسب مايليق بأفهام أهل الظاهر فإن المكتوب يقبل الزوال وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال لأنه واجب لذاته القول الثاني أن يكون قوله كتاباً حالاً في معنى مكتوباً والمعنى وكل شيء أحصيناه حال كونه مكتوباً في اللوح المحفوظ كقوله وَكُلَّ شى ْء أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ أو في صحف الحفظة
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً
ثم قال تعالى فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال العقاب أولاً ثم ادعى كونه جَزَاء وِفَاقاً ( النبأ 26 ) ثم بين تفاصيل أفعالهم القبيحة وظهر صحة ما ادعاه أولاً من أن ذلك العقاب كان جَزَاء وِفَاقاً لا جرم أعاد ذكر العقاب وقوله فَذُوقُواْ والفاء للجزاء فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم فهذا الفاء أفاد عين فائدة قوله جَزَاء وِفَاقاً
المسألة الرابعة هذه الآية دالة على المبالغة في التعذيب من وجوه أحدها قوله فَلَن نَّزِيدَكُمْ وكلمة لن للتأكيد في النفي وثانيها أنه في قوله كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً ( النبأ 27 ) ذكرهم بالمغايبة وفي قوله فَذُوقُواْ ذكرهم على سبيل المشافهة وهذا يدل على كمال الغضب وثالثها أنه تعالى عدد وجوه العقاب ثم حكم بأنه جزاء موافق لأعمالهم ثم عدد فضائحهم ثم قال فَذُوقُواْ فكأنه تعالى أفتى وأقام الدلائل ثم أعاد تلك الفتوى بعينها وذلك يدل على المبالغة في التعذيب قال عليه الصلاة والسلام ( هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه ) بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ ( آل عمران 77 ) فهنا لما قال لهم فَذُوقُواْ فقد كلمهم الجواب قال أكثر المفسرين تقدير الآية فيقال لهم فذوقوا ولقائل أن يقول على هذا الوجه لا يليق بذلك القائل أن يقول فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً بل هذا الكلام لا يليق إلا بالله والأقرب في الجواب أن يقال قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ أي ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع فإن تخصيص العموم غير بعيد لاسيما عند حصول القرينة فإن قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ إنما ذكره لبيان أنه تعالى لا ينفعهم ولا يقيم لهم وزناً وذلك لا يحصل إلا من الكلام الطيب(31/18)
السؤال الثاني دلت هذه الآية على أنه تعالى يزيد في عذاب الكافر أبداً فتلك الزيادة إما أن يقال إنها كانت مستحقة لهم أو غير مستحقة فإن كانت مستحقة لهم كان تركها في أول الأمر إحساناً والكريم إذا أسقط حق نفسه فإنه لا يليق به أن يسترجعه بعد ذلك وأما إن كانت تلك الزيادة غير مستحقة كان إيصالها إليهم ظلماً وإنه لا يجوز على الله الجواب كما أن الشيء يؤثر بحسب خاصية ذاته فكذا إذا دام ازداد تأثيره بحسب ذلك الدوام فلا جرم كلما كان الدوام أكثر كان الإيلام أكثر وأيضاً فتلك الزيادة مستحقة وتركها في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط والله علم بما أراد
واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد الأخيار وهو أمور
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً
أولها قوله تعالى إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً أما المتقي فقد تقدم تفسيره في مواضع كثيرة ومفازاً يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى فوزاً وظفراً بالبغية ويحتمل أن يكون موضع فوز والفوز يحتمل أن يكون المراد منه فوزاً بالمطلوب وأن يكون المراد منه فوزاً بالنجاة من العذاب وأن يكون المراد مجموع الأمرين وعندي أن تفسيره بالفوز بالمطلوب أولى من تفسيره بالفوز بالنجاة من العذاب ومن تفسيره بالفوز بمجموع الأمرين أعني النجاة من الهلاك والوصول إلى المطلوب وذلك لأنه تعالى فسر المفاز بما بعده وهو قوله مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً فوجب أن يكون المراد من المفاز هذا القدر فإن قيل الخلاص من الهلاك أهم من حصول اللذة فلم أهمل الأهم وذكر غير الأهم قلنا لأن الخلاص من الهلاك لا يستلزم الفوز باللذة والخير أما الفوز باللذة والخير فيستلزم الخلاص من الهلاك فكان ذكر هذا أولى
حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً
وثانيها قوله تعالى حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً والحدائق جمع حديقة وهي بستان محوط عليه من قولهم أحدقوا به أي أحاطوا به والتنكير في قوله وَأَعْنَاباً يدل على تعظيم حال تلك الأعناب
وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً
وثالثها قوله تعالى وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً كواعب جمع كاعب وهي النواهد التي تكعبت ثديهن وتفلكت أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة
وَكَأْساً دِهَاقاً
ورابعها قوله تعالى وَكَأْساً دِهَاقاً وفي الدهاق أقوال الأول وهو قول أكثر أهل اللغة كأبي عبيدة والزجاج والكسائي والمبرد و دِهَاقاً أي ممتلئة دعا ابن عباس غلاماً له فقال اسقنا دهاقاً فجاء الغلام بها ملأى فقال ابن عباس هذا هو الدهاق قال عكرمة ربما سمعت ابن عباس يقول اسقنا وادهق لنا القول الثاني دهاقاً أي متتابعة وهو قول أبي هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد قال الواحدي وأصل هذا القول من قول العرب أدهقت الحجارة إدهاقاً وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض ذكرها الليث والمتتابع كالمتداخل القول الثالث يروى عن عكرمة أنه قال دِهَاقاً أي صافية والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع داهق وهو خشبتان يعصر بهما والمراد بالكأس الخمر قال الضحاك كل كأس في القرآن فهو خمر التقدير وخمراً ذات دهاق أي عصرت وصفيت بالدهاق(31/19)
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَاباً
وخامسها قوله لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً في الآية سؤالان
الأول الضمير في قوله فِيهَا إلى ماذا يعود الجواب فيه قولان الأول أنها ترجع إلى الكأس أي لا يجري بينهم لغو في الكأس التي يشربونها وذلك لأن أهل الشراب في الدنيا يتكلمون بالباطل وأهل الجنة إذا شربوا لم يتغير عقلهم ولم يتكلموا بلغو والثاني أن الكناية ترجع إلى الجنة أي لا يسمعون في الجنة شيئاً يكرهونه
السؤال الثاني الكذاب بالتشديد يفيد المبالغة فوروده في قوله تعالى وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً ( النبأ 28 ) مناسب لأنه يفيد المبالغة في وصفهم بالكذب أما وروده ههنا فغير لائق لأن قوله لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً يفيد أنهم لا يسمعون الكذب العظيم وهذا لا ينفي أنهم يسمعون الكذب القليل وليس مقصود الآية ذلك بل المقصود المبالغة في أنهم لا يسمعون الكذب البتة والحاصل أن هذا اللفظ يفيد نفي المبالغة واللائق بالآية المبالغة في النفي والجواب أن الكسائي قرأ الأول بالتشديد والثاني بالتخفيف ولعل غرضه ما قررناه في هذا السؤال لأن قراءة التخفيف ههنا تفيد أنهم لا يسمعون الكذب أصلاً لأن الكذاب بالتخفيف والكذب واحد لأن أبا علي الفارسي قال كذاب مصدر كذب ككتاب مصدر كتب فإذا كان كذلك كانت القراءة بالتخفيف تفيد المبالغة في النفي وقراءة التشديد في الأول تفيد المبالغة في الثبوت فيحصل المقصود من هذه القراءة في الموضعين على أكمل الوجوه فإن أخذنا بقراءة الكسائي فقد زال السؤال وإن أخذنا بقراءة التشديد في الموضعين وهي قراءة الباقين فالعذر عنه أن قوله لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً إشارة إلى ما تقدم من قوله وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً والمعنى أن هؤلاء السعداء لا يسمعون كلامهم المشوش الباطل الفاسد والحاصل أن النعم الواصلة إليهم تكون خالية عن زحمة أعدائهم وعن سماع كلامهم الفاسد وأقوالهم الكاذبة الباطلة
جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً
ثم إنه تعالى لما عدد أقسام نعيم أهل الجنة قال جَزَاء مّن رَّبّكَ عَطَاء حِسَاباً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج المعنى جازاهم بذلك جزاء وكذلك عطاء لأن معنى جازاهم وأعطاهم واحد
المسألة الثانية في الآية سؤال وهو أنه تعالى جعل الشيء الواحد جزاء وعطاء وذلك محال لأن كونه جزاء يستدعي ثبوت الاستحقاق وكونه عطاء يستدعي عدم الاستحقاق والجمع بينهما متناف والجواب عنه لا يصح إلا على قولنا وهو أن ذلك الاستحقاق إنما ثبت بحكم الوعد لا من حيث إن الفعل يوجب الثواب على الله فذلك نظراً إلى الوعد المترتب على ذلك الفعل يكون جزاء ونظراً إلى أنه لا يجب على الله لأحد شيء يكون عطاء
المسألة الثالثة قوله حِسَاباً فيه وجوه الأول أن يكون بمعنى كافياً مأخوذ من قولهم أعطاني ما أحسبني أي ما كفاني ومنه قوله حسبي من سؤالي علمه بحالي أي كفاني من سؤالي ومنه قوله(31/20)
فلما حللت به ضمني
فأولى جميلاً وأعطى حسابا
أي أعطى ما كفى والوجه الثاني أن قوله حساباً مأخوذ من حسبت الشيء إذا أعددته وقدرته فقوله عَطَاء حِسَاباً أي بقدر ما وجب له فيما وعده من الإضعاف لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه وجه منها على عشرة أضعاف ووجه على سبعمائة ضعف ووجه على مالا نهاية له كما قال إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( الزمر 10 ) الوجه الثالث وهو قول ابن قتيبة عَطَاء حِسَاباً أي كثيراً وأحسبت فلاناً أي أكثرت له قال الشاعر ونقفي وليد الحي إن كان جائعا
ونحسبه إن كان ليس بجائع
الوجه الرابع أنه سبحانه يوصل الثواب الذي هو الجزاء إليهم ويوصل التفضل الذي يكون زائداً على الجزء إليهم ثم قال حِسَاباً ثم يتميز الجزاء عن العطاء حال الحساب الوجه الخامس أنه تعالى لما ذكر في وعيد أهل النار جَزَاء وِفَاقاً ذكر في وعد أهل الجنة جزاء عطاء حساباً أي راعيت في ثواب أعمالكم الحساب لئلا يقع في ثواب أعمالكم بخس ونقصان وتقصير والله أعلم بمراده
المسألة الرابعة قرأ ابن قطيب حِسَاباً بالتشديد على أن الحساب بمعنى المحسب كالدراك بمعنى المدرك هكذا ذكره صاحب ( الكشاف )
رَّبِّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً
واعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف وعيد الكفار ووعد المتقين ختم الكلام في ذلك بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً وفيه مسائل
المسألة الأولى رب السموات والرحمن فيه ثلاثة أوجه من القراءة الرفع فيهما وهو قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والجر فيهما وهو قراءة عاصم وعبدالله بن عامر والجر في الأول مع الرفع في الثاني وهو قراءة حمزة والكسائي وفي الرفع وجوه أحدها أن يكون رب السموات مبتدأ والرحمن خبره ثم استؤنف لا يملكون منه خطاباً وثانيها رب السموات مبتدأ والرحمن صفة ولا يملكون خبره وثالثها أن يضمر المبتدأ والتقدير هو رَبّ السَّمَاوَاتِ هو الرحمن ثم استؤنف لاَّ يَمْلِكُونَ ورابعها أن يكون الرَّحْمَنُ و لاَّ يَمْلِكُونَ خبرين وأما وجه الجر فعلى البدل من ربك وأما وجه جر الأول ورفع الثاني فجر الأول بالبدل من ربك والثاني مرفوع بكونه مبتدأ وخبره لا يملكون
المسألة الثانية الضمير في قوله ويملكون إلى من يرجع فيه ثلاثة أقوال الأول نقل عطاء عن ابن عباس إنه راجع إلى المشركين يريد لا يخاطب المشركون أما المؤمنون فيشفعون يقبل الله ذلك منهم والثاني قال القاضي إنه راجع إلى المؤمنين والمعنى أن المؤمنين لا يملكون أن يخاطبوا الله في أمر من الأمور لأنه لما ثبت أنه عدل لا يجور ثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفار عدل وأن الثواب الذي أوصله المؤمنين عدل وأنه ما يخسر حقهم فبأي سبب يخاطبونه وهذا القول أقرب من الأول لأن الذي جرى قبل هذه الآية ذكر المؤمنين لا ذكر الكفار والثالث أنه ضمير لأهل السموات والأرض وهذا هو الصواب فإن أحداً من المخلوقين لا يملك مخاطبة الله ومكالمته وأما الشفاعات الواقعة بإذنه فغير واردة(31/21)
على هذا الكلام لأنه نفى الملك والذي يحصل بفضله وإحسانه فهو غير مملوك فثبت أن هذا السؤال غير لازم والذي يدل من جهة العقل على أن أحداً من المخلوقين لا يملك خطاب الله وجوه الأول وهو أن كل ما سواء فهو مملوكه والمملوك لا يستحق على مالكه شيئاً وثانيها أن معنى الاستحقاق عليه هو أنه لو لم يفعل لاستحق الذم ولو فعلة لاستحق المدح وكل من كان كذلك كان ناقصاً في ذاته مستكملاً بغيره وتعالى الله عنه وثالثها أنه عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح وكل من امتنع كونه فاعلاً للقبيح فليس لأحد أن يطالبه بشيء وأن يقول له لم فعلت والوجهان الأولان مفرعان على قول أهل السنة والوجه الثالث يتفرع على قول المعتزلة فثبت أن أحداً من المخلوقات لا يملك أن يخاطب ربه ويطالب إلهه
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أحداً من الخلق لا يمكنه أن يخاطب الله في شيء أو يطالبه بشيء قرر هذا المعنى وأكده فقال تعالى خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً
وذلك لأن الملائكة أعظم المخلوقات قدراً ورتبة وأكثر قدرة ومكانة فبين أنهم لا يتكلمون في موقف القيامة إجلالاً لربهم وخوفاً منه وخضوعاً له فكيف يكون حال عيرهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لمن يقول بتفضيل الملك على البشر أن يتمسك بهذه الآية وذلك لأن المقصود من الآية أن الملائكة لما بقوا خائفين خاضعين وجلين متحيرين في موقف جلال الله وظهور عزته وكبريائه فكيف يكون حال غيرهم ومعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا إذا كانوا أشرف المخلوقات
المسألة الثانية اختلفوا في الروح في هذه الآية فعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً وعن مجاهد خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون وليس بناس وعن الحسن وقتادة هم بنو آدم وعلى هذا معناه ذو الروح وعن ابن عباس أرواح الناس وعن الضحاك والشعبي هو جبريل عليه السلام وهذا القول هو المختار عند القاضي قال لأن القرآن دل على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام وثبت أن القيام صحيح من جبريل والكلام صحيح منه ويصح أن يؤذن له فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام أما قوله صَفَّا فيحتمل أن يكون المعنى أن الروح على الاختلاف الذي ذكرناه وجميع الملائكة يقومون صفاً واحداً ويجوز أن يكون المعنى يقومون صفين ويجوز صفوفاً والصف في الأصل مصدر فينبىء عن الواحد والجمع وظاهر قول المفسرين أنهم يقومون صفين فيقوم الروح وحده صفاً وتقوم الملائكة كلهم صفاً واحداً فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم وقال بعضهم بل يقومون صفوفاً لقوله تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ( الفجر 22 )
المسألة الثالثة الاستثناء إلى من يعود فيه قولان(31/22)
أحدهما إلى الروح والملائكة وعلى هذا التقدير الآية دلت على أن الروح والملائكة لا يتكلمون إلا عند حصول شرطين إحداها حصول الإذن من الله تعالى ونظيره قوله تعالى مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) والمعنى أنهم لا يتكلمون إلا بإذن الله
والشرط الثاني أن يقول صواباً فإن قيل لما أذن له الرحمن في ذلك القول علم أن ذلك القول صواب لا محالة فما الفائدة في قوله وَقَالَ صَوَاباً والجواب من وجهين الأول أن الرحمن أذن له في مطلق القول ثم إنهم عند حصول ذلك الإذن لا يتكلمون إلا بالصواب فكأنه قيل إنهم لا ينطلقون إلا بعد ورود الإذن في الكلام ثم بد ورود ذلك الإذن يجتهدون ولا يتكلمون إلا بالكلام الذي يعلمون أنه صدق وصواب وهذا مبالغة في وصفهم بالطاعة والعبودية الوجه الثاني أن تقديره لا يتكلمون إلا في حق مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً والمعنى لا يشفعون إلا في حق شخص أذن له الرحمن في شفاعته وذلك الشخص كان ممن قال صواباً واحتج صاحب هذا التأويل بهذه الآية على أنهم يشفعون للمذنبين لأنهم قالوا صواباً وهو شهادة أن لا إله إلا الله لأن قوله وَقَالَ صَوَاباً يكفي في صدقه أن يكون قد قال صواباً واحداً فكيف بالشخص الذي قال القول الذي هو أصوب الأقوال وتكلم بالكلام الذي هو أشرف الكلمات القول الثاني أن الاستثناء غير عائد إلى الملائكة فقط بل إلى جميع أهل السموات والأرض والمقول الأول أولى لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى
واعلم أنه تعالى لما قرر أحوال المكلفين في درجات الثواب والعقاب وقرر عظمة يوم القيامة قال بعده
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَأاباً
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ذلك إشارة إلى تقدم ذكره وفي وصف اليوم بأنه حق وجوه أحدها أنه يحصل فيه كل الحق ويندمغ كل باطل فلما كان كاملاً في هذا المعنى قيل إنه حق كما يقال فلان خير كله إذا وصف بأن فيه خيراً كثيراً وقوله ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ يفيد أنه هو اليوم الحق وما عداه باطل لأن أيام الدنيا باطلها أكثر من حقها وثانيها أن الحق هو الثابت الكائن وبهذا المعنى يقال إن الله حق أي هو ثابت لا يجوز عليه الفناء ويوم القيامة كذلك فيكون حقاً وثالثها أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يستحق أن يقال له يوم لأن فيه تبلى السرائر وتنكشف الضمائر وأماأيام الدنيا فأحوال الخلف فيها مكتومة والأحوال فيها غير معلومة
قوله تعالى فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ مَئَاباً أي مرجعاً والمعتزلة احتجوا به على الاختيار والمشيئة وأصحابنا رووا عن ابن عباس أنه قال المراد فمن شاء الله به خيراً هداه حتى يتخذ إلى ربه مآباً
إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَاباً
ثم إنه تعالى زاد في تخويف الكفار فقال إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يعني العذاب في الآخرة وكل ما هو آت قريب و ( هو ) كقوله تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّة ً أَوْ ضُحَاهَا ( النازعات 46 ) وإنما سماه(31/23)
إنذاراً لأنه تعالى بهذا الوصف قد خوف منه نهاية التخويف وهو معنى الإنذار
ثم قال تعالى يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ما في قوله مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ فيه وجهان الأول أنها استفهامية منصوبة بقدمت أي ينظر أي شيء قدمت يداه الثاني أن تكون بمعنى الذي وتكون منصوبة ينتظر والتقدير ينظر إلى الذي قدمت يداه إلا أن على هذا التقدير حصل فيه حذفان أحدهما أنه لم يقل قدمته بل قال قَدَّمْتُ فحذف الضمير الراجع الثاني أنه لم يقل ينظر إلى ما قدمت بل قال ينظر ما قدمت يقام نظرته بمعنى نظرت إليه
المسألة الثانية في الآية ثلاثة أقوال الأول وهو الأظهر أن المرء عام في كل أحد لأن المكلف إن كان قدم عمل المتقين فليس له إلا الثواب العظيم وإن كان قدم عمل الكافرين فليس له إلا العقاب الذي وصفه الله تعالى فلا رجاء لمن ورد القيامة من المكلفين في أمر سوى هذين فهذا هو المراد بقوله يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ فطوبى له إن قدم عمل الأبرار وويل له إن قدم عمل الفجار والقول الثاني وهو قول عطاء أن المر ههنا هو الكافر لأن المؤمن كما ينظر إلى ما قدمت يداه فكذلك ينظر إلى عفو الله ورحمته وأما الكافر الذي لا يرى إلا العذاب فهو لا يرى إلا ما قدمت يداه لأن ما وصل إليه من العقاب ليس إلا من شؤم معاملته والقول الثالث وهو قول الحسن وقتادة أن المرء ههنا هو المؤمن واحتجوا عليه بوجهين الأول أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَيَقُولُ الْكَافِرُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً فلما كان هذا بياناً لحال الكافر وجب أن يكون الأول بياناً لحال المؤمن والثاني وهو أن المؤمن لما قدم الخير والشر فهو من الله تعالى على خوف ورجاء فينتظر كيف يحدث الحال أما الكافر فإنه قاطع بالعقاب فلا يكون له انتظار أنه كيف يحدث الأمر فإن مع القطع لا يحصل الانتظار
المسألة الثالثة القائلون بأن الخير يوجب الثواب والشر يوجب العقاب تمسكوا بهذه الآية فقالوا لولا أن الأمر كذلك وإلا لم يكن نظر الرجل في الثواب والعقاب على عمله بل على شيء آخر والجواب عنه أن العمل يوجب الثواب والعقاب لكن بحكم الوعد والجعل لا بحكم الذات
أما قوله تعالى وَيَقُولُ الْكَافِرُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ففيه وجوه أحدها أن يوم القيامة ينظر المرء أي شيء قدمت يداه أما المؤمن فإنه يجد الإيمان والعفو عن سائر المعاصي على ما قال بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وأما الكافر فلا يتوقع العفو على ما قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( النساء 48 ) فعند ذلك يقول الكافر الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً أي لم يكن حياً مكلفاً وثانيها أنه كان قبل البعث تراباً فالمعنى على هذا يا ليتني لم أبعث للحساب وبقيت كما كنت تراباً كقوله تعالى حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة َ ( الحاقة 27 ) وقوله يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ ( النساء 42 ) وثالثها أن البهائم تحشر فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها بعد المحاسبة كوني تراباً فيتمنى الكافر عند ذلك أن يكون هو مثل تلك البهائم في أن يصير تراباً ويتخلص من عذاب الله وأنكر بعض المعتزلة ذلك وقال إنه تعالى إذا أعادها فهي بين معوض وبين متفضل عليه وإذا كان كذلك لم يجز أن يقطعها عن المنافع لأن ذلك كالإضرار بها ولا يجوز ذلك في الآخرة ثم إن هؤلاء قالوا إن هذه الحيوانات إذا انتهت مدة(31/24)
أعواضها جعل الله كل ما كان منها حسن الصورة ثواباً لأهل الجنة وما كان قبيح الصورة عقاباً لأهل النار قال القاضي ولا يمتنع أيضاً إذا وفر الله أعواضها وهي غير كاملة العقل أن يزيل الله حياتها على وجه لا يحصل لها شعور بالألم فلا يكون ذلك ضرراً ورابعها ما ذكره بعض الصوفية فقال قوله الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً معناه يا ليتني كنت متواضعاً في طاعة الله ولم أكن متكبراً متمرداً وخامسها الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( ص 76 ) والله أعلم بمراده وأسرار كتابه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة(31/25)
سورة النازعات
وهي أربعون وست آيات مكية
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً
فيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن هذه الكلمات الخمس يحتمل أن تكون صفات لشيء واحد ويحتمل أن لا تكون كذلك أما على الاحتمال الأول فقد ذكروا في الآية وجوهاً أحدها أنها بأسرها صفات الملائكة فقوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً هي الملائكة الذين ينزعون نفوس بني آدم فإذا نزعوا نفس الكفار نزعوها بشدة وهو مأخوذ من قولهم نزع في القوس فأغرق يقال أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدى حتى ينتهي إلى النصل فتقدير الآية والنازعات إغراقاً والغرق والإغراق في اللغة بمعنى واحد وقوله وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً النشط هو الجذب يقال نشطت الدلو أنشطها وأنشطتها نشطاً نزعتها برفق والمراد هي الملائكة التي تنشط روح المؤمن فتقبضها وإنما خصصنا هذا بالمؤمن والأول بالكافر لما بين النزع والنشط من الفرق فالنزاع جذب بشدة والنشط جذب برفق ولين فالملائكة تنشط أرواح المؤمنين كما تنشط الدلو من البئر فالحاصل أن قوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً قسم بملك الموت وأعوانه إلا أن الأول إشارة إلى كيفية قبض أرواح الكفار والثاني إشارة إلى كيفية قبض أرواح المؤمنين أما قوله وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فمنهم من خصصه أيضاً بملائكة قبض الأرواح ومنهم من حمله على سائل طوائف الملائكة أما الوجه الأول فنقل عن علي عليه السلام وابن عباس ومسروق أن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلاً رفيقاً فهذا هو المراد من قوله وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً ثم يتركونها حتى تستريح رويداً ثم يستخرجونها بعد ذلك برفق ولطافة كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق ولطافة لئلا يفرق فكذا ههنا يرفقون في ذلك(31/26)
الاستخراج لئلا يصل إليه ألم وشدة فذاك هو المراد من قوله وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً وأما الذين حملوه على سائر طوائف الملائكة فقالوا إن الملائكة ينزلون من السماء مسرعين فجعل نزولهم من السماء كالسباحة والعرب تقول للفرس الجواد إنه السابح وأما قوله فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فمنهم من فسره بملائكة قبض الأرواح يسبقون بأرواح الكفار إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة ومنهم من فسره بسائر طوائف الملائكة ثم ذكروا في هذا السبق وجوهاً أحدها قال مجاهد وأبو روق إن الملائكة سبقت ابن آدم بالإيمان والطاعة ولا شك أن المسابقة في الخيرات درجة عظيمة قال تعالى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 10 ) وثانيها قال الفراء والزجاج إن الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء لأن الشياطين كانت تسترق السمع وثالثها ويحتمل أن يكون المراد أنه تعالى وصفهم فقال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ( الأنبياء 27 ) يعني قبل الإذن لا يتحركون ولا ينطقون تعظيماً لجلال الله تعالى وخوفاً من هيبته وههنا وصفهم بالسبق يعني إذا جاءهم اومر فإنهم يتسارعون إلى امتثاله ويتبادرون إلى إظهار طاعته فهذا هو المراد من قوله فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً وأما قوله فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً فأجمعوا على أنهم هم الملائكة قال مقاتل يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام يدبرون أمر الله تعالى في أهل الأرض وهم المقسمات أمراً أما جبريل فوكل بالرياح والجنود وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات وأما ملك الموت فوكل بقبض الأنفس وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم وقوم منهم موكلون بحفظ بني آدم وقوم آخرون بكتابة أعمالهم وقوم آخرون بالخسف والمسخ والرياح والسحاب والأمطار بقي على الآية سؤالان
السؤال الأول لم قال فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً ولم يقل أموراً فإنهم يدبرون أموراً كثيرة لا أمراً واحداً والجواب أن المراد به الجنس وإذا كان كذلك قام مقام الجمع
السؤال الثاني قال تعالى إن الأمر كله لله فكيف أثبت لهم ههنا تدبير الأمر والجواب لما كان ذلك الإتيان به كان الأمر كأنهله فهذا تلخيص ما قاله المفسرون في هذا الباب وعندي فيه وجه آخر وهو أن الملائكة لها صفات سلبية وصفات إضافية أما الصفات السلبية فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة والموت والهرم والسقم والتركيب من الأعضاء والأخلاط والأركان بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال فقوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعاً كلياً من جميع الوجوه وعلى هذا التفسير النازعات هي ذوات النزع كاللابن والتامر وأما قوله وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً إشارة إلى أن خروجها عن هذه الأحوال ليس على سبيل التكليف والمشقة كما في حق البشر بل هم بمقتضى ماهياتهم خرجوا عن هذه الأحوال وتنزهوا عن هذه الصفات فهاتان الكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان أحدهما شرح قوتهم العاقلة أي كيف حالهم في معرفة ملك الله وملكوته والاطلاع على نور جلاله فوصفهم في هذا المقام بوصفين أحدهما قوله وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلال الله ثم لا منتهى لسباحتهم لأنه لا منتهى لعظمة الله وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه فهم أبداً في تلك السباحة وثانيهما قوله(31/27)
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً وهو إشارة إلى مراتب الملائكة في تلك السباحة فإنه كما أن مراتب معارف البهائم بالنسبة إلى مراتب معارف البشر ناقصة ومراتب معارف البشر بالنسبة إلى مراتب معارف الملائكة ناقصة فكذلك معارف بعض تلك الملائكة بالنسبة إلى مراتب معارف الباقين متفاوتة وكما أن المخالفة بين نوع الفرس ونوع الإنسان بالماهية لا بالعوارض فكذا المخالفة بين شخص كل واحد من الملائكة وبين شخص الآخر بالماهية فإذا كانت أشخاصها متفاوتة بالماهية لا بالعوارض كانت لا محالة متفاوتة في درجات المعرفة وفي مراتب التجلي فهذا هو المراد من قوله فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فهاتان الكلمتان المراد منهما شرح أحوال قوتهم العاقلة
وأما قوله فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً فهو إشارة إلى شرح حال قوتهم العاملة وذلك لأن كل حال من أحوال العالم السفلي مفوض إلى تدبير واحد من الملائكة الذين هم عمار العالم العلوي وسكان بقاع السموات ولما كان التدبير لا يتم إلا بعد العلم لا جرم قدم شرح القوة العاقلة التي لهم على شرح القوة العاملة التي لهم فهذا الذي ذكرته احتمال ظاهر والله أعلم بمراده من كلامه
واعلم أن أبا مسلم بن بحر الأصفهاني طعن في حمل هذه الكلمات على الملائكة وقال واحد النازعات نازعة وهو من لفظ الإناث وقد نزه الله تعالى الملائكة عن التأنيث وعاب قول الكفار حيث قال وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 )
واعلم أن هذا طعن لا يتوجه على تفسيرنا لأن المراد الأشياء ذوات النزع وهذا القدر لا يقتضي ما ذكر من التأنيث
الوجه الثاني في تأويل هذه الكلمات أنها هي النجوم وهو قول الحسن البصري ووصف النجوم بالنازعات يحتمل وجوهاً أحدها كأنها تنزع من تحت الأرض فتنجذب إلى ما فوق الأرض فإذا كانت منزوعة كانت ذوات نزع فيصح أن يقال إنها نازعة على قياس اللابن والتامر وثانيها أن النازعات من قولهم نزع إليه أي ذهب نزوعاً هكذا قاله الواحدي فكأنها تطلع وتغرب بالنزع والسوق والثالث أن يكون ذلك من قولهم نزعت الخيل إذا جرت فمعنى وَالنَّازِعَاتِ أي والجاريات على السير المقدر والحد المعين وقوله غَرْقاً يحتمل وجهين أحدهما أن يكون حالاً من النازعات أي هذه الكواكب كالغرقى في ذلك النزع والإرادة وهو إشارة إلى كمال حالها في تلك الإرادة فإن قيل إذا لم تكن الأفلاك والكواكب أحياء ناطقة فما معنى وصفها بذلك قلنا هذا يكون على سبيل التشبيه كقوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) فإن الجمع بالواو والنون يكون للعقلاء ثم إنه ذكر في الكواكب على سبيل التشبيه والثاني أن يكون معنى غرقها غيبوبتها في أفق الغرب فالنازعات إشارة إلى طلوعها وغرقاً إشارة إلى غروبها أي تنزع ثم تغرق إغراقاً وهذا الوجه ذكره قوم من المفسرين
أما قوله وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً فقال صاحب ( الكشاف ) معناه أنها تخرج من برج إلى برج من قولك ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد وأقول يرجع حاصل هذا الكلام إلى أن قوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً إشارة إلى حركتها اليومية وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً إشارة إلى انتقالها من برج إلى برج وهو حركتها المخصوصة بها في أفلاكها الخاصة والعجب أن حركاتها اليومية قسرية وحركتها من برج إلى برج ليست قسرية بل(31/28)
ملائمة لذواتها فلا جرم عبر عن الأول بالنزع وعن الثاني بالنشط فتأمل أيها المسكين في هذه الأسرار
وأما قوله وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فقال الحسن وأبو عبيدة رحمهما الله هي النجوم تسبح في الفلك لأن مرورها في الجو كالسبح ولهذا قال كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 )
وأما قوله فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فقال الحسن وأبو عبيدة وهي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير بسبب كون بعضها أسرع حركة من البعض أو بسبب رجوعها أو استقامتها
وأما قوله تعالى فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً ففيه وجهان أحدهما أن بسبب سيرها وحركتها يتميز بعض الأوقات عن بعض فتظهر أوقات العبادات على ما قال تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ وقال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( البقرة 189 ) وقال لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ولأن بسبب حركة الشمس تختلف الفصول الأربعة ويخلف بسبب اختلافها أحوال الناس في المعاش فلا جرم أضيفت إليها هذه التدبيرات والثاني أنه لما ثبت بالدليل أن كل جسم محدث ثبت أن الكواكب محدثة مفتقرة إلى موجد يوجدها وإلى صانع يخلقها ثم بعد هذا لو قدرنا أن صانعها أودع فيها قوى مؤثرة في أحوال هذا العالم فهذا يطعن في الدين البتة وإن لم نقل بثبوت هذه القوى أيضاً لكنا نقول أن الله سبحانه وتعالى أجرى عادته بأن جعل كل واحد من أحوالها المخصوصة سبباً لحدوث حادث مخصوص في هذا العالم كما جعل الأكل سبباً للشبع والشرب سبباً للري ومماسة النار سبباً للاحتراق فالقول بهذا المذهب لا يضر الإسلام البتة بوجه من الوجوه والله أعلم بحقيقة الحال
الوجه الثالث في تفسير هذه الكلمات الخمسة أنها هي الأرواح وذلك لأن نفس الميت تنزع يقال فلان في النزع وفلان ينزع إذا كان في سياق الموت والأنفس نازعات عند السياق ومعنى غَرْقاً أي نزعاً شديداً أبلغ ما يكون وأشد من إغراق النازع في القوس وكذلك تنشط لأن النشط معناه الخروج ثم الأرواح البشرية الخالية عن العلائق الجسمانية المشتاقة إلى الاتصال العلوي بعد خروجها من ظلمة الأجساد تذهب إلى عالم الملائكة ومنازل القدس على أسرع الوجوه في روح وريحان فعبر عن ذهابها على هذه الحالة بالسباحة ثم لا شك أن مراتب الأرواح في النفرة عن الدنيا ومجبة الاتصال بالعالم العلوي مختلفة فكلما كانت أتم في هذه الأحوال كان سيرها إلى هناك أسبق وكلما كانت أضعف كان سيرها إلى هناك أثقل ولا شك أن الأرواح السابقة إلى هذه الأحوال أشرف فلا جرم وقع القسم بها ثم إن هذه الأرواح الشريفة العالية لا يبعد أن يكون فيها ما يكون لقوتها وشرفها يظهر منها آثار في أحوال هذا العالم فهي فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً أليس أن الإنسان قد يرى أستاذه في المنام ويسأله عن مشكلة فيرشده إليها أليس أن الابن قد يرى أباه في المنام فيهديه إلى كنز مدفون أليس أن جالينوس قال كنت مريضاً فعجزت عن علاج نفسي فرأيت في المنام واحداً أرشدني إلى كيفية العلاج أليس أن الغزالي قال إن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن فإنه لا يبعد أن يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاماً ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة وهذه المعاني وإن لم تكن منقولة عن المفسرين إلا أن اللفظ(31/29)
محتمل لها جداً
الوجه الرابع في تفسير هذه الكلمات الخمس أنها صفات خيل الغزاة فهي نازعات لأنها تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب وهي ناشطات لأنها تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب من قولهم ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد وهي سابحات لأنها تسبح في جريها وهي سابقات لأنها تسبق إلى الغاية وهي مدبرات لأمر الغلبة والظفر وإسناد التدبير إليها مجاز لأنها من أسبابه
الوجه الخامس وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله أن هذه صفاة الغزاة فالنازعات أيدي الغزاة يقال للرامي نزع في قوسه ويقال أغرق في النزع إذا استوفى مد القوس والناشطات السهام وهي خروجها عن أيدي الرماة ونفوذها وكل شيء حللته فقد نشطته ومنه نشاط الرجل وهو انبساطه وخفته والسابحات في هذا الموضع الخيل وسبحها العدو ويجوز أن يعني به الإبل أيضاً والمدبرات مثل المعقبات والمراد أنه يأتي في أدبار هذا الفعل الذي هو نزع السهام وسبح الخيل وسبقها الأمر الذي هو النصر ولفظ التأنيث إنما كان لأن هؤلاء جماعات كما قيل المدبرات ويحتمل أن يكون المراد الآلة من القوس والأوهاق على معنى المنزوع فيها والمنشوط بها
الوجه السادس أنه يمكن تفسير هذه الكلمات بالمراتب الواقعة في رجوع القلب من غير الله تعالى إلى الله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً هي الأرواح التي تنزع إلى اعتلاق العروة الوثقى أو المنزوعة عن محبة غير الله تعالى وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً هي أنها بعد الرجوع عن الجسمانيات تأخذ في المجاهدة والتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى بنشاط تام وقوة قوية وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً ثم إنها بعد المجاهدة تسرح في أمر الملكوت فتقطع في تلك البحار فتسبح فيها فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً إشارة إلى تفاوت الأرواح في درجات سيرها إلى الله تعالى فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً إشارة إلى أن آخر مراتب البشرية متصلة بأول درجات الملكية فلما انتهت الأرواح البشرية إلى أقصى غاياتها وهي مرتبة السبق اتصلت بعالم الملائكة وهو المراد من قوله فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً فالأربعة الأول هي المراد من قوله يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء ( النور 35 ) والخامسة هي النار في قوله وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ( النور 35 )
واعلم أن الوجوه المنقولة عن المفسرين غير منقولة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نصاً حتى لا يمكن الزيادة عليها بل إنما ذكروها لكون اللفظ محتملاً لها فإذا كان احتمال اللفظ لما ذكرناه ليس دون احتماله للوجوه التي ذكروها لم يكن ما ذكروه أولى مما ذكرناه إلا أنه لا بد ههنا من دقيقة وهو أن اللفظ محتمل للكل فإن وجدنا بين هذه المعاني مفهوماً واحداً مشتركاً حملنا اللفظ على ذلك المشترك وحينئذ يندرج تحته جميع هذه الوجوه أما إذا لم يكن بين هذه المفهومات قدر مشترك تعذر حمل اللفظ على الكل لأن اللفظ المشترك لا يجوز استعماله لإفادة مفهومية معاً فحينذ لا نقول مراد الله تعالى هذا بل نقول يحتمل أن يكون هذا هو المراد أما الجزم فلا سبيل إليه ههنا
الاحتمال الثاني وهو أن تكون الألفاظ الخمسة صفات لشيء واحد بل لأشياء مختلفة ففيه أيضاً وجوه الأول النازعات غرقاً هي القسى والناشطات نشطاً هي الأوهاق والسابحات السفن والسابقات الخيل والمدبرات الملائكة رواه واصل بن السائب عن عطاء الثاني نقل عن مجاهد في(31/30)
النازعات والناشطات والسابحات أنها الموت وفي السابقات والمدبرات أنها الملائكة وإضافة النزع والنشط والسبح إلى الموت مجاز بمعنى أنها حصلت عند حصوله الثالث قال قتادة الجميع هي النجوم إلا المدبرات فإنها هي الملائكة
المسألة الثانية ذكر فالسابقات بالفاء والتي قبلها بالواو وفي علته وجهان الأول قال صاحب ( الكشاف ) إن هذه مسيبة عن التي قبلها كأنه قيل واللاتي سبحن فسبقن كما تقول قام فذهب أوجب الفاء أن القيام كان سبباً للذهاب ولو قلت قام وذهب لم تجعل القيام سبباً للذهاب قال الواحدي قول صاحب ( النظم ) غير مطرد في قوله فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً لأنه يبعد أن يجعل السبق سبباً للتدبير وأقول يمكن الجواب عن اعتراض الواحدي رحمه الله من وجهين الأول لا يبعد أن يقال إنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيرها وإصلاحها فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض كقولك قام زيد فذهب فضرب عمراً الثاني لا يبعد أن يقال إنهم لما كانوا سابقين في أداء الطاعات متسارعين إليها ظهرت أمانتهم فلهذا السبب فوض الله إليهم تدبير بعض العالم الوجه الثاني أن الملائكة قسمان الرؤساء والتلامذة والدليل عليه أنه سبحانه وتعالى قال قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) ثم قال حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ( الأنعام 61 ) فقلنا في التوفيق بين الآيتين أن ملك الموت هو الرأس والرئيس وسائر الملائكة هم التلامذة إذا عرفت هذا فتقول النازعات والناشطات والسابحات محمولة على التلامذة الذين هم يباشرون العمل بأنفسهم ثم قوله تعالى فَالسَّابِقَاتِ فَالْمُدَبّراتِ إشارة إلى الرؤساء الذين هم السابقون في الدرجة والشرف وهم المدبرون لتلك الأحوال والأعمال
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَة ُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَة ُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَة ٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَة ٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى جواب القسم المتقدم محذوف أو مذكور فيه وجهان الأول أنه محذوف ثم على هذا الوجه في الآية احتمالات
الأول قال الفراء التقدير لتبعثن والدليل عليه ما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا أَءذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَة ً ( النازعات 11 ) أي أنبعث إذا صرنا عظاماً نخرة الثاني قال الأخفش والزجاج لننفخن في الصور نفختين ودل على هذا المحذوف ذكر الراجفة والرادفة وهما النفختان الثالث قال الكسائي الجواب المضمر هو أن القيامة واقعة وذلك لأنه سبحانه وتعالى قال وَالذرِيَاتِ ذَرْواً ( الذاريات 1 ) ثم قال إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( الذاريات 5 ) وقال وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ( المرسلات 7 1 ) فكذلك ههنا فإن القرآن كالسورة الواحدة القول الثاني أن الجواب مذكور وعلى هذا القول احتمالات الأول المقسم عليه هو قوله قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَة ٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَة ٌ والتقدير والنازعات غرقاً أن يوم ترجف الراجفة تحصل قلوب واجفة وأبصارها خاشعة الثاني جواب القسم هو قوله هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( النازعات 15 ) فإن هل(31/31)
ههنا بمعنى قد كما في قوله هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ِ ( الغاشية 1 ) أي قد أتاك حديث الغاشية الثالث جواب القسم هو قوله إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَة ً لّمَن يَخْشَى ( النازعات 26 )
المسألة الثانية ذكروا في ناصب يوم بوجهين أحدهما أنه منصوب بالجواب المضمر والتقدير لتبعثن يوم ترجف الراجفة فإن قيل كيف يصح هذا مع أنهم لا يبعثون عند النفخة الأولى والراجفة هي النفخة الأولى قلنا المعنى لتبعثن في الوقت الواسع الذي يحصل فيه النفختان ولا شك أنهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع وهو وقت النفخة الأخرى ويدل على ما قلناه أن قوله تَتْبَعُهَا الرَّادِفَة ُ جعل حالاً عن الراجفة والثاني أن ينصب يوم ترجف بما دل عليه قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَة ٌ أي يوم ترجف وجفت القلوب
المسألة الثالثة الرجفة في اللغة تحتمل وجهين أحدهما الحركة لقوله يَوْمَ تَرْجُفُ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ ( المزمل 14 ) الثاني الهدة المنكرة والصوت الهائل من قولهم رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً وذلك تردد أصواته المنكرة وهدهدته في السحاب ومنه قوله تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ ( الأعراف 91 ) فعلى هذا الوجه الراجفة صيحة عظيمة فيها هول وشدة كالرعد وأما الرادفة فكل شيء جاء بعد شيء آخر يقال ردفه أي جاء بعده وأما القلوب الواجفة فهي المضطربة الخائفة يقال وجف قلبه يجف وجافاً إذا اضطرب ومنه إيجاف الدابة وحملها على السير الشديد وللمفسرين عبارات كثيرة في تفسير الواجفة ومعناها واحد قالوا خائفة وجلة زائدة عن أماكنها قلقة مستوفزة مرتكضة شديدة الاضطراب غير ساكنة أبصار أهلها خاشعة وهو كقوله خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِى ّ ( الشورى 45 ) إذا عرفت هذا فنقول اتفق جمهور المفسرين على أن هذه الأمور أحوال يوم القيامة وزعم أبو مسلم الأصفهاني أنه ليس كذلك ونحن نذكر تفاسير المفسرين ثم نشرح قول أبي مسلم
أما القول الأول وهو المشهور بين الجمهور أن هذه الأحوال أحوال يوم القيامة فهؤلاء ذكروا وجوهاً أحدها أن الراجفة هي النفخة الأولى وسميت به إما لأن الدنيا تتزلزل وتضطرب عندها وإما لأن صوت تلك النفخة هي الراجفة كما بينا القول فيه والراجفة رجفة أخرى تتبع الأولى فتضطرب الأرض لإحياء الموتى كما اضطربت في الأولى لموت الأحياء على ما ذكره تعالى في سورة الزمر ثم يروى عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن بين النفختين أربعين عاماً ويروى في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ويصير ذلك الماء عليها كالنطف وأن ذلك كالسبب للأحياء وهذا مما لا حاجة إليه في الإعادة ولله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وثانيها الراجفة هي النفخة الأولى والرادفة هي قيام الساعة من قوله عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ ( النمل 72 ) أي القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعاداً لها فهي رادفة لهم لاقترابها وثالثها الراجفة الأرض والجبال من قوله يَوْمَ تَرْجُفُ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ والرادفة السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها على أثر ذلك ورابعها الراجفة هي الأرض تتحرك وتتزلزل والرادفة زلزلة ثانية تتبع الأولى حتى تنقطع الأرض وتفنى القول الثاني وهو قول أبي مسلم أن هذه الأحوال ليست أحوال يوم القيامة وذلك لأنا نقلنا عنه أنه فسر النازعات بنزع القوس والناشطات بخروج السهم والسابحات بعدو الفرس والسابقات بسبقها والمدبرات بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي والعدو ثم بنى على ذلك فقال الراجفة هي خيل المشركين وكذلك الرادفة ويراد بذلك طائفتان من المشركين غزوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (31/32)
فسبقت إحداهما الأخرى والقلوب الواجفة هي القلقة والأبصار الخاشعة هي أبصار المنافقين كقوله الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِى ّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ( محمد 20 ) كأنه قيل لما جاء خيل العدو يرجف وردفتها أختها اضطرب قلوب المنافقين خوفاً وخشعت أبصارهم جبناً وضعفاً ثم قالوا أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَة ِ ( النازعات 10 ) أي نرجع إلى الدنيا حتى نتحمل هذا الخوف لأجلها وقالوا أيضاً تِلْكَ إِذاً كَرَّة ٌ خَاسِرَة ٌ ( النازعات 12 ) فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المشركين وأوسطه حكاية لحال المنافقين وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر ثم إنه سبحانه وتعالى أجاب عن كلامهم بقوله فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ واحِدَة ٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَة ِ ( النازعات 14 13 ) وهذا كلام أبي مسلم واللفظ محتمل له وإن كان على خلاف قول الجمهور
قوله تعالى قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَة ٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَة ٌ اعلم أنه تعالى لم يقل القلوب يومئذ واجفة فإنه ثبت بالدليل أن أهل الإيمان لا يخافون بل المراد منه قلوب الكفار ومما يؤكد ذلك أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَة ِ ( النازعات 10 ) وهذا كلام الكفار لا كلام المؤمنين وقوله أَبْصَارُهَا خَاشِعَة ٌ لأن المعلوم من حال المضطرب الخائف أن يكون نظره نظر خاشع ذليل خاضع يترقب ما ينزل به من الأمر العظيم وفي الآية سؤالان
السؤال الأول كيف جاز الابتداء بالنكرة الجواب قلوب مرفوعة بالابتداء وواجفة صفتها وأبصارها خاشعة خبرها فهو كقوله وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ ( البقرة 221 )
السؤال الثاني كيف صحت إضافة الأبصار إلى القلوب الجواب معناه أبصار أصحابها بدليل قوله يقولون ثم اعلم أنه تعالى حكى ههنا عن منكري البعث أقوالاً ثلاثة
أولها قوله تعالى يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَة ِ يقال رجع فلان في حافرته أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفراً فهي في الحقيقة محفورة إلا أنها سميت حافرة كما قيل فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) و مَّاء دَافِقٍ ( الطارق 6 ) أي منسوبة إلى الحفر والرضا والدفق أو كقولهم نهارك صائم ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته أي إلى طريقته وفي الحديث ( إن هذا الأمر لا يترك على حاله حتى يرد على حافرته ) أي على أول تأسيسه وحالته الأولى وقرأ أبو حيوة في الحفرة والحفرة بمعنى المحفورة يقال حفرت أسنانه فحفرت حفراً وهي حفرة هذه القراءة دليل على أن الحافرة في أصل الكلمة بمعنى المحفور إذا عرفت هذا ظهر أن معنى الآية أنرد إلى أول حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا
وثانيها قوله تعالى أَءذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وعاصم ناخرة بألف وقرأ الباقون نخرة بغير ألف واختلفت الرواية عن الكسائي فقيل إنه كان لا يبالي كيف قرأها وقيل إنه كان يقرؤها بغير ألف ثم رجع إلى الألف واعلم أن(31/33)
أبا عبيدة اختار نخرة وقال نظرنا في الآثار التي فيها ذكر العظام التي قد نخرت فوجدناها كلها العظام النخرة ولم نسمع في شيء منها الناخرة وأما من سواه فقد اتفقوا على أن الناخرة لغة صحيحة ثم اختلف هؤلاء على قولين الأول أن الناخرة والنخرة بمعنى واحد قال الأخفش هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن وقال الفراء الناخر والنخر سواء في المعنى بمنزله الطامع والطمع والباخل والبخل وفي كتاب ( الخليل ) نخرت الخشبة إذا بليت فاسترخت حتى تتفتت إذا مست وكذلك العظم الناخر ثم هؤلاء الذين قالوا هما لغتان والمعنى واحد اختلفوا فقال الزجاج والفراء الناخرة أشبه الوجهين بالآية لأنها تشبه أواخر سائر الآي نحو الحافرة والساهرة وقال آخرون الناخرة والنخر كالطامع والطمع واللابث واللبث وفعل أبلغ من فاعل القول الثاني أن النخرة غير والناخرة غير أما النخرة فهو من نخر العظم ينخر فهو نخر مثل عفن يعفن فهو عفن وذلك إذا بلي وصار بحيث لو لمسته لتفتت وأما الناخرة فهي العظام الفارغة التي يحصل من هبوب الريح فيها صوت كالنخير وعلى هذا الناخرة من النخير بمعنى الصوت كنخير النائم والمخنوق لا من النخر الذي هو البلى
المسألة الثانية إذاً منصوب بمحذوف تقدير إذا كنا عظاماً نرد ونبعث
المسألة الثالثة اعلم أن حاصل هذه الشبهة أن الذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله أنا هو هذا الجسم المبني بهذه البنية المخصوصة فإذا مات الإنسان فقد بطل مزاجه وفسد تركيبه فتمتنع إعادته لوجوه أحدها أنه لا يكون الإنسان العائد هو الإنسان الأول إلا إذا دخل التركيب الأول في الوجود مرة أخرى وذلك قول بإعادة عين ما عدم أولاً وهذا محال لأن الذي عدم لم يبق له عين ولا ذات ولا خصوصية فإذا دخل شيء آخر في الوجود استحال أيقال بأن العائد هو عين ما فني أولاً وثانيها أن تلك الأجزاء تصير تراباً وتتفرق وتختلط بأجزاء كل الأرض وكل المياه وكل الهواء فتميز تلك الأجزاء بأعيانها عن كل هذه الأشياء محال وثالثها أن الأجزاء الترابية باردة يابسة قشفة فتولد الإنسان الذي لا بد وأن يكون حاراً رطباً في مزاجه عنها محال هذا تمام تقرير كلام هؤلاء الذين احتجوا على إنكار البعث بقولهم أَءذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَة ً والجواب عن هذه الشبهة من وجوه أولها وهو الأقوى لا نسلم أن المشار إليه لكل أحد بقوله أنا هو هذا الهيكل ثم إن الذي يدل على فساده وجهان الأول أن أجزاء هذا الهيكل في الزوبان والتبدل والذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله أنا ليس في التبدل والمتبدل مغاير لما هو غير متبدل والثاني أن الإنسان قد يعرف أنه هو حال كونه غافلاً عن أعضائه الظاهرة والباطنة والمشعور به مغاير لما هو غير مشعور به وإلا لاجتمع النفي والإثبات على الشيء الواحد وهو محال فثبت أن المشار إليه لكل أحد بقوله أنا ليس هو هذا الهيكل ثم ههنا ثلاث احتمالات أحدها أن يكون ذلك الشيء موجوداً قائماً بنفسه ليس بجسم ولا بجسماني على ما هو مذهب طائفة عظيمة من الفلاسفة ومن المسلمين وثانيها أن يكون جسماً مخالفاً بالماهية لهذه الأجسام القابلة للإنحلال والفساد سارية فيها سريان النار في الفحم وسريان الدهن في السمسم وسريان ماء الورد في جرم الورد فإذا فسد هذا الهيكل تقلصت تلك الأجزاء وبقيت حية مدركة عاقلة إما في الشقاوة أو في السعادة وثالثها أن يقال إنه جسم مساو لهذه الأجسام في الماهية إلا أن الله تعالى خصها بالبقاء والاستمرار من أول حال تكون شخص في الوجود إلى آخر عمره وأما سائر الأجزاء المتبدلة تارة(31/34)
بالزيادة وأخرى بالنقصان فهي غير داخلة في المشار إليه بقوله أنا فعند الموت تنفصل تلك الأجزاء وتبقى حية إما في السعادة أو في الشقاوة وإذا ظهرت هذه الاحتمالات ثبت أنه لا يلزم من فساد البدن وتفرق أجزائه فساد ما هو الإنسان حقيقة وهذا مقام حسن متين تنقطع به جميع شبهات منكري البعث وعلى هذا التقدير لا يكون لصيرورة العظام نخرة بالية متفرقة تأثير في دفع الحشر والنشر ألبتة سلمنا على سبيل المسامحة أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل فلم قلتم إن الإعادة ممتنعة قوله ( أولاً ) المعدوم لا يعاد قلنا أليس أن حال عدمه لم يمتنع عندكم صحة الحكم عليه بأنه يمتنع عوده فلم لا يجوز أن لا يمتنع على قولنا أيضاً صحة الحكم عليه بالعود قول ثانياً الأجزاء القليلة مختلطة بأجزاء العناصر الأربعة قلنا لكن ثبت أن خالق العالم عام بجميع الجزئيات وقادر على كل الممكنات فيصح منه جمعها بأعيانها وإعادة الحياة إليها قوله ثالثاً الأجسام القشفة اليابسة لا تقبل الحياة قلنا نرى السمندل يعيش في النار والنعامة تبتلع الحديدة المحماة والحيات الكبار العظام متولدة في الثلوج فبطل الاعتماد على الاستقراء والله الهادي إلى الصدق والصواب
قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّة ٌ خَاسِرَة ٌ
النوع الثالث من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن منكري البعث قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّة ٌ خَاسِرَة ٌ والمعنى كرة منسوبة إلى الخسران كقولك تجارة رابحة أو خاسر أصحابها والمعنى أنها إن صحت فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا وهذا منهم استهزاء
فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ وَاحِدَة ٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَة ِ
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه الكلمات قال فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ واحِدَة ٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الفاء في قوله فَإِذَا هُم متعلق بمحذوف معناه لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة يعني لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله فإنها سهلة هينة في قدرته
المسألة الثانية يقال زجر البعير إذا صاح عليه والمراد من هذه الصيحة النفخة الثانية وهي صيحة إسرافيل قال المفسرون يحيهم الله في بطون الأرض فيسمعونها فيقومون ونظير هذه الآية قوله تعالى وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ( ص 15 )
المسألة الثالثة الساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لوجهين الأول أن سالكها لا ينام خوفاً منها الثاني أن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة جارية الماء وعندي فيه وجه ثالث وهي أن الأرض إنما تسمى ساهرة لأن من شدة الخوف فيها يطير النوم من الإنسان فتلك الأرض التي يجتمع الكفار فيها في موقف القيامة يكونون فيها في أشد الخوف فسميت تلك الأرض ساهرة لهذا السبب ثم اختلفوا من وجه آخر فقال بعضهم هي أرض الدنيا وقال آخرون هي أرض الآخرة لأنهم عند الزجرة والصيحة ينقلون أفواجاً إلى أرض الآخرة ولعل هذا الوجه أقرب(31/35)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن وجه المناسبة بين هذه القصة وبين ما قبلها من وجهين الأول أنه تعالى حكى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث حتى انتهوا في ذلك الإنكار إلى حد الاستهزاء في قولهم تِلْكَ إِذاً كَرَّة ٌ خَاسِرَة ٌ ( النازعات 12 ) وكان ذلك يشق على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر قصة موسى عليه السلام وبين أنه تحمل المشقة الكثيرة في دعوة فرعون ليكون ذلك كالتسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني أن فرعون كان أقوى من كفار قريش وأكثر جمعاً وأشد شوكة فلما تمرد على موسى أخذه الله نكال الآخرة والأولى فكذلك هؤلاء المشركون في تمردهم عليك إن أصروا أخذهم الله وجعلهم نكالاً
المسألة الثانية قوله هَلُ أَتَاكَ يحتمل أن يكون معناه أليس قد أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى هذا إن كان قد أتاه ذلك قبل هذا الكلام أما إن لم يكن قد أتاه فقد يجوز أن يقال هَلُ أَتَاكَ كذا أم أنا أخبرك به فإن فيه عبرة لمن يخشى
المسألة الثالثة الوادي المقدس المبارك المطهر وفي قوله طُوًى وجوه أحدها أنه اسم وادي بالشام وهو عند الطور الذي أقسم الله به في قوله وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ ( الطور 2 1 ) وقوله وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ ( مريم 52 ) والثاني أنه بمعنى يا رجل بالعبرانية فكأنه قال يا رجل اذهب إلى فرعون وهو قول ابن عباس والثالث أن يكون قوله طُوًى أي ناداه طُوًى من الليلة اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ لأنك تقول جئتك بعد طُوًى أي بعد ساعة من الليل والرابع أن يكون المعنى بالوادي المقدس الذي طوى أي بورك فيه مرتين
المسألة الرابعة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو طُوًى بضم الطاء غير منون وقرأ الباقون بضم الطاء منوناً وروي عن أبي عمرو طوى بكسر الطاء وطوى مثل ثنى وهما اسمان للشيء المثنى والطي بمعنى الثني أي ثنيت في البركة والتقديس قال القراء طُوًى واد بين المدينة ومصر فمن صرفه قال هو ذكر سمينا به ذكراً ومن لم يصرفه جعله معدولاً عن جهته كعمر وزفر ثم قال والصرف أحب إلي إذ لم أجد في المعدول نظيراً أي لم أجد اسماً من الواو والياء عدل عن فاعلة إلى فعل غير طُوًى
المسألة الخامسة تقدير الآية إذ ناداه ربه وقال اذهب إلى فرعون وفي قراءة عبدالله أن اذهب لأن في النداء معنى القول وأما أن ذلك النداء كان بإسماع الكلام القديم أو بإسماع الحرف والصوت وإن كان على هذا الوجه فكيف عرف موسى أنه كلام الله فكل ذلك قد تقدم في سورة طه
المسألة السادسة أن سائر الآيات تدل على أنه تعالى في أول ما نادى موسى عليه السلام ذكر له أشياء كثيرة كقوله في سورة طه نُودِى َ يامُوسَى مُوسَى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ إلى قوله لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( طه 24 23 ) فدل ذلك على أن قوله ههنا اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى من جملة ما ناداه(31/36)
به ربه لا أنه كل ما ناداه به وأيضاً ليس الغرض أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى فرعون فقط بل إلى كل من كان في ذلك الطرف إلا أنه خصه بالذكر لأن دعوته جارية مجرى دعوة كل ذلك القوم
المسألة السابعة الطغيان مجاوزة الحد ثم إنه تعالى لم يبين أنه تعدى في أي شيء فلهذا قال بعض المفسرين معناه أنه تكبر على الله وكفر به وقال آخرون إنه طغى على بني إسرائيل والأولى عندي الجمع بين الأمرين فالمعنى أنه طغى على الخالق بأن كفر به وطغى على الخلق بأن تكبر عليهم واستعبدهم وكما أن كمال العبودية ليس إلا صدق المعاملة مع الخالق ومع الخلق فكذا كمال الطغيان ليس إلا الجمع بين سوء المعاملة مع الخالق ومع الخلق
واعلم أنه تعالى لما بعثه إلى فرعون لقنه كلامين ليخاطبه بهما
فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى
فالأول قول تعالى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال هل لك في كذا وهل لك إلى كذا كما تقول هل ترغب فيه وهل ترغب إليه قال الواحدي المبتدأ محذوف في اللفظ مراد في المعنى والتقدير هل لك إلى تزكى حاجة أو إربه قال الشاعر فهل لكم فيها إلي فإنني
بصير بما أعيا النطاسي حذيما
ويحتمل أن يكون التقدير هل لك سبيل إلى أن تزكى
المسألة الثانية الزكي الطاهر من العيوب كلها قال أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً ( الكهف 74 ) وقال قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( الشمس 9 ) وهذه الكلمة جامعة لكل ما يدعوه إليه لأن المراد هل لك إلى أن تفعل ما تصير به زاكياً عن كل مالا ينبغي وذلك بجمع كل ما يتصل بالتوحيد والشرائع
المسألة الثالثة فيه قراءتان التشديد على إدغام تاء التفعل في الزاي لتقاربهما والتخفيف
المسألة الرابعة المعتزلة تمسكوا به في إبطال كون الله تعالى خالقاً لفعل العبد بهذه الآية فإن هذا استفهام على سبيل التقرير أي لك سبيل إلى أن تزكى ولو كان ذلك بفعل الله تعالى لانقلب الكلام على موسى والجواب عن أمثاله تقدم
المسأة الخامسة أنه لما قال لهما فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً ( طه 44 ) فكأنه تعالى رتب لهما ذلك الكلام اللين الرقيق وهذا يدل على أنه لا بد في الدعوة إلى الله من اللين والرفق وترك الغلظة ولهذا قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) ويدل على أن الذين يخاشنون الناس ويبالغون في التعصب كأنهم على ضد ما أمر الله به أنبياءه ورسله
وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى
ثم قال تعالى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى وفيه مسائل(31/37)
المسألة الأولى القائلون بأن معرفة الله لا تستفاد إلا من الهادي تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنها صريحة في أنه يهديه إلى معرفة الله ثم قالوا ومما يدل على أن هذا هو المقصود الأعظم من بعثة الرسل أمران الأول أن قوله هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى يتناول جميع الأمور التي لا بد للمبعوث إليه منها فيدخل فيه هذه الهداية فلما أعاده بعد ذلك علم أنه هو المقصود الأعظم من البعثة والثاني أن موسى ختم كلامه عليه وذلك ينبه أيضاً على أنه أشرف المقاصد من البعثة والجواب أنا لا نمنع أن يكون للتنبيه والإشارة معونة في الكشف عن الحق إنما النزاع في إنكم تقولون يستحيل حصوله إلا من المعلم ونحن لا نحل ذلك
المسألة الثانية دلت الآية على أن معرفة الله مقدمة على طاعته لأنه ذكر الهداية وجعل الخشية مؤخرة عنها ومفرعة عليها ونظيره قوله تعالى في أول النحل أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ ( النحل 2 ) وفي طه إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى ( طه 14 )
المسألة الثالثة دلت الآية على أن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) أي العلماء به ودلت الآية على أن الخشية ملاك الخيرات لأن من خشى الله أتى منه كل خير ومن أمن اجترأ على كل شر ومنه قوله عليه السلام ( من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل )
فَأَرَاهُ الاٌّ يَة َ الْكُبْرَى
وفيه مسألتان
المسألة الأولى الفاء في فَأَرَاهُ معطوف على محذوف معلوم يعني فذهب فأراه كقوله فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ( البقرة 60 ) أي فضرب فانفجرت
المسألة الثانية اختلفوا في الآية الكبرى على ثلاثة أقوال الأول قال مقاتل والكلبي هي اليد لقوله في طه وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء ( النمل 12 ) آية أخرى لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى ( طه 23 ) القول الثاني قال عطاء هي العصا لأنه ليس في اليد إلا انقلاب لونه إلى لون آخر وهذا المعنى كان حاصلاً في العصا لأنها لما انقبلت حية فلا بد وأن يكون قد تغير اللون الأول فإذاً كل ما في اليد فهو حاصل في العصا ثم حصل في العصا أمور أخرى أزيد من ذلك منها حصول الحياة في الجرم الجمادى ومنها تزايد أجزائه وأجسامه ومنها حصول القدرة الكبيرة والقوة الشديدة ومنها أنها كانت ابتلعت أشياء كثيرة وكأنها فنيت ومنها زوال الحياة والقدرة عنها وفناء تلك الأجزاء التي حصل عظمها وزوال ذلك اللون والشكل اللذين بهما صارت العصا حية وكل واحد من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه فعلمنا أن الآية الكبرى هي العصاوالقول الثالث في هذه المسألة قول مجاهد وهو أن المراد من الآية الكبرى مجموع اليد والعصا وذلك لأن سائر الآيات دلت على أن أول ما أظهر موسى عليه السلام لفرعون هو العصا ثم أتبعه باليد فوجب أن يكون المراد من الآية الكبرى مجموعهما(31/38)
فَكَذَّبَ وَعَصَى
أحدها قوله تعالى فَكَذَّبَ وَعَصَى وفيه مسائل
المسألة الأولى معنى قوله فَكَذَّبَ أنه كذب بدلالة ذلك المعجز على صدقه واعلم أن القدح في دلالة المعجزة على الصدق إما لاعتقاد أنه يمكن معارضته أو لأنه وإن امتنعت معارضته لكنه ليس فعلاً لله بل لغيره إما فعل جنى أو فعل ملك أو إن كان فعلاً لله تعالى لكنه ما فعله لغرض التصديق أو إن كان فعله لغرض التصديق لكنه لا يلزم صدق المدعى فإنه لا يقبح من الله شيء ألبتة فهذه مجامع الطعن في دلالة المعجز على الصدق وما بعد الآية يدل على أن فرعون إنما منع من دلالته عن الصدق لاعتقاده أنه يمكن معارضته بدليل قوله فَحَشَرَ فَنَادَى ( النازعات 23 ) وهو كقوله فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( الشعرا 53 )
المسألة الثانية في الآية سؤال وهو أن كل أحد يعلم أن كل من كذب الله فقد عصى فما الفائدة في قوله فَكَذَّبَ وَعَصَى والجواب كذب بالقلب واللسان وعصى بأن أظهر التمرد والتجبر
المسألة الثالثة هذا الذي وصفه الله تعالى به من التكذيب والمعصية مغاير لما كان حاصلاً قبل ذلك لأن تكذيبه لموسى عليها لسلام وقد دعاه وأظهر هذه المعجزة يوفى على ما تقدم من التكذيب ومعصيته بترك القبول منه والحال هذه مخالفة لمعصيته من قبل ذلك
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى
وثانيها قوله ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى وفيه وجوه أحدها أنه لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسعى يسرع في مشيه قال الحسن كان رجلاً طياشاً خفيفاً وثانيها تولى عن موسى يسعى ويجتهد في مكايدته وثالثها أن يكون المعنى ثم أقبل يسعى كما يقال فلان أقبل يفعل كذا بمعنى أنشأ يفعل فوضع أدبر فوضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال
فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاٌّ عْلَى
وثالثها قوله فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى فحشر فجمع السحرة كقوله فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( الشعراء 53 ) فنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه أو أمر منادياً فنادى في الناس بذلك وقيل قام فيهم خطيباً فقال تلك الكلمة وعن ابن عباس كلمته الأولى مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( القصص 38 ) والآخرة أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى
واعلم أنا بينا في سورة ( طه ) أنه لا يجوز أن يعتقد الإنسان في نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض والجبال والنبات والحيوان والإنسان فإن العلم بفساد ذلك ضروري فمن تشكك فيه كان مجنوناً ولو كان مجنوناً لما جاز من الله بعثة الأنبياء والرسل إليه بل الرجل كان دهرياً منكراً للصانع والحشر والنشر وكان يقول ليس لأحد عليكم أمر ولا نهي إلا لي فأنا ربكم بمعنى مربيكم والمحسن إليكم وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمر ونهي أو يبعث إليكم رسولاً قال القاضي وقد كان الأليق به بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية أن لا يقول هذا القول لأن عند ظهور الذلة والعجز كيف يليق أن يقول أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى فدلت هذه الآية على أنه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول(31/39)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاٌّ خِرَة ِ وَالاٍّ وْلَى
واعلم أنه تعالى لما حكى عنه أفعاله وأقواله أتبعه بما عامله به وهو قوله تعالى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاْخِرَة ِ وَالاْوْلَى وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في نصب نكال وجهين الأول قال الزجاج إنه مصدر مؤكد لأن معنى أخذه الله نكل الله به نكال الآخرة والأولى لأن أخذه ونكله متقاربان وهو كما يقال أدعه تركاً شديداً لأن أدعه وأتركه سواء ونظيره قوله إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( هود 102 ) الثاني قال الفراء يريد أخذه الله أخذاً نكالاً للآخرة والأولى والنكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم
المسألة الثانية ذكر المفسرون في هذه الآية وجوهاً أحدها أن الآخرة والأولى صفة لكلمتي فرعون إحداهما قوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( القصص 38 ) والأخرى قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 ) قالوا وكان بينهما أربعون سنة وهذا قول مجاهد والشعبي وسعيد بن جبير ومقاتل ورواية عطاء والكلبي عن ابن عباس والمقصود التنبيه على أنه ما أخذه بكلمته الأولى في الحال بل أمهله أربعين سنة فلما ذكر الثانية أخذ بهما وهذا تنبيه على أنه تعالى يمهل ولا يهمل الثاني وهو قول الحسن وقتادة نَكَالَ الاْخِرَة ِ وَالاْوْلَى أي عذبه في الآخرة وأغرقه في الدنيا الثالث الآخرة هي قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 ) والأولى هي تكذيبه موسى حين أراه الآية قال القفال وهذا كأنه هو الأظهر لأنه تعالى قال فَأَرَاهُ الاْيَة َ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 20 ) فذكر المعصيتين ثم قال فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاْخِرَة ِ وَالاْوْلَى فظهر أن المراد أنه عاتبه على هذين الأمرين
المسألة الثالثة قال الليث ( النكال ) اسم لمن جعل نكالاً لعيره وهو الذي إذا رآه أو بلغه خاف أن يعمل عمله وأصل الكلمة من الامتناع ومنه النكول عن اليمين وقيل للقيد نكل لأنه يمنع فالنكال من العقوبة هو أعظم حتى يمتنع من سمع به عن ارتكاب مثل ذلك الذنب الذي وقع التنكيل به وهو في العرف يقع على ما يفتضح به صاحبه ويعتبر به غيره والله أعلم
إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَة ً لِّمَن يَخْشَى
ثم إنه تعالى ختم هذه القصة بقوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَة ً لّمَن يَخْشَى والمعنى أن فيما اقتصصناه من أمر موسى وفرعون وما أحله الله بفرعون من الخزي ورزق موسى من العلو والنصر عبرة لمن يخشى وذلك أن يدع التمرد على الله تعالى والتكذيب لأنبيائه خوفاً من أن ينزل به ما نزل بفرعون وعلماً بأن الله تعالى ينصر أنبياءه ورسله فاعتبروا معاشر المكذبين لمحمد بما ذكرناه أي اعلموا أنكم إن شاركتموهم في المعنى الجالب للعقاب شاركتموهم في حلول العقاب بكم
أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا
ثم اعلم أنه تعالى لما ختم هذه القصة رجع إلى مخاطبة منكري البعث فقال أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في المقصود من هذا الاستدلال وجهان الأول أنه استدلال على منكري البعث فقال أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا فنبههم على أمر يعلم بالمشاهدة وذلك لأن خلقة الإنسان على صغره(31/40)
وضعفه إذا أضيف إلى خلق السماء على عظمها وعظم أحوالها يسير فبين تعالى أن خلق السماء أعظم وإذا كان كذلك فخلقهم على وجه الإعادة أولى أن يكون مقدوراً لله تعالى فكيف ينكرون ذلك ونظيره قوله أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم وقوله لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر 57 ) والمعنى أخلقكم بعد الموت أشد أم خلق السماء أي عندكم وفي تقديركم فإن كلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة الله واحد والثاني أن المقصود من هذا الاستدلال بيان كونهم مخلوقين وهذا القول ضعيف لوجهين أحدهما أن من أنكر كون الإنسان مخلوقاً فبأن ينكر ( ه ) في السماء كان أولى وثانيهما أن أول السورة كان في بيان مسألة الحشر والنشر فحمل هذا الكلام عليه أولى
المسألة الثانية قال الكسائي والفراء والزجاج هذا الكلام تم عند قوله أَمِ السَّمَاء
ثم قوله تعالى بَنَاهَا ابتداء كلام آخر وعند أبي حاتم الوقف على قوله بَنَاهَا قال لأنه من صلة السماء والتقدير أم السماء التي بناها فحذف التي ومثل هذا الحذف جائز قال القفال يقال الرجل جاءك عاقل أي الرجل الذي جاءك عاقل إذا ثبت أن هذا جائز في اللغة فنقول الدليل على أن قوله بَنَاهَا صلة لما قبله أنه لو لم يكن صلة لكان صفة فقوله بَنَاهَا صفة ثم قوله رَفَعَ سَمْكَهَا ( النازعات 28 ) صفة فقد توالت صفتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى فكان يجب إدخال العاطف فيما بينهما كما في قوله وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا ( النازعات 29 ) فلما لم يكن كذلك علمنا أن قوله بَنَاهَا صلة للسماء ثم قال رَفَعَ سَمْكَهَا ابتداء بذكر صفته وللفراء أن يحتج على قوله بأنه لو كان قوله بَنَاهَا صلة للسماء لكان التقدير أم السماء ( التي ) بناها وهذا يقتضي وجود سماء ما بناها الله وذلك باطل
المسألة الثالثة الذي يدل على أنه تعالى هو الذي بنى السماء وجوه أحدها أن السماء جسم وكل جسم محدث لأن الجسم لو كان أزلياً لكان في الأزل إما أن يكون متحركاً أو ساكناً والقسمان باطلان فالقول بكون الجسم أزلياً باطل أما الحصر فلأنه إما أن يكون مستقراً حيث هو فيكون ساكناً أو لا يكون مستقراً حيث هو فيكون متحركاً وإنما قلنا إنه يستحيل أن يكون متحركاً لأن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير وماهية الأزل تنافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال وإنما قلنا إنه يستحيل أن يكون ساكناً لأن السكون وصف ثبوتي وهو ممكن الزوال وكل ممكن الزوال مفتقر إلى الفاعل المختار وكل ما كان كذلك فهو محدث فكل سكون محدث فيمتنع أن يكون أزلياً وإنما قلنا إن السكون وصف ثبوتي لأنه يتبدل كون الجسم متحركاً بكونه ساكناً مع بقاء ذاته فأحدهما لابد وأن يكون أمراً ثبوتياً فإن كان الثبوتي هو السكون فقد حصل المقصود وأن كان الثبوتي هو الحركة وجب أيضاً أن يكون السكون ثبوتياً لأن الحركة عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان في غيره والسكون عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان فيه بعينه فالتفاوت بين الحركة والسكون ليس في الماهية بل في المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير وذلك وصف عارضي خارجي عن الماهية وإذا كان كذلك فإذا ثبت أن تلك الماهية أمر وجودي في إحدى الصورتين وجب أن تكون كذلك في سورة أخرى وإنما قلنا إن سكون السماء جائز الزوال لأنه لو(31/41)
كان واجباً لذاته لامتنع زواله فكان يجب أن لا تتحرك السماء لكنا نراها الآن متحركة فعلمنا أنها لو كانت ساكنة في الأزل لكان ذلك السكون جائز الزوال وإنما قلنا إن ذلك السكون لما كان ممكناً لذاته افتقر إلى الفاعل المختار لأنه لما كان ممكناً لذاته فلا بد له من مؤثر وذلك المؤثر لا يجوز أن يكون موجباً لأن ذلك الموجب إن كان واجباً وكان غنياً في إيجابه لذلك المعلول عن شرط لزم من دوامه دوام ذلك الأثر فكان يجب أن لا يزول للسكون وإن كان واجباً ومفتقراً في إيجابه لذلك المعلول إلى شرط واجب لذاته لزم من دوام العلة ودوام الشرط دوام المعلول أما إن كان الموجب غير واجب لذاته أو كان شرط إيجابه غير واجب لذاته كان الكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم التسلسل وهو محال أو الإنتهاء إلى موجب واجب لذاته وإلى شرط واجب لذاته وحينئذ يعود الإلزام الأول فثبت أن ذلك المؤثر لا بد وأن يكون فاعلاً مختاراً فإذاً كل سكون فهول فعل فاعل مختار وكل ما كان كذلك فهو محدث لأن المختار إنما يفعل بواسطة القصد والقصد إلى تكوين الكائن وتحصيل الحاصل محال فثبت أن كل سكون فهو محدث فثبت أنه يمتنع أن يكون الجسم في الأزل لا متحركاً ولا ساكناً فهو إذاً غير موجود في الأزل فهو محدث وإذا كان محدثاً افتقر في ذاته وفي تركيب أجزائه إلى موجد وذلك هو الله تعالى فثبت بالعقل أن باني السماء هو الله تعالى
الحجة الثانية كل ما سوى الواجب فهو ممكن وكل ممكن محدث وكل محدث فعل صانع إنما قلنا كل ما سوى الواجب ممكن لأنا لو فرضنا موجودين واجبين لذاتيهما لاشتركا في الوجود ولتباينا بالتعيين فيكون كل منهما مركباً مما به المشاركة ومما به الممايزة وكل مركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته فكل واحد من الواجبين بالذات ممكن بالذات هذا خلف ثم ينقل الكلام إلى ذينك الجزأين فإن كانا واجبين كان كل واحد من تلك الأجزاء مركباً ويلزم التسلسل وإن لم يكونا واجبين كان المفتقر إليهما أولى بعدم الوجود فثبت أن ماعدا الواجب ممكن وكل ممكن فله مؤثر وكل ما افتقر إلى المؤثر محدث لأن الافتقار إلى المؤثر لا يمكن أن يتحقق حال البقاء لاستحالة إيجاد الموجد فلا بد وأن يكون إما حال الحدوث أو حال العدم وعلى التقديرين فالحدوث لازم فثبت أن ما سوى الواجب محدث وكل محدث فلا بد له من محدث فلا بد للسماء من بان
الحجة الثالثة صريح العقل يشهد بأن جرم السماء لا يمتنع أن يكون أكبر مما هو الآن بمقدار خردلة ولا يمتنع أن يكون أصغر بمقدار خردلة فاختصاص هذا المقدار بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا بد وأن يكون بمخصص فثبت أنه لا بد للسماء من بان فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى خلق شيئاً وأعطاه قدرة يتمكن ذلك المخلوق بتلك القدرة من خلق الأجسام فيكون خالق السماء وبانيها هو ذلك الشيء الجواب من العلماء من قال المعلوم بالعقل أنه لا بد للسماء من محدث وأنه لا بد من الانتهاء آخر الأمر إلى قديم والإله قديم واجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى فأما نفي الواسطة فإنما يعلم بالسمع فقوله في هذه الآية بَنَاهَا يدل على أن باني السماء هو الله لا غيره ومنهم من قال بل العقل يدل على بطلانه لأنه لما ثبت أن كل ما عداه محدث ثبت أنه قادر لا موجب والذي كان مقدوراً له إنما صح كونه مقدوراً له بكونه ممكناً فإنك لو رفعت الإمكان بقي الوجوب أو الامتناع وهما يحيلان المقدورية وإذا كان(31/42)
ما لأجله صح في البعض أن يكون مقدوراً لله وهو الإمكان والإمكان عام في الممكنات وجب أن يحصل في كل الممكنات صحة أن تكون مقدورة لله تعالى وإذا ثبت ذلك ونسبة قدرته إلى الكل على السوية وجب أن يكون قادراً على الكل وإذا ثبت أن الله قادر على الممكنات فلو قدرنا قادراً آخر قدر على بعض الممكنات لزم وقوع مقدور واحد بين قادرين من جهة واحدة وذلك محال لأنه إما أن يقع بأحدهما دون الآخر وهو محال لأنهما لما كانا مستقلين بالاقتضاء فليس وقوعه بهذا أولى من وقوعه بذاك أو بهما معاً وهو أيضاً محال لأنه يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجاً إليهما معاً وغنياً عنهما معاً وهو محال فثبت بهذا أنه لا يمكن وقوع ممكن آخر بسبب آخر سوى قدرة الله تعالى وهذا الكلام جيد لكن على قول من لا يثبت في الوجود مؤثراً سوى الواحد فهذا جملة ما في هذا الباب
واعلم أنه تعالى لما بين في السماء أنه بناها بين بعد ذلك أنه كيف بناها وشرح تلك الكيفية من وجوه
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا
أولها ما يتعلق بالمكان فقال تعالى رَفَعَ سَمْكَهَا
واعلم أن امتداد الشيء إذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمي عمقاً وإذا أخذ من أسفله إلى أعلاه سمي سمكاً فالمراد برفع سمكها شدة علوها حتى ذكروا أن ما بين الأرض وبينها مسيرة خمسمائة عام و ( قد ) بين أصحاب الهيئة مقادير الأجرام الفلكية وأبعاد ما بين كل واحد منها وبين الأرض وقال آخرون بل المراد رفع سمكها من غير عمد وذلك مما لا يصح إلا من الله تعالى
الصفة الثانية قوله تعالى فَسَوَّاهَا وفيه وجهان الأول المراد تسوية تأليفها وقيل بل المراد نفي الشقوق عنها كقوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ( الملك 3 ) والقائلون بالقول الأول قالوا فَسَوَّاهَا عام فلا يجوز تخصيصه بالتسوية في بعض الأشياء ثم قال هذا يدل على كون السماء كرة لأنه لو لم يكن كرة لكان بعض جوانبه سطحاً والبعض زاوية والبعض خطاً ولكان بعض أجزائه أقرب إلينا والبعض أبعد فلا تكون التسوية الحقيقة حاصلة فوجب أن يكون كرة حتى تكون التسوية الحقيقة حاصلة ثم قالوا لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرة
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا
الصفة الثالثة قوله تعالى وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى أغطش قد يجيء لازماً يقال أغطش الليل إذا صار مظلماً ويجيء متعدياً يقال أغطشه الله إذا جعله مظلماً والغطش الظلمة والأغطش شبه الأعمش ثم ههنا سؤال وهو أن الليل اسم لزمان الظلمة الحاصلة بسبب غروب الشمس فقوله وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا يرجع معناه إلى أنه جعل المظلم مظلماً وهو بعيد والجواب معناه أن الظلمة الحاصلة في ذلك الزمان إنما حصلت بتدبير الله وتقديره وحيئنذ لا يبقى الإشكال(31/43)
المسألة الثانية قوله وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا أي أخرج نهاراً وإنما عبر عن النهار بالضحى لأن الضحى أكمل أجزاء النهار في النور والضوء
المسألة الثالثة إنما أضاف الليل والنهار إلى السماء لأن الليل والنهار إنما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها ثم غروبها وطلوعها إنما يحصلان بسبب حركة الفلك فلهذا السبب أضاف الليل والنهار إلى السماء ثم إنه تعالى لما وصف كيفية خلق السماء أتبعه بكيفية خلق الأرض وذلك من وجوه
وَالاٌّرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
الصفة الأولى قوله تعالى وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى دحاها بسطها قال زيد بن عمرو بن نفيل دحاها فلما رآها استوت
على الماء أرسى عليها الجبالا
وقال أمية بن أبي الصامت دحوت البلاد فسويتها
وأنت على طيها قادر
قال أهل اللغة في هذه اللفظة لغتان دحوت أدحو ودحيت أدحى ومثله صفوت وصفيت ولحوت العود ولحيته وسأوت الرجل وسأيته وبأوت عليه وبأيت وفي حديث علي عليه السلام ( اللهم داحى المدحيات ) أي باسط الأرضين السبع وهو المدحوات أيضاً وقيل أصل الدحو الإزالة للشيء من مكان إلى مكان ومنه يقال إن الصبي يدحو بالكرة أي يقذفها على وجه الأرض وأدحى النعامة موضعه الذي يكون فيه أي بسطته وأزلت ما فيه من حصى حتى يتمهد له وهذا يدل على أن معنى الدحو يرجع إلى الإزالة والتمهيد
المسألة الثانية ظاهر الآية يقتضي كون الأرض بعد السماء وقوله في حم السجدة ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ( فصلت 11 ) يقتضي كون السماء بعد الأرض وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ( البقرة 29 ) ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الوجوه أحدها أن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثانياً ثم دحى الأرض أي بسطها ثالثاً وذلك لأنها كانت أولاً كالكرة المجتمعة ثم إن الله تعالى مدها وبسطها فإن قيل الدلائل الاعتبارية دلت على أن الأرض الآن كرة أيضاً وإشكال آخر وهو أن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي فيستحيل أن يكون هذا الجسم مخلوقاً ولا يكون ظاهره مدحواً مبسوطاً وثانيها أن لا يكون معنى قوله دَحَاهَا مجرد البسط بل يكون المراد أنه بسطها بسطاً مهيأ لنبات الأقوات وهذا هو الذي بينه بقوله أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ( النازعات 31 ) وذلك لأن هذا الاستعداد لا يحصل للأرض إلا بعد وجود السماء فإن الأرض كالأم والسماء كالأب وما لم يحصلا لم تتولد أولاً المعادن والنباتات والحيوانات وثالثها أن يكون قوله وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ أي مع ذلك كقوله عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ( القلم 13 ) أي مع ذلك وقولك للرجل أنت كذا وكذا ثم أنت بعدها كذا لا تريد به الترتيب وقال تعالى فَكُّ رَقَبَة ٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ إلى قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 ) والمعنى وكان مع هذا من أهل الإيمان بالله فهذا تقرير ما نقل عن ابن عباس ومجاهد والسدي وابن جريج أنهم قالوا في قوله وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أي مع ذلك دحاها(31/44)
المسألة الثالثة لما ثبت أن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثانياً ثم دحى الأرض بعد ذلك ثالثاً ذكروا في تقدير تلك الأزمنة وجوهاً روي عن عبد الله بن عمر ( خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ومنه دحيت الأرض ) واعلم أن الرجوع في أمثال هذه الأشياء إلى كتب الحديث أولى
أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا
الصفة الثانية قوله تعالى أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى ماؤها عيونها المتفجرة بالماء ومرعاها رعيها وهو في الأصل موضع الرعي ونصب الأرض والجبال بإضمار دحا وأرسى على شريطة التفسير وقرأهما الحسن مرفوعين على الابتداء فإن قيل هلا أدخل حرف العطف على أخرج قلنا لوجهين الأول أن يكون معنى دحاها بسطها ومهدها للسكنى ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المشارب والمآكل وإمكان القرار عليها بإخراج الماء والمرعى وإرساء الجبال وإثباتها أوتاداً لها حتى تستقر ويستقر عليها والثاني أن يكون أَخْرَجَ حالاً والتقدير والأرض بعد ذلك دحاها حال ما أخرج منها ماء ومرعاها
المسألة الثانية أراد بمرعاها ما يأكل الناس والأنعام ونظيره قوله في النحل أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ( النحل 10 ) وقال في سورة أخرى أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاْرْضَ شَقّاً إلى قوله مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَامِكُمْ ( عبس 32 25 ) فكذا في هذه الآية واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ( يوسف 12 ) وقرىء نرتع من الرعي ثم قال ابن قتيبة قال تعالى وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 ) فانظر كيف دل بقوله مَاءهَا وَمَرْعَاهَا على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام من العشب والشجر والحب والثمر والعصف والحطب واللباس والدواء حتى النار والملح أما النار فلا شك أنها من العيدان قال تعالى أَفَرَءيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ نَحْنُ ( الواقعة 72 71 ) وأما الملح فلا شك أنه متولد من الماء وأنت إذا تأملت علمت أن جميع ما يتنزه به الناس في الدنيا ويتلذذون به فأصله الماء والنبات ولهذا السبب تردد في وصف الجنة ذكرهما فقال جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( البقرة 25 ) ثم الذي يدل على أنه تعالى أراد بالمرعى كل ما يأكله الناس والأنعام قوله في آخر هذه الآية مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَامِكُمْ ( النازعات 33 )
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَامِكُمْ
الصفة الثالثة قوله تعالى وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا والكلام في شرح منافع الجبال قد تقدم
ثم إنه تعالى لما بين كيفية خلقه الأرض وكمية منافعها قال مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَامِكُمْ والمعنى أنا إنما خلقنا هذه الأشياء متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم واحتج به من قال إن أفعال الله وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح والكلام فيه قد مر غير مرة واعلم أنا بينا أنه تعالى إنما ذكر كيفية خلقة السماء والأرض ليستدل بها على كونه قادراً على الحشر والنشر فلما قرر ذلك وبين إمكان الحشر عقلاً أخبر بعد ذلك عن وقوعه(31/45)
فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّة ُ الْكُبْرَى
وفيه مسألتان
المسألة الأولى الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع وفي اشتقاقها وجوه قال المبرد أخذت فيما أحسب من قولهم طم الفرس طميماً إذا استفرغ جهده في الجري وطم الماء إذا ملأ النهر كله وقال الليث الطم طم البئر بالتراب وهو الكبس ويقال طم السيل الركية إذا دفنها حتى يسويها ويقال للشيء الذي يكبر حتى يعلو قد طم والطامة الحادثة التي تطم على ما سواها ومن ثم قيل فوق كل طامة طامة قال القفال أصل الطم الدفن والعلو وكل ما غلب شيئاً وقهره وأخفاه فقد طمه ومنه الماء الطامي وهو الكثير الزائد والطاغي والعاتي والعادي سواء وهو الخارج عن أمر الله تعالى المتكبر فالطامة اسم لكل داهية عظيمة ينسى ما قبلهافي جنبها
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى
المسألة الثانية قد ظهر بما ذكرنا أن معنى الطامة الكبرى الداهية الكبرى ثم اختلفوا في أنها أي شيء هي فقال قوم إنها يوم القيامة لأنه يشاهد فيه من النار ومن الموقف الهائل ومن الآيات الباهرة الخارجة عن العادة ما ينسى معه كل هائل وقال الحسن إنها هي النفخة الثانية التي عندها تحشر الخلائق إلى موقف القيامة وقال آخرون إنه تعالى فسر الطامة الكبرى بقوله تعالى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فالطامة تكون اسماً لذلك الوقت فيحتمل أن يكون ذلك الوقت وقت قراءة الكتاب على ما قال تعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ( الإسراء 13 ) ويحتمل أن تكون تلك الساعة هي الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ثم إنه تعالى وصف ذلك اليوم بوصفين
الأول قوله تعالى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى يعني إذا رأى أعماله مدونة في كتابه تذكرها وكان قد نسيها كقوله أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( المجادلة 6 )
الصفة الثانية قوله تعالى وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله تعالى لِمَن يَرَى أي أنها تظهر إظهاراً مكشوفاً لكل ناظر ذي بصر ثم فيه وجهان أحدهما أنه استعارة في كونه منكشفاً ظاهراً كقولهم تبين الصبح لذي عينين
وعلى هذا التأويل لا يجب أن يراه كل أحد والثاني أن يكون المراد أنها برزت ليراها كل من له عين وبصر وهذا يفيد أن كل الناس يرونها من المؤمنين والكفار إلا أنها مكان الكفار ومأواهم والمؤمنون يمرون عليها وهذا التأويل متأكد بقوله تعالى وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا إلى قوله ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ ( مريم 72 71 ) فإن قيل إنه تعالى قال في سورة الشعراء وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ(31/46)
( الشعراء 91 90 ) فخص الغاوين بتبريرها لهم قلنا إنها برزت للغاوين والمؤمنون يرونها أيضاً في الممر ولا منافاة بين الأمرين
المسألة الثانية قرأ أبو نهيك وَبُرّزَتِ وقرأ ابن مسعود لمن رأى وقرأ عكرمة لمن ترى والضمير للجحيم كقوله إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ( الفرقان 12 ) وقيل لمن ترى يا محمد من الكفار الذين يؤذونك
واعلم أنه تعالى لما وصف حال القيامة في الجملة قسم المكلفين قسمين الأشقياء والسعداء فذكر حال الأشقياء
فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِى َ الْمَأْوَى
وفيه مسائل
المسألة الأولى في جواب قوله فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّة ُ الْكُبْرَى ( النازعات 34 ) وجهان الأول قال الواحدي إنه محذوف على تقدير إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة ودلى على هذا المحذوف ما ذكر في بيان مأوى الفريقين ولهذا كان يقول مالك بن معول في تفسير الطامة الكبرى قال إنها إذا سبق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار والثاني أن جوابه قوله فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِى َ الْمَأْوَى وكأنه جزاء مركب على شرطين نظيره إذا جاء الغد فمن جاءني سائلاً أعطيته كذا ههنا أي إذا جاءت الطامة الكبرى فمن جاء طاغياً فإن الجحيم مأواه
المسألة الثانية منهم من قال المراد بقوله طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا النضر وأبوه الحارث فإن كان المراد أن هذه الآية نزلت عند صدور بعض المنكرات منه فجيد وإن كان المراد تخصيصها به فبعيد لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لا سيما إذا عرف بضرورة العقل أن الموجب لذلك الحكم هو الوصف المذكور
المسألة الثالثة قوله صغى إشارة إلى فساد حال القوة النظرية لأن كل من عرف الله عرف حقارة نفسه وعرف استيلاء قدرة الله عليه فلا يكون له طغيان وتكبر وقوله وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا إشارة إلى فساد حال القوة العملية وإنما ذكر ذلك لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) ومتى كان الإنسان والعياذ بالله موصوفاً بهذين الأمرين كان بالغاً في الفساد إلى أقصى الغايات وهو الكافر الذي يكون عقابه مخلداً وتخصيصه بهذه الحالة يدل على أن الفاسق الذي لا يكون كذلك لا تكون الجحيم مأوى له
المسألة الرابعة تقدير الآية فإن الجحيم هي المأوى له ثم حذفت الصلة لوضوح المعنى كقولك للرجل غض الطرف أي غض طرفك وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير فأن الجحيم هي المأوى اللائق بمن كان موصوفاً بهذه الصفات والأخلاق
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى
ثم ذكر تعالى حال السعداء فقال تعالى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى(31/47)
واعلم أن هذين الوصفين مضادات للوصفين اللذين وصف الله أهل النار بهما فقوله وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ ضد قوله فَأَمَّا مَن طَغَى ( النازعات 17 ) وقوله وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ضد قوله وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا ( النازعات 38 ) واعلم أن الخوف من الله لا بد وأن يكون مسبوقاً بالعلم بالله على ما قال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) ولما كان الخوف من الله هو السبب المعين لدفع الهوى لا جرم قدم العلة على المعلول وكما دخل في ذينك الصفتين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات والحسنات وقيل الآيتان نزلتا في أبي عزيز بن عمير ومصعب بن عمير وقد قتل مصعب أخاه أبا عزيز يوم أحد ووقى رسول الله بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ
واعلم أنه تعالى لما بين بالبرهان العقلي إمكان القيامة ثم أخبر عن وقوعها ثم ذكر أحوالها العامة ثم ذكر أحوال الأشقياء والسعداء فيها قال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا
واعلم أن المشركين كانوا يسمعون إثبات القيامة ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل أنها طامة وصاخة وقارعة فقالوا على سبيل الاستهزاء أَيَّانَ مُرْسَاهَا فيحتمل أن يكون ذلك على سبيل الإيهام لأتباعهم أنه لا أصل لذلك ويحتمل أنهم كانوا يسألون الرسول عن وقت القيامة استعجالاً كقوله يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ( الشورى 18 ) ثم في قوله مُرْسَاهَا قولان أحدهما متى إرساؤها أي إقامتها أرادوا متى يقيمها الله ويوجدها ويكونها والثاني أَيَّانَ منتهاها ومستقرها كما أن مرسى السفينة مستقرها حيث تنتهي إليه
ثم إن الله تعالى أجاب عنه بقوله تعالى فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا وفيه وجهان الأول معناه في أي شيء أنت عن تذكر وقتها لهم وتبين ذلك الزمان المعين لهم ونظيره قول القائل إذا سأله رجل عن شيء لا يليق به ما أنت وهذا وأي شيء لك في هذا وعن عائشة ( لم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآية ) فهو على هذا تعجيب من كثرة ذكره لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها والمعنى أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها
ثم قال تعالى إِلَى رَبّكَ مُنتَهَاهَا أي منتهى علمها لم يؤته أحداً من خلقه الوجه الثاني قال بعضهم فِيمَ إنكار لسؤالهم أي فيم هذا السؤال ثم قيل أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا أي أرسلك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل ذاكراً من أنواع علاماتها وواحداً من أقسام أشراطها فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ووجوب الاستعداد لها ولا فائدة في سؤالهم عنها
إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا
ثم قال تعالى إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا وفيه مسائل(31/48)
المسألة الأولى معنى الآية أنك إنما بعثت للإنذار وهذا المعنى لا يتوقف على علمك بوقت قيام القيامة بل لو أنصفنا لقلنا بأن الإنذار والتخويف إنما يتمان إذا لم يكن العلم بوقت قيام القيامة حاصلاً
المسألة الثانية أنه عليه الصلاة والسلام منذر للكل إلا أنه خص بمن يخشى لأنه الذي ينتفع بذلك الإنذار
المسألة الثالثة قرىء منذر بالتنوين وهو الأصل قال الزجاج مفعل وفاعل إذا كان كل واحد منهما لمايستقبل أو للحال ينون لأنه يكون بدلاً من الفعل والفعل لا يكون إلا نكرة ويجوز حذف التنوين لأجل التخفيف وكلاهما يصلح للحال والاستقبال فإذا أريد الماضي فلا يجوز إلا الإضافة كقوله هو منذر زيد أمس
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّة ً أَوْ ضُحَاهَا
ثم قال تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّة ً أَوْ ضُحَاهَا وتفسير هذه الآية قد مضى ذكره في قوله كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَة ً مّن نَّهَارٍ ( الاحقاف 35 ) والمعنى أن ما أنكروه سيرونه حتى كأنهم أبداً فيه وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار ثم مضت فَانٍ قِيلَ قوله أَوْ ضُحَاهَا معناه ضحى العشية وهذا غير معقول لأنه ليس للعشية ضحى قُلْنَا الجواب عنه من وجوه أحدها قال عطاء عن ابن عباس الهاء والألف صلة للكلام يريد لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى وثانيها قال الفراء والزجاج المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافتها إلى يوم العشية كأنه قيل إلا عشية أو ضحى يومها والعرب تقول آتيك العشية أو غداتها على ما ذكرنا وثالثها أن النحويين قالوا يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالضحى المتقدم على عشية يصح أن يقال إنه ضحى تلك العشية وزمان المحنة قد يعبر عنه بالعشية وزمان الراحة قد يعبر عنه بالضحى فالذين يحضرون في موقف القيامة يعبرون عن زمان محنتهم بالعشية وعن زمان راحتهم بضحى تلك العشية فيقولون كأن عمرنا في الدنيا ما كان إلا هاتين الساعتين والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(31/49)
سورة عبس
وهي أربعون وآيتان مكية
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَآءَهُ الاٌّ عْمَى
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ابن أم مكتوم وأم مكتوم أم أبيه واسمه عبدالله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤى وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقرئني وعلمني مما علمك الله وكرر ذلك فكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت هذه الآية وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكرمه ويقول إذا رآه ( مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ) ويقول هل لك من حاجة واستخلفه على المدينة مرتين وفي الموضع سؤالات
الأول أن ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر فكيف عاتب الله رسوله على أن أدب ابن أم مكتوم وزجره وإنما قلنا إنه كان يستحق التأديب لوجوه أحدها أنه وإن كان لفقد بصره لا يرى القوم لكنه لصحة سمعه كان يسمع مخاطبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أولئك الكفار وكان يسمع أصواتهم أيضاً وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشأنهم فكان إقدامه على قطع كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإلقاء غرض نفسه في البين قبل تمام غرض النبي إيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام وذلك معصية عظيمة وثانيها أن الأهم مقدم على المهم وهو كان قد أسلم وتعلم ما كان يحتاج إليه من أمر الدين أما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا وهو إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم فإلقاء ابن أم مكتوم ذلك الكلام في البين كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل وذلك محرم وثالثها أنه تعالى قال إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( الحجرات 4 ) فنهاهم عن مجرد النداء إلا في الوقت فههنا هذا(31/50)
النداء الذي صار كالصارف للكفار عن قبول الإيمان وكالقاطع على الرسول أعظم مهماته أولى أن يكون ذنباً ومعصية فثبت بهذا أن الذي فعله ابن أم مكتوم كان ذنباً ومعصية وأن الذي فعله الرسول كان هو الواجب وعند هذا يتوجه السؤال في أنه كيف عاتبه الله تعالى على ذلك الفعل
السؤال الثاني أنه تعالى لما عاتبه على مجرد أنه عبس في وجهه كان تعظيماً عظيماً من الله سبحانه لابن أم مكتوم وإذا كان كذلك فكيف يليق بمثل هذا التعظيم أن يذكره باسم الأعمى مع أن ذكر الإنسان بهذا الوصف يقتضي تحقير شأنه جداً
السؤال الثالث الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام كان مأذوناً في أن يعامل أصحابه على حسب ما يراه مصلحة وأنه عليه الصلاة والسلام كثيراً ما كان يؤدب أصحابه ويزجرهم عن أشياء وكيف لا يكون كذلك وهو عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليؤدبهم وليعلمهم محاسن الآداب وإذا كان كذلك كان ذلك التعبيس داخلاً في إذن الله تعالى إياه في تأديب أصحابه وإذا كان ذلك مأذوناً فيه فكيف وقعت المعاتبة عليه فهذا جملة ما يتعلق بهذا الموضع من الإشكالات والجواب عن السؤال الأول من وجهين الأول أن الأمر وإن كان على ما ذكرتم إلا أن ظاهر الواقعة يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وانكسار قلوب الفقراء فلهذا السبب حصلت المعاتبة ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ ( الأنعام 52 ) والوجه الثاني لعل هذا العتاب لم يقع على ما صدر من الرسول عليه الصلاة والسلام من الفعل الظاهر بل على ما كان منه في قلبه وهو أن قلبه عليه الصلاة والسلام كان قد مال إليهم بسبب قرابتهم وشرفهم وعلو منصبهم وكان ينفر طبعه عن الأعمى بسبب عماه وعدم قرابته وقلة شرفه فلما وقع التعبيس والتولي لهذه الداعية وقعت المعاتبة لا على التأديب بل على التأديب لأجل هذه الداعية والجواب عن السؤال الثاني أن ذكره بلفظ الأعمى ليس لتحقير شأنه بل كأنه قيل إنه بسبب عماه استحق مزيد الرفق والرأفة فكيف يليق بك يا محمد أن تخصه بالغلظة والجواب عن السؤال الثالث أنه كان مأذوناً في تأديب أصحابه لكن ههنا لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وكان ذلك مما يوهم ترجيح الدنيا على الدين فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة
المسألة الثانية القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بهذه الآية وقالوا لما عاتبه الله في ذلك الفعل دل على أن ذلك الفعل كان معصية وهذا بعيد فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين لا بحسب هذا الاعتبار الواحد وهو أنه يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وذلك غير لائق بصلابة الرسول عليه الصلاة والسلام وإذا كان كذلك كان ذلك جارياً مجرى ترك الاحتياط وترك الأفضل فلم يكن ذلك ذنباً ألبتة
المسألة الثالثة أجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى هو الرسول عليه الصلاة والسلام وأجمعوا ( على ) أن الأعمى هو ابن أم مكتوم وقرىء عبس بالتشديد للمبالغة ونحوه كلح في كلح أن جاءه منصوب بتولى أو بعبس على اختلاف المذهبين في إعمال الأقرب أو الأبعد ومعناه عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك وقرىء أن جاءه بهمزتين وبألف بينهما وقف على عَبَسَ وَتَوَلَّى ثم ابتدأ على معنى ألآن جاءه الأعمى والمراد منه الإنكار عليه واعلم أن في الأخبار عما فرط من رسول الله ثم الإقبال عليه(31/51)
بالخطاب دليل على زيادة الإنكار كمن يشكو إلى الناس جانياً جنى عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجهاً بالتوبيخ وإلزام الحجة
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى
فيه قولان الأول أي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى لعله يتطهر بما يتلقن منك من الجهل أو الإثم أو يتعظ فتنفعه ذكراك أي موعظتك فتكون له لطفاً في بعض الطاعات وبالجملة فلعل ذلك العلم الذي يتلقفه عنك يطهره عن بعض مالا ينبغي وهو الجهل والمعصية أو يشغله ببعض ما ينبغي وهو الطاعة الثاني أن الضمير في لعله للكافر بمعنى أنت طمعت في أن يزكى الكافر بالإسلام أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق وَمَا يُدْرِيكَ أن ما طمعت فيه كائن وقرىء فتنفعه بالرفع عطفاً على يذكر وبالنصب جواباً للعل كقوله فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى ( غافر 37 ) وقد مر
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى
ثم قال أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى قال عطاء يريد عن الإيمان وقال الكلبي استغنى عن الله وقال بعضهم استغنى أثرى وهو فاسد ههنا لأن إقبال النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى فأنت تقبل عليه ولأنه قال وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى ( عبس 9 8 ) ولم يقل وهو فقير عديم ومن قال أما من استغنى بماله فهو صحيح لأن المعنى أنه استغنى عن الإيمان والقرآن بماله من المال
فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى
قال الزجاج أي أنت تقبل عليه وتتعرض له وتميل إليه يقال تصدى فلان لفلان يتصدى إذا تعرض له والأصل فيه تصدد يتصدى من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك وقد ذكرنا مثل هذا من قوله إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَة ً ( الأنفال 35 ) وقرىء تصدى بالتشديد بإدغام التاء في الصاد وقرأ أبو جعفر تصدى بضم التاء أي تعرض ومعناه يدعوك ( داع إلى ) التصدي له من الحرص والتهالك على إسلامه
وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى
ثم قال تعالى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى المعنى لا شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام فإنه ليس عليك إلا البلاغ أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم
وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى
ثم قال وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى أن يسرع في طلب الخير كقوله فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ الجمعة 9 )
وقوله وَهُوَ يَخْشَى فيه ثلاثة أوجه يخشى الله ويخافه في أن لا يهتم بأداء تكاليفه أو يخشى(31/52)
الكفار وأذاهم في إتيانك أو يخشى الكبوة فإنه كان أعمى وما كان له قائد
فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى
( ثم قال ) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تتشاغل من لهى عن الشيء والتهى وتلهى وقرأ طلحة بن مصرف تتلهى وقرأ أبو جعفر تَلَهَّى أي يلهيك شأن الصناديد فإن قيل قوله فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كان فيه اختصاصاً قلنا نعم ومعناه إنكار التصدي والتلهي عنه أي مثلك خصوصاً لا ينبغى أن يتصدى للغني ويتلهى عن الفقير
كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَة ٌ
ثم قال كَلاَّ وهو ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله قال الحسن لما تلا جبريل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآيات عاد وجهه كأنما أسف الرماد فيه ينتظر ماذا يحكم الله عليه فلما قال كَلاَّ سرى منه أي لا تفعل مثل ذلك وقد بينا نحن أن ذلك محمول على ترك الأولى
ثم قال إِنَّهَا تَذْكِرَة ٌ وفيه سؤالان
الأول قوله أَنَّهَا ضمير المؤنث وقوله فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( عبس 12 ) ضمير المذكر والضميران عائدان إلى شيء واحد فكيف القول فيه الجواب وفيه وجهان الأول أن قوله أَنَّهَا ضمير المؤنث قال مقاتل يعني آيات القرآن وقال الكلبي يعني هذه السورة وهو قول الأخفش والضمير في قوله فَمَن شَاء ذَكَرَهُ عائد إلى التذكرة أيضاً لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ الثاني قال صاحب ( النظم ) إِنَّهَا تَذْكِرَة ٌ يعني به القرآن والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة أخرجه على لفظ التذكرة ولو ذكَّره لجاز كما قال في موضع آخر كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَة ٌ ( المدثر 54 ) والدليل على أن قوله إِنَّهَا تَذْكِرَة ٌ المراد به القرآن قوله فَمَن شَاء ذَكَرَهُ
السؤال الثاني كيف اتصال هذه الآية بما قبلها الجواب من وجهين الأول كأنه قيل هذا التأديب الذي أوحيته إليك وعرفته لك في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا أثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة الثاني كأنه قيل هذا القرآن قد بلغ في العظمة إلى هذا الحد العظيم فأي حاجة به إلى أن يقبله هؤلاء الكفار فسواء قبلوه أو لم يقبلوه فلا تلتفت إليهم ولا تشغل قلبك بهم وإياك وأن تعرض عمن آمن به تطييباً لقلب أرباب الدنيا
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَة ٍ مَّرْفُوعَة ٍ مُّطَهَّرَة ٍ
قوله فَمَن شَاء ذَكَرَهُ أي هذه تذكرة بينة ظاهرة بحيث لو أرادوا فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها لقدروا عليه والثاني قوله فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَة ٍ أي تلك التذكرة معدة في هذه الصحف المكرمة والمراد من ذلك تعظيم حال القرآن والتنويه بذكره والمعنى أن هذه التذكرة مثبتة في صحف والمراد من الصحف قولان الأول أنها صحف منتسخة(31/53)
من اللوح مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار مطهر عن أيدي الشياطين أو المراد مطهرة بسبب أنها لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة
بِأَيْدِى سَفَرَة ٍ كِرَامٍ بَرَرَة ٍ
ثم قال تعالى بِأَيْدِى سَفَرَة ٍ كِرَامٍ بَرَرَة ٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن الله تعالى وصف الملائكة بثلاثة أنواع من الصفات
أولها أنهم سفرة وفيه قولان الأول قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وقتادة هم الكتبة من الملائكة قال الزجاج السفرة الكتبة واحدها سافر مثل كتبة وكاتب وإنما قيل للكتبة سفرة وللكاتب سافر لأن معناه أنه الذي يبين الشيء ويوضحه يقال سفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها القول الثاني وهو اختيار الفراء أن السفرة ههنا هم الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله وبين رسله واحدها سافر والعرب تقول سفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح به بين القوم وأنشدوا وما أدع السفارة بين قومي
وما أمشى بغش إن مشيت
واعلم أن أصل السفارة من الكشف والكاتب إنما يسمى سافراً لأنه يكشف والسفير إنما سمي سفيراً أيضاً لأنه يكشف وهؤلاء الملائكة لما كانوا وسايط بين الله وبين البشر في البيان والهداية والعلم لا جرم سموا سفرة
الصفة الثانية لهؤلاء الملائكة أنهم كِرَامٍ قال مقاتل كرام على ربهم وقال عطاء يريد أنهم يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع وعند قضاء الحاجة
الصفة الثانية أنهم بَرَرَة ٍ قال مقاتل مطيعين وبررة جمع بار قال الفراء لا يقولون فعلة للجمع إلا والواحد منه فاعل مثل كافر وكفرة وفاجر وفجرة القول الثاني في تفسير الصحف أنها هي صحف الأنبياء لقوله إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى الأعلى 18 ) يعني أن هذه التذكرة مثبتة في صحف الأنبياء المتقدمين والسفرة الكرام البررة هم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل هم القراء
المسألة الثانية قوله تعالى مُّطَهَّرَة ٍ بِأَيْدِى سَفَرَة ٍ يقتضي أن طهارة تلك الصحف إنما حصلت بأيدي هؤلاء السفرة فقال القفال في تقريره لما كان لا يمسها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يسمها
قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب عباده المؤمنين من ذلك فكأنه قيل وأي سبب في هذا العجب والترفع مع أن أوله نطفة(31/54)
قذوة وآخره جيفة مذرة وفيها بين الوقتين حمال عذرة فلا جرم ذكر تعالى ما يصلح أن يكون علاجاً لعجبهم وما يصلح أن يكون علاجاً لكفرهم فإن خلقة الإنسان تصلح لأن يستدل بها على وجود الصانع ولأن يستدل بها على القول بالبعث والحشر والنشر
المسألة الثانية قال المفسرون نزلت الآية في عتبة بن أبي لهب وقال آخرون المراد بالإنسان الذين أقبل الرسول عليهم وترك ابن أم مكتوم بسببهم وقال آخرون بل المراد ذم كل غني ترفع على فقير بسبب الغنى والفقر والذي يدل على ذلك وجوه أحدها أنه تعالى ذمهم لترفعهم فوجب أن يعم الحكم بسبب عموم العلة وثانيها أنه تعالى زيف طريقتهم بسبب حقارة حال الإنسان في الابتداء والانتهاء على ما قال مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ( عبس 21 19 ) وعموم هذا الزجر يقتضي عموم الحكم وثالثها وهو أن حمل اللفظ على هذا الوجه أكثر فائدة واللفظ محتمل له فوجب حمله عليه
المسألة الثالثة قوله تعالى قُتِلَ الإِنسَانُ دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم لأن القتل غاية شدائد الدنيا وما أكفره تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله فقوله قُتِلَ الإِنسَانُ تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب وقوله مَا أَكْفَرَهُ تنبيه على أنواع القبائح والمنكرات فإن قيل الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز والقادر على الكل كيف يليق به ذاك والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء فالعالم بالكل كيف يليق به ذاك الجواب أن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب وتحقيقة ما ذكرنا أنه تعالى بين أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب لأجل أنهم أتوا بأعظم أنواع القبائح واعلم أن لكل محدث ثلاث مراتب أوله ووسطه وآخره وأنه تعالى ذكر هذه المراتب الثلاثة للإنسان
مِنْ أَى ِّ شَى ْءٍ خَلَقَهُ
أما المرتبة الأولى فهي قوله مِنْ أَى ّ شَى ْء خَلَقَهُ وهو استفهام وغرضه زيادة التقرير في التحقير
مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ
ثم أجاب عن ذلك الاستفهام بقوله مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ ولا شك أن النطفة شيء حقير مهين والغرض منه أن من كان أصله ( من ) مثل هذا الشيء الحقير فالنكير والتجبر لا يكون لائقاً به
ثم قال فَقَدَّرَهُ وفيه وجوه أحدها قال الفراء قدره أطواراً نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه وذكراً أو أنثى وسعيداً أو شقياً وثانيها قال الزجاج المعنى قدره على الاستواء كما قال أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ( الكهف 37 ) وثالثها يحتمل أن يكون المراد وقدر كل عضو في الكمية والكيفية بالقدر اللائق بمصلحته ونظيره قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( الفرقان 2 )
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ
وأما المرتبة الثانية وهي المرتبة المتوسطة فهي قوله تعالى ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى نصب السبيل بإضمار يسره وفسره بيسره
المسألة الثانية ذكروا في تفسيره أقوالاً أحدها قال بعضهم المراد تسهيل خروجه من بطن أمه قالوا إنه كان رأس المولود في بطن أمه من فوق ورجلاه من تحت فإذا جاء وقت الخروج انقلب فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام إلا الله ومما يؤكد هذا التأويل أن خروجه حياً من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب وثانيها قال أبو مسلم المراد من هذه الآية هو المراد من قوله وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( البلد 10 ) فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا وبين كل خير وشر يتعلق بالدين أي جعلناه متمكناً من سلوك سبيل الخير والشر والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء وإنزال(31/55)
الكتب وثالثها أن هذا مخصوص بأمر الدين لأن لفظ السبيل مشعر بأن المقصود أحوال الدنيا ( لا ) أمور تحصل في الآخرة
وأما المرتبة الثانية وهي المرتبة الأخيرة فهي قوله تعالى ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ
واعلم أن هذه المرتبة الثالثة مشتملة أيضاً على ثلاث مراتب الإماتة والإقبار والإنشار أما الإماتة فقد ذكرنا منافعها في هذا الكتاب ولا شك أنها هي الواسطة بين حال التكليف والمجازاة وأما الإقبار فقال الفراء جعله الله مقبوراً ولم يجعله ممن يلقى للطير والسباع لأن القبر مما أكرم به المسلم قال ولم يقل فقبره لأن القابر هو الدافن بيده والمقبر هو الله تعالى يقال قبر الميت إذا دفنه وأقبر الميت إذا أمر غيره بأن يجعله في القبر والعرب تقول بترت ذنب البعير والله أبتره وعضبت قرن الثور والله أعضبه وطردت فلاناً عني والله أطرده أي صيره طريداً وقوله تعالى ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ المراد منه الإحياء ( و ) البعث وإنما قال إذا شاء إشعاراً بأن وقته غير معلوم لنا فتقديمه وتأخيره موكول إلى مشيئة الله تعالى وأما سائر الأحوال المذكورة قبل ذلك فإنه يعلم أوقاتها من بعض الوجوه إذا الموت وإن لم يعلم الإنسان وقته ففي الجملة يعلم أنه لا يتجاوز فيه إلا حداً معلوماً
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ
ط أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَة ً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلاًّنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّة ُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِى ءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ
واعلم أن قوله كلا ردع للإنسان عن تكبره وترفعه أو عن كفره وإصراره على إنكار التوحيد وعلى إنكاره البعث والحشر والنشر وفي قوله لما يقض ما أمره وجوه أحدها قال مجاهد لا يقضي أحد جميع ما كان مفروضا عليه أبدا وهو إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن تقصير البتة وهذا التفسير عندي فيه نظر لأن قوله لما يقض الضمير فيه عائد إلى المذكور السابق وهو الإنسان في قوله قتل الإنسان ما أكفره وليس المراد من الإنسان ههنا جميع الناس بل الإنسان الكافر فقوله لما يقض كيف يمكن حمله على جميع الناس وثانيها أم يكون المعنى أن الإنسان المترفع المتكبر لم يقض ما أمر به من ترك التكبر إذ المعنى أن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمر به من التأمل في دلائل الله والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته وثالثها قال الأستاذ أبو بكر بن فورك كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره من الإيمان وترك التكبر بل أمره بما لم يقض له به
واعلم أن عادة الله تعالى جارية في القرآن بأنه كلما ذكر الدلائل الموجودة في الأنفس فإنه يذكر عقيبها الدلائل الموجودة في الآفاق فجرى ههنا على تلك العادة وذكر الآفاق وبدأ بما يحتاج الإنسان إليه
فقال فلينظر الإنسان إلى طعامه الذي يعيش به كيف دبرنا أمره ولا شك أنه موضع الاعتبار(31/56)
فإن الطعام الذي يتناول الإنسان له حالتان إحداهما متقدمة وهي الأمور التي لا بد من وجودها حتى يدخل ذلك الطعام في الوجود والثانية متأخرة وهي الأمور التي لا بد منها في بدن الإنسان حتى يحصل له الانتفاع بذلك الطعام المأكول ولما كان النوع الأول أظهر للحسن وأبعد عن الشبهة لا جرم اكتفى الله تعالى بذكره لأن دلائل القرآن لا بد وأن تكون بحيث ينتفع بها كل الخلق فلا بد وأن تكون أبعد عن اللبس والشبهة وهذا هو المراد من قوله فلينظر الإنسان إلى طعامه واعلم أن النبت أنما يحصل من القطر النازل من السماء الواقع في الأرض فالسماء كالذكر والأرض كالأنثى فذكر في بيان نزل القطر
قوله أنا صببنا الماء صبا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله صببنا المراد منه الغيث ثم انظر في انه كيف حدث الغيث المشتمل على هذه المياه العظيمة وكيف بقي معلقا في جو السماء مع غاية ثقله وتأمل في أسبابه القريبة والبعيدة حتى يلوح لك شيء من آثار نور الله وعدله وحكمته وفي تدبير خلقة هذا العالم
المسألة الثانية قرئ إنا بالكسر وهو على الاستئناف وأنا بالفتح على البدل من الطعام والتقدير فلينظر الإنسان إلى أنا كيف صببنا الماء قال أبو علي الفارسي من قرأ بكسر إنا كان ذلك تفسيرا للنظر إلى طعانه كما أن قوله لهم مغفرة النور 26 تفسير للوعد ومن فتح فعلى معنى البدل بدل الاشتمال لأن هذه الأشياء تشتمل على كون الطعام وحدوثه فهو كقوله ويسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه البقرة 217 وقوله قتل أصحاب الأخدود النار البروج 4
قوله تعالى ثم شققنا الأرض شقا والمراد شق الأرض بالنبات ثم ذكر تعالى ثمانية أنواع من النبات
أولها الحب وهو المشار إليه بقوله فأنبتنا فيها حبا وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما وإنما قدم ذلك لأنه كالأصل في الأغذية
وثانيها قوله تعالى وعنبا وإنما ذكره بعد الحب لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه
وثالثها قوله تعالى وقضبا وفيه قولان
الأول أنه الرطبة وهي التي إذا يبست سميت بالقت وأهل مكة يسمونها بالقضب وأصله من القطع وذلك لأنه يقضب مرة بعد أخرى وكذلك القضيب لأنه يقضب أي يقطع وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل واختيار الفراء وأبي عبيدة والأصمعي
والثاني قال المبرد القضب هو العلف بعينه وأصله من أنه يقضب أي يقطع وهو قول ابن عباس والضحاك ومقاتل واختيار الفراء وأبي عبيدة والأصمعي
والثاني قال المبرد القضب هو العلف بعينه وأصله من أنه يقضب أي يقطع وهو قول الحسن
والرابع والخامس قوله تعالى وزيتونا ونخلا ومنافعهما قد تقدمت في هذا الكتاب(31/57)
وسادسها قوله تعالى وحدائق غلبا الأصل في الوصف بالغلب الرقاب فالغلب الغلاظ الأعناق الواحد أغلب يقال أسد أغلب ثم ههنا قولان
الأول أن يكون المراد وصف كب حديقة بأن أشجارها متكاثفة متقاربة وهذا قول مجاهد ومقاتل قالا الغلب الملتفة الشجر بعضه من بعض يقال اغلولب العشب واعلولبت الأرض إذا التف عشبها
والثاني أن يكون المراد وصف كل واحد من الأشجار بالغلظ والعظم قال عطاء عن ابن عباس يريد الشجر العظام وقال الفراء الغلب ما غلظ من النخل
وسابعها قوله وفاكهة وقد استدل بعضهم بأن الله تعالى لما ذكر الفاكهة معطوفة على العنب والزيتون والنخل وجب أن لا تدخل هذه الأشياء في الفاكهة وهذا قريب من جهة الظاهر لأن المعطوف مغاير للمعطوف عليه
وثامنها قوله تعالى وأبا والأب هو المرعى قال صاحب الكشاف لأنه يؤب أي يؤم وينتجع والأب والأم أخوان قال الشاعر جذمنا قيس ونجد دارنا
لنا الأب به والمكرع
وقيل الأب الفاكهة اليابسة لأنها تؤب للشتاء أي تعد ولما ذكر الله تعالى ما يتغذى به الناس والحيوان قال متاعا لكم ولأنعامكم
قال الفراء خلقناه منفعة ومتعة لكم ولأنعامكم وقال الزجاج هو منصوب لأنه مصدر مؤكد لقوله فأنبتنا لأن إنباته هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوان
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء وكان المقصود منها أمورا ثلاثة أولها الدلائل الدالة على التوحيد وثانيها الدلائل الدالة على القدرة على المعاد وثالثها أن هذا الإله الذي أحسن إلى عبيدة بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان لا يليق بالعاقل أن يتمرد عن طاعته وأن يتكبر على عبيدة أتبع هذه الجملة بما يكون مؤكدا لهذه الأغراض وهو شرح أهوال القيامة فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر ويدعوه ذلك أيضا إلى ترك التكبر على الناس وإلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر ويدعوه ذلك أيضا إلى ترك التكبر على الناس وإلى إظهار التواضع إلى كل أحد فلا جرم ذكر القيامة فقال فإذا جاءت الصاخة قال المفسرون يعني صيحة القيامة وهي النفخة الأخيرة قال الزجاج أصل الصخ في اللغة الطعن والصك يقال صخ رأسه بحجر أي شدخه والغراب يصخ بمنقاره في دبر البعير أي يطعن فمعنى الصاخة الصاكة بشدة صوتها لللآذان وذكر صاحب الكشاف وجها آخر فقال يقال صخ لحديثه مثل أصاخ له فوصفت النفخة بالصاخة مجازا لأن الناس يصخون لها أي يستمعون(31/58)
ثم إنه تعالى وصف هول ذلك اليوم بقوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفيه مسألتان
المسألة الأولى يحتمل أن يكون المراد من الفرار ما يشعر به ظاهره وهو التباعد والاحتراز والسبب في ذلك الفرار الاحتراز عن المطالبة بالتبعات يقول الأخ ما واسيتني بمالك والأبوان يقولان قصرت في برنا والصاحبة تقول أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت والبنون يقولون ما علمتنا وما أرشدتنا وقيل أول من يفر من أخيه هابيل ومن أبويه إبراهيم ومن صاحبته نوح ولوط ومن ابنه نوح ويحتمل أن يكون المراد من الفرار ليس هو التباعد بل المعنى أنه يوم يفر المرء من موالاة أخيه لاهتمامه بشأنه وهو كقوله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا البقرة 166 وأما الفرار من نصرته وهو كقوله تعالى يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا الدخان 41 وأما ترك السؤال وهو كقوله تعالى ولا يسأل حميم حميما المعارج 10
المسألة الثانية المراد أن الذين كان المرء في دار الدنيا يفر إليهم ويستجير بهم فإنه يفر منهم في دار الآخرة ذكروا في فائدة الترتيب كأنه قيل يوم يفر المرء من أخيه بل من أبويه فإنهما أقرب من الأخوين بل من الصاحبة والولد لأن تعلق القلب بهما من تعلقه بالأبوين
ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الفرار أتبعه بذكر سببه فقال تعالى لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وفي قوله يغنيه وجهان الأول قال ابن قتيبة يغنيه أي يصرفه ويصده عن قرابته وأنشد سيغنيك حرب بني مالك
عن الفحش والجهل في المحفل
أي سيشغلك ويقال أغن عني وجهك أي اصرفه الثاني قال أهل المعاني يغنيه أي ذلك الهم الذي بسبب خاصة نفسه قد ملأ صدره فلم يبق فيه متسع لهم آخر فصار شبيها بالغني في أنه حصل عنده من ذلك المملوك شيء كثير
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال يوم القيامة في الهول بين أن المكلفين فيه على قسمين منهم السعداء ومنهم الأشقياء فوصف السعداء بقوله تعالى وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة مسفرة مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء وعن ابن عباس من قيام الليل لما روي من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وعن الضحاك من آثار الوضوء وقيل من طول ما اغبرت في سبيل الله وعندي أنه بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بعالم القدس ومنازل الرضوان والرحمة ضاحكة قال الكلبي يعني بالفراغ من الحساب مستبشرة فرحة بما نالت من كرامة الله ورضاه واعلم أن قوله مسفرة إشارة إلى الخلاص عن هذا العالم وتبعاته وأما الضاحكة والمستبشرة فهما محمولتان على القوة النظرية والعملية أو على وجدان المنفعة ووجدان التعظيم(31/59)
ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة
قال المبرد الغبرة ما يصيبب الإنسان من الغبار وقوله ترهقها اي تدركها عن قرب كقولك رهقت الجبل إذا لحقته لسرعة والرهق عجلة الهلاك والقترة سواد الدخان ولا يرى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه كما ترى وجوه الزنوج إذا غبرت وكأن الله تعالى جمع في وجوههم بين السواد والغبرة كما جمعوا بين الكفر والفجور والله أعلم
واعلم أن المرجئة والخوارج تمسكوا بهذه الآية أما المرجئة فقالوا إن هذه الآية دلت على أن أهل القيامة قسمان أهل الثواب وأهل العقاب دلت على أن أهل العقاب هم الكفرة وثبت بالدليل أن الفساق من أهل الصلاة ليسوا بكفرة وإذا لم يكونوا من الكفرة كانوا من أهل الثواب وذلك يدل على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس له عقاب وأما الخوارج فإنهم قالوا دلت سائر الدلائل على أن صاحب الكبيرة يعاقب ودلت هذه الآية على أن كل من يعاقب فإنه كافر فيلزم أن كل مذنب فإنه كافر والجواب أكثر ما في الباب أن المذكور ههنا هو هذا الفريقان وذلك لا يقتضي نفي الفريق الثالث والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاه ته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين(31/60)
سورة التكوير
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَة ُ سُئِلَتْ بِأَى ِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّة ُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أنه تعالى ذكر اثني عشر شيئا وقال إذا وقعت هذه الأشياء فهنالك علمت نفس ما أحضرت التكوير 14 فالأول قوله تعالى إذا الشمس كورت وفي التكوير وجهان أحدهما التلفيف على جهة الاستدارة كتكوير العمامة وفي الحديث { نعوذ بالله من الحور بعد الكور } أي من التشتت بعد الألفة والطي واللف والكور والتكوير واحد وسميت كارة القصار كارة لأنه يجمع ثيابه في ثوب واحد ثم إن الشيء الذي يلف لا شك أنه يصير مختفيا عن الأعين فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس وتصييرها غائبة عن الأعين بالتكوير فلهذا قال بعضهم كورت أي طمست وقال آخرون انكسفت وقال الحسن محي ضوؤها وقال المفضل بن سلمة كورت أي ذهب ضوؤها كأنها استترت في كارة الوجه الثاني في التكوير يقال كورت الحائط ودهورته إذا طرحته حتى يسقط قال الأصمعي يقال طعنه فكوره إذا صرعه فقوله إذا الشمس كورت أي ألقيت ورميت عن الفلك وفيه قول ثالث يروى عن عمر أنه لفظة مأخوذة من الفارسية فإنه يقال للأعمى كور وههنا سؤالان
السؤال الأول ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية الجواب بل على الفاعلية رافعها فعل مضمر يفسره كورت لأن إذا يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط
السؤال الثاني روي أن الحسن جلس بالبصرة إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن فحدث عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال { إن الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة } قال الحسن وما ذنبهما قال إني أحدثك عن رسول الله فسكت الحسن والجواب أن سؤال الحسن ساقط لأن الشمس والقمر(31/61)
جمادان فإلقاؤهما في النار لا يكون سببا لمضرتهما ولعل ذلك يصير سببا لازدياد الحر في جهنم فلا يكون هذا الخبر على خلاف العقل
الثاني قوله تعالى إذا النجوم انكدرت أي تناثرت وتساقطت كما قال تعالى وإذا الكواكب انتثرت الانفطار 2 والأصل في الانكدار الانصباب قال الخليل يقال انكدر عليهم القول إذا جاءوا أرسالا فانصبوا عليهم قال الكلبي تمطر السماء يومئذ نجوما فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على وجه الأرض قال عطاء وذلك أنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور وتلك السلاسل في أيدي الملائكة فإذا مات في السماء والأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة
الثالث قوله تعالى وإذا الجبال سيرت أي عن وجه الأرض كقوله وسيرت الجبال فكانت سرابا النبأ 20 أو في الهواء كقوله تمر مر السحاب النمل 88
الرابع قوله وإذا العشار عطلت فيه قولان
القول الأول المشهور أن ( العشار ) جمع عشراء كالنفاس في جمع نفساء وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعزها عليهم و عطلت قال ابن عباس أهملها أهلها لما جاءهم من أهوال يوم القيامة وليس شيء أحب إلى العرب من النوق الحوامل وخوطب العرب بأمر العشار لأن أكثر مالها وعيشها من الإبل والغرض من ذلك ذهاب الأموال وبطلان الأملاك واشتغال الناس بأنفسهم كما قال يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم الشعراء 88 وقال لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة الأنعام 94
والقول الثاني أن العشار كناية عن السحاب تعطلت عما فيها من الماء وهذا وإن كان مجازا إلا أنه أشبه بسائ ما قبله وأيضا فالعرب تشبه السحاب بالحامل قال تعالى فالحاملات وقرا الذاريات 2
الخامس قوله تعالى وإذا الوحش حشرت كل شيء من دواب البر مما لا يستأنس فهو وحش والجمع الوحوش وحشرت جمعت من كل ناحية قال قتادة يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص قال المعتزلة إن الله تعالى يحشر الحيوانات كلها في ذلك اليوم ليعوضها على آلامها التي وصلت إليها في الدنيا بالموت والقتل وغير ذلك فإذا عوضت على تلك الآلام فإن شاء الله أن يبقى بعضها في الجنة إذا كان مستحسنا فعل وإن شاء أن يفنيه أفناه على ما جاء به الخبر وأما أصحابنا فعندهم أنه لا يجب على الله شيء بحكم الاستحقاق ولكنه تعالى يحشر الوحوش كلها فيقتص للجماء من القرناء ثم(31/62)
يقال لها موتي فتموت والغرض من ذكر هذه القصة ههنا وجوه أحدها أنه تعالى إذا كان يوم القيامة يحشر كل الحيوانات إظهارا للعدل فكيف يجوز مع هذا أن لا يحشر المكلفين من الإنس والجن الثاني أنها تجتمع في موقف القيامة مع شدة نفرتها عن الناس في الدنيا وتبددها في الصحاري فدل هذا على أن اجتماعها إلى الناس ليس إلا من هول ذلك اليوم والثالث أن هذه الحيوانات بعضها غذاء للبعض ثم إنها في ذلك اليوم لا تجتمع ولا يتعرض بعضها لبعض وما ذاك إلا لشدة هول ذلك اليوم وفي الآية قول آخر لابن عباس وهو أن حشر الوحوش عبارة عن موتها يقال - إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم - حشرتهم السنة وقرئ حشرت بالتشديد
السادس قوله تعالى وإذا البحار سجرت قرئ بالتخفيف والتشديد وفيه وجوه أحدها أن أصل الكلمة من سجرت التنور إذا أوقدتها والشيء إذا وقد فيه نشف ما فيه من الرطوبة فحينئذ لا يبقى في البحار شيئا واحدا في غاية الحرارة والإحراق ويحتمل أن تكون الأرض لما نشفت مياه البحار ربت فارتفعت فاستوت برؤوس الجبال ويحتمل أن الجبال لما اندكت وتفرقت أجزاؤها وصارت كالتراب وقع ذلك التراب في أسفل الجبال فصار وجه الأرض مستويا مع البحار ويصير الكل بحرا مسجورا وثانيها أن يكون سجرت بمعنى فجرت وذلك لأن بين البحار حاجزا على ما قال مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان الرحمن 19 فإذا رفع الله ذلك الحاجز فاض البعض في البعض وصارت البحار بحرا واحدا وهو قول الكلبي وثالثها سجرت أوقدت قال القفال وهذا التأويل يحتمل وجوها الأول أن تكون جهنم في قعور البحار فهي الآن غير مسجورة لقيام الدنيا فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل الله تأثير تلك النيران إلى البحار فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك والثاني أن الله تعالى يلقي الشمس والقمر والكواكب في البحار فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك والثالث أن يخلق الله تعالى بالبحار نيرانا عظيمة حتى تتسخن تلك المياه وأقول هذه الوجوه متكلفة لا حاجة إلى شيء منها لأن القادر على تخريب الدنيا وإقامة القيامة لا بد وأن يكون قادرا على أن يفعل بالبحار ما شاء من تسخين ومن قلب مياهها نيرانا من غير حاجة منه إلى أن يلقي فيها الشمس والقمر وأن يكون تحتها نار جهنم
واعلم أن هذه العلامات الست يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا ويمكن وقوعها أيضا بعد قيام القيامة وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين أما بالستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة
السابع قوله تعالى وإذا النفوس زوجت وفيه وجوه أحدها قرنت الأرواح بالأجساد وثانيها قال الحسن يصيرون فيها ثلاثة أزواج كما قال وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما اصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون الواقعة 8 وثالثها أنه(31/63)
يضم كل صنف من كان في طبقته من الرجال والنساء فيضم المبرز في الطاعات إلى مثله والمتوسط إلى مثله وأهل المعصية إلى مثله فالتزويج أن يقرن الشيء بمثله والمعنى أن يضم كل واحد إلى طبقته في الخير والشر ورابعها يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من ملك وسلطان كما قال احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الصافات 22 قيل فزدناهم من الشياطين وخامسها قال ابن عباس زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين وسادسها قرن كل امرئ بشيعته اليهودي باليهودي والنصراني بالنصراني وقد ورد فيه خبر مرفوع وسابعها قال الزجاج قرنت النفوس بأعمالها واعلم أنك إذا تأملت في الأقوال التي ذكرناها أمكنك أن تزيد عليها ما شئت
الثامن قوله تعالى وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت فيه مسائل
المسألة الأولى وأد يئد مقلوب من آد يئود أودا ثقل قال تعالى ولا يؤوده حفظهما البقرة 255 أي يثقله لأنه إثقال بالتراب كان الرجل إذا ولدت له بنت فاراد بقار حياتها ألبسها جبة من صوف أو شعر لترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا بلغت قامتها ستة أشبار فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أقاربها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها إلى البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى يستوي البئر بالأرض وقيل كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمتها في الحفرة وإذا ولدت ابنا أمسكته وههنا سؤالان
السؤال الأول ما الذي حملهم على وأد البنات الجواب الخوف من لحوق العار بهم من أجلهم أو الخوف من الإملاق كما قال تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق الإسراء 31 وكانوا يقولون إن الملائكة بنات الله فألحقوا البنات بالملائكة وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد فافتخر الفرزدق به في قوله ومنا الذي منع الوائدات
فأحيا الوئيد فلم توأد
السؤال الثاني فما معنى سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت به وهلا شئل الوائد عن موجب قتله لها الجوال سؤالها وجوابها تبكيب لقاتلها وهو كتبكيت النصارى في قوله لعيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي ألهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق المائدة 116
المسألة الثانية قرئ سألت أي خاصمت عن نفسها وسألت الله أو قاتلها وقرئ قتلت بالتشديد فإن قيل اللفظ المطابق أن يقال سئلت بأي ذنب قتلت ومن قرأ سألت فالمطابق أن يقرأ بأي ذنب قتلت فما الوجه في القراءة المشهورة قلنا الجواب من وجهين الأول تقدير الآية وإذا الموءودة سئلت أي سئل الوائدون عن أحوالها بأي ذنب قتلت والثاني أن الإنسان قد يسأل عن حال نفسه عند المعاينة بلفظ المغايبة كما إذا أردت أن تسال زيدا عن حال من أحواله فتقول ماذا فعل زيد في ذلك المعنى ويكون زيد هو المسئول وهو المسؤول عنه فكذا ههنا(31/64)
التاسع قوله تعالى وإذا الصحف نشرت قرئ بالتخفيف والتشديد يريد صحف الأعمال تطوي صحيفة الإنسان عند موته ثم تنشر إذا حوسب ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم
العاشر قوله تعالى وإذا السماء كشطت أي كشفت وأزيلت عما فوقها وهو الجنة وعرش الله كما يكشط الإهاب عن الذبيحة والغطاء عن الشيء وقرأ ابن مسعود قشطت واعتقاب القاف والكاف كثير يقال لبكت الثريد ولبقته والكافور والقافور قال الفراء نزعت فطويت
الحادي عشر قوله تعالى وإذا الجحيم سعرت أوقدت إيقادا شديدا وقرئ سعرت بالتشديد للمبالغة قيل سعرها غضب الله وخطايا بني آدم واحتج بهذه الآية من قال النار غير مخلوقة الآن قالوا لأنها تدل على أن تسعيرها معلق بيوم القيامة
الثاني عشر قوله تعالى وإذا الجنة أزلفت أي أدنيت من المتقين كقوله وأزلفت الجنة للمتقين الشعراء 90
ولما ذكر الله تعالى هذه الأمور الأثنى عشر ذكر الجزاء المرتب على الشروط الذي هو مجموع هذه الأشياء فقال علمت نفس ما أحضرت ومن المعلوم أن العمل لا يمكن إحضاره فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها وما أحضرته عند المحاسبة وعند الميزان من آثار تلك الأعمال والمراد ما أحضرت من استحقاق الجنة والنار ( فإن قيل ) كل نفس تعلم ما أحضرت لقوله يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محتضرا آل عمران 30 فما معنى قوله علمت نفس قلنا الجواب من وجهين الأول أن هذا هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط وإن كان اللفظ موضوعا للقليل ومنه قوله تعالى ربما يود الذين كفروا الحجر 2 كمن يسأل فاضلا مسألة ظاهرة ويقول هل عندك فيها شيء فيقول ربما حضر شيء وغرضه الإشارة إلى أن عنده في تلك المسألة ما لا يقول به غيره فكذا ههنا الثاني لعل الكفار كانوا يتعبون أنفسهم في الأشياء التي يعتقدونها طاعات ثم بدا لهم يوم القيامة خلاف ذلك فهو المراد من هذه الآية(31/65)
قوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس الكلام في قوله لاَ أُقْسِمُ قد تقدم في قوله لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 1 ) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ فيه قولان الأول وهو المشهور الظاهرة أنها النجوم الخنس جمع خانس والخنوس والانقباض والاستخفاء تقول خنس من بين القوم وانخنس وفي الحديث ( الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر الله خنس ) أي انقبض ولذلك سمي الخناس والكنس جمع كانس وكانسة يقال كنس إذا دخل الكناس وهو مقر الوحش يقال كنس الظباء في كنسها وتكنست المرأة إذا دخلت هودجها تشبه بالظبي إذا دخل الكناس ثم اختلفوا في خنوس النجوم وكنوسها على ثلاثة أوجه فالقول الأظهر أن ذلك إشارة إلى رجوع الكواكب الخمسة السيارة واستقامتها فرجوعها هو الخنوس وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس ولا شك أن هذه حالة عجيبة وفيها أسرار عظيمة باهرة القول الثاني ما روي عن علي عليه السلام وعطاء ومقاتل وقتادة أنها هي جميع الكواكب وخنوسها عبارة عن غيبوبتها عن البصر في النهار وكنوسها عبارة عن ظهورها للبصر في الليل أي تظهر في أماكنها كالوحش في كنسها والقول الثالث أن السبعة السيارة تختلف مطالعها ومغاربها على ما قال تعالى أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ( المعارج 40 ) ولا شك أن فيها مطلعاً واحداً ومغرباً واحداً هما أقرب المطالع والمغارب إلى سمت رؤوسنا ثم إنها تأخذ في التباعد من ذلك المطلع إلى سائر المطالع طول السنة ثم ترجع إليه فخنوسها عبارة عن تباعدها عن ذلك المطلع وكنوسها عبارة عن عودها إليه فهذا محتمل فعلى القول الأول يكون القسم واقعاً بالخمسة المتحيرة وعلى القول الثاني يكون القسم واقعاً بجميع الكواكب وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرته يكون القسم واقعاً بالسبعة السيارة والله أعلم بمراده
والقول الثاني أن الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وهو قول ابن مسعود والنخعي أنها بقر الوحش وقال سعيد بن جبير هي الظباء وعلى هذا الخنس من الخنس في الأنف وهو تقعير في الأنف فإن البقر والظباء أنوفها على هذه الصفة والكنس جمع كانس وهي التي تدخل الكناس والقول هو الأول والدليل عليه أمران
وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ
الأول أنه قال بعد ذلك الْكُنَّسِ وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وهذا بالنجوم أليق منه ببقر الوحش
الثاني أن محل قسم الله كلما كان أعظم وأعلى رتبة كان أولى ولا شك أن الكواكب أعلى رتبة من بقر الوحش
الثالث أن ( الخنس ) جمع خانس من الخنوس وإما جمع خنساء وأخنس من الخنس خنس بالسكون والتخفيف ولا يقال الخنس فيه بالتشديد إلا أن يجعل الخنس في الوحشية أيضاً من الخنوس وهو اختفاؤها في الكناس إذا غابت عن الأعين
قوله تعالى وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ذكر أهل اللغة أن عسعس من الأضداد يقال عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذا أدبر وأنشدوا في ورودها بمعنى أدبر قول العجاج حتى إذا الصبح لها تنفسا
وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وأنشد أبو عبيدة في معنى أقبل(31/66)
مدرجات الليل لما عسعسا
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ
ثم منهم من قال المراد ههنا أقبل الليل لأن على هذا التقدير يكون القسم واقعاً بإقبال الليل وهو قوله إِذَا عَسْعَسَ وبإدباره أيضاً وهو قوله وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ومنهم من قال بل المراد أدبر وقوله وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ أي امتد ضوءه وتكامل فقوله وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ( التكوير 17 ) إشارة إلى أول طلوع الصبح وهو مثل قوله وَالَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( المدثر 34 33 ) وقوله وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إشارة إلى تكامل طلوع الصبح فلا يكون فيه تكرار
وأما قوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ أي إذا أسفر كقوله وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( المدثر 34 ) ثم في كيفية المجاز قولان
أحدهما أنه إذا أقبل الصبح أقبل بأقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفساً له على المجاز وقيل تنفس الصبح
والثاني أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي جلس بحيث لا يتحرك واجتمع الحزن في قلبه فإذا تنفس وجد راحة فههنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس وهو استعارة لطيفة
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وفيه قولان
الأول وهو المشهور أن المراد أن القرآن نزل به جبريل فإن قيل ههنا إشكال قوي وهو أنه حلف أنه قول جبريل فوجب علينا أن نصدقه في ذلك فإن لم نقطع بوجوب حمل اللفظ على الظاهر فلا أقل من الاحتمال وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتمل أن يكون كلام جبريل لا كلام الله وبتقدير أن يكون كلام جبريل يخرج عن كونه معجزاً لاحتمال أن جبريل ألقاه إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل الإضلال ولا يمكن أن يجاب عنه بأن جبريل معصوم لا يفعل الإضلال لأن العلم بعصمة جبريل مستفاد من صدق النبي وصدق النبي مفرع على كون القرآن معجزاً وكون القرآن معجزاً يتفرع على عصمة جبريل فيلزم الدور وهو محال والجواب الذين قالوا بأن القرآن إنما كان معجزاً للصرفة إنما ذهبوا إلى ذلك المذهب فراراً من هذا السؤال لأن الإعجاز على ذلك القول ليس في الفصاحة بل في سلب تلك العلوم والدواعي عن القلوب وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى
القول الثاني أن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة ولا ظن ولا افتعال إنما هو قول جبريل أتاه به وحياً من عند الله تعالى واعلم أنه تعالى وصف جبريل ههنا بصفات ست أولها أنه رسول ولا شك أنه رسول الله إلى الأنبياء فهو رسول وجميع الأنبياء أمته وهو المراد من قوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) وقال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 194 193 ) وثانيها أنه كريم ومن كرمه أنه يعطي أفضل العطايا وهو المعرفة والهداية والإرشاد(31/67)
ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ
وثالثها قوله ذِى قُوَّة ٍ ثم منهم من حمله على الشدة روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل ( ذكر الله قوتك فماذا بلغت قال رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذا سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها ) وذكر مقاتل أن شيطاناً يقال له الأبيض صاحب الأنبياء قصد أن يفتن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فدفعه جبريل دفعة رقيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند ومنهم من حمله على القوة في أداء طاعة الله وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف وعلى القوة في معرفة الله وفي مطالعة جلال الله
ورابعها قوله تعالى عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ وهذه العندية ليست عندية المكان مثل قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وليست عندية الجهة بدليل قوله ( أنا عند المنكسرة قلوبهم ) بل عندية الإكرام والتشريف والتعظيم وأما مَّكِينٍ فقال الكسائي يقال قد مكن فلان عند فلان بضم الكاف مكناً ومكانة فعلى هذا المكين هو ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل
مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
وخامسها قوله تعالى مُّطَاعٍ ثَمَّ اعلم أن قوله ثُمَّ إشارة إلى الظرف المذكور أعني عِندَ ذِى الْعَرْشِ ( التكوير 20 ) والمعنى أنه عند الله مطاع في ملائكته المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه وقرىء ثُمَّ تعظيماً للأمانة وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة
وسادسها قوله أَمِينٌ أي هو أَمِينٌ على وحي الله ورسالاته قد عصمه الله من الخيانة والزلل
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالاٍّ فُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ
ثم قال تعالى وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ واحتج بهذه الآية من فضل جبريل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إنك إذا وازنت بين قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 21 19 ) وبين قوله وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ظهر التفاوت العظيم وَلَقَدْ رَءاهُ بِالاْفُقِ الْمُبِينِ يعني حيث تطلع الشمس في قول الجميع وهذا مفسر في سورة النجم وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي وما محمد ( على الغيب بظنين ) والغيب ههنا القرآن وما فيه من الأنباء والقصص والظنين المتهم يقال ظننت زيدا في معنى اتهمته وليس من الظن الذي يتعدى إلى مفعولين والمعنى ما محمد على القرآن بمتهم أي هو ثقة فيما يؤدي عن الله ومن قرأ بالضاد فهو من البخل يقال ضننت به أضن أي بخلت والمعنى ليس ببخيل فيما أنزل الله قال الفراء يأتيه غيب السماء وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم وقال أبو علي الفارسي المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لوجهين أحدهما أن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نضي البخل وثانيها قوله والغيب ههنا القرآن وما فيه من الأنباء والقصص والظنين المتهم يقال ظننت زيدا في معنى اتهمته وليس من الظن الذي يتعدى إلى مفعولين والمعنى ما محمد على القرآن بمتهم أي هو ثقة فيما يؤدي عن الله ومن قرأ بالضاد فهو من البخل يقال ضننت به أضن أي بخلت والمعنى ليس ببخيل فيما أنزل الله قال الفراء يأتيه غيب السماء وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم وقال أبو علي الفارسي المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لوجهين أحدهما أن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نضي البخل وثانيها قوله عَلَى الْغَيْبِ ولو كان المراد البخل لقال بالغيب لأنه يقال فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
ثم قال تعالى وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ كان أهل مكة يقولون إن هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه فنفى الله ذلك فإن قيل القول بصحة النبوة موقوف على نفي هذا الاحتمال فكيف يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي قُلْنَا بينا أن على القول بالصرفة لا تتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال فلا جرم يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي(31/68)
فَأيْنَ تَذْهَبُونَ
ثم قال تعالى فَأيْنَ تَذْهَبُونَ وهذا استضلال لهم يقال لتارك الجادة اعتسافاً أين تذهب مثلت حالهم بحالة في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل والمعنى أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم قال الفراء العرب تقول إلى أين تذهب وأين تذهب وتقول ذهبت الشام وانطلقت السوق واحتج أهل الاعتزال بهذه الآية وجهه ظاهر
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
ثم بين أن القرآن ما هو فقال إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ أي هو بيان وهداية للخلق أجمعين
لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ
ثم قال لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وهو بدل من العالمين والتقدير إن هو إلا ذكر لمن شاء منكم أن يستقيم وفائدة هذا الإبدال أن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر فكأنه لم يوعظ به غيرهم والمعنى أن القرآن إنما ينتفع به من شاء أن يستقيم ثم بين أن مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله
وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
أي إلا أن يشاء الله تعالى أن يعطيه تلك المشيئة لأن فعل تلك المشيئة صفة محدثة فلا بد في حدوثها من مشيئة أخرى فيظهر من مجموع هذه الآيات أن فعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها موقوفة على مشيئة الله وهذا هو قول أصحابنا وقول بعض المعتزلة إن هذه الآية مخصوصة بمشيئة القهر والإلجاء ضعيف لأنا بينا أن المشيئة الاختيارية شيء حادث فلا بد له من محدث فيتوقف حدوثها على أن يشاء محدثها إيجادها وحينئذ يعود الإلزام والله أعلم بالصواب(31/69)
سورة الانفطار
تسع عشرة آية مكية
إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ
اعلم أن المراد أنه إذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة فهناك يحصل الحشر والنشر وفي تفسير هذه الآيات مقامات الأول في تفسير كل واحد من هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة وهي ههنا أربعة اثنان منها تتعلق بالعلويات واثنان آخران تتعلق بالسفليات الأول قوله إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ أي انشقت وهو كقوله وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء الْغَمَامِ ( الفرقان 25 ) إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَة ً كَالدّهَانِ ( الرحمن 37 ) وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْواباً و السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ( المزمل 18 ) قال الخليل ولم يأت هذا على الفعل بل هو كقولهم مرضع وحائض ولو كان على الفعل لكان منفطرة كما قال إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ أما الثاني وهو قوله وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ فالمعنى ظاهر لأن عند انتقاض تركيب السماء لا بد من انتثار الكواكب على الأرض
واعلم أنا ذكرنا في بعض السورة المتقدمة أن الفلاسفة ينكرون إمكان الخرق والالتئام على الأفلاك ودليلنا على إمكان ذلك أن الأجسام متماثلة في كونها أجساماً فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر إنما قلنا إنها متماثلة لأنه يصح تقسيمها إلى السماوية والأرضية ومورد التقسيم مشترك بين القسمين فالعلويات والسفليات مشتركة في أنها أجسام وإنما قلنا إنه متى كان كذلك وجب أن يصح على العلويات ما يصح على السفليات لأن المتماثلات حكمها واحد فمتى يصح حكم على واحد منها وجب أن(31/70)
يصح على الباقي وأما الإثنان السفليان فأحدهما قوله وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ وفيه وجوه أحدهما أنه ينفذ بعض البحار في البعض بارتفاع الحاجز الذي جعله الله برزخاً وحينئذ يصير الكل بحراً واحداً وإنما يرتفع ذلك الحاجز لتزلزل الأرض وتصدعها وثانيها أن مياه البحار الآن راكدة مجتمعة فإذا فجرت تفرقت وذهب ماؤها وثالثها قال الحسن فجرت أي يبست
واعلم أن على الوجوه الثلاثة فالمراد أنه تتغير البحار عن صورتها الأصلية وصفتها وهو كما ذكر أنه تغير الأرض عن صفتها في قوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( ابراهيم 48 ) وتغير الجبال عن صفتها في قوله فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ( طه 106 105 ) ورابعها قرأ بعضهم فُجّرَتْ بالتخفيف وقرأ مجاهد فُجّرَتْ على البناء للفاعل والتخفيف بمعنى بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 20 ) لأن البغي والفجور أخوان
وأما الثاني فقوله وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فاعلم أن بعثر وبحثر بمعنى واحد ومركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما والمعنى أثيرت وقلب أسفلها أعلاها وباطنها ظاهرها ثم ههنا وجهان أحدهما أن القبور تبعثر بأن يخرج ما فيها من الموتى أحياء كما قال تعالى وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ( الزلزلة 2 ) والثاني أنها تبعثر لإخراج ما في بطنها من الذهب والفضة وذلك لأن من أشراط الساعة أن تخرج الأرض أفلاذ كبدها من ذهبها وفضتها ثم يكون بعد ذلك خروج الموتى والأول أقرب لأن دلالة القبور على الأول أتم
المقام الثاني في فائدة هذا الترتيب واعلم أن المراد من هذه الآيات بيان تخريب العالم وفناء الدنيا وانقطاع التكاليف والسماء كالسقف والأرض كالبناء ومن أراد تخريب دار فإنه يبدأ أولاً بتخريب السقف وذلك هو قوله إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ثم يلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب وذلك هو قوله وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ثم إنه تعالى بعد تخريب السماء والكواكب يخرب كل ما على وجه الأرض وهو قوله وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ ثم إنه تعالى يخرب آخر الأمر الأرض التي هي البناء وذلك هو قوله وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فإنه إشارة إلى قلب الأرض ظهراً لبطن وبطناً لظهر
المقام الثالث في تفسير قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ وفيه احتمالان الأول أن المراد بهذه الأمور ذكر يوم القيامة ثم فيه وجوه أحدها وهو الأصح أن المقصود منه الزجر عن المعصية والترغيب في الطاعة أي يعلم كل أحد في هذا اليوم ماقدم فلم يقصر فيه وما أخر فقصر فيه لأن قوله مَّا قَدَّمَتْ يقتضي فعلاً و مَا يقتضي تركاً فهذا الكلام يقتضي فعلاً وتركاً وتقصيراً وتوفيراً فإن كان قدم الكبائر وأخر العمل الصالح فمأواه النار وإن كان قدم العمل الصالح وأخر الكبائر فمأواه الجنة وثانيها ما قدمت من عمل أدخله في الوجود وماأخرت من سنة يستن بها من بعده من خير أو شر وثالثها قال الضحاك ما قدمت من الفرائض وما أخرت أي ما ضيعت ورابعها قال أبو مسلم ما قدمت من الأعمال في أول عمرها وما أخرت في آخر عمرها فإن قيل وفي أي موقف من مواقف القيامة يحصل هذا العلم قلنا أما العلم الإجمالي فيحصل في أول زمان الحشر لأن المطيع يرى آثار السعادة والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر وأما العلم التفصيل فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة(31/71)
الاحتمال الثاني أن يكون المراد قيل قيام القيامة بل عند ظهور أشراط الساعة وانقطاع التكاليف وحين لا ينفع العمل بعد ذلك كما قال رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا فيكون ما عمله الإنسان إلى تلك الغاية هو أول أعماله وآخرها لأنه لا عمل له بعد ذلك وهذا القول ذكره القفال
ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَى ِّ صُورَة ٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ
اعلم أنه سبحانه لما أخبر في الآية الأولى عن وقوع الحشر والنشر ذكر في هذه الآية ما يدل عقلاً على إمكانه أو على وقوعه وذلك من وجهين الأول أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع موائد نعمه عن المذنبين كيف يجوز في كرمه أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم الثاني أن القادر الذي خلق هذه البنية الإنسانية ثم سواها وعدلها إما أن يقال إنه خلقها لا لحكمة أو لحكمة فإن خلقها لا لحكمة كان ذلك عبثاً وهو غير جائز على الحكيم وإن خلقها لحكمة فتلك الحكمة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد والأول باطل لأنه سبحانه متعال عن الاستكمال والانتفاع فتعين الثاني وهو أنه خلق الخلق لحكمة عائدة إلى العبد وتلك الحكمة إما أن تظهر في الدنيا أو في دار سوى الدنيا والأول باطل لأن الدنيا دار بلاء وامتحان لا دار الانتفاع والجزاء ولما بطل كل ذلك ثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق والتسوية والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه سبحانه يبعث الأموات ويحشرهم وذلك يمنعهم من الاعتراف بعدم الحشر والنشر وهذا الاستدلال هو الذي ذكر بعينه في سورة التين حيث قال لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إلى أن قال فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ ( التين 7 4 ) وهذه المحاجة تصلح مع العرب الذين كانوا مقرين بالصانع وينكرون الإعادة وتصلح أيضاً مع من ينفي الإبتداء والإعادة معاً لأن الخلق المعدل يدل على الصانع وبواسطته يدل على صحة القول بالحشر والنشر فإن قيل بناء هذا الاستدلال على أنه تعالى حكيم ولذلك قال في سورة التين بعد هذا الاستدلال أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( التين 8 ) فكان يجب أن يقول في هذه السورة ما غرك بربك الحكيم الجواب أن الكريم يجب أن يكون حكيماً لأن إيصال النعمة إلى الغير لو لم يكن مبنياً على داعية الحكمة لكان ذلك تبذيراً لا كرماً أما إذا كان مبنياً على داعية الحكمة فحينئذ يسمى كرماً إذا ثبت هذا فنقول كونه كريماً يدل على وقوع الحشر من وجهين كما قررناه أما كونه حكيماً فإنه يدل على وقوع الحشر من هذا الوجه الثاني فكان ذكر الكريم ههنا أولى من ذكر الحكيم هذا هو تمام الكلام في كيفية النظم ولنرجع إلى التفسير أما قوله الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ففيه قولان أحدهما أنه الكافر لقوله من بعد ذلك كَلاَّ بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ ( الإنفطار 9 ) وقال عطاء عن ابن عباس نزلت في الوليد بن المغيرة وقال الكلبي ومقاتل نزلت في ابن الأسد بن كلدة بن أسيد وذلك أنه ضرب(31/72)
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يعاقبه الله تعالى وأنزل هذه الآية والقول الثاني أنه يتناول جميع العصاة وهو الأقرب لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ أما قوله مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ فالمراد الذي خدعك وسول لك الباطل حتى تركت الواجبات وأتيت بالمحرمات والمعنى ما الذي أمنك من عقابه يقال غره بفلان إذا أمنه المحذور من جهته مع أنه غير مأمون وهو كقوله لا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( لقمان 33 ) هذا إذا حملنا قوله الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ على جميع العصاة وأما إذا حملناه على الكافر فالمعنى ما الذي دعاك إلى الكفر والجحد بالرسل وإنكار الحشر والنشر وههنا سؤالات
الأول أن كونه كريماً يقتضي أن يغتر الإنسان بكرمه بدليل المعقول والمنقول أما المعقول فهو أن الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض فلما كان الحق تعالى جواداً مطلقاً لم يكن مستعيضاً ومتى كان كذلك استوى عنده طاعة المطيعين وعصيان المذنبين وهذا يوجب الاغترار لأنه من البعيد أن يقدم الغني على إيلام الضعيف من غير فائدة أصلاً وأما المنقول فما روي عن علي عليه السلام أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه فنظر فإذا هو بالباب فقال له لم لم تجبني فقال لثقتي بحلمك وأمني من عقوبتك فاستحسن جوابه وأعتقه وقالوا أيضاً من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ولما ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله ههنا مانعاً من الاغترار به والجواب من وجوه أحدها أن معنى الآية أنك لماكنت ترى حلم الله على خلقه ظننت أن ذلك لأنه لا حساب ولا دار إلا هذه الدار فما الذي دعاك إلى هذا الاغترار وجرأك على إنكار الحشر والنشر فإن ربك كريم فهو لكرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدة التوبة وتأخيراً للجزاء إلى أن يجمع الناس في الدار التي جعلها لهم للجزاء فالحاصل أن ترك المعاجلة بالعقوبة لأجل الكرم وذلك لا يقتضي الاغترار بأنه لا دار بعد هذه الدار وثالثها أن كرمه لما بلغ إلى حيث لا يمنع من العاصي موائد لطفه فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى فإذن كونه كريماً يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار وترك الجراءة والاغترار وثالثها أن كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة والاستحياء من الاغترار والتواني ورابعها قال بعض الناس إنما قال بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ليكون ذلك جواباً عن ذلك السؤال حتى يقول غرني كرمك ولولا كرمك لما فعلت لأنك رأيت فسترت وقدرت فأمهلت وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد من قوله الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ليس الكافر
السؤال الثاني ما الذي ذكره المفسرون في سبب هذا الاغترار قلنا وجوه أحدها قال قتادة سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان له وثانيها قال الحسن غره حمقه وجهله وثالثها قال مقاتل غره عفو الله عنه حين لم يعاقبه في أول أمره وقيل للفضيل بن عياض إذا أقامك الله يوم القيامة وقال لك مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ماذا تقول قال أقول غرتني ستورك المرخاة
السؤال الثالث ما معنى قراءة سعيد بن جبير ما أغرك قلنا هو إما على التعجب وإما على الاستفهام من قولك غر الرجل فهو غار إذا غفل ومن قولك بيتهم العدو وهم غارون وأغره غيره جعله غاراً أما قوله تعالى الَّذِى خَلَقَكَ فاعلم أنه تعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقق ذلك الكرم أولها الخلق وهو قوله الَّذِى خَلَقَكَ ولا شك أنه كرم وجود لأن الوجود خير(31/73)
من العدم والحياة خير من الموت وهو الذي قال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) وثانيها قوله فَسَوَّاكَ أي جعلك سوياً سالم الأعضاء تسمع وتبصر ونظيره قوله أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ( الكهف 37 ) قال ذو النون سواك أي سخر لك المكونات أجمع وما جعلك مسخراً لشيء منها ثم أنطق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل وروحك بالمعرفة وسرك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي وفضك على كثير ممن خلق تفضيلاً وثالثها قوله فَعَدَلَكَ وفيه بحثان
البحث الأول قال مقاتل يريد عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين فلم يجعل إحدى اليدين أطول ولا إحدى العينين أوسع وهو كقوله بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّى َ بَنَانَهُ ( القيامة 4 ) وتقريره ما عرف في علم التشريح أنه سبحانه ركب جانبي هذه الجثة على التسوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه لا في العظام ولا في أشكالها ولا في ثقبها ولا في الأوردة والشرايين والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها واستقصاء القول فيه لا يليق بهذا العلم وقال عطاء عن ابن عباس جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية وقال أبو علي الفارسي عدل خلقك فأخرجك في أحسن التقويم وبسبب ذلك الاعتدال جعلك مستعداً لقبول العقل والقدرة والفكر وصيرك بسبب ذلك مستولياً على جميع الحيوان والنبات وواصلاً بالكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم
البحث الثاني قرأ الكوفيون فعدلك بالتخفيف وفيه وجوه أحدها قال أبو علي الفارسي أن يكون المعنى عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت والثاني قال الفراء فَعَدَلَكَ أي فصرفك إلى أي صورة شاء ثم قال والتشديد أحسن الوجهين لأنك تقول عدلتك إلى كذا كما تقول صرفتك إلى كذا ولا يحسن عدلتك فيه ولا صرفتك فيه ففي القراءة الأولى جعل في من قوله مَا يُجَادِلُ صُورَة ٍ صلة للتركيب وهو حسن وفي القراءة الثانية جعله صلة لقوله فَعَدَلَكَ وهو ضعيف واعلم أن اعتراض القراء إنما يتوجه على هذا الوجه الثاني فأما على الوجه الأول الذي ذكره أبو علي الفارسي فغير متوجه والثالث نقل القفال عن بعضهم أنهما لغتان بمعنى واحد أما قوله مَا يُجَادِلُ صُورَة ٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ففيه مباحث الأول ما هل هي مزيدة أم لا فيه قولان الأول أنها ليست مزيدة بل هي في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك وبناء على هذا الوجه قال أبو صالح ومقاتل المعنى إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة كلب أو صورة حمار أو خنزير أو قرد والقول الثاني أنها صلة مؤكدة والمعنى في أي صورة تقتضيها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة فإنه سبحانه يركبك على مثلها وعلى هذا القول تحتمل الآية وجوهاً أحدها أن المراد من الصور المختلفة شبه الأب والأم أو أقارب الأب أو أقارب الأم ويكون المعنى أنه سبحانه يركبك على مثل صور هؤلاء ويدل على صحة هذا ما روى أنه عليه السلام قال في هذا الآية ( إذا استقرت النطفة في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم ) والثاني وهو الذي ذكره الفراء والزجاج أن المراد من الصور المختلفة الاختلاف بحسب الطول والقصر والحسن والقبح والذكورة والأنوثة ودلالة هذه الحالة على الصانع القادر في غاية الظهور لأن النطفة جسم متشابه الأجزاء وتأثير طبع الأبوين فيه على السوية فالفاعل المؤثر بالطبيعة في القابل المتشابه لا يفعل إلا فعلاً واحداً فلما اختلفت الآثار والصفات دل ذلك الاختلاف على أن المدبر هو القادر المختار قال القفال(31/74)
اختلاف الخلق والألوان كاختلاف الأحوال في الغنى والفقر والصحة والسقم فكما أنا نقطع أنه سبحانه إنما ميز البعض عن البعض في الغنى والفقر وطول العمر وقصره بحكمة بالغة لا يحيط بكنهها إلا هو فكذلك نعلم أنه إنما جعل البعض مخالفاً للبعض في الخلق والألوان بحكمة بالغة وذلك لأن بسبب هذا الاختلاف يتميز المحسن عن المسيء والقريب عن الأجنبي ثم قال ونحن نشهد شهادة لا شك فيها أنه سبحانه لم يفرق بين المناظر والهيئات إلا لما علم من صلاح عباده فيه وإن كنا جاهلين بعين الصلاح القول الثالث قال الواسطي المراد صورة المطيعين والعصاة فليس من ركبه على صورة الولاية كمن ركبه على صورة العداوة قال آخرون إنه إشارة إلى صفاء الأرواج وظلمتها وقال الحسن منهم من صوره ليستخلصه لنفسه ومنهم من صوره ليشغله بغيره مثال الأول أنه خلق آدم ليخصه بألطاف بره وإعلاء قدره وأظهر روحه من بين جماله وجلاله وتوجه بتاج الكرامة وزينه برداء الجلال والهيبة
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ
قوله تعالى كَلاَّ بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ اعلم أنه سبحانه لما بين بالدلائل العقلية على صحة القول بالبعث والنشور على الجملة فرع عليها شرح تفاصيل الأحوال المتعلقة بذلك وهو أنواع
النوع الأول أنه سبحانه زجرهم عن ذلك الاغترار بقوله كَلاَّ و بَلِ حرف وضع في اللغة لنفي شيء قد تقدم وتحقق غيره فلا جرم ذكروا في تفسير كَلاَّ وجوهاً الأول قال القاضي معناه أنكم لا تستقيمون على توجيه نعمي عليكم وإرشادي لكم بل تكذبون بيوم الدين الثاني كلا أي ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله ثم كأنه قال وإنكم لا ترتدعون عن ذلك بل تكذبون بالدين أصلاً الثالث قال القفال كلا أي ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور لأن ذلك يوجب أن الله تعالى خلق الخلق عبثاً وسدى وحاشاه من ذلك ثم كأنه قال وإنكم لا تنتفعون بهذا البيان بل تكذبون وفي قوله تُكَذّبُونَ بِالدّينِ وجهان الأول أن يكون المراد من الدين الإسلام والمعنى أنكم تكذبون بالجزاء على الدين والإسلام الثاني أن يكون المراد من الدين الحساب والمعنى أنكم تكذبون بيوم الحساب
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
النوع الثاني قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
والمعنى التعجب من حالهم كأنه سبحانه قال إنكم تكذبون بيوم الدين وهو يوم الحساب والجزاء وملائكة الله موكلون بكم يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة ونظيره قوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 17 ) وقوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً ( الأنعام 61 ) ثم ههنا مباحث
الأول من الناس من طعن في حضور الكرام الكاتبين من وجوه أحدها أن هؤلاء الملائكة إما أن يكونوا مركبين من الأجسام اللطيفة كالهواء والنسيم والنار أو من الأجسام الغليظة فإن كان الأول لزم أن(31/75)
تنتقض بنيتهم بأدنى سبب من هبوب الرياح الشديدة وإمرار اليد والكم والسوط في الهواء وإن كان الثاني وجب أن نراهم إذ لو جاز أن يكونوا حاضرين ولا نراهم لجاز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار وفيلات وبوقات ونحن لا نراها ولا نسمعها وذلك دخول في التجاهل وكذا القول في إنكار صحائفهم وذواتهم وقلمهم وثانيها أن هذا الاستكتاب إن كان خالياً عن الفوائد فهو عبث وذلك غير جائز على الله تعالى وإن كان فيه فائدة فتلك الفائدة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد والأول محال لأنه متعال عن النفع والضر وبهذا يظهر بطلان قول من يقول إنه تعالى إنما استكتبها خوفاً من النسيان الغلط والثاني أيضاً محال لأن أقصى ما في الباب أن يقال فائدة هذا الاستكتاب أن يكونوا شهداء على الناس وحجة عليهم يوم القيامة إلا أن هذه الفائدة ضعيفة لأن الإنسان الذي علم أن الله تعالى لا يجور ولا يظلم لا يحتاج في حقه إلى إثبات هذه الحجة والذي لا يعلم ذلك لا ينتفع بهذه الحجة لاحتمال أنه تعالى أمرهم بأن يكتبوا تلك الأشياء عليه ظلماً وثالثها أن أفعال القلوب غير مرئية ولا محسوسة فتكون هي من باب المغيبات والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى على ما قال وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وإذا لم تكن هذه الأفعال معلومة للملائكة استحال أن يكتبوها والآية تقضي أن يكونوا كاتبين علينا كل ما نفعله سواء كان ذلك من أفعال القلوب أم لا والجواب عن الأول أن هذه الشبهة لا تزال إلا على مذهبنا بناء على أصلين أحدهما أن البنية ليست شرطاً للحياة عندنا والثاني أي عند سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول سائر الشرائط لا يجب الإدراك فعلى الأصل الأول يجوز أن تكون الملائكة أجراماً لطيفة تتمزق وتتفرق ولكن تبقى حياتها مع ذلك وعلى الأصل الثاني يجوز أن يكونوا أجساماً كثيفة لكنا لا نراها والجواب عن الثاني أن الله تعالى إنما أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم ولما كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج كتاب بشهود خوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة فيخرج لهم كتب منشورة ويحضر هناك ملائكة يشهدون عليهم كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره فيقولون له أعطاك الملك كذا وكذا وفعل بك كذا وكذا ثم قد خلفته وفعلت كذا وكذا فكذا ههنا والله أعلم بحقيقة ذلك الجواب عن الثالث أن غاية ما في الباب تخصيص هذا العموم بأفعال الجوارح وذلك غير ممتنع
البحث الثاني أن قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ وإن كان خطاب مشافهة إلا أن الأمة مجمعة على أن هذا الحكم عام في حق كل المكلفين ثم ههنا احتمالان
أحدهما أن يكون هناك جمع من الحافظين وذلك الجمع يكونون حافظين لجميع بني آدم من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم
وثانيهما أن يكون الموكل بكل واحد منهم غير الموكل بالآخرة ثم يحتمل أن يكون الموكل بكل واحد من بني آدم واحداً من الملائكة لأنه تعالى قابل الجمع بالجمع وذلك يقتضي مقابلة الفرد بالفرد ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم جمعاً من الملائكة كما قيل إثنان بالليل وإثنان بالنهار أو كما قيل إنهم خمسة
البحث الثالث أنه تعالى وصف هؤلاء الملائكة بصفات أولها كونهم حافظين وثانيها كونهم(31/76)
كراماً وثالثها كونهم كاتبين ورابعها كونهم يعلمون ما تفعلون وفيه وجهان أحدهما أنهم يعلمون تلك الأفعال حتى يمكنهم أن يكتبوها وهذا تنبيه على أن الإنسان لا يجوز له الشهادة إلا بعد العلم والثاني أنهم يكتبونها حتى يكونوا عالمين بها عند أداء الشهادة
واعلم أن وصف الله إياهم بهذه الصفات الخمسة يدل على أنه تعالى أثنى عليهم وعظم شأنهم وفي تعظيمهم تعظيم لأمر الجزاء وأنه عند الله تعالى من جلائل الأمور ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه هؤلاء العظماء الأكابر قال أبو عثمان من يزجره من المعاصي مراقبة الله إياه كيف يرده عنها كتابة الكرام الكاتبين
إِنَّ الاٌّ بْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ
النوع الثالث من تفاريع مسألة الحشر قوله تعالى إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ وَهُمْ عَنْهُمْ بِغَائِبِينَ
اعلم أن الله تعالى لما وصف الكرام الكاتبين لأعمال العباد ذكر أحوال العاملين فقال إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وهو نعيم الجنة وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ وهو النار وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن القاطعين بوعيد أصحاب الكبائر تمسكوا بهذه الآية فقالوا صاحب الكبيرة فاجر والفجار كلهم في الجحيم لأن لفظ الجحيم إذا دخل عليه الألف واللام أفاد الاستغراق والكلام في هذه المسألة قد استقصيناه في سورة البقرة وههنا نكت زائدة لا بد من ذكرها قالت الوعيدية حصلت في هذه الآية وجوه دالة على دوام الوعيد أحدها قوله تعالى يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ ويوم الدين يوم الجزاء ولا وقت إلا ويدخل فيه كما تقول يوم الدنيا ويوم الآخرة الثاني قال الجبائي لو خصصنا قوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ لكان بعض الفجار يصيرون إلى الجنة ولو صاروا إليها لكانوا من الأبرار وهذا يقتضي أن لا يتميز الفجار عن الأبرار وذلك باطل لأن الله تعالى ميز بين الأمرين فإذن يجب أن لا يدخل الفجار الجنة كما لا يدخل الأبرار النار والثالث أنه تعالى قال وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ وهو كقوله وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ( المائدة 37 ) وإذا لم يكن هناك موت ولا غيبة فليس بعدهما إلا الخلود في النار أبد الآبدين ولما كان اسم الفاجر يتناول الكافر والمسلم صاحب الكبيرة ثبت بقاء أصحاب الكبائر أبداً في النار وثبت أن الشفاعة للمطيعين لا لأهل الكبائر والجواب عنه أنا بينا أن دلالة ألفاظ العموم على الاستغراق دلالة ظنية ضعيفة والمسألة قطعية والتمسك بالدليل الظني في المطلوب القطعي غير جائز بل ههنا ما يدل على قولنا لأن استعمال الجمع المعرف بالألف واللام في المعهود السابق شائع في اللغة فيحتمل أن يكون اللفظ ههنا عائداً إلى الكافرين الذين تقدم ذكرهم من المكذبين بيوم الدين والكلام في ذلك قد تقدم على سبيل الاستقصاء سلمنا أن العموم يفيد القطع لكن لا نسلم أن صاحب الكبيرة فاجر والدليل عليه قوله تعالى في حق الكفار أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ( عبس 42 ) فلا يخلو إما أن يكون المراد أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الذين يكونون من جنس الفجرة أو المراد أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ وهم الْفَجَرَة ُ والأول باطل لأن كل كافر فهو فاجر بالإجماع فتقييد الكافر بالكافر الذي يكون من جنس(31/77)
الفجرة عبث وإذا بطل هذا القسم بقي الثاني وذلك يفيد الحصر وإذا دلت هذه الآية على أن الكفار هم الفجرة لا غيرهم ثبت أن صاحب الكبيرة ليس بفاجر على الإطلاق سلمنا إن الفجار يدخل تحته الكافر والمسلم لكن قوله وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ معناه أن مجموع الفجار لا يكونون غائبين ونحن نقول بموجبه فإن أحد نوعي الفجار وهم الكفار لا يغيبون وإذا كان كذلك ثبت أن صدق قولنا إن الفجار بأسرهم لا يغيبون يكفي فيه أن لا يغيب الكفار فلا حاجة في صدقه إلى أن لا يغيب المسلمون سلمنا ذلك لكن قوله وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ يقتضي كونهم في الحال في الجحيم وذلك كذب فلا بد من صرفه عن الظاهر فهم يحملونه على أنهم بعد الدخول في الجحيم يصدق عليهم قوله وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ونحن نحمل ذلك على أنهم في الحال ليسوا غائبين عن استحقاق الكون في الجحيم إلا أن ثبوت الاستحقاق لا ينافي العفو سلمنا ذلك لكنه معارض بالدلائل الدالة على العفو وعلى ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر والترجيح لهذا الجانب لأن دليلهم لا بد وأن يتناول جميع الفجار في جميع الأوقات وإلا لم يحصل مقصودهم ودليلنا يكفي في صحته تناوله لبعض الفجار في بعض الأوقات فدليلهم لا بد وأن يكون عاماً ودليلنا لا بد وأن يكون خاصاً والخاص مقدم على العام والله أعلم
المسألة الثانية فيه تهديد عظيم للعصاة حكي أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة فقال لأبي حازم كيف القدوم على الله غداً قال أما المحسن فكالغائب يقدم من سفره على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه قال فبكى ثم قال ليت شعري ما لنا عند الله فقال أبو حازم أعرض عملك على كتاب الله قال في أي مكان من كتاب الله قال إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ وقال جعفر الصادق عليه السلام النعيم المعرفة والمشاهدة والجحيم ظلمات الشهوات وقال بعضهم النعيم القناعة والجحيم الطمع وقيل النعيم التوكل والجحيم الحرص وقيل النعيم الاشتغال بالله والجحيم الاشتغال بغير الله تعالى
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاٌّ مْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
النوع الرابع من تفاريع الحشر تعظيم يوم القيامة وهو قوله تعالى وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في الخطاب في قوله وَمَا أَدْرَاكَ فقال بعضهم هو خطاب للكافر على وجه الزجر له وقال الأكثرون إنه خطاب للرسول وإنما خاطبه بذلك لأنه ما كان عالماً بذلك قبل الوحي
المسألة الثانية الجمهور على أن التكرير في قوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ لتعظيم ذلك اليوم وقال الجبائي بل هو لفائدة مجددة إذ المراد بالأول أهل النار والمراد بالثاني أهل الجنة كأنه قال وما أدراك ما يعامل به الفجار في يوم الدين ثم ما أدراك ما يعامل به الأبرار في يوم الدين وكرر يوم الدين تعظيماً لما يفعله تعالى من الأمرين بهذين الفريقين(31/78)
المسألة الثالثة في يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ قراءتان الرفع والنصب أما الرفع ففيه وجهان أحدهما على البدل من يوم الدين والثاني أن يكون بإضمار هو فيكون المعنى هو يوم لا تملك وأما النصب ففيه وجوه أحدها بإضمار يدانون لأن الدين يدل عليه وثانيها بإضمار اذكروا وثالثها ما ذكره الزجاج يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه يبنى على الفتح لإضافته إلى قوله لاَ تَمْلِكُ وما أضيف إلى غير المتمكن قد يبنى على الفتح وإن كان في موضع رفع أو جر كما قال لم يمنع الشرب منهم غير أن نطقت
حمامة في غصون ذات أو قال
فبنى غير على الفتح لما أضيف إلى قوله إن نطقت قال الواحدي والذي ذكره الزجاج من البناء على الفتح إنما يجوز عند الخليل وسيبويه إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي نحو قولك على حين عاتبت أما مع الفعل المستقبل فلا يجوز البناء عندهم ويجوز ذلك في قول الكوفيين وقد ذكرنا هذه المسألة عند قوله هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( المائدة 119 ) ورابعها ما ذكره أبو علي وهو أن اليوم لما جرا في أكثر الأمر ظرفاً ترك على حالة الأكثرية والدليل عليه إجماع القراء والعرب في قوله مّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ ( الأعراف 168 ) ولا يرفع ذلك أحد ومما يقوي النصب قوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ ( القارعة 4 3 ) وقوله يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( الذاريات 13 12 ) فالنصب في يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ مثل هذا
المسألة الرابعة تمسكوا في نفي الشفاعة للعصاة بقوله يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وهو كقوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) والجواب عنه قد تقدم في سورة البقرة
المسألة الخامسة أن أهل الدنيا كانوا يتغلبون على الملك ويعين بعضهم بعضاً في أمور ويحمي بعضهم بعضاً فإذا كان يوم القيامة بطل ملك بنى الدنيا وزالت رياستهم فلا يحمي أحد أحداً ولا يغني أحد عن أحد ولا يتغلب أحد على ملك ونظيره قوله وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وقوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 ) وهو وعيد عظيم من حيث إنه عرفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء قال الواحدي والمعنى أن الله تعالى لم يملك في ذلك اليوم أحداً شيئاً من الأمور كما ملكهم في دار الدنيا قال الواسطي في قوله يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً إشارة إلى فناء غير الله تعالى وهناك تذهب الرسالات والكلمات والغايات فمن كانت صفته في الدنيا كذلك كانت دنياه أخراه
وأما قوله وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فهو إشارة إلى أن البقاء والوجود لله والأمر كذلك في الأزل وفي اليوم وفي الآخرة ولم يتغير من حال إلى حال فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر لا إلى أحوال المنظور إليه فالكاملون لا تتفاوت أحوالهم بحسب تفاوت الأوقات كما قال لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً وكحارثة لما أخبر بحضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( كأني أنظر وكأني وكأني ) والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين(31/79)
سورة المطففين
ثلاثون وست آيات مكية
وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
اعلم أن اتصال أول هذه السورة بآخر السورة المتقدمة ظاهر لأنه تعالى بين في آخر تلك السورة أن يوم القيامة يوم من صفته أنه لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر كله لله وذلك يقتضي تهديداً عظيماً للعصاة فلهذا أتبعه بقوله وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ والمراد الزجر عن التطفيف وهو البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية وذلك لأن الكثير يظهر فيمنع منه وذلك القليل إن ظهر أيضاً منع منه فعلمنا أن التطيف هو البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية وههنا مسائل
المسألة الأول الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء يقال ويل لك وويل عليك
المسألة الثانية في اشتقاق لفظ المطفف قولان الأول أن طف الشيء هو جانبه وحرفه يقال طف الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه ولم يمتلىء فهو طفافه وطفافه وطففه ويقال هذا طف المكيال وطفافه إذا قارب ملأه لكنه بعد لم يمتلىء ولهذا قيل الذي يسيء الكيل ولا يوفيه مطفف يعني أنه إنما يبلغ الطفاف والثاني وهو قول الزجاج أنه إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه يكون الذي لا يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف وههنا سؤالات
الأول وهو أن الاكتيال الأخذ بالكيل كالاتزان الأخذ بالوزن ثم إن اللغة المعتادة أن يقال اكتلت من فلان ولا يقال اكتلت على فلان فما الوجه فيه ههنا
الجواب من وجهين الأول لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً فيه إضرار بهم وتحامل عليهم أقيم على مقام من الدالة على ذلك الثاني قال الفراء المراد اكتالوا من الناس وعلى ومن في هذا الموضع(31/80)
يعتقبان لأنه حق عليه فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك وإذا قال اكتلت منك فهو كقوله استوفيت منك
السؤال الثاني هو أن اللغة المعتادة أن يقال كالوا لهم أو وزنوا لهم ولا يقال كلته ووزنته فما وجه قوله تعالى وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ والجواب من وجوه الأول أن المراد من قوله ( كالوهم أو وزنوهم ) كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل قال الكسائي والفراء وهذا من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم يقولون زنى كذا كلى كذا ويقولون صدتك وصدت لك وكسبتك وكسبت لك فعلى هذا الكناية في كالوهم ووزنوهم في موضع نصب الثاني أن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والتقدير وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم الثالث يروى عن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيداً لما في كالوا ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا وزعم الفراء والزجاج أنه غير جائز لأنه لو كان بمعنى كالوهم لكان في المصحف ألف مثبتة قبل هم واعترض صاحب ( الكشاف ) على هذه الحجة فقال إن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الحظ والجواب أن إثبات هذه الألف لو لم يكن معتاداً في زمان الصحابة فكان يجب إثباتها في سائر الأعصار لما أنا نعلم مبالغتهم في ذلك فثبت أن إثبات هذه الألف كان معتاداً في زمان الصحابة فكان يجب إثباته ههنا
السؤال الثالث ما السبب في أنه قال وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ ولم يقل إذا انزنوا ثم قال وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ فجمع بينهما أن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فأحدهما يدل على الآخر
السؤال الرابع اللغة المعتادة أن يقال خسرته فما الوجه في أخسرته الجواب قال الزجاج أخسرت الميزان وخسرته سواء أي نقصته وعن المؤرج يخسرون ينقصون بلغة قريش
المسألة الثالثة عن عكرمة عن ابن عباس قال لما قدم نبي الله المدينة كانوا من أبخس الناس كيلا فأنزل الله تعالى هذه الآية فأحسنوا الكيل بعد ذلك وقيل كان أهل المدينة تجاراً يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت هذه الآية فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأها عليهم وقال ( خمس بخمس ) قيل يا رسول الله وما خمس بخمس قال ما نقص قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر )
المسألة الرابعة الذم إنما لحقهم بمجموع أنهم يأخذون زائداً ويدفعون ناقصاً ثم اختلف العلماء فقال بعضهم هذه الآية دالة على الوعيد فلا تتناول إلا إذا بلغ التطفيف حد الكثير وهو نصاب السرقة وقال آخرون بل ما يصغر ويكبر دخل تحت الوعيد لكن بشرط أن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم منها وهذا هو الأصح
المسألة الخامسة احتج أصحاب الوعيد بعموم هذه الآية قالوا وهذه الآية واردة في أهل الصلاة لا في الكفار والذي يدل عليه وجهان الأول أنه لو كان كافراً لكان ذلك الكفر أولى باقتضاء هذا الويل من(31/81)
التطفيف فلم يكن حينئذ للتطفيف أثر في هذا الويل لكن الآية دالة على أن الموجب لهذا الويل هو التطفيف الثاني أنه تعالى قال للمخاطبين بهذه الآية أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( المطففين 5 4 ) فكأنه تعالى هدد المطففين بعذاب يوم القيامة والتهديد بهذا لا يحصل إلا مع المؤمن فثبت بهذين الوجهين أن هذا الوعيد مختص بأهل الصلاة والجواب عنه ما تقدم مراراً ومن لواحق هذه المسألة أن هذا الوعيد يتناول من يفعل ذلك ومن يعزم عليه إذ العزم عليه أيضاً من الكبائر واعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم وذلك لأن عامة الخلق يحتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر المكيال والميزان فلهذا السبب عظم الله أمره فقال وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ( الرحمن 9 7 ) وقال وَلَقَدْ أَرْسَلنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ( الحديد 25 ) وعن قتادة ( أوف يا ابن آدم الكيل كما تحب أن يوفي لك واعدل كما تحب أن يعدل لك ) وعن الفضيل بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة وقال أعرابي لعبد الملك بن مروان قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففينا أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم في أخذ القليل فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ الكثير وتأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن
أَلا يَظُنُّ أُوْلَائِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى وبخ هؤلاء المطففين فقال أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ الذين يطففون أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ وهو يوم القيامة وفي الظن ههنا قولان الأول أن المراد منه العلم وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المخاطبون بهذا الخطاب من جملة المصدقين بالبعث ويحتمل أن لا يكونوا كذلك أما الاحتمال الأول فهو ما روي أن المسلمين من أهل المدينة وهم الأوس والخزرج كانوا كذلك وحين ورد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ذلك شائعاً فيهم وكانوا مصدقين بالبعث والنشور فلا جرم ذكروا به وأما إن قلنا بأن المخاطبين بهذه الآية ما كانوا مؤمنين بالبعث إلا أنهم كانوا متمكنين من الاستدلال عليه لما في العقول من إيصال الجزاء إلى المحسن والمسيء أو إمكان ذلك إن لم يثبت وجوبه وهذا مما يجوز أن يخاطب به من ينكر البعث والمعنى ألا يتفكرون حتى يعلموا أنهم مبعوثون لكنهم قد أعرضوا عن التفكر وأراحوا أنفسهم عن متاعبه ومشاقه وإنما يجعل العلم الاستدلال ظناً لأن أكثر العلوم الاستدلالية راجع إلى الأغلب في الرأي ولم يكن كالشك الذي يعتدل الوجهان فيه لا جرم سمي ذلك ظناً القول الثاني أن المراد من الظن ههنا هو الظن نفسه لا العلم ويكون المعنى أن هؤلاء المطففين هب أنهم لا يجزمون بالبعث ولكن لا أقل من الظن فإن الأليق بحكمة الله ورحمته ورعايته مصالح خلقه أن لا يهمل أمرهم بعد الموت بالكلية وأن يكون لهم حشر ونشر وأن هذا الظن كاف في حصول الخوف كأنه سبحانه وتعالى يقول هب أن هؤلاء لا يقطعون به أفلا يظنونه أيضاً فأما قوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء يَوْمٍ بالنصب والجر أما النصب فقال الزجاج يوم منصوب بقوله(31/82)
مَّبْعُوثُونَ والمعنى ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة وقال الفراء وقد يكون في موضع خفض إلا أنه أضيف إلى يفعل فنصب وهذا كما ذكرنا في قوله يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ وأما الجر فلكونه بدلاً من يَوْمٍ عَظِيمٍ
المسألة الثانية هذا القيام له صفات
الصفة الأولى سببه وفيه وجوه أحدها وهو الأصح أن الناس يقومون لمحاسبة رب العالمين فيظهر هناك هذا التطفيف الذي يظن أنه حقير فيعرف هناك كثرته واجتماعه ويقرب منه قوله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) وثانيها أنه سبحانه يرد الأرواح إلى أجسادها فتقوم تلك الأجساد من مراقدها فذاك هو المراد من قوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وثالثها قال أبو مسلم معنى يَقُومُ النَّاسُ هو كقوله وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) أي لعبادته فقوله يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ أي لمحض أمره وطعته لا لشيء آخر على ما قرره في قوله وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
الصفة الثانية كيفية ذلك القيام روي عن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ قال ( يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف أذنيه ) وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ بكى نحيباً حتى عجز عن قراءة ما بعده )
الصفة الثالثة كمية ذلك القيام روى عنه عليه السلام أنه قال ( يقوم الناس مقدار ثلثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر ) وعن ابن مسعود ( يمكثون أربعين عاماً ثم يخاطبون ) وقال ابن عباس وهو في حق المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة
واعلم أنه سبحانه جمع في هذه الآية أنواعاً من التهديد فقال أولا وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ ( المطففين 1 ) وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء ثم قال ثانياً أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ وهو استفهام بمعنى الإنكار ثم قال ثالثاً لِيَوْمٍ عَظِيمٍ والشيء الذي يستعظمه الله لا شك أنه في غاية العظمة ثم قال رابعاً يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وفيه نوعان من التهديد أحدهما كونهم قائمين مع غاية الخشوع ونهاية الذلة والانكسار والثاني أنه وصف نفسه بكونه رباً للعالمين ثم ههنا سؤال وهو كأنه قال قائل كيف يليق بك مع غاية عظمتك أي تهيء هذا المحفل العظيم الذي هو محفل القيلة لأجل الشيء الحقير الطفيف فكأنه سبحانه يجيب فيقول عظمة الإلهية لا تتم إلا بالعظمة في القدرة والعظمة في الحكمة فعظمة القدرة ظهرت بكوني رباً للعالمين لكن عظمة الحكمة لا تظهر إلا بأن انتصف للمظلوم من الظالم بسبب ذلك القدر الحقير الطفيف فإن الشيء كلما كان أحقر وأصغر كان العلم الواصل إليه أعظم وأتم فلأجل إظهار العظمة في الحكمة أحضرت خلق الأولين والآخرين في محفل القيامة وحاسبت المطفف لأجل ذلك القدر الطفيف وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل وفي إظهار العيب وإخفائه وفي طلب الإنصاف والانتصاف ويقال من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصب والمعاشرة والصحبة من هذه الجملة والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة ومن طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه لنفسه فهو من هذه الجملة والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أحد لنفسه حقاً(31/83)
كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
واعلم أنه سبحانه لما بين عظم هذا الذنب أتبعه بذكر لواحقه وأحكامه فأولها قوله كَلاَّ والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً الأول أنه ردع وتنبيه أي ليس الأمر على ماهم عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر البعث والحساب فليرتدعوا وتمام الكلام ههنا الثاني قال أبو حاتم كَلاَّ ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقاً إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ وهو قول الحسن
النوع الثاني أنه تعالى وصف كتاب الفجار بالخيبة والحقارة على سبيل الاستخفاف بهم وههنا سؤالات
السؤال الأول السجين اسم علم لشيء معين أو اسم مشتق عن معنى قلنا فيه قولان
الأول وهو قول جمهور المفسرين أنه اسم علم على شيء معين ثم اختلفوا فيه فالأكثرون على أنه الأرض السابعة السفلى وهو قول ابن عباس في رواية عطاء وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد وروى البراء أنه عليه السلام قال ( سجين أسفل سبع أرضين ) قال عطاء الخراساني وفيها إبليس وذريته وروى أبو هريرة أنه عليه السلام قال ( سجين جب في جهنم ) وقال الكلبي ومجاهد سجين صخرة تحت الأرض السابعة
القول الثاني أنه مشتق وسمي سجيناً فعيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق كما يقال فسيق من الفسق وهو قول أبي عبيدة والمبرد والزجاج قال الواحدي وهذا ضعيف والدليل على أن سجيناً ليس مما كانت العرب تعرفه قوله وَمَا أَدْرَاكَ أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت وقومك ولا أقول هذا ضعيف فلعله إنما ذكر ذلك تعظيماً لأمر سجين كما في قوله بِغَائِبِينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ ( الإنفطار 17 ) قال صاحب ( الكشاف ) والصحيح أن السجين فعيل مأخوذ من السجن ثم إنه ههنا اسم علم منقول من صف كحاتم وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف إذا عرفت هذا فنقول قد ذكرنا أن الله تعالى أجرى أموراً مع عباده على ما تعارفوه من التعامل فيما بينهم وبين عظمائهم فالجنة موصوفة بالعلو والصفاء والفسحة وحضور الملائكة المقربين والسجين موصوف بالتسفل والظلمة والضيق وحضور الشياطين(31/84)
الملعونين ولا شك أن العلو والصفاء والفسحة وحضور الملائكة المقربين كل ذلك من صفات الكمال والعزة وأضدادها من صفات النقص والذلة فلما أريد وصف الكفرة وكتابهم بالذلة والحقارة قيل إنه في موضع التسفل والظلمة والضيق وحضور الشياطين ولما وصف كتاب الأبرار بالعزة قيل إنه لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) و يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ
السؤال الثاني قد أخبر الله عن كتاب الفجار بأنه فِى سِجّينٍ ثم فسر سجيناً ب كِتَابٌ مَّرْقُومٌ فكأنه قيل إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه أجاب القفال فقال قوله كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ليس تفسيراً لسجين بل التقدير كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وإن كتاب الفجار كتاب مرقوم فيكون هذا وصفاً لكتاب الفجار بوصفين أحدهما أنه في سجين والثاني أنه مرقوم ووقع قوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ فيما بين الوصفين معترضاً والله أعلم والأولى أن يقال وأي استبعاد في كون أحد الكتابين في الآخر إما بأن يوضع كتاب الفجار في الكتاب الذي هو الأصل المرجوع إلى في تفصيل أحوال الأشقياء أو بأن ينقل ما في كتاب الفجار إلى ذلك الكتاب المسمى بالسجين وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد من الكتاب الكتابة فيكون في المعنى كتابة الفجار في سجين أي كتابة أعمالهم في سجين ثم وصف السجين بأنه كِتَابٌ مَّرْقُومٌ فيه جميع أعمال الفجار
السؤال الثالث ما معنى قوله كِتَابٌ مَّرْقُومٌ قلنا فيه وجوه أحدها مرقوم أي مكتوبة أعمالهم فيه وثانيها قال قتادة رقم لهم بسوء أي كتب لهم بإيجاب النار وثالثها قال القفال يحتمل أن يكون المراد أنه جعل ذلك الكتاب مرقوماً كما يرقم التاجر ثوبه علامة لقيمته فكذلك كتاب الفاجر جعل مرقوماً برقم دال على شقاوته ورابعها المرقوم ههنا المختوم قال الواحدي وهو صحيح لأن الختم علامة فيجوز أن يسمى المرقوم مختوماً وخامسها أن المعنى كتاب مثبت عليهم كالرقم في الثوب ينمحي أما قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ففيه وجهان أحدهما أنه متصل بقوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ أي يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( المطففين 83 ) ويل لمن كذب بأخبار الله والثاني أن قوله مَّرْقُومٌ معناه رقم برقم يدل على الشقاوة يوم القيامة ثم قال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ في ذلك اليوم من ذلك الكتاب ثم إنه تعالى أخبر عن صفة من يكذب بيوم الدين فقال وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ومعناه أنه لا يكذب بيوم الدين إلا من كان موصوفاً بهذه الصفات الثلاثة فأولها كونه معتدياً والاعتداء هو التجاوز عن المنهج الحق وثانيها الأثيم وهو مبالغة في ارتكاب الإثم والمعاصي وأقول الإنسان له قوتان قوة نظرية وكمالها في أن يعرف الحق لذاته وقوة عملية وكمالها في أن يعرف الخير لأجل العمل به وضد الأول أن يصف الله تعالى بما لا يجوز وصفه به فإن كل من منع من إمكان البعث والقيامة إنما منع إما لأنه لم يعلم تعلق علم الله بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات أو لأنه لم يعلم تعلق قدرة الله بجميع الممكنات فهذا الاعتداء ضد القوة العملية هو الاشتغال بالشهوة والغضب وصاحبه هو الأثيم وذلك لأن المشتغل بالشهوة والغضب قلما يتفرغ للعبادة والطاعة وربما صار ذلك مانعاً له عن الإيمان بالقيامة
وأما الصفة الثالثة للمكذبين بيوم الدين فهو قوله إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ والمراد منه الذين ينكرون النبوة والمعنى إذا تلي عليه القرآن قال أساطير الأولين وفيه وجهان أحدهما أكاذيب(31/85)
الأولين والثاني أخبار الأولين وأنه عنهم أخذ أي يقدح في كون القرآن من عند الله بهذا الطريق وههنا بحث آخر وهو أن هذه الصفات الثلاثة هل المراد منها شخص معين أولاً فيه قولان الأول وهو قول الكلبي أن المراد منه الوليد بن المغيرة وقال آخرون إنه النضر بن الحارث واحتج من قال إنه الوليد بأنه تعالى قال في سورة ن وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ إلى قوله مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إلى قوله إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( ن 15 10 ) فقيل إنه الوليد بن المغيرة وعلى هذا التقدير يكون المعنى وما يكذب بيوم الدين من قريش أو من قومك إلا كل معتد أثيم وهذا هو الشخص المعين والقول الثاني أنه عام في حق جميع الموصوفين بهذه الصفات أما قوله تعالى كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فالمعنى ليس الأمر كما يقوله من أن ذلك أساطير الأولين بل أفعالهم الماضية صارت سبباً لحصول الرين في قلوبهم ولأهلهم اللغة في تفسير لفظة الرين وجوه ولأهل التفسير وجوه أخر أما أهل اللغة فقال أبو عبيدة ران على قلوبنهم غلب عليها والخمر ترين على عقل السكران والموت يرين على الميت فيذهب به قال الليث ران النعاس والخمر في الرأس إذا رسخ فيه وهو يريد رينا وريوناً ومن هذا حديث عمر في أسيفع جهينة لما ركبه الدين ( أصبح قد رين به ) قال أبو زيد يقال رين بالرجل يران به ريناً إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه قال أبو معاذ النحوي الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين والأقفال أشد من الطبع وهو أن يقفل على القلب قال الزجاج ران على قلوبهم بمعنى غطى على قلوبهم يقال ران على قلبه الذنب يرين ريناً أي غشيه والرين كالصدإ يغشى القلب ومثله العين أما أهل التفسير فلهم وجوه قال الحسن ومجاهد هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه فيموت القلب وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إياكم والمحقرات من الذنوب فإن الذنب على الذنب يوقد على صاحبه جحيماً ضخمة ) وعن مجاهد القلب كالكف فإذا أذنب الذنب انقبض وإذا أذنب ذنباً آخر انقبض ثم يطبع عليه وهو الرين وقال آخرون كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله وروي هذا مرفوعاً في حديث أبي هريرة قلت لا شك أن تكرر الأفعال سبب لحصول ملكة نفسانية فإن من أراد تعلم الكتابة فكلما كان إتيانه بعمل الكتابة أكثر كان اقتداره على عمل الكتابة أتم إلى أن يصير بحيث يقدر على الإتيان بالكتابة من غير روية ولا فكرة فهذه الهيئة النفسانية لما تولدت من تلك الأعمال الكثيرة كان لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الهيئة النفسانية إذا عرفت هذا فنقول إن الإنسان إذا واظب على الإتيان ببعض أنواع الذنوب حصلت في قلبه ملكة نفسانية على الإتيان بذلك الذنب ولا معنى للذنب إلا ما يشغلك بغير الله وكل ما يشغلك بغير الله فهو ظلمة فإذن الذنوب كلها ظلمات وسواد ولكل واحد من الأعمال السالفة التي أورث مجموعها حصول تلك الملكة أثر في حصولها فذلك هو المراد من قولهم كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب ولما كانت مراتب الملكات في الشدة والضعف مختلفة لا جرم كانت مراتب هذا السواد والظلمة مختلفة فبعضها يكون ريناً وبعضها طبعاً وبعضها أقفالاً قال القاضي ليس المراد من الرين أن قلبهم قد تغير وحصل فيه منع بل المراد أنهم صاروا لإيقاع الذنب حالاً بعد حال متجرئين عليه وقويت دواعيهم إلى ترك التوبة وترك الإقلاع فاستمروا وصعب الأمر عليهم ولذلك بين أن علة الرين كسبهم ومعلوم إن إكثارهم من اكتساب الذنوب لا يمنع من الإقلاع والتوبة وأقول قد بينا أن صدور الفعل حال استواء الداعي(31/86)
إلى الفعل والداعي إلى الترك محال لامتناع ترجيح الممكن من غير مرجح فبأن يكون ممتنعاً حال المرجوحية كان أولى ولما سلم القاضي أنهم صاروا بسبب الأفعال السالفة راجحاً فوجب أن يكون الإقلاع في هذه الحالة ممتنعاً وتمام الكلام قد تقدم مراراً في هذا الكتاب
أما قوله تعالى كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ فاعلم أنهم ذكروا في كَلاَّ وجوهاً أحدها قال صاحب ( الكشاف ) كَلاَّ ردع عن الكسب الرائن عن قلوبهم وثانيها قال القفال إن الله تعالى حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم أنه كان يقول إن كانت الآخرة حقاً فإن الله تعالى يعطيه مالاً وولداً ثم إنه تعالى كذبه في هذه المقالة فقال أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ( مريم 78 ) قال وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت 50 ) ولما كان هذا مما قد تردد ذكره في القرآن ترك الله ذكره ههنا وقال كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ أي ليس الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة حسنى بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وثانيها أن يكون ذلك تكريراً وتكون كَلاَّ هذه هي المذكورة في قوله كَلاَّ بَلْ رَانَ أما قوله إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ فقد احتج الأصحاب على أن المؤمنين يرونه سبحانه قالوا ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة وفيه تقرير آخر وهو أنه تعالى ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد والتهديد للكفار وما يكون وعيداً وتهديداً للكفار لا يجوز حصوله في حق المؤمن فوجب أن لا يحصل هذا الحجاب في حق المؤمن أجابت المعتزلة عن هذا من وجوه أحدها قال الجبائي المراد أنهم عن رحمة ربهم محجوبون أي ممنوعون كما يقال في الفرائض الإخوة يحجبون الأم على الثلث ومن ذلك يقال لمن يمنع عن الدخول هو حاجب لأنه يمنع من رؤيته وثانيها قال أبو مسلم لَّمَحْجُوبُونَ أي غير مقربين والحجاب الرد وهو ضد القبول والمعنى هؤلاء المنكرون للبعث غير مقبولين عند الله وهو المراد من قوله تعالى وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ ( آل عمران ) وثالثها قال القاضي الحجاب ليس عبارة عن عدم الرؤية فإنه قد يقال حجب فلان عن الأمير وإن كان قد رآه من البعد وإذا لم يكن الحجاب عبارة عن عدم الرؤية سقط الاستدلال بل يجب أن يحمل على صيرورته ممنوعاً عن وجدان رحمته تعالى ورابعها قال صاحب ( الكشاف ) كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للمكرمين لديهم ولا يحجب عنهم إلا المهانون عندهم والجواب لا شك أن من منع من رؤية شيء يقال إنه حجب عنه وأيضاً من منع من الدخول على الأمير يقال إنه حجب عنه وأيضاً يقال الأم حجبت عن الثلث بسبب الإخوة وإذا وجدنا هذه الاستعمالات وجب جعل اللفظ حقيقة في مفهوم مشترك بين هذه المواضع دفعاً للاشتراك في اللفظ وذلك هو المنع ففي الصورة الأولى حصل المنع من الرؤية وفي الثاني حصل المنع من الوصول إلى قربه وفي الثالثة حصل المنع من استحقاق الثلث فيصير تقدير الآية كلا إنهم عن ربهم يومئذ لممنوعون والمنع إنما يتحقق بالنسبة إلى ما يثبت للعبد بالنسبة إلى الله تعالى وهو إما العلم وإما الرؤية ولا يمكن حمله على العلم لأنه ثابت بالاتفاق للكفار فوجب(31/87)
حمله على الرؤية أما صرفه إلى الرحمة فهو عدول عن الظاهر من غير دليل وكذا ما قاله صاحب ( الكشاف ) ترك للظاهر من غير دليل ثم الذي يؤكد ما ذكرناه من الدليل أقوال المفسرين قال مقاتل معنى الآية أنهم بعد العرض والحساب لا يرون ربهم والمؤمنون يرون ربهم وقال الكلبي يقول إنهم عن النظر إلى رؤية ربهم لمحجوبون والمؤمن لا يحجب عن رؤية ربه وسئل مالك بن أنس عن هذه الآية فقال لما حجب أعداءه فلم يروه لا بد وأن يتجلى لأوليائه حتى يروه وعن الشافعي لما حجب قوماً بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا أما قوله تعالى ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ فالمعنى لما صاروا محجوبين في عرصة القيامة إما عن رؤية الله على قولنا أو عن رحمة الله وكرامته على قول المعتزلة فعند ذلك يؤمر بهم إلى النار ثم إذا دخلوا النار وبخوا بتكذيبهم بالبعث والجزاء فقيل لهم هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ في الدنيا والآن قد عاينتموه فذوقوه
كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاٌّ بْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الفجار المطففين أتبعه بذكر حال الأبرار الذين لا يطففون فقال كَلاَّ أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث ومن أن كتاب الله أساطير الأولين واعلم أن لأهل اللغة في لفظ عِلّيّينَ أقوالاً ولأهل التفسير أيضاً أقوالاً أما أهل اللغة قال أبو الفتح الموصلي عِلّيّينَ جمع علي وهو فعيل من العلو وقال الزجاج إعراب هذا الاسم كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع كما تقول هذه قنسرون ورأيت قنسرين وأما المفسرون فروي عن ابن عباس أنها السماء الرابعة وفي رواية أخرى إنها السماء السابعة وقال قتادة ومقاتل هي قائمة العرش اليمنى فوق السماء السابعة وقال الضحاك هي سدرة المنتهى وقال الفراء يعني ارتفاعاً بعد ارتفاع لا غاية له وقال الزجاج أعلى الأمكنة وقال آخرون هي مراتب عالية محفوظة بالجلالة قد عظمها الله وأعلى شأنها وقال آخرون عند كتاب أعمال الملائكة وظاهر القرآن يشهد لهذا القول الأخير لأنه تعالى قال لرسوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ تنبيهاً له على أنه معلوم له وأنه سيعرفه ثم قال كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ فبين أن كتابهم في هذا الكتاب المرقوم الذي يشهده المقربون من الملائكة فكأنه تعالى كما وكلهم باللوح المحفوظ فكذلك يوكلهم بحفظ كتب الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو أم الكتاب على وجه الإعظام له ولا يمتنع أن الحفظة إذا صعدت بكتب الأبرار فإنهم يسلمونها إلى هؤلاء المقربين فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم أو ينقلون ما في تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكلوا بحفظه ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار فلذلك يحاسبون حساباً يسيراً لأن هؤلاء المقربين يشهدون لهم بما حفظوه من أعمالهم وإذا كان هذا الكتاب في السماء صح قول من تأول ذلك على أنه في السماء العالية فتتقارب الأقوال في ذلك وإذا كان الذي ذكرناه أولى
واعلم أن المعتمد في تفسير هذه الآية ما بينا أن العلو والفسحة والضياء والطهارة من علامات السعادة(31/88)