الرسول لا يكون إلا بقول المرسل فإذا قال ملك هذا رسولي لو أنكر كل من في الدنيا أنه رسول فلا يفيد إنكارهم فقال تعالى أي خلل في رسالته بإنكارهم مع تصديقي إياه بأنه رسولي وقوله مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ فيه وجوه أحدها خبر مبتدأ محذوف تقديره هو محمد الذي سبق ذكره بقوله أَرْسَلَ رَسُولَهُ ورسول الله عطف بيان وثانيها أن محمداً مبتدأ خبره رسول الله وهذا تأكيد لما تقدم لأنه لما قال هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ولا تتوقف رسالته إلا على شهادته وقد شهد له بها محمد رسول اللهمن غير نكير وثالثها وهو مستنبط وهو أن يقال مُحَمَّدٌ مبتدأ و رَسُولِ اللَّهِ عطف بيان سيق للمدح لا للتمييز وَالَّذِينَ مَعَهُ عطف على محمد وقوله أَشِدَّاء خبره كأنه تعالى قال وَالَّذِينَ مَعَهُ جميعهم أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم أما في المؤمنين فكما في قوله تعالى أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) وأما في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكما في قوله وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 73 ) وقال في حقه بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) وعلى هذا قوله تَرَاهُمْ لا يكون خطاباً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بل يكون عاماً أخرج مخرج الخطاب تقديره أيها السامع كائناً من كان كما قلنا إن الواعظ يقول انتبه قبل أن يقع الانتباه ولا يريد به واحداً بعينه وقوله تعالى يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار وسجودهم وركوع المرائي وسجوده فإنه لا يبتغي به ذلك وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال الراكعون والساجدون لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ ( فاطر 30 ) وقال الراكع يبتغي الفضل ولم يذكر الأجر لأن الله تعالى إذا قال لكم أجر كان ذلك منه تفضلاً وإشارة إلى أن عملكم جاء على ما طلب الله منكم لأن الأجرة لا تستحق إلا على العمل الموافق للطلب من المالك والمؤمن إذا قال أنا أبتغي فضلك يكون منه اعترافاً بالتقصير فقال يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ ولم يقل أجراً
وقوله تعالى سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ فيه وجهان أحدهما أن ذلك يوم القيامة كما قال تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ( آل عمران 106 ) وقال تعالى نُورُهُمْ يَسْعَى ( التحريم 8 ) وعلى هذا فنقول نورهم في وجوههم بسبب توجههم نحو الحق كما قال إبراهيم عليه السلام إِنّى وَجَّهْتُ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) ومن يحاذي الشمس يقع شعاعها على وجهه فيتبين على وجهه النور منبسطاً مع أن الشمس لها نور عارضي يقبل الزوال والله نور السماوات والأرض فمن يتوجه إلى وجهه يظهر في وجهه نور يبهر الأنوار وثانيهما أن ذلك في الدنيا وفيه وجهان أحدهما أن المراد ما يظهر في الجباه بسبب كثرة السجود والثاني ما يظهره الله تعالى في وجوه الساجدين ليلاً من الحسن نهاراً وهذا محقق لمن يعقل فإن رجلين يسهران بالليل أحدهما قد اشتغل بالشراب واللعب والآخر قد اشتغل بالصلاة والقراءة واستفادة العلم فكل أحد في اليوم الثاني يفرق بين الساهر في الشرب واللعب وبين الساهر في الذكر والشكر
وقوله تعالى ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ فيه ثلاثة أوجه مذكورة أحدها أن يكون ذالِكَ مبتدأ و مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ خبراً له وقوله تعالى كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ خبراً مبتدأ محذوف تقديره ومثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع وثانيها أن يكون خبر ذلك هو قوله مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وقوله وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ مبتدأ وخبره كزرع وثالثها أن يكون ذلك إشارة غير معينة أوضحت(28/93)
بقوله تعالى كَزَرْعٍ كقوله ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( الحجر 66 ) وفيه وجه رابع وهو أن يكون ذلك خبراً له مبتدأ محذوف تقديره هذا الظاهر في وجوههم ذلك يقال ظهر في وجهه أثر الضرب فنقول أي والله ذلك أي هذا ذلك الظاهر أو الظاهر الذي تقوله ذلك
وقوله تعالى وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
أي وصفوا في الكتابين به ومثلوا بذلك وإنما جعلوا كالزرع لأنه أول ما يخرج يكون ضعيفاً وله نمو إلى حد الكمال فكذلك المؤمنون والشطء الفرخ و فَازَرَهُ يحتمل أن يكون المراد أخرج الشطء وآزر الشطء وهو أقوى وأظهر والكلام يتم عند قوله يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
وقوله تعالى لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ أي تنمية الله ذلك ليغيظ أو يكون الفعل المعلل هو
وقوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أي وعد ليغيظ بهم الكفار يقال رغماً لأنفك أنعم عليه
وقوله تعالى مِنْهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً لبيان الجنس لا للتبعيض ويحتمل أن يقال هو للتبعيض ومعناه ليغيظ الكفار والذين آمنوا من الكفار لهم الأجر العظيم والعظيم والمغفرة قد تقدم مراراً والله تعالى أعلم وههنا لطيفة وهو أنه تعالى قال في حق الراكعين والساجدين إنهم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وقال لهم أجر ولم يقل لهم ما يطلبونه من ذلك الفضل وذلك لأن المؤمن عند العمل لم يلتفت إلى عمله ولم يجعل له أجراً يعتد به فقال لا أبتغي إلا فضلك فإن عملي نزر لا يكون له أجر والله تعالى آتاه ما آتاه من الفضل وسماه أجراً إشارة إلى قبول عمله ووقوعه الموقع وعدم كونه عند الله نزراً لا يستحق عليه المؤمن أجراً وقد علم بما ذكرنا مراراً أن قوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لبيان ترتب المغفرة على الإيمان فإن كل مؤمن يغفر له كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) والأجر العظيم على العمل الصالح والله أعلم(28/94)
سورة الحجرات
ثماني عشرة آية مدنية
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
في بيان حسن الترتيب وجوه أحدها أن في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميل إلى الامتناع مما أجاز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الصلح وترك آية التسمية والرسالة وألزمهم كلمة التقوى كأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهم على سبيل العموم لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ولا تتجاوزوا ما يأمر الله تعالى ورسوله الثاني هو أن الله تعالى لما بيّن محل النبي عليه الصلاة والسلام وعلو درجته بكونه رسوله الذي يظهر دينه وذكره بأنه رحيم بالمؤمنين بقوله رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) قال لا تتركوا من احترامه شيئاً لا بالفعل ولا بالقول ولا تغتروا برأفته وانظروا إلى رفعة درجته الثالث هو أن الله تعالى وصف المؤمنين بكونهم أشداء ورحماء فيما بينهم راكعين ساجدين نظراً إلى جانب الله تعالى وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ما أورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة بقوله ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ ( الفتح 29 ) فإن الملك العظيم لا يذكر أحداً في غيبته إلا إذا كان عنده محترماً ووعدهم بالأجر العظيم فقال في هذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انحطاط درجتكم وإحباط حسناتكم ولا تقدموا فقال وقيل في سبب نزول الآية وجوه قيل نزلت في صوم يوم الشك وقيل نزلت في التضحية قبل صلاة العيد وقيل نزلت في ثلاثة قتلوا اثنين من سليم ظنوهما من بني عامر وقيل نزلت في جماعة أكثروا من السؤال وكان قد قدم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفود والأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل إثبات وتقدم واستبداد بالأمر وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى لاَ تُقَدّمُواْ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون من التقديم الذي هو(28/95)
متعد وعلى هذا ففيه وجهان أحدهما ترك مفعوله برأسه كما في قوله تعالى لاَ إله وقول القائل فلان يعطي ويمنع ولا يريد بهما إعطاء شيء معين ولا منع شيء معين وإنما يريد بهما أن له منعاً وإعطاء كذلك ههنا كأنه تعالى يقول لا ينبغي أن يصدر منكم تقديم أصلاً والثاني أن يكون المفعول الفعل أو الأمر كأنه يقول لاَ تُقَدّمُواْ يعني فعلاً بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أو لا تقدموا أمراً الثاني أن يكون المراد لاَ تُقَدّمُواْ بمعنى لا تتقدموا وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد هو نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقال فلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمره وعلا شأنه والسبب فيه أن من ارتفع يكون متقدماً في الدخول في الأمور العظام وفي الذكر عند ذكر الكرام وعلى هذا نقول سواء جعلناه متعدياً أو لازماً لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيداً فالمعنى واحد لأن قوله لاَ تُقَدّمُواْ إذا جعلناه متعدياً أو لازماً لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيداً فتقديره لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً ورأياً عنده ولا نقول بأن المراد لا تقدموا أمراً وفعلاً وحينئذ تتحد القراءتان في المعنى وهما قراءة من قرأ بفتح التاء والدال وقراءة من قرأ بضم التاء وكسر الدال وقوله تعالى بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي بحضرتهما لأن ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه وهو ناظر إليه وهو نصب عينيه وفي قوله بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فوائد أحدها أن قول القائل فلان بين يدي فلان إشارة إلى كون كل واحد منهما حاضراً عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغلمان لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تقليب الحدقة إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام والأمر ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك ولأن اليدين تنبىء عن القدرة يقول القائل هو بين يدي فلان أي يقلبه كيف شاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعاً بين يديه وذلك مما يفيد وجوب الاحتراز من التقدم وتقديم النفس لأن من يكون كمتاع يقلبه الإنسان بيديه كيف يكون له عنده التقدم وثانيها ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأوامره وذلك لأن احترام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قد يترك على بعد المرسل وعدم اطلاعه على ما يفعل برسوله فقال بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ أي أنتم بحضرة من الله تعالى وهو ناظر إليكم وفي مثل هذه الحالة يجب احترام رسوله وثالثها هو أن هذه العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر معنى الأمر المتأخر وهو قوله وَاتَّقَوْاْ لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يفعل به ما يشاء يكون جديراً بأن يتقيه وقوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ يحتمل أن يكون ذلك عطفاً يوجب مغايرة مثل المغايرة التي في قول القائل لا تتم واشتغل أي فائدة ذلك النهي هو ما في هذا الأمر وليس المطلوب به ترك النوم كيف كان بل المطلوب بذلك الاشتغال فكذلك لا تقدموا أنفسكم ولا تتقدموا على وجه التقوى ويحتمل أن يكون بينهما مغايرة أتم من ذلك وهي التي في قول القائل احترم زيداً واخدمه أي ائت بأتم الاحترام فكذلك ههنا معناه لا تتقدموا عنده وإذا تركتم التقدم فلا تتكلوا على ذلك فلا تنتفعوا بل مع أنكم قائمون بذلك محترمون له اتقوا الله واخشوه وإلا لم تكونوا أتيتم بواجب الاحترام وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يؤكد ما تقدم لأنهم قالوا آمنا لأن الخطاب يفهم بقوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فقد يسمع قولهم ويعلم فعلهم وما في قلوبهم من التقوى والخيانة فلا ينبغي أن يختلف قولكم وفعلكم وضمير قلبكم بل ينبغي أن يتم مما في سمعه من قولكم آمنا وسمعنا وأطعنا وما في علمه من فعلكم الظاهر وهو عدم التقدم وما في قلوبكم من الضمائر وهو التقوى
( 2 )(28/96)
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِى ِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ
لاَ تُقَدّمُواْ ( الحجرات 1 ) نهي عن فعل ينبىء عن كونهم جاعلين لأنفسهم عند الله ورسوله بالنسبة إليهما وزناً ومقداراً ومدخلاً في أمر من أوامرهما ونواهيهما وقوله لاَ تَرْفَعُواْ نهي عن قول ينبىء عن ذلك الأمر لأن من يرفع صوته عند غيره يجعل لنفسه اعتباراً وعظمة وفيه مباحث
البحث الأول ما الفائدة في إعادة النداء وما هذا النمط من الكلامين على قول القائل عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ ( الحجرات 1 ) و لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ نقول في إعادة النداء فوائد خمسة منها أن يكون في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كما في قول لقمان لابنه يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ ( لقمان 13 ) تَعْمَلُونَ يابُنَى َّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ ( لقمان 16 ) لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصَّلَواة َ ( لقمان 17 ) لأن النداء لتنبيه المنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه فإعادته تفيد ذلك ومنها أن لا يتوهم متوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً فإن من الجائز أن يقول القائل يا زيد افعل كذا وقل كذا يا عمرو فإذا أعاده مرة أخرى وقال يا زيد قل كذا يعلم من أول الكلام أنه هو المخاطب ثانياً أيضاً ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود وليس الثاني تأكيداً للأول كما تقول يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق فإنه لا يحسن أن يقال يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم كما يحسن عند اختلاف المطلوبين وقوله تعالى لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون المراد حقيقته وذلك لأن رفع الصوت دليل قلة الاحتشام وترك الاحترام وهذا من مسألة حكمية وهي أن الصوت بالمخارج ومن خشي قلبه ارتجف وتضعف حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة ومن لم يخف ثبت قلبه وقوي فرفع الهواء دليل عدم الخشية ثانيها أن يكون المراد المنع من كثر الكلام لأن من يكثر الكلام يكون متكلماً عن سكوت الغير فيكون في وقت سكوت الغير لصوته ارتفاع وإن كان خائفاً إذا نظرت إلى حال غيره فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلام كثير بالنسبة إلى كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام مبلغ فالمتكلم عنده إن أراد الإخبار لا يجوز وإن استخبر النبي عليه السلام عما وجب عليه البيان فهو لا يسكت عما يسأل وإن لم يسأل وربما يكون في السؤال حقيدة برد جواب لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورطة العقاب ثالثها أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الخطاب كما يقول القائل لغيره أمرتك مراراً بكذا عندما يقول له صاحبه مرني بأمر مثله فيكون أحد الكلامين أعلى وأرفع من الآخر والأول أصح والكل يدخل في حكم المراد لأن المنع من رفع الصوت لا يكون إلا للاحترام وإظهار الاحتشام ومن بلغ احترامه إلى حيث تنخفض الأصوات عنده من هيبته وعلو مرتبته لا يكثر عنده الكلام ولا يرجع المتكلم مع في الخطاب وقوله تعالى وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ فيه فوائد(28/97)
إحداها أن بالأول حصل المنع من أن يجعل الإنسان كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصوته ولقائل أن يقول فما منعت من المساواة فقال تعالى ولا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم ونظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا
والثانية أن هذا أفاد أنه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي عليه السلام كما يتكلم العبد عند سيده لأن العبد داخل تحت قوله كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما يجهر العبد للسيد وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض لا يقال المفهوم من هذا النمط أن لا تجعلوه كما يتفق بينكم بل تميزوه بأن لا تجهروا عنده أبداً وفيما بينكم لا تحافظون على الاحترام لأنا نقول ما ذكرنا أقرب إلى الحقيقة وفيه ما ذكرتم من المعنى وزيادة ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( الأحزاب 6 ) والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كانا في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده ويجب البذل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقى نفسه في التهلكة لإنجاء سيده ويجب لإنجاء النبي عليه الصلاة والسلام وقد ذكرنا حقيقته عند تفسير الآية وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره لأن عند خلل القلب مثلاً لا يبقى لليدين والرجلين استقامة فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي عليه الصلاة والسلام لهلك هو أيضاً بخلاف العبد والسيد
الفائدة الثانية أن قوله تعالى لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ لما كان من جنس لا تَجْهَرُواْ لم يستأنف النداء ولما كان هو يخالف التقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كما في قول لقمان يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ ( لقمان 13 ) وقوله لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصَّلَواة َ ( لقمان 17 ) لكون الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح وقوله لَطِيفٌ خَبِيرٌ يابُنَى َّ أَقِمِ الصَّلَواة َ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ من غير استئناف النداء لأن الكل من عمل الجوارح
واعلم أنا إن قلنا المراد من قوله لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ أي لا تكثروا الكلام فقوله وَلاَ تَجْهَرُواْ يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل وكذلك إن قلنا المراد بالرفع الخطاب فالمراد بقوله لا تَجْهَرُواْ أي لا تخاطبوه كما تخاطبون غيره وقوله تعالى أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ فيه وجهان مشهوران أحدهما لئلا تحبط والثاني كراهة أن تحبط وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) وأمثاله ويحتمل ههنا وجهاً آخر وهو أن يقال معناه واتقوا الله واجتنبوا أن تحبط أعمالكم والدليل على هذا أن الإضمار لما لم يكن منه بد فما دل عليه الكلام الذي هو فيه أولى أن يضمر والأمر بالتقوى قد سبق في قوله تعالى وَاتَّقَوْاْ ( الحجرات 1 ) وأما المعنى فنقول قوله أَن تَحْبَطَ إشارة إلى أنكم إن رفعتم أصوتكم وتقدمتكم تتمكن منكم هذه الرذائل وتؤدي إلى الاستحقار وإنه يفضي إلى الانفراد والارتداد المحبط وقوله تعالى وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إشارة إلى أن الردة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نادماً غاية الندامة خائفاً غاية الخوف فإذا ارتكبه مراراً يقل الخوف والندامة ويصير عادة من حيث لا يعلم أنه لا يتمكن وهذا كان للتمكن في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها وهذا كما أن من بلغه خبر فإنه لا يقطع بقول المخبر(28/98)
في المرة الأولى فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ حد التواتر يحصل له اليقين ويتمكن الاعتقاد ولا يدري متى كان ذلك وعند أي خبر حصل هذا اليقين فقوله وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تعفي ولا توجب رده لأن الأمر غير معلوم فاحسموا الباب وفيه بيان آخر وهو أن المكلف إذا لم يحترم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويجعل نفسه مثله فيما يأتي به بناء على أمره يكون كما يأتي به بناء على أمر نفسه لكن ما تأمر به النفس لا يوجب الثواب وهو محبط حابط كذلك ما يأتي به بغير أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حينئذ حابط محبط والله أعلم
واعلم أن الله تعالى لما أمر المؤمنين باحترام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإكرامه وتقديمه على أنفسهم وعلى كل من خلقه الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بالرأفة والرحمة وأن يكون أرأف بهم من الوالد كما قال وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ( الحجر 88 ) وقال تعالى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ( الكهف 28 ) وقال وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( القلم 48 ) إلى غير ذلك لئلا تكون خدمته خدمة الجبارين الذين يستعبدون الأحرار بالقهر فيكون انقيادهم لوجه الله
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
وفيه الحث على ما أرشدهم إليه من وجهين أحدهما ظاهر لكل أحد وذلك في قوله تعالى امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى وبيانه هو أن من يقدم نفسه ويرفع صوته يريد إكرام نفسه واحترام شخصه فقال تعالى ترك هذا الاحترام يحصل به حقيقة الاحترام وبالإعراض عن هذا الإكرام يكمل الإكرام لأن به تتبين تقواكم و إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) ومن القبيح أن يدخل الإنسان حماماً فيتخير لنفسه فيه منصباً ويفوت بسببه منصبه عند السلطان ويعظم نفسه في الخلاء والمستراح وبسببه يهون في الجمع العظيم وقوله تعالى امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى فيه وجوه أحدها امتحنها ليعلم منه التقوى فإن من يعظم واحداً من أبناء جنسه لكونه رسول مرسل يكون تعظيمه للمرسل أعظم وخوفه منه أقوى وهذا كما في قوله تعالى وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ( الحج 32 ) أي تعظيم أوامر الله من تقوى الله فكذلك تعظيم رسول الله من تقواه الثاني امتحن أي علم وعرف لأن الامتحان تعرف الشيء فيجوز استعماله في معناه وعلى هذا فاللام تتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كما يقول القائل أنت لكذا أي صالح أو كائن الثالث امتحن أي أخلص يقال للذهب ممتحن أي مخلص في النار وهذه الوجوه كلها مذكورة ويحتمل أن يقال معناه امتحنها للتقوى اللام للتعليل وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تعليلاً يجري مجرى بيان السبب المتقدم كما يقول القائل جئتك لإكرامك لي أمس أي صار ذلك الإكرام السابق سبب المجيء وثانيها أن يكون تعليلاً يجري مجرى بيان غاية المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً كما يقول القائل جئتك لأداء الواجب فإن قلنا بالأول فتحقيقه هو أن الله علم ما في قلوبهم من تقواه وامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها ولولا أن قلوبهم كانت(28/99)
مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم بل كان يقول لهم آمنوا برسولي ولا تؤذوه ولا تكذبوه فإن الكافر أول ما يؤمن يؤمن بالاعتراف بكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً وبين من قيل له لا تستهزىء برسول الله ولا تكذبه ولا تؤذه وبين من قيل له لا ترفع صوتك عنده ولا تجعل لنفسك وزناً بين يديه ولا تجهر بكلامك الصادق بين يديه بون عظيم
واعلم أن بقدر تقديمك للنبي عليه الصلاة والسلام على نفسك في الدنيا يكون تقديم النبي عليه الصلاة والسلام إياك في العقبى فإنه لن يدخل أحد الجنة ما لم يدخل الله أمته المتقين الجنة فإن قلنا بالثاني فتحقيقه هو أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته ومعرفة رسوله بالتقوى أي ليرزقهم الله التقوى التي هي حق التقاة وهي التي لا تخشى مع خشية الله أحداً فتراه آمناً من كل مخيف لا يخاف في الدنيا بخساً ولا يخاف في الآخرة نحساً والناظر العاقل إذا علم أن بالخوف من السلطان يأمن جور الغلمان وبتجنب الأراذل ينجو من بأس السلطان فيجعل خوف السلطان جنة فكذلك العالم لو أمعن النظر لعلم أن بخشية الله النجاة في الدارين وبالخوف من غيره الهلاك فيهما فيجعل خشية الله جنته التي يحس بها نفسه في الدنيا والآخرة
ثم قال تعالى لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
وقد ذكرنا أن المغفرة إزالة السيئات التي هي في الدنيا لازمة للنفس والأجر العظيم إشارة إلى الحياة التي هي بعد مفارقة الدنيا عن النفس فيزيل الله عنه القبائح البهيمية ويلبسه المحاسن الملكية
إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
بياناً لحال من كان في مقابلة من تقدم فإن الأول غض صوته والآخر رفعه وفيه إشارة إلى أنه ترك لأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة عليه وأما قول القائل للملك يا فلان من سوء الأدب فإن قلت كل أحد يقول يا الله مع أن الله أكبر نقول النداء على قسمين أحدهما لتنبيه المنادى وثانيهما لإظهار حاجة المنادي مثال الأول قول القائل لرفيقه أو غلامه يا فلان ومثال الثاني قول القائل في الندبة يا أمير المؤمنين أو يا زيداه ولقائل أن يقول إن كان زيد بالمشرق لا تنبيه فإنه محال فكيف يناديه وهو ميت فنقول قولنا يا الله لإظهار حاجة الأنفس لا لتنبيه المنادى وإنما كان في النداء الأمران جميعاً لأن المنادي لا ينادي إلا لحاجة في نفسه يعرضها ولا ينادي في الأكثر إلا معرضاً أو غافلاً فحصل في النداء الأمران ونداؤهم كان للتنبيه وهو سوء أدب وأما قول أحدنا للكبير يا سيدي ويا مولاي فهو جار مجرى الوصف والإخبار الثاني النداء من وراء الحجرات فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المشي والمجيء بل يجيبه من مكانه ويكلمه ولا يطلب المنادي إلا لالتفات المنادى إليه ومن ينادي غيره من وراء الحائل فكأنه يريد منه حضوره كمن ينادي صاحب البستان من خارج البستان الثالث قوله الْحُجُراتِ إشارة إلى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في خلوته التي لا يحسن في الأدب إتيان المحتاج إليه في حاجته في ذلك الوقت بل الأحسن التأخير وإن كان في ورطة الحاجة وقوله تعالى أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ فيه بيان المعايب بقدر ما في سوء أدبهم من القبائح وذلك لأن الكلام من خواص الإنسان وهو أعلى مرتبة من غيره وليس لمن دونه كلام لكن النداء في المعنى كالتنبيه وقد يحصل بصوت يضرب شيء على شي وفي الحيوانات العجم ما يظهر(28/100)
لكل أحد كالنداء فإن الشاة تصيح وتطلب ولدها وكذلك غيرها من الحيوانات والسخلة كذلك فكأن النداء حصل في المعنى لغير الآدمي فقال الله تعالى في حقهم أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ يعني النداء الصادر منهم لما لم يكن مقروناً بحسن الأدب كانوا فيه خارجين عن درجة من يعقل وكان نداؤهم كصياح صدر من بعض الحيوان وقوله تعالى أَكْثَرُهُمْ فيه وجهان أحدهما أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل وإنما تأتي بالأكثر احترازاً عن الكذب واحتياطاً في الكلام لأن الكذب مما يحبط به عمل الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل ثم إن الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم وفيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله تعالى يقول أنا مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحساناً لتلك العادة وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلاً قاطعاً على رضائي بذلك وثانيهما أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون وتحقيق هذا هو أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني مثاله الإنسان يكون جاهلاً وفقيراً فيصير عالماً وغنياً فيقال في العرف زيد ليس هو الذي رأيته من قبل بل الآن على أحسن حال فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ما ذكرنا إذا علم هذا فهم في بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة مغايرون لأنفسهم إذا اعتبرتهم مع غيرها فقال تعالى أَكْثَرُهُمْ إشارة إلى ما ذكرناه وفيه وجه ثالث وهو أن يقال لعل منهم من رجع عن تلك الأهواء ومنهم من استمر على تلك العادة الرديئة فقال أكثرهم إخراجاً لمن ندم منهم عنهم
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
ثم قال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ إشارة إلى حسن الأدب الذي على خلاف ما أتوا به من سوء الأدب فإنهم لو صبروا لما احتاجوا إلى النداء وإذا كنت تخرج إليهم فلا يصح إتيانهم في وقت اختلائك بنفسك أو بأهلك أو بربك فإن للنفس حقاً وللأهل حقاً وقوله تعالى لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد أن ذلك هو الحسن والخير كقوله تعالى خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( الفرقان 24 ) وثانيهما أن يكون المراد هو أن بالنداء وعدم الصبر يستفيدون تنجيز الشغل ودفع الحاجة في الحال وهو مطلوب ولكن المحافظة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتعظيمه خير من ذلك لأنها تدفع الحاجة الأصلية التي في الآخرة وحاجات الدنيا فضلية والمرفوع الذي يقتضيه كلمة كان إما الصبر وتقديره لو أنهم صبروا لكان الصبر خيراً أو الخروج من غير نداء وتقديره لو صبروا حتى تخرج إليهم لكان خروجك من غير نداء خيراً لهم وذلك مناسب للحكاية لأنهم طلبوا خروجه عليه الصلاة والسلام ليأخذوا ذراريهم فخرج وأعتق نصفهم وأخذوا نصفهم ولو صبروا لكان يعتق كلهم والأول أصح
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ تحقيقاً لأمرين أحدهما لسوء صنيعهم في التعجل فإن الإنسان إذا أتى بقبيح ولا يعاقبه الملك أو السيد يقال ما أحلم سيده لا لبيان حلمه بل لبيان عظيم جناية العبد وثانيهما لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير يغفر الله لهم سيئاتهم ويجعل هذه الحسنة كفارة(28/101)
لكثير من السيئات كما يقال للآبق إذا رجع إلى باب سيده أحسنت في رجوعك وسيدك رحيم أي لا يعاقبك على ما تقدم من ذنبك بسبب ما أتيت به من الحسنة ويمكن أن يقال بأن ذلك حث للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الصفح وقوله تعالى أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ كالعذر لهم وقد ذكرنا أن الله تعالى ذكر في بعض المواضع الغفران قبل الرحمة كما في هذه السورة وذكر الرحمة قبل المغفرة في سورة سبأ في قوله وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ( سبأ 2 ) فحيث قال غفور رحيم أي يغفر سيئاته ثم ينظر إليه فيراه عارياً محتاجاً فيرحمه ويلبسه لباس الكرامة وقد يراه مغموراً في السيئات فيغفر سيئاته ثم يرحمه بعد المغفرة فتارة تقع الإشارة إلى الرحمة التي بعد المغفرة فيقدم المغفرة وتارة تقع الرحمة قبل المغفرة فيؤخرها ولما كانت الرحمة واسعة توجد قبل المغفرة وبعدها ذكرها قبلها وبعدها
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَة ٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي إما مع الله تعالى أو مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو مع غيرهم من أبناء الجنس وهم على صنفين لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجاً عنها وهو الفاسق والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم فهذه خمسة أقسام أحدها يتعلق بجانب الله وثانيها بجانب الرسول وثالثها بجانب الفساق ورابعها بالمؤمن الحاضر وخامسها بالمؤمن الغائب فذكرهم الله تعالى في هذه السورة خمس مرات ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وأرشدهم في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة فقال أولاً عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( الحجرات 1 ) وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله وقال ثانياً عَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِى ّ ( الحجرات 2 ) لبيان وجوب احترم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ثالثاً رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم وبين ذلك عند تفسير قوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 ) وقال رابعاً تُرْحَمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ ( الحجرات 11 ) وقال وَلاَ تَنَابَزُواْ ( الحجرات 11 ) لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم والازدراء بحالهم ومنصبهم وقال خامساً الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ ( الحجرات 12 ) وقال وَلاَ تَجَسَّسُواْ ( الحجرات 12 ) وقال وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى وهو في غاية الحسن من الترتيب فإن قيل لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة الابتداء بالله ورسوله ثم بالمؤمن الحاضر ثم بالمؤمن الغائب ثم بالفاسق نقول قدم الله ما هو الأهم على ما دونه فذكر جانب الله ثم ذكر جانب الرسول ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه فإنه يذكر كل ما كان أشد نفاراً للصدور وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتل ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال فقال وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية هو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث الوليد بن عقبة وهو أخو عثمان لأمه(28/102)
إلى بني المصطلق ولياً ومصدقاً فالتقوه فظنهم مقاتلين فرجع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إنهم امتنعوا ومنعوا فهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالإيقاع بهم فنزلت هذه الآية وأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنهم لم يفعلوا من ذلك شيئاً وهذا جيد إن قالوا بأن الآية نزلت في ذلك الوقت وأما إن قالوا بأنها نزلت لذلك مقتصراً عليه ومتعدياً إلى غيره فلا بل نقول هو نزل عاماً لبيان التثبت وترك الاعتماد على قول الفاسق ويدل على ضعف قول من يقول إنها نزلت لكذا أن الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم ينقل عنه أنه بين أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل التاريخ لنزول الآية ونحن نصدق ذلك ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد سيء بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ والمخطىء لا يسمى فاسقاً وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( المنافقون 6 ) وقوله تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ ( الكهف 50 ) وقوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا ( السجدة 20 ) إلى غير ذلك
المسألة الثانية قوله تعالى إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ إشارة إلى لطيفة وهي أن المؤمن كان موصوفاً بأنه شديد على الكافر غليظ عليه فلا يتمكن الفاسق من أن يخبره بنبأ فإن تمكن منه يكون نادراً فقال أَن جَاءكُمْ بحرف الشرط الذي لا يذكر إلا مع التوقع إذ لا يحسن أن يقال إن احمر البسر وإن طلعت الشمس
المسألة الثالثة النكرة في معرض الشرط تعم إذا كانت في جانب الثبوت كما أنها تعم في الإخبار إذا كانت في جانب النفي وتخص في معرض الشرط إذ كانت في جانب النفي كما تخص في الإخبار إذا كانت في جانب الثبوت فلنذكر بيانه بالمثال ودليله أما بيانه بالمثال فنقول إذا قال قائل لعبده إن كلمت رجلاً فأنت حر فيكون كأنه قال لا أكلم رجلاً حتى يعتق بتكلم كل رجل وإذا قال إن لم أكلم اليوم رجلاً فأنت حر يكون كأنه قال لا أكلم اليوم رجلاً حتى لا يعتق العبد بترك كلام كل رجل كما لا يظهر الحلف في كلامه بكلام كل رجل إذا ترك الكلام مع رجل واحد وأما الدليل فلأن النظر أولاً إلى جانب الإثبات ألا ترى أنه من غير حرف لما أن الوضع للاثبات والنفي بحرف فقول القائل زيد قائم وضع أولاً ولم يحتج إلى أن يقال مع ذلك حرف يدل على ثبوت القيام لزيد وفي جانب النفي احتجنا إلى أن نقول زيد ليس بقائم ولو كان الوضع والتركيب أولاً للنفي لما احتجنا إلى الحرف الزائد اقتصاراً أو اختصاراً وإذا كان كذلك فقول القائل رأيت رجلاً يكفي فيه ما يصحح القول وهو رؤية واحد فإذا قلت ما رأيت رجلاً وهو وضع لمقابلة قوله رأيت رجلاً وركب لتلك المقابلة والمتقابلان ينبغي أن لا يصدقا فقول القائل ما رأيت رجلاً لو كفى فيه انتفاء الرؤية عن غير واحد لصح قولنا رأيت رجلاً وما رأيت رجلاً فلا يكونان متقابلين فيلزمنا من الاصطلاح الأول الاصطلاح الثاني ولزم منه العموم في جانب النفي إذا علم هذا فنقول الشرطية وضعت أولاً ثم ركبت بعد الجزمية بدليل زيادة الحرف وهو في مقابلة الجزمية وكان قول القائل إذا لم تكن أنت حراً ما كلمت رجلاً يرجع إلى معنى النفي وكما علم عموم القول في الفاسق علم عمومه في النبأ فمعناه أي فاسق جاءكم بأي نبأ فالتثبت فيه واجب
المسألة الرابعة متمسك أصحابنا في أن خبر الواحد حجة وشهادة الفاسق لا تقبل أما في المسألة(28/103)
الأولى فقالوا علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقاً ولو كان خبر الوحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على الفاسق فائدة وهو من باب التمسك بالمفهوم وأما في الثانية فلوجهين أحدهما أمر بالتبين فلو قبل قوله لما كان الحاكم مأموراً بالتبين فلم يكن قول الفاسق مقبولاً ثم إن الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيف من باب الخبر والثاني هو أنه تعالى قال ءانٍ تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَة ٍ والجهل فوق الخطأ لأن المجتهد إذ أخطأ لا يسمى جاهلاً والذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جهل فلا يكون البناء على قوله جائزاً
المسألة الخامسة ءانٍ ذكرنا فيها وجهين أحدهما مذهب الكوفيين وهو أن المراد لئلا تصيبوا وثانيها مذهب البصريين وهو أن المراد كراهة أن تصيبوا ويحتمل أن يقال المراد فتبينوا واتقوا وقوله تعالى ءانٍ بَعْدَهَا قَوْماً يبين ما ذكرنا أن يقول الفاسق تظهر الفتن بين أقوام ولا كذلك بالألفاظ المؤذية في الوجه والغيبة الصادرة من المؤمنين لأن المؤمن يمنعه دينه من الإفحاش والمبالغة في الإيحاش وقوله بِجَهَالَة ٍ في تقدير حال أي أن تصيبوهم جاهلين وفيه لطيفة وهي أن الإصابة تستعمل في السيئة والحسنة كما في قوله تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النساء 79 ) لكن الأكثر أنها تستعمل فيما يسوء لكن الظن السوء يذكر معه كما في قوله تعالى وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ ( النساء 78 ) ثم حقق ذلك بقوله فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ بياناً لأن الجاهل لا بد من أن يكون على فعله نادماً وقوله فَتُصْبِحُواْ معناه تصيروا قال النحاة أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه أحدها بمعنى دخول الرجل في الصباح كما يقول القائل أصبحنا نقضي عليه وثانيها بمعنى كان الأمر وقت الصباح كذا وكذا كما يقول أصبح اليوم مريضنا خيراً مما كان غير أنه تغير ضحوة النهار ويريد كونه في الصبح على حاله كأنه يقول كان المريض وقت الصبح خيراً وتغير ضحوة النهار وثالثها بمعنى صار يقول القائل أصبح زيد غنياً ويريد به صار من غير إرادة وقت دون وقت والمراد ههنا هو المعنى الثالث وكذلك أمسى وأضحى ولكن لهذا تحقيق وهو أن نقول لا بد في اختلاف الألفاظ من اختلاف المعاني واختلاف الفوائد فنقول الصيرورة قد تكون من ابتداء أمر وتدوم وقد تكون في آخر بمعنى آل الأمر إليه وقد تكون متوسطة
مثال الأول قول القائل صار الطفل فاهماً أي أخذ فيه وهو في الزيادة
مثال الثاني قول القائل صار الحق بيناً واجباً أي انتهى حده وأخذ حقه
مثال الثالث قول القائل صار زيد عالماً وقوياً إذا لم يرد أخذه فيه ولا بلوغه نهايته بل كونه متلبساً به متصفاً به إذا علمت هذا فأصل استعمال أصبح فيما يصير الشيء آخذاً في وصف ومبتدئاً في أمر وأصل أمسى فيما يصير الشيء بالغاً في الوصف نهايته وأصل أضحى التوسط لا يقال أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحد نقول إذا تقاربت المعاني جاز الاستعمال وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل وكثير من الألفاظ أصله مضى واستعمل استعمالاً شائعاً فيما لا يشاركه إذا علم هذا فنقول قوله تعالى فَتُصْبِحُواْ أي فتصيروا آخذين في الندم متلبسين به ثم تستديمونه وكذلك في قوله تعالى فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً أي أخذتم في الأخوة وأنتم فيها زائدون ومستمرون وفي الجملة اختار في القرآن هذه اللفظة لأن الأمر المقرون به هذه اللفظة إما في الثواب أو في العقاب وكلاهما(28/104)
في الزيادة ولا نهاية للأمور الإلاهية وقوله تعالى نَادِمِينَ الندم هم دائم والنون والدال والميم في تقاليبها لا تنفك عن معنى الدوام كما في قول القائل أدمن في الشرب ومدمن أي أقام ومنه المدينة وقوله تعالى فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ فيه فائدتان
إحداهما تقرير التحذير وتأكيده ووجهه هو أنه تعالى لما قال ءانٍ تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَة ٍ قال بعده وليس ذلك مما لا يلتفت إليه ولا يجوز للعاقل أن يقول هب أني أصبت قوماً فماذا علي بل عليكم منه الهم الدائم والحزن المقيم ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه
والثانية مدح المؤمنين أي لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها بل تصبحون نادمين عليها
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الاٌّ مْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الا يمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَائِكَ هُمُ الرَاشِدُونَ
ولنذكر في تفسير هذه الآية ما قيل وما يجوز أن يقال أما ما قيل فلنختر أحسنه وهو ما اختاره الزمخشري فإنه بحث في تفسير هذه الآية بحثاً طويلاً فقال قوله تعالى لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الاْمْرِ لَعَنِتُّمْ ليس كلاماً مستأنفاً لأدائه إلى تنافر النظم إذ لا تبقى مناسبة بين قوله وَاعْلَمُواْ وبين قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ ثم وجه التعلق هو أن قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ في تقدير حال من الضمير المرفوع في قوله فيكُمْ كان التقدير كائن فيكم أو موجود فيكم على حال تريدون أن يطيعكم أو يفعل باستصوابكم ولا ينبغي أن يكون في تلك الحال لأنه لو فعل ذلك لَعَنِتُّمْ أو لوقعتم في شدة أو أولمتم به
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ خطاباً مع بعض من المؤمنين غير المخاطبين بقوله لَوْ يُطِيعُكُمْ قال الزمخشري اكتفى بالتغاير في الصفة واختصر ولم يقل حبب إلى بعضكم الإيمان وقال أيضاً بأن قوله تعالى لَوْ يُطِيعُكُمْ دون أطاعكم يدل على أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ودوام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على العمل باستصوابهم ولكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها وههنا كذلك وإن لم يكن تحصل المخالفة بتصريح اللفظ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك لأن المخاطبين أولاً بقوله لَوْ يُطِيعُكُمْ هم الذين أرادوا أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعمل بمرادهم والمخاطبين بقوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ هم الذين أرادوا عملهم بمراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا ما قاله الزمخشري واختاره وهو حسن والذي يجوز أن يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى لما قال إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ ( الحجرات 6 ) أي فتثبتوا واكشفوا قال بعده وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه فيكم مبين مرشد وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ شيخ في مسألة هذا الشيخ قاعد لا يريد بيان قعوده وإنما يريد أمرهم بالمراجعة إليه وذلك لأن المراد منه أنه لا يطيعكم في كثير من الأمر وذلك لأن الشيخ فيما ذكرنا من المثال(28/105)
لو كان يعتمد على قول التلاميذ لا تطمئن قلوبهم بالرجوع إليه أما إذا كان لا يذكر إلا من النقل الصحيح ويقرره بالدليل القوي يراجعه كل أحد فكذلك ههنا قال استرشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد فيه حيف ولا يروج عليه زيف والذي يدل على أن المراد من قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الاْمْرِ لَعَنِتُّمْ بيان أنه لا يطيعكم هو أن الجملة الشرطية في كثير من المواضع ترد لبيان امتناع لشرط لامتناع الجزاء كما في قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) فإنه لبيان أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ إشارة إلى جواب سؤال يرد على قوله فَتَبَيَّنُواْ وهو أن يقع لواحد أن يقول إنه لا حاجة إلى المراجعة وعقولنا كافية بها أدركنا الإيمان وتركنا العصيان فكذلك نجتهد في أمورنا فقال ليس إدراك الإيمان بالاجتهاد بل الله بين البرهان وزين الإيمان حتى حصل اليقين وبعد حصول اليقين لا يجوز التوقف والله إنما أمركم بالتوقف عند تقليد قول الفاسق وما أمركم بالعناد بعد ظهور البرهان فكأنه تعالى قال توقفوا فيما يكون مشكوكاً فيه لكن الإيمان حببه إليكم بالبرهان فلا تتوقفوا في قبوله وعلى قولنا المخاطب بقوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ هو المخاطب بقوله لَوْ يُطِيعُكُمْ إذا علمت معنى الآية جملة فاسمعه مفصلاً ولنفصله في مسائل
المسألة الأولى لو قال قائل إذا كان المراد بقوله وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ الرجوع إليه والاعتماد على قوله فلم لم يقل بصريح اللفظ فتبينوا وراجعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما الفائدة في العدول إلى هذا المجاز نقول الفائدة زيادة التأكيد وذلك لأن قول القائل فيما ذكرنا من المثال هذا الشيخ قاعد آكد في وجوب المراجعة إليه من قوله راجعوا شيخكم وذلك لأن القائل يجعل وجوب المراجعة إليه متفقاً عليه ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده فكأنه يقول إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ وأن الواجب مراجعته فإن كنتم لا تعلمون قعدوه فهو قاعد فيجعل حسن المراجعة أظهر من أمر القعود كأنه يقول خفي عليكم قعوده فتركتم مراجعته ولا يخفى عليكم حسن مراجعته فيجعل حسن مراجعته أظهر من الأمر الحسي بخلاف ما لو قال راجعوه لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق وبين الكلامين بون بعيد فكذلك قوله تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ يعني لا يخفى عليكم وجوب مراجعته فإن كان خفي عليكم كونه فيكم فاعلموا أنه فيكم فيجعل حسن المراجعة أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصريح
المسألة الثانية إذا كان المراد من قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو متبع للوحي فلم لم يصرح به نقول بيان نفي الشيء مع بيان دليل النفي أتم من بيانه من غير دليل والجملة الشرطية بيان النفي مع بيان دليله فإن قوله ( ليس فيهما آلهة ) لو قال قائل لم قلت إنه ليس فيهما آلهة يجب أن يذكر الدليل فقال لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فكذلك ههنا لو قال لا يطيعكم وقال قائل لم لا يطيع لوجب أن يقال لو أطاعكم لأطاعكم لأجل مصلحتكم لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تعنتون وتأثمون وهو يشق عليه عنتكم كما قال تعالى عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ( التوبة 128 ) فإن طاعتكم لا تفيده شيئاً فلا(28/106)
يطيعكم فهذا نفي الطاعة بالدليل وبين نفي الشيء بدليل ونفيه بغير دليل فرق عظيم
المسألة الثالثة قال فِى كَثِيرٍ مّنَ الاْمْرِ ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لفائدة قوله تعالى وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ
المسألة الرابعة إذا كان المراد بقوله تعالى حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ فلا تتوقفوا فلم لم يصرح به قلنا لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ تلك المرتبة لأن من بلغ إلى درجة الظن فإنه يتوقف إلى أن يبلغ درجة اليقين فلما كان عدم التوقف في اليقين معلوماً متفقاً عليه لم يقل فلا تتوقفوا بل قال حبب إليكم الإيمان أي بينه وزينه بالبرهان اليقيني
المسألة الخامسة ما المعنى في قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ نقول قوله تعالى حَبَّبَ إِلَيْكُمُ أي قربه وأدخله في قلوبكم ثم زينه فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم وهذا لأن من يحب أشياء فقد يمل شيئاً منها إذا حصل عنده وطال لبثه والإيمان كل يوم يزداد حسناً ولكن من كانت عبادته أكثر وتحمله لمشاق التكليف أتم تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ولهذا قال في الأول حَبَّبَ إِلَيْكُمُ وقال ثانياً وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم
المسألة السادسة ما الفرق بين الأمور الثلاثة وهي الكفر والفسوق والعصيان فنقول هذه أمور ثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل لأن الإيمان الكامل المزين هو أن يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان أحدها قوله تعالى وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وهو التكذيب في مقابلة التصديق بالجنان والفسوق هو الكذب وثانيها هو ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ ( الحجرات 6 ) سمي من كذب فاسقاً فيكون الكذب فسوقاً ثالثها ما ذكره بعد هذه الآية وهو قوله تعالى بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ ( الحجرات 11 ) فإنه يدل على أن الفسوق أمر قولي لاقترانه بالاسم وسنبين تفسيره إن شاء الله تعالى ورابعها وجه معقول وهو أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة على ما علم في قول القائل فسقت الرطبة إذا خرجت وغير ذلك لأن الفسوق هو الخروج زيد في الاستعمال كونه الخروج عن الطاعة لكن الخروج لا يكون له ظهور بالأمر القلبي إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا لله تعالى ولا يظهر بالأفعال لأن الأمر قد يترك إما لنسيان أو سهو فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطىء أو متعمد وأما الكلام فإنه حصول العلم بما عليه حال المتكلم فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب وأما العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق فإذا علم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن وهو أنه تعالى كره إليكم الكفر وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 )
ثم قال تعالى وَالْفُسُوقَ يعني ما يظهر لسانكم أيضاً ثم قال وَالْعِصْيَانَ وهو دون الكل ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان وقال بعض الناس الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة والعصيان هو الصغيرة وما ذكرناه أقوى
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ(28/107)
خطاباً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى في أول الأمر قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي هو مرشد لكم فخطاب المؤمنين للتنبيه على شفقته بالمؤمنين فقال في الأول كفى النبي مرشداً لكم ما تسترشدونه فأشفق عليهم وأرشدهم وعلى هذا قوله الرشِدُونَ أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم وينتهون عما ينهاهم
فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَة ً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى نصب فضلاً لأجل أمور إما لكونه مفعولاً له وفيه وجهان أحدهما أن العامل فيه هو الفعل الذي في قوله الرشِدُونَ فإن قيل كيف يجوز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولاً له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد نقول لما كان الرشد توفيقاً من الله كان كأنه فعل الله فكأنه تعالى أرشدهم فضلاً أي يكون متفضلاً عليهم منعماً في حقهم والوجه الثاني هو أن العامل فيه هو قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ( الحجرات 7 ) فضلاً وقوله أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ ( الحجرات 7 ) جملة اعترضت بين الكلامين أو يكون العامل فعلاً مقدراً فكأنه قال تعالى جرى ذلك فضلاً من الله وإما لكونه مصدراً وفيه وجهان أحدهما أن يكون مصدراً من غير اللفظ ولأن الرشد فضل فكأنه قال أولئك هم الراشدون رشداً وثانيهما هو أن يكون مصدراً لفعل مضمر كأنه قال حبب إليكم الإيمان وكره إليكم الكفر فأفضل فضلاً وأنعم نعمة والقول بكونه منصوباً على أنه مفعول مطلق وهو المصدر أو مفعول له قول الزمخشري وإما أن يكون فضلاً مفعولاً به والفعل مضمراً دل عليه قوله تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ أي يبتغون فضلاً من الله ونعمة
المسألة الثانية ما الفرق بين الفضل والنعمة في الآية نقول فضل الله إشارة إلى ما عنده من الخير وهو مستغن عنه والنعمة إشارة إلى ما يصل إلى العبد وهو محتاج إليه لأن الفضل في الأصل ينبىء عن الزيادة وعنده خزائن من الرحمة لا لحاجة إليها ويرسل منها على عباده ما لا يبقون معه في ورطة الحاجة بوجه من الوجوه والنعمة تنبىء عن الرأفة والرحمة وهو من جانب العبد وفيه معنى لطيف وهو تأكيد الإعطاء وذلك لأن المحتاج يقول للغني أعطني ما فضل عنك وعندك وذلك غير ملتفت إليه وأنابه قيامي وبقائي فإذن قوله فَضْلاً مّنَ اللَّهِ إشارة إلى ما هو من جانب الله الغني والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة وهذا مما يؤكد قولنا فضلاً منصوب بفعل مضمر وهو الابتغاء والطلب
المسألة الثالثة ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فيه مناسبات عدة منها أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق قال إن يشتبه على المؤمن كذب الفاسق فلا تعتمدوا على ترويجه عليكم الزور فإن الله عليم ولا تقولوا كما كان عادة المنافق لولا يعذبنا الله بما نقول فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وفق حكمته وثانيها لما قال الله تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ ( الحجرات 7 ) بمعنى لا يطيعكم بل يتبع الوحي قال فإن الله من كونه عليماً يعلمه ومن كونه حكيماً يأمره بما تقتضيه الحكمة فاتبعوه ثالثها المناسبة التي بين قوله تعالى عَلِيمٌ حَكِيمٌ وبين قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ أي حبب بعلمه الإيمان لأهل الإيمان واختار له من يشاء بحكمته رابعها وهو الأقرب وهو أنه سبحانه وتعالى قال فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَنِعْمَة ً ولما كان الفضل هو ما عند الله من الخير المستغني عنه قال تعالى هو عليم بما في خزائن رحمته من الخير وكانت النعمة(28/108)
هو ما يدفع به حاجة العبد قال هو حكيم ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة
وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
لما حذر الله المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق أشار إلى ما يلزم منه استدراكاً لما يفوت فقال فإن اتفق أنكم تبنون على قول من يوقع بينكم وآل الأمر إلى اقتتال طائفتين من المؤمنين فأزيلوا ما أثبته ذلك الفاسق وأصلحوا بينهما فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى أي الظالم يجب عليكم دفعه عنه ثم إن الظالم إن كان هو الرعية فالواجب على الأمير دفعهم وإن كان هو الأمير فالواجب على المسلمين منعه بالنصيحة فما فوقها وشرطه أن لا يثير فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَأَنْ إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين فإن قيل فنحن نرى أكثر الاقتتال بين طوائفهم نقول قوله تعالى وَأَنْ إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يقع إلا نادراً غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي وكذلك إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ ( الحجرات 6 ) إشارة إلى أن مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن يقع قليلاً مع أن مجيء الفاسق بالنبأ كثير وقول الفاسق صار عند أولي الأمر أشد قبولاً من قول الصادق الصالح
المسألة الثانية قال تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ ولم يقل وإن فرقتان تحقيقاً للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل لأن الطائفة دون الفرقة ولهذا قال تعالى فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ ( التوبة 122 )
المسألة الثالثة قال تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل منكم مع أن الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله تعالى رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ ( الحجرات 6 ) تنبيهاً على قبح ذلك وتبعيداً لهم عنهم كما يقول السيد لعبده إن رأيت أحداً من غلماني يفعل كذا فامنعه فيصير بذلك مانعاً للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن كأنه يقول أنت حاشاك أن تفعل ذلك فإن فعل غيرك فامنعه كذلك ههنا قال وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد
المسألة الرابعة قال تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ولم يقل وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين مع أن كلمة ءانٍ اتصالها بالفعل أولى وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال فيتأكد معنى النكرة المدلول عليها بكلمة ءانٍ وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي أن لا يقع القتال منهما فإن قيل فلم لم يقل يا أيها الذين آمنوا إن فاسق جاءكم أو إن أحد من الفساق جاءكم ليكون الابتداء بما يمنعهم(28/109)
من الإصغاء إلى كلامه وهو كونه فاسقاً نقول المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الإنسان فاسقاً أو يزداد بسببه فسقه فالمجيء به سبب الفسق فقدمه وأما الاقتتال فلا يقع سبباً للإيمان أو الزيادة فقال إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ أي سواء كان فاسقاً أو لا أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقاً به ولو قال وإن أحد من الفساق جاءكم كان لا يتناول إلا مشهور الفسق قبل المجيء إذا جاءهم بالنبأ
المسألة الخامسة قال تعالى اقْتَتَلُواْ ولم يقل يقتتلوا لأن صيغة الاستقبال تنبىء عن الدوام والاستمرار فيفهم منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك يقال فلان يتهجد ويصوم
المسألة السادسة قال اقْتَتَلُواْ ولم يقل اقتتلا وقال فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ولم يقل بينهم ذلك لأن عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة وكل أحد برأسه يكون فاعلاً فعلاً فقال اقْتَتَلُواْ وعند العود إلى الصلح تتفق كلمة كل طائفة وإلا لم يكن يتحقق الصلح فقال بَيْنَهُمَا لكون الطائفتين حينئذ كنفسين
ثم قال تعالى فَإِن بَغَتْ أَحَدُهُمَا إشارة إلى نادرة أخرى وهي البغي لأنه غير متوقع فإن قيل كيف يصح في هذا الموضع كلمة ءانٍ مع أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه وبغي أحدهما عند الاقتتال لا بد منه إذ كل واحد منهما لا يكون محسناً فقوله ءانٍ تكون من قبيل قول القائل إن طلعت الشمس نقول فيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى يقول الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع وهو كما تظن كل طائفة أن الأخرى فيها الكفر والفساد فالقتال واجب كما سبق في الليالي المظلمة أو يقع لكل واحد أن القتال جائز بالاجتهاد وهو خطأ فقال تعالى الاقتتال لا يقع إلا كذا فإن بان لهما أو لأحدهما الخطأ واستمر عليه فهو نادر وعند ذلك يكون قد بغى فقال فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى يعني بعد استبانة الأمر وحينئذ فقوله فَإِن بَغَتْ في غاية الحسن لأنه يفيد الندرة وقلة الوقوع وفيه أيضاً مباحث الأول قال فَإِن بَغَتْ ولم يقل فإن تبغ لما ذكرنا في قوله تعالى اقْتَتَلُواْ ولم يقل يقتتلوا الثاني قال حَتَّى تَفِىء إشارة إلى أن القتال ليس جزاء للباغي كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب بل القتال إلى حد الفيئة فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم الثالث هذا القتال لدفع الصائل فيندرج فيه وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حلَّ القتال الرابع هذا دليل على أن المؤمن بالكبيرة لا يخرج عن كونه مؤمناً لأن الباغي جعله من إحدى الطائفتين وسماهما مؤمنين الخامس قوله تعالى إِلَى أَمْرِ اللَّهِ يحتمل وجوهاً أحدها إلى طاعة الرسول وأولي الأمر لقوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ( النساء 59 ) وثانيها إلى أمر الله أي إلى الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ثالثها إلى أمر الله بالتقوى فإن من خاف الله حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان كما قال تعالى إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ( فاطر 6 ) السادس لو قال قائل قد ذكرتم ما يدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن القتال والبغي من المؤمن نادر فإذن تكون الفئة متوقعة فكيف قال فَإِن فَاءتْ نقول قول القائل لعبده إن مت فأنت حر مع أن الموت لا بد من وقوعه لكن لما كان وقوعه بحيث يكون العبد محلاً للعتق بأن يكون باقياً في ملكه حياً يعيش بعد وفاته غير معلوم فكذلك ههنا لما كان الواقع فيئتهم من تلقاء أنفسهم(28/110)
فلما لم يقع دل على تأكيد الأخذ بينهم فقال تعالى فَإِن فَاءتْ بقتالكم إياهم بعد اشتداد الأمر والتحام الحرب فأصلحوا وفيه معنى لطيف وهو أنه تعالى أشار إلى أن من لم يخف الله وبغى لا يكون رجوعه بقتالكم إلا جبراً السابع قال ههنا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ولم يذكر العدل في قوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ نقول لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب والإصلاح ههنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال بِالْعَدْلِ فكأنه قال واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى الثامن إذا قال فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ فأية فائدة في قوله وَأَقْسِطُواْ نقول قوله فأصلحوا بينهما بالعدل كان فيه تخصيص بحال دون حال فعمم الأمر بقوله وَأَقْسِطُواْ أي في كل أمر مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله والإقساط إزالة القسط وهو الجور والقاسط هو الجائر والتركيب دال على كون الأمر غير مرضي من القسط والقاسط في القلب وهو أيضاً غير مرضي ولا معتد به فكذلك القسط
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
ثم قال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ تتميماً للإرشاد وذلك لأنه لما قال وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 ) كان لظان أن يظن أو لمتوهم أن يتوهم أن ذلك عند اختلاف قوم فأما إذا كان الاقتتال بين اثنين فلا تعم المفسدة فلا يؤمر بالإصلاح وكذلك الأمر بالإصلاح هناك عند الاقتتال وأما إذا كان دون الاقتتال كالتشاتم والتسافه فلا يجب الإصلاح فقال بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وإن لم تكن الفتنة عامة وإن لم يكن الأمر عظيماً كالقتال بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف فاسعوا في الإصلاح
وقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ قال بعض أهل اللغة الأخوة جمع الأخ من النسب والإخوان جمع الأخ من الصداقة فالله تعالى قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ تأكيداً للأمر وإشارة إلى أن ما بينهم ما بين الأخوة من النسب والإسلام كالأب قال قائلهم أبي الإسلام لا أب ( لي ) سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
المسألة الثانية عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل اتقوا وقال ههنا اتقوا مع أن ذلك أهم نقول الفائدة هو أن الاقتتال بين طائفتين يفضي إلى أن تعم المفسدة ويلحق كل مؤمن منها شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى وأما عند تخاصم رجلين لا يخاف الناس ذلك وربما يزيد بعضهم تأكد الخصام بين الخصوم لغرض فاسد فقال فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ أو نقول قوله فَأَصْلِحُواْ إشارة إلى الصلح وقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ إشارة إلى ما يصونهم عن التشاجر لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره ولهذا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( المسلم من سلم الناس من لسانه و ( يده ) ) لأن المسلم يكون منقاداً لأمر الله مقبلاً على عباد الله فيشغله عيبه عن عيوب الناس ويمنعه أن يرهب الأخ المؤمن وإليه أشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( المؤمن من يأمن جاره بوائقه ) يعني اتق الله فلا تتفرغ لغيره
المسألة الثالثة إِنَّمَا للحصر أي لا أخوة إلا بين المؤمنين وأما بين المؤمن والكافر فلا لأن الإسلام هو الجامع ولهذا إذا مات المسلم وله أخ كافر يكون ماله للمسلمين ولا يكون لأخيه الكافر وأما الكافر(28/111)
فكذلك لأن في النسب المعتبر الأب الذي هو أب شرعاً حتى أن ولدي الزنا من رجل واحد لا يرث أحدهما الآخر فكذلك الكفر كالجامع الفاسد فهو كالجامع العاجز لا يفيد الأخوة ولهذا من مات من الكفر وله أخ مسلم ولا وارث له من النسب لا يجعل ماله للكفار ولو كان الدين يجمعهم لكان مال الكافر للكفار كما أن مال المسلم للمسلمين عند عدم الوارث فإن قيل قد ثبت أن الأخوة للإسلام أقوى من الأخوة النسبية بدليل أن المسلم يرثه المسلمون ولا يرثه الأخ الكافر من النسب فلم لم يقدموا الأخوة الإسلامية على الأخوة النسبية مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوته من النسب نقول هذا سؤال فاسد وذلك لأن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أخوتان فصار أقوى والعصوبة لمن له القوة ألا ترى أن الأخ من الأبوين يرث ولا يرث الأخ من الأب معه فكذلك الأخ المسلم من النسب له أخوتان فيقدم على سائر المسلمين والله أعلم
المسألة الرابعة قال النحاة ( ما ) في هذا الموضع كافة تكف إن عن العمل ولولا ذلك لقيل إنما المؤمنين إخوة وفي قوله تعالى فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ ( آل عمران 159 ) وقوله عَمَّا قَلِيلٍ ( المؤمنون 4 ) ليست كافة والسؤال الأقوى هو أن رب من حروف الجر والباء وعن كذلك وما في رب كافة وفي عما وبما ليست كافة والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد ربما وإنما يكون تاماً ويمكن جعله مستقلاً ولو حذف ربما وإنما لم ضر فنقول ربما قام الأمير وربما زيد في الدار ولو حذفت ربما وقلت زيد في الدار وقام الأمير لصح وكذلك في إنما ولكيما وأما عما وبما فليست كذلك لأن قوله تعالى فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ لو أذهبت بما وقلت رحمة من الله لنت لهم لما كان كلاماً فالباء يعد تعلقها بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقة ولكنما وإنما وربما لما استغنى عنها فكأنها لم يبق حكمها ولا عمل للمعدوم فإن قيل إن إذا لم تكف بما فما بعده كلام تام فوجب أن لا يكون له عمل تقول إن زيداً قائم ولو قلت زيد قائم لكفى وتم نقول ليس كذلك لأن ما بعد إن جاز أن يكون نكرة تقول إن رجلاً جاءني وأخبرني بكذا وأخبرني بعكسه وتقول جاءني رجل وأخبرني ولا يحسن إنما رجل جاءني كما لو لم تكن هناك إنما وكذلك القول في بينما وأينما فإنك لو حذفتهما واقتصرت على ما يكون بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف والكلام في لعل قد تقدم مراراً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاٌّ لْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الا يمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
وقد بينا أن السورة للإرشاد بعد إرشاد فبعد الإرشاد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى ومع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق بين ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن(28/112)
وقد ذكرنا أن المؤمن إما أن يكون حاضراً وإما أن يكون غائباً فإن كان حاضراً فلا ينبغي أن يسخر منه ولا يلتفت إليه بما ينافي التعظيم وفي الآية إشارة إلى أمور ثلاثة مرتبة بعضها دون بعض وهي السخرية واللمز والنبز فالسخرية هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب وهذا كما قال بعض الناس تراهم إذا ذكر عندهم عدوهم يقولون هو دون أن يذكر وأقل من أن يلتفت إليه فقال لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم الثاني هو اللمز وهو ذكر ما في الرجل من العيب في غيبته وهذا دون الأول لأن في الأول لم يلتفت إليه ولم يرض بأن يذكره أحد وإنما جعله مثل المسخرة الذي لا يغضب له ولا عليه الثالث هو النبز وهو دون الثاني لأن في هذه المرتبة يضيف إليه وصفاً ثابتاً فيه يوجب بغضه وحط منزلته وأما النبز فهو مجرد التسمية وإن لم يكن فيه وذلك لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن إذا وضع لواحد وعلق عليه لا يكون معناه موجوداً فإن من يسمى سعداً وسعيداً قد لا يكون كذلك وكذا من لقب إمام الدين وحسام الدين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة وزينة وكذلك النبز بالمروان ومروان الحمار لم يكن كذلك وإنما كان ذلك سمة ونسبة ولا يكون اللفظ مراداً إذا لم يرد به الوصف كما أن الأعلام كذلك فإنك إذا قلت لمن سمي بعبد الله أنت عبد الله فلا تعبد غيره وتريد به وصفه لا تكون قد أتيت باسم علمه إشارة فقال لا تتكبروا فتستحقروا إخوانكم وتستصغروهم بحيث لا تلتفتوا إليهم أصلاً وإذا نزلتم عن هذا من النعم إليهم فلا تعيبو ( هم ) طالبين حط درجتهم والغض عن منزلتهم وإذا تركتم النظر في معايبهم ووصفهم بما يعيبهم فلا تسموهم بما يكرهونه ولا تهولوا هذا ليس بعيب يذكر فيه إنما هو اسم يتلفظ به من غير قصد إلى بيان صفة وذكر في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم كصوم جمع صائم والقائم بالأمور هم الرجال فعلى هذا الأقوام الرجال لا النساء فائدة وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسة إلى الرجال لأن المرأة في نفسها ضعيفة فإذا لم يلتفت الرجال إليها لا يكون لها أمر قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( النساء لحم على وضم إلا ما رددت عنه ) وأما المرأة فلا يوجد منها استحقار الرجل وعدم التفاتها إليه لاضطرارها في دفع حوائجها ( إليه ) وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فيوجد فيهم هذا النوع من القبح وهذا أشهر
المسألة الثانية قال في الدرجة العالية التي هي نهاية المنكر عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ كسراً له وبغضاً لنكره وقال في المرتبة الثانية لا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ جعلهم كأنفسهم لما نزلوا درجة رفعهم الله درجة وفي الأول جعل المسخور منه خيراً وفي الثاني جعل المسخور منه مثلاً وفي قوله عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ حكمة وهي أنه وجد منهم النكر الذي هو مفض إلى الإهمال وجعل نفسه خيراً منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ( الأعراف 12 ) فصار هو خيراً ويمكن أن يقال المراد من قوله أَن يَكُونُواْ يصيروا فإن من استحقر إنساناً لفقره أو وحدته أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويضعف هو ويقوى الضعيف
المسألة الثالثة قال تعالى قَوْمٌ مّن قَوْمٍ ولم يقل نفس من نفس وذلك لأن هذا فيه إشارة إلى منع التكبر والمتكبر في أكثر الأمر يرى جبروته على رؤوس الأشهاد وإذا اجتمع في الخلوات مع من لا يلتفت(28/113)
إليه في الجامع يجعل نفسه متواضعاً فذكرهم بلفظ القوم منعاً لهم عما يفعلونه
المسألة الرابعة قوله تعالى وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ فيه وجهان أحدهما أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا عاب عائب نفساً فكأنما عاب نفسه وثانيهما هو أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب يحاربه المعيب فيعيبه فيكون هو بعيبه حاملاً للغير على عيبه وكأنه هو العائب نفسه وعلى هذا يحمل قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 29 ) أي إنكم إذا قتلتم نفساً قتلتم فتكونوا كأنكم قتلتم أنفسكم ويحتمل وجهاً آخر ثالثاً وهو أن تقول لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم فإنكم إن فعلتم فقد عبتم أنفسكم أي كل واحد عاب كل واحد فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه وهذا الوجه ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ
المسألة الخامسة إن قيل قد ذكرتم أن هذا إرشاد للمؤمنين إلى ما يجب أن يفعله المؤمن عند حضوره بعد الإشارة إلى ما يفعله في غيبته لكن قوله تعالى وَلاَ تَلْمِزُواْ قيل فيه بأنه العيب خلف الإنسان والهمز هو العيب في وجه الإنسان نقول ليس كذلك بل العكس أولى وذلك لأنا إذا نظرنا إلى قلب الحروف دللن على العكس لأن لمز قلبه لزم وهمز قلبه هزم والأول يدل على القرب والثاني على البعد فإن قيل اللمز هو الطعن والعيب في الوجه كان أولى مع أن كل واحد قيل بمعنى واحد
المسألة السادسة قال تعالى وَلاَ تَنَابَزُواْ ولم يقل لا تنبزوا وذلك لأن اللماز إذا لمز فالملموز قد لا يجد فيه في الحال عيباً يلمزه به وإنما يبحث ويتبعه ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز من جانب وأما النبز فلا يعجز كل واحد عن الإتيان به فإن من نبز غيره بالحمار وهو ينبزه بالثور وغيره فالظاهر أن النبز يفضي في الحال إلى التنابز ولا كذلك اللمز
وقوله تعالى بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ
قيل فيه إن المراد بِئْسَ أن يقول للمسلم يا يهودي بعد الإيمان أي بعد ما آمن فبئس تسميته بالكافر ويحتمل وجهاً أحسن من هذا وهو أن يقال هذا تمام للزجر كأنه تعالى قال يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ولا تلمزوا ولا تنابزوا فإنه إن فعل يفسق بعد ما آمن والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق فيكون قوله تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ( الأنعام 82 ) ويصير التقدير بئس الفسوق بعد الإيمان وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب هذه الأفعال بعد ما سميتموهم مؤمنين
قال تعالى وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يقال هذه الأشياء من الصغائر فمن يصر عليه يصير ظالماً فاسقاً وبالمرة الواحدة لا يتصف بالظلم والفسق فقال ومن لم يترك ذلك ويجعله عادة فهو ظالم وثانيهما أن يقال قوله تعالى لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ وَلاَ تَلْمِزُواْ وَلاَ تَنَابَزُواْ منع لهم عن ذلك في المستقبل وقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَتُبْ أمرهم بالتوبة عما مضى وإظهار الندم عليها مبالغة في التحذير وتشديداً في الزجر والأصل في قوله تعالى وَلاَ تَنَابَزُواْ لا تتنابزوا أسقطت إحدى التاءين كما أسقط في الاستفهام إحدى الهمزتين فقال سَوَاء عَلَيْهِمْ ( البقرة 6 ) والحذف ههنا أولى لأن تاء الخطاب وتاء الفاعل حرفان من جنس واحد في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها وهمزة أنذرتهم أخرى واحتمال حرفين في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة ولهذا وجب الإدغام في قولنا مد(28/114)
ولم يجب في قولنا امدد و ( في ) قولنا مر ( دون ) قوله أمر ربنا
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
لأن الظن هو السبب فيما تقدم وعليه تبنى القبائح ومنه يظهر العدو المكاشح والقائل إذا أوقف أموره على اليقين فقلما يتيقن في أحد عيباً فيلمزه به فإن الفعل في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك لجواز أن يكون فاعله ساهياً أو يكون الرائي مخطئاً وقوله خَيْراً كَثِيراً إخراج للظنون التي عليها تبنى الخيرات قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ظنوا بالمؤمن خيراً ) وبالجملة كل أمر لا يكون بناؤه على اليقين فالظن فيه غير مجتنب مثاله حكم الحاكم على قول الشهود وبراءة الذمة عند عدم الشهود إلى غير ذلك فقوله اجْتَنِبُواْ كَثِيراً وقوله تعالى إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ إشارة إلى الأخذ بالأحوط كما أن الطريق المخوفة لا يتفق كل مرة فيه قاطع طريق لكنك لا تسلك لاتفاق ذلك فيه مرة ومرتين إلا إذا تعين فتسلكه مع رفقة كذلك الظن ينبغي بعد اجتهاد تام ووثوق بالغ
ثم قال تعالى وَلاَ تَجَسَّسُواْ إتماماً لما سبق لأنه تعالى لما قال اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ فهم منه أن المعتبر اليقين فيقول القائل أنا أكشف فلاناً يعني أعلمه يقيناً وأطلع على عيبه مشاهدة فأعيب فأكون قد اجتنبت الظن فقال تعالى ولا تتبعوا الظن ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس
ثم قال تعالى وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن في غيبته وفيه معان أحدها في قوله تعالى بَّعْضُكُم بَعْضاً فإنه للعموم في الحقيقة كقوله لا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( الحجرات 11 ) وأما من اغتاب فالمغتاب أولاً يعلم عيبه فلا يحمل فعله على أن يغتابه فلم يقل ولا تغتابوا أنفسكم لما أن الغيبة ليست حاملة للعائب على عيبه من اغتابه والعيب حامل على العيب ثانيها لو قال قائل هذا المعنى كان حاصلاً بقوله تعالى لا تغتابوا مع الاقتصار عليه نقول لا وذلك لأن الممنوع اغتياب المؤمن فقال بَّعْضُكُم بَعْضاً وأما الكافر فيعلن ويذكر بما فيه وكيف لا والفاسق يجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة ثالثها قوله تعالى أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً دليل على أن الاغتياب الممنوع اغتياب المؤمن لا ذكر الكافر وذلك لأنه شبهه بأكل لحم الأخ وقال من قبل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) فلا أخوة إلا بين المؤمنين ولا منع إلا من شيء يشبه أكل لحم الأخ ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر رابعها ما الحكمة في هذا التشبيه نقول هو إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه وهذا من باب القياس الظاهر وذلك لأن عرض المرء أشرف من لحمه فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى لأن ذلك آلم وقوله لَحْمَ أَخِيهِ آكد في المنع لأن العدو يحمله الغضب على مضغ لحم العدو فقال أصدق الأصدقاء من ولدته أمك فأكل لحمه أقبح ما يكون وقوله تعالى مَيْتًا إشارة إلى دفع(28/115)
وهم وهو أن يقال القول في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم فقال أكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلم ومع هذا هو في غاية القبح لما أنه لو اطلع عليه لتألم كما أن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه وفيه معنى وهو أن الاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي الميت فلا يأكل لحم الآدمي فكذلك المغتاب أن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب وقوله تعالى مَيْتًا حال عن اللحم أو عن الأخ فإن قيل اللحم لا يكون ميتاً قلنا بلى قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أبين من حي فهو ميت ) فسمى الغلفة ميتاً فإن قيل إذا جعلناه حال عن الأخ لا يكون هو الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله حال كما يقول القائل مررت بأخي زيد قائماً ويريد كون زيداً قائماً قلنا يجوز أن يقال من أكل لحمة فقد أكل فصار الأخ مأكولاً مفعولاً بخلاف المرور بأخي زيد فيجوز أن تقول ضربت وجهه آثماً أي وهو آثم أي صاحب الوجه كما أنك إذا ضربت وجهه فقد ضربته ولا يجوز أن تقول مزقت ثوبه آثماً فتجعل الآثم حالاً من غيرك وقوله تعالى فَكَرِهْتُمُوهُ فيه مسألتان
المسألة الأولى العائد إليه الضمير يحتمل وجوهاً الأول وهو الظاهر أن يكون هو الأكل لأن قوله تعالى أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ معناه أيحب أحدكم الأكل لأن أن مع الفعل تكون للمصدر يعني فكرهتم الأكل الثاني أن يكون هو اللحم أي فكرهتم اللحم الثالث أن يكون هو الميت في قوله مَيْتًا وتقديره أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله مَيْتًا ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير يعني الميتة إن أكلت في الندرة لسبب كان نادراً ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة
المسألة الثانية الفاء في قوله تعالى فَكَرِهْتُمُوهُ تقتضي وجود تعلق فما ذلك نقول فيه وجوه أحدها أن يكون ذلك تقدير جواب كلام كأنه تعالى لما قال أَيُحِبُّ قيل في جوابه ذلك وثانيها أن يكون الاستفهام في قوله أَيُحِبُّ للانكار كأنه قال لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه إذاً ولا يحتاج إلى إضمار وثالثها أن يكون ذلك التعلق هو تعلق المسبب بالسبب وترتبه عليه كما تقول جاء فلان ماشياً فتعب لأن المشي يورث التعب فكذا قوله مَيْتًا لأن الموت يورث النفرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكل منه ففيه إذاً كراهة شديدة فكذلك ينبغي أن يكون حال الغيبة
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ عطف على ما تقدم من الأوامر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا وفي الآية لطائف منها أن الله تعالى ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة مرتبة بيانها هو أنه تعالى قال اجْتَنِبُواْ كَثِيراً أي لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم بناء على الظن ثم إذا سئلتم على المظنونات فلا تقولوا نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها ثم إن علمتم منها شيئاً من غير تجسس فلا تقولوه ولا تفشوه عنهم ولا تعيبوا ففي الأول نهى عما لم أن يعلم ثم نهى عن طلب ذلك العلم ثم نهى عن ذكر ما علم ومنها أن الله تعالى لم يقل اجتنبوا تقولوا أمراً على خلاف ما تعلمونه ولا قال اجتنبوا الشك بل أول ما نهى عنه هو القول بالظن وذلك لأن القول على خلاف العلم كذب وافتراء والقول(28/116)
بالشك والرجم بالغيب سفه وهزء وهما في غاية القبح فلم ينه عنه اكتفاء بقوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لأن وصفهم بالإيمان يمنعهم من الافتراء والارتياب الذي هو دأب الكافر وإنما منعهم عما يكثر وجوده في المسلمين وذلك قال في الآية لاَ يَسْخَرْ ومنها أنه ختم الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولى وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( الحجرات 11 ) وقال في الأخرى إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ ( الحجرات 12 ) لكن في الآية الأولى لما كان الابتداء بالنهي في قوله لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الآية الثانية لما كان الابتداء بالأمر في قوله اجْتَنَبُواْ ذكر الارتياب الذي هو قريب من الأمر ثم قال تعالى
ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
تبييناً لما تقدم وتقريراً له وذلك لأن السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان فهو جائز لما بينا أن قوله لا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ( الحجرات 12 ) وقوله وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( الحجرات 11 ) منع من عيب المؤمن وغيبته وإن لم يكن لذلك السبب فلا يجوز لأن الناس بعمومهم كفاراً كانوا أو مؤمنين يشتركون فيما يفتخر به المفتخر غير الإيمان والكفر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً والمؤمن فقيراً وبالعكس وإن كان بسبب النسب فالكافر قد يكون نسيباً والمؤمن قد يكون عبداً أسود وبالعكس فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون متقاربون وشيء من ذلك لا يؤثر مع عدم التقوى فإن كل من يتدين بدين يعرف أن من يوافقه في دينه أشرف ممن يخالفه فيه وإن كان أرفع نسباً أو أكثر نشباً فكيف من له الدين الحق وهو فيه راسخ وكيف يرجح عليه من دونه فيه بسبب غيره وقوله تعالى رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى فيه وجهان أحدهما من آدم وحواء ثانيهما كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم فإن قلنا إن المراد هو الأول فذلك إشارة إلى أن لا يتفاخر البعض على البعض لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة وإن قلنا إن المراد هو الثاني فذلك إشارة إلى أن الجنس واحد فإن كل واحد خلق كما خلق الآخر من أب وأم والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين فإن من سنن التفاوت أن لا يكون تقدير التفاوت بين الذباب والذئاب لكن التفاوت الذي بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين لأن الكافر جماد إذ هو كالأنعام بل أضل والمؤمن إنسان في المعنى الذي ينبغي أن يكون فيه والتفاوت في الإنسان تفاوت في الحس لا في الجنس إذ كلهم من ذكر وأنثى فلا يبقى لذلك عند هذ اعتبار وفيه مباحث
البحث الأول فإن قيل هذا مبني على عدم اعتبار النسب وليس كذلك فإن للنسب اعتباراً عرفاً وشرعاً حتى لا يجوز تزويج الشريفة بالنبطي فنقول إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبراً وذلك في الحس والشرع والعرف أما الحس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس ولجناح الذباب دوي ولا يسمع عندما يكون رعد قوي وأما في العرف فلأن من جاء مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا إليه(28/117)
التفات إذا علمت هذا فيهما ففي الشرع كذلك إذا جاء الشرف الديني الإلاهي لا يبقى الأمر هناك اعتبار لا لنسب ولا لنشب ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسباً والمؤمن وإن كان من أدونهم نسباً لا يقاس أحدهما بالآخر وكذلك ما هو من الدين مع غيره ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديناً عالماً صالحاً ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشي النسب وقاروني النشب ولكن إذا اجتمع في اثنين الدين المتين وأحدهما نسيب ترجح بالنسب عند الناس لا عند الله لأن الله تعالى يقول وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) وشرف النسب ليس مكتسباً ولا يحصل بسعي
البحث الثاني ما الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر ولم يذكر المال نقول الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لكن النسب أعلاها لأن المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار المفتخر به والحسن والسن وغير ذلك غير ثابت دائم والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بالطريق الأولى
البحث الثالث إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فهل لقوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَاكُم فائدة نقول نعم وذلك لأن كل شيء يترجح على غيره فإما أن يترجح بأمر فيه يلحقه ويترتب عليه بعد وجوده وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله والذي بعده كالحسن والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء والذي قبله فإما راجع إلى الأصل الذي منه وجد أو إلى الفاعل الذي هو له أوجد كم يقال في إناءين هذا من النحاس وهذا من الفضة ويقال هذا عمل فلان وهذا عمل فلان فقال تعالى لا ترجيح فيما خلقتم منه لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ولا بالنظر إلى جاعلين لأنكم كلكم خلقكم الله فإن كان بينكم تفاوت يكون بأمور تلحقكم وتحصل بعد وجودكم وأشرفها التقوى والقرب من الله تعالى
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ وفيه وجهان أحدهما جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً متفرقة لا يدري من يجمعكم كالعجم وقبائل يجمعكم واحد معلوم كالعرب وبني إسرائيل وثانيهما جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً داخلين في قبائل فإن القبيلة تحتها الشعوب وتحت الشعوب البطون وتحت البطون الأفخاذ وتحت الأفخاذ الفصائل وتحت الفضائل الأقارب وذكر الأعم لأنه أذهب للافتخار لأن لأمر الأعم منها يدخله فقراء وأغنياء كثيرة غير محصورة وضعفاء وأقوياء كثيرة غير معدودة ثم بيّن فائدة ذلك وهي التعارف وفيه وجهان أحدهما أن فائدة ذلك التناصر لا التفاخر وثانيهما أن فائدته التعارف لا التناكر واللمز والسخرية والغيبة تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف وفيه معان لطيفة الأولى قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَاكُم وقال وَجَعَلْنَاكُمْ لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل شُعُوباً فإن الأول هو الخلق والإيجاد ثم الاتصاف بما اتصفوا به لكن الجعل شعوباً للتعارف والخلق للعبادة كما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) واعتبار الأصل متقدم على اعتبار الفرع فاعلم أن النسب يعتبر بعد اعتبار العبادة كما أن الجعل شعوباً يتحقق بعد ما يتحقق الخلق فإن كان فيكم عبادة تعتبر فيكم أنسابكم وإلا فلا الثانية قوله تعالى خَلَقْنَاكُمْ وَجَعَلْنَاكُمْ إشارة إلى عدم جواز الافتخاز لأن ذلك ليس لسعيكم ولا قدرة لكم على شيء من ذلك فكيف تفتخرون بما لا مدخل لكم فيه فإن قيل الهداية والضلال كذلك لقوله تعالى إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ( الإنسان 3 ) نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء ( الشورى 52 ) فنقول أثبت الله لنا فيه كسباً(28/118)
مبنياً على فعل كم قال الله تعالى فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً
ثم قال تعالى وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وأما في النسب فلا الثالثة قوله تعالى لِتَعَارَفُواْ إشارة إلى قياس خفي وبيانه هو أنه تعالى قال إنكم جعلتم قبائل لتعارفوا وأنتم إذا كنتم أقرب إلى شريف تفتخرون به فخلقكم لتعرفوا ربكم فإذا كنتم أقرب منه وهو أشرف الموجودات كان الأحق بالافتخار هناك من الكل الافتخار بذلك الرابعة فيه إرشاد إلى برهان يدل على أن الافتخار ليس بالأنساب وذلك لأن القبائل للتعارف بسبب الانتساب إلى شخص فإن كان ذلك الشخص شريفاً صح الافتخار في ظنكم وإن لم يكن شريفاً لم يصح فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو بانتسابه إلى فصيلة أو باكتساب فضيلة فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء وإن كان بالاكتساب فالدين الفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر فكيف يفتخر بالأب وأب الأب على من حصل له من الحظ والخير ما فضل به نفسه عن ذلك الأب والجد اللّهم إلا أن يجوز شرف الانتساب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن أحداً لا يقرب من الرسول في الفضيلة حتى يقول أنا مثل أبيك ولكن في هذا النسب أثبت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الشرف لمن انتسب إليه بالاكتساب ونفاه لمن أراد الشرف بالانتساب فقال ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ) وقال ( العلماء ورثة الأنبياء ) أي لا نورث بالانتساب وإنما نورث بالاكتساب سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي عليه السلام غير أنه كان فاسقاً وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل ومال الناس إلى التبرك به فاتفق أنه خرج يوماً من بيته يقصد المسجد فأتبعه خلق فلقيه الشريف سكران وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال له يا أسود الحوافر والشوافر يا كافر ابن كافر أنا ابن رسول الله أذل وتجلا وأذم وتكرما وأهان وتعانا فهم الناس بضربه فقال الشيخ لا هذا محتمل منه لجده وضربه معدود لحده ولكن يا أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا معي ما يعمل مع أبيكا
ثم قال تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وفيه وجهان أحدهما أن المراد من يكون أتقى يكون عند الله أكرم أي التقوى تفيد الإكرام ثانيهما أن المراد أن من يكون أكرم عند الله يكون أتقى أي الإكرام يورث التقوى كما يقال المخلصون على خطر عظيم والأول أشهر والثاني أظهر لأن المذكور ثانياً ينبغي أن يكون محمولاً على المذكور أولاً في الظاهر فيقال الإكرام للتقي لكن ذوا العموم في المشهور هو الأول يقال ألذ الأطعمة أحلاها أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة وهي إثبات لكون التقوى متقدمة على كل فضيلة فإن قيل التقوى من الأعمال والعلم أشرف قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ) نقول التقوى ثمرة العلم قال الله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) فلا تقوى إلا للعالم فالمتقي العالم أتم علمه والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمرة لها لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشجرة التي لا تثمر بل هو حطب وكذلك العالم الذي لا يتقي حصب جهنم وأما العابد الذي يفضل الله عليه الفقيه فهو الذي لا علم له وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نصاب كامل ولعله يعبده مخافة(28/119)
الإلقاء في النار فهو كالمكره أو لدخول الجنة فهو يعمل كالفاعل له أجرة ويرجع إلى بيته والمتقي هو العالم بالله المواظب لبابه أي المقرب إلى جنابه عنده يبيت وفيه مباحث
البحث الأول الخطاب مع الناس والأكرم يقتضي اشتراك الكل في الكرامة ولا كرامة للكافر فإنه أضل من الأنعام وأذل من الهوام نقول ذلك غير لازم مع أنه حاصل بدليل قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسراء 70 ) لأن كل من خلق فقد اعترف بربه كأنه تعالى قال من استمر عليه لو زاد زيد في كرامته ومن رجع عنه أزيل عنه أثر الكرامة الثاني ما حد التقوى ومن الأتقى تقول أدنى مراتب التقوى أن يجتنب العبد المناهي ويأتي بالأوامر ولا يقر ولا يأمن إلا عندهما فإن اتفق أن ارتكب منهياً لا يأمن ولا يتكل له بل يتبعه بحسنة ويظهر عليه ندامة وتوبة ومتى ارتكب منهياً وما تاب في الحال واتكل على المهلة في الأجل ومنعه عن التذاكر طول الأمل فليس بمتق أما الأتقى فهو الذي يأتي بما أمر به ويترك ما نهى عنه وهو مع ذلك خاش ربه لا يشتغل بغير الله فينور الله قلبه فإن التفت لحظة إلى نفسه أو ولده جعل ذلك ذنبه وللأولين النجاة لقوله تعالى ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ ( مريم 72 ) وللآخرين السوق إلى الجنة لقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ فبين من أعطاه السلطان بستاناً وأسكنه فيه وبين من استخلصه لنفسه يستفيد كل يوم بسبب القرب من بساتين وضياعاً بون عظيم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ أي عليم بظواهركم يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى عملكم وزيدوا في التقوى كما زادكم
قَالَتِ الاٌّ عْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الا يمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
لما قال تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) والأتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى وأصل الإيمان هو الاتقاء من الشرك قالت الأعراب لنا النسب الشريف وإنما يكون لنا الشرف قال الله تعالى ليس الإيمان بالقول إنما هو بالقلب فما آمنتم لأنه خبير يعلم ما في الصدور وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا أي انقدنا واستسلمنا قيل إن الآية نزلت في بني أسد أظهروا الإسلام في سنة مجدبة طالبين الصدقة ولم يكن قلبهم مطمئناً بالإيمان وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم لأن كل من أظهر فعل المتقين وأراد أن يصير له ما للأتقياء من الإكرام لا يحصل له ذلك لأن التقوى من عمل القلب وقوله تعالى قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ في تفسيره مسائل
المسألة الأولى قال تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 ) وقال ههنا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ مع أنهم ألقوا إليهم السلام نقول إشارة إلى أن عمل القلب غير معلوم واجتناب الظن واجب وإنما يحكم بالظاهر فلا يقال لمن يفعل فعلاً هو مرائي ولا لمن أسلم هو منافق ولكن الله خبير بما في الصدور(28/120)
إذا قال فلان ليس بمؤمن حصل الجزم وقوله تعالى قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ فهو الذي جوز لنا ذلك القول وكان معجزة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث أطلعه الله على الغيب وضمير قلوبهم فقال لنا أنتم لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً لعدم علمكم بما في قلبه
المسألة الثانية لم ولما حرفا نفي وما وإن ولا كذلك من حروف النفي ولم ولما يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم فما الفرق بينهما نقول لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما فإنهما يغيران معناه من الاستقبال إلى المضي تقول لم يؤمن أمس وآمن اليوم ولا تقول لا يؤمن أمس فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما فإن قيل مع هذا لم جزم بهما غاية ما في الباب أن الفرق حصل ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما نقول لأن الجزم والقطع يحصل في الأفعال الماضية فإن من قال قام حصل القطع بقيامه ولا يجوز أن يكون ما قام والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة غير متوقعة ولا يحصل القطع والجزم فيه فإذا كان لم ولما يقلبان اللفظ من الاستقبال إلى المضي كانا يفيدان الجزم والقطع في المعنى فجعل لهما تناسباً بالمعنى وهو الجزم لفظاً وعلى هذا نقول السبب في الجزم ما ذكرنا وهذا في الأمر يجزم كأنه جزم على المأمور أنه يفعله ولا يتركه فأي فائدة في أن اللفظ يجزم مع أن الفعل فيه لا بد من وقوعه وأن في الشرط تغير وذلك لأن إن تغير معنى الفعل من المضي إلى الاستقبال إن لم تغيره من الاستقبال إلى المضي تقول إن جئتني جئتك وإن أكرمتني أكرمتك فلما كان إن مثل لم في كونه حرفاً وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييره معنى الفعل صار جازماً لشبه لفظي أما الجزاء فجزم لما ذكرنا من المعنى فإن الجزاء يجزم بوقوعه عند وجود الشرط فالجزم إذاً إما لمعنى أو لشبه لفظي كما أن الجزاء كذلك في الإضافة وفي الجر بحرف
المسألة الثالثة قوله تعالى وَلَاكِن قُولُواْ يقتضي قولاً سابقاً مخالفاً لما بعده كقولنا لا تقدموا آمنا ولكن قولوا أسلمنا وفي ترك التصريح به إرشاد وتأديب كأنه تعالى لم يجز النهي عن قولهم مِنَ فلم يقل لا تقولوا آمنا وأرشدهم إلى الامتناع عن الكذب فقال لَّمْ تُؤْمِنُواْ فإن كنتم تقولون شيئاً فقولوا أمراً عاماً لا يلزم منه كذبكم وهو كقولهم أَسْلَمْنَا فإن الإسلام بمعنى الانقياد حصل
المسألة الرابعة المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة فكيف يفهم ذلك مع هذا نقول بين العام والخاص فرق فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب وقد يحصل باللسان والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمراً آخر غيره مثاله الحيوان أعم من الإنسان لكن الحيوان في صورة الإنسان ليس أمراً ينفك عن الإنسان ولا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيواناً ولا يكون إنساناً فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود فكذلك المؤمن والمسلم وسنبين ذلك في تفسير قوله تعالى فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ ( الذاريات 363 ) إن شاء الله تعالى
المسألة الخامسة قوله تعالى وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ هل فيه معنى قوله تعالى قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ نقول نعم وبيانه من وجوه الأول هو أنهم لما قالوا آمنا وقيل لهم لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا قالوا إذا أسلمنا فقد آمنا قيل لا فإن الإيمان من عمل القلب لا غير والإسلام قد يكون عمل اللسان وإذا كان ذلك(28/121)
عمل القلب ولم يدخل في قلوبكم الإيمان لم تؤمنوا الثاني لما قالوا آمنا وقيل لهم لم تؤمنوا قالوا جدلاً قد آمنا عن صدق نية مؤكدين لما أخبروا فقال وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ لأن لما يفعل يقال في مقابلة قد فعل ويحتمل أن يقال بأن الآية فيها إشارة إلى حال المؤلفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم بعده ضعيفاً قال لهم لَّمْ تُؤْمِنُواْ لأن الإيمان إيقان وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطلاعكم على محاسن الإسلام وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يكمل لكم الأجر والذي يدل على هذا هو أن لما فيها معنى التوقع والانتظار والإيمان إما أن يكون بفعل المؤمن واكتسابه ونظره في الدلائل وإما أن يكون إلهاماً يقع في قلب المؤمن فقوله قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ أي ما فعلتم ذلك وقوله تعالى وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ أي ولا دخل الإيمان في قلبكم إلهاماً من غير فعلكم فلا إيمان لكم حينئذ ثم إنه تعالى عند فعلهم قال لَّمْ تُؤْمِنُواْ بحرف ليس فيه معنى الانتظار لقصور نظرهم وفتور فكرهم وعند فعل الإيمان قال لما يدخل بحرف فيه معنى التوقع لظهور قوة الإيمان كأنه يكاد يغشي القلوب بأسرها
ثم إنه تعالى قال وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ أي لا ينقصكم والمراد أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة فهو يؤتيكم ما يليق به من الجزاء وهذا لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبة يكون ثمنها في السوق درهماً وأعطاه الملك درهماً أو ديناراً ينسب الملك إلى قلة العطاء بل البخل فليس معناه أنه يعطي مثل ذلك من غير نقص بل المعنى يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص وفيه تحريض على الإيمان الصادق لأن من أتى بفعل من غير صدق نية يضيع عمله ولا يعطي عليه أجراً فقال وإن تطيعوا وتصدقوا لا ينقص عليكم فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص وفيه أيضاً تسلية لقلوب من تأخر إيمانه كأنه يقول غيري سبقني وآمن حين كان النبي وحيداً وآواه حين كان ضعيفاً ونحن آمنا عندما عجزنا عن مقاومته وغلبنا بقوته فلا يكون لإيماننا وقع ولا لنا عليه أجر فقال تعالى إن أجركم لا ينقص وما تتوقعون تعطون غاية ما في الباب أن التقدم يزيد في أجورهم وماذا عليكم إذا أرضاكم الله أن يعطي غيركم من خزائن رحمته رحمة واسعة وما حالكم في ذلك إلا حال ملك أعطى واحداً شيئاً وقال لغيره ماذا تتمنى فتمنى عليه بلدة واسعة وأموالاً فأعطاه ووفاه ثم زاد ذلك الأول أشياء أخرى من خزائنه فإن تأذى من ذلك يكون بخلاً وحسداً وذلك في الآخرة لا يكون وفي الدنيا هو من صفة الأرازل وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أي يغفر لكم ما قد سلف ويرحمكم بما أتيتم به ثم قال تعالى
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(28/122)
إرشاداً للأعراب الذين قالوا آمنا إلى حقيقة الإيمان فقال إن كنتم تريدون الإيمان فالمؤمنون من آمن بالله ورسوله ثم لم يرتابوا يعني أيقنوا بأن الإيمان إيقان وثم للتراخي في الحكاية كأنه يقول آمنوا ثم أقول شيئاً آخر لم يرتابوا ويحتمل أن يقال هو للتراخي في الفعل تقديره آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الحشر والنشر وقوله تعالى وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ يحقق ذلك أي أيقنوا أن بعد هذه الدار داراً فجاهدوا طالبين العقبى وقوله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إيمانهم لا الأعراب الذين قالوا قولاً ولم يخلصوا عملاً
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَاللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء وفيه إشارة إلى أن الدين ينبغي أن يكون لله وأنتم أظهرتموه لنا لا لله فلا يقبل منكم ذلك
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَى َّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلا يمَانِ إِنُ كُنتُمْ صَادِقِينَ
يقرر ذلك ويبين أن إسلامهم لمن يكن لله وفيه لطائف الأولى في قوله تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ زيادة بيان لقبيح فعلهم وذلك لأن الإيمان له شرفان أحدهما بالنسبة إلى الله تعالى وهو تنزيه الله عن الشرك وتوحيده في العظمة وثانيهما بالنسبة إلى المؤمن فإنه ينزه النفس عن الجهل ويزينها بالحق والصدق فهم لا يطلبون بإسلامهم جانب الله ولا يطلبون شرف أنفسهم بل منوا ولو علموا أن فيه شرفهم لما منوا به بل شكروا
اللطيفة الثانية قال قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَى َّ إِسْلَامَكُمْ أي الذي عندكم إسلام ولهذا قال تعالى وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ولم يقل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم لئلا يكون تصديقاً لهم في الإسلام أيضاً كما لم يصدقوا في الإيمان فإن قيل لم لم يجز أن يصدقوا في إسلامهم والإسلام هو الانقياد وقد وجد منهم قولاً وفعلاً وإن لم يوجد اعتقاداً وعلماً وذلك القدر كاف في صدقهم نقول التكذيب يقع على وجهين أحدهما أن لا يوجد نفس المخبر عنه وثانيهما أن لا يوجد كما أخبر في نفسه فقد يقول ما جئتنا بل جاءت بك الحاجة فالله تعالى كذبهم في قولهم آمنا على الوجه الأول أي ما آمنتم أصلاً ولم يصدقوا في الإسلام على الوجه الثاني فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة
اللطيفة الثالثة قال بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ يعني لا منة لكم ومع ذلك لا تسلمون رأساً برأس بحيث لا يكون لكم علينا ولا لنا عليكم منة بل المنة عليكم وقوله تعالى بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ حسن أدب حيث لم يقل لا تمنوا علي بل لي المنة عليكم حيث بينت لكم الطريق المستقيم ثم في مقابلة هذا الأدب قال الله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الشورى 52 )
اللطيفة الرابعة لم يقل يمن عليكم أن أسلمتم بل قال أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ لأن إسلامهم كان ضلالاً حيث كان نفاقاً فما منّ به عليهم فإن قيل كيف من عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه بيّن أنهم لم يؤمنوا نقول(28/123)
الجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أنه تعالى لم يقل بل الله يمن عليكم أن رزقكم الإيمان بل قال أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ وإرسال الرسل بالآيات البينات هداية ثانيها هو أنه تعالى يمن عليهم بما زعموا فكأنه قال أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار فقال هداكم في زعمكم ثالثها وهو الأصح هو أن الله تعالى بيّن بعد ذلك شرطاً فقال إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
إشارة إلى أنه لا يخفى عليه أسراركم وأعمال قلوبكم الخفية وقال بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يبصر أعمال جوارحكم الظاهرة وآخر السورة مع التئامه بما قبله فيه تقرير ما في أول السورة وهو قوله تعالى لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( الحجرات 1 ) فإنه لا يخفى عليه سر فلا تتركوا خوفه في السر ولا يخفى عليه علن فلا تأمنوه في العلانية والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده(28/124)
سورة ق
أربعون وخمس آيات مكية
ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ
ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ وقبل التفسير نقول ما يتعلق بالسورة وهي أمور
الأول أن هذه السورة تقرأ في صلاة العيد لقوله تعالى فيها ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( ق 42 ) وقوله تعالى كَذالِكَ الْخُرُوجُ ( ق 11 ) وقوله تعالى ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ق 44 ) فإن العيد يوم الزينة فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجه إلى عرصات الحساب ولا يكون في ذلك اليوم فرحاً فخوراً ولا يرتكب فسقاً ولا فجوراً ولما أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالتذكير بقوله في آخر السورة فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ق 45 ) ذكرهم بما يناسب حالهم في يومهم بقوله ق وَالْقُرْءانِ
الثاني هذه السورة وسورة ص تشتركان في افتتاح أولهما بالحروف المعجم والقسم بالقرآن وقوله بَلِ والتعجب ويشتركان في شيء آخر وهو أن أول السورتين وآخرهما متناسبان وذلك لأن في ص قال في أولها ص وَالْقُرْءانِ ذِى ( ص 1 ) وقال في آخرها إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( ص 87 ) وفي ق قال في أولها ق وَالْقُرْءانِ وقال في آخرها فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ق 45 ) فافتتح بما اختتم به
والثالث وهو أن في تلك السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد بقوله تعالى أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً ( ص 5 ) وقوله تعالى وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ ( ص 6 ) وفي هذه السورة إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر بقوله تعالى أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) ولما كان افتتاح السورة في ص في تقرير المبدأ قال في آخرها إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ(28/125)
( ص 71 ) وختمه بحكاية بدء ( خلق ) آدم لأنه دليل الوحدانية ولما كان افتتاح هذه لبيان الحشر قال في آخرها يَوْمَ تَشَقَّقُ الاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ق 44 ) وأما التفسير ففيه مسائل
المسألة الأولى قيل ق اسم جبل محيط بالعالم وقيل معناه حكمة هي قولنا قضى الأمر وفي ص صدق الله وقد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن ليبقى السامع مقبلاً على استماع ما يرد عليه فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق
وذكرنا أيضاً أن العبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارجية ظاهرة ووجد في الجارحية ما عقل معناه ووجد منها ما لم يعقل معناه كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما ووجد في القلبية ما عقل بدليل كعلم التوحيد وإمكان الحشر وصفات الله تعالى وصدق الرسل ووجد فيها ما يبعدها عن كونها معقولة المعنى أمور لا يمكن التصديق والجزم بما لولا السمع كالصراط الممدود الأحد من السيف الأرق من الشعر والميزان الذي يوزن به الأعمال فكذلك كان ينبغي أن تكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية منها ما يعقل معناه كجميع القرآن إلا قليلاً منه ومنها ما لا يعقل ولا يفهم كحرف التهجي لكون التلفظ به محض الانقياد للأمر لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض كقولنا ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بل يكون النطق به تعبداً محضاً ويؤيد هذا وجه آخر وهو أن هذه الحروف مقسم بها وذلك لأن الله تعالى لما أقسم بالتين والزيتون كان تشريفاً لهما فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى وإذا عرفت هذا فنقول على هذا فيه مباحث
الأول القسم من الله وقع بأمر واحد كما في قوله تعالى وَالْعَصْرِ وقوله تعالى وَالنَّجْمِ وبحرف واحد كما في قوله تعالى ص و ن ووقع بأمرين كما في قوله تعالى وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى وفي قوله تعالى وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ وبحرفين كما في قوله تعالى طه و طس و يس و حم وبثلاثة أمور كما في قوله تعالى وَالصَّافَّاتِ فَالزجِراتِ فَالتَّالِيَاتِ وبثلاثة أحرف كما في الم وفي طسم وبأربعة أمور كما في وَعِيدِ وَالذرِيَاتِ وفي وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وفي وَالتّينِ وبأربعة أحرف كما في المص وبخمسة أمور كما في يُوعَدُونَ وَالطُّورِ وفي وَالْمُرْسَلَاتِ وفي وَالنَّازِعَاتِ وفي وَالْفَجْرِ وبخمسة أحرف كما في كهيعص ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي مُّؤْصَدَة ُ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ولم يقسم بأكثر من خمسة أصول لأنه يجمع كلمة الاستثقال ولما استثقل حين ركب لمعنى كان استثقالها حين ركب من غير إحاطة العلم بالمعنى أو لا لمعنى كان أشد
البحث الثاني عند القسم بالأشياء المعهودة ذكر حرف القسم وهي الواو فقال وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالشَّمْسُ وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم فلم يقل و ق لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسماً به فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحروف(28/126)
البحث الثالث أقسم الله بالأشياء كالتين والطور ولم يقسم بأصولها وهي الجواهر الفردة والماء والتراب وأقسم بالحروف من غير تركيب لأن الأشياء عنده يركبها على أحسن حالها وأما الحروف إن ركبت بمعنى يقع الحلف بمعناه لا باللفظ كقولنا ( والسماء والأرض ) وإن ركبت لا بمعنى كان المفرد أشرف فأقسم بمفردات الحروف
البحث الرابع أقسم بالحروف في أول ثمانية وعشرين سورة وبالأشياء التي عددها عدد الحروف وهي غير مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ في أربع عشرة سورة لأن القسم بالأمور غير الحروف وقع في أوائل السور وفي أثنائها كقوله تعالى كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ( المدثر 32 33 ) وقوله تعالى وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ( الانشقاق 17 ) وقوله وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ( التكوير 17 ) والقسم بالحروف لم يوجد ولم يحسن إلا في أوائل السور لأن ذكر ما لا يفهم معناه في أثناء الكلام المنظوم المفهوم يخل بالفهم ولما كان القسم بالأشياء له موضعان والقسم بالحروف له موضع واحد جعل القسم بالأشياء في أوائل السور على نصف القسم بالحروف في أوائلها
البحث الخامس القسم بالحروف وقع في النصفين جميعاً بل في كل سبع وبالأشياء المعدودة لم يوجد إلا في النصف الأخير بل لم يوجد إلا في السبع الأخير غير والصافات وذلك لأنا بينا أن القسم بالحروف لم ينفك عن ذكر القرآن أو الكتاب أو التنزيل بعده إلا نادراً فقال تعالى يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ الم ذالِكَ الْكِتَابُ ولما كان جميع القرآن معجزة مؤداة بالحروف وجد ذلك عاماً في جميع المواضع ولا كذلك القسم بالأشياء المعدودة وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في سورة العنكبوت ولنذكر ما يختص بقاف قيل إنه اسم جبل محيط بالأرض عليه أطراف السماء وهو ضعيف لوجوه أحدها أن القراءة الكثيرة الوقف ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج لأن من قال ذلك قال بأن الله تعالى أقسم به وثانيها أنه لو كان كذلك لذكر بحرف القسم كما في قوله تعالى وَالطُّورِ وذلك لأن حرف القسم يحذف حيث يكون المقسم به مستحقاً لأن يقسم به كقولنا الله لأفعلن كذا واستحقاقه لهذا غني عن الدلالة عليه باللفظ ولا يحسن أن يقال زيد لأفعلن ثالثها هو أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب عَيْنٌ جَارِيَة ٌ ( الغاشية 12 ) ويكتب أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ( الزمر 36 ) وفي جميع المصاحف يكتب حرف ق رابعها هو أن الظاهر أن الأمر فيه ك الأمر في ص ن حم وهي حروف لا كلمات وكذلك في ق فإن قيل هو منقول عن ابن عباس نقول المنقول عنه أن قاف اسم جبل وأما أن المراد في هذا الموضع به ذلك فلا وقيل إن معناه قضى الأمر وفي ص صدق الله وقيل هو اسم الفاعل من قفا يقفو و ص من صاد من المصاداة وهي المعارضة معناه هذا قاف جميع الأشياء بالكشف ومعناه حينئذ هو قوله تعالى وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 59 ) إذا قلنا إن الكتاب هناك القرآن هذا ما قيل في ق وأما القراءة فيه فكثيرة وحصرها بيان معناها فنقول إن قلنا هي مبنية على ما بينا فحقها الوقف إذ لا عامل فيها فيشبه بناء الأصوات ويجوز الكسر حذراً من التقاء الساكنين ويجوز الفتح اختياراً للأخف فإن قيل كيف جاز اختيار الفتح ههنا ولم يجز عند التقاء الساكنين إذا كان أحدهما آخر كلمة والآخر أول أخرى كما في قوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( البينة 1 ) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ ( الأنعام 52 ) نقول لأن هناك إنما وجب التحريك وعين الكسر في الفعل(28/127)
للشبهة تحرك الإعراب لأن الفعل محل يرد عليه الرفع والنصب ولا يوجد فيه الجر فاختيرت الكسرة التي لا يخفى على أحد أنها ليست بجر لأن الفعل لا يجوز فيه الجر ولو لاشتبه بالنصب وأما في أواخر الأسماء فلا اشتباه لأن الأسماء محل ترد عليه الحركات الثلاث فلم يكن يمكن الاحتراز فاختاروا الأخف وأما إن قلنا إنها حرف مقسم به فحقها الجر ويجوز النصب بجعله مفعولاً باقسم على وجه الاتصال وتقدير الباء كأن لم يوجد وإن قلنا هي اسم السورة فإن قلنا مقسم بها مع ذلك فحقها الفتح لأنها لا تنصرف حينئذ ففتح في موضع الجر كما تقول وإبراهيم وأحمد في القسم بهما وإن قلنا إنه ليس مقسماً بها وقلنا اسم السورة فحقها الرفع إن جعلناها خبراً تقديره هذه ق وإن قلنا هو من قفا يقفو فحقه التنوين كقولنا هذا داع وراع وإن قلنا اسم جبل فالجر والتنوين وإن كان قسماً ولنعد إلى التفسير فنقول الوصف قد يكون للتمييز وهو الأكثر كقولنا الكلام القديم ليتميز عن الحادث والرجل الكريم ليمتاز عن اللئيم وقد يكون لمجرد المدح كقولنا الله الكريم إذ ليس في الوجود إلاه آخر حتى نميزه عنه بالكريم وفي هذا الموضع يحتمل الوجهين والظاهر أنه لمجرد المدح وأما التمييز فبأن نجعل القرآن اسماً للمقروء ويدل عليه قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) والمجيد العظيم وقيل المجيد هو كثير الكرم وعلى الوجهين القرآن مجيد أما على قولنا المجيد هو العظيم فلأن القرآن عظيم الفائدة ولأنه ذكر الله العظيم وذكر العظيم عظيم ولأنه لم يقدر عليه أحد من الخلق وهو آية العظمة يقال ملك عظيم إذا لم يكن يغلب ويدل عليه قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ الْعَظِيمَ ( الحجر 87 ) أي الذي لا يقدر على مثله أحد ليكون معجزة دالة على نبوتك وقوله تعالى بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 21 22 ) أي محفوظ من أن يطلع عليه أحد إلا باطلاعه تعالى فلا يبدل ولا يغير و لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ( فصلت 42 ) فهو غير مقدور عليه فهو عظيم وأما على قولنا المجيد هو كثير الكرم فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوده وجده وإنه مغن كل من لاذبه وإغناء المحتاج غاية الكرم ويدل عليه هو أن المجيد مقرون بالحميد في قولنا إنك حميد مجيد فالحميد هو المشكور والشكر على الإنعام والمنعم كريم فالمجيد هو الكريم البالغ في الكرم وفيه مباحث
الأول القرآن مقسم به فالمقسم عليه ماذا نقول فيه وجوه وضبطها بأن نقول ذلك إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مقالية والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة فإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متقدمة فلا متقدم هناك لفظاً إلا ق فيكون التقدير هذا ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ أو ق أنزلها الله تعالى وَالْقُرْءانِ كما يقول هذا حاتم والله أي هو المشهور بالسخاء ويقول الهلال رأيته والله وإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متأخرة فنقول ذلك أمران أحدهما المنذر والثاني الرجع فيكون التقدير والقرآن المجيد إنك المنذر أو والقرآن المجيد إن الرجع لكائن لأن الأمرين ورد القسم عليهما ظاهراً أما الأول فيدل عليه قوله تعالى يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إلى أن قال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ ( ي س 1 6 ) وأما الثاني فدل عليه قوله تعالى وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ إلى أن قال إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( الطور 1 7 ) وهذا الوجه يظهر عليه غاية الظهور على قول من قال ق اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن وهناك القسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن فإن قيل أي الوجهين منهما أظهر عندك قلت الأول لأن المنذر أقرب من الرجع ولأن الحروف رأيناها مع القرآن والمقسم كونه(28/128)
مرسلاً ومنذراً وما رأينا الحروف ذكرت ويعدها الحشر واعتبر ذلك في سورة منها قوله تعالى الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ لِتُنذِرَ ( السجدة 1 3 ) ولأن القرآن معجزة دالة على كون محمد رسول الله فالقسم به عليه يكون إشارة إلى الدليل على طريقة القسم وليس هو بنفسه دليلاً على الحشر بل فيه أمارات مفيدة للجزم بالحشر بعد معرفة صدق الرسول وأما إن قلنا هو مفهوم بقرينة حالية فهو كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على الحق ولكلامه صفة الصدق فإن الكفار كانوا ينكرون ذلك والمختار ما ذكرناه والثاني بَلْ عَجِبُواْ ( ق 2 ) يقتضي أن يكون هناك أمر مضرب عنه فما ذلك نقول قال الواحدي ووافقه الزمخشري إنه تقدير قوله ما الأمر كما يقولون ونزيده وضوحاً فنقول على ما اخترناه فإن التقدير والله أعلم ق والقرآن والقرآن المجيد إنك لتنذر فكأنه قال بعده وإنهم شكوا فيه فأضرب عنه
بَلْ عَجِبُوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَى ْءٌ عَجِيبٌ
وقال بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ
يعني لم يقتنعوا بالشك في صدق الأمر وطرحه بالترك وبعد الإمكان بل جزموا بخلافه حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة فإن قيل فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمضرب عنه وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوفيق العزيز فنقول إنما حذف المقسم عليه لأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر وذلك لأن من ذكر الملك العظيم في مجلس وأثنى عليه يكون قد عظمه فإذا قال له غيره هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالاً على عظمته فوق ما يستفيد صاحبه بذكره فالله تعالى يقول لبيان رسالتك أظهر من أن يذكر وأما حذف المضرب عنه فلأن المضرب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمر آخر إنما يحسن إذا كان بين المذكورين تفاوت ما فإذا عظم التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب مثاله يحسن أن يقال الوزير يعظم فلاناً بل الملك يعظمه ولا يحسن أن يقال البواب يعظم فلاناً بل الملك يعظمه لكون البون بينهما بعيداً إذ الإضراب للتدرج فإذا ترك المتكلم المضرب عنه صريحاً وأتى بحرف الإضراب استفيد منه أمران أحدهما أنه يشير إلى أمر آخر قبله وثانيهما أنه يجعل الثاني تفاوتاً عظيماً مثل ما يكون ومما لا يذكر وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد
المبحث الثالث أن مع الفعل يكون بمثابة ذكر المصدر تقول أمرت بأن أقوم وأمرت بالقيام وتقول ما كان جوابه إلا أن قال وما كان جوابه إلا قوله كذا وكذا وإذا كان كذلك فلم ينزل عن الإتيان بالمصدر حيث جاز أن يقال أمرت أن أقوم من غير حرف الإلصاق ولا يجوز أن يقال أمرت القيام بل لا بد من الباء ولذلك قالوا أي عجبوا من مجيئه نقول أَن جَاءهُمْ وإن كان في المعنى قائماً مقام المصدر لكنه في الصورة فعل وحرف وحروف التعدية كلها حروف جارة والجار لا يدخل على الفعل فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقل من أن يجوز عدم الدخول فجاز أن يقال عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ ولا يجوز عجبوا مجيئهم لعدم المانع من إدخال الحروف عليه(28/129)
وقوله تعالى مِنْهُمْ يصلح أن يكون مذكوراً كالمقرر لتعجبهم ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تعجبهم أما التقرير فلأنهم كانوا يقولون أَبَشَراً مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ ( القمر 24 ) و قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا ( ي س 15 ) إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصكم بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم وأما الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم وظهر عليه ما عجز عنه كلهم ومن بعدهم كان يجب عليهم أن يقولوا هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جنسنا فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحد من خلاف جنسهم وأتى بما يعجزون عنه فإنهم كانوا يقولون نحن لا نقدر لأن لكل نوع خاصية فإن خاصية النعامة بلع النار والطيور الطير في الهواء وابن آدم لا يقدر عليه فإن قيل الإبطال جائز لأن قولهم كان باطلاً ولكن تقرير الباطل كيف يجوز نقول المبين لبطلان الكلام يجب أن يورده على أبلغ ما يمكن ويذكر فيه كل ما يتوهم أنه دليل عليه ثم يبطله فلذلك قال عجبتم بسبب أنه منكم وهو في الحقيقة سبب لهذا التعجب فإن قيل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان بشيراً ونذيراً والله تعالى في جميع المواضع قدم كونه بشيراً على كونه نذيراً فلم لم يذكر عجبوا أن جاءهم بشير منهم نقول هو لما لم يتعين للبشارة موضعاً كان في حقهم منذراً لا غير
ثم قال تعالى فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ
قال الزمخشري هذا تعجب آخر من أمر آخر وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) فعجبوا من كونه منذراً من وقوع الحشر ويدل عليه النظر في أول سورة ص حيث قال فيه وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّ نذِرٌ ( ص 4 ) وقال أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) ذكر تعجبهم من أمرين والظاهر أن قولهم هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر ويدل عليه وجوه الأول هو أن هناك ذكر إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ بعد الاستفهام الإنكاري فقال أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ وقال ههنا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ ولم يكن ما يقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر ثم قالوا أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ الثاني ههنا وجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب وهو قولهم ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضاً عائداً إليه لكان كالتكرار فإن قيل التكرار الصريح يلزم من جعل قولك هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ عائداً إلى مجيء المنذر فإن تعجبهم منه علم من قوله عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ فقوله هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ يكون تكراراً نقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير وذلك لأنه لما قال بَلْ عَجِبُواْ بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجيباً كما قال تعالى أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( هود 73 ) ويقال في العرف لا وجه لتعجبك مما ليس بعجب فكأنهم لما عجبوا قيل لهم لا معنى لفعلكم وعجبكم فقالوا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ فكيف لا نعجب منه ويدل عليه أنه تعالى قال ههنا فَقَالَ الْكَافِرُونَ بحرف الفاء وقال في ص وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( ص 4 ) لأن قولهم سَاحِرٌ كَذَّابٌ كان تعنتاً غير مرتب على ما تقدم و هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ أمر مرتب على ما تقدم أي عجبوا وأنكروا عليه ذلك فقالوا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ فكيف لا نعجب منه ويدل(28/130)
عليه أيضاً قوله تعالى ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) بلفظ الإشارة إلى البعد وقوله هذا إشارة إلى الحاضر القريب فينبغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهذا وذلك لا يصح إلا على قولنا
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ
فإنهم لما أظهروا العجب من رسالته أظهروا استبعاد كلامه وهذا كما قال تعالى عنهم قَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُكُمْ ( سبأ 43 ) وَقَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى ( سبأ 43 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى فقوله أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً إنكار منهم بقول أو بمفهوم دل عليه قوله تعالى جَاءهُمْ مُّنذِرٌ ( ق 2 ) لأن الإنذار لما لم يكن إلا بالعذاب المقيم والعقاب الأليم كان فيه الإشارة للحشر فقالوا أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً
المسألة الثانية ذلك إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار وقوله هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ ( ق 2 ) إشارة إلى المجيء على ما قلنا فلما اختلفت الصفتان نقول المجيء والجائي كل واحد حاضر وأما الإنذار وإن كان حاضراً لكن لكون المنذر به لما كان غير حاضر قالوا فيه ذلك الرجع مصدر رجع يرجع إذا كان متعدياً والرجوع مصدره إذا كان لازماً وكذلك الرجعي مصدر عند لزومه والرجع أيضاً يصح مصدراً للازم فيحتمل أن يكون المراد بقوله ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ أي رجوع بعيد ويحتمل أن يكون المراد الرجع المتعدي ويدل على الأول قوله تعالى إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى ( العلق 8 ) وعلى الثاني قوله تعالى أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ ( النازعات 10 ) أي مرجعون فإنه من الرجع المتعدي فإن قلنا هو من المتعدي فقد أنكروا كونه مقدوراً في نفسه
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
إشارة إلى دليل جواز البعث وقدرته تعالى عليه وذلك لأن الله تعالى بجميع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجوع منه ببعد وهذا كقوله تعالى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ( ي س 11 ) حيث جعل للعلم مدخلاً في الإعادة وقوله قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاْرْضَ يعني لا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في تخوم الأرضين وهذا جواب لما كانوا يقولون أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ ( السجدة 10 ) يعني أن ذلك إشارة إلى أنه تعالى كما يعلم أجزاؤهم يعلم أعمالهم من ظلمهم وتعديهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون ويحتمل أن يقال معنى قوله تعالى وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ هو أنه عالم بتفاصيل الأشياء وذلك لأن العلم إجمالي وتفصيلي فالإجمالي كما يكون عند(28/131)
الإنسان الذي يحفظ كتاباً ويفهمه ويعلم أنه إذا سئل عن أية مسألة تكون في الكتاب يحضر عنده الجواب ولكن ذلك لا يكون نصب عينيه حرفاً بحرف ولا يخطر بباله في حالة باباً باباً أو فصلاً فصلاً ولكن عند العرض على الذهن لا يحتاج إلى تجديد فكر وتحديد نظر والتفصيلي مثل الذي يعبر عن الأشياء والكتاب الذي كتب فيه تلك المسائل وهذا لا يوجد عند الإنسان إلا في مسألة أو مسألتين أما بالنسبة إلى كتاب فلا يقال وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ يعني العلم عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءاً جزءاً وشيئاً شيئاً والحفيظ يحتمل أن يكون بمعنى المحفوظ أي محفوظ من التغيير والتبديل ويحتمل أن يكون بمعنى الحافظ أي حافظ أجزاءهم وأعمالهم بحيث لا ينسى شيئاً منها والثاني هو الأصح لوجهين أحدهما أن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال تعالى وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( الأنعام 104 ) وقال تعالى وَاللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ولأن الكتاب على ما ذكرنا للتمثيل فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ
بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ
وقوله تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ
رد عليهم فإن قيل ما المضروب عنه نقول فيه وجهان أحدهما تقديره لم يكذب المنذر بل كذبوا هم وتقديره هو أنه تعالى لما قال عنهم إنهم قالوا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ ( ق 2 ) كان في معنى قولهم إن المنذر كاذب فقال تعالى لم يكذب المنذر بل هم كذبوا فإن قيل ما الحق نقول يحتمل وجوهاً الأول البرهان القائم على صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني الفرقان المنزل وهو قريب من الأول لأنه برهان الثالث النبوة الثابتة بالمعجزة القاهرة فإنها حق الرابع الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق فإن قيل بين لنا معنى الباء في قوله تعالى بِالْحَقّ وأية حاجة إليها يعني أن التكذيب متعد بنفسه فهل هي للتعدية إلى مفعول ثان أو هي زائدة كما في قوله تعالى فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( القلم 5 6 ) نقول فيه بحث وتحقيق وهي في هذا الموضع لإظهار معنى التعدية وذلك لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب لكن النسبة تارة توجد في القائل وأخرى في القول تقول كذبني فلان وكنت صادقاً وتقول كذب فلان قول فلان ويقال كذبه أي جعله كاذباً وتقول قلت لفلان زيد يجيء غداً فتأخر عمداً حتى كذبني وكذب قولي والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها قال تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ( الشعراء 141 ) وقال تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( القمر 23 ) وفي القول كذلك غير أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر قال تعالى فَكَذَّبُوهُ ( الأعراف 64 ) وقال وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ ( فاطر 4 ) إلى غير ذلك وفي القول الاستعمال بالباء أكثر قال الله تعالى كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلَّهَا ( القمر 42 ) وقال بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ وقال تعالى وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ إِذْ جَاءهُ ( الزمر 32 ) والتحقيق فيه هو أن المفعول المطلق هو المصدر لأنه هو الذي يصدر من الفاعل فإن من ضرب لم يصدر منه غير الضرب غير أن له محلاً يقع فيه فيسمى مضروباً ثم إذا كان ظاهراً لكونه محلاً للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف يقال ضربت عمراً وشربت خمراً للعلم بأن الضرب لا بد له من محل يقوم به والشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه وإذا قلت مررت يحتاج إلى الحرف ليظهر معنى التعدية لعدم ظهوره في نفسه لأن من قال مر السحاب يفهم منه مرور ولا يفهم منه من مر به ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون(28/132)
الضرب والشرب وفي الخفاء دون المرور فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف لظهوره الذي فوق ظهور المرور ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب ولهذا لا يجوز أن تقول ضربت بعمرو إلا إذا جعلته آلة الضرب أما إذا ضربته بسوط أو غيره فلا يجوز فيه زيادة الباء ولا يجوز مروا به إلا مع الاشتراك وتقول مسحته ومسحت به وشكرته وشكرت له لأن المسح إمرار اليد بالشيء فصار كالمرور والشكر فعل جميل غير أنه يقع بمحسن فالأصل في الشكر الفعل الجميل وكونه واقعاً بغيره كالبيع بخلاف الضرب فإنه إمساس جسم بجسم بعنف فالمضروب داخل في مفهوم الضرب أولاً والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانياً إذا عرفت هذا فالتكذيب في القائل ظاهر لأنه هو الذي يصدق أو يكذب وفي القول غير ظاهر فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية
وقوله لَمَّا جَاءهُمْ في الجائي وجهان أحدهما أنه هو المكذب تقديره كذبوا بالحق لما جاءهم الحق أي لم يؤخروه إلى الفكر والتدبر ثانيهما الجائي ههنا هو الجائي في قوله تعالى بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ ( ق 2 ) تقديره كذبوا بالحق لما جاءهم المنذر والأول لا يصح على قولنا الحق وهو الرجع لأنهم لا يكذبون به وقت المجيء بل يقولون هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ ( ي س 52 )
وقوله فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ أي مختلف مختلط قال الزجاج وغيره لأنهم تارة يقولون ساحر وأخرى شاعر وطوراً ينسبونه إلى الكهانة وأخرى إلى الجنون والأصح أن يقال هذا بيان الاختلاف المذكور في الآيات وذلك لأن قوله تعالى بَلْ عَجِبُواْ يدل على أمر سابق أضرب عنه وقد ذكرنا أنه الشك وتقديره والقرآن المجيد إنك لمنذر وإنهم شكوا فيك بل عجبوا بل كذبوا وهذه مراتب ثلاث الأولى الشك وفوقها التعجب لأن الشاك يكون الأمران عنده سيين والمتعجب يترجح عنده اعتقاد عدم وقوع العجيب لكنه لا يقطع به والمكذب الذي يجزم بخلاف ذلك فكأنهم كانوا شاكين وصاروا ظانين وصاروا جازمين فقال فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ ويدل عليه الفاء في قوله فَهُمُ لأنه حينئذ يصير كونهم فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ مرتباً على ما تقدم وفيما ذكروه لا يكون مرتباً فإن قيل المريج المختلط وهذه أمور مرتبة متميزة على مقتضى العقل لأن الشاك ينتهي إلى درجة الظن والظان ينتهي إلى درجة القطع وعند القطع لا يبقى الظن وعند لظن لا يبقى الشك وأما ما ذكروه ففيه يحصل الاختلاط لأنهم لم يكن لهم في ذلك ترتيب بل تارة كانوا يقولون كاهن وأخرى مجنون ثم كانوا يعودون إلى نسبته إلى الكهانة بعد نسبته إلى الجنون وكذا إلى الشعر بعد السحر وإلى السحر بعد الشعر فهذا هو المريج نقول كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بين أظهرهم ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرة على يديه ولسانه فلما غيروا الترتيب حصل عليه المرج ووقع الدرك مع المرج وأما ما ذكروه فاللائق به تفسير قوله تعالى إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( الذاريات 8 ) لأن ما كان يصدر منهم في حقه كان قولاً مختلفاً وأما الشك والظن والجزم فأمور مختلفة وفيه لطيفة وهي أن إطلاق لفظ المريج على ظنهم وقطعهم ينبىء عن عدم كون ذلك الجزم صحيحاً لأن الجزم الصحيح لا يتغير وكان ذلك منهم واجب التغير فكان أمرهم مضطرباً بخلاف المؤمن الموفق فإنه لا يقع في اعتقاده تردد ولا يوجد معتقده تعدد
أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ
إشارة إلى الدليل الذي يدفع قولهم ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) وهذا كما في قوله تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم(28/133)
( ي س 80 ) وقوله تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر 57 ) وقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْى َ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْى ِ الْمَوْتَى بَلَى ( الأحقاف 33 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى همزة الاستفهام تارة تدخل على الكلام ولا واو فيه وتارة تدخل عليه وبعدها واو فهل بين الحالتين فرق نقول فرق أدق مما على الفرق وهو أن يقول القائل أزيد في الدار بعد وقد طلعت الشمس يذكره للإنكار فإذا قال أو زيداً في الدار بعد وقد طلعت الشمس يشير بالواو إشارة خفية إلى أن قبح فعله صار بمنزلة فعلين قبيحين كأنه يقول بعد ما سمع ممن صدر عن زيد هو في الدار أغفل وهو في الدار بعد لأن الواو تنبىء عن ضيف أمر مغاير لما بعدها وإن لم يكن هناك سابق لكنه يومىء بالواو إليه زيادة في الإنكار فإن قيل قال في موضع أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ ( الأعراف 185 ) وقال ههنا أَفَلَمْ يَنظُرُواْ بالفاء فما الفرق نقول ههنا سبق منهم إنكار الرجع فقال بحرف التعقيب بمخالفه فإن قيل ففي ي س سبق ذلك بقوله قال مَن يُحى ِ الْعِظَامَ ( ي س 78 ) نقول هناك الاستدلال بالسماوات لما لم يعقب الإنكار على عقيب الإنكار استدل بدليل آخر وهو قوله تعالى قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( ي س 79 ) ثم ذكر الدليل الآخر وههنا الدليل كان عقيب الإنكار فذكر بالفاء وأما قوله ههنا بلفظ النظر وفي الأحقاف بلفظ الرؤية ففيه لطيفة وهي أنهم ههنا لما استبعدوا أمر الرجع بقولهم ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ استبعد استبعادهم وقال أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء لأن النظر دون الرؤية فكأن النظر كان في حصول العلم بإنكار الرجع ولا حاجة إلى الرؤية ليقع الاستبعاد في مقابلة الاستعباد وهناك لم يوجد منهم بإنكار مذكور فأرشدهم إليه بالرؤية التي هي أتم من النظر ثم إنه تعالى كمل ذلك وجمله بقوله إِلَى السَّمَاء ولم يقل في السماء لأن النظر في الشيء ينبىء عن التأمل والمبالغة والنظر إلى الشيء ينبىء عنه لأن إلى للغاية فينتهي النظر عنده في الدخول في معنى الظرف فإذا انتهى النظر إليه ينبغي أن ينفذ فيه حتى يصح معنى الظرفية وقوله تعالى فَوْقَهُمُ تأكيد آخر أي وهو ظاهر فوق رؤوسهم غير غائب عنهم وقوله تعالى كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ إشارة إلى وجه الدلالة وأولوية الوقوع وهي للرجع أما وجه الدلالة فإن الإنسان له أساس هي العظام التي هي كالدعامة وقوى وأنوار كالسمع والبصر فبناء السماء أرفع من أساس البدن وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم وأما الأولوية فإن السماء ما لها من فروج فتأليفها أشد وللإنسان فروج ومسام ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف والأول أصعب عند الناس وأعجب فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من الله تعالى قالت الفلاسفة الآية دالة على أن السماء لا تقبل الخرق وكذلك قالوا في قوله هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ وقوله سَبْعاً ( النبأ 12 ) وتعسفوا فيه لأن قوله تعالى مَّا لَهَا مِن فُرُوجٍ صريح في عدم ذلك والإخبار عن عدم الشيء لا يكون إخباراً عن عدم إمكانه فإن من قال ما لفلان قال لا يدل على نفي إمكانه ثم إنه تعالى بيّنن خلاف قولهم بقوله وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ ( المرسلات 9 ) وقال إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الانفطار 1 ) وقال فَهِى َ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة ٌ ( الحاقة 16 ) في مقابلة قوله سَبْعاً شِدَاداً وقال فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَة ً كَالدّهَانِ ( الرحمن 37 ) إلى غير ذلك والكل في الرد عليهم صريح وما ذكروه في الدلالة ليس بظاهر بل وليس له دلالة خفية أيضاً وأما دليلهم المعقول فأضعف وأسخف من(28/134)
تمسكهم بالمنقول
وَالاٌّرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
إشارة إلى دليل آخر ووجه دلالة الأرض هو أنهم قالوا الإنسان إذا مات وفارقته القوة الغاذية والنامية لا تعود إليه تلك القوة فنقول الأرض أشد جموداً وأكثر خموداً والله تعالى ينبت فيها أنواع النبات وينمو ويزيد فكذلك الإنسان تعود إليه الحياة وذكر في الأرض ثلاثة أمور كما ذكر في السماء ثلاثة أمور في الأرض المد وإلقاء الرواسي والإنبات فيها وفي السماء البناء والتزيين وسد الفروج وكل واحد في مقابلة واحد فالمد في مقابلة البناء لأن المد وضع والبناء رفع والرواسي في الأرض ثابتة والكواكب في السماء مركوزة مزينة لها والإنبات في الأرض شقها كما قال تعالى أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاْرْضَ شَقّاً ( عبس 25 26 ) وهو على خلاف سد الفروج وإعدامها وإذا علمت هذا ففي الإنسان أشياء موضوعة وأشياء مرفوعة وأشياء ثابتة كالأنف والأذن وأشياء متحركة كالمقلة واللسان وأشياء مسدودة الفروج كدور الرأس والأغشية المنسوجة نسجاً ضعيفاً كالصفاق وأشياء لها فروج وشقوق كالمناخر والصماخ والفم وغيرها فالقادر على الأضداد في هذا المهاد في السبع الشداد غير عاجز عن خلق نظيرها في هذه الأجساد ( و ) تفسير الرواسي قد ذكرناه في سورة لقمان والبهيج الحسن
تَبْصِرَة ً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ
يحتمل أن يكون الأمران عائدين إلى الأمرين المذكورين وهما السماء والأرض على أن خلق السماء تبصرة وخلق الأرض ذكرى ويدل عليه أن السماء زينتها مستمرة غير مستجدة في كل عام فهي كالشيء المرئي على مرور الزمان وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زخرفها فذكر السماء تبصرة والأرض تذكرة ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كل واحد من الأمرين فالسماء تبصرة والأرض كذلك والفرق بين التبصرة والتذكرة هو أن فيها آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجددة مذكرة عند التناسي وقوله لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ أي راجع إلى التفكر والتذكر والنظر في الدلائل
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ
إشارة إلى دليل آخر وهو ما بين السماء والأرض فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وذلك إنزال ( الماء من ) السماء من فوق وإخراج النبات من تحت وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الاستدلال قد تقدم بقوله تعالى وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( ق 7 ) فما الفائدة في إعادته بقوله فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ نقول قوله فَأَنبَتْنَا استدلال بنفس النبات أي الأشجار تنمو وتزيد فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ينمو ويزيد بأن يرجع الله تعالى إليه قوة النشوء والنماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء وَحَبَّ الْحَصِيدِ فيه حذف تقديره وحب الزرع الحصيد وهو المحصود أي(28/135)
أنشأنا جنات يقطف ثمارها وأصولها باقية وزرعاً يحصد كل سنة ويزرع في كل عام أو عامين ويحتمل أن يقال التقدير وننبت الحب الحصيد والأول هو المختار وقوله تعالى وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ إشارة إلى المختلط من جنسين لأن الجنات تقطف ثمارها وتثمر من غير زراعة كل سنة لكن النخل يؤبر ولولا التأبير لم يثمر فهو جنس مختلط من الزرع والشجر فكأنه تعالى خلق ما يقطف كل سنة ويزرع وخلق ما لا يزرع كل سنة ويقطف مع بقاء أصلها وخلق المركب من جنسين في الأثمار لأن بعض الثمار فاكهة ولا قوت فيه وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت والباسقات الطوال من النخيل
وقوله تعالى بَاسِقَاتٍ يؤكد كمال القدرة والاختيار وذلك من حيث إن الزرع إن قيل فيه إنه يمكن أن يقطف من ثمرته لضعفه وضعف حجمه فكذلك يحتاج إلى إعادته كل سنة والجنات لكبرها وقوتها تبقى وتثمر سنة بعد سنة فيقال أليس النخل الباسقات أكثر وأقوى من الكرم الضعيف والنخل محتاجة كل سنة إلى عمل عامل والكرم غير محتاج فالله تعالى هو الذي قدر ذلك لذلك لا للكبر والصغر والطول والقصر
قوله تعالى لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ أي منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما في سنبله الزرع وهو عجيب فإن الأشجار الطوال أثمارها بارزها متميز بعضها من بعض لكل واحد منها أصل يخرج منه كالجوز واللوز وغيرهما والطلع كالسنبلة الواحدة يكون على أصل واحد
رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً كَذَالِكَ الْخُرُوجُ
ثم قال تعالى رّزْقاً لّلْعِبَادِ وفيه وجهان أحدهما نصب على المصدر لأن الإنبات رزق فكأنه تعالى قال أنبتناها إنباتاً للعباد والثاني نصب على كونه مفعولاً له كأنه قال أنبتناها لرزق العباد وههنا مسائل
المسألة الأولى قال في خلق السماء والأرض تَبْصِرَة ً وَذِكْرَى ( ق 8 ) وفي الثمار قال رِزْقاً والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة فما الحكمة في اختيار الأمرين نقول فيه وجوه أحدها أن نقول الاستدلال وقع لوجود أمرين أحدهما الإعادة والثاني البقاء بعد الإعادة فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعد الثواب الدائم والعقاب الدائم وأنكروا ذلك فأما الأول فالله القادر على خلق السماوات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النجم والشجر قادر على أن يرزق العبد في الجنة ويبقى فكأن الأول تبصرة وتذكرة بالخلق والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تَبْصِرَة ً وَذِكْرَى حيث ذكر ذلك بعد الآيتين ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنباته النبات ثانيها أن منفعة الثمار الظاهرة هي الرزق فذكرها ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمراً عائداً إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى لأن السماء سبب الأرزاق بتقدير الله وفيها غير ذلك من المنافع والثمار وإن لم تكن ( ما ) كان العيش كما أنزل الله على قوم المن والسلوى وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا الموضع ثالثها قوله رِزْقاً إشارة إلى كونه منعماً لكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة ( للتكذيب ) بالمنعم وهو أقبح ما يكون
المسألة الثانية قال تَبْصِرَة ً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( ق 8 ) فقيد العبد بكونه منيباً وجعل خلقها تبصرة لعباده المخلصين وقال رّزْقاً لّلْعِبَادِ مطلقاً لأن الرزق حصل لكل أحد غير أن المنيب يأكل ذاكراً شاكراً للإنعام وغيره يأكل كما تأكل الأنعام فلم يخصص الرزق بقيد(28/136)
المسألة الثالثة ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة أيضاً وهي إنبات الجنات والحب والنخل كما ذكر في السماء والأرض في كل واحدة أموراً ثلاثة وقد ثبت أن الأمور الثلاثة في الآيتين المتقدمين متناسبة فهل هي كذلك في هذه الآية نقول قد بينا أن الأمور الثلاثة إشارة إلى الأجناس الثلاثة وهي التي يبقى أصلها سنين ولا تحتاج إلى عمل عامل والتي لا يبقى أصلها وتحتاج كل سنة إلى عمل عامل والتي يجتمع فيها الأمران وليس شيء من الثمار والزروع خارجاً عنه أصلاً كما أن أمور الأرض منحصرة في ثلاثة ابتداء وهو المد ووسط وهو النبات بالجبال الراسية وثالثها هو غاية الكمال وهو الإنبات والتزيين بالزخارف
ثم قال تعالى وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً عطفاً على أَنبَتْنَا بِهِ ( ق 9 ) وفيه بحثان
الأول إن قلنا إن الاستدلال بإنبات الزرع وإنزال الماء كان لإمكان البقاء بالرزق فقوله وَأَحْيَيْنَا بِهِ إشارة إلى أنه دليل على الإعادة كما أنه دليل على البقاء ويدل عليه قوله تعالى كَذالِكَ الْخُرُوجُ فإن قيل كيف يصح قولك استدلالاً وإنزال الماء كان لبيان البقاء مع أنه تعالى قال بعد ذلك وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً
وقال كَذالِكَ الْخُرُوجُ فيكون الاستدلال على البقاء قبل الاستدلال على الإحياء والإحياء سابق على الإبقاء فينبغي أن يبين أولاً أنه يحيي الموتى ثم يبين أنه يبقيهم نقول لما كان الاستدلال بالسماوات والأرض على الإعادة كافياً بعد ذكر دليل الإحياء ذكر دليل الإبقاء ثم عاد واستدرك فقال هذا الدليل الدال على الإبقاء دال على الإحياء وهو غير محتاج إليه لسبق دليلين قاطعين فبدأ ببيان البقاء وقال وَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ ثم ثنى بإعادة ذكر الإحياء فقال وَأَحْيَيْنَا بِهِ وإن قلنا إن الاستدلال بإنزال الماء وإنبات الزرع لا لبيان إمكان الحشر فقوله وَأَحْيَيْنَا بِهِ ينبغي أن يكون مغايراً لقوله فَأَنبَتْنَا بِهِ بخلاف ما لو قلنا بالقول الأول لأن الإحياء وإن كان غير الإنبات لكن الاستدلال لما كان به على أمرين متغايرين جاز العطف تقول خرج للتجارة وخرج للزيارة ولا يجوز أن يقال خرج للتجارة وذهب للتجارة إلا إذا كان الذهاب غير الخروج فنقول الإحياء غير إنبات الرزق لأن بإنزال الماء من السماء يخضر وجه الأرض ويخرج منها أنواع من الأزهار ولا يتغذى به ولا يقتات وإنما يكون به زينة وجه الأرض وهو أعم من الزرع والشجر لأنه يوجد في كل مكان والزرع والثمر لا يوجدان في كل مكان فكذلك هذا الإحياء فإن قيل فكان ينبغي أن يقدم في الذكر لأن اخضرار وجه الأرض يكون قبل حصول الزرع والثمر ولأنه يوجد في كل مكان بخلاف الزرع والثمر نقول لما كان إنبات الزرع والثمر أكمل نعمة قدمه في الذكر
الثاني في قوله بَلْدَة ً مَّيْتاً نقول جاز إثبات التاء في الميت وحذفها عند وصف المؤنث بها لأن الميت تخفيف للميت والميت فيعل بمعنى فاعل فيجوز فيه إثبات التاء لأن التسوية في الفعيل بمعنى المفعول كقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ( الأعراف 56 ) فإن قيل لم سوى بين المذكر والمؤنث في الفعيل بمعنى المفعول قلنا لأن الحاجة إلى التمييز بين الفاعل والمفعول أشد من الحاجة إلى التمييز المفعول المذكر والمفعول المؤنث نظراً إلى المعنى ونظراً إلى اللفظ فأما المعنى فظاهر وأما اللفظ فلأن المخالفة بين الفاعل والمفعول في الوزن والحرف أشد من المخالفة بين المفعول والمفعول له إذا علم هذا فنقول في الفعيل لم يتميز الفاعل بحرف فإن فعيلاً جاء بمعنى الفاعل كالنصير والبصير وبمعنى المفعول كالكسير والأسير ولا يتميز بحرف عند المخالفة إلا الأقوى فلا يتميز عند المخالفة الأدنى والتحقيق فيه أن فعيلاً وضع لمعنى لفظي والمفعول وضع لمعنى حقيقي(28/137)
فكأن القائل قال استعملوا لفظ المفعول للمعنى الفلاني واستعملوا لفظ الفعيل مكان لفظ المفعول فصار فعيل كالموضوع للمفعول والمفعول كالموضوع للمعنى ولما كان تغير اللفظ تابعاً لتغير المعنى تغير المفعول لكونه بإزاء المعنى ولم يتغير الفعيل لكونه بإزاء اللفظ في أول الأمر فإن قيل فما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ الْمَيْتَة ُ أَحْيَيْنَاهَا ( ي س 33 ) حيث أثبت التاء هناك نقول الأرض أراد بها الوصف فقال الاْرْضُ الْمَيْتَة ُ لأن معنى الفاعلية ظاهر هناك والبلدة الأصل فيها الحياة لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة وأقام بها الناس وعمروها فصارت بلدة فأسقط التاء لأن معنى الفاعلية ثبت فيها والذي بمعنى الفاعل لا يثبت فيه التاء وتحقيق هذا قوله بَلْدَة ٌ طَيّبَة ٌ ( سبأ 15 ) حيث أثبت التاء حيث ظهر بمعنى الفاعل ولم يثبت حيث لم يظهر وهذا بحث عزيز
قوله تعالى كَذالِكَ الْخُرُوجُ أي كالإحياء الْخُرُوجُ فإن قيل الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج فنقول تقديره وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً فتشققت وخرج منها النبات كذلك تشقق ويخرج منها الأموات وهذا يؤكد قولنا الرجع بمعنى الرجوع في قوله ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) لأنه تعالى بيّن لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسب أن يقول كذلك الإخراج ولما قال كَذالِكَ الْخُرُوجُ فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال كَذالِكَ الْخُرُوجُ نقول فيه معنى لطيف على القول الآخر وذلك لأنهم استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي بمعنى الإخراج والله تعالى أثبت الخروج وفيهما مبالغة تنبيهاً على بلاغة القرآن مع أنها مستغنية عن البيان ووجهها هو أن الرجع والإخراج كالسبب للرجوع والخروج والسبب إذا انتفى ينتفي المسبب جزماً وإذا وجد قد يتخلف عنه المسبب لمانع تقول كسرته فلم ينكسر وإن كان مجازاً والمسبب إذا وجد فقد وجد سببه وإذا انتفى لا ينتفي السبب لما تقدم إذا علم هذا فهم أنكروا وجود السبب ونفوه وينتفي المسبب عند انتفائه جزماً فبالغوا وأنكروا الأمر جميعاً لأن نفي السبب نفي المسبب فأثبت الله الأمرين بالخروج كما نفوا الأمرين جميعاً بنفي الإخراج
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الاٌّ يْكَة ِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
ذكر المكذبين تذكيراً لهم بحالهم ووبالهم وأنذرهم بإهلاكهم واستئصالهم وتفسيره ظاهر وفيه تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتنبيه بأن حاله كحال من تقدمه من الرسل كذبوا وصبروا فأهلك الله مكذبيهم ونصرهم وَأَصْحَابُ الرَّسّ فيهم وجوه من المفسرين من قال هم قوم شعيب ومنهم من قال هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى وهم قوم عيسى عليه السلام ومنهم من قال هم أصحاب الأخدود والرس موضع نسبوا إليه أو فعل وهو حفر البئر يقال رس إذا حفر بئراً وقد تقدم في سورة الفرقان ذلك وقال ههنا إِخْوانَ لُوطٍ وقال قَوْمُ نُوحٍ لأن لوطاً كان مرسلاً إلى طائفة من قوم إبراهيم عليه السلام معارف لوط(28/138)
ونوح كان مرسلاً إلى خلق عظيم وقال فِرْعَوْنُ ولم يقل قوم فرعون وقال وَقَوْمُ تُّبَّعٍ لأن فرعون كان هو المغتر المستخف بقومه المستبد بأمره وتبع كان معتمداً بقومه فجعل الاعتبار لفرعون ولم يقل إلى قوم فرعون
وقوله تعالى كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
يحتمل وجهين أحدهما أن كل واحد كذب رسوله فهم كذبوا الرسل واللام حينئذ لتعريف العهد وثانيهما وهو الأصح هو أن كل واحد كذب جميع الرسل واللام حينئذ لتعريف الجنس وهو على وجهين أحدهما أن المكذب للرسول مكذب لكل رسول وثانيهما وهو الأصح أن المذكورين كانوا منكرين للرسالة والحشر بالكلية وقوله فَحَقَّ وَعِيدِ أي ما وعد الله من نصرة الرسل عليهم وإهلاكهم
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاٌّ وَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
وفيه وجهان أحدهما أنه استدلال بدلائل الأنفس لأنا ذكرنا مراراً أن الدلائل آفاقية ونفسية كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) ولما قرن الله تعالى دلائل الآفاق عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا ( الحجر 19 ) وفي غير ذلك ذكر الدليل النفسي وعلى هذا فيه لطائف لفظية ومعنوية
أما اللفظية فهي أنه تعالى في الدلائل الآفاقية عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا وقال وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً ( ق 9 ) ثم في الدليل النفسي ذكر حرف الاستفهام والفاء بعدها إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس وهذا من جنس فلم يجعل هذا تبعاً لذلك ومثل هذا مراعى في أواخر ي س حيث قال تعالى أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ ( ي س 77 ) ثم لم يعطف الدليل الآفاقي ههنا نقول والله أعلم ههنا وجد منهم الاستبعاد بقول ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) فاستدل بالأكبر وهو خلق السماوات ثم نزل كأنه قال لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز ذلك وفي سورة ي س لم يذكر استبعادهم فبدأ بالأدنى وارتقى إلى الأعلى
والوجه الثاني يحتمل أن يكون المراد بالخلق الأول هو خلق السماوات لأنه هو الخلق الأول وكأنه تعالى قال أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء ( ق 6 ) ثم قال أَفَعَيِينَا بهذا الخلق ويدل على هذا قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْى َ بِخَلْقِهِنَّ ( الأحقاف 33 ) ويؤيد هذا الوجه هو أن الله تعالى قال بعد هذه الآية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ( ق 16 ) فهو كالاستدلال بخلق الإنسان وهو معطوف بحرف الواو على ما تقدم من الخلق وهو بناء السماء ومد الأرض وتنزيل الماء وإنبات الجنّات وفي تعريف الخلق الأول وتنكير خلق جديد وجهان أحدهما ما عليه الأمران لأن الأول عرفه كل واحد وعلم لنفسه والخلق الجديد لم يعلم لنفسه ولم يعرفه كل أحد ولأن الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد والوجه الثاني أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه كأنهم قالوا أيكون لنا خلق ما على وجه الإنكار له بالكلية وقوله تعالى بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ تقديره ما عيينا بل هم في شك من خلق جديد يعني لا مانع من جهة الفاعل فيكون من جانب المفعول وهو الخلق الجديد لأنهم كانوا يقولون ذلك محال وامتناع وقوع المحال بالفاعل لا يوجب عجزاً فيه ويقال للمشكوك فيه ملتبس كما يقل لليقين إنه ظاهر(28/139)
وواضح ثم إن اللبس يسند إلى الأمر كم قلنا إنه يقال إن هذا أمر ظهر وهذا أمر ملتبس وههنا أسند الأمر إليهم حيث قال هُمْ فِى لَبْسٍ وذلك لأن الشيء يكون وراء حجاب والناظر إليه بصير فيختفي الأمر من جانب الرائي فقال ههنا بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ ومن في قوله مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ يفيد فائدة وهي ابتداء الغاية كأن اللبس كان حاصلاً لهم من ذلك
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
وقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فيه وجهان
أحدهما أن يكون ابتداء استدلال بخلق الإنسان وهذا على قولنا أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( ق 15 ) معناه خلق السماوات وثانيهما أن يكون تتميم بيان خلق الإنسان وعلى هذا قولنا الخلق الأول هو خلق الإنسان أول مرة ويحتمل أن يقال هو تنبيه على أمر يوجب عودهم عن مقالهم وبيانه أنه تعالى لما قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ كان ذلك إشارة إلى أنه لا يخفى عليه خافية ويعلم ذوات صدورهم
وقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
بيان لكمال علمه والوريد العرق الذي هو مجرى الدم يجري فيه ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن والله أقرب من ذلك بعلمه لأن العرق تحجبه أجزاء اللحم ويخفى عنه وعلم الله تعالى لا يحجب عنه شيء ويحتمل أن يقال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ بتفرد قدرتنا فيه يجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
إِذْ ظرف والعامل فيه ما في قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وفيه إشارة إلى أن المكلف غير متروك سدى وذلك لأن الملك إذا أقام كتاباً على أمر اتكل عليهم فإن كان له غفلة عنه فيكون في ذلك الوقت يتكل عليهم وإذا كان عند إقامة الكتاب لا يبعد عن ذلك الأمر ولا يغفل عنه فهو عند عدم ذلك أقرب إليه وأشد إقبالاً عليه فنقول الله في وقت أخذ الملكين منه فعله وقوله أقرب إليه من عرقه المخالط له فعندما يخفى عليهما شيء يكون حفظنا بحاله أكمل وأتم ويحتمل أن يقال التلقي من الاستقبال يقال فلان يتلقى الركب وعلى هذا الوجه فيكون معناه وقت ما يتلقاه المتلقيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد فالمتلقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور والحبور إلى يوم النشور والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الويل والثبور إلى يوم الحشر من القبور فقال تعالى وقت تلقيهما وسؤالهما إنه من أي القبيلين يكون عند الرجل قعيد عن اليمين(28/140)
وقعيد عن الشمال يعني الملكان ينزلان وعنده ملكان آخران كاتبان لأعماله يسألانهما من أي القيلين كان فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور ويرجع إلى الملك الآخر مسروراً حيث لم يكن مسروراً ممن يأخذها هو وإن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب ويرجع إلى الآخر محزوناً حيث لم يكن ممن يأخذها هو ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ق 21 ) فالشهيد هو القعيد والسائق هو المتلقي يتلقى أخذ روحه من ملك الموت فيسوقه إلى منزله وقت الإعادة وهذا أعرف الوجهين وأقربهما إلى الفهم وقول القائل جلست عن يمين فلان فيه إنباء عن تنح ما عنه احتراماً له واجتناباً منه وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) المخالط لأجزائه المداخل في أعضائه والملك متنح عنه فيكون علناً به أكمل من علم الكاتب لكن من أجلس عنده أحداً ليكتب أفعاله وأقواله ويكون الكاتب ناهضاً خبيراً والملك الذي أجلس الرقيب يكون جباراً عظيماً فنفسه أقرب إليه من الكاتب بكثير والقعيد هو الجليس كما أن قعد بمعنى جلس
وَجَاءَتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
أي شدته التي تذهب العقول وتذهل الفطن وقوله بِالْحَقّ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون المراد منه الموت فإنه حق كأن شدة الموت تحضر الموت والباء حينئذ للتعدية يقال جاء فلان بكذا أي أحضره وثانيهما أن يكون المراد من الحق ما أتى به من الدين لأنه حق وهو يظهر عند شدة الموت وما من أحد إلا وهو في تلك الحالة يظهر الإيمان لكنه لا يقبل إلا ممن سبق منه ذلك وآمن بالغيب ومعنى المجيء به هو أنه يظهره كما يقال الدين الذي جاء به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي أظهره ولما كانت شدة الموت مظهرة له قيل فيه جاء به والباء حينئذ يحتمل أن يكون المراد منها ملبسة يقال جئتك بأمل فسيح وقلب خاشع وقوله ذالِكَ يحتمل أن يكون إشارة إلى الموت ويحتمل أن يكون إشارة إلى الحق وحاد عن الطريق أي مال عنه والخطاب قيل مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو منكر وقيل مع الكافرين وهو أقرب والأقوى أن يقال هو خطاب عام مع السامع كأنه يقول ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ أيها السامع
وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ
عطف على قوله وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ ( ق 19 ) والمراد منه إما النفخة الأولى فيكون بياناً لما يكون عند مجيء سكرة الموت أو النفخة الثانية وهو أظهر لأن قوله تعالى ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ بالنفخة الثانية أليق ويكون قوله وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ إشارة إلى الإماتة وقوله وَنُفِخَ فِى الصُّورِ إشارة إلى الإعادة والإحياء وقوله تعالى ذالِكَ ذكر الزمخشري أنه إشارة إلى المصدر الذي من قوله وَنُفِخَ أي وقت ذلك النفخ يوم الوعيد وهو ضعيف لأن يوم لو كان منصوباً لكان ما ذكرنا ظاهراً وأما رفع يوم فيفيد أن ذلك نفس اليوم والمصدر لا يكون نفس الزمان وإنما يكون في الزمان فالأولى أن يقال ذلك إشارة إلى الزمان المفهوم من قوله(28/141)
وَنُفِخَ لأن الفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان فكأنه تعالى قال ذلك الزمان يوم الوعيد والوعيد هو الذي أوعد به من الحشر والإيتاء والمجازاة
وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ
قد بينا من قبل أن السائق هو الذي يسوقه إلى الموقف ومنه إلى مقعده والشهيد هو الكاتب والسائق لازم للبر والفاجر أما البر فيساق إلى الجنة وأما الفاجر فإلى النار وقال تعالى وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الزمر 71 ) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ ( الزمر 73 )
لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَة ٍ مِّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ
وقوله تعالى لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَة ٍ مّنْ هَاذَا إما على تقدير يقال له أو قيل له لَّقَدْ كُنتَ كما قال تعالى وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ( الزمر 73 ) وقال تعالى قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ ( الزمر 72 ) والخطاب عام أما الكافر فمعلوم الدخول في هذا الحكم وأما المؤمن فإنه يزداد علماً ويظهر له ما كان مخفياً عنه ويرى علمه يقيناً رأى المعتبر يقيناً فيكون بالنسبة إلى تلك الأحوال وشدة الأهوال كالغافل وفيه الوجهان اللذان ذكرناهما في قوله تعالى مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( ق 19 ) والغفلة شيء من الغطاء كاللبس وأكثر منه لأن الشاك يلتبس الأمر عليه والغافل يكون الأمر بالكلية محجوباً قلبه عنه وهو الغلف
وقوله تعالى فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ أي أزلنا عنك غفلتك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وكان من قبل كليلا وقرينك حديداً وكان في الدنيا خليلاً وإليه الإشارة بقوله تعالى
وَقَالَ قَرِينُهُ هَاذَا مَا لَدَى َّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ
وفي القرين وجهان أحدهما الشيطان الذي زين الكفر له والعصيان وهو الذي قال تعالى فيه وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء ( فصلت 25 ) وقال تعالى نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( الزخرف 36 ) وقال تعالى فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( الزخرف 38 ) فالإشارة بهذا المسوق إلى المرتكب الفجور والفسوق والعتيد معناه المعد للنار وجملة الآية معناها أن الشيطان يقول هذا العاصي شيء هو عندي معد لجهنم أعددته بالإغواء والإضلال والوجه الثاني وَقَالَ قَرِينُهُ أي القعيد الشهيد الذي سبق ذكره وهو الملك وهذا إشارة إلى كتاب أعماله وذلك لأن الشيطان في ذلك الوقت لا يكون له من المكانة أن يقول ذلك القول ولأن قوله هَاذَا مَا لَدَى َّ عَتِيدٌ فيكون عتيد صفته وثانيهما أن تكون موصولة فيكون عتيد محتملاً الثلاثة أوجه أحدها أن يكون خبراً بعد خبر والخبر الأول مَا لَدَى َّ معناه هذا الذي هو لدي وهو عتيد وثانيها أن يكون عتيد هو الخبر لا غير و مَا لَدَى َّ يقع كالوصف المميز للعتيد عن غيره كما تقول هذا الذي عند زيد وهذا الذي يجيئني عمرو فيكون الذي عندي والذي يجيئني لتمييز المشار إليه عن غيره(28/142)
ثم يخبر عنه بما بعده ثم يقال للسائق أو الشهيد أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ فيكون هو أمراً لواحد وفيه وجهان أحدهما أنه ثنى تكرار الأمر كما ألق ألق وثانيهما عادة العرب ذلك
وقوله كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ الكفار يحتمل أن يكون من الكفران فيكون بمعنى كثير الكفران ويحتمل أن يكون من الكفر فيكون بمعنى شديد الكفر والتشديد في لفظة فعال يدل على شدة في المعنى والعنيد فعيل بمعنى فاعل من عند عنوداً ومنه العناد فإن كان الكفار من الكفران فهو أنكر نعم الله مع كثرتها
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ
وقوله تعالى مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ
فيه وجهان أحدهما كثير المنع للمال الواجب وإن كان من الكفر فهو أنكر دلائل وحدانية الله مع قوتها وظهورها فكان شديد الكفر عنيداً حيث أنكر الأمر اللائح والحق الواضح وكان كثير الكفران لوجود الكفران منه عند كل نعمة عنيد ينكرها مع كثرتها عن المستحق الطالب والخير هو المال فيكون كقوله تعالى وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ ( فصلت 6 7 ) حيث بدأ ببيان الشرك وثنى بالامتناع من إيتاء الزكاة وعلى هذا ففيه مناسبة شديدة إذا جعلنا الكفار من الكفران كأنه يقول كفر أنعم الله تعالى ولم يؤد منها شيئاً لشكر أنعمه وثانيهما شديد المنع من الإيمان فهو مناع للخير وهو الإيمان الذي هو خير محض من أن يدخل في قلوب العباد وعلى هذا ففيه مناسبة شديدة إذا جعلنا الكفار من الكفر كأنه يقول كفر بالله ولم يقتنع بكفره حتى منع الخير من الغير
وقوله تعالى مُعْتَدٍ
فيه وجهان أحدهما أن يكون قوله مُعْتَدٍ مرتباً على مَّنَّاعٍ بمعنى مناع الزكاة فيكون معناه لم يؤد الواجب وتعدى ذلك حتى أخذ الحرام أيضاً بالربا والسرقة كما كان عادة المشركين وثانيهما أن يكون قوله مُعْتَدٍ مرتباً على مَّنَّاعٍ بمعنى منع الإيمان كأنه يقول منع الإيمان ولم يقنع به حتى تعداه وأهان من آمن وآذاه وأعان من كفر وآواه
وقوله تعالى مُرِيبٍ
فيه وجهان أحدهما ذو ريب وهذا على قولنا الكفار كثير الكفران والمناع مانع الزكاة كأنه يقول لا يعطي الزكاة لأنه في ريب من الآخرة والثواب فيقول لا أقرب مالاً من غير عوض وثانيهما مُرِيبٍ يوقع الغير في الريب بإلقاء الشبهة والإرابة جاءت بالمعنيين جميعاً وفي الآية ترتيب آخر غير ما ذكرناه وهو أن يقال هذا بيان أحوال الكفر بالنسبة إلى الله وإلى رسول الله وإلى اليوم الآخر فقوله كَفَّارٍ عَنِيدٍ إشارة إلى حاله مع الله يكفر بعد ويعاند آياته وقوله مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ إشارة إلى حاله مع رسول الله فيمنع الناس من اتباعه ومن الإنفاق على من عنده ويتعدى بالإيذاء وكثرة الهذاء وقوله مُرِيبٍ إشارة إلى حاله بالنسبة إلى اليوم الآخر يريب فيه ويرتاب ولا يظن أن الساعة قائمة فإن قيل قوله(28/143)
تعالى أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ إلى غير ذلك يوجب أن يكون الإلقاء خاصاً بمن اجتمع فيه هذه الصفات بأسرها والكفر كاف في إيراث الإلقاء في جهنم والأمر به فنقول قوله تعالى كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ليس المراد منه الوصف المميز كما يقال أعط العالم الزاهد بل المراد الوصف المبين بكون الموصوف موصوفاً به إما على سبيل المدح أو على سبيل الذم كما يقال هذا حاتم السخي فقوله كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ يفيد أن الكفار عنيد ومناع فالكفار كافر لأن آيات الوحدانية ظاهرة ونعم الله تعالى على عبده وافرة وعنيد ومناع للخير لأنه يمدح دينه ويذم دين الحق فهو يمنع ومريب لأنه شاك في الحشر فكل كافر فهو موصوف بهذه الصفات
الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ
فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه بدل من قوله كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ( ق 24 ) ثانيها أنه عطف على كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ثالثها أن يكون عطفاً على قوله أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كأنه قال أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ أي والذي جعل مع الله إلاهاً آخر فألقياه بعد ما ألقيتموه في جهنم في عذاب شديد من عذاب جهنم ثم قال تعالى
قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ
وهو جواب لكلام مقدر كأن الكافر حينما يلقى في النار يقول ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان ربنا ما أطغيته يدل عليه قوله تعالى بعد هذا قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ ( ق 28 ) لأن الاختصام يستدعي كلاماً من الجانبين وحينئذ هذا كما قال الله تعالى في هذه السورة وفي ص قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ ( ص 60 ) وقوله تعالى قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ إلى أن قال إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ( ص 61 64 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزمخشري المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد واستدل عليه بهذا وقال غيره المراد الملك لا الشيطان وهذا يصلح دليلاً لمن قال ذلك وبيانه هو أنه في الأول لو كان المراد الشيطان فيكون قوله هَاذَا مَا لَدَى َّ عَتِيدٌ ( ق 23 ) معناه هذا الشخص عندي عتيد متعد للنار اعتدته بإغوائي فإن الزمخشري صرّح في تفسير تلك بهذه وعلى هذا فيكون قوله رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ مناقضاً لقوله اعتدته وللزمخشري أن يقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن يقول إن الشيطان يقول اعتدته بمعنى زينت له الأمر وما ألجأته فيصح القولان من الشيطان وثانيهما أن تكون الإشارة إلى حالين ففي الحالة الأولى إنما فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام من بني آدم وتصحيحاً لما قال فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ص 82 ) ثم إذا رأى العذاب وأنه معه مشترك وله على الإغواء عذاب كما قال تعالى فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ ( ص 84 85 ) فيقول رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ فيرجع عن مقالته عند ظهور العذاب(28/144)
المسألة الثانية قال ههنا قَالَ قرِينُهُ من غير واو وقال في الآية الأولى وَقَالَ قَرِينُهُ ( ق 23 ) بالواو العاطفة وذلك لأن في الأول الإشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين وأن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق ويقول الشهيد ذلك القول وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو والفاء في قوله فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ ( ق 26 ) لا يناسب قوله تعالى قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ مناسبة مقتضية للعطف بالواو
المسألة الثالثة القائل ههنا واحد وقال رَبَّنَا ولم يقل رب وفي كثير من المواضع مع كون القائل واحداً قال رب كما في قوله قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( الأعراف 143 ) وقول نوح رَبّ اغْفِرْ لِى ( نوح 28 ) وقوله تعالى قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ ( يوسف 33 ) وقوله قَالَتْ رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّة ِ ( التحريم 11 ) إلى غير ذلك وقوله تعالى قَالَ رَبّ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( ص 79 ) نقول في جميع تلك المواضع القائل طالب ولا يحسن أن يقول الطالب يا رب عمرني واخصصني وأعطني كذا وإنما يقول أعطنا لأن كونه رباً لا يناسب تخصيص الطالب وأما هذا الموضع فموضع الهيبة والعظمة وعرض الحال دون الطلب فقال رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ
وقوله تعالى وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ
يعني أن ذلك لم يكن بإطغائه وإنما كان ضالاً متغلغلاً في الضلال فطغى وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الوجه في اتصاف الضلال بالبعيد نقول الضال يكون أكثر ضلالاً عن الطريق فإذا تمادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصد كثيراً وإذا علم الضلال قصر في الطريق من قريب فلا يبعد عن المقصد كثيراً فقوله ضَلَالٍ بَعِيدٍ وصف المصدر بما يوصف به الفاعل كما يقال كلام صادق وعيشة راضية أي ضلال ذو بعد والضلال إذا بعد مداه وامتد الضال فيه يصير بيناً ويظهر الضلال لأن من حاد عن الطريق وأبعد عنه تتغير عليه السمات والجهات ولا يرى عين المقصد ويتبين له أنه ضل عن الطريق وربما يقع في أودية ومفاوز ويظهر له أمارات الضلال بخلاف من حاد قليلاً فالضلال وصفه الله تعالى بالوصفين في كثير من المواضع فقال تارة في ضلال مبين وأخرى قال فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ
المسألة الثانية قوله تعالى وَلَاكِن كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ إشارة إلى قوله إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( الحجر 40 ) وقوله تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) أي لم يكونوا من العباد فجعلهم أهل العناد ولو كان لهم في سبيلك قدم صدق لما كان لي عليهم من يد والله أعلم
المسألة الثالثة كيف قال ما أطغيته مع أنه قال لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 39 ) قلنا الجواب عنه من ثلاثة أوجه وجهان قد تقدما في الاعتذار عما قاله الزمخشري والثالث هو أن يكون المراد من قوله لاَغْوِيَنَّهُمْ أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة فلا تتركها يقال أنه يضله كذلك ههنا وقوله مَا أَطْغَيْتُهُ أي ما كان ابتداء الإطغاء مني
قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ
ثم قال تعالى قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ(28/145)
قد ذكرنا أن هذا دليل على أن هناك كلاماً قبل قوله قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( ق 27 ) وهو قول الملقى في النار ربنا أطغاني وقوله لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ يفيد مفهومه أن الاختصام كان ينبغي أن يكون قبل الحضور والوقوف بين يدي
وقوله تعالى وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ
تقرير للمنع من الاختصام وبيان لعدم فائدته كأنه يقول قد قلت إنكم إذا اتبعتم الشيطان تدخلون النار وقد اتبعتموه فإن قيل ما حكم الباء في قوله تعالى بِالْوَعِيدِ قلنا فيها وجوه أحدها أنها مزيدة كما في قوله تعالى تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( المؤمنون 20 ) على قول من قال إنها هناك زائدة وقوله وَكَفَى بِاللَّهِ ( النساء 6 ) وثانيها معدية فقدمت بمعنى تقدمت كما في قوله تعالى عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ ( الحجرات 1 ) ثالثها في الكلام إضمار تقديره وقد قدمت إليكم مقترناً بالوعيد مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ ( ق 29 ) فيكون المقدم هو قوله ما يبدل القول لدي رابعها هي المصاحبة يقول القائل اشتريت الفرس بلجامه وسرجه أي معه فيكون كأنه تعالى قال قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد على تركه بالإنذار
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ
وقوله تعالى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ يحتمل وجهين
أحدهما أن يكون قوله لَدَى َّ متعلقاً بالقول أي مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وثانيهما أن يكون ذلك متعلقاً بقوله مَا يُبَدَّلُ أي لا يقع التبديل عندي وعلى الوجه الأول في القول الذي لديه وجوه أحدها هو أنهم لما قالوا حتى يبدل ما قيل في حقهم أَلْقِيَا ( ق 24 ) بقول الله بعد اعتذارهم لا تلقياه فقال تعالى ما يبدل هذا القول لدي وكذلك قوله وَقِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ ( الزمر 72 ) لا تبديل له ثانيها هو قوله وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ ( السجدة 13 ) أي لا تبديل لهذا القول ثالثها لا خلف في إيعاد الله تعالى كما لا إخلاف في ميعاد الله وهذا يرد على المرجئة حيث قالو ما ورد في القرآن من الوعيد فهو تخويف لا يحقق الله شيئاً منه وقالوا الكريم إذا وعد أنجز ووفى وإذا أوعد أخلف وعفا رابعها لا يبدل القول السابق أن هذا شقي وهذا سعيد حين خلقت العباد قلت هذا شقي ويعمل عمل الأشقياء وهذا تقي ويعمل عمل الأتقياء وذلك القول عندي لا تبديل له بسعي ساع ولا سعادة إلا بتوفيق الله تعالى وأما على الوجه الثاني ففي مَا يُبَدَّلُ وجوه أيضاً أحدها لا يكذب لدي ولا يفتري بين يدي فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى ومن كان طاغياً ومن كان أطغى فلا يفيدكم قولكم أطغاني شيطاني ولا قول الشيطان رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ( ق 27 ) ثانيها إشارة إلى معنى قوله تعالى ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً ( الحديد 13 ) كأنه تعالى قال لو أردتم أن لا أقول فألقياه في العذاب الشديد كنتم بدلتم هذا من قبل بتبديل الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي وأما الآن فما يبدل القول لدي كما قلنا في قوله تعالى قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ ( ق 28 ) المراد أن اختصامكم كان يجب أن يكون قبل هذا حيث قلت إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ( فاطر 6 ) ثالثها معناه لا يبدل الكفر بالإيمان لدي فإن الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم ربنا وإلاهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله ربنا ما أشركنا وقوله ربنا آمنا وقوله تعالى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ إشارة إلى نفي الحال كأنه تعالى يقول ما يبدل اليوم لدي القول لأن ما ينفي بها الحال إذا دخلت على الفعل المضارع يقول القائل ماذا تفعل غداً(28/146)
يقال ما أفعل شيئاً أي في الحال وإذا قال القائل ماذا يفعل غداً يقال لا يفعل شيئاً أو لن يفعل شيئاً إذا أُريد زيادة بيان النفي فإن قيل هل فيه بيان معنوي يفيد افتراق ما ولا في المعنى نقول نعم وذلك لأن كلمة لا أدل على النفي لكونها موضوعة للنفي وما في معناه كالنهي خاصة لا يفيد الإثبات إلا بطريق الحذف أو الإضمار وبالجملة فبطريق المجاز كما في قوله لاَ أُقْسِمُ ( البلد 1 ) وأما ما فغير متمحضة للنفي لأنها واردة لغيره من المعاني حيث تكون اسماً والنفي في الحال لا يفيد النفي المطلق لجواز أن يكون مع النفي في الحال الإثبات في الاستقبال كما يقال ما يفعل الآن شيئاً وسيفعل إن شاء الله فاختص بما لم يتمحض نفياً حيث لم تكن متمحضة للنفي لا يقال إن لا للنفي في الاستقبال والإثبات في الحال فاكتفى في استقبال بما لم يتمحض نفياً لأنا نقول ليس كذلك إذ لا يجوز أن يقال لا يفعل زيد ويفعل الآن نعم يجوز أن يقال لا يفعل غداً ويفعل الآن لكون قولك غداً يجعل الزمان مميزاً فلم يكن قولك لا يفعل للنفي في الاستقبال بل كان للنفي في بعض أزمنة الاستقبال وفي مثالنا قلنا ما يفعل وسيفعل وما قلنا سيفعل غداً وبعد غد بل ههنا نفينا في الحال وأثبتنا في الاستقبال من غير تمييز زمان من أزمة الاستقبال عن زمان ومثاله في العكس أن يقال لا يفعل زيد وهو يفعل من غير تعيين وتمييز ومعلوم أن ذلك غير جائز
وقوله تعالى وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ مناسب لما تقدم على الوجهين جميعاً أما إذا قلنا بأن المراد من قوله لَدَى َّ أن قوله فَأَلْقِيَاهُ ( ق 26 ) وقول القائل في قوله قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ ( الزمر 72 ) لا تبديل له فظاهر لأن الله تعالى بيّن أن قوله أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ ( ق 24 ) لا يكون إلا للكافر العنيد فلا يكون هو ظلاماً للعبيد وأما إذا قلنا بأن المراد مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ بل كان الواجب التبديل قبل الوقوف بين يدي فكذلك لأنه أنذر من قبل وما عذب إلا بعد أن أرسل وبيّن السبل وفيه مباحث لفظية ومعنوية
أما اللفظية فهي من الباء من قوله ليس بِظَلَّامٍ وفي اللام من قوله لّلْعَبِيدِ أما الباء فنقول الباء تدخل في المفعول به حيث لا يكون تعلق الفعل به ظاهراً ولا يجوز إدخالها فيه حيث يكون في غاية الظهور ويجوز الإدخال والترك حيث لا يكون في غاية الظهور ولا في غاية الخفاء فلا يقال ضربت بزيد لظهور تعلق الفعل يزيد ولا يقال خرجت وذهبت زيداً بدل قولنا خرجت وذهبت بزيد لخفاه تعلق الفعل بزيد فيهما ويقال شكرته وشكرت له للتوسط فكذلك خبر ما لما كان مشبهاً بالمفعول وليس في كونه فعلاً غير ظاهر غاية الظهور لأن إلحاق الضمائر التي تلحق بالأفعال الماضية كالتاء والنون في قولك لست ولستم ولستن ولسنا يصحح كونها فعلاً كما في قولك كنت وكنا لكن في الاستقبال يبين الفرق حيث نقول يكون وتكون وكن ولا نقول ذلك في ليس وما يشبه بها فصارتا كالفعل الذي لا يظهر تعلقه بالمفعول غاية الظهور فجاز أن يقال ليس زيد جاهلاً وليس زيد بجاهل كما يقال مسحته ومسحت به وغير ذلك مما يعدى بنفسه وبالباء ولم يجز أن يقال كان زيد بخارج وصار عمرو بدارج لأن صار وكان فعل ظاهر غاية الظهور بخلاف ليس وما النافية وهذا يؤيد قول من قال ( ما هذا بشر ) وهذا ظاهر
البحث الثاني لو قال قائل كان ينبغي أن لا يجوز إخلاء خبر ما عن الباء كما لا يجوز إدخال الباء في خبر كان وخبر ليس يجوز فيه الأمران وتقرير هذا السؤال هو أن كان لما كان فعلاً ظاهراً جعلناه بمنزلة ضرب حيث منعنا دخول الباء في خبره كما منعناه في مفعوله وليس لما كان فعلاً من وجه نظراً إلى قولنا لست ولسنا(28/147)
ولستم ولم يكن فعلاً ظاهراً نظراً إلى صيغ الاستقبال والأمر جعلناه متوسطاً وجوزنا إدخال الباء في خبره وتركه كما قلنا في مفعول شكرته وشكرت له وما لما لم يكن فعلاً بوجه كان ينبغي أن يكون بمنزلة الفعل الذي لا يتعدى إلى المفعول إلا بالحرف وكان ينبغي أن لا يجيء خبره إلا مع الباء كما لا يجيء مفعول ذهب إلا مع الباء ويؤيد هذا أنا فرقنا بين ما وليس وكان وجعلنا لكل واحدة مرتبة ليست للأخرى فجوزنا تأخير كان في اللفظ حيث جوزنا أن يقول القائل زيد خارجاً كان وما جوزنا زيد خارجاً ليس لأن كان فعل ظاهر وليس دونه في الظهور وما جوزنا تأخير ما عن أحد شطري الكلام أيضاً بخلاف ليس حيث لا يجوز أن يقول القائل زيد ما بظلام إلا أن يعيد ما يرجع إليه فيقول زيد ما هو بظلام فصار بينهما ترتيب ما يوجه وليس يؤخر عن أحد الشطرين ولا يؤخر في الكلام بالكلية وكان يؤخر بالكلية لما ذكرنا من الظهور والخفاء فكذلك القول في إلحاق الباء كان ينبغي أن لا يصح إخلاء خبر ما عن الباء وفي ليس يجوز الأمران وفي كان لا يجوز الإدخال وهذا هو المعتمد عليه في لغة بني تميم حيث قالوا إن ما بعد ما إذا جعل خبراً يجب إدخال الباء عليه فإن لم تدخل عليه يكون ذلك معرباً على الابتداء أو على وجه آخر ولا يكون خبراً والجواب عن السؤال هو أن نقول الأكثر إدخال الباء في خبر ما ولا سيما في القرآن قال الله تعالى وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ( الروم 53 ) وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ ( فاطر 22 ) وَمَا هُم بِخَارِجِينَ ( البقرة 167 ) وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ وأما الوجوب فلا لأن ما أشبه ليس في المعنى في الحقيقة وخالفها في العوارض وهو لحوق التاء والنون وأما في المعنى فهما لنفي الحال فالشبه مقتض لجواز الإخلاء والمخالفة مقتضية لوجوب الإدخال لكن ذلك المقتضي أقوى لأنه راجع إلى الأمر الحقيقي وهذا راجع إلى الأمر العارضي وما بالنفس أقوى مما بالعارض وأما التقديم والتأخير فلا يلزم منه وجوب إدخال الباء وأما الكلام في اللام فنقول اللام لتحقيق معنى الإضافة يقال غلام زيد وغلام لزيد وهذا في الإضافات الحقيقية بإثبات التنوين فيه وأما في الإضافات اللفظية كقولنا ضارب زيد وقاتل عمرو فإن الإضافة فيه غير معنوية فإذا خرج الضارب عن كونه مضافاً بإثبات التنوين فقد كان يجب أن يعاد الأصل وينصب ما كان مضافاً إليه الفاعل بالمفعول به ولا يؤتى باللام لأنه حينئذ لم تبق الإضافة في اللفظ ولم تكن الإضافة في المعنى غير أن اسم الفاعل منحط الدرجة عن الفعل فصار تعلقه بالمفعول أضعف من تعلق الفعل بالمفعول وصار من باب الأفعال الضعيفة التعلق حيث بينا جواز تعديتها إلى المفعول بحرف وغير حرف فلذلك جاز أن يقال ضارب زيد أو ضارب لزيد كما جاز مسحته ومسحت به وشكرته وشكرت له وذلك إذا تقدم المفعول كما في قوله تعالى إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ( يوسف 43 ) للضعف وأما المعنوية فمباحث
الأول الظلام مبالغة في الظالم ويلزم من إثباته إثبات أصل الظلم إذا قال القائل هو كذاب يلزم أن يكون كاذباً كثر كذبه ولا يلزم من نفيه نفي أصل الكذب لجواز أن يقال فلان ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً ففي قوله تعالى وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لا يفهم منه نفي أصل الظلم والله ليس بظالم فما الوجه فيه نقول الجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أن الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر وحينئذ يكون اللام في قوله لّلْعَبِيدِ لتحقيق النسبة لأن الفعال حينئذ بمعنى ذي ظلم وهذا وجه جيد مستفاد من الإمام زين الدين أدام الله فوائده والثاني ما ذكره الزمخشري وهو أن ذلك أمر تقديري كأنه تعالى يقول لو ظلمت عبدي(28/148)
الضعيف الذي هو محل الرحمة لكان ذلك غاية الظلم وأما أنا بذلك فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث يقول مَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ أي في ذلك اليوم الذي امتلأت جهنم مع سعتها حتى تصيح وتقول لم يبق لي طاقة بهم ولم يبق في موضع لهم فهل من مزيد استفهام استكثار فذلك اليوم مع أني ألقي فيها عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثير الظلم وهذا مناسب وذلك لأنه تعالى خصص النفي بالزمان حيث قال ما أنا بظلام يوم نقول أي وما أنا بظلام في جميع الأزمان أيضاً وخصص بالعبيد حيث قال وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ولم يطلق فكذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق فلم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت وفي حق غير العبيد وإن خصص والفائدة في التخصيص أنه أقرب إلى التصديق من التعميم والثالث هذا يدل على أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه لأنه نفى كونه ظلاماً ولم يلزم منه نفي كونه ظالماً ونفي كونه ظلاماً للعبيد ولم يلزم منه نفي كونه ظلاماً لغيرهم كما قال في حق الآدمي فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 )
البحث الثاني قال ههنا وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ من غير إضافة وقال مَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ ( النمل 81 ) وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ ( فاطر 22 ) على وجه الإضافة فما الفرق بينهما نقول الكلام قد يخرج أولاً مخرج العموم ثم يخصص لأمر ما لا لغرض التخصيص يقول القائل فلان يعطي ويمنع ويكون غرضه التعميم فإن سأل سائل يعطي من ويمنع من يقول زيداً وعمراً ويأتي بالمخصص لا لغرض التخصيص وقد يخرج أولاً مخرج الخصوص فيقول فلان يعطي زيداً ماله إذا علمت هذا فقوله وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ كلام لو اقتصر عليه لكان للعموم فأتى بلفظ العبيد لا لكون عدم الظلم مختصاً بهم بل لكونهم أقرب إلى كونهم محل الظلم من نفسه تعالى وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكان في نفسه هادياً وإنما أراد نفي ذلك الخاص فقال وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ وما قال ما أنت بهاد وكذلك قوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ( الزمر 36 )
البحث الثالث العبيد يحتمل أن يكون المراد منه الكفار كما في قوله تعالى خَامِدُونَ ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ ( ي س 30 ) يعني أعذبهم وما أنا بظلام لهم ويحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين ووجهه هو أن الله تعالى يقول لو أبدلت القول ورحمت الكافر لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين لأني منعتهم من الشهوات لأجل هذا اليوم فإن كان ينال من لم يأت بما أتى المؤمن ما يناله المؤمن لكان إتيانه بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد فائدة وهذا معنى قوله تعالى لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمُ الْفَائِزُونَ ( الحشر 20 ) ومعنى قوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 ) وقوله تعالى لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ ( النساء 95 ) ويحتمل أن يكون المراد التعميم ثم قال تعالى
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاّتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
العامل في يَوْمٍ ماذا فيه وجوه الأول ما أنا بظلام مطلقاً والثاني الوقت حيث قال ما أنا يوم(28/149)
كذا ولم يقل ما أن بظلام في سائر الأزمان وقد تقدم بيانه فإن قيل فما فائدة التخصيص نقول النفي الخاص أقرب إلى التصديق من النفي العام لأن المتوهم ذلك فإن قاصر النظر يقول يوم يدخل الله عبده الضعيف جهنم يكون ظالماً له ولا يقول بأنه يوم خلقه يرزقه ويربيه يكون ظالماً ويتوهم أنه يظلم عبده بإدخاله النار ولا يتوهم أنه يظلم نفسه أو غير عبيده المذكورين ويتوهم أنه من يدخل خلقاً كثيراً لا يجوزه حد ولا يدركه عد النار ويتركهم فيه زماناً لا نهاية له كثير الظلم فنفى ما يتوهم دون ما لا يتوهم وقوله هَلِ امْتَلاَتِ بيان لتصديق قوله تعالى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ وقوله هَلْ مِن مَّزِيدٍ فيه وجهان أحدهما أنه لبيان استكثارها الداخلين كما أن من يضرب غيره ضرباً مبرحاً أو يشتمه شتماً قبيحاً فاحشاً ويقول المضروب هل بقي شيء آخرا ويدل عليه قوله تعالى لاَمْلاَنَّ لأن الامتلاء لا بد من أن يحصل فلا يبقى في جهنم موضع خال حتى تطلب المزيد والثاني هو أنها تطلب الزيادة وحينئذ لو قال قائل فكيف يفهم مع هذا معنى قوله تعالى لاَمْلاَنَّ نقول الجواب عنه من وجوه أحدها أن هذا الكلام ربما يقع قبل إدخال الكل وفيه لطيفة وهي أن جهنم تتغيظ على الكفار فتطلبهم ثم يبقى فيها موضع لعصاة المؤمنين فتطلب جهنم امتلاءها لظنها بقاء أحد من الكفار خارجاً فيدخل العاصي من المؤمنين فيبرد إيمانه حرارتها ويسكن إيقانه غيظها فتسكن وعلى هذا يحمل ما ورد في بعض الأخبار أن جهنم تطلب الزيادة حتى يضع الجبار قدمه والمؤمن جبار متكبر على ما سوى الله تعالى ذليل متواضع لله الثاني أن تكون جهنم تطلب أولاً سعة في نفسها ثم مزيداً في الداخلين لظنها بقاء أحد من الكفار الثالث أن الملء له درجات فإن الكيل إذا ملىء من غير كبس صح أن يقال ملىء وامتلأ فإذا كبس يسع غيره ولا ينافي كونه ملآن أو لا فكذلك في جهنم ملأها الله ثم تطلب زيادة تضييقاً للمكان عليهم وزيادة في التعذيب والمزيد جار أن يكون بمعنى المفعول أي هل بقي أحد تزيد به ثم قال تعالى
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
بمعنى قريباً أو بمعنى قريب والأول أظهر وفيه مسائل
المسألة الأولى ما وجه التقريب مع أن الجنة مكان والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب نقول الجواب عنه من وجوه الأول أن الجنة لا تزال ولا تنقل ولا المؤمن يؤمر في ذلك اليوم بالانتقال إليها مع بعدها لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب فإن قيل فعلى هذا ليس إزلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزلاف المؤمن من الجنة فما الفائدة في قوله أزلفت الجنة نقول إكراماً للمؤمن كأنه تعالى أراد بيان شرف المؤمن المتقي أنه ممن يمشي إليه ويدني منه الثاني قربت من الحصول في الدخول لا بمعنى القرب المكاني يقال يطلب من الملك أمراً خطيراً والملك بعيد عن ذلك ثم إذا رأى منه مخايل إنجاز حاجته يقال قرب الملك وما زلت أنهي إليه حالك حتى قربته فكذلك الجنة كانت بعيدة الحصول لأنها بما فيها لا قيمة لها ولا قدرة للمكلف على تحصيلها لولا فضل الله تعالى كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من أحد يدخل الجنة إلا بفضل الله تعالى فقيل ولا أنت يا رسول الله فقال ولا أنا )(28/150)
وعلى هذا فقوله غير نصب على الحال تقديره قربت من الحصول ولم تكن بعيدة في المسافة حتى يقال كيف قربت الثالث هو أن الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن وأما إن قلنا إنها قربت فمعناه جمعت محاسنها كما قال تعالى وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ ( الزخرف 71 )
المسألة الثانية على هذا الوجه وعلى قولنا قربت تقريب حصول ودخول فهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون قوله تعالى وَأُزْلِفَتِ أي في ذلك اليوم ولم يكن قبل ذلك وأما في جمع المحاسن قربما يزيد الله فيها زينة وقت الدخول وأما في الحصول فلأن الدخول قبل ذلك كان مستبعداً إذا لم يقدر الله دخول المؤمنين الجنة في الدنيا ووعد به في الآخرة فقربت في ذلك اليوم وثانيهما أن يكون معنى قوله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ أي أزلفت في الدنيا إما بمعنى جمع المحاسن فلأنها مخلوقة وخلق فيها كل شيء وإما بمعنى تقريب الحصول فلأنها تحصل بكلمة حسنة وإما على تفسير الإزلاف بالتقريب المكاني فلا يكون ذلك محمولاً إلا على ذلك الوقت أي أزلفت في ذلك اليوم للمتقين
المسألة الثانية إن حمل على القرب المكاني فما الفائدة في الاختصاص بالمتقين مع أن المؤمن والكافر في عرصة واحدة فنقول قد يكون شخصان في مكان واحد وهناك مكان آخر هو إلى أحدهما في غاية القرب وعن الآخر في غاية البعد مثاله مقطوع الرجلين والسليم الشديد العدو إذا اجتمعا في موضع وبحضرتهما شيء لا تصل إليه اليد بالمد فذلك بعيد عن المقطوع وهو في غاية القرب من العادي أو نقول إذا اجتمع شخصان في مكان وأحدهما أحيط به سد من حديد ووضع بقربه شيء لا تناله يده بالمد والآخر لم يحط به ذلك السد يصح أن يقال هو بعيد عن المسدود وقريب من المحظوظ والمجدود وقوله تعالى غَيْرَ بَعِيدٍ يحتمل أن يكون نصباً على الظرف يقال اجلس غير بعيد مني أي مكاناً غير بعيد وعلى هذا فقوله غير بعيد يفيد التأكيد وذلك لأن القريب قد يكون بعيداً بالنسبة إلى شيء فإن المكان الذي هو على مسيرة يوم قريب بالنسبة إلى البلاد النائية وبعيد بالنسبة إلى متنزهات المدينة فإذا قال قائل أيما أقرب المسجد الأقصى أو البلد الذي هو بأقصى المغرب أو المشرق يقال له المسجد الأقصى قريب وإن قال أيهما أقرب هو أو البلد يقل له هو بعيد فقوله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ غَيْرَ بَعِيدٍ أي قربت قرباً حقيقياً لا نسبياً حيث لا يقال فيها إنها بعيدة عنه مقايسة أو مناسبة ويحتمل أن يكون نصباً على الحال تقديره قربت حال كون ذلك غاية التقريب أو نقول على هذا الوجه يكون معنى أزلفت قربت وهي غير بعيد فيحصل المعنيان جميعاً الإقراب والاقتراب أو يكون المراد القرب والحصول لا للمكان فيحصل معنيان القرب المكاني بقوله غير بعيد والحصول بقوله أُزْلِفَتْ وقوله غَيْرَ بَعِيدٍ مع قوله أُزْلِفَتْ على التأنيث يحتمل وجوهاً الأول إذا قلنا إن غَيْرِ نصب على المصدر تقديره مكاناً غير الثاني التذكير فيه كما في قوله تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 56 ) إجراء لفعيل بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول الثالث أن يقال غَيْرِ منصوب نصباً على المصدر على أنه صفة مصدر محذوف تقديره أزلفت الجنة إزلافاً غير بعيد أي عن قدرتنا فإنا قد ذكرنا أن الجنة مكان والمكان لا يقرب وإنما يقرب منه فقال الإزلاف غير بعيد عن قدرتنا فإنا نطوي المسافة بينهما
هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ(28/151)
ثم قال تعالى هَاذَا مَا تُوعَدُونَ قال الزمخشري هي جملة معترضة بين كلامين وذلك لأن قوله تعالى لِكُلّ أَوَّابٍ بدل عن المتقين كأنه تعالى قال ( أزلفت الجنة للمتقين لكل أواب ) كما في قوله تعالى لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ ( الزخرف 33 ) غير أن ذلك بدل الاشتمال وهذا بدل الكل وقال هَاذَا إشارة إلى الثواب أي هذا الثواب ما توعدون أو إلى الإزلاف المدلول عليه بقوله أُزْلِفَتْ ( ق 31 ) أي هذا الإزلاف ما وعدتم به ويحتمل أن يقال هو كلام مستقل ووجهه أن ذلك محمول على المعنى لا ما يوعد به يقال للموعود هذا لك وكأنه تعالى قال هذا ما قلت إنه لكم
ثم قال تعالى لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ بدلاً عن الضمير في تُوعَدُونَ وكذلك إن قرىء بالياء يكون تقديره هذا لكل أواب بدلاً عن الضمير والأواب الرجاع قيل هو الذي يرجع من الذنوب ويستغفر والحفيظ الحافظ للذي يحفظ توبته من النقض ويحتمل أن يقال الأواب هو الرجاع إلى الله بفكره والحفيظ الذي يحفظ الله في ذكره أي رجع إليه بالفكر فيرى كل شيء واقعاً به وموجداً منه ثم إذا انتهى إليه حفظه بحيث لا ينساه عند الرخاء والنعماء والأواب الحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثير الأوب شديد الحفظ وفيه وجوه أخر أدق وهو أن الأواب هو الذي رجع عن متابعة هواه في الإقبال على ما سواه والحفيظ هو الذي إذا أدركه بأشرف قواه لا يتركه فيكمل بها تقواه ويكون هذا تفسيراً للمتقي لأن المتقي هو الذي أتقى الشرك والتعطيل ولم ينكره ولم يعترف بغيره والأواب هو الذي لا يعترف بغيره ويرجع عن كل شيء غير الله تعالى والحفيظ هو الذي لم يرجع عنه إلى شيء مما عداه ثم قال تعالى
مَّنْ خَشِى الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
وفي مِنْ وجوه أحدها وهو أغربها أنه منادى كأنه تعالى قال يا من خشيء الرحمن أدخلوها بسلام وحذف حرف النداء شائع وثانيها مِنْ بدل عن كل في قوله تعالى لِكُلّ أَوَّابٍ ( ق 32 ) من غير إعادة حرف الجر تقديره أزلفت الجنة لمن خشي الرحمن بالغيب ثالثها في قوله تعالى أَوَّابٍ حَفِيظٍ ( ق 32 ) موصوف معلوم غير مذكور كأنه يقول لكل شخص أواب أو عبد أو غير ذلك فقوله تعالى مَّنْ خَشِى َ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ بدل عن ذلك الموصوف هذه وجوه ثلاثة ذكرها الزمخشري وقال لا يجوز أن يكون بدلاً عن أواب أو حفيظ لأن أواب وحفيظ قد وصف به موصوف معلوم غير مذكور كما بيناه والبدل في حكم المبدل منه فتكون مِنْ موصوفاً بها ومن لا يوصف بها لا يقال الرجل من جاءني جالسني كم يقال الرجل الذي جاءني جالسني هذا تمام كلام الزمخشري فإن قال قائل إذا كان مِنْ والذي يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما نقول الأمر معقول نبينه في ما ومنه يتبين الأمر فيه فنقول ما اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء لكن الشيء هو أعم الأشياء فإن الجوهر شيء والعرض شيء والواجب شيء والممكن شيء والأعم قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت من البعد شبحاً تقول أولاً إنه شيء ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول إنسان فإذا بان ذلك أنه ذكر قلت هو رجل فإذا وجدته ذا قوة تقول شجاع إلى غير ذلك فالأعم أعرف وهو قبل الأخص في الفهم فمفهوم ما قبل كل شيء فلا يجوز أن يكون صفة لأن الصفة بعد الموصوف هذا من حيث(28/152)
المعقول وأما من حيث النحو فلأن الحقائق لا يوصف بها فلا يقال جسم رجل جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني لأن الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها وكل ما يقع وصفاً للغير يكون معناه شيء له كذا فقولنا عالم معناه شيء له علم أو عالمية فيدخل في مفهوم الوصف شيء مع أمر آخر وهو له كذا لكن ما لمجرد شيء فلا يوجد فيه ما يتم به الوصف وهو الأمر الآخر الذي معناه ذو كذا فلم يجز أن يكون صفة وإذا بان القول فمن في العقلاء كما في غيرهم وفيهم فمن معناه إنسان أو ملك أو غيرهما من الحقائق العاقلة والحقائق لا تقع صفات وأما الذي يقع على الحقائق والأوصاف ويدخل في مفهومه تعريف أكثر مما يدخل في مجاز الوصف بما دون من
وفي الآية لطائف معنوية الأول الخشية والخوف معناهما واحد عند أهل اللغة لكن بينهما فرق وهو أن الخشية من عظمة المخشي وذلك لأن تركيب حرف خ ش ي في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة يقال شيخ للسيد والرجل الكبير السن وهم جميعاً مهيبان والخوف خشية من ضعف الخاشي وذلك لأن تركيب خ و ف في تقاليبها يدل على الضعف تدل عليه الخيفة والخفية ولولا قرب معناهما لما ورد في القرآن تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأنعام 63 ) و تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 205 ) والمخفي فيه ضعف كالخائف إذا علمت هذا تبين لك اللطيفة وهي أن الله تعالى في كثير من المواضع ذكر لفظ الخشية حيث كان الخوف من عظمة المخشي قال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) وقال لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( الحشر 21 ) فإن الجبل ليس فيه ضعف يكون الخوف من ضعفه وإنما الله عظيم يخشاه كل قوي هُم مّنْ خَشْية ِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ ( المؤمنون 57 ) مع أن الملائكة أقوياء وقال تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ( الأحزاب 33 ) أي تخافهم إعظاماً لهم إذ لا ضعف فيك بالنسبة إليهم وقال تعالى لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ ( العنكبوت 33 ) أي لا تخف ضعفاً فإنهم لا عظمة لهم وقال يَخَافُونَ يَوْماً ( الإنسان 7 ) حيث كان عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله ضعيفة وقال أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ( فصلت 30 ) أي بسبب مروه يلحقكم من الآخرة فإن المكروهات كلها مدفوعة عنكم وقال تعالى خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ( القصص 21 ) وقال إِنّى أَخَافُ إِنْ يَقْتُلُونَ ( القصص 33 ) لوحدته وضعفه وقال هارون إِنّى خَشِيتُ ( طه 94 ) لعظمة موسى في عين هارون لا لضعف فيه وقال فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ( الكهف 80 ) حيث لم يكن لضعف فيه وحاصل الكلام أنك إذا تأملت استعمال الخشية وجدتها مستعملة لخوف بسبب عظمة المخشي وإذا نظرت إلى استعمال الخوف وجدته مستعملاً لخشية من ضعف الخائف وهذا في الأكثر وربما يتخلف المدعى عنه لكن الكثرة كافية الثانية قال الله تعالى ههنا خَشِى َ الرَّحْمَنَ مَّعَ ءانٍ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمُ الْفَائِزُونَ لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( الحشر 21 ) إشارة إلى ذم الكافر حيث لم تحمله الألوهية التي تنبىء عنها لفظة الله وفيها العظمة على خوفه وقال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) لأن إِنَّمَا للحصر فكان فيه إشارة إلى أن الجاهل لا يخشاه فذكر الله ليبين أن عدم خشيته مع قيام المقتضى وعدم المانع وهو الرحمة وقد ذكرنا ذلك في سورة يس ونزيد ههنا شيئاً آخر وهو أن نقول لفظة الرَّحْمَنُ إشارة إلى مقتضى لا إلى المانع وذلك لأن الرحمن معناه واهب الوجود بالخلق والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو في الدنيا رحمان حيث أوجدنا بالرحمة ورحيم حيث أبقى بالرزق ولا يقال لغيره رحيم لأن(28/153)
البقاء بالرزق قد يظن أن مثل ذلك يأتي ممن يطعم المضطر فيقال فلان هو الذي أبقى فلاناً وهو في الآخرة أيضاً رحمان حيث يوجدنا ورحيم حيث يرزقنا وذكرنا ذلك في تفسير الفاتحة حيث قلنا قال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إشارة إلى كونه رحماناً في الدنيا حيث خلقنا رحيماً في الدنيا حيث رزقنا رحمة ثم قال مرة أخرى بعد قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أي هو رحمان مرة أخرى في الآخرة بخلقنا ثانياً واستدللنا عليه بقوله بعد ذلك مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 ) أي يخلقنا ثانياً ورحيم يرزقنا ويكون هو المالك في ذلك اليوم إذا علمت هذا فمن يكون منه وجود الإنسان لا يكون خوفه خشية من غيره فإن القائل يقول لغيره أخاف منك أن تقطع رزقي أو تبدل حياتي فإذا كان الله تعالى رحماناً منه الوجود ينبغي أن يخشى فإن من بيده الوجود بيده العدم وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خشية الله رأس كل حكمة ) وذلك لأن الحكيم إذا تفكر في غير الله وجده محل التغير يجوز عليه العدم في كل طرفة عين وربما يقدر الله عدمه قبل أن يتمكن من الإضرار لأن غير الله إن لم يقدر الله أن يضر لا يقدر على الضرر وإن قدر عليه بتقدير الله فسيزول الضرر بموت المعذب أو المعذب وأما الله تعالى فلا راد لما أراد ولا آخر لعذابه وقال تعالى بِالْغَيْبِ أي كانت خشيتهم قبل ظهور الأمور حيث ترى رأي العين وقوله تعالى وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ إشارة إلى صفة مدح أخرى وذلك لأن الخاشي قد يهرب ويترك القرب من المخشي ولا ينتفع وإذا علم المخشي أنه تحت حكمه تعالى علم أنه لا ينفعه الهرب فيأتي المخشي وهو ( غير ) خاش فقال وَجَاء ولم يذهب كما يذهب الآبق وقوله تعالى بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ الباء فيه يحتمل وجوهاً ذكرناها في قوله تعالى وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ( ق 19 ) أحدها التعدية أي أحضر قلباً سليماً كما يقال ذهب به إذا أذهبه ثانيها المصاحبة يقال اشترى فلان الفرس بسرجه أي مع سرجه وجاء فلان بأهله أي مع أهله ثالثها وهو أعرفها الباء للسبب يقال ما أخذ فلان إلا بقول فلان وجاء بالرجاء له فكأنه تعالى قال جاء وما جاء إلا بسبب إنابة في قلبه علم أنه لا مرجع إلا إلى الله فجاء بسبب قلبه المنيب والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى إِذَا جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الصافات 84 ) أي سليم من الشرك ومن سلم من الشرك يترك غير الله ويرجع إلى الله فكان منيباً ومن أناب إلى الله برىء من الشرك فكان سليماً
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ
ثم قال تعالى ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ
فالضمير عائد إلى الجنة التي في وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ ( ق 31 ) أي لما تكامل حسنها وقربها وقيل لهم إنها منزلكم بقوله هَاذَا مَا تُوعَدُونَ ( ق 32 ) أذن لهم في دخولها وفيه مسائل
المسألة الأولى الخطاب مع من نقول إن قرىء مَّا تُوعَدُونَ بالتاء فهو ظاهر إذ لا يخفى أن الخطاب مع الموعودين وإن قرىء بالياء فالخطاب مع المتقين أي يقال للمتقين أدخلوها
المسألة الثانية هذا يدل على أن ذلك يتوقف على الإذن وفيه من الانتظار ما لا يليق بالإكرام نقول ليس كذلك فإن من دعا مكرماً إلى بستانه يفتح له الباب ويجلس في موضعه ولا يقف على الباب من(28/154)
يرحبه ويقول إذا بلغت بستاني فادخله وإن لم يكن هناك أحد يكون قد أخل بإكرامه بخلاف من يقف على باب قوم يقولون أدخل باسم الله يدل على الإكرام قوله تعالى بِسَلامٍ كما يقول المضيف أدخل مصاحباً بالسلامة والسعادة والكرامة والباء للمصاحبة في معنى الحال أي سالمين مقرونين بالسلامة أو معناه أدخلوها مسلماً عليكم ويسلم الله وملائكته عليكم ويحتمل عندي وجهاً آخر وهو أن يكون ذلك إرشاداً للمؤمنين إلى مكارم الاْخلاق في ذلك اليوم كما أرشدوا إليها في الدنيا حيث قال تعالى لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ( النور 27 ) فكأنه تعالى قال هذه داركم ومنزلكم ولكن لا تتركوا حسن عادتكم ولا تخلوا بمكارم أخلاقكم فادخلوها بسلام ويصيحون سلاماً على من فيها ويسلم ممن فيها عليهم ويقولون السلام عليكم ويدل عليه قوله تعالى إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ( الواقعة 26 ) أي يسلمون على من فيها ويسلم من فيها عليهم وهذا الوجه إن كان منقولاً فنعم وإن لم يكن منقولاً فهو مناسب معقول أيده دليل منقول
قوله تعالى ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ
حتى لا يدخل في قلبهم أن ذلك ربما ينقطع عنهم فتبقى في قلبهم حسرته فإن قيل المؤمن قد علم أنه إذا دخل الجنة خلد فيها فما الفائدة في التذكير والجواب عنه من وجهين أحدهما أن قوله ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ قول قاله الله في الدنيا إعلاماً وإخباراً وليس ذلك قولاً يقوله عند قوله ادْخُلُوهَا فكأنه تعالى أخبرنا في يومنا أن ذلك اليوم يوم الخلود ثانيهما اطمئنان القلب بالقول أكثر قال الزمخشري في قوله يَوْمُ الُخُلُودِ إضمار تقديره ذلك يوم تقدير الخلود ويحتمل أن يقال اليوم يذكر ويراد الزمان المطلق سواء كان يوماً أو ليلاً نقول يوم ولد لفلان ابن يكون السرور العظيم ولو ولد له بالليل لكان السرور حاصلاً فتريد به الزمان فكأنه تعالى قال ذلك زمان الإقامة الدائمة ثم قال تعالى
لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ
وفي الآية ترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه تعالى بدأ ببيان إكرامهم حيث قال وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ ( الشعراء 90 ) ولم يقل قرب المتقون من الجنة بياناً للإكرام حيث جعلهم ممن تنقل إليهم الجنان بما فيها من الحسان ثم قال لهم هذا لكم بقوله هَاذَا مَا تُوعَدُونَ ( ق 32 ) ثم بيّن أنه أجر أعمالهم الصالحة بقوله لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِى َ الرَّحْمَنَ ( ق 33 ) فإن تصرف المالك الذي ملك شيئاً بعوض أتم فيه من تصرف من ملك بغير عوض لإمكان الرجوع في التمليك بغير عوض ثم زاد في الإكرام بقوله ادْخُلُوهَا ( ق 34 ) كما بينا أن ذلك إكرام لأن من فتح بابه للناس ولم يقف ببابه من يرحب الداخلين لا يكون قد أتى بالإكرام التام ثم قال ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ ( ق 34 ) أي لا تخافوا ما لحقكم من قبل حيث أخرج أبويكم منها فهذا دخول لا خروج بعده منها
ثم لما بيّن أنهم فيها خالدون قال لا تخافوا انقطاع أرزاقكم وبقاءكم في حاجة كما كنتم في الدنيا من كان يعمر ينكس ويحتاج بل لكم الخلود ولا ينفد ما تمتعون به فلكم ما تشاءون في أي وقت تشاءون وإلى الله المنتهى وعند الوصول إليه والمثول بين يديه فلا يوصف ما لديه ولا يطلع أحد عليه وعظمة من عنده تدلك على فضيلة ما عنده هذا هو الترتيب وأما التفسير ففيه مسألتان(28/155)
المسألة الأولى قال تعالى ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ( ق 34 ) على سبيل المخاطبة ثم قال لَهُمْ ولم يقل لكم ما الحكمة فيه الجواب عنه من وجوه الأول هو أن قوله تعالى ادْخُلُوهَا مقدر فيه يقال لهم أي يقال لهم ادْخُلُوهَا فلا يكون على هذا التفاتاً الثاني هو أنه من باب الالتفات والحكمة الجمع بين الطرفين كأنه تعالى يقول أكرمهم به في حضورهم ففي حضورهم الحبور وفي غيبتهم الحور والقصور والثالث هو أن يقال قوله تعالى لَهُمْ جاز أن يكون كلاماً مع الملائكة يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم واعلموا أن لهم ما يشاءون فيها فأحضروا بين أيديهم ما يشاءون وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تقدرون أنتم عليه
المسألة الثانية قد ذكرنا أن لفظ مَّزِيدٍ ( ق 30 ) يحتمل أن يكون معناه الزيادة فيكون كما في قوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي عندنا ما نزيده على ما يرجون وما يكون مما يشتهون
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
ثم قال تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً
لما أنذرهم بما بين أيديهم من اليوم العظيم والعذاب الأليم أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المهلك والإهلاك المدرك وبين لهم حال من تقدمهم وقد تقدم تفسيره في مواضع والذي يختص بهذا الموضع أمور أحدها إذا كان ذلك للجمع بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل فلم توسطهما قوله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ إلى قوله وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( ق 31 35 ) نقول ليكون ذلك دعاء بالخوف والطمع فذكر حال الكفور المعاند وحال الشكور العابد في الآخرة ترهيباً وترغيباً ثم قال تعالى إن كنتم في شك من العذاب الأبدي الدائم فما أنتم في ريب من العذاب العاجل المهلك الذي أهلك أمثالكم فإن قيل فلم لم يجمع بين الترهيب والترغيب في العاجلة كما جمع بينهما في الآجلة ولم يذكر حال من أسلم من قبل وأنعم عليه كما ذكر حال من أشرك به فأهلكه نقول لأن النعمة كانت قد وصلت إليهم وكانوا متقلبين في النعم فلم يذكرهم به وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به وأما في الآخرة فكانوا غافلين عن الأمرين جميعاً فأخبرهم بهما
الثاني قوله تعالى فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ
في معناه وجوه أحدها هو ما قاله تعالى في حق ثمود الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( الفجر 9 ) من قوتهم خرق الطرق ونقبوها وقطعوا الصخور وثقبوها ثانيها نقبوا أي ساروا في الأسفار ولم يجدوا ملجأً ومهرباً وعلى هذا يحتمل أن يكون المراد أهل مكة أي هم ساروا في الأسفار ورأوا ما فيها من الآثار ثالثها فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ أي صاروا نقباء في الأرض أراد ما أفادهم بطشهم وقوتهم ويدل على هذا الفاء لأنها تصير حينئذ مفيدة ترتب الأمر على مقتضاه تقول كان زيد أقوى من عمرو فغلبه وكان عمرو مريضاً(28/156)
فغلبه زيد كذلك ههنا قال تعالى هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فصاروا نقباء في الأرض وقرىء فَنَقَّبُواْ بالتشديد وهو أيضاً يدل على ما ذكرنا في الوجه الثالث لأن التنقيب البحث وهو من نقب بمعنى صار نقيباً
الثالث قوله تعالى هَلْ مِن مَّحِيصٍ
يحتمل وجوهاً ثلاثة الأول على قراءة من قرأ بالتشديد يحتمل أن يقال هو مفعول أي بحثوا عن المحيص هَلْ مِن مَّحِيصٍ الثاني على القراءات جميعاً استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيص الثالث هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تعتمدون عليه والمحيص كالمحيد غير أن المحيص معدل ومهرب عن الشدة يدلك عليه قولهم وقعوا في حيص بيص أي في شدة وضيق والمحيد معدل وإن كان لهم بالاختيار يقال حاد عن الطريق نظراً ولا يقال حاص عن الأمر نظراً
إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ
الإشارة إلى الإهلاك ويحتمل أن يقال هو إشارة إلى ما قاله من إزلاف الجنة وملء جهنم وغيرهما والذكرى اسم مصدر هو التذكر والتذكرة وهي في نفسها مصدر ذكره يذكره ذكراً وذكرى وقوله لمن كَانَ لَهُ قَلْبٌ قيل المراد قلب موصوف بالوعي أي لمن كان له قلب واع يقال لفلان مال أي كثير فالتنكير يدل على معنى في الكمال والأولى أن يقال هو لبيان وضوح الأمر بعد الذكر وأن لا خفاء فيه لمن كان له قلب ما ولو كان غير كامل كما يقال أعطه شيئاً ولو كان درهماً ونقول الجنة لمن عمل خيراً ولو حسنة فكأنه تعالى قال إن في ذلك لذكرى لمن يصح أن يقال له قلب وحينئذ فمن لا يتذكر لا قلب له أصلاً كما في قوله تعالى صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ ( البقرة 18 ) حيث لم تكن آذانهم وألسنتهم وأعينهم مفيدة لما يطلب منها كذلك من لا يتذكر كأنه لا قلب له ومنه قوله تعالى كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( الأعراف 179 ) أي هم كالجماد وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَة ٌ ( المنافقون 4 ) أي لهم صور وليس لهم قلب للذكر ولا لسان للشكر
وقوله تعالى أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ أي استمع وإلقاء السمع كناية في الاستماع لأن من لا يسمع فكأنه حفظ سمعه وأمسكه فإذا أرسله حصل الاستماع فإن قيل على قول من قال التنكير في القلب للتكثير يظهر حسن ترتيب في قوله أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وذلك لأنه يصير كأنه تعالى يقول إن في ذلك لذكرى لمن كان ذا قلب واع ذكي يستخرج الأمور بذكائه أو ألقى السمع ويستمع من المنذر فيتذكر وأما على قولك المراد من صح أن يقال له قلب ولو كان غير واع لا يظهر هذا الحسن نقول على ما ذكرنا ربما يكون الترتيب أحسن وذلك لأن التقدير يصير كأنه تعالى قال فيه ذكرى لكل واحد كيف كان له قلب لظهور الأمر فإن كان لا يحصل لكل أحد فلمن يستمع حاصل ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ حيث لم يكل أو استمع لأن الاستماع ينبىء عن طلب زائد وأما إلقاء السمع فمعناه أن الذكرى حاصلة لمن لا يمسك سمعه بل يرسله إرسالاً وإن لم يقصد السماع كالسامع في الصوت الهائل فإنه يحصل عند مجرد فتح الأذن وإن لم يقصد السماع والصوت الخفي لا يسمع إلا باستماع وتطلب فنقول الذكرى حاصلة لمن كان(28/157)
له قلب كيف كان قلبه لظهورها فإن لم تحصل فلمن له أذن غير مسدودة كيف كان حاله سواء استمع باجتهاده أو لم يجتهد في سماعه فإن قيل فقوله تعالى وَهُوَ شَهِيدٌ للحال وهو يدل على أن إلقاء السمع بمجرده غير كاف نقول هذا يصحح ما ذكرناه لأنا قلنا بأن الذكرى حاصلة لمن له قلب ما فإن لم تحصل له فتحصل له إذا ألقى السمع وهو حاضر بباله من القلب وأما على الأول فمعناه من ليسه له قلب واع يحصل له الذكر إذا ألقى السمع وهو حاضر بقلبه فيكون عند الحضور بقلبه يكون له قلب واع وقد فرض عدمه هذا إذا قلنا بأن قوله وَهُوَ شَهِيدٌ بمعنى الحال وإذا لم نقل به فلا يرد ما ذكر وهو يحتمل غير ذلك بيانه هو أن يقال ذلك إشارة إلى القرآن وتقريره هو أن الله تعالى لما قال في أول السورة ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ ( ق 1 2 ) وذكر ما يدفع تعجبهم وبين كونه منذراً صادقاً وكون الحشر أمراً واقعاً ورغب وأرهب بالثواب والعذاب آجلاً وعاجلاً وأتم الكلام قال إِنَّ فِى ذَلِكَ أي القرآن الذي سبق ذكره لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أو لمن يستمع ثم قال وَهُوَ شَهِيدٌ أي المنذر الذي تعجبتم منه شهيد كما قال تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ( الفتح 8 ) وقال تعالى لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ( الحج 78 ) ثم قال تعالى
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ
أعاد الدليل مرة أخرى وقد ذكرنا تفسير ذلك في الم السجدة وقلنا إن الأجسام ثلاثة أجناس أحدها السماوات ثم حركها وخصصها بأمور ومواضع وكذلك الأرض خلقها ثم دحاها وكذلك ما بينهما خلق أعيانها وأصنافها فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ إشارة إلى ستة أطوار والذي يدل عليه ويقرره هو أن المراد من الأيام لا يمكن أن يكون هو المفهوم في وضع اللغة لأن اليوم عبارة في اللغة عن زمان مكث الشمس فوق الأرض من الطلوع إلى الغروب وقبل السماوات لم يكن شمس ولا قمر لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت يقال يوم يولد للملك ابن يكون سرور عظيم ويوم يموت فلان يكون حزن شديد وإن اتفقت الولادة أو الموت ليلاً ولا يتعين ذلك ويدخل في مراد العاقل لأنه أراد باليوم مجرد الحين والوقت إذا علمت الحال من إضافة اليوم إلى الأفعال فافهم ما عند إطلاق اليوم في قوله سِتَّة ِ أَيَّامٍ وقال بعض المفسرين المراد من الآية الرد على اليهود حيث قالوا بدأ الله تعالى خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه في ستة أيام آخرها يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على عرشه فقال تعالى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ رداً عليهم والظاهر أن المراد الرد على المشرك والاستدلال بخلق السماوات والأرض ومما بينهما وقوله تعالى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ أي ما تعبنا بالخلق الأول حتى لا نقدر على الإعادة ثانياً والخلق الجديد كما قال تعالى أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( ق 15 ) وأما ما قاله اليهود ونقلوه من التوراة فهو إما تحريف منهم أو لم يعلموا تأويله وذلك لأن الأحد والاثنين أزمنة متميز بعضها عن بعض فلو كان خلق السماوات ابتدىء يوم الأحد لكان الزمان متحققاً قبل الأجسام والزمان لا ينفك عن الأجسام فيكون قبل خلق الأجسام أجسام أُخر فيلزم القول بقدم العالم وهو مذهب الفلاسفة ومن العجيب أن بين الفلاسفة والمشبهة غاية الخلاف فإن الفلسفي لا يثبت لله تعالى صفة أصلاً ويقول بأن الله تعالى لا يقبل صفة بل هو واحد من جميع الوجوه فعلمه وقدرته وحياته هو حقيقته وعينه وذاته والمشبهي يثبت لله صفة الأجسام من الحركة والسكون والاستواء والجلوس والصعود والنزول فبينهما(28/158)
منافاة ثم إن اليهود في هذا الكلام جمعوا بين المسألتين فأخذوا بمذهب الفلاسفة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي القدم حيث أثبتوا قبل خلق الأجسام أياماً معدودة وأزمنة محدودة وأخذوا بمذهب المشبهة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي الاستواء على العرش فأخطوا ( وضلوا ) وأضلوا في الزمان والمكان جميعاً
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ
ثم قال تعالى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ قال من تقدم ذكرهم من المفسرين إن معناه اصبر على ما يقولون من حديث التعب بالاستلقاء وعلى ما قلناه معناه اصبر على ما يقولون إن هذا لشيء عجيب وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وما ذكرناه أقرب لأنه مذكور وذكر اليهود وكلامهم لم يجر
وقوله وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون الله أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالصلاة فيكون كقوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ( هود 114 )
وقوله تعالى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ إشارة إلى طرفي النهار
وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ
وقوله وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ إشارة إلى زلفاً من الليل ووجه هذا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له شغلان أحدهما عبادة الله وثانيهما هداية الخلق فإذا هداهم ولم يهتدوا قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الحق ثانيها سبح بحمد ربك أي نزهه عما يقولون ولا تسأم من امتناعهم بل ذكرهم بعظمة الله تعالى ونزهه عن الشرك والعجز عن الممكن الذي هو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب فإنهما وقت اجتماعهم وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ أي أوائل الليل فإنه أيضاً وقت اجتماع العرب ووجه هذا أنه لا ينبغي أن تسأم من تكذيبهم فإن الرسل من قبلك أوذوا وكذبوا وصبروا على ما كذبوا وأوذوا وعلى هذا فلقوله تعالى وَأَدْبَارَ السُّجُودِ فائدة جليلة وهي الإشارة إلى ما ذكرنا أن شغل الرسول أمر أن العبادة والهداية فقوله وَأَدْبَارَ السُّجُودِ أي عقب ما سجدت وعبدت نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود ثالثها أن يكون المراد قل سبحان الله وذلك لأن ألفاظاً معدودة جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم فقولنا كبر يطلق ويراد به قول القائل الله أكبر وسلم يراد به قوله السلام عليكم وحمد يقال لمن قال الحمد لله ويقال هلل لمن قال لا إلاه إلا الله وسبح لمن قال سبحان الله ووجه هذا أن هذه أمور تتكرر من الإنسان في الكلام والحاجة تدعو إلى الإخبار عنها فلو قال القائل فلان قال لا إلاه إلا الله أو قال الله أكبر طول الكلام فمست الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة لذلك لعدم تكرر ما في الأول وأما مناسبة هذا الوجه للكلام الذي هو فيه فهي أن تكذيبهم الرسول وتعجبهم من قوله أو استهزاءهم كان يوجب في العادة أن يشتغل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بلعنهم وسبهم والدعاء عليهم فقال فاصبر على ما يقولون واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح لله والحمد له ولا تكن كصاحب الحوت أو كنوح عليه السلام حيث قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً(28/159)
( نوح 26 ) بل ادع إلى ربك فإذا ضجرت عن ذلك بسبب إصرارهم فاشتغل بذكر ربك في نفسك وفيه مباحث
البحث الأول استعمل الله التسبيح تارة مع اللام في قوله تعالى يُسَبّحُ اللَّهِ ( الجمعة 1 ) و يُسَبّحُونَ لَهُ ( فصلت 38 ) وأخرى مع الباء في قوله تعالى فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( الواقعة 74 ) و سَبِّحِ بِحَمْدِ رَبّكَ ( طه 42 ) وقوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) فما الفرق بينهما نقول أما الباء فهي الأهم وبالتقديم أولى في هذا الموضع كقوله تعالى وَسَبْعَ بِحَمْدِ رَبّكَ فنقول أما على قولنا المراد من سبح قل سبحان الله فالباء للمصاحبة أي مقترناً بحمد الله فيكون كأنه تعالى قال قل سبحان الله والحمد لله وعلى قولنا المراد التنزيه لذلك أي نزهه وأقرنه بحمده أي سبحه واشكره حيث وفقك الله لتسبيحه فإن السعادة الأبدية لمن سبحه وعلى هذا فيكون المفعول غير مذكور لحصول العلم به من غير ذكر تقديره سبح الله بحمد ربك أي ملتبساً ومقترناً بحمد ربك وعلى قولنا صل نقول يحتمل أن يكون ذلك أمراً بقراءة الفاتحة في الصلاة يقال صلّى فلان بسورة كذا أو صلّى بقل هو الله أحد فكأنه يقول صلّى بحمد الله أي مقروءاً فيها الحمد لله ربّ العالمين وهو أبعد الوجوه وأما التعدية من غير حرف فنقول هو الأصل لأن التسبيح يتعدى بنفسه لأن معناه تبعيد من السوء وأما اللام فيحتمل وجهين أحدهما أن يكون كما في قول القائل نصحته ونصحت له وشكرته وشكرت له وثانيهما أن يكون لبيان الأظهر أي يسبحون الله وقلوبهم لوجه الله خالصة
البحث الثاني قال ههنا سَبِّحِ بِحَمْدِ رَبّكَ ثم قال تعالى وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ من غير باء فما الفرق بين الموضعين نقول الأمر في الموضعين واحد على قولنا التقدير سبح الله مقترناً بحمد ربك وذلك لأن سبح الله كقول القائل فسبحه غير أن المفعول لم يدكر أولاً لدلالة قوله بحمد ربك عليه وثانياً لدلالة ما سبق عليه لم يذكر بحمد ربك الجواب الثاني على قولنا سبح بمعنى صل يكون الأول أمراً بالصلاة والثاني أمراً بالتنزيه أي وصل بحمد ربك في الوقت وبالليل نزهه عما لا يليق وحينئذ يكون هذا إشارة إلى العمل والذكر والفكر فقوله سَبِّحِ إشارة إلى خير الأعمال وهو الصلاة وقوله بِحَمْدِ رَبّكَ إشارة إلى الذكر وقوله وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ إشارة إلى خير الأعمال وهو الصلاة وقوله بِحَمْدِ رَبّكَ إشارة إلى الذكر وقوله وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ إشارة إلى الفكر حين هدوا الأصواب وصفاء الباطن أي نزهه عن كل سوء بفكرك واعلم أنه لا يتصف إلا بصفات الكمال ونعوت الجلال وقوله تعالى وَأَدْبَارَ السُّجُودِ قد تقدم بعض ما يقال في تفسيره ووجه آخر هو أنه إشارة إلى الأمر بإدامة التسبيح فقوله بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ إشارة إلى أوقات الصلاة وقوله وَأَدْبَارَ السُّجُودِ يعني بعدما فرغت من السجود وهو الصلاة فلا تترك تسبيح الله وتنزيهه بل داوم أدبار السجود ليكون جميع أوقاتك في التسبيح فيفيد فائدة قوله تعالى وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ( الكهف 24 ) وقوله فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ ( الشرح 7 8 ) وقرىء وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
البحث الثالث الفاء في قوله تعالى فَسَبّحْهُ ما وجهها نقول هي تفيد تأكيد الأمر بالتسبيح من الليل وذلك لأنه يتضمن الشرط كأنه يقول وأما من الليل فسبحه وذلك لأن الشرط يفيد أن عند وجوده يجب وجود الجزاء وكأنه تعالى يقول النهار محل الاشتغال وكثرة الشواغل فأما الليل فمحل السكون(28/160)
والانقطاع فهو وقت التسبيح أو نقول بالعكس الليل محل النوم والثبات والغفلة فقال أما الليل فلا تجعله للغفلة بل اذكر فيه ربك ونزهه
البحث الرابع مِنْ في قوله وَمِنَ الَّيْلِ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون لابتداء الغاية أي من أول الليل فسبحه وعلى هذا فلم يذكر له غاية لاختلاف ذلك بغلبة النوم وعدمها يقال أنا من الليل أنتظرك ثانيهما أن يكون للتبعيض أي اصرف من الليل طرفاً إلى التسبيح يقال من مالك منع ومن الليل انتبه أي بعضه
البحث الخامس قوله وَأَدْبَارَ السُّجُودِ عطف على ماذا نقول يحتمل أن يكون عطفاً على ما قبل الغروب كأنه تعالى قال ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب وأدبار السجود ) وذكر بينهما قوله وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وعلى هذا ففيه ما ذكرنا من الفائدة وهي الأمر بالمداومة كأنه قال سبح قبل طلوع الشمس وإذا جاء وقت الفراغ من السجود قبل الطلوع فسبح وسبح قبل الغروب وبعد الفراغ من السجود قبل الغروب سبحه فيكون ذلك إشارة إلى صرف الليل إلى التسبيح ويحتمل أن يكون عطفاً على وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وعلى هذا يكون عطفاً على الجار والمجرور جميعاً تقديره وبعض الليل ( فسبحه وأدبار السجود ) ثم قال تعالى
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
هذا إشارة إلى بيان غاية التسبيح يعني اشتغل بتنزيه الله وانتظر المنادي كقوله تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الذي يستمعه قلنا يحتمل وجوهاً ثلاثة أحدها أن يترك مفعوله رأساً ويكون المقصود كن مستمعاً ولا تكن مثل هؤلاء المعرضين الغافلين يقال هو رجل سميع مطيع ولا يراد مسموع بعينه كما يقال فلان وكاس وفلان يعطي ويمنع ثانيهما استمع لما يوحي إليك ثالثها استمع نداء المنادي
المسألة الثانية يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ منصوب بأي فعل نقول هو مبني على المسألة الأولى إن قلنا استمع لا مفعول له فعامله ما يدل عليه قوله تعالى يَوْمُ الْخُرُوجِ ( ق 42 ) تقديره يخرجون يوم ينادي المنادي وإن قلنا مفعوله لما يوحى فتقديره ( واستمع ) لما يوحى ( يوم ينادي ) ويحتمل ما ذكرنا وجهاً آخر وهو ما يوحي أي ما يوحى يَوْمٍ يُنَادِ الْمُنَادِ اسمعه فإن قيل استمع عطف على فاصبر وسبح وهو في الدنيا والاستماع يكون في الدنيا وما يوحى يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ لا يستمع في الدنيا نقول ليس بلازم ذلك لجواز أن يقال صل وادخل الجنة أي صل في الدنيا وادخل الجنة في العقبى فكذلك ههنا ويحتمل أن يقال بأن استمع بمعنى انتظر فيحتمل الجمع في الدنيا وإن قلنا استمع الصيحة وهو نداء المنادي يا عظام انتشري والسؤال الي ذكره علم الجواب منه وجواب آخر نقوله حينئذ وهو أن الله تعالى قال وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) قلنا إن(28/161)
من شاء الله هم الذين علموا وقوع الصيحة واستيقظوا لها فلم تزعجهم كمن يرى برقاً أومض وعلم أن عقبيه يكون رعد قوي فينظره ويستمع له وآخر غافل فإذا رعد بقوة ربما يغشى على الغافل ولا يتأثر منه المستمع فقال استمع ذلك كي لا تكون ممن يصعق في ذلك اليوم
المسألة الثانية ما الذي ينادي المنادي فيه وجوه محتملة منقولة معقولة وحصرها بأن نقول المنادي إما أن يكون هو الله تعالى أو الملائكة أو غيرهما وهم المكلفون من الإنس والجن في الظاهر وغيرهم لا ينادي فإن قلنا هو تعالى فيه وجوه أحدها ينادي احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ ( الصافات 22 ) ثانيها ينادي أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ( ق 24 ) مع قوله أدخلوها بسلام ( ق 34 ) ومثله قوله تعالى ( ق 34 ) ومثله قوله تعالى خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ( الحاقة 30 ) يدل على هذا قوله تعالى يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( ق 41 ) وقال وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( سبأ 51 ) ثالثها غيرهما لقوله تعالى يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى وغير ذلك وأما على قولنا المنادي غير الله ففيه وجوه أيضاً أحدها قول إسرافيل أيتها العظام البالية اجتمعوا للوصل واستمعوا للفصل ثانيها النداء مع النفس يقال للنفس ارجعي إلى ربك لتدخلي مكانك من الجنة أو النار ثالثها ينادي مناد هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار كما قال تعالى فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ ( الشورى 7 ) وعلى قولنا المنادي هو المكلف فيحتمل أن يقال هو ما بين الله تعالى في قوله وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ ( الزخرف 77 ) أو غير ذلك إلا أن الظاهر أن المراد أحد الوجهين الأولين لأن قوله المنادي للتعريف وكون الملك في ذلك اليوم منادياً معروف عرف حاله وإن لم يجر ذكره فيقال قال ( صلى الله عليه وسلم ) وإن لم يكن قد سبق ذكره وأما أن الله تعالى مناد فقد سبق في هذه السورة في قوله أَلْقِيَا ( ق 24 ) وهذا نداء وقوله يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ ( ق 30 ) وهو نداء وأما المكلف ليس كذلك وقوله تعالى مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ إشارة إلى أن الصوت لا يخفى على أحد بل يستوي في استماعه كل أحد وعلى هذا فلا يبعد حمل المنادي على الله تعالى إذ ليس المراد من المكان القريب نفس المكان بل ظهور النداء وهو من الله تعالى أقرب وهذا كما قال في هذه السورة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) وليس ذلك بالمكان ثم قال تعالى
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَة َ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ
هذا تحقيق ما بينا من الفائدة في قوله وَاسْتَمِعْ ( ق 41 ) أي لا تكن من الغافلين حتى لا تصعق يوم الصيحة وبيانه هو أنه قال استمع أي كن قبل أن تستمع مستيقظاً لوقوعه فإن السمع لا بد منه أنت وهم فيه سواء فهم يسمعون لكن من غير استماع فيصعقون وأنت تسمع بعد الاستماع فلا يؤثر فيك إلا ما لا بد منه و يَوْمٍ يحتمل وجوهاً أحدها ما قاله الزمخشري أنه بدل من يوم في قوله وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ والعامل فيهما الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( ق 42 ) أي يخرجون يوم يسمعون ثانيها أن يَوْمَ يَسْمَعُونَ العامل فيه مما في قوله ذلك يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ العامل فيه ما ذكرنا ثالثها أن يقال استمع عامل في يوم ينادي كما ذكرنا وينادي عامل في يسمعون وذلك لأن يوم ينادي وإن لم يجز أن يكون منصوباً بالمضاف إليه وهو ينادي لكن غيره يجوز أن يكون منصوباً به يقال اذكر حال زيد ومذلته يوم ضربه عمرو ويوم كان عمرو والياً إذا كان القائل يريد(28/162)
بيان مذلة زيد عندما صار زيد يكرم بسبب من الأسباب فلا يكون يوم كان عمرو والياً منصوباً بقوله اذكر لأن غرض القائل التذكير بحال زيد ومذلته وذلك يوم الضرب لكن يوم كان عمرو منصوب بقوله ضربه عمرو يوم كان والياً فكذلك ههنا قال وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ لئلا تكون ممن يفزع ويصعق ثم بين هذا النداء بقوله يُنَادِ الْمُنَادِ يوم يسمعون أي لا يكون نداءً خفياً بحيث لا يسمعه بعض الناس بل يكون نداؤه بحيث تكون نسبته إلى من في أقصى المغرب كنسبته إلى من في المشرق وكلكم تسمعون ولا شك أن مثل هذا الصوت يجب أن يكون الإنسان متهيئاً لاستماعه وذلك يشغل النفس بعبادة الله تعالى وذكره والتفكير فيه فظهر فائدة جليلة من قوله فَاصْبِرْ وَسَبّحْ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ وَيَوْمَ يَسْمَعُونَ واللام في الصيحة للتعريف وقد عرف حالها وذكرها الله مراراً كما في قوله تعالى إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً ( ي س 29 ) وقوله ( فإنما هي زجرة واحدة ( الصافات 19 ) وقوله ( فإنما هي زجرة واحدة ( الصافات 19 ) وقوله ( الصافات 19 ) وقوله نَفْخَة ٌ واحِدَة ٌ ( الحاقة 13 ) وقوله بِالْحَقّ جاز أن يكون متعلقاً بالصيحة أي الصحة بالحق يسمعونها وعلى هذا ففيه وجوه
الأول الحق الحشر أي الصيحة بالحشر وهو حق يسمعونها يقال صاح زيد بيا قوم اجتمعوا على حد استعمال تكلم بهذا الكلام وتقديره حينئذ يسمعون الصيحة بيا عظام اجتمعي وهو المراد بالحق الثاني الصيحة بالحق أي باليقين والحق هو اليقين يقل صاح فلان بيقين لا بظن وتخمين أي وجد منه الصياح يقيناً لا كالصدى وغيره وهو يجري مجرى الصفة للصيحة يقال استمع سماعاً بطلب وصاح صيحة بقوة أي قوية فكأنه قال الصيحة المحققة الثالث أن يكون معناه الصيحة المقترنة بالحق وهو الوجود يقال كن فيتحقق ويكون ويقال اذهب بالسلام وارجع بالسعادة أي مقروناً ومصحوباً فإن قيل زد بياناً فإن الباء في الحقيقة للإلصاق فكيف يفهم معنى الإلصاق في هذه المواضع نقول التعدية قد تتحقق بالباء يقال ذهب بزيد على معنى ألصق الذهاب بزيد فوجد قائماً به فصار مفعولاً فعلى قولنا المراد يسمعون صيحة من صاح بيا عظام اجتمعي هو تعدية المصدر بالباء يقال أعجبني ذهاب زيد بعمرو وكذلك قوله الصَّيْحَة َ بِالْحَقّ أي ارفع الصوت على الحق وهو الحشر وله موعد نبينه في موضع آخر إن شاء الله تعالى الوجه الثاني أن يكون الحق متعلقاً بقوله يَسْمَعُونَ أي يسمعون الصيحة بالحق وفيه وجهان الأول هو قول القائل سمعته بيقين الثاني الباء في يسمعون بالحق قسم أي يسمعون الصيحة بالله الحق وهو ضعيف وقوله تعالى ذَلِكَ يَوْمُ فيه وجهان أحدهما ذلك إشارة إلى يوم أي ذلك اليوم يوم الخروج ثانيهما ذلك إشارة إلى نداء المنادي ثم قال تعالى
إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ
قد ذكرنا في سورة ي س ما يتعلق بقوله كَرِيمٍ إِنَّا نَحْنُ وأما قوله إِنَّا نَحْنُ فالمراد من الإحياء الإحياء أولاً وَنُمِيتُ إشارة إلى الموتة الأولى وقوله وَإِلَيْنَا بيان للحشر فقدم إِنَّا نَحْنُ لتعريف عظمته يقول القائل أنا أنا أي مشهور و إِنَّا نَحْنُ أمور مؤكدة معنى العظمة وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ بيان للمقصود(28/163)
يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ
وقوله تعالى يَوْمَ تَشَقَّقُ الاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً العامل فيه هو ما في قوله يَوْمُ الْخُرُوجِ ( ق 42 ) من الفعل أي يخرجون يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً وقوله سِرَاعاً حال للخارجين لأن قوله تعالى عَنْهُمْ يفيد كونهم مفعولين بالتشقق فكان التشقق عند الخروج من القبر كما يقال كشف عنه فهو مكشوف عنه فيصير سراعاً هيئة المفعول كأنه قال مسرعين والسراع جمع سريع كالكرام جمع كريم
قوله ذَلِكَ حَشْرٌ يحتمل أن يكون إشارة إلى التشقق عنهم ويحتمل أن يكون إشارة إلى الإخراج المدلول عليه بقوله سراعاً ويحتمل أن يكون معناه ذلك الحشر حشر يسير لأن الحشر علم مما تقدم من الألفاظ
وقوله تعالى عَلَيْنَا يَسِيرٌ بتقديم الظرف يدل على الاختصاص أي هو علينا هين لا على غيرنا وهو إعادة جواب قولهم ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق 3 ) والحشر الجمع ويوم القيامة جمع الأجزاء بعضها إلى بعض وجمع الأرواح مع الأشباح أي يجمع بين كل روح وجسدها وجمع الأمم المتفرقة والرمم المتمزقة والكل واحد في الجمع
نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ
فيه وجوه أحدها تسلية لقلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين وتحريض لهم على ما أمر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الصبر والتسبيح أي اشتغل بما قلناه ولا يشغلك الشكوى إلينا فإنا نعلم أقوالهم ونرى أعمالهم وعلى هذا فقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ مناسب له أي لا تقل بأني أرسلت إليهم لأهديهم فكيف أشتغل بما يشغلني عن الهداية وهو الصلاة والتسبيح فإنك ما بعثت مسلطاً على دواعيهم وقدرهم وإنما أمرت بالتبليغ وقد بلغت فاصبر وسبح وانتظر اليوم الذي يفصل فيه بينكم ثانيها هي كلمة تهديد وتخويف لأن قوله وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( ق 43 ) ظاهر في التهديد بالعلم بعملكم لأن من يعلم أن مرجعه إلى الملك ولكنه يعتقد أن الملك لا يعلم ما يفعله لا يمتنع من القبائح أما إذا علم أنه يعلمه وعنده غيبه وإليه عوده يمتنع فقال تعالى وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ و نَّحْنُ أَعْلَمُ وهو ظاهر في التهديد وهذا حينئذ كقوله تعالى ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( الزمر 7 ) ثالثهاُّ تقرير الحشر وذلك لأنه لما بيّن أن الحشر عليه يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يميز بين جزء بدنين جزء بدن زيد وجزء بدن عمرو فقال ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ لكمال قدرتنا ولا يخفى علينا الأجزاء لمكان علمنا وعلى هذا فقوله نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ معناه نحن نعلم عين ما يقولون في قولهم أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ( المؤمنون 82 ) أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ ( السجدة 10 ) فيقول نحن نعلم الأجزاء التي يقولون فيها إنها ضالة وخفية ولا يكون المراد نحن نعلم وقولهم في الأول جاز أن تكون ما مصدرية فيكون المراد من قوله بِمَا يَقُولُونَ أي قولهم وفي الوجه الآخر تكون خبرية وعلى هذا الدليل فلا يصح قوله نَّحْنُ أَعْلَمُ إذ لا عالم بتلك الأجزاء سواه حتى يقول نَّحْنُ أَعْلَمُ نقول قد علم الجواب عنه مراراً من وجوه
أحدها أن أفعل لا يقتضي الاشتراك في أصل الفعل كما في قوله تعالى وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ(28/164)
( الأحزاب 37 ) وفي قوله تعالى أَحْسَنُ نَدِيّاً ( مريم 77 ) وفي قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) (
ثانيها معناه نحن أعلم بما يقولون من كل عالم بما يعلمه والأول أصح وأظهر وأوضح وأشهر وقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فيه وجوه أحدها أن للتسلية أيضاً وذلك لأنه لما من عليه بالإقبال على الشغل الأخروي وهو العبادة أخبر بأنه لم يصرف عن الشغل الآخر وهو البعث كما أن الملك إذا أمر بعض عبيده بشغلين فظهر عجزه في أحدهما يقول له أقبل على الشغل الآخر ومنهما ونحن نبعث من يقدر على الذي عجزت عن منهما فقال اصْبِر وَسَبّحْ وَمَا أَنتَ بِجَبَّارٍ أي فما كان امتناعهم بسبب تجبر منك أو تكبر فاشمأزوا من سوء خلقك بل كنت بهم رؤوفاً وعليهم عطوفاً وبالغت وبلغت وامتنعوا فأقبل على الصبر والتسبيح غير مصروف عن الشغل الأول بسبب جبروتك وهذا في معنى قوله تعالى مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ إلى أن قال وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 2 4 ) ثانيها هو بيان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بما عليه من الهداية وذلك لأنه أرسله منذراً وهادياً لا ملجأ ومجبراً وهذا كما في قوله تعالى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ( الشورى 18 ) أي تحفظهم من الكفر والنار وقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ في معنى قول القائل اليوم فلان علينا في جواب من يقول من عليكم اليوم أي من الوالي عليكم ثالثها هو بيان لعدم وقت نزول العذاب بعد وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أنذر وأعذر وأظهر لم يؤمنوا كان يقول إن هذا وقت العذاب فقال نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بمسلط فذكر بعذابي إن لم يؤمنوا من بقي منهم ممن تعلم أنه يؤمن ثم تسلط ويؤيد هذا قول المفسرين أن الآية نزلت قبل نزول آية القتال وعلى هذا فقوله فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ أي من بقي منهم ممن يخاف يوم الوعيد وفيه وجوه أُخر أحدها أنا بينا في أحد الوجوه أن قوله تعالى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ ( ق 39 ) معناه أقبل على العبادة ثم قال ولا تترك الهداية بالكلية بل وذكر المؤمنين فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( الذاريات 55 ) وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) وقوله بِالْقُرْءانِ فيه وجوه الأول فذكر بما في القرآن واتل عليهم القرآن يحصل لهم بسبب ما فيه المنفعة الثاني فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ أي بيّن به أنك رسول لكونه معجزاً وإذا ثبت كونك رسولاً لزمهم قبول قولك في جميع ما تقول به الثالث المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير وحينئذ يكون ذكر القرآن لانتفاع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) به أي اجعل القرآن إمامك وذكرهم بما أخبرت فيه بأن تذكرهم وعلى الأول معناه اتل عليهم القرآن ليتذكروا بسببه وقوله تعالى مَن يَخَافُ وَعِيدِ من جملة ما يبين كون الخشية دالة على عظمة المخشي أكثر مما يدل عليه الخوف حيث قال يَخَافُ عندما جعل المخوف عذاب ووعيده وقال اخشوني ( البقرة 150 ) عندما جعل المخوف نفسه العظيم وفي هذه الآية إشارة إلى الأصول الثلاثة وقوله تَزَكَّى وَذَكَرَ إشارة إلى أنه مرسل مأمور بالتذكير منزل عليه القرآن حيث قال بِالْقُرْءانِ وقوله وَعِيدِ إشارة إلى اليوم الآخر وضمير المتكلم في قوله وَعِيدِ يدل على الوحدانية فإنه لو قال من يخاف وعيد الله كان يذهب وهم الله إلى كل صوب فلذا قال وَعِيدِ والمتكلم أعرف المعارف وأبعد عن الإشراك به وقبول الاشتراك فيه وقد بينا في أول السورة أن أول السورة وآخرها متقاربان في المعنى حيث قال في الأول ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ ( ق 1 ) وقال في آخرها فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ
وهذا آخر تفسير هذه السورة والحمد لله ربّ العالمين وصلاته على خاتم النبيّين وسيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه وذريته أجمعين(28/165)
سورة الذاريات
ستون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالذَارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً
أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها وذلك لأنه تعالى لما بيّن الحشر بدلائله وقال ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيراً ( ق 44 ) وقال وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( ق 45 ) أي تجبرهم وتلجئهم إلى الإيمان إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان وتلاوة القرآن عليهم لم يبق إلا اليمين فقال وَالذرِيَاتِ ذَرْواً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وأول هذه السورة وآخرها متناسبان حيث قال في أولها إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( الذاريات 5 ) وقال في آخرها فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ ( الذاريات 60 ) وفي تفسير الآيات مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا الحكمة وهي في القسم من المسائل الشريفة والمطالب العظيمة في سورة والصافات ونيدها ههنا وفيها وجوه الأول أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غالباً في إقامة الدليل وكانوا ينسبونه إلى المجادلة وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله وإنه يغلبنا بقوة الجدل لا بصدق المقال كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليل ولم يبق له حجة يقول إنه غلبني لعلمه بطريق الجدل وعجزي عن ذلك وهو في نفسه يعلم أن الحق بيدي فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين فيقول والله إن الأمر كما أقول ولا أجادلك بالباطل وذلك لأنه لو سلك طريقاً آخر من ذكر دليل آخر فإذا تم الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول إن ذلك تقرير بقوة علم الجدل فلا يبقى إلا السكوت أو التمسك بالإيمان وترك إقامة البرهان الثاني هو أن العرب كانت تحترز عن الأيمان(28/166)
الكاذبة وتعتقد أنها تدع الديار بلافع ثم إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر من الأيمان بكل شريف ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتاً وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذباً وإلا لأصابه شؤم الإيمان ولناله المكروه في بعض الأزمان الثالث وهو أن الأيمان التي حلف الله تعالى بها كلها دلائل أخرجها في صورة الأيمان مثاله قول القائل لمنعمه وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك فيذكر النعم وهي سبب مفيد لدوام الشكر ويسلك مسلك القسم كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة فإن قيل فلم أخرجها مخرج الإيمان نقول لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف بعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر فبدأ بالحلف وأدرج الدليل في صورة اليمين حتى أقبل القوم على سماعه فخرج لهم البرهان المبين والتبيان المتين في صورة اليمين وقد استوفينا الكلام في سورة الصافات
المسألة الثانية في جميع السور التي أقسم الله في ابتدائها بغير الحروف كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة وهي الوحدانية والرسالة والحشر وهي التي يتم بها الإيمان ثم إنه تعالى لم يقسم لإثبات الوحدانية إلا في سورة واحدة من تلك السور وهي وَالصَّافَّاتِ حيث قال فيها إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ( الصافات 4 ) وذلك لأنهم وإنن كانوا يقولون أَجَعَلَ الآلِهَة َ إِلَهاً واحِداً ( ص 50 ) على سبيل الإنكار وكانوا يبالغون في الشرك لكنهم في تضاعيف أقوالهم وتصاريف أحوالهم كانوا يصرحون بالتوحيد وكانوا يقولون ( ص 50 ) على سبيل الإنكار وكانوا يبالغون في الشرك لكنهم في تضاعيف أقوالهم وتصاريف أحوالهم كانوا يصرحون بالتوحيد وكانوا يقولون مَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) وقال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( الزمر 38 ) فلم يبالغوا في الحقيقة في إنكار المطلوب الأول فاكتفى بالبرهان ولم يكثر من الأيمان وفي سورتين منها أقسم لإثبات صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكونه رسولاً في إحداهما بأمر واحد وهو قوله تعالى وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ( النجم 1 2 ) وفي الثانية بأمرين وهو قوله تعالى وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ( الضحى 1 3 ) وذلك لأن القسم على إثبات رسالته قد كثر بالحروف والقرآن كما في قوله تعالى يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ي س 1 3 ) وقد ذكرنا الحكم فيه أن معجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) القرآن فأقسم به ليكون في القسم الإشارة واقعة إلى البرهان وفي باقي السور كان المقسم عليه الحشر والجزاء وما يتعلق به لكون إنكارهم في ذلك خارجاً عن الحد وعدم استيفاء ذلك في صورة القسم بالحروف
المسألة الثالثة أقسم الله تعالى بجموع السلامة المؤنثة في سور خمس ولم يقسم بجموع السلامة المذكورة في سورة أصلاً فلم يقل والصالحين من عبادي ولا المقربين إلى غير ذلك مع أن المذكر أشرف وذلك لأن جموع السلام بالواو والنون في الأمر الغالب لمن يعقل وقد ذكرنا أن القسم بهذه الأشياء ليس لبيان التوحيد إلا في صورة ظهور الأمر فيه وحصول الاعتراف منهم به ولا للرسالة لحصول ذلك في صور القسم بالحروف والقرآن
بقي أن يكون المقصود إثبات الحشر والجزاء لكن إثبات الحشر لثواب الصالح وعذاب الصالح ففائدة ذلك راجع إلى من يعقل فكان الأمر يقتضي أن يكون القسم بغيرهم والله أعلم
المسألة الرابعة في السورة التي أقسم لإثبات الوحدانية أقسم في أول الأمر بالساكنات حيث قال(28/167)
وَالصَّافَّاتِ ( الصافات 1 ) وفي السور الأربع الباقية أقسم بالمتحركات فقال وَالذرِيَاتِ وقال وَالْمُرْسَلَاتِ ( المرسلات 1 ) وقال وَالنَّازِعَاتِ ( النازعات 1 ) ويؤيده قوله تعالى وَالسَّابِحَاتِ فَالسَّابِقَاتِ ( النازعات 3 4 ) وقال وَالْعَادِيَاتِ ( العاديات 1 ) وذلك لأن الحشر فيه جمع وتفريق وذلك بالحركة أليق أو أن نقول في جميع السور الأربع أقسم بالرياح على ما بين وهي التي تجمع وتفرق فالقادر على تأليف السحاب المتفرق بالرياح الذارية والمرسلة قادر على تأليف الأجزاء المتفرقة بطريق من الطرق التي يختارها بمشيئته تعالى
المسألة الخامسة في الذاريات أقوال الأول هي الرياح تذور التراب وغيره كما قال تعالى تَذْرُوهُ الرّياحُ ( الكهف 45 ) الثاني هي الكواكب من ذرا يذرو إذا أسرع الثالث هي الملائكة الرابع رب الذاريات والأول أصح
المسألة السادسة الأمور الأربعة جاز أن تكون أموراً متباينة وجاز أن تكون أمراً له أربع اعتبارات الأول هي ما روي عن علي عليه السلام أن الذاريات هي الرياح والحاملات هي السحاب والجاريات هي السفن والمقسمات هي الملائكة الذين يقسمون الأرزاق والثاني وهو الأقرب أن هذه صفات أربع للرياح فالذاريات هي الرياح التي تنشىء السحاب أولاً والحاملات هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه التي إذا سحت جرت السيول العظيمة وهي أوقار أثقال من جبال والجاريات هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها والمقسمات هي الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار ويحتمل أن يقال هذه أمور أربعة مذكورة في مقابلة أمور أربعة بها تتم الإعادة وذلك لأن الأجزاء التي تفرقت بعضها في تخوم الأرضين وبعضها في قعور البحور وبعضها في جو الهواء وهي الأجزاء اللطيفة البخارية التي تنفصل عن الأبدان فقوله تعالى وَالذرِيَاتِ يعني الجامع للذاريات من الأرض على أن الذارية هي التي تذرو التراب عن وجه الأرض وقوله تعالى فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً بل تنقله من موضع وترميه في موضع بخلاف السحاب فإنه يحمله وينقله في الجو حملاً لا يقع منه شيء وقوله فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً إشارة إلى الجامع من الماء فإن من يجري السفن الثقيلة من تيار البحار إلى السواحل يقدر على نقل الأجزاء من البحر إلى البر فإذا تبين أن الجمع من الأرض وجو الهواء ووسط البحار ممكن وإذا اجتمع يبقى نفخ الروح لكن الروح من أمر الله كما قال تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) فقال فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأمر الله وإنما ذكرهم بالمقسمات لأن الإنسان في الأجزاء الجسمية غير مخالف تخالفاً بيناً فإن لكل أحد رأساً ورجلاً والناس متقاربة في الأعداد والأقدار لكن التفاوت الكثير في النفوس فإن الشريفة والخسيسة بينهما غاية الخلاف وتلك القسمة المتفاوتة تنقسم بمقسم مختار ومأمور مختار فقال فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً
المسألة الخامسة ما هذه المنصوبات من حيث النحو فنقول أما ذَرْواً فلا شك في كونه منصوباً على أنه مصدر وأما وِقْراً فهو مفعول به كما يقال حمل فلان عدلاً ثقيلاً ويحتمل أن يكون اسماً أقيم مقام المصدر كما يقال ضربه سوطاً يؤيده قراءة من قرأ بفتح الواو وأما يُسْراً فهو أيضاً منصوب(28/168)
على أنه صفة مصدر تقديره جرياً ذا يسر وأما لَكَ أمْراً فهو إما مفعول به كما يقال فلان قسم الرزق أو المال وإما حال أتى على صورة المصدر كما يقال قتلته صبراً أي مصبوراً كذلك ههنا لَكَ أمْراً أي مأمورة فإن قيل إن كان وِقْراً مفعوله به فلم لم يجمع ومما قيل والحاملات أوقاراً نقول لأن الحاملات على ما ذكرنا صفة الرياح وهي تتوارد على وقر واحد فإن ريحاً تهب وتسوق السحابة فتسبق السحاب فتهب أخرى وتسوقها وربما تتحول عنه يمنة ويسرة بسبب اختلاف الرياح وكذلك القول في المقسمات أمراً إذا قلنا هو مفعول به لأن جماعة يكونون مأمورين تنقسم أمراً واحداً أو نقول هو في تقدير التكرير كأنه قال فالحاملات وقراً وقراً والمقسمات أمراً أمراً
المسألة الثامنة ما فائدة الفاء نقول إن قلنا إنها صفات الرياح فلبيان ترتيب الأمور في الوجود فإن الذاريات تنشىء السحاب فتقسم الأمطار على الأمطار وإن قلنا إنها أمور أربعة فالفاء للترتيب في القسم لا للترتيب في القسم لا للترتيب في المقسم به كأنه يقول أقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحب الحاملات ثم بالسفن الجاريات ثم بالملائكة المقسمات وقوله فَالْحَامِلَاتِ وقوله فَالْجَارِيَاتِ إشارة إلى بيان ما في الرياح من الفوائد أما في البر فإنشاء السحب وأما في البحر فإجراء السفن ثم المقسمات إشارة إلى ما يترتب على حمل السحب وجري السفن من الأرزاق والأرياح التي تكون بقسمة الله تعالى فتجري سفن بعض الناس كما يشتهي ولا تربح وبعضهم تربح وهو غافل عنه كما قال تعالى نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ ( الزخرف 32 ) ثم قال تعالى
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ
( ما ) يحتمل أن يكون مصدرية معناه الإيعاد صادق و ( إن ) تكون موصولة أي الذي توعدون صادق والصادق معناه ذو صدق كعيشة راضية ووصف المصدر بما يوصف به الفاعل بالمصدر فيه إفادة مبالغة فكما أن من قال فلان لطف محض وحلم يجب أن يكون قد بالغ كذلك من قال كلام صادق وبرهان قاهر للخصم أو غير ذلك يكون قد بالغ والوجه فيه هو أنه إذا قال هو لطف بدل قوله لطيف فكأنه قال اللطيف شيء له لطف ففي اللطيف لطف وشيء آخر فأراد أن يبين كثرة اللطف فجعله كله لطفاً وفي الثاني لما كان الصدق يقوم بالمتكلم بسبب كلامه فكأنه قال هذا الكلام لا يحوج إلى شيء آخر حتى يصح إطلاق الصادق عليه بل هو كاف في إطلاق الصادق لكونه سبباً قوياً وقوله تعالى تُوعَدُونَ يحتمل أن يكون من وعد ويحتمل أن يكون من أوعد والثاني هو الحق لأن اليمين مع المنكر بوعيد لا بوعد وقوله تعالى
وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ
أي الجزاء كائن وعلى هذا فالإبعاد بالحشر في الموعد هو الحساب والجزاء هو العقاب فكأنه بيّن بقوله إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ أن الحساب يستوفي والعقاب يوفى ثم قال تعالى
وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ
وفي تفسيره مباحث(28/169)
الأول وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ قيل الطرائق وعلى هذا فيحتمل أن يكون المراد طرائق الكواكب وممراتها كما يقال في المحابك ويحتمل أن يكون المراد ما في السماء من الأشكال بسبب النجوم فإن في سمت كواكبها طريق التنين والعقرب والنسر الذي يقول به أصحاب الصور ومنطقة الجوزاء وغير ذلك كالطرائق وعلى هذا فالمراد به السماء المزينة بزينة الكواكب ومثله قوله تعالى وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ( البروج 1 ) وقيل حبكها صفاقها يقال في الثوب الصفيق حسن الحبك وعلى هذا فهو كقوله تعالى وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ ( الطارق 11 ) لشدتها وقوتها وهذا ما قيل فيه
البحث الثاني في المقسم عليه وهو قوله تعالى إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ وفي تفسيره أقوال مختلفة كلها محكمة الأول إنكم لفي قول مختلف في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تارة يقولون إنه أمين وأخرى إنه كاذب وتارة تنسبونه إلى الجنون وتارة تقولون إنه كاهن وشاعر وساحر وهذا محتمل لكنه ضعيف إذ لا حاجة إلى اليمين على هذا لأنهم كانوا يقولون ذلك من غير إنكار حتى يؤكد بيمين الثاني إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ أي غير ثابتين على أمر ومن لا يثبت على قول لا يكون متيقناً في اعتقاده فيكون كأنه قال تعالى والسماء إنكم غير جازمين في اعتقادكم وإنما تظهرون الجزم لشدة عنادكم وعلى هذا القول فيه فائدة وهي أنهم لما قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنك تعلم أنك غير صادق في قولك وإنما تجادل ونحن نعجز عن الجدل قال وَالذرِيَاتِ ذَرْواً أي أنك صادق ولست معانداً ثم قال تعالى بل أنتم والله جازمون بأني صادق فعكس الأمر عليهم الثالث إنك لفي قول مختلف أي متناقض أما في الحشر فلأنكم تقولون لا حشر ولا حياة بعد الموت ثم تقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة فإذا كان لا حياة بعد الموت ولا شعور للميت فماذا يصيب آباءكم إذا خالفتموهم وإنما يصح هذا ممن يقولون بأن بعد الموت عذاباً فلو علمنا شيئاً يكرهه الميت يبدي فلا معنى لقولكم إنا لا ننسب آباءنا بعد موتهم إلى الضلال وكيف وأنتم تربطون الركائب على قبور الأكابر وأما في التوحيد فتقولون خالق السماوات والأرض هو الله تعالى لا غيره ثم تقولون هو إلاه الآلهة وترجعون إلى الشرك وأما في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فتقولون إنه مجنون ثم تقولون له إنك تغلبنا بقوة جدلك والمجنون كيف يقدر على الكلام المنتظم المعجز إلى غير ذلك من الأمور المتناقضة ثم قال تعالى
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
وفيه وجوه أحدها أنه مدح للمؤمنين أي يؤفك عن القول المختلف ويصرف من صرف عن ذلك القول ويرشد إلى القول المستوي وثانيها أنه ذم معناه يؤفك عن الرسول ثالثها يؤفك عن القول بالحشر رابعها يؤفك عن القرآن وقرىء يؤفن عنه من أفن أي يحرم وقرىء يؤفك عنه من أفك أي كذب ثم قال تعالى
قُتِلَ الْخَرَاصُونَ
وهذا يدل على أن المراد من قوله لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( الذاريات 8 ) أنهم غير ثابتين على أمر وغير جازمين بل هم يظنون ويخرصون ومعناه لعن الخراصون دعاء عليهم بمكروه ثم وصفهم فقال
الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَة ٍ سَاهُونَ
وفيه مسألتان إحداهما لفظية والأخرى معنوية
أما اللفظية فقوله سَاهُونَ يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر والمبتدأ هو قوله هُمْ وتقديره هم(28/170)
كائنون في غمرة ساهون كما يقال زيد جاهل جائز لا على قصد وصف الجاهل بالجائز بل الإخبار بالوصفين عن زيد ويحتمل أن يكون سَاهُونَ خبراً و فِى غَمْرَة ٍ ظرف له كما يقال زيد في بيته قاعد يكون الخبر هو القاعد لا غير وفي بيته لبيان ظرف القعود كذلك فِى غَمْرَة ٍ لبيان ظرف السهو الذي يصحح وصف المعرفة بالجملة ولولاها لما جاز وصف المعرفة بالجملة
وأما المعنوية فهي أن وصف الخراص بالسهو والانهماك في الباطل يحقق ذلك كون الخراص صفة ذم وذلك لأن ما لا سبيل إليه إلا الظن إذا خرص الخارص وأطلق عليه الخراص لا يكون ذلك مفيد نقص كما يقال في خراص الفواكه والعساكر وغير ذلك وأما الخرص في محل المعرفة واليقين فهو ذم فقال قتل الخراصون الذين هم جاهلون ساهلون لا الذين تعين طريقهم في التخمين والحزر وقوله تعالى سَاهُونَ بعد قوله فِى غَمْرَة ٍ يفيد أنهم وقعوا في جهل وباطل ونسوا أنفسهم يه فلم يرجعوا عنه ثم قال تعالى
يَسْألُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ
فإن قيل الزمان يجعل ظرف الأفعال ولا يمكن أن يكون الزمان ظرفاً لظرف آخر وههنا جعل أيان ظرف اليوم فقال أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ويقال متى يقدم زيد فيقال يوم الجمعة ولا يقال متى يوم الجمعة فالجواب التقدير متى يكون يوم الجمعة وأيان يكون يوم الدين وأيان من المركبات ركب من أي التي يقع بها الاستفهان وآن التي هي الزمان أو من أي وأوان فكأنه قال أي أوان فلما ركب بني وهذا منهم جواب لقوله وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ فكأنهم قالوا أيان يقع استهزاء وترك المسؤول في قوله يُسْئَلُونَ حيث لم يقل يسألون من يدل على أن غرضهم ليس بالجواب وإنما يسألون استهزاء وقوله تعالى
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ
يحتمل وجهين أحدهما أن يكون جواباً عن قولهم أَيَّانَ يقع وحينئذ كما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب لحصول العلم كذلك لم يجبهم جواب مجيب معلم مبين حيث قال يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ وجهلهم بالثاني أقوى من جهلهم بالأول ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى فإذا قال قائل متى يقدم زيد فلو قال المجيب يوم يقدم رفيقه ولا يعلم يوم قدوم الرفيق لا يصح هذا الجواب إلا إذا كان الكلام في صورة جواب ولا يكون جواباً كما أن القائل إذا قال كم تعد عداتي تخلفها إلى متى هذا الإخلاف فيغضب ويقول إلى أشأم يوم عليك الكلامان في صورة سؤال وجواب ولا الأول يريد به السؤال ولا الثاني يريد به الجواب فكذلك ههنا قال يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ مقابلة استهزائهم بالإيعاد لا على وجه الإتيان والثاني أن يكون ذلك ابتداء كلام تمامه في قوله تعالى
ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
فإن قيل هذا يفضي إلى الإضمار نقول الإضمار لا بد منه لأن قوله ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ غير متصل بما قبله إلا بإضمار يقال ويفتنون قيل معناه يحرقون والأولى أن يقال معناه يعرضون على النار عرض المجرب الذهب على النار كلمة على تناسب ذلك ولو كان المراد يحرقون لكان بالنار أو في النار أليق لأن الفتنة هي التجربة وأما ما يقال من اختبره ومن أنه تجربة الحجارة فعنى بذلك المعنى مصدر الفتن وههنا يقال ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ والفتنة الامتحان فإن قيل فإذا جعلت يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ مقولاً لهم ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ فما قوله هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ(28/171)
قلنا يحتمل أن يكون المراد كنتم تستعجلون بصريح القول كما في قوله تعالى حكاية عنهم رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا ( ص 16 ) وقوله فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ( الأعراف 70 ) إلى غير ذلك يدله عليه ههنا قوله تعالى يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ( الذاريات 12 ) فإنه نوع استعجال ويحتمل أن يكون المراد الاستعجال بالفعل وهو الإصرار على العنار وإظهار الفساد فإنه يعجل العقوبة ثم قال تعالى
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
بعد بيان حال المغترين المجرمين بين حال المحق المتقي وفيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا أن المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك وأعلاها أن يتقي ما سوى الله وأدنى درجات المتقي الجنة فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة فيرزق نعيمها
المسألة الثانية الجنة تارة وحدها كما قال تعالى مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ( الرعد 35 ) وأخرى جمعها كما في هذا المقام قال إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وتارة ثناها فقال تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) فما الحكمة فيه نقول أما الجنة عند التوحيد فلأنها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة وأما حكمة الجمع فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إلى جنانها جنات لا يحصرها عدد وأما التثنية فسنذكرها في سورة الرحمن غير أنا نقول ههنا الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة وكذلك عند الشراء حيث قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ ( التوبة 111 ) وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة والخلاف ما لو وعد بجنات ثم كان يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود الثالثة قوله تعالى وَعُيُونٍ يقتضي أن يكون المتقي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماء أو غير ذلك من المائعات نقول معناه في خلال العيون وذلك بين الأنهار بدليل أن قوله تعالى فِي جَنَّاتِ ليس معناه إلا بين جنات وفي خلالها لأن الجنة هي الأشجار وإنما يكون بينها كذلك القول في العيون والتنكير مع أنها معرفة للتعظيم يقال فلان رجل أي عظيم في الرجولية
ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
وقوله تعالى ءاخِذِينَ مَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ فيه مسائل ولطائف أما المسائل
فالأولى منها ما معنى آخذين نقول فيه وجهان أحدهما قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له ثانيها آخذين قابلين قبول راض كما قال تعالى وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ( التوبة 104 ) أي يقبلها وهذا ذكره الزمخشري وفيه وجه ثالث وهو أن قوله فِي جَنَّاتِ يدل على السكنى فحسب وقوله ءاخِذِينَ يدل على التملك ولذا يقال أخذ بلاد كذا وقلعة كذا إذا دخلها متملكاً لها وكذلك يقال لمن اشترى داراً أو بستاناً أخذه بثمن قليل أي تملكه وإن لم يكن هناك قبض حساً ولا قبول برضا وحينئذ فائته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعير أو ضعف يسترد منه ذلك بل هو ملكه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله تعالى وقوله ءاتَاهُمُ يكون لبيان أن أخذهم ذلك لم يكن عنوة وفتوحاً وإنما كان(28/172)
بإعطاء الله تعالى وعلى هذا الوجه مَا راجعة إلى الجنّات والعيون
وقوله إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ إشارة إلى ثمنها أي أخذوها وملكوها بالإحسان كما قال تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) بلام الملك وهي الجنة
المسألة الثانية ءاخِذِينَ حال وهو في معنى قول القائل يأخذون فكيف قال ما آتاهم ولم يقل ما يؤتيهم ليتفق اللفظان ويوافق المعنى لأن قوله ءاتَاهُمُ ينبىء عن الانقراض وقوله يُؤْتِيهِمْ تنبيه على الدوام وإيتاء الله في الجنة كل يوم متجدد ولا نهاية له ولا سيما إذا فسرنا الأخذ بالقبول كيف يصح أن يقال فلان يقبل اليوم ما آتاه زيد أمس نقول أما على ما ذكرنا من التفسير لا يرد لأن معناه يتملكون ما أعطاهم وقد يوجد الإعطاء أمس ويتملكاليوم وأما على ما ذكروه فنقول الله تعالى أعطى المؤمن الجنة وهو في الدنيا غير أنه لم يكن جنى ثمارها فهو يدخلها على هيئة الآخذ وربما يأخذ خيراً مما أتاه ولا ينافي ذلك كونه داخلاً على تلك الهيئة يقول القائل جئتك خائفاً فإذا أنا آمن وما ذكرتم إنما يلزم أن لو كان أخذهم مقتصراً على ما آتاهم من قبل وليس كذلك وإنما هم دخلوها على ذلك ولم يخطر ببالهم غيره فيؤتيهم الله ما لم يخطر ببالهم فيأخذون ما يؤتيهم الله وإن دخلوها ليأخذوا ما آتاهم وقوله تعالى إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ هو أخذهم ما آتاهم وقد ذكرناه في سورة ي س ( 55 )
المسألة الثالثة ذالِكَ إشارة إلى ماذا نقول يحتمل وجهين أحدهما قبل دخولهم لأن قولهتعالى فِي جَنَّاتِ فيه معنى الدخول يعني قبل دخولهم الجنة أحسنوا ثانيهما قبل إيتاء الله ما آتاهم الحسنى وهي الجنة فأخذوها وفيه وجوه أُخر وهو أن ذلك إشارة إلى يوم الدين وقد تقدم وأما اللطائف فقد سبق بعضها ومنها أن قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ لما كان إشارة إلى التقوى من الشرك كان كأنه قال الذين آمنا لكن الإيمان مع العمل الصالح يفيد سعادتين ولذلك دلالة أتم من قول القائل أنهم أحسنوا اللطيفة الثانية أما التقوى فلأنه لما قال لا إلاه فقد اتقى الشرك وأما الإحسان فلأنه لما قال إلا الله فقد أتى بالإحسان ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى إنها لا إلاه إلا الله وفي الإحسان قال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ( فصلت 33 ) وقيل في تفسير هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ ( الرحمن 60 ) إن الإحسان هو الإتيان بكلمة لا إلاه إلا الله وهما حينئذ لا يتفاصلان بل هما متلازمان وقوله تعالى
كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
كالتفسير لكونهم محسنين تقول حاتم كان سخياً كان يبذل موجوده ولا يترك مجهوده وفيه مباحث
الأول قللاً منصوب على الظرف تقديره يهجعون قليلاً تقول قام بعض الليل فتنصب بعض على الظرف وخبر كان هو قوله مَا يَهْجَعُونَ و ( ما ) زائدة هذا هو المشهور وفيه وجه آخر وهو أن يقال كانوا قليلاً معناه نفي النوم عنهم وهذا منقول عن الضحاك ومقاتل وأنكر الزمخشري كون ما نافية وقال لا يجوز أن تكون نافية لأن بعد ما لا يعمل فيما قبلها لا تقول زيداً ما ضربت ويجوز أن يعمل ما بعد لم فيما تقول زيداً لم أضرب وسبب ذلك هو أن الفعل المتعدي إنما يفعل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت ضرب زيد عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو فإذا قلت ما ضربه لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه لكن المنفي محمول على الإثبات فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عمل(28/173)
الفعل لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل فلا تقول زيد ضارب عمراً أمس وتقول زيد ضارب عمراً غداً واليوم والآن لأن الماضي لم يبق موجوداً ولا متوقع الوجود فلا يتعلق بالمفعول حقيقة لكن الفعل لقوته يعمل واسم الفاعل لضعفه لم يعمل إذا عرفت هذا فنقول ما ضرب للنفي في المضي فاجتمع فيه النفي والمضي فضعف وأما لم أضرب وإن كان يقلب المستقبل إلى الماضي لكن الصيغة صيغة المستقبل فوجد فيه ما يوجد في قول القائل زيد ضارب عمراً غداً فاعمل هذا بيان قوله غير أن القائل بذلك القول يقول قَلِيلاً ليس منصوباً بقوله يَهْجَعُونَ وإنما ذلك خبر كانوا أي كانوا قليلين ثم قال وَمِنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ أي ما يهجعون أصلاً بل يحيون الليل جميعه ومن يكون لبيان الجنس لا للتبعيض وهذا الوجه حينئذ فيه معنى قوله تعالى قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ ( ص 24 ) وذلك لأنا ذكرنا أن قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ ( الذاريات 16 ) فيه معنى الذين آمنوا وقوله مُحْسِنِينَ فيه معئنى الذين عملوا الصالحات وقوله كَانُواْ قَلِيلاً فيه معنى قوله تعالى وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ
البحث الثاني على القول المشهور وهو أن ما زائدة يحتمل أن يكون قليلاً صفة مصدر تقديره يهجعون هجوعاً قليلاً
البحث الثالث يمكن أن يقال قَلِيلاً منصوب على أنه خبر كان و ( ما ) مصدرية تقديره كان هجوعهم من الليل قليلاً كما يقال كان زيد خلقه حسناً فلا يحتاج إلى القول بزيادة واعلم أن النحاة لا يقولون فيه إنه بدل فيفرقون بين قول القائل زيد حسن وجهه أو الوجه وبين قوله زيد وجهه حسن فيقولون في الأول صفة وفي الثاني بدل ونحن حيث قلنا إنه من باب بدل الاشتمال أردنا به معنى لا اصطلاحاً وإلا فقليلاً عند التقديم ليس في النحو مثله عند التأخير حتى قولك فلان قليل هجوعه ليس ببدل وفلان هجوعه قليل بدل وعلى هذا يمكن أن تكون ما موصولة معناه كان ما يهجعون فيه قليلاً من الليل هذا ما يتعلق باللفظ أما ما يتعلق بالمعنى فنقول تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في أواخر الآيات بل فيه فائدتان الأولى هي أن الهجوع راحة لهم وكان المقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى فلو قال كانوا يهجعون كان المذكور أولاً راحتهم ثم يصفه بالقلة وربما يغفل الإنسان السامع عما بعد الكلام فيقول إحسانهم وكونهم محسنين بسبب أنهم يهجعون وإذا قدم قوله قَلِيلاً يكون السابق إلى الفهم قلة الهجوع وهذه الفائدة من يراعيها يقول فلان قليل الهجوع ولا يقول هجوعه قليل لأن الغرض بيان قلة الهجوع لا بيان الهجوع بوصف القلة أو الكثرة فإن الهجوع لو لم يكن لكان نفي القلة أولى ولا كذلك قلة الهجوع لأنها لو لم تكن لكان بدلها الكثرة في الظاهر
الفائدة الثانية في قوله تعالى مِّنَ الَّيْلِ وذلك لأن النوم القليل بالنهار قد يوجد من كل أحد وأما الليل فهو زمان النوم لا يسهره في الطاعة إلا متعبد مقبل فإن قيل الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً لا يقال له الهجوع قلنا ذكر الأمر العام وإرادة التخصيص حسن فنقول رأيت حيواناً ناطقاً فصيحاً وذكر الخاص وإرادة العام لا يحسن إلا في بعض المواضع فلا نقول رأيت فصيحاً ناطقاً حيواناً إذا عرفت هذا فنقول في قوله تعالى كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده كانوا من الليل يسبحون ويستغفرون أو يسهرون أو غير ذلك فإذا قال يهجعون فكأنه خصص ذلك العام المحتمل له ولغيره فلا إشكال فيه(28/174)
ثم قال تعالى
وَبِالاٌّ سْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ويستغفرون من التقصير وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به
وفيه وجه آخر ألطف منه وهو أنه تعالى لما بيّن أنهم يهجعون قليلاً والهجوع مقتضى الطبع قال يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل وفيه لطيفة أخرى تنبيهاً في جواب سؤال وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر وما قال كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون فما الحكمة فيه مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد لا الهجوع نقول إشارة إلى أن نومهم عبادة حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلاً وذلك الهجوع أورثهم لاشتغال بعبادة أخرى وهو الاستغفار في وجوه الأسحار ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار وفيه مباحث
البحث الأول في الباء فإنها استعملت للظرف ههنا وهي ليست للظرف نقول قال بعض النحاة إن حروف الجر ينوب بعضها مناب بعض يقال في الظرف خرجت لعشر بقين وبالليل وفي شهر رمضان فيستعمل اللام والباء وفي وكذلك في المكان نقول أقمت بالمدينة كذا وفيها ورأيته ببلدة كذا وفيها فإن قيل ما التحقيق فيه نقول الحروف لها معاني مختلفة كما أن الأسماء والأفعال كذلك غير أن الحروف غير مستقلة بإفادة المعنى والاسم والفعل مستقلان لكن بين بعض الحروف وبعضها تناف وتباعد كما في الأسماء والأفعال فإن البيت والمسكن مختلفان متفاوتان وكذلك سكن ومكث ولا كذلك كل اسمين يفرض أو كل فعلين يوجد إذا عرفت هذا فنقول بين الباء واللام وفي مشاركة أما الباء فإنها للإلصاق والمتمكن في مكان ملتصق به متصل وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان فإذا قال سار بالنهار معناه ذهب ذهاباً متصلاً بالنهار وكذا قوله تعالى وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي استغفاراً متصلاً بالأسحار مقترناً بها لأن الكائن فيها مقترناً بها فإن قيل فهل يكون بينهما في المعنى تفاوت نقول نعم وذلك لأن من قال قمت بالليل واستغفر بالأسحار أخبر عن الأمرين وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله قمت في الليل لأنه يستدعي احتواش الزمان بالفعل وكذلك قول القائل أقمت ببلد كذا لا يفيد أنه كان محاطاً بالبلد وقوله أقمت فيها يدل على إحاطتها به فإذن قول القائل أقمت بالبلدة ودعوت بالأسحار أعم من قوله قمت فيه لأن القائم فيه قائم به والقائم به ليس قائماً فيه من كل بد إذا علمت هذا فقوله تعالى وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إشارة إلى أنهم لا يخلون وقتاً عن العبادة فإنهم بالليل لا يهجعون ومع أول جزء من السحر يستغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب لأنهم وقت الانتباه في الأسحار لم يخلو الوقت للذنب فإن قيل زدنا بياناً فإن من الأزمان أزماناً لا تجعل ظروفاً بالباء فلا يقال خرجت بيوم الجمعة ويقال بفي نقول إن كل فعل جار في زمان فهو متصل به فالخروج يوم الجمعة متصل مقترن بذلك الزمان ولم يستعمل خرجت بيوم الجمعة نقول الفارق بينهما الإطلاق والتقييد بدليل أنك إن قلت خرجت بنهارنا وبليلة الجمعة لم يحسن ولو قلت خرجت بيوم(28/175)
سعد وخرج هو بيوم نحس حسن فالنهار والليل لما لم يكن فيهما خصوص وتقييد جاز استعمال الباء فيهما فإذا قيدتهما وخصصتهما زال ذلك الجواز ويوم الجمعة لما كان فيه خصوص لم يجز استعمال الباء وحيث زال الخصوص بالتنكير وقلت خرت بيوم كذا عاد الجواز والسر فيه أن مثل يوم الجمعة وهذه الساعة وتلك الليلة وجد فيها أمر غير الزمان وهو خصوصيات وخصوصية الشيء في الحقيقة أمور كثيرة غير محصورة عند العاقل على وجه التفصيل لكنها محصورة على الإجمال مثاله إذا قلت هذا الرجل فالعام فيه هو الرجل ثم إنك لو قلت الرجل الطويل ما كان يصير مخصصاً لكنه يقرب من الخصوص ويخرج من القصار فإن قلت العالم لم يصر مخصصاً لكنه يخرج عن الجهال فإذا قلت الزاهد فكذلك فإذا قلت ابن عمرو خرج عن أبناء زيد وبكر وخالد وغيرهم فإذا قلت هذا يتناول تلك المخصصات التي بأجمعها لا تجتمع إلا في ذلك فإذن الزمان المتعين فيه أمور غير الزمان والفعل حدث مقترن بزمان لا ناشىء عن الزمان وأما في فصحيح لأن ما حصل في العام فهو في الخاص لأن العام أمر داخل في الخاص وأما في فيدخل في الذي فيه الشيء فصح أن يقال في يوم الجمعة وفي هذه الساعة وأما بحث اللام فنؤخره إلى موضعه وقد تقدم بعضه في تفسير قوله تعالى وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ( ي س 38 ) وقوله هُمْ غير خال عن فائدة قال الزمخشري فائدته انحصار المستغفرين أي لكمالهم في الاستغفار كأن غيرهم ليس بمستغفر فهم المستغفرون لا غير يقال فلان هو العالم لكماله في العلم كأنه تفرد به وهو جيد ولكن فيه فائدة أخرى وهي أن الله تعالى لما عطف وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ على قوله كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ( الذاريات 17 ) فلو لم يؤكد معنى الإثبات بكلمة هُمْ لصلح أن يكون معناه وبالأسحار قليلاً ما يستغفرون تقول فلان قليلاً ما يؤذي وإلى الناس يحسن قد يفهم أنه قليل الإيذاء قليل الإحسان فإذا قلت قليلاً ما يؤذي وهو يحسن زال ذلك الفهم وظهر فيه معنى قوله قليل الإيذاء كثير الإحسان والاستغفار يحتمل وجوهاً أحدها طلب المغفرة بالذكر بقولهم ربنا اغفر لنا الثاني طلب المغفرة بالفعل أي بالأسحار يأتون بفعل آخر طلباً للغفران وهو الصلاة أو غيرها من العبادات الثالث وهو أغربها الاستغفار من باب استحصد الزرع إذا جاء أوان حصاده فكأنهم بالأسحار يستحقون المغفرة ويأتيهم أوان المغفرة فإن قيل فالله لم يؤخر مغفرتهم إلى السحر نقول وقت السحر تجتمع ملائكة الليل والنهار وهو الوقت المشهود فيقول الله على ملأ منهم إني غفرت لعبدي والأول أظهر والثاني عند المفسرين أشهر ثم قال تعالى
وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ
وقد ذكرنا مراراً أن الله تعالى بعد ذكر تعظيم نفسه يذكر الشفقة على خلقه ولا شك أن قليل الهجوع المستغفر في وجوه الأسحار وجد منه التعظيم العظيم فأشار إلى الشفقة بقوله وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ وفيه مسائل
المسألة الأولى أضاف المال إليهم وقال في مواضع أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله ( ي س 47 ) وقال وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( الشورى 38 ) نقول سببه أن في تلك المواضع كان الذكر للحث فذكر معه ما يدفع الحث ويرفع المانع فقال هو رزق الله والله يزرقكم فلا تخافوا الفقر وأعطوا وأما ههنا فمدح على ما فعلوه فلم يكن إلى(28/176)
الحرص حاجة
المسألة الثانية المشهور في الحق أنه هو القدر الذي علم شرعاً وهو الزكاة وحينئذ لا يبقى هذا صفة مدح لأن كون المسلم في ماله حق وهو الزكاة ليس صفة مدح لأن كل مسلم كذلك بل الكافر إذا قلنا إنه مخاطب بفروع الإسلام في ماله حق معلوم غير أنه إذا أسلم سقط عنه وإن مات عوقب على تركه وإن أدى من غير الإسلام لا يقع الموقع فكيف يفهم كونه مدحاً نقول الجواب عنه من وجوه أحدها أنا نفسر بمن يطلب شرعاً والمحروم الذي لا مكنة له من الطلب ومنعه الشارع من المطالبة ثم إن المنع قد يكون لكون الطالب غير مستحق وقد يكون لكون المطلوب منه لم يبق عليه حق فلا يطالب فقال تعالى في ماله حق للطالب وهو الزكاة ولغير الطالب وهو الصدقة المتطوع بها فإن ذلك المالك لا يطالب بها ويحرم الطالب منه طلباً على سبيل الجزية والزكاة بل يسأل سؤالاً اختيارياً فيكون حينئذ كأنه قال في ماله زكاة وصدقة والصدقة في المال لا تكون إلا بفرضه هو ذلك وتقديره وإفرازه للفقراء والمساكين الجواب الثاني هو أن قوله وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ أي مالهم ظرف لحقوقهم فإن كلمة في للظرفية لكن الظرف لا يطلب إلا للمظروف فكأنه تعالى قال هم لا يطلبون المال ولا يجمعونه إلا ويجعلونه ظرفاً للحق ولا شك أن المطلوب من الظرف هو المظروف والظرف مالهم فجعل مالهم ظرفاً للحقوق ولا يكون فوق هذا مدح فإن قيل فلو قيل مالهم للسائل هل كان أبلغ قلنا لا وذلك لأن من يكون له أربعون ديناراً فتصدق بها لا تكون صدقته دائمة لكن إذا اجتهد واتجر وعاش سنين وأدى الزكاة والصدقة يكون مقدار المؤدى أكثر وهذا كما في الصلاة والصوم ولو أضعف واحد نفسه بهما حتى عجز عنهما لا يكون مثل من اقتصد فيهما وإليه الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ) وفي السائل والمحروم وجوه أحدها أن السائل هو الناطق وهو الآدمي والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحرومة قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لكل كبد حرى أجر ) وثانيها وهو الأظهر والأشهر أن السائل هو الذي يسأل والمحروم المتعفف الذي يحسبه بعض الناس غنياً فلا يعطيه شيئاً والأول كقوله تعالى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ( طه 54 ) والثاني كقوله وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ( الحج 36 ) فالقانع كالمحروم فإن قيل على الوجه الأول الترتيب في غاية الحسن فإن دفع حاجة الناطق مقدم على دفع حاجة البهائم فما وجه الترتيب في الوجه الثاني نقول فيه وجهان أحدهما أن السائل اندفاع حاجته قبل اندفاع حاجة المحروم في الوجود لأنه يعرف حاله بمقاله ويطلب لقلة ماله فيقدم بدفع حاجته والمحروم غير معلوم فلا تندفع حاجته إلا بعد الاطلاع عليه فكان الذكر على الترتيب الواقع وثانيهما هو أن ذلك إشارة إلى كثرة العطاء فيقول يعطي السائل فإذا لم يجدهم يسأل هو عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً الثالث هو أن المحاسن اللفظية غير مهجورة في الكلام الحكمي فإن قول القائل إن رجوعهم إلينا وعلينا حسابهم ليس كقوله تعالى إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ( الغاشية 26 ) والكلام له جسم وهو اللفظ وله روح وهو المعنى وكما أن الإنسان الذي نور روحه بالمعرفة ينبغي أن ينور جسمه الظاهر بالنظافة كذلك الكلام ورب كلمة حكمية لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها إذا عرفت هذا فقوله وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أحسن من حيث اللفظ من قولنا وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للمحروم والسائل فإن قيل قدم السائل على المحروم ههنا لما ذكرت من الوجوه ولم قدم المحروم على السائل في قوله الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ(28/177)
لأن القانع هو الذي لا يسأل وَالْمُعْتَرَّ السائل نقول قد قيل إن القانع هو السائل والمعتر الذي لا يسأل فلا فرق بين الموضعين وقيل بأن القانع والمعتر كلاهما لا يسأل لكن القانع لا يتعرض ولا يخرج من بيته والمعتر يتعرض للأخذ بالسلام والتردد ولا يسأل وقيل بأن القانع لا يسأل والمعتر يسأل فعلى هذا فلحم البدنة يفرق من غير مطالبة ساع أو مستحق مطالبة جزية والزكاة لها طالب وسائل هو الساعي والإمام فقوله لَّلسَّائِلِ إشارة إلى الزكاة وقوله وَالْمَحْرُومِ أي الممنوع إشارة إلى الصدقة المتطوع بها واحدهما قبل الأخرى بخلاف إعطاء اللحم ثم قال تعالى
وَفِى الأرض ءَايَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ
وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون متعلقاً بقوله إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ تدلهم على أن الحشر كائن كما قال تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَاشِعَة ً إلى أن قال إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا فَانظُرْ إِلَى ( فصلت 39 ) وثانيهما أن يكون متعلقاً بأفعال المتقين فإنهم خافوا الله فعظموه فأظهروا الشفقة على عباده وكان لهم آيات في الأرض وفي أنفسهم على إصابتهم الحق في ذلك فإن من يكون له في الأرض الآيات العجيبة يكون له القدرة التامة فيخشى ويتقى ومن له من أنفس الناس حكم بالغة ونعم سابغة يستحق أن يعبد ويترك الهجوع لعبادته وإذا قابل العبد العبادة بالنعمة يجدها دون حد الشكر فيستغفر على التقصير وإذا علم أن الرزق من السماء لا يبخل بماله فالآيات الثلاثة المتأخرة فيها تقرير ما تقدم وعلى هذا فقوله تعالى فَوَرَبّ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( الذاريات 23 ) يكون عود الكلام بعد اعتراض الكلام الأول أقوى وأظهر وفيه مسائل
المسألة الأولى كيف خصص الموقنين بكون الآيات لهم مع أن الآيات حاصلة للكل قال تعالى وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ الْمَيْتَة ُ أَحْيَيْنَاهَا ( ي س 33 ) نقول قد ذكرنا أن اليمين آخر ما يأتي به المبرهن وذلك لأنه أولاً يأتي بالبرهان فإن صدق فذلك وإن لم يصدق لا بد له من أن ينسبه الخصم إلى إصرار على الباطل لأنه إذا لم يقدر على قدح فيه ولم يصدقه يعترف له بقوة الجدل وينسبه إلى المكابرة فيتعين طريقه في اليمين فإذا آيات الأرض لم تفدهم لأن اليمين بقوله وَالذرِيَاتِ ذَرْواً ( الذاريات 1 ) دلت على سبق إقامة البينات وذكر الآيات ولم يفد فقال فيها وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ وإن لم يحصل للمصر المعاند منها فائدة وأما في سورة ي س وغيرها من الموانع التي جعل فيها آيات الأرض للعامة لم يحصل فيها اليمين وذكر الآيات قبله فجاز أن يقال إن الأرض آيات لمن ينظر فيها الجواب الثاني وهو الأصح أن هنا الآيات بالفعل والاعتبار للمؤمنين أي حصل ذلك لهم وحيث قال لكل معناه إن فيها آيات لهم إن نظروا وتأملوا
المسألة الثانية ههنا قال وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ وقال هناك وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ ( ي س 33 ) نقول لما جعل الآية لّلْمُوقِنِينَ ذكر بلفظ الجمع لأن الموقن لا يغفل عن الله تعالى في حال ويرى في كل شيء آيات دالة وأما الغافل فلا يتنبه إلا بأمور كثيرة فيكون الكل له كالآية الواحدة(28/178)
وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
إشارة إلى دليل الأنفس وهو كقوله تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) وإنما اختار من دلائل الآفاق ما في الأرض لظهورها لمن على ظهورها فإن في أطرافها وأكنافها ما لا يمكن عد أصنافها فدليل الأنفس في قوله وَفِى أَنفُسِكُمْ عام ويحتمل أن يكون مع المؤمنين وإنما أتى بصيغة الخطاب لأنها أظهر لكون علم الإنسان بما في نفسه أتم وقوله تعالى وَفِى أَنفُسِكُمْ يحتمل أن يكون المراد وفيكم يقال الحجارة في نفسها صلبة ولا يراد بها النفس التي هي منبع الحياة والحس والحركات ويحتمل أن يكون المراد وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات وقوله أَفلاَ تُبْصِرُونَ بالاستفهام إشارة إلى ظهورها
وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ
وقوله تعالى وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ فيه وجوه أحدها في السحاب المطر ثانيها فِى السَّمَاء رَزَقَكُمُ مكتوب ثالثها تقدير الأرزاق كلها من السماء ولولاه لما حصل في الأرض حبة قوت وفي الآيات الثلاث ترتيب حسن وذلك لأن الإنسان له أمور يحتاج إليها لا بد من سبقها حتى يوجد هو في نفسه وأمور تقارنه في الوجود وأمور تلحقه وتوجد بعده ليبقى بها فالأرض هي المكان وإليه يحتاج الإنسان ولا بد من سبقها فقال وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ ثم في نفس الإنسان أمور من الأجسام والأعراض فقال وَفِى أَنفُسِكُمْ ثم بقاؤه بالرزق فقال وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ ولولا السماء لما كان للناس البقاء
وقوله تعالى وَمَا تُوعَدُونَ فيه وجوه أحدها الجنة الموعود بها لأنها في السماء ثانيها هو من الإيعاد لأن البناء للمفعول من أوعد يوعد أي وما توعدون إما من الجنة والنار في قوله تعالى يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ ( الذاريات 13 ) وقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ ( الذاريات 15 ) فيكون إيعاداً عاماً وأما من العذاب وحينئذ يكون الخطاب مع الكفار فيكون كأنه تعالى قال وفي الأرض آيات للموقنين كافية وأما أنتم أيها الكافرون ففي أنفسكم آيات هي أظهر الآيات وتكفرون لها لحطام الدنيا وحب الرياسة وفي السماء الأرزاق فلو نظرتم وتأملتم حق التأمل لما تركتم الحق لأجل الرزق فإنه واصل بكل طريق ولاجتنبتم الباطل اتقاء لما توعدون من العذاب النازل ثم قال تعالى
فَوَرَبِّ السَّمَآءِ والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ
وفي المقسم عليه وجوه أحدها مَّا تُوعَدُونَ أي ما توعدون لحق يؤيده قوله تعالى إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( الذاريات 5 ) وعلى هذا يعود كل ما قلناه من وجوه مَّا تُوعَدُونَ إن قلنا إن ذلك هو الجنة فالمقسم عليه هو هي ثانيها الضمير راجع إلى القرآن أي أن القرآن حق وفيما ذكرناه في قوله تعالى يُؤْفَكُ عَنْهُ ( الذاريات 9 ) دليل هذه وعلى هذا فقوله مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ معناه تكلم به الملك النازل من عند الله به مثل ما أنكم تتكلمون وسندكره ثالثها أنه راجع إلى الدين كما في قوله تعالى وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ( الذاريات 6 ) رابعها أنه راجع إلى اليوم المذكور في قوله أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ( الذاريات 12 ) يدل عليه وصف الله اليوم بالحق في قوله تعالى ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ( النبأ 39 ) خامسها أنه راجع(28/179)
إلى القول الذي يقال هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( الذاريات 14 ) وفي التفسير مباحث
الأول الفاء تستدعي تعقيب أمر لأمر فما الأمر المتقدم نقول فيه وجهان أحدهما الدليل المتقدم كأنه تعالى يقول إن ما توعدون لحق بالبرهان المبين ثم بالقسم واليمين ثانيهما القسم المتقدم كأنه تعالى يقول وَالذرِيَاتِ ثم وَرَبُّ السَّمَاء والاْرْضِ وعلى هذا يكون الفاء حرف عطف أعيد معه حرف القسم كما يعاد الفعل إذ يصح أن يقال ومررت بعمرو فقوله وَالذرِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً ( الذاريات 1 2 ) عطف من غير إعادة حرف القسم وقوله فَوَرَبّ السَّمَاء مع إعادة حرفه والسبب فيه وقوع الفصل بين القسمين ويحتمل أن يقال الأمر المتقدم هو بيان الثواب في قوله يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( الذاريات 13 ) وقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ ( الذاريات 15 ) وفيه فائدة وهو أن الفاء تكون تنبيهاً على أن لا حاجة إلى اليمين مع ما تقدم من الكشف المبين فكأنه يقول ورب السماء والأرض إنه لحق كما يقول القائل بعدما يظهر دعواه هذا والله إن الأمر كما ذكرت فيؤكد قوله باليمين ويشير إلى ثبوته من غير يمين
البحث الثاني أقسم من قبل بالأمور الأرضية وهي الرياح وبالسماء في قوله وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ ( الذاريات 7 ) ولم يقسم بربها وههنا أقسم بربها نقول كذلك الترتيب يقسم المتكلم أولاً بالأدنى فإن لم يصدق به يرتقي إلى الأعلى ولهذا قال بعض الناس إذا قال قائل وحياتك والله لا يكفر وإذا قال والله وحياتك لا شك يكفر وهذا استشهاد وإن كان الأمر على خلاف ما قاله ذلك القائل لأن الكفر إما بالقلب أو باللفظ الظاهر في أمر القلب أو بالفعل الظاهر وما ذكره ليس بظاهر في تعظيم جانب غير الله والعجب من ذلك القائل أنه لا يجعل التأخير في الذكر مفيداً للترتيب في الوضوء وغيره
البحث الثالث قرىء مثل بالرفع وحينئذ يكون وصفاً لقوله لحق ومثل وإن أضيف إلى المعرفة لا يخرجه عن جواز وصف المنكر به تقول رأيت رجلاً مثل عمرو لأنه لا يفيده تعريفاً لأنه في غاية الإبهام وقرىء مَثَلُ بالنصب ويحتمل وجهين أحدهما أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى ما هو ضعيف وإلا جاز أن يقال زيد قاتل من يعرفه أو ضارب من يشتمه ثانيهما أن يكون منصوباً على البيان تقديره لحق حقاً مثل ويحتمل أن يقال إنه منصوب على أنه صفة مصدر معلوم غير مذكور ووجهه أنا دللنا أن المراد من الضمير في قوله أَنَّهُ هو القرآن فكأنه قال إن القرآن لحق نطق به الملك نطقاً مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ وما مجرور لا شك فيه
ثم قال تعالى
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ
إشارة إلى تسلية قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين كون النبي عليه الصلاة والسلام على سنته في بعض الأشياء وإنذار لقومه بما جرى من الضيف ومن إنزال الحجارة على المذنبين المضلين وفيه مسائل
المسألة الأولى إذا كان المراد ما ذكرت من التسلية والإنذار فأي فائدة في حكاية الضيافة نقول ليكون ذلك إشارة إلى الفرج في حق الأنبياء والبلاء على الجهلة والأغبياء إذا جاءهم من حيث لا يحتسب(28/180)
قال الله تعالى فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ( الحشر 2 ) فلم يكن عند إبراهيم عليه السلام خبر من إنزال العذاب مع ارتفاع مكانته
المسألة الثانية كيف سماهم ضيفاً ولم يكونوا نقول لما حسبهم إبراهيم عليه السلام ضيفاً لم يكذبه الله تعالى في حسابه إكراماً له يقال في كلمات المحققين الصادق يكون ما يقول والصديق يقول ما يكون
المسألة الثالثة ضيف لفظ واحد والمكرمين جمع فكيف وصف الواحد بالجمع نقول الضيف يقع على القوم يقال قوم ضيف ولأنه مصدر فيكون كلفظ الرزق مصدراً وإنما وصفهم بالمكرمين إما لكونهم عباداً مكرمين كما قال تعالى بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( الأنبياء 26 ) وإما لإكرام إبراهيم عليه السلام إياهم فإن قيل بماذا أكرمهم قلنا ببشاشة الوجه أولاً وبالإجلاس في أحسن المواضع وألطفها ثانياً وتعجيل القرى ثالثاً وبعد التكليف للضيف بالأكل والجلوس وكانوا عدة من الملائكة في قول ثلاثة جبريل وميكائيل وثالث وفي قول عشرة وفي آخر اثنا عشرة
المسألة الرابعة هم أرسلوا للعذاب بدليل قولهم إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( الذاريات 32 ) وهم لم يكونوا من قوم إبراهيم عليه السلام وإنما كانوا من قوم لوط فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم عليه السلام نقول فيه حكمة بالغة وبيانها من وجهين أحدهما أن إبراهيم عليه السلام شيخ المرسلين وكان لوط من قومه ومن إكرام الملك للذي في عهدته وتحت طاعته إذا كان يرسل رسول إلى غيره يقول له اعبر على فلان الملك وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه وثانيهما هو أن الله تعالى لما قدر أن يهلك قوماً كثيراً وجماً غفيراً وكان ذلك مما يحزن إبراهيم عليه السلام شفقة منه على عباده قال لهم بشروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف ما يهلك ويكون من صلبه خروج الأنبياء عليهم السلام ثم قال تعالى
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما العامل في إذ فيه وجوه أحدها ما في المكرمين من الإشارة إلى الفعل إن قلنا وصفهم بكونهم مكرمين بناء على أن إبراهيم عليه السلام أكرمهم فيكون كأنه تعالى يقول أكرموا إذ دخلوا وهذا من شأن الكريم أن يكرم ضيفه وقت الدخول ثانيها ما في الضيف من الدلالة على الفعل لأنا قلنا إن الضيف مصدر فيكون كأنه يقول أضافهم إذ دخلوا وثالثها يحتمل أن يكون العامل فيه أتاك تقديره ما أتاك حديثهم وقت دخولهم فاسمع الآن ذلك لأن هل ليس للاستفهام في هذا الموضع حقيقة بل للإعلام وهذا أولى لأنه فعل مصرّح به ويحتمل أن يقال اذكر إذ دخلوا
المسألة الثانية لماذا اختلف إعراب السلامين في القراءة المشهورة نقول نبين أولاً وجوه النصب والرفع ثم نبيّن وجوه الاختلاف في الإعراب أما النصب فيحتمل وجوهاً
أحدها أن يكون المراد من السلام هو التحية وهو المشهور ونصبه حينئذ على المصدر تقديره نسلم سلاماً ثانيها هو أن يكون السلام نوعاً من أنواع الكلام وهو كلام سلم به المتكلم من أن يلغو أو يأثم(28/181)
فكأنهم لما دخلوا عليه فقالوا حسناً سلموا من الإثم وحينئذ يكون مفعولاً للقول لأن مفعول القول هو الكلام يقال قال فلان كلاماً ولا يكون هذا من باب ضربه سوطاً لأن المضروب هناك ليس هو السوط وههنا القول هو الكلام فسره قوله تعالى وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) وقوله تعالى قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ( الواقعة 21 )
ثالثها أن يكون مفعول فعل محذوف تقديره نبلغك سلاماً لا يقال على هذا إن المراد لو كان ذلك لعلم كونهم رسل الله عند السلام فما كان يقول قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ولا كان يقرب إليهم الطعام ولما قال نَكِرَهُمْ ( هود 70 ) لأنا نقول جاز أن يقال إنهم قالوا نبلغك سلاماً ولم يقولوا من الله تعالى إلى أن سألهم إبراهيم عليه السلام ممن تبلغون لي السلام وذلك لأن الحكيم لا يأتي بالأمر العظيم إلا بالتدريج فلما كانت هيبتهم عظيمة فلو ضموا إليه الأمر العظيم الذي هو السلام من الله تعالى لانزعج إبراهيم عليه السلام ثم إن إبراهيم عليه السلام اشتغل بإكرامهم عن سؤالهم وآخر السؤال إلى حين الفراغ فنكرهم بين السلام والسؤال عمن منه السلام هذا وجه النصب وأما الرفع فنقول يحتمل أن المراد منه السلام الذي هو التحية وهو المشهور أيضاً وحينئذ يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره سلام عليكم وكون المبتدأ نكرة يحتمل في قول القائل سلام عليكم وويل له أو خبر مبتدأ محذوف تقديره قال جوابه سلام ويحتمل أن يكون المراد قولاً يسلم به أو ينبىء عن السلامة فيكون خبر مبتدأ محذوف تقديره أمي سلام بمعنى مسالمة لا تعلق بيني وبينكم لأني لا أعرفكم أو يكون المبتدأ قولكم وتقديره قولكم سلام ينبىء عن السلامة وأنتم قوم منكرون فما خطبكم فإن الأمر أشكل عليَّ وهذا ما يحتمل أن يقال في النصب والرفع وأما الفرق فنقول أما على التفسير المشهور وهو أن السلام في الموضعين بمعنى التحية فنقول الفرق بينهما من حيث اللفظ ومن حيث المعنى
أما من حيث اللفظ فنقول سلام عليك إنما جوز واستحسن لكونه مبتدأ وهو نكرة من حيث إنه كالمتروك على أصله لأن الأصل أن يكون منصوباً على تقدير أسلم سلاماً وعليك يكون لبيان من أريد بالسلام ولا يكون لعليك حظ من المعنى غير ذلك البيان فيكون كالخارج عن الكلام والكلام التام أسلم سلاماً كما أنك تقول ضربت زيداً على السطح يكون على السطح خارجاً عن الفعل والفاعل والمفعول لبيان مجرد الظرفية فإذا كان الأمر كذلك وكان السلام والأدعية كثير الوقوع قالوا نعدل عن الجملة الفعلية إلى الإسمية ونجعل لعليك حظاً في الكلام فنقول سلام عليك فتصير عليك لفائدة لا بد منها وهي الخبرية ويترك السلام نكرة كما كان حال النصب إذا علم هذا فالنصب أصل والرفع مأخوذ منه والأصل مقدم على المأخوذ منه فقال بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قدم الأصل على المتفرع منه
وأما من حيث المعنى فذلك لأن إبراهيم عليه السلام أراد أن يرد عليهم بالأحسن فأتى بالجملة الإسمية فإنها أدل على الدوام والاستمرار فإن قولنا جلس زيد لا ينبىء عنه لأن الفعل لا بد فيه من الإنباء عن التجدد والحدوث ولهذا لو قلت الله موجود الآن لأثبت العقل الدوام إذ لا ينبىء عن التجدد ولو قال قائل وجد الله الآن لكاد ينكره العاقل لما بينا فلما قالوا سلاماً قال سلام عليكم مستمر دائم وأما على قولنا المراد القول ذو السلامة فظاهر الفرق فإنهم قالوا قولاً ذا سلام وقال لهم إبراهيم عليه السلام(28/182)
سلام أي قولكم ذو سلام وأنتم قوم منكرون فالتبس الأمر عليّ وإن قلنا المراد أمر مسالمة ومتاركة وهم سلموا عليه تسليماً فنقول فيه جمع بين أمرين تعظيم جانب الله ورعاية قلب عباد الله فإنه لو قال سلام عليكم وهو لم يعلم كونهم من عباد الله الصالحين كان يجوز أن يكونوا على غير ذلك فيكون الرسول قد أمنهم فإن السلام أمان وأمان الرسول أمان المرسل فيكون فاعلاً للأمر من غير إذن الله نيابة عن الله فقال أنتم سلمتم عليّ وأنا متوقف أمري متاركة لا تعلق بيننا إلى أن يتبين الحال ويدل على هذا هو أن الله تعالى قال وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) وقال في مثل هذا المعنى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ( الزخرف 89 ) ولم يقل قل سلاماً وذلك لأن الأخيار المذكورين في القرآن لو سلموا على الجاهلين لا يكون ذلك سبباً لحرمة التعرض إليهم وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لو سلم عليهم لصار ذلك سبباً لحرمة التعرض إليهم فقال قل سلام أي أمري معكم متاركة تركناه إلى أن يأتي أمر الله بأمر وأما على قولنا بمعنى نبلغ سلاماً فنقول هم لما قالوا نبلغك سلاماً ولم يعلم إبراهيم عليه السلام أنه ممن قال سلام أي إن كان من الله فإن هذا منه قد ازداد به شرفي وإلا فقد بلغني منه سلام وبه شرفي ولا أتشرف بسلام غيره وهذا ما يمكن أن يقال فيه والله أعلم بمراده الأول والثاني عليهما الاعتماد فإنهما أقوى وقد قيل بهما
المسألة الثالثة قال في سورة هود فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ( هود 70 ) فدل على أن إنكارهم كان حاصلاً بعد تقريبه العجل منهم وقال ههنا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ثم قال تعالى
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ
بفاء التعقيب فدل على أن تقريب الطعام منهم بعد حصول الإنكار لهم فما الوجه فيه نقول جاز أن يحصل أولاً عنده منهم نكر ثم زاد عند إمساكهم والذي يدل على هذا هو أنهم كانوا على شكل وهيئة غير ما يكون عليه الناس وكانوا في أنفسهم عند كل أحد منكرين واشترك إبراهيم عليه السلام وغيره فيه ولهذا لم يقل أنكرتكم بل قال أنتم منكرون في أنفسكم عند كل أحد منا ثم إن إبراهيم عليه السلام تفرد بمشاهدة أمر منهم هو الإمساك فنكرهم فوق ما كان منهم بالنسبة إلى الكل لكن الحالة في سورة هود محكية على وجه أبسط مما ذكره ههنا فإن ههنا لم يبين المبشر به وهناك ذكر باسمه وهو إسحاق ولم يقل ههنا إن القوم قوم من وهناك قال قوم لوط وفي الجملة من يتأمل السورتين يعلم أن الحكاية محكية هناك على وجه الإضافة أبسط فذكر فيها النكتة الزائدة ولم يذكر ههنا ولنعد إلى بيان ما أتى به من آداب الإضافة وما أتوا به من آداب الضيافة فالإكرام أولاً ممن جاءه ضيف قبل أن يجتمع به ويسلم أحدهما على الآخر أنواع من الإكرام وهي اللقاء الحسن والخروج إليه والتهيؤ له ثم السلام من الضيف على الوجه الحسن الذي دل عليه النصب في قوله سَلاَماً إما لكونه مؤكداً بالمصدر أو لكونه مبلغاً ممن هو أعظم منه ثم الرد الحسن الذي دل عليه الرفع والإمساك عن الكلام لا يكون فيه وفاء إن إبراهيم عليه السلام لم يقل سلام عليكم بل قال أمري مسالمة أو قولكم سلام وسلامكم منكر فإن ذلك وإن كان مخلاً بالإكرام لكن العذر ليس من شيم الكرام ومودة أعداء الله لا تليق بالأنبياء عليهم السلام ثم تعجيل القرى الذي دل عليه قوله تعالى فَمَا لَبِثَ أَن جَاء ( هود 69 )(28/183)
وقوله ههنا فَرَاغَ فإن الروغان يدل على السرعة والروغ الذي بمعنى النظر الخفي أو الرواح المخفي أيضاً كذلك ثم الإخفاء فإن المضيف إذا أحضر شيئاً ينبغي أن يخفيه عن الضيف كي لا يمنعه من الإحضار بنفسه حيث راغ هو ولم يقل هاتوا وغيبة المضيف لحظة من الضيف مستحسن ليستريح ويأتي بدفع ما يحتاج إليه ويمنعه الحياء منه ثم اختيار الأجود بقوله سَمِينٍ ثم تقديم الطعام إليهم لا نقلهم إلى الطعام بقوله فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ لأن من قدم الطعام إلى قوم يكون كل واحد مستقراً في مقره لا يختلف عليه المكان فإن نقلهم إلى مكان الطعام ربما يحصل هناك اختلاف جلوس فيقرب الأدنى ويضيق على الأعلى ثم العرض لا الأمر حيث قال أَلا تَأْكُلُونَ ولم يقل كلوا ثم كون المضيف مسروراً بأكلهم غير مسرور بتركهم الطعام كما يوجد في بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاماً كثيراً ويكون نظره ونظر أهل بيته في الطعام متى يمسك الضيف يده عنه يدل عليه قوله تعالى
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة ً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ
ثم أدب الضيف أنه إذا أكل حفظ حق المؤاكلة يدل عليه أنه خافهم حيث لم يأكلوا ثم وجوب إظهار العدر عند الإمساك يدل عليه قوله لاَ تَخَفْ ثم تحسين العبارة في العذر وذلك لأن من يكون محتمياً وأحضر لديه الطعام فهناك أمران أحدهما أن الطعام لا يصلح له لكونه مضراً به الثاني كونه ضعيف القوة عن هضم ذلك الطعام فينبغي أن لا يقول الضيف هذا طعام غليظ لا يصلح لي بل الحسن أن يأتي بالعبارة الأخرى ويقول لي مانع من أكل الطعام وفي بيتي لا آكل أيضاً شيئاً يدل عليه قوله وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون ولم يقولوا لا يصلح لنا الطعام والشراب ثم أدب آخر في البشارة أن لا يخبر الإنسان بما يسره دفعة فإنه يورث مرضاً يدل عليه أنهم جلسوا واستأنس بهم إبراهيم عليه السلام ثم قالوا نبشرك ثم ذكروا أشرف النوعين وهو الذكر ولم يقتنعوا به حتى وصفوه بأحسن الأوصاف فإن الابن يكون دون البنت إذا كانت البنت كاملة الخلقة حسنة الخلق والابن بالضد ثم إنهم تركوا سائر الأوصاف من الحسن والجمال والقوة والسلامة واختاروا العلم إشارة إلى أن العلم رأس الأوصاف ورئيس النعوت وقد ذكرنا فائدة تقديم البشارة على الإخبار عن إهلاكهم قوم لوط ليعلم أن الله تعالى يهلكهم إلى خلف ويأتي ببدلهم خيراً منهم
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة ٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
ثم قال تعالى فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة ٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ يَوْمٍ عَقِيمٍ
أي أقبلت على أهلها وذلك لأنها كانت في خدمتهم فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل ولم يقل بلفظ الإدبار عن الملائكة وقوله تعالى فِى صَرَّة ٍ أي صيحة كما جرت عادة النساء حيث يسمعن شيئاً من أحوالهن يصحن صيحة معتادة(28/184)
لهن عند الاستحياء أو التعجب ويحتمل أن يقال تلك الصيحة كانت بقولها يا ويلتا تدل عليه الآية التي في سورة هود وصك الوجه أيضاً من عادتهن واستبعدت ذلك لوصفين من اجتماعهما أحدهما كبر السن والثاني العقم لأنها كانت لا تلد في صغر سنها وعنفوان شبابها ثم عجزت وأيست فاستبعدت فكأنها قالت يا ليتكم دعوتم دعاءً قريباً من الإجابة ظناً منها أن ذلك منهم كما يصدر من الضيف على سبيل الأخبار من الأدعية كقول الداعي الله يعطيك مالاً ويرزقك ولداً فقالوا هذا منا ليس بدعاء وإنما ذلك قول الله تعالى قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ثم دفعوا استبعادها بقولهم إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
وقد ذكرنا تفسيرهما مراراً فإن قيل لم قال ههنا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وقال في هود حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ( هود 73 ) نقول لما بينا أن الحكاية هناك أبسط فذكروا ما يدفع الاستبعاد بقولهم أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( هود 73 ) ثم لما صدقت أرشدوهم إلى القيام بشكر نعم الله وذكروهم بنعمته بقولهم حَمِيدٌ فإن الحميد هو الذي يتحقق منه الأفعال الحسنة وقولهم مَّجِيدٌ إشارة إلى أن الفائق العالي الهمة لا يحمده لفعله الجميل وإنما يحمده ويسبح له لنفسه وههنا لما لم يقولوا أَتَعْجَبِينَ إشارة إلى ما يدفع تعجبها من التنبيه على حكمه وعلمه وفيه لطيفة وهي أن هذا الترتيب مراعى في السورتين فالحميد يتعلق بالفعل والمجيد يتعلق بالقول وكذلك الحكيم هو الذي فعله كما ينبغي لعلمه قاصداً لذلك الوجه بخلاف من يتفق فعله موافقاً للمقصود اتفاقاً كمن ينقلب على جنبه فيقتل حية وهو نائم فائدة لا يقال له حكيم وأما إذا فعل فعلاً قاصداً لقتلها بحيث يسلم عن نهشها يقال له حكيم فيه والعليم راجع إلى الذات إشارة إلى أنه يستحق الحمد بمجده وإن لم يفعل فعلاً وهو قاصد لعلمه وإن لم يفعل على وفق القاصد ثم قال تعالى
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى لما علم حالهم بدليل قوله مُنكِرُونَ ( الذاريات 25 ) لِم لَم يقنع بما بشروه لجواز أن يكون نزولهم للبشارة لا غير نقول إبراهيم عليه السلام أتى بما هو من آداب المضيف حيق يقول لضيفه إذا استعجل في الخروج ما هذه العجلة وما شغلك الذي يمنعنا من التشرف بالاجتماع بك ولا يسكت عند خروجهم مخافة أن يكون سكوته يوهم استثقالهم ثم إنهم أتوا بما هو من آداب الصديق الذي لا يسر عن الصديق الصدوق لا سيما وكان ذلك بإذن الله تعالى لهم في إطلاع إبراهيم عليه السلام على إهلاكهم وجبر قلبه بتقديم البشارة بخير البدل وهو أبو الأنبياء إسحاق عليه السلام على الصحيح فإن قيل فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولو كان كما ذكرتم لقال ماهذا الاستعجال وما خطبكم المعجل لكم نقول لو كان أوجس منهم خيفة وخرجوا من غير بشارة وإيناس ما كان يقول شيئاً فلما آنسوه قال ما خطبكم أي بعد هذا الأنس العظيم ما هذا الإيحاش الأليم
المسألة الثانية هل في الخطب فائدة لا توجد في غيره من الألفاظ نقول نعم وذلك من حيث إن الألفاظ المفردة التي يقرب منها الشغل والأمر والفعل وأمثالها وكل ذلك لا يدل على عظم الأمر وأما الخطب فهو الأمر العظيم وعظم الشأن يدل على عظم من على يده ينقضي فقال مَا خَطْبُكُمَا أي لعظمتكم لا ترسلون إلا في عظيم ولو قال بلفظ مركب بأن يقول ما شغلكم الخطير وأمركم العظيم للزم التطويل فالخطب أفاد التعظيم مع الإيجاز(28/185)
المسألة الثالثة من أين عرف كونهم مرسلين فنقول قالوا له بدليل قوله تعالى إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ( هود 70 ) وإنما لم يذكر ههنا لما بينا أن الحكاية ببسطها مذكورة في سورة هود أو نقول لما قالوا لامرأته كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ( الذاريات 30 ) علم كونهم منزلين من عند الله حيث كانوا يحكون قول الله تعالى يدل على هذا أن قولهم إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ كان جواب سؤاله منهم
قَالُوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ
المسألة الرابعة هذه الحكاية بعينها هي المحكية في هود وهناك قالوا أَنَّا أَرْسَلْنَا ( هود 70 ) بعد ما زال عنه الروع وبشروه وهنا قالوا أَنَّا أَرْسَلْنَا بعدما سألهم عن الخطب وأيضاً قالوا هناك إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ( هود 70 ) وقالوا ههنا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ والحكاية من قولهم فإن لم يقولوا ذلك ورد السؤال أيضاً فنقول إذا قال قائل حاكياً عن زيد قال زيد عمرو خرج ثم يقول مرة أخرى قال زيد إن بكراً خرج فإما أن يكون صدر من زيد قولان وإما أن لا يكون حاكياً مما قاله زيد والجواب عن الأول هو أنه لما خاف جاز أنهم ما قالوا له لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ فلما قال لهم ماذا تفعلون بهم كان لهم أن يقولوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ لنهلكهم كما يقول القائل خرجت من البيت فيقال لماذا خرجت فيقول خرجت لأتجر لكن ههنا فائدة معنوية وهي أنهم إنما قالوا في جواب ما خطبكم نهلكهم بأمر الله لتعلم براءتهم عن إيلام البريء وإهمال الرديء فأعادوا لفظ الإرسال وأما عن الثاني نقول الحكاية قد تكون حكاية اللفظ كما تقول قال زيد بعمرو مررت فيحكي لفظه المحكي وقد يكون حكاية لكلامه بمعناه تقول زيد قال عمرو خرج ولك أن تبدل مرة أخرى في غير تلك الحكاية بلفظة أخرى فتقول لما قال زيد بكر خرج قلت كيت وكيت كذلك ههنا القرآن لفظ معجز وما صدر ممن تقدم نبينا عليه السلام سوا كان منهم وسواء كان منزلاً عليهم لم يكن لفظه معجزاً فيلزم أن لا تكون هذه الحكايات بتلك الألفاظ فكأنهم قالوا له إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ وقالوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وله أن يقول إنا أرسلنا إلى قوم من آمن بك لأنه لا يحكي لفظهم حتى يكون ذلك واحداً بل يحكي كلامهم بمعناه وله عبارات كثيرة ألا ترى أنه تعالى لما حكى لفظهم في السلام على أحد الوجوه في التفسير قال في الموضعين سلاماً وسلام ثم بيّن ما لأجله أرسلوا بقوله
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مِّن طِينٍ
وقد فسرنا ذلك في العنكبوت وقلنا إن ذلك دليل على وجوب الرمي بالحجارة على اللائط وفيه مسائل
المسألة الأولى أي حاجة إلى قوم من الملائكة وواحد منهم كان يقلب المدائن بريشة من جناحه نقول الملك القادر قد يأمر الحقير بإهلاك الرجل الخطير ويأمر الرجل الخطير بخدمة الشخص الحقير إظهاراً لنفاذ أمره فحيث أهلك الخلق الكثير بالقمل والجراد والبعوض بل بالريح التي بها الحياة كان أظهر في القدرة وحيث أمر آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم كان أظهر في نفاذ الأمر وفيه فائدة أخرى وهي أن من يكون تحت طاعة ملك عظيم ويظهر له عدو ويستعين بالملك فيعينه بأكابر عسكره يكون ذلك تعظيماً منه له وكلما كان العدو أكثر والمدد أوفر كان التعظيم أتم لكن الله تعالى أعان لوطاً بعشرة ونبينا عليه السلام بخمسة آلاف وبين العددين من التفاوت ما لا يخفى وقد ذكرنا نبذاً منه في تفسير قوله تعالى وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السَّمَاء ( ي س 28 )(28/186)
المسألة الثانية ما الفائدة في تأكيد الحجارة بكونها من طين نقول لأن بعض الناس يسمي البرد حجارة فقوله مِن طِينٍ يدفع ذلك التوهم واعلم أن بعض من يدعي النظر يقول لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدورات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة قالوا وسبب ذلك هو أن الإعصار يصعد الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق وصول ذلك إلى هواء ندي فيصير طيناً رطباً والرطب إذا نزل وتفرق واستدار بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كرات مدورات كاللآلىء الكبار ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو جعلته حجارة كالآجر المطبوخ فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عمارة بها فلا يرى ولا يدرى به ولهذا قال مِن طِينٍ لأن ما لا يكون من طين كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر وهذا تعسف ومن يكون كامل العقل يسند الفكر إلى مما قاله ذلك القائل فيقول ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر يلزم التسلسل ولا بد من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث فذلك المحدث لا بد وأن يكون فاعلاً مختاراً والمختار له أن يفعل ما ذكر وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار لكن العقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه يجب أخذه بالنقل والنص ورد به فأخذنا به ولا نعلم الكيفية وإنما المعلوم أن الحجارة التي من طين نزولها من السماء أغرب وأعجب من غيرها لأنها في العادة لا بد لها من مكث في النار
مُّسَوَّمَة ً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ
فيه وجوه أحدها مكتوب على كل واحد اسم واحد يقتل به ثانيها أنها خلقت باسمهم ولتعذيبهم بخلاف سائر الأحجار فإنها مخلوقة للانتفاع في الأبنية وغيرها ثالثها مرسلة للمجرمين لأن الإرسال يقال في السوائم يقال أرسلها لترعى فيجوز أن يقول سومها بمعنى أرسلها وبهذا يفسر قوله تعالى وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 ) إشارة إلى الاستغناء عنها وأنها ليست للركوب ليكون أدل على الغنى كما قال وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة ِ ( آل عمران 14 ) وقوله تعالى لِلْمُسْرِفِينَ إشارة إلى خلاف ما يقول الطبيعيون إن الحجارة إذا أصابت واحداً من الناس فذلك نوع من الاتفاق فإنها تنزل بطبعها يتفق شخص لها فتصيبه فقوله مُّسَوَّمَة ً أي في أول ما خلق وأرسل إذا علم هذا فإنما كان ذلك على قصد إهلاك المسرفين فإن قيل إذا كانت الحجارة مسومة للمسرفين فكيف قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ ( الذاريات 32 33 ) مع أن المسرف غير المجرم في اللغة نقول المجرم هو الآتي بالذنب العظيم لأن الجرم فيه دلالة على العظم ومنه جرم الشيء لعظمة مقداره والمسرف هو الآتي بالكبيرة ومن أسرف ولو في الصغائر يصير مجرماً لأن الصغير إلى الصغير إذا انضم صار كبيراً ومن أجرم فقد أسرف لأنه أتى بالكبيرة ولو دفعة واحدة فالوصفان اجتمعا فيهم لكن فيه لطيفة معنوية وهي أن الله تعالى سومها للمسرف المصر الذي لا يترك الجرم والعلم بالأمور المستقبلة عند الله تعالى يعلم أنهم مسرفون فأمر الملائكة بإرسالها عليهم وأما الملائكة فعلمهم تعلق بالحاضر وهم كانوا مجرمون فقالوا إنا أرسلنا إلى قوم نعلمهم مجرمين لنرسل عليهم حجارة خلقت لمن لا يؤمن ويصر ويسرف ولزم من هذا علمنا بأنهم لو عاشوا سنين لتمادوا في الإجرام فإن قيل اللام لتعريف الجنس أو لتعريف العهد نقول لتعريف العهد أي مسومة(28/187)
لهؤلاء المسرفين إذ ليس لكل مسرف حجارة مسومة فإن قيل ما إسرافهم نقول ما دل عليه قوله تعالى مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ ( العنكبوت 28 ) أي لم يبلغ مبلغكم أحد وقوله تعالى
فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
فيه فائدتان
إحداهما بيان القدرة والاختيار فإن من يقول بالاتفاق يقول يصيب البر والفاجر فلما ميز الله المجرم عن المحسن دل على الاختيار
ثانيها بيان أنه ببركة المحسن ينجو المسيء فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك والضمير عائد إلى القرية معلومة وإن لم تكن مذكورة وقوله تعالى
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ
فيه إشارة إلى أن الكفر إذا غلب والفسق إذا فشا لا تنفع معه عبادة المؤمنين بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون وقيل في مثاله إن العالم كبدن ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والكفار والفساق كالسموم الواردة عليه الضارة ثم إن البدن إن خلا عن المنافع وفيه المضار هلك وإن خلا عن المضار وفيه المنافع طاب عيشه ونما وإن وجد فيه كلاهما فالحكم للغالب فكذلك البلاد والعباد والدلالة على أن المسلم بمعنى المؤمن ظاهرة والحق أن المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه فإذا سمي المؤمن مسلماً لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه تعالى قال أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتاً من المسلمين ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين وهذا كما لو قال قائل لغيره من في البيت من الناس فيكول له ما في البيت من الحيوانات أحد غير زيد فيكون مخبراً له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد ثم قال تعالى
وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَة ً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ
وفي الآية خلاف قيل هو ماء أسود منتن انشقت أرضهم وخرج منها ذلك وقيل حجارة مرمية في ديارهم وهي بين الشام والحجاز وقوله لّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاْلِيمَ أي المنتفع بها هو الخائف كما قال تعالى لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( العنكبوت 45 ) في سورة العنكبوت وبينهما في اللفظ فرق قال ههنا ءايَة ً وقال هناك بَيّنَة ً لّقَوْمٍ وقال هناك لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وقال ههنا لّلَّذِينَ يَخَافُونَ فهل في المعنى فرق نقول هناك مذكور بأبلغ وجه يدل عليه قوله تعالى بَيّنَة ً لّقَوْمٍ حيث وصفها بالظهور وكذلك منها وفيها فإن من للتبعيض فكأنه تعالى قال من نفسها لكم آية باقية وكذلك قال لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإن العاقل أعم من الخائف فكانت الآية هناك أظهر وسببه ما ذكرنا أن القصد هناك تخويف القوم وههنا تسلية القلب ألا ترى إلى قوله تعالى فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ ( الذاريات 35 36 ) وقال هناك إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ( العنكبوت 33 ) من غير بيان وافٍ بنجاة المسلمين والمؤمنين بأسرهم(28/188)
ثم قال تعالى
وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
قوله وَفِى مُوسَى يحتمل أن يكون معطوفاً على معلوم ويحتمل أن يكون معطوفاً على مذكور أما الأول ففيه وجوه الأول أن يكون المراد ذلك في إبراهيم وفي موسى لأن من ذكر إبراهيم يعلم ذلك الثاني لقوم في لوط وقومه عبرة وفي موسى وفرعون الثالث أن يكون هناك معنى قوله تعالى تفكروا في إبراهيم ولوط وقومهما وفي موسى وفرعون والكل قريب بعضه من بعض وأما الثاني ففيه أيضاً وجوه أحدها أنه عطف على قوله وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ ( الذاريات 20 ) وَفِى مُوسَى وهو بعيد لبعده في الذكر ولعدم المناسبة بينهما ثانيها أنه عطف على قوله وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَة ً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ ( الذاريات 37 ) وَفِى مُوسَى أي وجعلنا في موسى على طريقة قولهم علفتها تبناً وماءً بارداً وتقلدت سيفاً ورمحاً وهو أقرب ولا يخلو عن تعسف إذا قلنا بما قال به بعض المفسرين إن الضمير في قوله تعالى وَتَرَكْنَا فِيهَا عائد إلى القرية ثالثها أن نقول فيها راجع إلى الحكاية فيكون التقدير وتركنا في حكايتهم آية أو في قصتهم فيكون وفي قصة موسى آية وهو قريب من الاحتمال الأول وهو العطف على المعلوم رابعها أن يكون عطفاً على هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ( الذاريات 24 ) وتقديره وفي موسى حديث إذ أرسلناه وهو مناسب إذ جمع الله كثيراً من ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام كما قال تعالى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى ( النجم 36 ) وقال تعالى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى ( الأعلى 19 ) والسلطان القوة بالحجة والبرهان والمبين الفارق وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون المراد منه ما كان معه من البراهين القاطعة التي حاج بها فرعون ويحتمل أن يكون المراد المعجز الفارق بين سحر الساحر وأمر المسلمين
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
قوله تعالى فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فيه وجوه الأول الباء للمصاحبة والركن إشارة إلى القوم كأنه تعالى يقول أعرض مع قومه يقال نزل فلان بعسكره على كذا ويدل على هذا الوجه قوله تعالى فَأَرَاهُ الاْيَة َ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ( النازعات 20 22 ) قال أَدْبَرَ وهو بمعنى تولى وقوله فَحَشَرَ فَنَادَى ( النازعات 23 ) وفي معنى قوله تعالى بِرُكْنِهِ الثاني فَتَوَلَّى أي اتخذ ولياً والباء للتعدية حينئذ يعني تقوى بجنده والثالث تولى أمر موسى بقوته كأنه قال أقتل موسى لئلا يبدل دينكم ولا يظهر في الأرض الفساد فتولى أمره بنفسه وحينئذ يكون المفعول غير مذكور وركنه هو نفسه القوية ويحتمل أن يكون المراد من ركنه هامان فإنه كان وزيره وعلى هذا الوجه الثاني أظهر
وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي هذا ساحر أو مجنون وقوله سَاحِرٌ أي يأتي الجن بسحره أو يقرب منهم والجن يقربون منه ويقصدونه إن كان هو لا يقصدهم فالساحر والمجنون كلاهما أمره مع الجن غير أن الساحر يأتيهم باختياره والمجنون يأتونه من غير اختياره فكأنه أراد صيانة كلامه عن الكذب فقال هو يسحر الجن أو يسحر فإن كان ليس عنده منه خبر ولا يقصد ذلك فالجن يأتونه ثم قال تعالى
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ
وهو إشارة إلى بعض ما أتى به كأنه يقول واتخذ الأولياء فلم ينفعوه وأخذه الله وأخذ أركانه وألقاهم جميعاً في اليم وهو البحر والحكاية(28/189)
مشهورة وقوله تعالى وهو مليم نقول فيه شرف موسى عليه السلام وبشارة للمؤمنين أما شرفه فلأنه قال بأنه أتى بما يلام عليه بمجرد قوله إني أُريد هلاك أعدائك يا إلاه العالمين فلم يكن له سبب إلا هذا أما فرعون فقال وهو مليم نقول فيه شرف موسى عليه السلام وبشارة للمؤمنين أما شرفه فلأنه قال بأنه أتى بما يلام عليه بمجرد قوله إني أُريد هلاك أعدائك يا إلاه العالمين فلم يكن له سبب إلا هذا أما فرعون فقال نقول فيه شرف موسى عليه السلام وبشارة للمؤمنين أما شرفه فلأنه قال بأنه أتى بما يلام عليه بمجرد قوله إني أُريد هلاك أعدائك يا إلاه العالمين فلم يكن له سبب إلا هذا أما فرعون فقال أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 ) فكان سببه تلك وهذا كما قال القائل فلان عيبه أنه سارق أو قاتل أو يعاشر الناس يؤذيهم وفلان عيبه أنه مشغول بنفسه لا يعاشر فتكون نسبة العيبين بعضهما إلى بعض سبباً لمدح أحدهما وذم الآخر وأما بشارة المؤمنين فهو بسبب أن من التقمه الحوت وهو مليم نجاه الله تعالى بتسبيحه ومن أهلكه الله بتعذيبه لم ينفعه إيمانه حين قال وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا إِسْراءيلَ ( يونس 90 ) ثم قال تعالى
وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ
وفيه ما ذكرنا من الوجوه التي ذكرناها في عطف موسى عليه السلام وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر أن المقصود ههنا تسلية قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتذكيره بحال الأنبياء ولم يذكر في عاد وثمود أنبياءهم كما ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام نقول في ذكر الآيات ست حكايات حكاية إبراهيم عليه السلام وبشارته وحكاية قوم لوط ونجاة من كان فيها من المؤمنين وحكاية موسى عليه السلام وفي هذه الحكايات الثلاث ذكر الرسل والمؤمنين لأن الناجين فيهم كانوا كثيرين أما في حق إبراهيم وموسى عليهما السلام فظاهر وأما في قوم لوط فلأن الناجين وإن كانوا أهل بيت واحد ولكن المهلكين كانوا أيضاً أهل بقعة واحدة
وأما عاد وثمود وقوم نوح فكان عدد المهلكين بالنسبة إلى الناجين أضعاف ما كان عدد المهلكين بالنسبة إلى الناجين من قوم لوط عليه السلام
فذكر الحكايات الثلاثَ الأول للتسلية بالنجاة وذكر الثلاث المتأخرة للتسلية بإهلاك العدو والكل مذكور للتسلية بدليل قوله تعالى في آخر هذه الآيات كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ إلى أن قال فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( الذاريات 54 55 )
وفي هود قال بعد الحكايات ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ إلى أن قال وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِى َ ظَالِمَة ٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( هود 100 102 ) فذكر بعدها ما يؤكد التهديد وذكر بعد الحكايات ههنا ما يفيد التسلي وقوله الْعَقِيمَ أي ليست من اللواقح لأنها كانت تكسر وتقلع فكيف كانت تلقح والفعيل لا يلحق به تاء التأنيث إذا كان بمعنى مفعول وكذلك إذا كان بمعنى فاعل في بعض الصور وقد ذكرنا سببه أن فعيل لما جاء للمفعول والفاعل جميعاً ولم يتميز المفعول عن الفاعل فأولى أن لا يتميز المؤنث عن المذكر فيه لأنه لو تميز لتميز الفاعل عن المفعول قبل تميز المؤنث والمذكر لأن الفاعل جزء من الكلام محتاج إليه فأول ما يحصل في الفعل الفاعل ثم التذكير والتأنيث يصير كالصفة للفاعل والمفعول تقول فاعل وفاعلة ومفعول ومفعولة ويدل على ذلك أيضاً أن التمييز بين الفاعل والمفعول جعل بحرف ممازج للكلمة فقيل فاعل بألف فاصلة بين الفاء والعين التي هي من أصل الكلمة وقيل مفعول بواو فاصلة بين العين واللام والتأنيث كان بحرف في آخر الكلمة فالمميز فيهما غير نظم الكلمة لشدة الحاجة وفي(28/190)
التأنيث لم يؤثر ولأن التمييز في الفاعل والمفعول كان بأمرين يختص كل واحد منهما بأحدهما فالألف بعد الفاء يختص بالفاعل والميم والواو يختص بالمفعول والتمييز في التذكير والتأنيث بحرف عند وجوده يميز المؤنث وعند عدمه يبقى اللفظ على أصل التذكير فإذا لم يكن فعيل يمتاز فيه الفاعل عن المفعول إلا بأمر منفصل كذلك المؤنث والمذكر لا يمتاز أحدهما عن الآخر إلا بحرف ير متصل به وقوله تعالى
مَا تَذَرُ مِن شَى ْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ
وفيه مباحث
الأول في إعرابه وفيه وجهان أحدهما نصب على أنه صفة الريح بعد صفة العقيم ذكر الواحدي أنه وصف فإن قيل كيف يكون وصفاً والمعرفة لا توصف بالجمل وما تذر جملة ولا يوصف بها إلا النكرات نقول الجواب فيه من وجهين أحدهما أنه يكون بإعادة الريح تقديراً كأنه يقول وأرسلنا عليهم الريح العقيم ريحاً ما تذر ثانيهما هو أن المعرف نكرة لأن تلك الريح منكرة كأنه يقول وأرسلنا الريح التي لم تكن من الرياح التي تقع ولا وقع مثلها فهي لشدتها منكرة ولهذا أكثر ما ذكرها في القرآن ذكرها منكرة ووصفها بالجملة من جملتها قوله تعالى بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( الأحقاف 24 ) وقوله رِيحٌ صَرْصَرٍ عَاتِيَة ٍ سَخَّرَهَا ( الحاقة 6 6 ) إلى غير ذلك الوجه الثاني وهو الأصح أنه نصب على الحال تقول جاءني ما يفهم شيئاً فعلمته وفهمته أي حاله كذا فإن قيل لم تكن حال الإرسال ما تذر والحال ينبغي أن يكون موجوداً مع ذي الحال وقت الفعل فلا يجوز أن يقال جاءني زيد أمس راكباً غداً والريح بعدما أرست بزمان صارت ما تذر شيئاً نقول المراد به البيان بالصلاحية أي أرسلناها وهي على قوة وصلاحية أن لا تذر نقول لمن جاء وأقام عندك أياماً ثم سألك شيئاً جئتني سائلاً أي قبل السؤال بالصلاحية والإمكان هذا إن قلنا إنه نصب وهو المشهور ويحتمل أنه رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي ما تذر
البحث الثاني مَا تَذَرُ للنفي حال التكلم يقال ما يخرج زيد أي الآن وإذا أردت المستقبل تقول لا يخرج أو لن يخرج وأما الماضي تقول ما خرج ولم يخرج والريح حالة الكلام مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت ما تركت شيئاً إلا جعلته كالرميم فكيف قال بلفظ الحالة مَا تَذَرُ نقول الحكاية مقدرة على أنها محكية حال الوقوع ولهذا قال تعالى وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ( الكهف 18 ) مع أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وإنما يعمل ما كان منه بمعنى الحال والاستقبال
البحث الثالث هل في قوله تعالى مَا تَذَرُ مِن شَى ْء أَتَتْ عَلَيْهِ مبالغة ودخول تخصيص كما في قوله تعالى تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء بِأَمْرِ رَبّهَا ( الأحقاف 25 ) نقول هو كما وقع لأن قوله أَتَتْ عَلَيْهِ وصف لقوله شَى ْء كأنه قال كل شيء أتت عليه أو كل شيء تأتي عليه جعلته كالرميم ولا يدخل فيه السموات لأنها ما أتت عليها وإنما يدخل فيه الأجسام التي تهب عليها الرياح فإن قيل فالجبال والصخور أتت عليها وما جعلتها كالرميم نقول المراد أتت عليه قصداً وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم وذلك لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة إياهم فما تركت شيئاً من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم مع أن الصر الريح الباردة والمكرر لا ينفك عن المعنى الذي في اللفظ من غير تكرير تقول حث وحثحث وفيه ما في حث نقول(28/191)
فيه قولان أحدهما أنها كانت باردة فكانت في أيام العجوز وهي ثمانية أيام من آخر شباط وأول آذار والريح الباردة من شدة بردها تحرق الأشجار والثمار وغيرهما وتسودهما والثاني أنها كانت حارة والصر هو الشديد لا البارد وبالشدة فسّر قوله تعالى فِى صَرَّة ٍ ( الذاريات 29 ) أي في شدة من الحر
البحث الرابع في قوله تعالى مَا تَذَرُ مِن شَى ْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ لأن في قوله تعالى مَا تَذَرُ نفي الترك مع إثبات الإتيان فكأنه تعالى قال تأتي على أشياء وما تتركها غير محرقة وقول القائل ما أتى على شيء إلا جعله كذا يكون نفي الإتيان عما لم يجعله كذلك
وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ
قوله تعالى وَفِى ثَمُودَ والبحث فيه وفي عاد هو ما تقدم في قوله تعالى وَفِى مُوسَى ( الذاريات 38 )
وقوله تعالى إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ قال بعض المفسرين المراد منه هو ما أمهلهم الله ثلاثة أيام بعد قتلهم الناقة وكانت في تلك الأيام تتغير ألوانهم فتصفر وجوههم وتسود وهو ضعيف لأن قوله تعالى فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ ( الذاريات 44 ) بحرف الفاء دليل على أن العتو كان بعد قوله تَمَتَّعُواْ فإن الظاهر أن المراد هو ما قدر الله للناس من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل يقول له تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فما لك في الآخرة من نصيب وقوله
فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ وَهُمْ يَنظُرُونَ
فيه بحث وهو أن عتا يستعمل بعلى قال تعالى أيهم أشد على الرحمن عتياً ( مريم 69 ) وههنا استعمل مع كلمة عن فنقول فيه معنى الاستعتاء فحيث قال تعالى أيهم أشد على الرحمن عتياً ( مريم 69 ) وههنا استعمل مع كلمة عن فنقول فيه معنى الاستعتاء فحيث قال تعالى ( مريم 69 ) وههنا استعمل مع كلمة عن فنقول فيه معنى الاستعتاء فحيث قال تعالى عَنْ أَمَرَهُمْ رَّبُّهُمْ كان كقوله لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأعراف 206 ) وحيث قال على كان كقول القائل فلان يتكبر علينا والصاعقة فيه وجهان ذكرناهما هنا أحدها أنها الواقعة والثاني الصوت الشديد وقوله وَهُمْ يَنظُرُونَ إشارة إلى أحد معنيين إما بمعنى تسليمهم وعدم قدرتهم على الدفع كما يقول القائل للمضروب يضربك فلان وأنت تنظر إشارة إلى أنه لا يدفع وإما بمعنى أن العذاب أتاهم لا على غفلة بل أنذروا به من قبل بثلاثة أيام وانتظروه ولو كان على غفلة لكان لمتوهم أن يتوهم أنهم أخذوا على غفلة أخذ العاجل المحتاج كما يقول المبارز الشجاع أخبرتك بقصدي إياك فانتظرني
فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ
وقوله تعالى فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ يحتمل وجهين أحدهما أنه لبيان عجزهم عن الهرب والفرار على سبيل المبالغة فإن من لا يقدر على قيام كيف يمشي فضلاً عن أن يهرب وعلى هذا فيه لطائف لفظية إحداها قوله تعالى فَمَا اسْتَطَاعُواْ فإن الاستطاعة دون القدرة لأن في الاستطاعة دلالة الطلب وهو ينبىء عن عدم القدرة والاستقلال فمن استطاع شيئاً كان دون من يقدر عليه ولهذا يقول المتكلمون الاستطاعة مع الفعل أو قبل الفعل إشارة إلى قدرة مطلوبه من الله تعالى مأخوذة منه وإليه الإشارة بقوله تعالى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ( المائدة 112 ) على قراءة من قرأ بالتاء وقوله فَمَا اسْتَطَاعُواْ أبلغ من قول القائل ما قدروا على قيام ثانيها قوله تعالى مِن قِيَامٍ بزيادة من وقد عرفت ما فيه من التأكيد ثالثها قوله قِيَامٍ بدل قوله هرب لما بينا أن العاجز عن القيام أولى أن يعجز عن الهرب الوجه الثاني هو أن المراد(28/192)
من قيام القيام بالأمر أي ما استطاعوا من قيام به
وقوله تعالى وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ أي ما استطاعوا الهزيمة والهرب ومن لا يقدر عليه يقاتل وينتصر بكل ما يمكنه لأنه يدفع عن الروح وهم مع ذلك ما كانوا منتصرين وقد عرفت أن قول القائل ما هو بمنتصر أبلغ من قوله ما انتصر ولا ينتصر والجواب ترك مع كونه يجب تقديره وقوله مَا انتَصَرَ أي لشيء من شأنه ذلك كما تقول فلان لا ينصر أو فلان ليس ينصر ثم قال تعالى
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
قرىء قَوْمٌ بالجر والنصب فما وجههما نقول أما الجر فظاهر عطفاً على ما تقدم في قوله تعالى وَفِى عَادٍ ( الذاريات 41 ) وَفِى مُوسَى ( الذاريات 38 ) تقول لك في فلان عبرة وفي فلان وفلان وأما النصب فعلى تقدير وأهلكنا قوم نوح من قبل لأن ما تقدم دلّ على الهلاك فهو عطف على المحل وعلى هذا فقوله مِن قَبْلُ معناه ظاهر كأنه يقول وَأَهْلَكْنَا قَوْمُ نُوحٍ مِن قَبْلُ وأما على الوجه الأول فتقديره وفي قوم نوح لكم عبرة من قبل ثمود وعاد وغيرهم ثم قال تعالى
وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
وهو بيان للوحدانية وما تقدم كان بياناً للحشر
وأما قوله ههنا وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وأنتم تعرفون أن ما تعبدون من دون الله ما خلقوا منها شيئاً فلا يصح الإشراك ويمكن أن يقال هذا عود بعد التهديد إلى إقامة الدليل وبناء السماء دليل على القدرة على خلق الأجسام ثانياً كما قال تعالى أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( ي س 81 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى النصب على شريطة التفسير يختار في مواضع وإذا كان العطف على جملة فعليه فما تلك الجملة نقول في بعض الوجوه التي ذكرناها في قوله تعالى وَفِى عَادٍ ( الذاريات 41 ) وَفِى ثَمُودَ ( الذاريات 43 ) تقديره وهل أتاك حديث عاد وهل أتاك حديث ثمود عطفاً على قوله هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( الذاريات 24 ) وعلى هذا يكون ما تقدم جملة فعلية لا خفاء فيه وعلى غير ذلك الوجه فالجار والمجرور النصب أقرب منه إلى الرفع فكان عطفاً على ما بالنصب أولى ولأن قوله تعالى فَنَبَذْنَاهُمْ ( الذاريات 40 ) وقوله أَرْسَلْنَا ( الذاريات 32 ) وقوله تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ ( الذاريات 44 ) و فَمَا اسْتَطَاعُواْ ( الذاريات 45 ) كلها فعليات فصار النصب مختاراً
المسألة الثانية كرر ذكر البناء في السماوات قال تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وقال تعالى أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ( النازعات 27 ) وقال تعالى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء ( غافر 65 ) فما الحكمة فيه نقول فيه وجوه أحدها أن البناء باق إلى قيام القيامة لم يسقط منه شيء ولم يعدم منه جزء وأما الأرض فهي في التبدل والتغير فهي كالفرش الذي يبسط ويطوي وينقل والسماء كالبناء المبني الثابت وإليه الإشارة بقوله تعالى سَبْعاً شِدَاداً ( النبأ 12 ) وأما الأراضي فكم منها ما صار بحراً وعاد أرضاً من وقت حدوثها ثانيها أن السماء ترى كالقبة المبنية فوق الرؤوس والأرض مبسوطة مدحوة والبناء بالمرفوع أليق كما قال تعالى رَفَعَ سَمْكَهَا ( النازعات 28 ) ثالثها قال بعض الحكماء السماء مسكن الأرواح والأرض(28/193)
موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناء والله أعلم
المسألة الثالثة الأصل تقديم العامل على المعمول والفعل هو العامل فقوله بُنْيَانًا عامل في السماء فما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال وبنينا السماء بأيد كان أوجز نقول الصانع قبل الصنع عند الناظر في المعرفة فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل فقال والسماء المزينة التي لا تشكون فيها بنيناها فاعرفونا بها إن كنتم لا تعرفوننا
المسألة الرابعة إذا كان المقصود إثبات التوحيد فكيف قال بَنَيْنَاهَا ولم يقل بنيتها أو بناها الله نقول قوله بُنْيَانًا أدل على عدم الشريك في التصرف والاستبداد وقوله بنيتها يمكن أن يكون فيه تشريك وتمام التقرير هو أن قوله تعالى بَنَيْنَاهَا لا يورث إيهاماً بأن الآلها التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها الضمير في بَنَيْنَاهَا لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صورها وطبائعها فأما الأصنام المنحوتة فلا يشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها وإنما يمكن أن يقال إنما بنيت لها وجعلت أماكنها فلما لم يتوهم ما قالوا قال بنينا نحن ونحن غير ما يقولون ويدعون فلا يصلحون لنا شركاء لأن كل ما هو غير السماء ودون السماء في المرتبة فلا يكون خالق السماء وبانيها فإذن علم أن المراد جمع التعظيم وأفاد النص عظمته فالعظمة أنفى للشريك فثبت أن قوله بَنَيْنَاهَا أدل على نفي الشريك من بنيتها وبناها الله
فإن قيل لم قلت إن الجمع يدل على التعظيم قلنا الجواب من الوجهين الأول أن الكلام على قدر فهم السامع والسامع هو الإنسان والإنسان يقيس الشاهد على الغائب فإن الكبير عندهم من يفعل الشيء بجنده وخدمه ولا يباشر بنفسه فيقول الملك فعلنا أي فعله عبادنا بأمرنا ويكون في ذلك تعظيم فكذلك في حق الغائب الوجه الآخر هو أن القول إذا وقع من واحد وكان الغير به راضياً يقول القائل فعلنا كلنا كذا وإذا اجتمع جمع على فعل لا يقع إلا بالبعض كما إذا خرج جم غفير وجمع كثير لقتل سبع وقتلوه يقال قتله أهل بلدة كذا لرضا الكل به وقصد الكل إليه إذا عرفت هذا فالله تعالى كيفما أمر بفعل شيء لا يكون لأحد رده وكان كل واحد منقاداً له يقول بدل فعلت فعلنا ولهذا الملك العظيم أجمعنا بحيث لا ينكره أحد ولا يرده نفس وقوله تعالى بِأَيْدٍ أي قوة والأيد القوة هذا هو المشهور وبه فسّر قوله تعالى ذَا الاْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( ص 17 ) يحتمل أن يقال إن المراد جمع اليد ودليله أنه قال تعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) وقال تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً ( ي س 71 ) وهو راجع في الحقيقة إلى المعنى الأول وعلى هذا فحيث قال خُلِقَتْ قال بِيَدَى َّ وحيث قال بِأَيْدٍ لمقابلة الجمع بالجمع فإن قيل فلم لم يقل بنيناها بأيدينا وقال وَمَا عَلَّمْتُمْ أَيْدِينَا نقول لفائدة جليلة وهي أن السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة لغير الله والأنعام ليست كذلك فقال هناك مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة وكذلك خَلَقْتُ بِيَدَى َّ وفي السماء بِأَيْدٍ من غير إضافة للاستغناء عنها وفيه لطيفة أخرى وهي أن هناك لما أثبت الإضافة بعد حذف الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته بيدي ولا قال عملته أيدينا وقال ههنا بَنَيْنَاهَا لأن هناك لم يخطر ببال أحد أن الإنسان غير مخلوق وأن الحيوان غير معمول فلم يقل خلقته ولا عملته وأما السماء فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة فقال بَنَيْنَاهَا بعود الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة(28/194)
وقوله تعالى وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ فيه وجوه أحدها أنه من السعة أي أوسعناها بحيث صارت الأرض وما يحيط به من الماء والهواء بالنسبة إلى السماء وسعتها كحلقة في فلاة والبناء الواسع الفضاء عجيب فإن القبة الواسعة لا يقدر عليها البناءون لأنهم يحتاجون إلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ويثبت بها تماسك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض ثانيها قوله وإنا لموسعون أي لقادرون ومنه قوله تعالى وإنا لموسعون أي لقادرون ومنه قوله تعالى أي لقادرون ومنه قوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) أي قدرتها والمناسبة حينئذ ظاهرة ويحتمل أن يقال بأن ذلك حينئذ إشارة إلى المقصود الآخر وهو الحشر كأنه يقول بنينا السماء وإنا لقادرون على أن نخلق أمثالها كما في قوله تعالى أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( ي س 81 ) ثالثها أَنَاْ لَمُوسِعُونَ الرزق على الخلق ثم قال تعالى
وَالاٌّرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ
استدلالاً بالأرض وقد علم ما في قوله وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا وفيه دليل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش وقوله تعالى فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ أي نحن أو فنعم الماهدون ماهدوها
وَمِن كُلِّ شَى ْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
ثم قال تعالى وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ استدلالاً بما بينهما والزوجان إما الضدان فإن الذكر والأنثى كالضدين والزوجان منهما كذلك وإما المتشاكلان فإن كل شيء له شبيه ونظير وضد وند قال المنطقيون المراد بالشيء الجنس وأقل ما يكون تحت الجنس نوعان فمن كل جنس خلق نوعين من الجوهر مثلاً المادي والمجرد ومن المادي النامي والجامد ومن النامي المدرك والنبات من المدرك للناطق والصامت وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه
وقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لعلّكم تذكرون أن خالق الأزواج لا يكون له زوج وإلا لكان ممكناً فيكون مخلوقاً ولا يكون خالقاً أو لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أن خالق الأزواج لا يعجز عن حشر الأجسام وجمع الأرواح ثم قال تعالى
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
أمر بالتوحيد وفيه لطائف الأولى قوله تعالى فَفِرُّواْ ينبىء عن سرعة الإهلاك كأنه يقول الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع فافزعوا إلى الله سريعاً وفروا الثانية قوله تعالى إِلَى اللَّهِ بيان المهروب إليه ولم يذكر الذي منه الهرب لأحد وجهين إما لكونه معلوماً وهو هول العذاب أو الشيطان الذي قال فيه إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ( فاطر 6 ) وإما ليكون عاماً كأنه يقول كل ما عدا الله عدوكم ففروا إليه من كل ما عداه وبيانه وهو أن كل ما عداه فإنه يتلف عليك رأس مالك الذي هو العمر ويفوت عليكم ما هو الحق والخير(28/195)
ومتلف رأس المال مفوت الكمال عدو وأما إذا فررت إلى الله وأقبلت على الله فهو يأخذ عمرك ولكن يرفع أمرك ويعطيك بقاء لا فناء معه والثالثة الفاء للترتيب معناه إذا ثبت أن خالق الزوجين فرد ففروا إليه واتركوا غيره تركاً مؤبداً الرابعة في تنوع الكلام فائدة وبيانها هو أن الله تعالى قال وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا ( الذاريات 47 ) وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا ( الذاريات 48 ) وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا ( الذاريات 49 ) ثم جعل الكلام للنبي عليه السلام وقال فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ولم يقل ففروا إلينا وذلك لأن لاختلاف الكلام تأثيراً وكذلك لاختلاف المتكلمين تأثيراً ولهذا يكثر الإنسان من النصائح مع ولده الذي حاد عن الجادة ويجعل الكلام مختلفاً نوعاً ترغيباً ونوعاً ترهيباً وتنبيهاً بالحكاية ثم يقول لغيره تكلم معه لعلّ كلامك ينفع لما في أذهان الناس أن اختلاف المتكلمين واختلاف الكلام كلاهما مؤثر والله تعالى ذكر أنواعاً من الكلام وكثيراً من الاستدلالات والآيات وذكر طرفاً صالحاً من الحكايات ثم ذكر كلاماً من متكلم آخر هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن المفسرين من يقول تقديره فقل لهم ففروا وقوله إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ إشارة إلى الرسالة
وفيه أيضاً لطائف إحداها أن الله تعالى بيّن عظمته بقوله وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا وهيبته بقوله فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ ( القصص 40 ) وقوله تعالى أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ ( الذاريات 48 ) وقوله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ ( النسا 153 ) وفيه إشارة إلى أنه تعالى إذا عذب قدر على أن يعذب بما به البقاء والوجود وهو التراب والماء والهواء والنار فحكايات لوط تدل على أن التراب الذي منه الوجود والبقاء إذا أراد الله جعله سبب الفناء والماء كذلك في قوم فرعون والهواء في عاد والنار في ثمود ولعلّ ترتيب الحكايات الأربع للترتيب الذي في العناصر الأربعة وقد ذكرنا في سورة العنكبوت شيئاً منه ثم إذا أبان عظمته وهيبته قال لرسوله عرفهم الحال وقل أنا رسول بتقديم الآيات وسرد الحكايات فلإردافه بذكر الرسول فائدة ثانيها في الرسالة أمور ثلاثة المرسل والرسول والمرسل إليه وههنا ذكر الكل فقوله لَكُمْ إشارة إلى المرسل إليهم وقوله مِنْهُ إشارة إلى المرسل وقوله نَّذِيرٍ بيان للرسول وقدم المرسل إليه في الذكر لأن المرسل إليه أدخل في أمر الرسالة لأن عنده يتم الأمر والملك لو لم يكن هناك من يخالفه أو يوافقه فيرسل إليه نذيراً أو بشيراً لا يرسل وإن كان ملكاً عظيماً وإذا حصل المخالف أو الموافق يرسل وإن كان غير عظيم ثم المرسل لأنه متعين وهو الباعث وأما الرسول فباختياره ولولا المرسل المتعين لما تمت الرسالة وأما الرسول فلا يتعين لأن للملك اختيار من يشاء من عباده فقال مِنْهُ ثم قال نَّذِيرٍ تأخيراً للرسول عن المرسل ثالثها قوله مُّبِينٌ إشارة إلى ما به تعرف الرسالة لأن كل حادث له سبب وعلامة فالرسول هو الذي به تتم الرسالة ولا بد له من علامة يعرف به فقوله فقوله مُّبِينٌ إشارة إليها وهي إما البرهان والمعجزة
وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ إِنِّء لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
ثم قال تعالى وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ إتماماً للتوحيد وذلك لأن التوحيد بين التعطيل والتشريك وطريقة التوحيد هي الطريقة فالمعطل يقول لا إلاه أصلاً والمشرك يقول في الوجود آلهة والموحد يقول قوله الاثنين باطل نفي الواحد باطل فقوله تعالى فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( الذاريات 50 ) أثبت وجود الله ولما قال وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ نفى الأكثر من الواحد فصح التوحيد بالآيتين ولهذا قال مرتين إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أي في المقامين والموضعين وقد ذكرنا مراراً أن المعطل إذا قال لا واجب يجعل الكل ممكناً فإن كل موجود ممكن ولكن الله في الحقيقة موجود فقد جعله في تضاعيف قوله كالممكنات فقد أشرك وجعل الله كغيره والمشرك لما قال بأن غيره إلاه يلزم من قوله نفي كون الإله إلاهاً لما ذكرنا في تقرير دلالة(28/196)
التمانع مع أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله للزم عجز كل واحد فلا يكون في الوجود إلاه أصلاً فيكون ناقياً للإلاهية فيكون معطلاً فالمعطل مشرك والمشرك معطل وكل واحد من الفريقين معترف بأن اسمه مبطل لكنه هو على مذهب خصمه يقول إنه نفسه مبطل وهو لا يعلم والحمد لله الذي هدانا وقوله وَلاَ تَجْعَلُواْ فيه لطيفة وهي أنه إشارة إلى أن الآلهة مجعولة لا يقال فالله متخذ لقوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ( المزمل 9 ) قلنا الجواب عنه الظاهر وقد سبق في قوله تعالى وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَة ً ( مريم 81 )
كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
والتفسير معلوم مما سبق وقد ذكرنا أنه يدل على أن ذكر الحكايات للتسلية غير أن فيه لطيفة واحدة لا نتركها وهي أن هذه الآية دليل على أن كل رسول كذب وحينئذ يرد عليه أسئلة الأول هو أنه من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله وبقي القوم على ما كانوا عليه كأنبياء بني إسرائيل مدة وكيف وآدم لما أرسل لم يكذب الثاني ما الحكمة في تقدير الله تكذيب الرسل ولم يرسل رسولاً مع كثرتهم واختلاف معجزاتهم بحيث يصدقه أهل زمانه الثالث قوله مَا أَتَى إِلاَّ قَالُواْ دليل على أنهم كلهم قالوا ساحر وليس كذلك لأنه ما من رسول إلا وآمن به قوم وهم ما قالوا ذلك والجواب عن الأول هو أن نقول أما المقرر فلا نسلم أنه رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو مكذبه أيضاً ضرورة وعن الثاني هو أن الله لا يرسل إلا عند حاجة الخلق وذلك عند ظهور الكفار في العلم ولا يظهر الكفر إلا عند كثرة الجهل ثم إن الله تعالى لا يرسل رسولاً مع كون الإيمان به ضرورياً وإلا لكان الإيمان به إيمان اليأس فلا يقبل والجاهل إذا لم يكن المبين له في غاية الوضوح لا يقبله فيبقى في ورطة الضلالة فهذا قدر لزم بقضاء الله على الخلق على هذا الوجه وقد ذكرنا مرة أخرى أن بعض الناس يقول كل ما هو قضاء الله فهو خير والشر في القدر فالله قضى بأن النار فيها مصلحة للناس لأنها نور ويجعلونها متاعاً في الأسفار وغيرها كما ذكر الله والماء فيه مصلحة الشرب لكن النار إنما تتم مصلحتها بالحرارة البالغة والماء بالسيلان القوي وكونهما كذلك يلزمهما بإجراء الله عادته عليهما أن يحرق ثوب الفقير ويغرق شاة المسكين فالمنفعة في القضاء والمضرة في القدر وهذا الكلام له غور والسنة أن نقول ( يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ) وعن الثالث أن ذلك ليس بعام فإنه لم يقل إلا قال كلهم وإنما قال إِلاَّ قَالُواْ ولما كان كثير منهم بل أكثرهم قائلين به قال الله تعالى إِلاَّ قَالُواْ فإن قيل فلم لم يذكر المصدقين كما ذكر المكذبين وقال إلا قال بعضهم صدقت وبعضهم كذبت نقول لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب فكأنه تعالى قال لا تأس على تكذيب قومك فإن أقواماً قبلك كذبوا ورسلاً كذبوا
أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
ثم قال تعالى أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أي بذلك القول وهو قولهم سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ومعناه التعجيب أي كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم تواطؤا عليه وقال بعضهم لبعض لا تقولوا إلا هذا ثم قال لم يكن ذلك على التواطؤ وإنما كان لمعنى جامع هو أن الكل أترفوا فاستغنوا فنسوا الله وطغوا فكذبوا رسله كما أن الملك إذا أمهل أهل بقعة ولم يكلفهم بشيء ثم قعد بعد مدة وطلبهم إلى بابه(28/197)
يصعب عليهم لاتخاذهم القصور والجنان وتحسين بلادهم من الوجوه الحسان فيحملهم ذلك على العصيان والقول بطاعة ملك آخر
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ
هذه تسلية أخرى وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان من كرم الأخلاق ينسب نفسه إلى تقصير ويقول إن عدم إيمانهم لتقصيري في التبليغ فيجتهد في الإنذار والتبليغ فقال تعالى قد أتيت بما عليك ولا يضرك التولي عنهم وكفرهم ليس لتقصير منك فلا تحزن فإنك لست بملوم بسبب التقصير وإنما هم الملومون بالإعراض والعناد
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
يعني ليس التولي مطلقاً بل تول وأقبل وأعرض وادع فلا التولي يضرك إذا كان عنهم ولا التذكير ينفع إلا إذا كان مع المؤمنين وفيه معنى آخر ألطف منه وهو أن الهادي إذا كانت هدايته نافعة يكون ثوابه أكثر فلما قال تعالى فَتَوَلَّ كان يقع لمتوهم أن يقول فحينئذ لا يكون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثواب عظيم فقل بلى وذلك لأن في المؤمنين كثرة فإذا ذكرتهم زاد هداهم وزيادة الهدى من قوله كزيادة القوم فإن قوماً كثيراً إذا صلّى كل واحد ركعة أو ركعتين وقوماً قليلاً إذا صلّى كل واحد ألف ركعة تكون العبادة في الكثرة كالعبادة عن زيادة العدد فالهادي له على عبادة كل مهتد أجر ولا ينقص أجر المهتدي قال تعالى إِنَّ لَكَ لاجْرًا ( القلم 3 ) أي وإن توليت بسبب انتفاع المؤمنين بل وحالة إعراضك عن المعاندين وقوله تعالى فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ يحتمل وجوهاً أحدها أن يراد قوة يقينهم كما قال تعالى لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً ( الفتح 4 ) وقال تعالى وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ ( التوبة 124 ) وقال تعالى زَادَهُمْ هُدًى وَءاتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ ( محمد 17 ) ثانيها تنفع المؤمنين الذين بعدك فكأنك إذا أكثرت التذكير بالتكرير نقل عنك ذلك بالتواتر فينتفع به من يجيء بعدك من المؤمنين ثالثها هو أن الذكرى إن أفاد إيمان كافر فقد نفع مؤمناً لأنه صار مؤمناً وإن لم يفد يوجد حسنة ويزاد في حسنة المؤمنين فينتفعوا وهذا هو الذي قيل في قوله تعالى تِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا ( الزخرف 72 )
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ
وهذه الآية فيها فوائد كثيرة ولنذكرها على وجه الاستقصاء فنقول أما تعلقها بما قبلها فلوجوه أحدها أنه تعالى لما قال وَذَكَرَ ( الذاريات 55 ) يعني أقصى غاية التذكير وهو أن الخلق ليس إلا للعبادة فالمقصود من إيجاد الإنسان العبادة فذكرهم به وأعلمهم أن كل ما عداه تضييع للزمان الثاني هو أنا ذكرنا مراراً أن شغل الأنبياء منحصر في أمرين عبادة الله وهداية الخلق فلما قال تعالى فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ( الذاريات 54 ) بين أن الهداية قد تسقط عند اليأس وعدم المهتدي وأما العبادة فهي لازمة والخلق المطلق لها وليس الخلق المطلق للهداية فما أنت بملوم إذا أتيت بالعبادة التي هي أصل إذا تركت الهداية بعد بذل الجهد فيها الثالث هو أنه لما بيّن حال من قبله من التكذيب ذكر هذه الآية ليبين سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله فما كان خلقهم إلا للعبادة وأما التفسير ففيه مسائل
المسألة الأولى الملائكة أيضاً من أصناف المكلفين ولم يذكرهم الله مع أن المنفعة الكبرى في إيجاده لهم هي العبادة ولهذا قال بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( الأنبياء 26 ) وقال تعالى لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأعراف 206 ) فما الحكمة فيه(28/198)
نقول الجواب عنه من وجوه الأول قد ذكرنا في بعض الوجوه أن تعلق الآية بما قبلها بيان قبح ما يفعله الكفرة من ترك ما خلقوا له وهذا مختص بالجن والإنس لأن الكفر في الجن أكثر والكافر منهم أكثر من المؤمن لما بينا أن المقصود بيان قبحهم وسوء صنيعهم الثاني هو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مبعوثاً إلى الجن فلما قال وذكرهم ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة خص أمته بالذكر أي ذكر الجن والإنس الثالث أن عباد الأصنام كانوا يقولون بأن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين فهم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله فقال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً بين القوم فذكر المتنازع فيه الرابع قيل الجن يتناول الملائكة لأن الجن أصله من الاستتار وهم مستترون عن الخلق وعلى هذا فتقديم الجن لدخول الملائكة فيهم وكونهم أكثر عبادة وأخصلها الخامس قال بعض الناس كلما ذكر الله الخلق كان فيه التقدير في الجرم والزمان قال تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ( الفرقان 59 ) وقال تعالى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ ( فصلت 9 ) وقال خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) إلى غير ذلك وما لم يكن ذكره بلفظ الأمر قال تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ي س 82 ) وقال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) وقال تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) والملائكة كالأرواح من عالم الأمر أوجدهم من غير مرور زمان فقوله وَمَا خَلَقْتُ إشارة إلى من هو من عالم الخلق فلا يدخل فيه الملائكة وهو باطل لقوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( غافر 62 ) فالملك من عالم الخلق
المسألة الثانية تقديم الجن على الإنس لأية حكمة نقول فيه وجوه الأول بعضها مر في المسألة الأولى الثاني هو أن العبادة سرية وجهرية وللسرية فضل على الجهرية لكن عبادة الجن سرية لا يدخلها الرياء العظيم وأما عبادة الإنس فيدخلها الرياء فإنه قد يعبد الله لأبناء جنسه وقد يعبد الله ليستخبر من الجن أو مخافة منهم ولا كذلك الجن
المسألة الثالثة فعل الله تعالى ليس لغرض وإلا لكان بالغرض مستكملاً وهو في نفسه كامل فكيف يفهم لأمر الله الغرض والعلة نقول المعتزلة تمسكوا به وقالوا أفعال الله تعالى لأغراض وبالغوا في الإنكار على منكري ذلك ونحن نقول فيه وجوه الأول أن التعليل لفظي ومعنوي واللفظي ما يطلق الناظر إليه اللفظ عليه وإن لم يكن له في الحقيقة مثاله إذا خرج ملك من بلاده ودخل بلاد العدو وكان في قلبه أن يتعب عسكر نفسه لا غير ففي المعنى المقصود ذلك وفي اللفظ لا يصح ولو قال هو أنا ما سافرت إلا لابتغاء أجر أو لأستفيد حسنة يقال هذا ليس بشيء ولا يصح عليه ولو قال قائل في مثل هذه الصورة خرج ليأخذ بلاد العدو وليرهبه لصدق فالتعليل اللفظي هو جعل المنفعة المعتبرة علة للفعل الذي فيه المنفعة يقال إتجر للربح وإن لم يكن في الحقيقة له إذا عرفت هذا فنقول الحقائق غير معلومة عند الناس والمفهوم من النصوص معانيها اللفظية لكن الشيء إذا كان فيه منفعة يصح التعليل بها لفظاً والنزاع في الحقيقة في اللفظ الثاني هو أن ذلك تقدير كالتمني والترجي في كلام الله تعالى وكأنه يقول العبادة عند الخلق شيء لو كان ذلك من أفعالكم لقلتم إنه لها كما قلنا في قوله تعالى لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ( طه 44 ) أي بحيث يصير تذكرة عندكم مرجواً وقوله عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ( الأعراف 129 ) أي يصير إهلاكه عندكم مرجواً تقولون إنه قرب الثاني هو أن اللام قد تثبت فيما لا يصح غرضاً كما في الوقت قال تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ(28/199)
( الإسراء 78 ) وقوله تعالى فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( الطلاق 1 ) والمراد المقارنة وكذلك في جميع الصور وحينئذ يكون معناه قرنت الخلق بالعبادة أي بفرض العبادة أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة والذي يدل على عدم جواز التعليل الحقيقي هو أن الله تعالى مستغن عن المنافع فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره لأن الله تعالى قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل فيكون توسط ذلك لا ليكون علة وإذا لزم القول بأن الله تعالى يفعل فعلاً هو لمتوسط لا لعلة لزمهم المسألة وأما النصوص فأكثر من أن تعد وهي على أنواع منها ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى يُضِلُّ مَن يَشَاء ( الرعد 27 ) وأمثاله ومنها ما يدل على أن الأشياء كلها بخلق الله كقوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الرعد 16 ) ومنها الصرايح التي تدل على عدم ذلك كقوله تعالى لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ( الأنبياء 23 ) وقوله تعالى وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء ( إبراهيم 27 ) يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ( المائدة 1 ) والاستقصاء مفوض فيه إلى المتكلم الأصولي لا إلى المفسر
المسألة الرابعة قال تعالى رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ ( الحجرات 13 ) وقال لِيَعْبُدُونِ فهل بينها اختلاف نقول ليس كذلك فإن الله تعالى علل جعلهم شعوباً بالتعارف وههنا علل خلقهم بالعبادة وقوله هناك أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) دليل على ما ذكره ههنا وموافق له لأنه إذا كان أتقى كان أعبد وأخلص عملاً فيكون المطلوب منه أتم في الوجود فيكون أكرم وأعز كالشيء الذي منفعته فائدة وبعض أفراده يكون أنفع في تلك الفائدة مثاله الماء إذا كان مخلوقاً للتطهير والشرب فالصافي منه أكثر فائدة في تلك المنفعة فيكون أشرف من ماء آخر فكذلك العبد الذي وجد فيه ما هو المطلوب منه على وجه أبلغ
المسألة الخامسة ما العبادة التي خلق الجن والإنس لها قلنا التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فإن هذين النوعين لم يخل شرع منهما وأما خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها بالوضع والهيئة والقلة والكثرة والزمان والمكان والشرائط والأركان ولما كان التعظيم اللائق بذي الجلال والإكرام لا يعلم عقلاً لزم اتباع الشرائع فيها والأخذ بقول الرسل عليهم السلام فقد أنعم الله على عباده بإرسال الرسل وإيضاح السبل في نوعي العبادة وقيل إن معناه ليعرفوني روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال عن ربه ( كنت كنزاً مخفياً فأردت أن أعرف )
مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ
فيه جواب سؤال وهو أن الخلق للغرض ينبىء عن الحاجة فقال ما خلقتهم ليطعمون والنفع فيه لهم لا لي وذلك لأن منفعة العبد في حق السيد أن يكتسب له إما بتحصيل المال له أو بحفظ المال عليه وذلك لأن العبد إن كان للكسب فغرض التحصيل فيه ظاهر وإن كان للشغل فلولا العبد لاحتاج السيد إلى استئجار من يفعل الشغل له فيحتاج إلى إخراج مال والعبد يحفظ ماله عليه ويغنيه عن الإخراج فهو نوع كسب فقال تعالى مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ أي لست كالسادة في طلب العبادة بل هم الرابحون في عبادتهم وفيه وجه آخر وهو أن يقال هذا تقرير لكونهم مخلوقين للعبادة وذلك لأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة لكن العبيد على(28/200)
قسمين قسم منهم يكون للعظمة والجمال كمماليك الملوك يطعمهم الملك ويسقيهم ويعطيهم الأطراف من البلاد ويؤتيهم الطراف بعد التلاد والمراد منهم التعظيم والمثول بين يديه ووضع اليمين على الشمال لديه وقسم منهم للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها فقال تعالى إني خلقتهم فلا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أُريد منهم من(28/201)
رزق أو هل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ والخواني الذي يقرب الطعام وليسوا كذلك فما أُريد أن يطعمون فإذن هم عبيد من القسم الأول فينبغي أن لا يتركوا التعظيم وفيه لطائف نذكرها في مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في تكرار الإرادتين ومن لا يريد من أحد رزقاً لا يريد أن يطعمه نقول هو لما ذكرناه من قبل وهو أن السيد قد يطلب من العبد الكسب له وهو طلب الرزق منه وقد يكون للسيد مال وافر يستغني عن الكسب لكنه يطلب منه قضاء حوائجه بماله من المال وإحضار الطعام بين يديه من ماله فالسيد قال لا أُريد ذلك ولا هذا
المسألة الثانية لم قدم طلب الرزق على طلب الإطعام نقول ذلك من باب الارتقاء كقول القائل لا أطلب منك الإعانة ولا ممن هو أقوى ولا يعكس ويقل فلان يكرمه الأمراء بل السلاطين ولا يعكس فقال ههنا لا أطلب منكم رزقاً ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم طعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثير الطلب من العباد وإن كان الكسب لا يطلب منهم
المسألة الثالثة لو قال ما أريد منهم أن يرزقون وما أريد منهم من الطعام هل تحصل هذه الفائدة نقول على ما فصل لا وذلك لأن بالتكسب يطلب الغنى لا الفعل فإن اشتغل بشغل ولم يحصل له غنى لا يكون كمن حصل له غنى وإن لم يشتغل كالعبد المتكسب إذا ترك الشغل لحاجته ووجد مطلباً يرضى منه السيد إذا كان شغله التكسب وأما من يراد منه الفعل لذات الفعل كالجائع إذا بعث عبده لإحضار الطعام فاشتغل بأخذ المال من مطلب فربما لا يرضى به السيد فالمقصود من الرزق الغنى فلم يقل بلفظ الفعل والمقصود من الإطعام الفعل نفسه فذكر بلفظ الفعل ولم يقل وما أريد منهم من طعام هذا مع ما في اللفظين من الفصاحة والجزالة للتنويع
المسألة الرابعة إذا كان المعنى به ما ذكرت فما فائدة الإطعام وتخصيصه بالذكر مع أن المقصود عدم طلب فعل منهم غير التعظيم نقول لما عمم في المطلب الأول اكتفى بقوله مِن رّزْقِ فإنه يفيد العموم وأشار إلى التعظيم فذكر الإطعام وذلك لأن أدنى درجات الأفعال أن تستعين السيد بعبده أو جاريته في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فصار كأنه تعالى قال ما أريد منهم من عين ولا عمل
المسألة الخامسة على ما ذكرت لا تنحصر المطالب فيما ذكره لأن السيد قد يشتري لعبد لا لطلب عمل منه ولا لطلب رزق ولا للتعظيم بل تشتريه للتجارة والربح فيه نقول عموم قوله مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ يتناول ذلك فإن من اشترى عبداً ليتجر فيه فقد طلب منه رزقاً
المسألة السادسة ما أريد في العربية يفيد النفي في الحال والتخصيص بالذكر يوهم نفي ما عدا المذكور لكن الله تعالى لا يريد منهم رزقاً لا في الحال ولا في الاستقبال فلم لم يقل لا أريد منهم من رزق ولا أريد نقول ما للنفي في الحال ولا للنفي في الاستقبال فالقائل إذا قال فلان لا يفعل هذا الفعل وهو في الفعل لا يصدق لكنه إذا ترك مع فراغه من قوله يصدق القائل ولو قال ما يفعل لما صدق فيما ذكرنا من الصورة مثاله إذا كان الإنسان في الصلاة وقال قائل إنه ما يصلي فانظر إليه فإذا كان نظر إليه الناظر وقد قطع صلاة نفسه صح أن يقول إنك لا تصلي ولو قال القائل إنه ما يصلي في تلك الحالة لما صدق فإذا علمت هذا فكل واحد من اللفظين للنافية فيه خصوص لكن النفي في الحال أولى لأن المراد من الحال الدنيا والاستقبال هو في أمر الآخرة فالدنيا وأمورها كلها حالية فقوله مَا أُرِيدُ أي في هذه الحالة الراهنة التي هي ساعة الدنيا ومن المعلوم أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو عمل فكان قوله مَا أُرِيدُ مفيداً للنفي العام ولو قال لا أريد لما أفاد ذلك
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّة ِ الْمَتِينُ
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّة ِ الْمَتِينُ تعليلاً لما تقدم من الأمرين فقوله هو الرزاق تعليل لعدم طلب الرزق وقوله تعالى ذُو الْقُوَّة ِ تعليل لعدم طلب العمل لأن من يطلب رزقاً يكون فقيراً محتاجاً ومن يطلب عملاً من غيره يكون عاجزاً لا قوة له فصار كأنه يقول ما أريد منهم من رزق فإني أنا الرزاق ولا عمل فإني قوي وفيه مباحث الأول قال مَا أُرِيدُ ولم يقل إني رزاق بل قال على الحكاية عن الغائب إِنَّ اللَّهَ فما الحكمة فيه نقول قد روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ إِنّى أَنَاْ الرَّزَّاقُ على ما ذكرت وأما القراءة المشهورة ففيها وجوه الأول أن يكون المعنى قل يا محمد إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الثاني أن يكون ذلك من باب الالتفات والرجوع من التكلم عن النفس إلى التكلم عن الغائب وفيه ههنا فائدة وهي أن اسم الله يفيد كونه رزاقاً وذلك لأن الإله بمعنى المعبود كما ذكرنا مراراً وتمسكنا بقوله تعالى وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ ( الأعراف 127 ) أي معبوديك وإذ كان الله هو المعبود ورزق العبد استعمله من غير الكسب إذ رزقه على السيد وههنا لما قال مَا خَلَقْتَ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فقد بيّن أنه استخلصهم لنفسه وعبادته وكان عليه رزقهم فقال تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ بلفظ الله الدال على كونه رزاقاً ولو قال إني أنا الرزاق لحصلت المناسبة التي ذكرت ولكن لا يحصل ما ذكرنا الثالث أن يكون قل مضمراً عند قوله تعالى مَا أُرِيدُ مِنْهُم تقديره قل يا محمد مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ فيكون بمعنى قوله قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( الفرقان 57 ) ويكون على هذا قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ من قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يقل القوي بل قال ذُو الْقُوَّة ِ وذلك لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير ولكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحداً فإن كثيراً من الناس يرزق ولده وغيره ويسترزق والملك يرزق الجند ويسترزق فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب لأن المسترزق ممن يكثر الرزق لا يسترزق من رزقه فلم يكن ذلك المقصود يحصل له إلا بالمبالغة في وصف الرزق فقال الرَّزَّاقُ وأما ما يغني عن الاستعانة بالغير فدون ذلك وذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به وإذا كان دون ذلك يستعين استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك ولما قال وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ كفاه بيان نفس القوة فقال ذُو الْقُوَّة ِ إفادة معنى القوة دون القوى لأن ذا لا يقال في الوصف اللازم البين فيقال في الآدمي ذو مال ومتمول وذو جمال وجميل وذو خلق حسن وخليق إلى غير ذلك مما لا يلزمه(28/202)
لزوماً بيناً ولا يقال في الثلاثة ذات فردية ولا في الأربعة ذات زوجية ولهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية التي ليست مأخوذة من الأفعال ولذا لم يسمع ذو الوجود وذو الحياة ولا ذو العلم ويقال في الإنسان ذو علم وذو حياة لأنها عرض فيه عارض لا لازم بين وفي صفات الفعل يقال الله تعالى ذو الفضل كثيراً وذو الخلق قليلاً لأن ذا كذا بمعنى صاحبه وربه والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلاً عن اللزوم البين والذي يؤيد هذا هو أنه تعالى قال وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ ( يوسف 76 ) فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقوي ويؤيده أيضاً أنه تعالى قال فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِى ٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( غافر 22 ) وقال تعالى اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ ( الشورى 19 ) وقال تعالى لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ عَزِيزٌ ( المجادلة 21 ) لأن في هذه الصور كان المراد بيان القيام بالأفعال العظيمة والمراد ههنا عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر ما ومن يقوم مستبداً بالفعل لا بد له من قوة عظيمة لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عنه ولو بين هذا البحث في معرض الجواب عن سؤال سائل عن الفرق بين قوله ذُو الْقُوَّة ِ ههنا وبين قوله قَوِى ٌّ في تلك المواضع لكان أحسن فإن قيل فقد قال تعالى لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ عَزِيزٌ ( الحديد 25 ) وفيه ما ذكرت من المعنى وذلك لأن قوله قَوِى ٌّ لبيان أنه غير محتاج إلى النصرة وإنما يريد أن يعلم ليثيب الناصر لكن عدم الاحتياج إلى النصرة يكفي فيه قوة ما فلم لم يقل إن الله ذو القوة نقول فيه إنه تعالى قال من ينصره ورسله ومعناه أنه يغني رسله عن الحاجة ولا يطلب نصرتهم من خلقه ليعجزهم وإنما يطلبها لثواب الناصرين لا لاحتياج المستنصرين وإلا فالله تعالى وعدهم بالنصر حيث قال وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ( الصافات 171 172 ) ولما ذكر الرسل قال قوي يكون ذلك تقوية تقارب رسله المؤمنين وتسلية لصدورهم وصدور المؤمنين
البحث الثاني قال الْمَتِينُ وذلك لأن ذُو الْقُوَّة ِ كما بينا لا يدل إلا على أن له قوة ما فزاد في الوصف بياناً وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظاً ومعنى فإن متن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن والمتانة مع القوة كالعزة مع القوة حيث ذكر الله تعالى في مواضع ذكر القوة والعزة فقال قَوِى ٌّ عَزِيزٌ ( الحديد 25 ) وقال الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ ( هود 66 )
وفيه لطيفة تؤيد ما ذكرنا من البحث في القوي وذي القوة وذلك لأن المتين هو الثابت الذي لا يتزلزل والعزيز هو الغالب ففي المتين أنه لا يغلب ولا يقهر ولا يهزم وفي العزيز أنه يغلب ويقهر ويزل الأقدام والعزة أكمل من المتانة كما أن القوي أكمل من ذي القوة فقرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه ولو نظرت حق النظر وتأملت حق التأمل لرأيت في كتاب الله تعالى لطائف تنبهك على عناد المنكرين وقبح إنكار المعاندين
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ(28/203)
وهو مناسب لما قبله وذلك لأنه تعالى بيّن أن من يضع نفسه في موضع عبادة غير الله يكون وضع الشيء في غير موضعه فيكون ظالماً فقال إذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة فإن الذين ظلموا بعبادة الغير لهم هلاك مثل هلاك من تقدم وذلك لأن الشيء إذا خرج عن الانتفاع المطلوب منه لا يحفظ وإن كان في موضع يخلي المكان عنه ألا ترى أن الدابة التي لا يبقى منتفعاً بها بالموت أو بمرض يخلي عنها الإصطبل والطعام الذي يتعفن يبدد ويفرغ منه الإناء فكذلك الكافر إذا ظلم ووضع نفسه في غير موضعه خرج عن الانتفاع فحسن إخلاء المكان عنه وحق نزول الهلاك به وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى فيما يتعلق به الفاء وقد ذكرنا لك في وجه التعلق
المسألة الثانية ما مناسبة الذنوب نقول العذاب مصبوب عليهم كأنه قال تعالى نصب من فوق رؤوسهم ذنوباً كذنوب صب فوق رؤوس أولئك ووجه آخر وهو أن العرب يستقون من الآبار على النوبة ذنوباً فذنوباً وذلك وقت عيشهم الطيب فكأنه تعالى قال فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ من الدنيا وطيباتها ذَنُوباً أي ملاء ولا يكون لهم في الآخرة من نصيب كما كان عليه حال أصحابهم استقوا ذبوباً وتركوها وعلى هذا فالذنوب ليس بعذاب ولا هلاك وإنما هو رغد العيش وهو أليق بالعربية وقوله تعالى فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فإن الرزق ما لم يفرغ لا يأتي الأجل
ثم أعاد ما ذكر في أول السورة فقال فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ
والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين(28/204)
سورة الطور
أربعون وتسع آيات مكية
وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقٍّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ
هذه السورة مناسبة للسورة المتقدمة من حيث الافتتاح بالقسم وبيان الحشر فيهما وأول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لأن في آخرها قوله تعالى فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( الذاريات 60 ) وهذه السورة ددفي أولها فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ( الطور 11 ) وفي آخر تلك السورة قال فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً ( الذاريات 59 ) إشارة إلى العذاب وقال هنا إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( الطور 7 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الطور وما الكتاب المسطور نقول فيه وجوه الأول الطور هو جبل معروف كلم الله تعالى موسى عليه السلام الثاني هو الجبل الذي قال الله تعالى وَطُورِ سِينِينَ ( التين 2 ) الثالث هو اسم الجنس والمراد القسم بالجبل غير أن الطور الجبل العظيم كالطود وأما الكتاب ففيه أيضاً وجوه أحدها كتاب موسى عليه السلام ثانيها الكتاب الذي في السماء ثالثها صحائف أعمال الخلق رابعها القرآن وكيفما كان فهي في رقوق وسنبين فائدة قوله تعالى فِى رَقّ مَّنْشُورٍ وأما البيت المعمور ففيه وجوه الأول هو بيت في السماء العليا عند العرش ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة الثاني هو بيت الله الحرام وهو معمور بالحاج الطائفين به العاكفين الثالث البيت المعمور اللام فيه لتعريف الجنس كأنه يقسم بالبيوت المعمورة والعمائر المشهورة والسقف المرفوع السماء والبحر المسجور قيل الموقد يقال سجرت التنور وقيل هو البحر المملوء ماء المتموج وقيل هو بحر معروف في السماء يسمى بحر الحيوان(28/205)
المسألة الثانية ما الحكمة في اختيار هذه الأشياء نقول هي تحتمل وجوهاً أحدها إن الأماكن الثلاثة وهي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور أماكن كانت لثلاثة أنبياء ينفردون فيها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع الله أما الطور فانتقل إليه موسى عليه السلام والبيت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والبحر المسجور يونس عليه السلام والكل خاطبوا الله هناك فقال موسى أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء ( الأعراف 155 ) وقال أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( الأعراف 143 ) وأما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك ) وأما يونس فقال لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنبياء 87 ) فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب فحلف الله تعالى بها وأما ذكر الكتاب فإن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب واقترانه بالطور أدل على ذلك لأن موسى عليه السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بالطور وأما ذكر السقف المرفوع ومعه البيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثانيها وهو أن القسم لما كان على وقوع العذاب وعلى أنه لا دافع له وذلك لأن لا مهرب من عذاب الله لأن من يريد دفع العذاب عن نفسه ففي بعض الأوقات يتحصن بمثل الجبال الشاهقة التي ليس لها طرف وهي متضايقة بين أنه لا ينفع التحصن بها من أمر الله تعالى كما قال ابن نوح عليه السلام سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ( هود 43 ) حكاية عن نوح عليه السلام
المسألة الثالثة ما الحكمة في تنكير الكتاب وتعريف باقي الأشياء نقول ما يحتمل الخفاء من الأمور الملتبسة بأمثالها من الأجناس يعرف باللام فيقال رأيت الأمير ودخلت على الوزير فإذا بلغ الأمير الشهرة بحيث يؤمن الالتباس مع شهرته ويريد الواصف وصفه بالعظمة يقول اليوم رأيت أميراً ما له نظير جالساً وعليه سيما الملوك وأنت تريد ذلك الأمير المعلوم والسبب فيه أنك بالتنكير تشير إلى أنه خرج عن أن يعلم ويعرف بكنه عظمته فيكون كقوله تعالى الْحَاقَّة ُ مَا الْحَاقَّة ُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّة ُ ( الحاقة 1 3 ) فاللام وإن كانت معرفة لكن أخرجها عن المعرفة كون شدة هولها غير معروف فكذلك ههنا الطور ليس في الشهرة بحيث يؤمن اللبس عند التنكير وكذلك البيت المعمور وأما الكتاب الكريم فقد تميز عن سائر الكتب بحيث لا يسبق إلى أفهام السامعين من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لفظ الكتاب إلا ذلك فلما أمن اللبس وحصلت فائدة التعريف سواء ذكر باللام أو لم يذكر قصداً للفائدة الأخرى وهي في الذكر بالتنكير وفي تلك الأشياء لما لم تحصل فائدة التعريف إلا بآلة التعريف استعملها وهذا يؤيد كون المراد منه القرآن وكذلك اللوح المحفوظ مشهور
المسألة الرابعة ما الفائدة في قوله تعالى فِى رَقّ مَّنْشُورٍ وعظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطه ورقه نقول هو إشارة إلى الوضوح وذلك لأن الكتاب المطوي لا يعلم ما فيه فقال هو في رق منشور وليس كالكتب المطوية وعلى هذا المراد اللوح المحفوظ فمعناه هو منشور لكم لا يمنعكم أحد من مطالعته وإن قلنا بأن المراد كتاب أعمال كل أحد فالتنكير لعدم المعرفة بعينه وفي رق منشور لبيان وصفه كما قال تعالى كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ( الإسراء 13 ) وذلك لأن غير المعروف إذا وصف كان إلى المعرفة أقرب شبهاً
المسألة الخامسة في بعض السور أقسم بجموع كما في قوله تعالى وَالذرِيَاتِ(28/206)
وقوله وَالْمُرْسَلَاتِ وقوله وَالنَّازِعَاتِ وفي بعضها بأفراد كما في هذه السورة حيث قال وَالطُّورِ ولم يقل والأطوار والبحار ولا سيما إذا قلنا المراد من الطور الجبل العظيم كالطود كما في قوله تعالى وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ ( النساء 154 ) أي الجبل فما الحكمة فيه نقول في الجموع في أكثرها أقسم بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة مستمرة حتى يقع القسم بها بل هي متبدلة بأفرادها مستمرة بأنواعها والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدل والتغير فقال وَالذرِيَاتِ إشارة إلى النوع المستمر إلى الفرد المعين المستقر وأما الجبل فهو ثابت قليل التغير والواحد من الجبال دائم زماناً ودهراً فأقسم في ذلك بالواحد وكذلك قوله وَالنَّجْمِ والريح ما علم القسم به وفي الطور علم
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ
إشارة إلى المقسم عليه وفيه مباحث الأول في حرف ءانٍ وفيه مقامات الأول هي تنصب الاسم وترفع الخبر والسبب فيه هو أنها شبهت بالفعل من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ فلكون الفتح لازماً فيها واختصاصها بالدخول على الأسماء والمنصوب منها على وزن إن أنيناً وأما المعنى فنقول اعلم أن الجملة الإثباتية قبل الجملة الانتفائية ولهذا استغنوا عن حرف يدل على الإثبات فإذا قالوا زيد منطلق فهم منه إرادة إثبات الانطلاق لزيد والانتفائية لما كانت بعد المثبتة زيد فيها حرف يغيرها عن الأصل وهو الإثبات فقيل ليس زيد منطلقاً فصار ليس زيد منطلقاً بعد قول القائل زيد منطلق ثم إن قول القائل إن زيداً منطلق مستنبط من قوله ليس زيد منطلقاً كأن الواضع لما وضع أولاً زيد منطلق للاثبات وعند النفي يحتاج إلى ما يغيره أتى بلفظ مغير وهو فعل من وجه لأنك قد تبقى مكانه ما النافية ولهذا قيل لست وليسوا فألحق به ضمير الفاعل ولولا أنه فعل لما جاز ذلك ثم أراد أن يضع في مقابلة ليس زيد منطلقاً جملة إثباتية فيها لفظ الإثبات كما أن في النافية لفظ النفي فقال إن ولم يقصد أن إن فعل لأن ليس يشبه بالفعل لما فيه من معنى الفعل وهو التغيير فإنها غيرت الجملة من أصلها الذي هو الإثبات وأما إن فلم تغيره فالجملة على ما كانت عليه إثباتية فصارت مشبهة بالمشبهة بالفعل وهي ليس وهذا ما يقوله النحويون في إن وأن وكأن وليت ولعلّ إنها حروف مشبهة بالأفعال إذا علمت هذا فنقول كما إن ليس لها اسم كالفاعل وخبر كالمفعول تقول ليس زيد لئيماً بالرفع والنصب كما تقول بات زيد كريماً فكذلك إن لها اسم وخبر لكن اسمها يخالف اسم ليس وخبرها خبرها فإن اسم إن منصوب وخبرها مرفوع لأن إن لما كانت زيادة على خلاف الأصل لأنها لا تفيد إلا الإثبات الذي كان مستفاداً من غير حرف وليس لما كانت زيادة على الأصل لأنها تغير الأصل ولولاها لما حصل المقصود جعل المرفوع والمنصوب في ليس على الأصل لأن الأصل تقديم الفاعل وفي إن جعل ذلك على خلاف الأصل وقدم المشبه بالمفعول على المشبه بالفاعل تقديماً لازماً فلا يجوز أن يقال إن منطلق زيداً وهو في ليس منطلقاً زيد جائز كما في الفعل لأنها فعل
المقام الثاني هي لم تكسر تارة وتفتح أخرى نقول الأصل فيها الكسرة والعارض وإن كان هذا في الظاهر يخالف قول النحاة لكن في الحقيقة هي كذلك(28/207)
المقام الثالث لم تدخل اللام على خبر إن المكسورة دون المفتوحة قلنا قد خرج مما سبق أن قول القائل زيد منطلق أصل لأن المثبتات هي المحتاجة إلى الإخبار عنها فإن التغير في ذلك وأما العدميات فعلى أصولها مستمرة ولهذا يقال الأصل في الأشياء البقاء ثم إن السامع له قد يحتاج إلى الرد عليه فيقول ليس زيد منطلقاً فيقول هو إن زيداً منطلق فيقول هو رداً عليه ليس زيد بمنطلق فيقول رداً عليه إن زيداً لمنطلق وأن ليست في مقابلة ليس وإنما هي متفرعة عن المكسورة
المبحث الثاني قوله تعالى عَذَابَ رَبّكَ فيه لطيفة عزيزة وهي أنه تعالى لو قال إن عذاب الله لواقع والله اسم منبىء عن العظمة والهيبة كان يخاف المؤمن بل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أن يلحقه ذلك لكونه تعالى مستغنياً عن العالم بأسره فضلاً عن واحد فيه فآمنه بقوله رَبَّكَ فإنه حين يسمع لفظ الرب يأمن
المبحث الثالث قوله لَوَاقِعٌ فيه إشارة إلى الشدة فإن الواقع والوقوع من باب واحد فالواقع أدل على الشدة من الكائن ثم قال تعالى مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ والبحث فيه قد تقدم في قوله تعالى وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) وقد ذكرنا أن قوله وَالطُّورِ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فيه دلالة على عدم الدافع فإن من يدفع عن نفسه عذاباً قد يدفع بالتحصن بقلل الجبال ولجج البحار ولا ينفع ذلك بل الوصول إلى السقف المرفوع ودخول البيت المعمور لا يدفع
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً
فيه مسائل
المسألة الأولى ما الناصب ليوم نقول المشهور أن ذلك هو الفعل الذي يدل عليه واقع أي يقع العذاب يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً والذي أظنه أنه هو الفعل المدلول عليه بقوله مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( الطور 8 ) وإنما قلت ذلك لأن العذاب الواقع على هذا ينبغي أن يقع في ذلك اليوم لكن العذاب الذي به التخويف هو الذي بعد الحشر ومور السماء قبل الحشر وأما إذا قلنا معناه لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ يوم تمور فيكون في معنى قوله فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) كأنه تعالى يقول ما له من دافع في ذلك اليوم وهو ما إذا صارت السماء تمور في أعينكم والجبال تسير وتتحققون أن الأمر لا ينفع شيئاً ولا يدفع
المسألة الثانية ما مور السماء نقول خروجها عن مكانها تتردد وتموج والذي تقوله الفلاسفة قد علمت ضعفه مراراً وقوله تعالى وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً يدل على خلاف قولهم وذلك لأنهم وفقوا على أن خروج الجبل العظيم من مكانه جائز وكيف لا وهم يقولون بأن زلزلة الأرض مع ما فيها من الجبال ببخار يجتمع تحت الأرض فيحركها وإذا كان كذلك فنقول السماء قابلة للحركة بإخراجها خارجة عن السمتيات والجبل ساكن يقتضي طبعه السكون وإذا قبل جسم الحركة مع أنها على خلاف طبعه فلأن يقبلها جرم آخر مع أنها على موافقته أولى وقولهم القابل للحركة المستديرة لا يقبل الحركة المستقيمة في غاية الضعف وقوله مَوْراً يفيد فائدة جليلة وهي أن قوله تعالى وَتَسِيرُ الْجِبَالُ يحتمل أن يكون بياناً لكيفية مور السماء وذلك لأن الجبال إذا سارت وسيرت معها سكانها يظهر أن السماء كالسيارة إلى خلاف تلك الجهة كما يشاهده راكب السفينة فإنه يرى الجبل الساكن متحركاً فكان لقائل أن يقول السماء تمور في رأي العين(28/208)
بسبب سير الجبال كما يرى القمر سائراً راكب السفينة والسماء إذا مارت كذلك فلا يبقى مهرب ولا مفزع لا في السماء ولا في الأرض
المسألة الثالثة ما السبب في مورها وسيرها قلنا قدرة الله تعالى وأما الحكمة فالإيذان والإعلام بأن لا عود إلى الدنيا وذلك لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم بها فإن لم يتفق لهم عود لم يبق فيها نفع فأعدمها الله تعالى
المسألة الرابعة لو قال قائل كنت وعدت ببحث في الزمان يستفيد العاقل منه فوائد في اللفظ والمعنى وهذا موضعه فإن الفعل لا يضاف إليه شيء غير الزمان فيقال يوم يخرج فلان وحين يدخل فلان وقال الله تعالى يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ ( المائدة 119 ) وقال وَيَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء وقال يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( التوبة 36 ) وكذلك يضاف إلى الجملة فما السبب في ذلك
فنقول الزمان ظرف الأفعال كما أن المكان ظرف الأعيان وكما أن جوهراً من الجواهر لا يوجد إلا في مكان فكذلك عرض من الأعراض لا يتجدد إلا في زمان وفيهما تحير خلق عظيم فقالوا إن كان المكان جوهراً فله مكان آخر ويتسلسل الأمر وإن كان عرضاً فالعرض لا بد له من جوهر والجوهر لا بد له من مكان فيدور الأمر أو يتسلسل وإن لم يكن جوهراً ولا عرضاً فالجوهر يكون حاصلاً فيما لا وجود له أو فيما لا إشارة إليه وليس كذلك وقالوا في الزمان إن كان الزمان غير متجدد فيكون كالأمور المستمرة فلا يثبت فيه المضي والاستقبال وإن كان متجدداً وكل متجدد فهو في زمان فللزمان زمان آخر فيتسلسل الأمر ثم إن الفلاسفة التزموا التسلسل في الأزمنة ووقعوا بسبب هذا في القول بقدم العالم ولم يلتزموا التسلسل في الأمكنة وفرقوا بينهما من غير فارق وقوم التزموا التسلسل فيهما جميعاً وقالوا بالقدم وأزمان لا نهاية لها وبالامتداد وأبعاد لا نهاية لها وهم وإن خالفونا في المسألتين جميعاً والفلاسفة وافقونا في إحداهما دون الأخرى لكنهم سلكوا جادة الوهم ولم يتركوا على أنفسهم سبيل الإلتزام في الأزمان فإن قيل فالمتجدد الأول قبله ماذا نقول ليس قبله شيء فإن قيل فعدمه قبله أو قبله عدمه نقول قولنا ليس قبله شيء أعم من قولك قبله عدمه لأنا إذا قلنا ليس قبل آدم حيوان بألف رأس صدقنا ولا يستلزم ذلك صدق قولنا آدم قبل حيوان بألف رأس أو حيوان بألف رأس بعد آدم لانتفاء ذلك الحيوان أولاً وآخراً وعدم دخوله في الوجود أزلاً وأبداً فكذلك ما قلنا فإن قيل هذا لا يصح لأن الله تعالى شيء موجود وهو قبل العالم نقول قولنا ليس قبل المتجدد الأول شيء معناه ليس قبله شيء بالزمان وأما الله تعالى فليس قبله بالزمان إذ كان الله ولا زمان والزمان وجد مع المتجدد الأول فإن قيل فما معنى وجود الله قبل كل شيء غيره نقول معناه كان الله ولم يكن شيء غيره لا يقال ما ذكرتم إثبات شيء بشيء ولا يثبت ذلك الشيء إلا بما ترومون إثباته فإن بداية الزمان غرضكم وهو مبني على المتجدد الأول والنزاع في المتجدد فإن عند الخصم ليس في الوجود متجدد أول بل قبل كل متجدد لأنا نقول نحن ما ذكرنا ذلك دليلاً وإنما ذكرناه بياناً لعدم الإلزام وأنه لا يرد علينا شيء إذا قلنا بالحدوث ونهاية الأبعاد واللزم والإلزام فيسلم الكلام الأول ثم يلزم ويقول ألست تقول إن لنا متجدداً أولاً فكذلك قل له عدم فنقول لا بل ليس قبله أمر بالزمان فيكون ذلك نفياً عاماً وإنما يكون ذلك لانتفاء الزمان كما ذكرنا في المثال إذا علمت هذا فصار الزمان تارة موجوداً مع عرض وأخرى موجوداً(28/209)
بعد عرض لأن يومنا هذا وغيره من الأيام كلها صارت متميزة بالمتجدد الأول والمتجدد الأول له زمان هو معه إذا عرفت أن الزمان والمكان أمرهما مشكل بالنسبة إلى بعض الأفهام والأمر الخفي يعرف بالوصف والإضافة فإنك إذا قلت غلام لم يعرف فإذا وصفته أو أضفته وقلت غلام صغير أو كبير وأبيض أو أسود قرب من الفهم وكذلك إذا قلت غلام زيد قرب ولم يكن بد من معرفة الزمان ولا يعرف الشيء إلا بما يختص به فإنك إذا قلت في الإنسان حيوان موجود بعدته عن الفهم وإذا قلت حيوان طويل القامة قربته منه ففي الزمان كان يجب أن يعرف بما يختص به لأن الفعل الماضي والمستقبل والحال يختص بأزمنة والمصدر له زمان مطلق فلو قلت زمان الخروج تميز عن زمان الدخول وغيره فإذا قلت يوم خرج أفاد ما أفاد قولك يوم الخروج مع زيادة هو أنه تميز عن يوم يخرج والإضافة إلى ما هو أشد تمييزاً أولى كما أنك إذا قلت غلام رجل ميزته عن غلام امرأة وإذا قلت غلام زيد زدت عليه في الإفادة وكان أحسن كذلك قولنا يوم خرج لتعريف ذلك اليوم خير من قولك يوم الخروج فظهر من هذا البحث أن الزمان يضاف إلى الفعل وغيره لا يضاف لاختصاص الفعل بالزمان دون غيره إلا المكان في قوله اجلس حيث يجلس فإن حيث يضاف إلى الجمل لمشابهة ظرف المكان لظرف الزمان وأما الجمل فهي إنما يصح بواسطة تضمنها الفعل فلا يقال يوم زيد أخوك ويقال يوم زيد فيه خارج
ومن جملة الفوائد اللفظية أن لات يختص استعمالها بالزمان قال الله تعالى وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ( ص 3 ) ولا يقال لات الرجل سوء وذلك لأن الزمان تجدد بعد تجدد ولا يبقى بعد الفناء حياة أخرى وبعد كل حركة حركة أخرى وبعد كل زمان زمان وإليه الإشارة بقوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( الرحمن 29 ) أي قبل الخلق لم يخلق شيئاً لكنه يعد ما خلق فهو أبداً دائماً يخلق شيئاً بعد شيء فبعد حياتنا موت وبعد موتنا حياة وبعد حياتنا حساب وبعد الحساب ثواب دائم أو عقاب لازم ولا يترك الله الفعل فلما بعد الزمان عن النفي زيد في الحروف النافية زيادة فإن قيل فالله تعالى أبعد عن الانتفاء فكان ينبغي أن لا تقرب التاء بكلمة لا هناك نقول لأَتٍ حِينَ مَنَاصٍ تأويل وعليه لا يرد ما ذكرتم وهو أن لا هي المشبهة بليس تقديره ليس الحين حين مناص وهو المشهور ولذلك اختص بالحين دون اليوم والليل لأن الحين أدوم من الليل والنهار فالليل والنهار قد لا يكون والحين يكون
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ
أي إذا علم أن عذاب الله واقع وأنه ليس له دافع فويل إذاً للمكذبين فالفاء لاتصال المعنى وهو الإيذان بأمان أهل الإيمان وذلك لأنه لما قال إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( الطور 7 ) لم يبين بأن موقعه بمن فلما قال فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ علم المخصوص به وهو المكذب وفيه مسائل
المسألة الأولى إذا قلت بأن قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ بيان لمن يقع به العذاب وينزل عليه فمن لا يكذب لا يعذب فأهل الكبائر لا يعذبون لأنهم لا يكذبون نقول ذلك العذاب لا يقع على أهل الكبائر وهذا كما في قوله تعالى كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا(28/210)
( الملك 8 9 ) فنقول المؤمن لا يلقى فيها إلقاء بهوان وإنما يدخل فيها ليظهر إدخال مع نوع إكرام فكذلك الويل للمكذبين والويل ينبىء عن الشدة وتركيب حروف الواو والياء واللام لا ينفك عن نوع شدة منه لوى إذا دفع ولوى يلوي إذا كان قوياً والولي فيه القوة على المولى عليه ويدل عليه قوله تعالى يَدَّعُونَ ( الطور 13 ) فإن المكذب يدع والمصدق لا يدع وقد ذكرنا جواز التنكير في قوله وَيْلٌ مع كونه مبتدأ لأنه في تقدير المنصوب لأنه دعاء ومضى وجهه في قوله تعالى قَالَ سَلَامٌ ( الذاريات 25 ) والخوض نفسه خص في استعمال القرآن بالاندفاع في الأباطيل ولهذا قال تعالى وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ( التوبة 69 ) وقال تعالى وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ ( المدثر 45 ) وتنكير الخوض يحتمل وجهين أحدهما أن يكون للتكثير أي في خوض كامل عظيم ثانيهما أن يكون التنوين تعويضاً عن المضاف إليه كما في قوله تعالى إِلا ( التوبة 8 ) وقوله وَإِنَّ كُلاًّ ( هود 111 ) و بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( البقرة 251 ) والأصل في خوضهم المعروف منهم وقوله الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ ليس وصفاً للمكذبين بما يميزهم وإنما هو للذم كما أنك تقول الشيطان الرجيم ولا تريد فصله عن الشيطان الذي ليس برجيم بخلاف قولك أكرم الرجل العالم فالوصف بالرجيم للذم به لا للتعريف وتقول في المدح الله الذي خلق والله العظيم للمدح لا للتمييز ولا للتعريف عن إلاه لم يخلق أو إلاه ليس بعظيم فإن الله واحد لا غير
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا
فيه مباحث لفظية ومعنوية أما اللفظية ففيها مسائل
المسألة الأولى يوم منصوب بماذا نقول الظاهر أنه منصوب بما بعده وهو ما يدل عليه قوله تعالى هَاذِهِ النَّارُ ( الطور 14 ) تقديره يوم يدعون يقال لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون ويحتمل غير هذا وهو أن يكون يوم بدلاً عن يوم في يومئذ تقريره فويل يومئذ للمكذبين ويوم يوعدون أي المكذبون وذلك أن قوله يَوْمَئِذٍ ( الطور 11 ) معناه يوم يقع العذاب وذلك اليوم هو يوم يوعدون فيه إلى النار
المسألة الثانية قوله يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ يدل على هول نار جهنم لأن خزنتها لا يقربون منها وإنما يدفعون أهلها إليها من بعيد ويلقونهم فيها وهم لا يقربونها
المسألة الثالثة دَعًّا مصدر وقد ذكرت فائدة ذكر المصادر وهي الإيذان بأن الدع دع معتبر يقال له دع ولا يقال فيه ليس بدع كما يقول القائل في الضرب الخفيف مستحقراً له هذا ليس بضرب والعدو المهين هذا ليس بعدو في غير المصادر والرجل الحقير ليس برجل إلا على قراءة من قرأ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دُعَاء فإن دعاء حينئذ يكون منصوباً على الحال تقديره يقال لهم هلموا إلى النار مدعوين إليها
أما المعنوية فنقول قوله تعالى يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ يدل على أن خزنتها يقذفونهم فيها وهم بعداء عنها وقال تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ ( القمر 48 ) نقول الجواب عنه من وجوه أحدها أن الملائكة يسحبونهم في النار ثم إذا قربوا من نار مخصوصة هي نار جهنم يقذفونهم فيها من بعيد فيكون السحب في النار والدفع في نار أشد وأقوى ويدل عليه قوله تعالى يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ(28/211)
( غافر 71 72 ) أي يكون لهم سحب في حموة النار ثم بعد ذلك يكون لهم إدخال الثاني جاز أن يكون في كل زمان يتولى أمرهم ملائكة فإلى النار يدفعهم ملك وفي النار يسحبهم آخر
الثالث جاز أن يكون السحب بسلاسل يسحبون في النار والساحب خارج النار
الرابع يحتمل أن يكون الملائكة يدفعون أهل النار إلى النار إهانة واستخفافاً بهم ثم يدخلون معهم النار ويسحبونهم فيها
هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ
ثم قال تعالى هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ على تقدير قال
أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ
ثم قال تعالى أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ تحقيقاً للأمر وذلك لأن من يرى شيئاً ولا يكون الأمر على ما يراه فذلك الخطأ يكون لأجل أحد أمرين إما لأمر عائد إلى المرئي وإما لأمر عائد إلى الرائي فقوله أَفَسِحْرٌ هَاذَا أي هل في المرئي شك أم هل في بصركم خلل استفهام إنكار أي لا واحد منها ثابت فالذي ترونه حق وقد كنتم تقولون إنه ليس بحق وإنما قال أَفَسِحْرٌ وذلك أنهم كانوا ينسبون المرئيات إلى السحر فكانوا يقولون بأن انشقاق لقمر وأمثاله سحر وفي ذلك اليوم لما تعلق بهم مع البصر الألم المدرك بحس اللمس وبلغ الإيلام الغاية لم يمكنهم أن يقولوا هذا سحر وإلا لما صح منهم طلب الخلاص من النار
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
ثم قال تعالى اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ أي إذا لم يمكنكم إنكارها وتحقق أنه ليس بسحر ولا خلل في أبصاركم فاصلوها وقوله تعالى فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ فيه فائدتان إحداهما بيان عدم الخلاص وانتفاء المناص فإن من لا يصبر يدفع الشيء عن نفسه إما بأن يدفع المعذب فيمنعه وإما بأن يغضبه فيقتله ويريحه ولا شيء من ذلك يفيد في عذاب الآخرة فإن من لا يغلب المعذب فيدفعه ولا يتلخص بالإعدام فإنه لا يقضي عليه فيموت فإذن الصبر كعدمه لأن من يصبر يدوم فيه ومن لا يصبر يدوم فيه الثانية بيان ما يتفاوت به عذاب الآخرة عن عذاب الدنيا فإن المعذب في الدنيا إن صبر ربما انتفع بالصبر إما بالجزاء في الآخرة وإما بالحمد في الدنيا فيقال له ما أشجعه وما أقوى قلبه وإن جزع يذم فيقال يجزع كالصبيان والنسوان وأما في الآخرة لا مدح ولا ثواب على الصبر وقوله تعالى سَوَاء عَلَيْكُمْ سَوَآء خبر ومبتدأه مدلول عليه بقوله فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ كأنه يقول الصبر وعدمه سواء فإن قيل يلزم الزيادة في التعذيب ويلزم التعذيب على المنوي الذي لم يفعله نقول فيه لطيفة وهي أن المؤمن بإيمانه استفاد أن الخير الذي ينويه يثاب عليه والشر الذي ينويه ولا يحققه لا يعاقب عليه والكافر بكفره صار على الضد فالخير الذي ينويه ولا يعمله لا يثاب عليه والشر الذي يقصده ولا يقع منه يعاقب عليه ولا ظلم فإن الله تعالى أخبره به وهو اختار ذلك ودخل فيه باختياره كأن الله تعالى قال فإن من كفر ومات كافراً أعذبه أبداً فاحذروا ومن آمن أثيبه دائماً فمن ارتكب الكفر ودام عليه بعد ما(28/212)
سمع ذلك فإذا عاقبه المعاقب دائماً تحقيقاً لما أوعده به لا يكون ظالماً
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ
ثم قال تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ على ما هو عادة القرآن من بيان حال المؤمن بعد بيان حال الكافر وذكر الثواب عقيب ذكر العقاب ليتم أمر الترهيب والترغيب وقد ذكرنا تفسير المتقين في مواضع والجنة وإن كانت موضع السرور لكن الناطور قد يكون في البستان الذي هو غاية الطيبة وهو غير متنعم فقوله وَنَعِيمٍ يفيد أنهم فيها يتنعمون كما يكون المتفرج لا كما يكون الناطور
فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ
وقوله فَاكِهِينَ يزيد في ذلك لأن المتنعم قد يكون آثار التنعم على ظاهره وقلبه مشغول فلما قال فَاكِهِينَ يدل على غاية الطيبة وقوله بِمَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ يفيد زيادة في ذلك لأن الفكه قد يكون خسيس النفس فيسره أدنى شيء ويفرح بأقل سبب فقال فَاكِهِينَ لا لدنو هممهم بل لعلو نعمهم حيث هي من عند ربهم
وقوله تعالى وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد أنهم فاكهون بأمرين أحدهما بما آتاهم والثاني بأنه وقاهم وثانيهما أن يكون ذلك جملة أخرى منسوقة على الجملة الأولى كأنه بيّن أنه أدخلهم جنّات ونعيماً ووقاهم عذاب الجحيم
كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَة ٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
فيه بيان أسباب التنعيم على الترتيب فأول ما يكون المسكن وهو الجنّات ثم الأكل والشرب ثم الفرش والبسط ثم الأزواج فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله قوله جَنَّاتُ إشارة إلى المسكن والمسكن للجسم ضروري وهو المكان فقال فَاكِهِينَ لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور وبين سبب الفكاهة وعلو المرتبة يكون مما آتاهم الله وقد ذكرنا هذا وأما في الأكل والشرب والإذن المطلق فترك ذكر المأكول والمشروب لتنوعهما وكثرتهما وقوله تعالى هَنِيئَاً إشارة إلى خلوهما عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا منها أن الآكل يخاف من المرض فلا يهنأ له الطعام ومنها أنه يخاف النفاد فلا يسخو بالأكل والكل منتف في الجنة فلا مرض ولا انقطاع فإن كل أحد عنده ما يفضل عنه ولا إثم ولا تعب في تحصيله فإن الإنسان في الدنيا ربما يترك لذة الأكل لما فيه من تهيئة المأكول بالطبخ والتحصيل من التعب أو المنة أو ما فيه من قضاء الحاجة واستقذار ما فيه فلا يتهنأ وكل ذلك في الجنة منتف وقوله تعالى بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إشارة إلى أنه تعالى يقول أي مع أني ربكم وخالقكم وأدخلتكم بفضلي الجنة وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال تعالى بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ ( الحجرات 17 ) وأما اليوم فلا من عليكم لأن هذا إنجاز الوعد فإن قيل قال في حق الكفار إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( التحريم 7 ) وقال في حق المؤمنين بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهل بينهما فرق قلت بينهما بون عظيم من وجوه(28/213)
الأول كلمة إِنَّمَا للحصر أي لا تجزون إلا ذلك ولم يذكر هذا في حق المؤمن فإنه يجزيه أضعاف ما عمل ويزيده من فضله وحينئذ إن كان يمن الله على عبده فيمن بذلك لا بالأكل والشرب الثاني قال هنا بِمَا كُنتُمْ وقال هناك مَّا كُنتُمْ أي تجزون عين أعمالكم إشارة إلى المبالغة في المماثلة كما تقول هذا عين ما عملت وقد تقدم بيان هذا وقال في حق المؤمن بِمَا كُنتُمْ كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملكم هذا الثالث ذكر الجزاء هناك وقال ههنا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لأن الجزاء ينبىء عن الانقطاع فإن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسن منه شيئاً آخر فإن قيل فالله تعالى قال في مواضع جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأحقاف 14 ) في الثواب نقول في تلك المواضع لما لم يخاطب المجزي لم يقل تجزى وإنما أتى بما يفيد العالم بالدوام وعدم الانقطاع وأما في السرر فذكر أموراً أيضاً أحدها الاتكاء فإنه هيئة تختص بالمنعم والفارغ الذي لا كلفة عليه ولا تكلف لديه فإن من يكون عنده من يتكلف له يجلس له ولا يتكىء عنده ومن يكون في مهم لا يتفرغ للاتكاء فالهيئة دليل خير ثم الجمع يحتمل أمرين أحدهما أن يكون لكل واحد سرر وهو الظاهر لأن قوله مَصْفُوفَة ٌ يدل على أنها لواحد لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفة ولفظ السرير فيه حروف السرور بخلاف التخت وغيره وقوله مَصْفُوفَة ٌ دليل على أنه لمجرد العظم فإنها لو كات متفرقة لقيل في كل موضع واحد ليتكىء عليه صاحبه إذا حضر في هذا الموضع وقوله تعالى وَزَوَّجْنَاهُم إشارة إلى النعمة الرابعة وفيها أيضاً ما يدل على كمال الحال من وجوه أحدها أنه تعالى هو المزوج وهو يتولى الطرفين يزوج عباده بأمانه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء ثانيها قال وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ ولم يقل وزوجناهم حوراً مع أن لفظة التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف يقال زوجتكها قال تعالى فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ( الأحزاب 37 ) وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذة الحور بهم وذلك لأن المفعول بغير حرف يعلق الفعل به كذلك التزويج تعلق بهم ثم بالحور لأن ذلك بمعنى جعلنا ازدواجهم بهذا الطريق وهو الحور ثالثها عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحسن واختار الأحسن من الأحسن فإن أحسن ما في صورة الآدمي وجهه وأحسن ما في الوجه العين ولأن الحور والعين يدلان على حسن المزاج في الأعضاء ووفرة المادة في الأرواح أما حسن المزاج فعلامته الحور وأما وفرة الروح فإن سعة العين بسبب كثرة الروح المصوبة إليها فإن قيل قوله زوجناهم ذكره بفعل ماض و تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ حال ولم يسبق ذكر فعل ماض يعطف عليه ذلك وعطف الماضي على الماضي والمستقبل على المستقبل أحسن نقول الجواب من وجوه اثنان لفظيان ومعنوي أحدها أن ذلك حسن في كثير من المواضع تقول جاء زيد ويجيء عمراً وخرج زيد ثانيها أن قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ تقديره أدخلناهم في جنات وذلك لأن الكلام على تقدير أن في اليوم الذي يدع الكافر في النار في ذلك الوقت يكون المؤمن قد أدخل مكانه فكأنه تعالى يقول في يوم يدعون إلى نار جهنم إن المتقين كائنون في جنّات والثالث المعنوي وهو أنه تعالى ذكر مجزاة الحكم فهو في هذا اليوم زوج عباده حوراً عيناً وهن منتظرات الزفاف يوم الآزفة
الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ(28/214)
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وفيه لطائف الأولى أن شفقة الأبوة كما هي في الدنيا متوفرة كذلك في الآخرة ولهذا طيب الله تعالى قلوب عباده بأنه لا يولههم بأولادهم بل يجمع بينهم فإن قيل قد ذكرت في تفسير بعض الآيات أن الله تعالى يسلي الآباء عن الأبناء وبالعكس ولا يتذكر الأب الذي هو من أهل الجنة الابن الذي هو من أهل النار نقول الولد الصغير وجد في والده الأبوة الحسنة ولم يوجد لها معارض ولهذا ألحق الله الولد بالوالد في الإسلام في دار الدنيا عند الصغر وإذا كبر استقل فإن كفر ينسب إلى غير أبيه وذلك لأن الإسلام للمسلمين كالأب ولهذا قال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) جمع أخ بمعنى أخوة الولادة والإخوان جمعه بمعنى أخوة الصداقة والمحبة فإذن الكفر من حيث الحس والعرف أب فإن خالف دينه دين أبيه صار له من حيث الشرع أب آخر وفيه أرشاد الآباء إلى أن لا يشغلهم شيء عن الشفقة على الولد فيكون من القبيح الفاحش أن يشتغل الإنسان بالتفرج في البستان مع الأحبة الإخوان وعن تحصيل قوت الولدان وكيف لا يشتغل أهل الجنة بما في الجنة من الحور العين عن أولادهم حتى ذكروهم فأراح الله قلوبهم بقوله أَلْحَقْنَا بِهِمْ وإذا كان كذلك فما ظنك بالفاسق الذي يبذر ماله في الحرام ويترك أولاده يتكففون وجوه اللئام والكرام نعوذ بالله منه وهذا يدل على أن من يورث أولاده مالاً حلالاً يكتب له به صدقة ولهذا لم يجوز للمريض التصرف في أكثر من الثلث
اللطيفة الثانية قوله تعالى ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم فهذا ينبغي أن يكون دليلاً على أنا في الآخرة نلحق بهم لأن في دار الدنيا مراعاة الأسباب أكثر ولهذا لم يجر الله عادته على أن يقدم بين يدي الإنسان طعاماً من السماء فما يتسبب له بالزراعة والطحن والعجن لا يأكله وفي الآخرة يؤتيه ذلك من غير سعي جزاء له على ما سعى له من قبل فينبغي أن يجعل ذلك دليلاً ظاهراً على أن الله تعالى يلحق به ولده وإن لم يعمل عملاً صالحاً كما أتبعه وإن لم يشهد ولم يعتقد شيئاً
اللطيفة الثالثة في قوله تعالى بِإِيمَانٍ فإن الله تعالى أتبع الولد الوالدين في الإيمان ولم يتبعه أباه في الكفر بدليل أن من أسلم من الكفار حكم بإسلام أولاده ومن ارتد من المسلمين والعياذ بالله لا يحكم بكفر ولده
اللطيفة الرابعة قال في الدنيا اتبعناهم وقال في الآخرة بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ وذلك لأن في الدنيا لا يدرك الصغير التبع مساوات المتبوع وإنما يكون هو تبعاً والأب أصلاً لفضل الساعي على غير الساعي وأما في الآخرة فإذا ألحق الله بفضله ولده به جعل له من الدرجة مثل ما لأبيه(28/215)
اللطيفة الخامسة في قوله تعالى وَمَا أَلَتْنَاهُمْ تطييب لقلبهم وإزالة وهم المتوهم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوالد والولد بل للوالد أجر عمله بفضل السعي ولأولاده مثل ذلك فضلاً من الله ورحمة
اللطيفة السادسة في قوله تعالى مّنْ عَمَلِهِم ولم يقل من أجرهم وذلك لأن قوله تعالى وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم دليل على بقاء عملهم كما كان والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه الإشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إليه ولو قال ما ألتناهم من أجرهم لكان ذلك حاصلاً بأدنى شيء لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل ولأنه لو قال تعالى ما ألتناهم من أجرهم كان مع ذلك يحتمل أن يقال إن الله تعالى تفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص وأعطاه الأجر الجزيل مع أن عمله كان له ولولده جميعاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ عطف على ماذا نقول على قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ ( الطور 17 )
المسألة الثانية إذا كان كذلك فلم أعاد لفظ الَّذِينَ كَفَرُواْ وكان المقصود يحصل بقوله تعالى وألحقنا بهم ذرياتهم بعد قوله وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم ( الطور 20 ) وكان يصير التقدير وزوجناهم وألحقنا بهم نقول فيه فائدة وهو أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقال ههنا الَّذِينَ كَفَرُواْ أي بوجود الإيمان يصير ولده من أهل الجنة ثم إن ارتكب الأب كبيرة أو صغيرة على صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد وربما يدخل الجنة الابن قبل الأب وفيه لطيفة معنوية وهو أنه ورد في الأخبار أن الولد الصغير يشفع لأبيه وذلك إشارة إلى الجزاء
المسألة الثالثة هل يجوز غير ذلك نقول نعم يجوز أن يكون قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ عطفاً على بِحُورٍ عِينٍ ( الطور 20 ) تقديره زوجناهم بحور عين أي قرناهم بهن وبالذين آمنوا إشارة إلى قوله تعالى إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ( الحجر 47 ) أي جمعنا شملهم بالأزواج والإخوان والأولاد بقوله تعالى وَأَتْبَعْنَاهُم وهذا الوجه ذكره الزمخشري والأول أحسن وأصح فإن قيل كيف يصح على هذا الوجه الإخبار بلفظ الماضي مع أنه سبحانه وتعالى بعد ما قرن بينهم قلنا صح في وزوجناهم على ما ذكر الله تعالى من تزويجهن منا من يوم خلقهن وإن تأخر زمان الاقتران
المسألة الرابعة قرىء ذرياتهم في الموضعين بالجمع وذريتهم فيهما بالفرد وقرىء في الأول ذرياتهم وفي الثانية وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم فهل للثالث وجه نقول نعم معنوي لا لفظي وذلك لأن المؤمن تتبعه ذرياته في الإيمان وإن لم توجد على معنى أنه لو وجد له ألف ولد لكانوا أتباعه في الإيمان حكماً وأما الإلحاق فلا يكون حكماً إنما هو حقيقة وذلك في الموجود فالتابع أكثر من الملحوق فجمع في الأول وأفرد الثاني
المسألة الخامسة ما الفائدة في تنكير الإيمان في قوله وَأَتْبَعْنَاهُم ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ نقول هو إما التخصيص أو التنكير كأنه يقول أتبعناهم ذرياتهم بإيمان مخلص كامل أو يقول أتبعناهم بإيمان ما أي شيء منه فإن الإيمان كاملاً لا يوجد في الولد بدليل أن من له ولد صغير حكم بإيمانه فإذا بلغ وصرّح بالكفر وأنكر التبعية قيل بأنه لا يكون مرتداً وتبين بقول إنه لم يتبع وقيل بأنه يكون مرتداً لأنه كفر بعد ما حكم بإيمانه(28/216)
كالمسلم الأصلي فإذن بهذا الخلاف تبين أن إيمانه يقوى وهذان الوجهان ذكرهما الزمخشري ويحتمل أن يكون المراد غير هذا وهو أن يكون التنوين للعوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( البقرة 251 ) وقوله تعالى وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ( النساء 95 ) وبيانه هو أن التقدير أتبعناهم ذرياتهم بإيمان أي بسبب إيمانهم لأن الاتباع ليس بإيمان كيف كان وممن كان وإنما هو إيمان الآباء لكن الإضافة تنبىء عن تقييد وعدم كون الإيمان إيماناً على الإطلاق فإن قول القائل ماء الشجر وماء الرمان يصح وإطلاق اسم الماء من غير إضافة لا يصح فقوله بِإِيمَانٍ يوهم أنه إيمان مضاف إليهم كما قال تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) حيث أثبت الإيمان المضاف ولم يكن إيماناً فقطع الإضافة مع إرادتها ليعلم أنه إيمان صحيح وعوض التنوين ليعلم أنه لا يوجب الأمان في الدنيا إلا إيمان الآباء وهذا وجه حسن
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَى ْءٍ كُلُّ امْرِى ءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ
ثم قال تعالى كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ قال الواحدي هذا عود إلى ذكر أهل النار فإنهم مرتهنون في النار وأما المؤمن فلا يكون مرتهناً قال تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة ٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( المدثر 38 39 ) وهو قول مجاهد وقال الزمخشري كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ عام في كل أحد مرهون عند الله بالكسب فإن كسب خيراً فك رقبته وإلا أربق بالرهن والذي يظهر منه أنه عام في حق كل أحد وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى والله أعلم كل امرىء بما كسب راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبداً وإن أساء ففي النار مخلداً وقد ذكرنا أن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العرض لا يبقى إلا في جوهر ولا يوجد إلا فيه وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات وما عند الله باق والباقي يبقى مع عامله
وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَة ٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
أي زدناهم مأكولاً ومشروباً أما المأكول فالفاكهة واللحم وأما المشروب فالكأس الذي يتنازعون فيها وفي تفسيرها لطائف
اللطيفة الأولى لما قال أَلْحَقْنَا بِهِمْ ( الطور 21 ) بين الزيادة ليكون ذلك جارياً على عادة الملوك في الدنيا إذا زادوا في حق عبد من عبيدهم يزيدون في أقدار أخبازهم وأقطاعهم واختار من المأكول أرفع الأنواع وهو الفاكهة واللحم فإنهما طعام المتنعمين وجمع أوصافاً حسنة في قوله مما يشتهون لأنه لو ذكر نوعاً فربما يكون ذلك النوع غير مشتهى عند بعض الناس فقال كل أحد يعطى ما يشتهي فإن قيل الاشتهاء كالجوع وفيه نوع ألم نقول ليس كذلك بل الاشتهاء به اللذة والله تعالى لا يتركه في الاشتهاء بدون المشتهي حتى يتألم بل المشتهي حاصل مع الشهوة والإنسان في الدنيا لا يتألم إلا بأحد أمرين إما باشتهاء صادق وعجزه عن الوصول إلى المشتهي وإما بحصول أنواع الأطعمة والأشربة عنده وسقوط شهوته وكلاهما منتف في الآخرة
اللطيفة الثانية لما قال ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ونفي النقصان يصدق بحصول المساوي فقال ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي بطريق آخر وهو الزيادة والإمداد فإن قيل أكثر الله من ذكر الأكل(28/217)
والشرب وبعض العارفين يقولون لخاصة الله بالله شغل شاغل عن الأكل والشرب وكل ما سوى الله نقول هذا على العمل ولهذا قال تعالى جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الواقعة 24 ) وقال بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( الطور 16 ) وأما على العلم بذلك فذلك ولهذا قال لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ أي للنفوس ما تتفكه به وللأرواح ما تتمناه من القربة والزلفى
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ
وقوله تعالى يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً فيكون ذلك على عادة الملوك إذا جلسوا في مجالسهم للشرب يدخل عليهم بفواكه ولحوم وهم على الشرب وقوله تعالى يَتَنَازَعُونَ أي يتعاطون ويحتمل أن يقال التنازع التجاذب وحينئذ يكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة لا تجاذب منازعة وفيه نوع لذة وهو بيان ما هو عليه حال الشراب في الدنيا فإنهم يتفاخرون بكثرة الشرب ولا يتفاخرون بكثرة الأكل ولهذا إذا شرب أحدهم يرى الآخر واجباً أن يشرب مثل ما شربه حريفه ولا يرى واجباً أن يأكل مثل ما أكل نديمه وجليسه
وقوله تعالى لا لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ وسواء قلنا فِيهَا عائدة إلى الجنة أو إلى الكأس فذكرهما لجريان ذكر الشراب وحكايته على ما في الدنيا فقال تعالى ليس في الشرب في الآخرة كل ما فيه في الدنيا من اللغو بسبب زوال العقل ومن التأثيم الذي بسبب نهوض الشهوة والغضب عند وفور العقل والفهم وفيه وجه ثالث وهو أن يقال لا يعتريه كما يعتري الشارب بالشرب في الدنيا فلا يؤثم أي لا ينسب إلى إثم وفيه وجه رابع وهو أن يكون المراد من التأثيم السكر وحينئذ يكون فيه ترتيب حسن وذلك لأن من الناس من يسكر ويكون رزين العقل عديم اعتياد العربدة فيسكن وينام ولا يؤذي ولا يتأذى ولا يهذي ولا يسمع إلى من هذى ومنهم من يعربد فقال لاَّ لَغْوٌ فِيهَا
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ
أي بالكؤوس وقال تعالى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ ( الواقعة 17 18 ) وقوله لَهُمْ أي ملكهم إعلاماً لهم بقدرتهم على التصرف فيهم بالأمر والنهي والاستخدام وهذا هو المشهور ويحتمل وجهاً آخر وهو أنه تعالى لما بيّن امتياز خمر الآخرة عن خمر الدنيا بين امتياز غلمان الآخرة عن غلمان الدنيا فإن الغلمان في الدنيا إذا طافوا على السادة الملوك يطوفون عليهم لحظ أنفسهم إما لتوقع النفع أو لتوفر الصفح وأما في الآخرة فطوفهم عليهم متمخض لهم ولنفعهم ولا حاجة لهم إليهم والغلام الذي هذا شأنه له مزية على غيره وربما يبلغ درجة الأولاد وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ أي في الصفاء و مَّكْنُونٌ ليفيد زيادة في صفاء ألوانهم أو لبيان أنهم كالمخدرات لا بروز لهم ولا خروج من عندهم فهم في أكنافهم(28/218)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ
إشارة إلى أنهم يعلمون ما جرى عليهم في الدنيا ويذكرونه وكذلك الكافر لا ينسى ما كان له من النعيم في الدنيا فتزداد لذة المؤمن من حيث يرى نفسه انتقلت من السجن إلى الجنة ومن الضيق إلى السعة ويزداد الكافر ألماً حيث يرى نفسه منتقلة من الشرف إلى التلف ومن النعيم إلى الجحيم ثم يتذكرون ما كانوا عليه في الدنيا من الخشية والخوف فيقولون إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ وهو أنهم يكون تساؤلهم عن سبب ما وصلوا إليه فيقولون خشية الله كنا نخاف الله فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ وفيه لطيفة وهو أن يكون إشفاقهم على فوات الدنيا والخروج منها ومفارقة الإخوان ثم لما نزلوا الجنة علموا خطأهم
فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ
وتعلق الآية بما قبلها ظاهر لأنه تعالى بيّن أن في الوجود قوماً يخافون الله ويشفقون في أهليهم والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى بقوله فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ق 45 ) فحقق من يذكره فوجب التذكير وأما الرسول عليه السلام فليس له إلا الإتيان بما أمر به وفيه مسائل
المسألة الأولى في الفاء في قوله فَذَكّرْ قد علم تعلقه بما قبله فحسن ذكره بالفاء
المسألة الثانية معنى الفاء في قوله فَمَا أَنتَ أيضاً قد علم أي أنك لست بكاهن فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم فإن ذلك سيرة المزور فَذَكّرْ فإنك لست بمزور وذلك سبب التذكير
المسألة الثالثة ما وجه تعلق قوله نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ بقوله شَاعِرٌ نقول فيه وجهان الأول أن العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء وتتقي ألسنتهم فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون وقالوا لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره وإنما سبيلنا الصبر وتربص موته الثاني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول إن الحق دين الله وإن الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر وكتابي يتلى إلى قيام الساعة فقالوا ليس كذلك إنما هو شاعر والذي يذكره في حق آلهتنا شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهلاك فنتربص به ذلك
المسألة الرابعة ما معنى ريب المنون نقول قيل هو اسم للموت فعول من المن وهو القطع والموت قطوع ولهذا سمي بمنون وقيل المنون الدهر وريبه حوادثه وعلى هذا قولهم نَتَرَبَّصُ يحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد أنه إذا كان شاعراً فصروف الزمان ربما تضعف ذهنه وتورث وهنه فيتبين لكل فساد أمره وكساد شعره
المسألة الخامسة كيف قال تَرَبَّصُواْ بلفظ الأمر وأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوجب المأمور ( به ) أو يفيد جوازه(28/219)
وتربصهم ذلك كان حراماً نقول ذلك ليس بأمر وإنما هو تهديد معناه تربصوا ذلك فإنا نتربص الهلاك بكم على حد ما يقول السيد الغضبان لعبده افعل ما شئت فإني لست عنك بغافل وهو أمر لتهوين الأمر على النفس كما يقول القائل لمن يهدده برجل ويقول أشكوك إلى زيد فيقول اشكني أي لا يهمني ذلك وفيه زيادة فائدة وذلك لأنه لو قال لا تشكني لكان ذلك دليل الخوف وينافيه معناه فأتى بجواب تام من حيث اللفظ والمعنى فإن قيل لو كان كذلك لقال تربصوا أو لا تربصوا كما قال فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ ( الطور 16 ) نقول ليس كذلك لأنه إذا قال القائل فيما ذكرناه من المثال اشكني أو لا تشكني يكون ذلك مفيداً عدم خوفه منه فإذا قال اشكني يكون أدل على عدم الخوف فكأنه يقول أنا فارغ عنه وإنما أنت تتوهم أنه يفيد فافعل حتى يبطل اعتقادك
المسألة السادسة في قوله تعالى فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ وهو يحتمل وجوهاً أحدها إني معكم من المتربصين أتربص هلاككم وقد أهلكوا يوم بدر وفي غيره من الأيام هذا ما عليه الأكثرون والذي نقوله في هذا المقام هو أن الكلام يحتمل وجوهاً وبيانها هو أن قوله تعالى نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ إن كان المراد من المنون الموت فقوله إِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ معناه إني أخاف الموت ولا أتمناه لا لنفسي ولا لأحد لعدم علمي بما قدمت يداه وإنما أنا نذير وأنا أقول ما قال ربي أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ( آل عمران 144 ) فتربصوا موتي وأنا متربصه ولا يسركم ذلك لعدم حصول ما تتوقعون بعدي ويحتمل أن يكون كما قيل تربصوا موتي فإني متربص موتكم بالعذاب وإن قلنا المراد من ريب المنون صروف الدهر فمعناه إنكار كون صروف الدهر مؤثرة فكأنه يقول أنا من المتربصين حتى أبصر ماذا يأتي به دهركم الذي تجعلونه مهلكاً وماذا يصيبني منه وعلى التقديرين فنقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتربص ما يتربصون غير أن في الأول تربصه مع اعتقاد الوقوع وفي الثاني تربصه مع اعتقاد عدم التأثير على طريقة من يقول أنا أيضاً أنتظر ما ينتظره حتى أرى ماذا يكون منكراً عليه وقوع ما يتوقع وقوعه وإنما هذا لأن ترك المفعول في قوله إِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ لكونه مذكوراً وهو ريب المنون أولى من تركه وإرادة غير المذكور وهو العذاب الثاني أتربص صروف الدهر ليظهر عدم تأثيرها فهو لم يتربص بهم شيئاً على الوجهين وعلى هذا الوجه يتربص بقاءه بعدهم وارتفاع كلمته فلم يتربص بهم شيئاً على الوجوه التي اخترناها فقال إِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
وأم هذه أيضاً على ما ذكرنا متصلة تقديرها أنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا وذلك لأن الأشياء إما أن تثبت بسمع وإما أن تثبت بعقل فقال هل ورد أمر سمعي أم عقولهم تأمرهم بما كانوا يقولون أم هم قوم طاغون يغترون ويقولون ما لا دليل عليه سمعاً ولا مقتضى له عقلاً والطغيان مجاوزة الحد في العصيان وكذلك كل شيء ظاهره مكروه قال الله تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء ( الحاقه 11 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى إذا كان المراد ما ذكرت فلم أسقط ما يصدر به تقول لأن كون ما يقولون به مسنداً(28/220)
إلى نقل معلوم عدمه لا ينفى وأما كونه معقولاً فهم كانوا يدعون أنه معقول وأما كونهم طاغين فهو حق فخص الله تعالى بالذكر ما قالوا به وقال الله به فهم قالوا نحن نتبع العقل والله تعالى قال هم طاغون فذكر الأمرين اللذين وقع فيهما الخلاف
المسألة الثانية قوله تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ إشارة إلى أن كل ما لا يكون على وفق العقل لا ينبغي أن يقال وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قوله عقلاً فهل صار ( كل ) واجب عقلاً مأموراً به
المسألة الثالثة ما الأحلام نقول جمع حلم وهو العقل وهما من باب واحد من حيث المعنى لأن العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المعقول لا يتحرك من مكانه والحلم من الحلم وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته وكذلك يقال للعقول النهى من النهي وهو المنع وفيه معنى لطيف وهو أن الحلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزمه الغسل وهو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلفاً وكأن الله تعالى من لطيف حكمته قرن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة كمل العقل فأشار إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحلم ليعلم أنه نذير كمال العقل لا العقل الذي به يحترز الإنسان تخطىء الشرك ودخول النار وعلى هذا ففيه تأكيد لما ذكرنا أن الإنسان لا ينبغي أن يقول كل معقول بل لا يقول إلا ما يأمر به العقل الرزين الذي يصحح التكليف
المسألة الرابعة هذا إشارة إلى ماذا نقول فيه وجوه الأول أن يكون هذا إشارة مهمة أي بهذا الذي يظهر منهم قولاً وفعلاً حيث يعبدون الأصنام والأوثان ويقولون الهذيان من الكلام الثاني هذا إشارة إلى قولهم هو كاهن هو شاعر هو مجنون الثالث هذا إشارة إلى التربص فإنهم لما قالوا نتربص قال الله تعالى أعقولهم تأمرهم بتربص هلاكهم فإن أحداً لم يتوقع هلاك نبيه إلا وهلك
المسألة الخامسة هل يصح أن تكون أم في هذا الموضع بمعنى بل نقول نعم تقديره يقولون إنه شاعر قولاً بل يعتقدونه عقلاً ويدخل في عقولهم ذلك أي ليس ذلك قولاً منهم من غير عقل بل يعتقدون كونه كاهناً ومجنوناً ويدل عليه قراءة من قرأ بل هم قوم طاغون لكن بل ههنا واضح وفي قوله بل تأمرهم أحلامهم خفي
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ
وهو متصل بقوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ ( الطور 30 ) وتقديره على ما ذكرنا أتقولون كاهن أم تقولون شاعر أم تقوله
فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
ثم قال لبطلان جميع الأقسام فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أي إن كان هو شاعراً ففيكم الشعراء البلغاء والكهنة الأذكياء ومن يرتجل الخطب والقصائر ويقص القصص ولا يختلف الناقص والزائد فليأتوا بمثل ما أتى به والتقول يراد به الكذب وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن التفعل للتكلف وإراءة الشيء وهو ليس على ما يرى يقال تمرض فلان أي لم يكون مريضاً وأرى من نفسه المرض وحينئذ كأنهم كانوا يقولون كذب وليس بقول إنما هو تقول صورة القول وليس في الحقيقة به ليعلم أن المكذب هو الصادق وقوله تعالى بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ بيان هذا أنهم كانوا في زمان نزول الوحي وحصول المعجزة كانوا(28/221)
يشاهدونها وكان ذلك يقتضي أن يشهدوا له عند غيرهم ويكونوا كالنجوم للمؤمنين كما كانت الصحابة رضي الله عنهم وهم لم يكونوا كذلك بل أقل من ذلك لم يكونوا أيضاً وهو أن يكونوا من آحاد المؤمنين الذين لم يشهدوا تلك الأمور ولم يظهر الأمر عندهم ذلك الظهور
وقوله تعالى فَلْيَأْتُواْ الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم ويبطل كلامه وفيه مباحث
الأول قال بعض العلماء فَلْيَأْتُواْ أمر تعجيز بقول القائل لمن يدعي أمراً أو فعلاً ويكون غرضه إظهار عجزه والظاهر أن الأمر ههنا مبقي على حقيقته لأنه لم يقل ائتوا مطلقاً بل إنما قال ائتوا إن كنتم صادقين وعلى هذا التقدير ووجود ذلك الشرط يجب الإتيان به وأمر التعجيز في كلام الله تعالى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ ( البقرة 258 ) وليس هذا بحثاً يورث خللاً في كلامهم
الثاني قالت المعتزلة الحديث محدث والقرآن سماه حديثاً فيكون محدثاً نقول الحديث اسم مشترك يقال للمحدث والقديم ولهذا يصح أن يقال هذا حديث قديم بمعنى متقادم العهد لا بمعنى سلب الأولية وذلك لا نزاع فيه
الثالث النحاة يقولون الصفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير لكن الموصوف حديث وهو منكر ومثل مضاف إلى القرآن والمضاف إلى المعرف معرف فكيف هذا نقول مثل وغير لا يتعرفان بالإضافة وكذلك كل ما هو مثلهما والسبب أن غير أو مثلاً وأمثالهما في غاية التنكير فإنك إذا قلت ما رأيت شيئاً مثل زيد يتناول كل شيء فإن كل شيء مثل زيد في كونه شيئاً فالجماد مثله في الجسم والحجم والإمكان والنبات مثله في النشوء والنماء والذبول والفناء والحيوان مثله في الحركة والإدراك وغيرهما من الأوصاف وأما غير فهو عند الإضافة ينكر وعند قطع الإضافة ربما يتعرف فإنك إذا قلت غير زيد صار في غاية الإيهام فإنه يتناول أموراً لا حصر لها وأما إذا قطعته عن الإضافة ربما تقول الغير والمغايرة من باب واحد وكذلك التغير فتجعل الغير كأسماء الأجناس أو تجعله مبتدأ وتريد به معنى معيناً
الرابع إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أي في قولهم تَقَوَّلَهُ ( الطور 33 ) وقد ذكرنا أن ذلك راجع إلى ما سبق من أنه كاهن وأن مجنون وأنه شاعر وأنه متقول ولو كانوا صادقين في شيء من ذلك لهان عليهم الإتيان بمثل القرآن ولما امتنع كذبوا في الكل
البحث الخامس قد ذكرنا أن القرآن معجز ولا شك فيه فإن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثل ما يقرب منه عند التحدي فإما أن يكون كونه معجزاً لفصاحته وهو مذهب أكثر أهل السنة وإما أن يكون معجزاً لصرف الله عقول العقلاء عن الإتيان بمثله وعقله ألسنتهم عن النطق بما يقرب منه ومنع القادر من الإتيان بالمقدور كإتيان الواحد بفعل لا يقدر عليه غيره فإن من قال لغيره أنا أحرك هذا الجبل يستبعد منه وكذا إذا قال إني أفعل فعلاً لا يقدر الخلق ( معه ) على حمل تفاحة من موضعها يستبعد منه على أن كل واحد فعل معجز إذا اتصل بالدعوى وهذا مذهب بعض المتكلمين ولا فساد فيه وعلى أن يقال هو معجز بهما جميعاً(28/222)
أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَى ْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ
ومن هنا لا خلاف أن أَمْ ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على أن المراد ما يقع في صدر الكلام من الاستفهام إما بالهمزة فكأنه يقول أخلقوا من غير شيء أو هل ويحتمل أن يقال هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره أما خلقوا أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون وفيه مسائل
المسألة الأولى ما وجه تعلق الآية بما قبلها نقول لما كذبوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونسبوه إلى الكهانة والجنون والشعر وبرأه الله من ذلك ذكر الدليل على صدقه إبطالاً لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم كأنه يقول كيف يكذبونه وفي أنفسهم دليل صدقه لأن قوله في ثلاثة أشياء في التوحيد والحشر والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم به صدقه وبيانه هو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما بينا أن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد وقد بينا وجهه مراراً فلا نعيده
وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه ويدل على ما ذكرنا أن الله تعالى ختم الاستفهامات بقوله أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( الطور 43 )
المسألة الثانية إذا كان الأمر على ما ذكرت فلم حذف قوله أما خلقوا نقول لظهور انتفاء ذلك ظهوراً لا يبقى معه للخلاف وجه فإن قيل فلم لم يصدر بقوله أما خلقوا ويقول أم خلقوا من غير شيء نقول ليعلم أن قبل هذا أمراً منفياً ظاهراً وهذا المذكور قريب منه في ظهور البطلان فإن قيل قوله أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَى ْء أيضاً ظاهر البطلان لأنهم علموا أنهم مخلوقون من تراب وماء ونطفة نقول الأول أظهر في البطلان لأن كونهم غير مخلوقين أمر يكون مدعيه منكراً للضرورة فمنكره منكر لأمر ضروري
المسألة الثالثة ما المراد من قوله تعالى مِنْ غَيْرِ شَى ْء نقول فيه وجوه المنقول منها أنهم خلقوا من غير خالق وقيل إنهم خلقوا لا لشيء عبثاً وقيل إنهم خلقوا من غير أب وأم ويحتمل أن يقال أم خلقوا من غير شيء أي ألم يخلقوا من تراب أو من ماء ودليله قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ ( المرسلات 20 ) ويحتمل أن يقال الاستفهام الثاني ليس بمعنى النفي بل هو بمعنى الإثبات قال الله تعالى ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ ( الواقعة 59 ) و ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرِعُونَ ( الواقعة 64 ) ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ( الواقعة 72 ) كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال الله تعالى أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَى ْء أي الصادق هو هذا الثاني حينئذ وهذا كما في قوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ( الإنسان 8 ) فإن قيل كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب نقول والتراب خلق من غير شيء فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه وأسندت النظر إلى ابتداء أمره وجدته خلق من غير شيء أو نقول المراد أم خلقوا من غير شيء مذكور أو معتبر وهو الماء المهين(28/223)
المسألة الرابعة ما الوجه في ذكر الأمور الثلاثة التي في الآية نقول هي أمور مرتبة كل واحد منها يمنع القول بالوحدانية والحشر فاستفهم بها وقال أما خلقوا أصلاً ولذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد وهو الخلق وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول أم خلقوا من غير شيء أي أم يقولون بأنهم خلقوا لا لشيء فلا إعادة كما قال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون 115 ) وعلى قولنا إن المراد خلقوا لا من تراب ولا من ماء فله وجه ظاهر وهو أن الخلق إذا لم يكن من شيء بل يكون إيداعياً يخفي كونه مخلوقاً على بعض الأغبياء ولهذا قال بعضهم السماء رفع اتفاقاً ووجد من غير خالق وأما الإنسان الذي يكون أولاً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحماً وعظماً لا يتمكن أحد من إنكاره بعد مشاهدة تغير أحواله فقال تعالى أَمْ خَلَقُواْ بحيث يخفى عليهم وجه خلقهم بأن خلقوا ابتداء من غير سبق حالة عليهم يكونون فيها تراباً ولا ماء ولا نطفة ليس كذلك بل هم كانوا شيئاً من تلك الأشياء خلقوا منه خلقاً فما خلقوا من غير شيء حتى ينكروا الوحدانية ولهذا قال تعالى يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ ( الزمر 6 ) ولهذا أكثر الله من قوله خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ ( الإنسان 2 ) وقوله أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ يتناول الأمرين المذكورين في هذا الموضع لأن قوله أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء يحتمل أن يكون نفي المجموع بنفي الخلق فيكون كأنه قال أخلقتم لا من ماء وعلى قول من قال المراد منه أم خلقوا من غير شيء أي من غير خالق ففيه ترتيب حسن أيضاً وذلك لأن نفي الصانع إما أن يكون بنفي كون العالم مخلوقاً فلا يكون ممكناً وإما أن يكون ممكناً لكن الممكن لا يكون محتاجاً فيقع الممكن من غير مؤثر وكلاهما محال وأما قوله تعالى أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ فمعناه أهم الخالقون للخلق فيعجز الخالق بكثرة العمل فإن دأب الإنسان أنه يعيا بالخلق فما قولهم أما خلقوا فلا يثبت لهم إلاه ألبتة أم خلقوا وخفي عليهم وجه الخلق أم جعلوا الخالق مثلهم فنسبوا إليه العجز ومثل قوله تعالى أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( ق 15 ) هذا بالنسبة إلى الحشر وأما بالنسبة إلى التوحيد فهو رد عليهم حيث قالوا الأمور مختلفة واختلاف الآثار يدل على اختلاف المؤثرات وقالوا أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً ( ص 5 ) فقال تعالى أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ حيث لا يقدر الخباز على الخياطة والخياط على البناء وكل واحد يشغله شأن عن شأن
أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ
فيه وجوه أحدها ما اختاره الزمخشري وهو أنهم لا يوقنون بأنهم خلقوا وهو حينئذ في معنى قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) أي هم معترفون بأنه خلق الله وليس خلق أنفسهم وثانيها المراد بل لا يوقنون بأن الله واحد وتقديره ليس الأمر كذلك أي ما خلقوا وإنما لا يوقنون بوحدة الله وثالثها لا يوقنون أصلاً من غير ذكر مفعول يقال فلان ليس بمؤمن وفلان ليس بكافر لبيان مذهبه وإن لم ينو مفعولاً وكذلك قول القائل فلان يؤذي ويؤدي لبيان ما فيه لا مع القصد إلى ذكر مفعول وحينئذ يكون تقديره أنهم ما خلقوا السماوات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل بل لا يوقنون أصلاً وإن جئتهم بكل آية يدل عليه قوله تعالى بعد ذلك(28/224)
وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ( الطور 44 ) وهذه الآية إشارة إلى دليل الآفاق وقوله من قبل أَمْ خَلَقُواْ ( الطور 37 ) دليل الأنفس
أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ
فيه وجوه أحدها المراد من الخزائن خزائن الرحمة ثانيها خزائن الغيب ثالثها أنه إشارة إلى الأسرار الإلاهية المخفية عن الأعيان رابعها خزائن المخلوقات التي لم يرها الإنسان ولم يسمع بها وهذه الوجوه الأول والثاني منقول والثالث والرابع مستنبط وقوله تعالى أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ تتمة للرد عليهم وذلك لأنه لما قال أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ إشارة إلى أنهم ليسوا بخزنة ( رحمة ) الله فيعلموا خزائن الله وليس بمجرد انتفاء كونهم خزنة ينتفي العلم لجواز أن يكون مشرفاً على الخزانة فإن العلم بالخزائن عند الخازن والكاتب في الخزانة فقال لستم بخزنة ولا بكتبة الخزانة المسلطين عليها ولا يبعد تفسير المسيطرين بكتبة الخزانة لأن التركيب يدل على السطر وهو يستعمل في الكتاب وقيل المسيطر المسلط وقرىء بالصاد وكذلك في كثير من السيئات التي مع الطاء كما في قوله تعالى بِمُسَيْطِرٍ ( الغاشية 22 ) و ( قد قرىء ) مصيطر
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
وهو أيضاً تتميم للدليل فإن من لا يكون خازناً ولا كاتباً قد يطلع على الأمر بالسماع من الخازن أو الكاتب فقال أنتم لستم بخزنة ولا كتبة ولا اجتمعتم بهم لأنهم ملائكة ولا صعود لكم إليهم وفيه مسائل
المسألة الأولى المقصود نفي الصعود ولا يلزم من نفي السلم لهم نفي الصعود فما الجواب عنه نقول النفي أبلغ من نفي الصعود وهو نفي الاستماع وآخر الآية شامل للكل قال تعالى فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
المسألة الثانية السلم لا يستمع فيه وإنما يستمع عليه فما الجواب نقول من وجهين أحدهما ما ذكره الزمخشري أن المراد يَسْتَمِعُونَ صاعدين فيه وثانيهما ما ذكره الواحدي أن في بمعنى على كما في قوله تعالى وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ ( طه 71 ) أي جذوع النخل وكلاهما ضعيف لما فيه من الإضمار والتغيير
المسألة الثالثة لم ترك ذكر مفعول يَسْتَمِعُونَ وماذا هو نقول فيه وجوه أحدها المستمع هو الوحي أي هل لهم سلم يستمعون فيه الوحي ثانيها يستمعون ما يقولون من أنه شاعر وأن لله شريكاً وأن الحشر لا يكون ثالثها ترك المفعول رأساً كأنه يقول هل لهم قوة الاستماع من السماء حتى يعلموا أنه ليس برسول وكلامه ليس بمرسل
المسألة الرابعة قال فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم ولم يقل فليأتوا كما قال تعالى فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( الطور 34 ) نقول طلب منهم ما يكون أهون على تقدير صدقهم ليكون اجتماعهم عليه أدل على بطلان قولهم فقال هناك فَلْيَأْتُواْ أي اجتمعوا عليه وتعاونوا وأتوا بمثله فإن ذلك عند الاجتماع أهون وأما الارتقاء في السلم بالاجتماع ( فإنه ) متعذر لأنه لا يرتقي إلا واحد بعد واحد ولا يحصل في الدرجة العليا إلا(28/225)
واحد فقال فَلْيَأْتِ ذلك الواحد الذي كان أشد رقياً بما سمعه
المسألة الخامسة قوله بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ما المراد به نقول هو إشارة إلى لطيفة وهي أنه لو طلب منهم ما سمعوه وقيل لهم فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بما سمع لكان لواحد أن يقول أنا سمعت كذا وكذا فيفتري كذباً فقال لا بل الواجب أن يأتي بدليل يدل عليه
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ
إشارة إلى نفي الشرك وفساد ما يقولون بطريق آخر وهو أن المتصرف إنما يحتاج إلى الشريك لعجزه والله قادر فلا شريك له فإنهم قالوا نحن لا نجعل هذه الأصنام وغيرها شركاء وإنما نعظمها لأنها بنات الله فقال تعالى كيف تجعلون لله البنات وخلق البنات والبنين إنما كان لجواز الفناء على الشخص ولولا التوالد لانقطع النسل وارتفع الأصل من غير أن يقوم مقامه الفصل فقدر الله التوالد ولهذا لا يكون في الجنة ولادة لأن الدار دار البقاء لا موت فيها للآباء حتى تقام العمارة بحدوث الأبناء إذا ثبت هذا فالولد إنما يكون في صورة إمكان فناء الأب ولهذا قال تعالى في أوائل سورة آل عمران الْحَى ُّ الْقَيُّومُ ( آل عمران 2 ) أي حي لا يموت فيحتاج إلى ولد يرثه وهو قيوم لا يتغير ولا يضعف فيفتقر إلى ولد ليقوم مقامه لأنه ورد في نصارى نجران ثم إن الله تعالى بيّن هذا بأبلغ الوجوه وقال إنهم يجعلون له بنات ويجعلون لأنفسهم بنين مع أن جعل البنات لهم أولى وذلك لأن كثير البنات تعين عل كثرة الأولاد لأن الإناث الكثيرة يمكن منهن الولادة بأولاد كثيرة من واحد وأما الذكور الكثيرة لا يمكن منهم إحبال أنثى واحدة بأولاد ألا ترى أن الغنم لا يذبح منها الإناث إلا نادراً وذلك لما ثبت أن إبقاء النوع بالأنثى أنفع نظراً إلى التكثير فقال تعالى أنا القيوم الذي لا فناء لي ولا حاجة لي في بقاء النوع في حدوث الشخص وأنتم معرضون للموت العاجل وبقاء العالم بالإناث أكثر وتتبرءون منهن والله تعالى مستغن عن ذلك وتجعلون له البنات وعلى هذا فما تقدم كان إشارة إلى نفي الشريك نظراً إلى أنه لابتداء لله وهذا إشارة إلى نفي الشريك نظراً إلى أنه لا فناء له فإن قيل كيف وقع لهم نسبة البنات إلى الله تعالى مع أن هذا أمر في غاية القبح لا يخفى على عاقل والقوم كان لهم العقول التي هي مناط التكليف وذلك القدر كاف في العلم بفساد هذا القول نقول ذلك القول دعاهم إليه اتباع العقل وعدم اعتبار النقل ومذهبهم في ذلك مذهب الفلاسفة حيث يقولون يجب اتباع العقل الصريح ويقولون النقل بمعزل لا يتبع إلا إذا وافق العقل وإذا وافق فلا اعتبار للنقل لأن العقل هناك كاف ثم قالوا الوالد يسمى والداً لأنه سبب وجود الولد ولهذا يقال إذا ظهر شيء من شيء هذا تولد من ذلك فيقولون الحمى تتولد من عفونة الخلط فقالوا الله تعالى سبب وجود الملائكة سبباً واجباً لا اختيار له فسموه بالوالد ولم يلتفتوا إلى وجوب تنزيه الله في تسميته بذلك عن التسمية بما يوهم النقص ووجوب الاقتصار في أسمائه على الأسماء الحسنى التي ورد بها الشرع لعدم اعتبارهم النقل فقالوا يجوز إطلاق الأسماء المجازية والحقيقية على الله تعالى وصفاته فسموه عاشقاً ومعشوقاً وسموه أباً ووالداً ولم يسموه ابناً ولا مولوداً باتفاقهم وذلك ضلالة(28/226)
أَمْ تَسْألُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
وجه التعلق هو أن المشركين لما اطرحوا الشرع واتبعوا ما ظنوه عقلاً وسموا الموجود بعد العدم مولوداً ومتولداً والموجد والداً لزمهم الكفر بسببه والإشراك فقال لهم ما الذي يحملكم على اطراح الشرع وترك اتباع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هل ذلك لطلبه منكم شيئاً فما كان يسعهم أن يقولوا نعم فلم يبق لهم إلا أن يقولوا لا فنقول لهم كيف اتبعتم قول الفلسفي الذي يسوغ لكم الزور وما يوجب الاستخفاف بجانب الله تعالى لفظاً إن لم يكن معنى كما تقولون ولا تتبعون الذي يأمركم بالعدل في المعنى والإحسان في اللفظ ويقول لكم اتبعوا المعنى الحق الواضح واستعملوا اللفظ الحسن المؤدب وهذا في غاية الحسن من التفسير ففيه مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في سؤال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال أم تسألهم ولم يقل أم يسألون أجراً كما قال تعالى أَمْ يَقُولُونَ ( يونس 38 ) وقال تعالى أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ( الطور 42 ) إلى غير ذلك نقول فيه فائدتان
إحداهما تسلية قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأنهم لما امتنعوا من الاستماع واستنكفوا من الاتباع صعب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له ربه أنت أتيت بما عليك فلا يضيق صدرك حيث لم يؤمنوا فأنت غير ملوم وإنما كنت تلام لو كنت طلبت منهم أجراً فهل طلبت ذلك فأثقلهم لا فلا حرج عليك إذاً
ثانيهما أنه لو قال أم يسألون لزم نفي أجر مطلقاً وليس كذلك وذلك لأنهم كانوا يشركون ويطالبون بالأجر من رؤسائهم وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له أنت لا تسألهم أجراً فهم لا يتبعونك وغيرك يسألهم وهم يسألون ويتبعون السائلين وهذا غاية الضلال
المسألة الثانية إن قال قائل ألزمت أن تبين أن أم لا تقع إلا متوسطة حقيقة أو تقديراً فكيف ذلك ههنا نقول كأنه تعالى يقول أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجراً وترك الأول لعدم وقوع الإنكار عليه كما قلنا في قوله أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ ( الطور 39 ) إن المقدار هو واحد أم له البنات وترك ذكر الأول لعدم وقوع الإنكار عليه من الله تعالى وكونهم قائلين بأنه لا يريد وجه الله تعالى وإنما يريد الرياسة والأجر في الدنيا
المسألة الثالثة هل في خصوص قوله تعالى أَجْراً فائدة لا توجد في غيره لو قال أم تسألهم شيئاً أو مالاً أو غير ذلك نقول نعم وقد تقدم القول مني أن كل لفظ في القرآن فيه فائدة وإن كنا لا نعلمها والذي يظهر ههنا أن ذلك إشارة إلى أن ما يأتي به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيه مصلحتهم وذلك لأن الأجر لا يطلب إلا عند فعل شيء يفيد المطلوب منه الأجر فقال أنت أتيتهم بما لو طلبت عليه أجراً وعلموا كمال ما في دعوتك من المنفعة لهم وبهم لأتوك بجميع أموالهم ولفدوك بأنفسهم ومع هذا لا تطلب منهم أجراً ولو قال شيئاً أو مالاً لما حصلت هذه الفائدة والله أعلم
المسألة الرابعة هذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجراً ما وقوله تعالى قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى(28/227)
( الشورى 23 ) يدل على أنه طلب أجراً ما فكيف الجمع بينهما نقول لا تفرقة بينهما بل الكل حق وكلاهما ككلام واحد وبيانه هو أن المراد من قوله إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى هو أني لا أسألكم عليه أجراً يعود إلى الدنيا وإنما أجرى المحبة في الزلفى إلى الله تعالى وأن عباد الله الكاملين أقرب إلى الله تعالى من عباده الناقصين وعباد الله الذين كلمهم الله وكلموه وأرسلهم لتكميل عباده فكملوا أقرب إلى الله من الذين ( لم يكلمهم و ) لم يرسلهم الله ولم يكملوا وعلى هذا فهو في معنى قوله إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ( يونس 72 ) وإليه أنتمي وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ) وقوله فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ وبين ما ذكرنا أن قوله أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً المراد أجر الدنيا وقوله قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً المراد العموم ثم استثنى ولا حاجة إلى ما قاله الواحدي إن ذلك منقطع معناه لكن المودة في القربى وقد ذكرناه هناك فليطلب منه
المسألة الخامسة قوله تعالى فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ إشارة إلى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما طلب منهم شيئاً ولو طالبهم بأجر ما كان لهم أن يتركوا اتباعه بأدنى شيء اللّهم إلا إن أثقلهم التكليف ويأخذ كل ما لهم ويمنعهم التخليف فيثقلهم الدين بعد ما لا يبقى لهم العين
أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
وهو على الترتيب الذي ذكرناه كأنه تعالى قال لهم بم اطرحتم الشرع ومحاسنه وقلتم ما قلتم بناء على اتباعكم الأوهام الفاسدة التي تسمونها المعقولات والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يطلب منكم أجراً وأنتم لا تعلمون فلا عذر لكم لأن العذر إما في الغرامة وإما في عدم الحاجة إلى ما جاء به ولا غرامة عليكم فيه ولا غنى لكم عنه وفيه مسائل
المسألة الأولى كيف التقدير قلنا لا حاجة إلى التقدير بل هو استفهام متوسط على ما ذكرنا كأنه قال أتهديهم لوجه الله تعالى أم تسألهم أجراً فيمتنعون أم لا حاجة لهم إلى ما تقول لكونهم عندهم الغيب فلا يتبعون
المسألة الثانية الألف واللام في الغيب لتعريف ماذا ألجنس أو لعهد نقول الظاهر أن المراد نوع الغيب كما يقول القائل اشترى اللحم يريد بيان الحقيقة لأكل لحم ولا لحماً معيناً والمراد في قوله تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ( الأنعام 73 ) الجنس واستغراقه لكل غيب
المسألة الثالثة على هذا كيف يصح عندهم الغيب وما عند الشخص لا يكون غيباً نقول معناه حضر عندهم ما غاب عن غيرهم وقيل هذا متعلق بقوله نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( الطور 30 ) أي أعندكم الغيب تعلمون أنه يموت قبلكم وهو ضعيف لبعد ذلك ذكر أو لأن قوله تعالى قُلْ تَرَبَّصُواْ متصل به وذلك يمنع اتصال هذا بذلك
المسألة الرابعة ما الفائدة في قوله فَهُمْ يَكْتُبُونَ نقول وضوح الأمر وإشارة إلى أن ما عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من علم الغيب علم بالوحي أموراً وأسراراً وأحكاماً وأخباراً كثيرة كلها هو جازم بها وليس كما يقول(28/228)
المتفرس الأمر كذا وكذا فإن قيل اكتب به خطك أنه يكون يمتنع ويقول أنا لا أدعي فيه الجزم والقطع ولكن أذكره كذا وكذا على سبيل الظن والاستنباط وإن كان قاطعاً يقول اكتبوا هذا عني وأثبتوا في الدواوين أن في اليوم الفلاني يقع كذا وكذا فقوله أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ يعني هل صاروا في درجة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حتى استغنوا عنه وأعرضوا ونقل عن ابن قتيبة أن المراد من الكتابة الحكم معناه يحكمون وتمسك بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اقض بيننا بكتاب الله ) أي حكم الله وليس المراد ذلك بل هو من باب الإضمار معناه بما في كتاب الله تعالى يقال فلان يقضي بمذهب الشافعي أي بما فيه ويقول الرسول الذي معه كتاب الملك للرعية اعملوا بكتاب الملك
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى ما وجه التعلق والمناسبة بين الكلامين قلنا يبين ذلك ببيان المراد من قوله أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فبعض المفسرين قال أم يريدون أن يكيدوك فهم المكيدون أي لا يقدرون على الكيد فإن الله يصونك بعينه وينصرك بصونه وعلى هذا إذا قلنا بقول من يقول أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ ( القلم 47 ) متصل بقوله تعالى نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( الطور 30 ) فيه ترتيب في غاية الحسن وهو أنهم لما قالوا نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قيل لهم أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم أم تريدون كيداً فتقولون نقتله فيموت قبلنا فإن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون وإن كنتم تظنون أنكم تقدرون عليه فأنتم غالطون فإن الله يصونه عنكم وينصره عليكم وأما على ما قلنا إن المراد منه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لا يسألكم على الهداية مالاً وأنتم لا تعلمون ما جاء به لولا هدايته لكونه من الغيوب فنقول فيه وجوه الأول أن المراد من قوله تعالى أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً أي من الشيطان وإزاغته فيحصل مرادهم كأنه تعالى قال أنت لا تسألهم أجراً وهم يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كيد الشيطان ورضوا بإزاغته والإرادة بمعنى الاختيار والمحبة كما قال تعالى مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ ( الشورى 20 ) وكما قال ءالِهَة ً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ( الصافات 86 ) وأظهر من ذلك قوله تعالى إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ ( المائدة 29 ) الوجه الثاني أن يقال إن المراد والله أعلم أم يريدون كيداً لله فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدون وترتيب الكلام هو أنهم لما لم يبق حجة في الإعراض فهم يريدون نزول العذاب بهم والله أرسل إليهم رسولاً لا يسألهم أجراً ويهديهم إلى ما لا علم لهم ولا كتاب عندهم وهم يعرضون فهم يريدون إذاً أن يهلكهم ويكيدهم لأن الاستدراج كيد والإملاء لازدياد الإثم كذلك لا يقال هو فاسد لأن الكيد والإساءة لا يطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة وكذلك المكر فلا يقابله أساء الله إلى الكفار ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولاً فيهم شيء من ذلك ثم قال بعد ذلك بسببه لفظاً في حق الله تعالى كما في قوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) وقال فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ( البقرة 194 ) وقال وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) وقال يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ( الطارق 15 16 ) لأنا نقول الكيد ما يسوء من نزل به وإن حسن ممن وجد منه ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ ( الأنبياء 57 ) من غير مقابلة(28/229)
المسألة الثانية ما الفائدة في قوله تعالى فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ وما الفرق بين معنى هذا الكلام ومعنى قول القائل أم يريدون كيداً فهم المكيدون نقول الفائدة كون الكافر مكيداً في مقابلة كفره لا في مقابلة إرادته الكيد ولو قال أم يريدون كيداً فهم المكيدون كان يفهم منه أنهم إن لم يريدوه لا يكونوا مكيدين وهذا يؤيد ما ذكرناه أن المراد من الكيد كيد الشيطان أو كيد الله بمعنى عذابه إياهم لأن قوله فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ عام في كل كافر كاده الشيطان ويكيده الله أي يعذبه وصار المعنى على ما ذكرناه أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجراً فتثقلهم فيمتنعون عن الاتباع أم عندهم الغيب فلا يحتاجون إليك فيعرضون عنك أم ليس شيء من هذين الأمرين الأخيرين فيريدون العذاب والعذاب غير مدفوع عنهم بوجه من الوجوه لكفرهم فالذين كفروا معذبون
المسألة الثالثة ما الفائدة في تنكير الكيد حيث لم يقل أم يريدون كيدك أو الكيد أو غير ذلك ليزول الإبهام نقول فيه فائدة وهي الإشارة إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرون فكأنه قال يأتيهم بغتة ولا يكون لهم به علم أو يكون إيراداً لعظمته كما ذكرنا مراراً
أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
أعاد التوحيد وهو يفيد فائدة قوله تعالى أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( الطور 39 ) وفي سُبْحَانَ اللَّهِ بحث شريف وهو أهل اللغة قالوا سبحان اسم علم للتسبيح وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) وأكثرنا من الفوائد فإن قيل يجوز أن نقول سبحان الله اسم مصدر ونقول سبحان على وزن فعلان فنذكر سبحان من غير مواضع الإيقاع لله كما يقال في التسبيح نقول ذلك مثل قول القائل من حرف جار وفي كلمة ظرف حيث يخبر عنه مع أن الحرف لا يخبر عنه فيجاب بأن من وفى حينئذ جعلا كالاسم ولم يتركا على أصلهما المستعمل في مثل قولك أخذت من زيد والدرهم في الكيس فكذلك سبحان فيما ذكر من المواضع لم يترك على مواضع استعماله فإنه حينئذ لم يترك علماً كما يقال زيد على وزن فعل بخلاف التسبيح فيما ذكرنا
المسألة الرابعة ما في قوله تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يحتمل وجهين أحدهما أن تكون مصدرية معناه سبحانه عن إشراكهم ثانيهما خبرية معناه عن الذين يشركون وعلى هذا فيحتمل أن يكون عن الولد لأنهم كانوا يقولون البنات لله فقال سبحان الله على البنات والبنين ويحتمل أن يكون عن مثل الآلهة لأنهم كانوا يقولون هو مثل ما يعبدونه فقال سبحان الله عن مثل ما يعبدونه
وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ
وجه الترتيب فيه هو أنه تعالى لما بيّن فساد أقوالهم وسقوطها عن درجة الاعتبار أشار إلى أنه لم يبق لهم شيء من وجه الاعتذار فإن الآيات ظهرت والحجج تميزت ولم يؤمنوا وبعد ذلك يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ أي ينكرون الآية لكن الآية إذا أظهرت في أظهر الأشياء كانت أظهر وبيانه هو أن من يأتي بجسم من الأجسام من بيته وادعى فيه أنه فعل به كذا فربما يخطر ببال السامع أنه في بيته ولما(28/230)
يبدعه فإذا قال للناس هاتوا جسماً تريدون حتى أجعل لكم منه كذا يزول ذلك الوهم لكن أظهر الأشياء عند الإنسان الأرض التي هي مهده وفرشه والسماء التي هي سقفه وعرشه وكانت العرب على مذهب الفلاسفة في أصل المذهب ولا يلتفت إلى قول الفلسفي نحن ننزه غاية التنزيه حتى لا نجوز رؤيته واتصافه بوصف زائد على ذاته ليكون واحداً في الحقيقة فكيف يكون مذهبنا مذهب من يشرك بالله صنماً منحوتاً نقول أنتم لما نسبتم الحوادث إلى الكواكب وشرعتم في دعوة الكواكب أخذ الجهال عنكم ذلك واتخذوه مذهباً وإذا ثبت أن العرب في الجاهلية كانت في الأصل على مذهب الفلاسفة وهم يقولون بالطبائع فيقولون الأرض طبعها التكوين والسماء طبعها يمنع الانفصل والانفكاك فقال الله تعالى رداً عليهم في مواضع إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء ( سبأ 9 ) إبطالاً للطبائع وإيثاراً للاختيار في الوقائع فقال ههنا إن أتينا بشيء غريب في غاية الغرابة في أظهر الأشياء وهو السماء التي يرونها أبداً ويعلمون أن أحداً لا يصل إليها ليعدد بالأدوية وغيرها ما يجب سقوطها لأنكروا ذلك فكيف فيما دون ذلك من الأمور والذي يؤيد ما ذكرناه وأنهم كانوا على مذهب الفلاسفة في أمر السماء أنهم قالوا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ( الإسراء 92 ) أي ذلك في زعمك ممكن فأما عندنا فلا والكسفة القطعة يقال كسفة من ثوب أي قطعة وفيه مباحث
البحث الأول استعمل في السماء لفظة الكسف واللغويون ذكروا استعمالها في الثوب لأن الله تعالى شبه السماء بالثوب المنشور ولهذا ذكره فيما مضى فقال وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ ( الزمر 67 ) وقال تعالى يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء ( الأنبياء 104 )
البحث الثاني استعمل الكسف في السماء والخسف في الأرض فقال تعالى نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ ( سبأ 9 ) وهو يدل على قول من قال يقال في القمر خسوف وفي الشمس كسوف ووجهه أن مخرج الخاء دون مخرج الكاف ومخرج الكاف فوقه متصل به فاستعمل وصف الأسفل للأسفل والأعلى للأعلى فقالوا في الشمس والسماء الكسوف والكسف وفي القمر والأرض الخسوف والخسف وهذا من قبيل قولهم في الماتح والمايح إن ما نقطه فوق لمن فوق البئر وما نقطه من أسفل عند من يجوز نقطه من أسفل لمن تحت في أسفل البئر
البحث الثالث قال في السحاب ونجعله كسفاً مع أنه تحت القمر وقال في القمر وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( القيامة 8 ) وذلك لأن القمر عند الخسوف له نظير فوقه وهو الشمس عند الكسوف والسحاب اعتبر فيه نسبته إلى أهل الأرض حيث ينظرون إليه فلم يقل في القمر خسف بالنسبة إلى السحاب وإنما قيل ذلك بالنسبة إلى الشمس وفي السحاب قيل بالنسبة إلى الأرض
المسألة الثانية ساقطاً يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مفعولاً ثانياً يقال رأيت زيداً عالماً وثانيهما أن يكون حالاً كما يقال ضربته قائماً والثاني أولاً لأن الرؤية عند التعدي إلى مفعولين في أكثر الأمر تكون بمعنى العلم تقول أرى هذا المذهب صحيحاً وهذا الوجه ظاهراً وعند التعدي إلى واحد تكون بمعنى رأي العين في الأكثر تقول رأيت زيداً وقال تعالى لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 84 ) وقال فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً ( مريم 26 ) والمراد في الآية رؤية العين(28/231)
المسألة الثالثة في قوله سَاقِطاً فائدة لا تحصل في غير السقوط وذلك لأن عندهم لا يجوز الانفصال على السماوات ولا يمكن نزولها وهبوطها فقال ساقطاً ليكون مخالفاً لما يعتقدونه من وجهين أحدهما الانفصال والآخر السقوط ولو قال وإن يروا كسفاً منفصلاً أو معلقاً لما حصلت هذه الفائدة
المسألة الرابعة في قوله يَقُولُواْ فائدة أخرى وذلك لأنه يفيد بيان العناد الذي هو مقصود سرد الآية وذلك لأنهم في ذلك الوقت يستخرجون وجوهاً حتى لا يلزمهم التسليم فيقولون سحاب قولاً من غير عقيدة وعلى هذا يحتمل أن يقال وَإِن يَرَوْاْ المراد العلم ليكون أدخل في العناد أي إذا علموا وتيقنوا أن السماء ساقطة غيروا وعاندوا وقالوا هذا سحاب مركوم
المسألة الخامسة قوله تعالى يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ إشارة إلى أنهم حين يعجزون عن التكذيب ولا يمكنهم أن يقولوا لم يقع شيء على الأرض يرجعون إلى التأويل والتخييل وقوله مَّرْكُومٌ أي مركب بعضه على بعض كأنهم يدفعون عن أنفسهم ما يورد عليهم بأن السحاب كالهواء لا يمنع نفوذ الجسم فيه وهذا أقوى مانع فيقولون إنه ركام فصار صلباً قوياً
المسألة السادسة في إسقاط كلمة الإشارة حيث لم يقل يقولوا هذا إشارة إلى وضوح الأمر وظهور العناد فلا يستحسنون أن يأتوا بما لا يبقى معه مراء فيقولون سَحَابٌ مَّرْكُومٌ مع حذف المبتدأ ليبقى للقائل فيه مجال فيقول عند تكذيب الخلق إياهم قلنا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ شبهه ومثله وأن يتمشى الأمر مع عوامهم استمروا وهذا مجال من يخاف من كلام ولا يعلم أنه يقبل منه أو لا يقبل فيجعله ذا وجهين فإن رأى النكر على أحدهما فسّره بالآخرون وإن رأى القبول خرج بمراده
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ
أي إذا تبين أنهم لا يرجعون فدعهم حتى يلاقوا وفيه مسائل
المسألة الأولى فَذَرْهُمْ أمر وكان يجب أن يقال لم يبق للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) جواز دعائهم إلى الإسلام وليس كذلك والجواب عنه من وجوه أحدها أن هذه الآيات مثل قوله تعالى فَأَعْرَضَ ( النساء 63 ) تَوَلَّ عَنْهُمْ ( الصافات 78 ) إلى غير ذلك كلها منسوخة بآية القتال وهو ضعيف ثانيها ليس المراد الأمر وإنما المراد التهديد كما يقول سيد العبد الجاني لمن ينصحه دعه فإنه سينال وبال جنايته ثالثها أن المراد من يعاند وهو غير معين والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعو الخلق على سبيل العموم ويجوز أن يكون المراد بالخطاب من لم يظهر عناده لا من ظهر عناده فلم يقل الله في حقه فَذَرْهُمْ ويدل على هذا أنه تعالى قال من قبل فَذَكّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ ( الطور 29 ) وقال ههنا فَذَرْهُمْ فمن يذكرهم هم المشفقون الذين قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( الطور 26 ) ومن يذرهم الذين قالوا شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( الطور 30 ) إلى غير ذلك
المسألة الثانية حَتَّى للغاية فيكون كأنه تعالى قال ذرهم إلى ذلك اليوم ولا تكلمهم ثم ذلك اليوم(28/232)
تجدد الكلام وتقول ألم أقل لكم إن الساعة آتية وإن الحساب يقوم والعذاب يدوم فلا تكلمهم إلى ذلك اليوم ثم كلمهم لتعلمهم ثانيها أن المراد من حتى الغاية التي يستعمل فيها اللام كما يقول القائل لا تطعمه حتى يموت أي ليموت لأن اللام التي للغرض عندها ينتهي الفعل الذي للغرض فيوجد فيها معنى الغاية ومعنى التعليل ويجوز استعمال الكلمتين فيها ولعلّ المراد من قوله تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 ) هذا أي إلى أن يأتيك اليقين فإن قيل فمن لا يذره أيضاً يلاقي ذلك اليوم نقول المراد من قوله يُصْعَقُونَ يهلكون فالمذكر المشفق لا يهلك ويكون مستثنى منهم كما قال تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمِنَ الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) وقذ ذكرنا هناك أن من اعترف بالحق وعلم أن يوم الحساب كائن فإذا وقعت الصيحة يكون كمن يعلم أن الرعد يرعد ويستعد لسماعه ومن لا يعلم يكون كالغافل فإذا وقعت الصيحة ارتجف الغافل ولم يرتجف العالم وحينئذ يكون التوعد بملاقاة يومهم لأن كل أحد يلاقي يومه وإنما يكون بملاقاة يومهم الذي فيه يصعقون أي اليوم الموصوف بهذه الصفة وهذا كما قال تعالى لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَة ٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ ( القلم 49 ) فإن المنفي ليس النبذ بالعراء لأنه تحقق بدليل قوله تعالى فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ ( الصافات 145 ) وإنما المنفي النبذ الذي يكون معه مذموماً وهذا لم يوجد
المسألة الثالثة حَتَّى ينصب ما بعدها من الفعل المستقبل تارة ويرفع أخرى والفاصل بينهما أن الفعل إذا كان مستقبلاً منتظراً لا يقع في الحال ينصب تقول تعلمت الفقه حتى ترتفع درجتي فإنك تنتظره وإن كان حالاً يرفع تقول أكرر حتى تسقط قوتي ثم أنام والسبب فيه هو أن حتى المستقبل للغاية ولام التعليل للغرض والغرض غاية الفعل تقول لم تبنى الدار يقول للسكنى أنصار قوله حتى ترفع كقوله لأرفع وفيهما إضمار أن فإن قيل ما قلت شيئاً وما ذكرت السبب في النصب عند إرادة الاستقبال والرفع عند إرادة الحال نقول الفعل المستقبل إذا كان منتظراً وكان تصب العين ومنصوباً لدى الذهن يرقبه يفعل بلفظه ما كان في معناه ولهذا قالوا في الإضافة أن المضاف لما جر أمراً إلى أمر في المعنى جزء في اللفظ والذي يؤيد ما ذكرنا أن الفعل إنما ينصب بأن ولن وكي وإذن وخلوص الفعل للاستقبال في هذه المواضع لازم والحرف الذي يجعل الفعل للحال يمنع النصب حيث لا يجوز أن تقول إن فلاناً ليضرب فإن قيل السين وسوف مع أنهما يخلصان الفعل للاستقبال لا ينصبان ويمنعان النصب بالناصب كما في قوله تعالى عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى ( المزمل 20 ) نقول سوف والسين ليسا بمعنى غير اختصاص الفعل بالاستقبال وأن ولن بمعنى لا يصح إلا في الاستقبال فلم يثبت بالسين إلا الاستقبال ولم يثبت به معنى في الاستقبال والمنتظر هو ما في الاستقبال لا نفس الاستقبال مثاله إذا قلت أعبد الله كي يغفر لي أو ليغفر لي أثبتت كي غرضاً وهو المغفرة وهي في المستقبل من الزمان وإذا قلت أستغفرك ربي أثبتت السين استقبال المغفرة وفرق بين ما يكون المقصود من الكلام بيان الاستقبال لكن الاستقبال لا يوجد إلا في معنى فأتى بالمعنى ليبين به الاستقبال وبين ما يكون المقصود منه معنى في المستقبل فتذكر الاستقبال لتبين محل مقصودك
يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(28/233)
لما قال يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ ( الطور 45 ) وكل بر وفاجر يلاقي يومه أعاد صفة يومهم وذكر ما يتميز به يومهم عن يوم المؤمنين فقال يَوْمَ لاَ يُغْنِى وهو يخالف يوم المؤمنين فإنه تعالى قال فيه يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ ( المائدة 119 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى في يَوْمَ لاَ يُغْنِى وجهان الأول بدل عن قوله يَوْمَهُمُ ( الطور 45 ) ثانيهما ظرف يُلَاقُواْ أي يلاقو يومهم يوم فإن قيل هذا يلزم منه أن يكون اليوم في يوم فيكون اليوم ظرف اليوم نقول هو على حد قول من يقول يأتي يوم قتل فلان يوم تبين جرائمه ولا مانع منه وقد ذكرنا بحث الزمان وجواز كونه ظرفاً في قوله تعالى يَوْمَئِذٍ وجواز إضافة اليوم إلى الزمان مع أنه زمان
المسألة الثانية قال تعالى يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ ولم يقل يوم لا يغنيهم كيدهم مع أن الإغناء يتعدى بنفسه لفائدة جليلة وهي أن قول القائل أغناني كذا يفهم منه أنه نفعني وقوله أغنى عني يفهم منه أنه دفع عني الضرر وذلك لأن قوله أغناني معناه في الحقيقة أفادني غير مستفيد وقوله أغنى عني أي لم يحوجني إلى الحضور فأغنى غيري عن حضوري يقول من يطلب لأمر خذوا عني ولدي فإنه يغني عني أي يغنيكم عني فيدفع عني أيضاً مشقة الحضور فقوله لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ أي لا يدفع عنهم الضرر ولا شك أن قوله لا يدفع عنهم ضرراً أبلغ من قوله لا ينفعهم نفعاً وإنما في المؤمن لو قال يوم يغني عنهم صدقهم لما فهم منه نفعهم فقال يَوْمُ يَنفَعُ ( المائدة 119 ) كأنه قال يوم يغنيهم صدقهم فكأنه استعمل في المؤمن يغنيهم وفي الكافر لا يغني عنهم وهو مما لا يطلع عليه إلا من يكون عنده من علم البيان طرف ويتفكر بقريحة وقادة آيات الله ووفقه الله
المسألة الثالثة الأصل تقديم الفاعل على المفعول والأصل تقديم المضمر على المظهر أما في الأول فلأن الفاعل متصل بالفعل ولهذا قالوا فعلت فأسكنوا اللام لئلا يلزم أربع متحركات في كلمة واحدة وقالوا ضربك ولم يسكنوا لأن الكاف ضمير المفعول وهو منفصل وأما تقديم المضمر فلأنه يكون أشد اختصاراً فإنك إذا قلت ضربني زيد يكون أقرب إلى الاختصار من قولك ضرب زيد إياي فإن لم يكن هناك اختصار كقولك مربي زيد ومربي فالأولى تقديم الفاعل وههنا لو قال يوم لا يغنيهم كيدهم كان الأحسن تقديم المفعول فإذا قال يوم لا يغني عنهم صار كما قلنا في مر زيد بي فلم لم يقدم الفاعل نقول فيه فائدة مستفادة من علم البيان وهو أن تقديم الأهم أولى فلو قال يوم لا يغني كيدهم كان السامع لهذا الكلام ربما يقول لا يغني كيدهم غيرهم فيرجو الخير في حقهم وإذا سمع لا يغني عنهم انقطع رجاؤه وانتظر الأمر الذي ليس بمغن
المسألة الرابعة قد ذكرنا أن معنى الكيد هو فعل يسوء من نزل به وإن حسن ممن صدر منه فما الفائدة في تخصيص العمل الذي يسوء بالذكر ولم يقل يوم لا يغني عنهم أفعالهم على الإطلاق نقول هو قياس بالطريق الأولى لأنهم كانوا يأتون بفعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين وكانوا يعتقدون أنه أحسن أعمالهم فقال ما أغنى أحسن أعمالهم الذي كانوا يعتقدون فيه ليقطع رجاءهم عما دونه وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال من قبل أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ( الطور 42 ) وقد قلنا إن أكثر المفسرين على أن المراد به تدبيرهم في قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال هُمُ الْمَكِيدُونَ أي لا ينفعهم كيدهم في الدنيا فماذا يفعلون يوم لا ينفعهم ذلك الكيد بل يضرهم وقوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(28/234)
فيه وجوه أحدها أنه متمم بيان وجهه هو أن الداعي أولاً يرتب أموراً لدفع المكروه بحيث لا يحتاج إلى الانتصار بالغير والمنة ثم إذا لم ينفعه ذلك ينتصر بالأغيار فقال لا ينفعهم أفعال أنفسهم ولا ينصرهم عند اليأس وحصول اليأس عن إقبالهم ثانيها أن المراد منه ما هو المراد من قوله تعالى لاَّ تُغْنِ عَنّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ ( ي س 23 ) فقوله يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي عبادتهم الأصنام وقولهم هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا ( يونس 18 ) وقولهم مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا ( الزمر 3 ) وقوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ أي لا نصير لهم كما لا شفيع ودفع العذاب إما بشفاعة شفيع أو بنصر ناصر ثالثها أن نقول الإضافة في كيدهم إضافة المصدر إلى المفعول لا إضافته إلى الفاعل فكأنه قال لا يغني عنهم كيد الشيطان إياهم وبيانه هو أنك تقول أعجبني ضرب زيداً عمراً وأعجبني ضرب عمرو فإذا اقتصرت على المصدر والمضاف إليه لا يعلم إلا بالقرينة والنية فإذا سمعت قول القائل أعجبني ضرب زيد يحتمل أن يكون زيد ضارباً ويحتمل أن يكون مضروباً فإذا سمعت قول القائل أعجبني قطع اللص على سرقته دلّت القرينة على أنه مضاف إلى المفعول فإن قيل هذا فاسد من حيث إنه إيضاح واضح لأن كيد المكيد لا ينفع قطعاً ولا يخفى على أحد فلا يحتاج إلى بيان لكن كيد الكائد يظن أنه ينفع فقال تعالى ذلك لا ينفع نقول كيد الشيطان إياهم على عبادة الأصنام وهم كانوا يظنون أنها تنفع وأما كيدهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يعلمون أنه لا ينفع في الآخرة وإنما طلبوا أن ينفعهم في الدنيا لا في الآخرة فالإشكال ينقلب على صاحب الوجه الأول ولا إشكال على الوجهين جميعاً إذا تفكرت فيما قلناه
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
في اتصال الكلام وجهان أحدهما متصل بقوله تعالى فَذَرْهُمْ ( الطور 5 ) وذلك لأنه يدل على عدم جواز القتال وقد قيل إنه نازل قبل شرع القتال وحينئذ كأنه قال فذرهم ولا تذرهم مطلقاً من غير قتال بل لهم قبل يوم القيامة عذاب يوم بدر حيث تؤمر بقتالهم فيكون بياناً وعداً ينسخ فذرهم بالعذاب يوم بدر ثانيهما هو متصل بقوله تعالى لاَ يُغْنِى ( الطور 46 ) وذلك لأنه لما بين أن كيدهم لا يغني عنهم قال ولا يقتصر على عدم الإغناء بل لهم مع أن كيدهم لا يغني ويل آخر وهو العذاب المعد لهم ولو قال لا يغني عنهم كيدهم كان يوهم أنه لا ينفع ولكن لا يضر ولما قال مع ذلك وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً زال ذلك وفيه مسائل
المسألة الأولى الذين ظلموا هم أهل مكة إن قلنا العذاب هو عذاب يوم بدر وإن قلنا العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم
المسألة الثانية ما المراد من الظلم ههنا نقول فيه وجوه الأول هو كيدهم نبينهم والثاني عبادتهم الأوثان والثالث كفرهم وهذا مناسب للوجه الثاني
المسألة الثالثة دون ذلك على قول أكثر المفسرين معناه قبل ويؤيده قوله تعالى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الاْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاْكْبَرِ ( السجدة 21 ) ويحتمل وجهين آخرين أحدهما دون ذلك أي أقل من ذلك في الدوام والشدة يقال الضرب دون القتل في الإيلام ولا شك أن عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة(28/235)
على هذا المعنى وعلى هذا ففيه فائدة التنبيه على عذاب الآخرة العظيم وذلك لأنه إذا قال عذاباً دون ذلك أي قتلاً وعذاباً في القبر فيتفكر المتفكر ويقول ما يكون القتل دونه لا يكون إلا عظيماً فإن قيل فهذا المعنى لا يمكن أن يقال في قوله تعالى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الاْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاْكْبَرِ قلنا نسلم ذلك ولكن لا مانع من أن يكون المراد ههنا هذا الثاني على طريقة قول القائل تحت لجاجك مفاسد ودون غرضك متاعب وبيانه هو أنهم لما عبدوا غير الله ظلموا أنفسهم حيث وضعوها في غير موضعها الذي خلقت له فقيل لهم إن لكم دون ذلك الظلم عذاباً
المسألة الرابعة ذالِكَ إشارة إلى ماذا نقول الظاهر أنه إشارة إلى اليوم وفيه وجهان آخران أحدهما في قوله يُصْعَقُونَ ( الطور 45 ) وقوله يُغْنِى عَنْهُمْ ( الطور 46 ) إشارة إلى عذاب واقع فقوله ذلك إشارة إليه ويمكن أن يقال قد تقدم قوله إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( الطور 7 ) وقوله دُونِ ذَلِكَ أي دون ذلك العذاب ثانيهما دُونِ ذَلِكَ أي كيدهم فذلك إشارة إلى الكيد وقد بينا وجهه في المثال الذي مثلنا وهو قول القائل تحت لجاجك حرمانك والله أعلم
المسألة الخامسة وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ذكرنا فيه وجوهاً أحدها أنه جرى على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر كما قال تعالى أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ( سبأ 41 ) ثم إن الله تعالى تكلم على تلك العادة ليعلم أن الله استحسنها من المتكلم حيث يكون ذلك بعيداً عن الخلف ثانيها منهم من آمن فلم يكن ممن لا يعلم ثالثها هم في أكثر الأحوال لم يعلموا وفي بعض الأحوال علموا وأقله أنهم علموا حال الكشف وإن لم ينفعهم
المسألة السادسة مفعول لاَّ يَعْلَمُونَ جاز أن يكون هو ما تقدم من الأمر وهو أن لهم عذاباً دون ذلك وجاز أن لا يكون له مفعول أصلا فيكون المراد أكثرهم غافلون جاهلون
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ
وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ( طه 130 ) ونشير إلى بعضه ههنا فإن طول العهد ينسي فنقول لما قال تعالى فَذَرْهُمْ ( الطور 45 ) كان فيه الإشارة إلى أنه لم يبق في نصحهم نفع ولا سيما وقد تقدم قوله تعالى وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء ( الطور 44 ) وكان ذلك مما يحمل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الدعاء كما قال نوح عليه السلام رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) وكما دعا يونس عليه السلام فقال تعالى وَاصْبِرْ وبدل اللعن بالتسبيح وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بدل قولك اللّهم أهلكهم ألا ترى إلى قوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( القلم 48 ) وقوله تعالى فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا فيه وجوه الأول أنه تعالى لما بيّن أنهم يكيدونه كان ذلك مما يقتضي في العرف المبادرة إلى إهلاكهم لئلا يتم كيدهم فقال اصبر ولا تخف فإنك محفوظ بأعيننا ثانيها أنه تعالى قال فاصبر ولا تدع عليهم فإنك بمرأى منا نراك وهذه الحالة تقتضي أن تكون على أفضل ما يكون من الأحوال لكن كونك مسبحاً لنا أفضل من كونك داعياً على عباد خلقناهم فاختر الأفضل فإنك بمرأى منا ثالثها أن من يشكو حاله عند(28/236)
غيره يكون فيه إنباء عن عدم علم المشكو إليه بحال الشاكي فقال تعالى اصبر ولا تشك حالك فإنك بأعيننا نراك فلا فائدة في شكواك وفيه مسائل مختصة بهذا الموضع لا توجد في قوله فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( طه 130 )
المسألة الأولى اللام في قوله وَاصْبِرْ لِحُكْمِ تحتمل وجوهاً الأول هي بمعنى إلى أي اصبر إلى أن يحكم الله الثاني الصبر فيه معنى الثبات فكأنه يقول فاثبت لحكم ربك يقال ثبت فلان لحمل قرنه الثالث هي اللام التي تستعمل بمعنى السبب يقال لم خرجت فيقال لحكم فلان علي بالخروج فقال وَاصْبِرْ واجعل سبب الصبر امتثال الأمر حيث قال واصبر لهذا الحكم عليك لا لشيء آخر
المسألة الثانية قال ههنا بِأَعْيُنِنَا وقال في مواضع أخر وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ( طه 39 ) نقول لما وحد الضمير هناك وهو ياء المتكلم وحده وحد العين ولما ذكر ههنا ضمير الجمع في قوله بِأَعْيُنِنَا وهو النون جمع العين وقال بِأَعْيُنِنَا هذا من حيث اللفظ وأما من حيث المعنى فلأن الحفظ ههنا أتم لأن الصبر مطية الرحمة بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث اجتمع له الناس وجمعوا له مكايد وتشاوروا في أمره وكذلك أمره بالفلك وأمره بالاتخاذ عند عدم الماء وحفظه من الغرق مع كون كل البقاع مغمورة تحت الماء تحتاج إلى حفظ عظيم في نظر الخلق فقال بِأَعْيُنِنَا
المسألة الثالثة ما وجه تعلق الباء ههنا قلنا قد ظهر من جميع الوجوه أما إن قلنا بأنه للحفظ فتقديره محفوظ بأعيننا وإن قلنا للعلم فمعناه بمرأى منا أي بمكان نراك وتقديره فإنك بأعيننا مرئي وحينئذ هو كقول القائل رأيته بعيني كما يقال كتب بالقلم الآلة وإن كان رؤية الله ليست بآلة فإن قيل فما الفرق في الموضعين حيث قال في طه عَلَى عَيْنِى ( طه 39 ) وقال ههنا بِأَعْيُنِنَا وما الفرق بين على وبين الباء نقول معنى على هناك هو أنه يرى على ما يرضاه الله تعالى كما يقول أفعله على عيني أي على رضاي تقديره على وجه يدخل في عيني وألتفت إليه فإن من يفعل شيئاً لغيره ولا يرتضيه لا ينظر فيه ولا يقلب عينه إليه والباء في قوله وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قد ذكرناها وقوله حِينَ تَقُومُ فيه وجوه الأول تقوم من موضعك والمراد قبل القيام حين ما تعزم على القيام وحين مجيء القيام وقد ورد في الخبر أن من قال ( سبحان الله ) من قبل أن يقوم من مجلسه يكتب ذلك كفارة لما يكون قد صدر منه من اللفظ واللغو في ذلك المجلس الثاني حين تقوم من النوم وقد ورد أيضاً فيه خبر يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان ( يسبح بعد الانتباه ) الثالث حين تقوم إلى الصلاة وقد ورد في الخبر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول في افتتاح الصلاة ( سبحانك اللّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إلاه غيرك ) الرابع حين تقوم لأمر ما ولا سيما إذا قمت منتصباً لمجاهدة قومك ومعاداتهم والدعاء عليهم فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وبدل قيامك للمعاداة وانتصابك للانتقام بقيامك لذكر الله وتسبيحه الخامس حِينَ تَقُومُ أي بالنهار فإن الليل محل السكون والنهار محل الإبتغاء وهو بالقيام أولى ويكون كقوله وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ إشارة إلى ما بقي من الزمان وكذلك وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( الطور 49 ) وهو أول الصبح
وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ
وقوله تعالى وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ(28/237)
وقد تقدم تفسيره وهو كقوله تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) وقد ذكرنا فائدة الاختصاص بهذه الأوقات ومعناه ونختم هذه السورة بفائدة وهي أنه تعالى قال ههنا وَإِدْبَارَ النُّجُومِ وقال في وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( ق 40 ) ويحتمل أن يقال المعنى واحد والمراد من السجود جمع ساجد وللنجوم سجود قال تعالى وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) وقيل المراد من النجم نجوم السماء وقيل النجم ما لا ساق له من النبات قال الله تعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( النحل 49 ) أو المراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نجم في اللغة أي إذا فرغت من وظائف الصلاة فقل سبحان الله وقد ورد في الحديث ( من قال عقيب الصلاة سبحان الله عشر مرات والحمد لله عشر مرات والله أكبر عشر مرات كتب له ألف حسنة ) فيكون المعنى في الموضعين واحد لأن السجود من الوظائف والمشهور والظاهر أن المراد من إدبار النجوم وقت الصبح حيث يدبر النجم ويخفى ويذهب ضياؤه بضوء الشمس وحينئذ تبين ما ذكرنا من الوجه الخامس في قوله حِينَ تَقُومُ ( الطور 48 ) أن المراد منه النهار لأنه محل القيام وَمِنَ الَّيْلِ القدر الذي يكون الإنسان في يقظان فيه وَإِدْبَارَ النُّجُومِ وقت الصبح فلا يخرج عن التسبيح إلا وقت النوم وهذا آخر تفسير هذه السورة والله أعلم والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم(28/238)
سورة النجم
ستون وآيتان مكية
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى
وقبل الشروع في التفسير نقدم مسائل ثم نتفرغ للتفسير وإن لم تكن منه
الأولى أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لفظاً ومعنى أما اللفظ فلأن ختم الطور بالنجم وافتتاح هذه بالنجم مع واو القسم وأما المعنى فنقول الله تعالى لما قال لنبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ( الطور 49 ) بيّن له أنه جزأه في أجزاء مكايدة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالنجم وبعده فقال مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( النجم 2 )
المسألة الثانية السورة التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأسماء دون الحروف وهي الصافات والذاريات والطور وهذه السورة بعدها بالأولى فيها القسم لإثبات الوحدانية كما قال تعالى إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ( الصافات 4 ) وفي الثانية لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ( الذاريات 5 6 ) وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( الطور 7 8 )
وفي هذه السورة لنبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لتكمل الأصول الثلاثة الوحدانية والحشر والنبوة
المسألة الثالثة لم يقسم الله على الوحدانية ولا على النبوة كثيراً أما على الوحدانية فلأنه أقسم بأمر واحد في سورة الصافات وأما على النبوة فلأنه أقسم بأمر واحد في هذه السورة وبأمرين في سورة الضحى وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به فإن قوله تعالى وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( الليل 1 ) وقوله تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( الشمس 1 ) وقوله تعالى وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ( البروج 1 ) إلى غير ذلك كلها فيها الحشر أو ما يتعلق به وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة كلها عقلية كما قيل وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد(28/239)
ودلائل النبوة أيضاً كثيرة وهي المعجزات المشهورة والمتواترة وأما الحشر فإمكانه يثبت بالعقل وأما وقوعه فلا يمكن إثباته إلا بالسمع فأكثر القسم ليقطع به المكلف ويعتقده اعتقاداً جازماً وأما التفسير ففيه مسائل
الأولى الواو للقسم بالنجم أو برب النجم ففيه خلاف قدمناه والأظهر أنه قسم بالنجم يقال ليس للقسم في الأصل حرف أصلاً لكن الباء والواو استعملنا فيه لمعنى عارض وذلك لأن الباء في أصل القسم هي الباء التي للإلصاق والاستعانة فكما يقول القائل استعنت بالله يقول أقسمت بالله وكما يقول أقوم بعون الله على العدو يقول أقسم بحق الله فالباء فيهما بمعنى كما تقول كتب بالقلم فالباء في الحقيقة ليست للقسم غير أن القسم كثر في الكلام فاستغنى عن ذكره وغيره لم يكثر فلم يستغن عنه فإذا قال القائل بحق زيد فهم منه القسم لأن المراد لو كان هو مثل قوله ادخل زيد أو اذهب بحق زيد أو لم يقسم بحق زيد لذكر كما ذكر في هذه الأشياء لعدم الاستغناء فلما لم يذكر شيء علم أن الحذف للشهرة والاستغناء وذلك ليس في غير القسم فعلم أن المحذوف فعل القسم فكأنه قال أقسم بحق زيد فالباء في الأصل ليس للقسم لكن لما عرض ما ذكرنا من الكثرة والاشتهار قيل الباء للقسم ثم إن المتكلم نظر فيه فقال هذا لا يخلو عن التباس فإني إذا قلت بالله توقف السامع فإن سمع بعده فعلاً غير القسم كقوله بالله استعنت وبالله قدرت وبالله مشيت وأخذت لا يحمله على القسم وإن لم يسمع حمله على القسم إن لم يتوهم وجود فعل ما ذكرته ولم يسمعه أما إن توهم أني ذكرت مع قولي بالله شيئاً آخر وما سمعه هو أيضاً يتوقف فيه ففي الفهم توقف فإذا أراد المتكلم الحكيم إذهاب ذلك مع الاختصار وترك ما استغنى عنه وهو فعل القسم أبدل الباء بالتاء وقال تالله فتكلم بها في كلمة الله لاشتهار كلمة الله والأمن من الإلتباس فإن التاء في أوائل الكلمات قد تكون أصلية وقد تكون للخطاب والتأنيث فلو أقسم بحرف التاء بمن اسمه داعي أو راعي أو هادي أو عادي يقول تداعى أو تراعى أو تهادى أو تعادى فيلتبس وكذلك فيمن اسمه رومان أو توران إذا قلت ترومان أو تتوران على أنك تقسم بالتاء تلتبس بتاء الخطاب والتأنيث في الاستقبال فأبدلوها واواً لا يقال عليه إشكالان الأول مع الواو لم يؤمن الالتباس نقول ولى فتلتبس الواو الأصلية بالتي للقسم لأنا نقول ذلك لم يلزم فيما ذهبنا إليه وإنما كان ذلك في الواو حيث يدل وينبىء عن العطف وإن لم يستعمل الواو للقسم كيف وذلك في الباء التي هي كالأصل متحقق تقول برام في جمع برمة وبهام في جمع بهمة وبغال للبسية الباء الأصلية التي في البغال والبرام بالباء التي تلصقها بقولك مال ورأى فتقول بمال وأما التاء لما استعملت للقسم لزم من ذلك الاستعمال الالتباس حيث لم يكن من قبل حرفاً من الأدوات كالباء والواو الإشكال الثاني لم تركت مما لا التباس فيه كقولك تالرحيم وتالعظيم نقول لما كانت كلمة الله تعالى في غاية الشهرة والظهور استعملت التاء فيها على خلاف الأصل بمعنى لم يجز أن يقال عليها إلا ما يكون في شهرتها وأما غيرها فربما يخفى عند البعض فإن من يسمع الرحيم وسمع في الندرة تر بمعنى قطع ربما يقول ترحيم فعل وفاعل أو فعل ومفعول وإن كان ذلك في غاية البعد لكن الاستواء في الشهرة في المنقول منه والمنقول إليه لازم ولا مشهور مثل كلمة الله على أنا نقول لم قلت إن عند الأمن لا تستعمل ألا ترى أنه نقل عن العرب برب الكعبة والذي يؤيد ما ذكرنا أنت تقول أقسم بالله ولا تقول أقسم تالله لأن التاء فيه مخافة(28/240)
الالتباس عند حذف الفعل من القسم وعند الإتيان به لم يخف ذلك فلم يجز
المسألة الثانية اللام في قوله تعالى وَالنَّجْمِ لتعريف العهد في قول ولتعريف الجنس في قول والأول قول من قال وَالنَّجْمِ المراد منه الثريا قال قائلهم إن بدا النجم عشيا
ابتغى الراعي كسياً
والثاني فيه وجوه أحدها النجم هو نجم السماء التي هي ثابتة فيها للاهتداء وقيل لا بل النجم المنقضة فيها التي هي رجوم للشياطين ثانيها نجوم الأرض وهي من النبات ما لا ساق له ثالثها نجوم القرآن ولنذكر مناسبة كل وجه ونبيّن فيه المختار منها أما على قولنا المراد الثريا فهو أظهر النجوم عند الرائي لأن له علامة لا يلتبس بغيره في السماء ويظهر لكل أحد والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تميز عن الكل بآيات بينات فأقسم به ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق بالبكر حان إدراك الثمار وإذا ظهرت بالعشاء أواخر الخريف نقل الأمراض والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما ظهر قل الشك والأمراض القلبية وأدركت الثمار الحكمية والحلمية وعلى قولنا المراد هي النجوم التي في السماء للاهتداء نقول النجوم بها الاهتداء في البراري فأقسم الله بها لما بينهما من المشابهة والمناسبة وعلى قولنا المراد الرجوم من النجوم فالنجوم تبعد الشياطين عن أهل السماء والأنبياء يبعدون الشياطين عن أهل الأرض وعلى قولنا المراد القرآن فهو استدل بمعجزة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على صدقه وبراءته فهو كقوله تعالى يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ي س 1 4 ) ما ضللت ولا غويت وعلى قولنا النجم هو النبات فنقول النبات به ثبات القوى الجسمانية وصلاحها والقوة العقلية أولى بالإصلاح وذلك بالرسل وإيضاح السبل ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي هي في السماء لأنها أظهر عند السامع وقوله إِذَا هَوَى أدل عليه ثم بعد ذلك القرآن أيضاً فيه ظهور ثم الثريا
المسألة الثالثة القول في وَالنَّجْمِ كالقول في وَالطُّورِ حيث لم يقل والنجوم ولا الأطوار وقال وَالذرِيَاتِ المرسلات وقد تقدم ذكره
المسألة الرابعة ما الفائدة في تقييد القسم به بوقت هو به نقول النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرض لا يهتدي به الساري لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال فإذا زال تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال كذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خفض جناحه للمؤمنين وكان على خلق عظيم كما قال تعالى مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 4 ) وكما قال تعالى فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) إن قيل الاهتداء بالنجم إذا كان على أفق المشرق كالاهتداء به إذا كان على أفق المغرب فلم يبق ما ذكرت جواباً عن السؤال نقول الاهتداء بالنجم وهو مائل إلى المغرب أكثر لأنه يهدي في الطريقين الدنيوي والديني أما الدنيوي فلما ذكرنا وأما الديني فكما قال الخليل لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) وفيه لطيفة وهي أن الله لما أقسم بالنجم شرفه وعظمه وكان من المشركين من يعبده فقرن بتعظيمه وصفاً يدل على أنه لم يبلغ درجة العبادة فإنه هاوٍ آفل
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى
ثم قال تعالى ما ضل صاحبكم وما غوى أكثر المفسرين لم يفرقوا بين الضلال والغي والذي قاله(28/241)
بعضهم عند محاولة الفرق أن الضلال في مقابلة الهدى والغي في مقابلة الرشد قال تعالى وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَى ّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ( الأعراف 146 ) وقال تعالى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( البقرة 256 ) وتحقيق القول فيه أن الضلال أعم استعمالاً في الوضع تقول ضل بعيري ورحلي ولا تقول غوى فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلا والغواية أن لا يكون له طريق إلى المقصد مستقيم يدلك على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السداد إنه سفيه غير رشيد ولا تقول إنه ضال والضال كالكافر والغاوي كالفاسق فكأنه تعالى قال مَا ضَلَّ أي ما كفر ولا أقل من ذلك فما فسق ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ( النساء 6 ) أو نقول الضلال كالعدم والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة وقوله صَاحِبُكُمْ فيه وجهان الأول سيدكم والآخر مصاحبكم يقال صاحب البيت ورب البيت ويحتمل أن يكون المراد من قوله مَا ضَلَّ أي ما جن فإن المجنون ضال وعلى هذا فهو كقوله تعالى ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ( القلم 1 3 ) فيكون إشارة إلى أنه ما غوى بل هو رشيد مرشد دال على الله بإرشاد آخر كما قال تعالى قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( الشعراء 109 ) وقال إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ( يونس 72 ) وقوله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 4 ) إشارة إلى قوله ههنا وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى فإن هذا خلق عظيم ولنبين الترتيب فنقول قال أولاً مَا ضَلَّ أي هو على الطريق وَمَا غَوَى أي طريقه الذي هو عليه مستقيم وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى أي هو راكب متنه آخذ سمت المقصود وذلك لأن من يسلك طريقاً ليصل إلى مقصده فربما يبقى بلا طريق وربما يجد إليه طريقاً بعيداً فيه متاعب ومهالك وربما يجد طريقاً واسعاً آمناً ولكنه يميل يمنة ويسرة فيبعد عنه المقصد ويتأخر عليه الوصول فإذا سلك الجادة وركب متنها كان أسرع وصولاً ويمكن أن يقال وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى دليل على أنه ما ضل وما غوى تقديره كيف يضل أو يغوى وهو لا ينطق عن الهوى وإنما يضل من يتبع الهوى ويدل عليه قوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( ص 26 ) فإن قيل ما ذكرت من الترتيب الأول على صيغة الماضي في قوله مَا ضَلَّ وصيغة المستقبل في قوله وَمَا يَنطِقُ في غاية الحسن أي ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون في صغره وَمَا غَوَى حين اختلى بنفسه ورأى منامه ما رأى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى الآن حيث أرسل إليكم وجعل رسولاً شاهداً عليكم فلم يكن أولاً ضالاً ولا غاوياً وصار الآن منقذاً من الضلالة ومرشداً وهادياً وأما على ما ذكرت أن تقديره كيف يضل وهو لا ينطق عن الهوى فلا توافقه الصيغة نقول بلى وبيانه أن الله تعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر والمعايب القبيحة كالسرقة والزنا واعتياد الكذب فقال تعالى مَا ضَلَّ في صغره لأنه لا ينطق عن الهوى وأحسن ما يقال في تفسير الهوى أنها المحبة لكن من النفس يقال هويته بمعنى أحببته لكن الحروف التي في هوى تدل على الدنو والنزول والسقوط ومنه الهاوية فالنفس إذا كانت دنيئة وتركت المعالي وتعلقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمارة بالسوء ولو قلت أهواه بقلبي لزال ما فيه من السفالة لكن الاستعمال بعد استبعاد استعمال القرآن حيث لم يستعمل الهوى إلا في المواضع الذي يخالف المحبة فإنها مستعملة في موضع المدح والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا إلى قوله وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ( النازعات 37 40 ) إشارة إلى علو مرتبة النفس(28/242)
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى
ثم قال تعالى إن هو إلا وحي يوحى بكلمة البيان وذلك لأنه تعالى لما قال وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) كأن قائلاً قال فبماذا ينطق أعن الدليل أو الاجتهاد فقال لا وإنما ينطق عن الله بالوحي وفيه مسائل
المسألة الأولى ءانٍ استعملت مكان ما للنفي كما استعملت ما للشرط مكان إن قال تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا ( البقرة 106 ) والمشابهة بينهما من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأن إن من الهمزة والنون وما من الميم والألف والألف كالهمزة والنون كالميم أما الأول فبدليل جواز القلب وأما الثاني فبدليل جواز الإدغام ووجوبه وأما المعنى فلأن إن تدل على النفي من وجه وعلى الإثبات من وجه ولكن دلالتها على النفي أقوى وأبلغ لأن الشرط والجزاء في صورة استعمال لفظة إن يجب أن يكون في الحالة معدوماً إذا كان المقصود الحث أو المنع تقول إن تحسن فلك الثواب وإن تسيء فلك العذاب وإن كان المراد بيان حال القسمين المشكوك فيهما كقولك إن كان هذا الفص زجاجاً فقيمته نصف وإن كان جوهراً فقيمته ألف فههنا وجود شيء منهما غير معلوم وعدم العلم حاصل وعدم العلم ههنا كعدم الحصول في الحث والمنع فلا بد في صور استعمال إن عدم إما في الأمر وإما في العلم وإما الوجود فذلك عند وجود الشرط في بيان الحال ولهذا قال النحاة لا يحسن أن يقال إن احمر البسر آتيك لأن ذلك أمر سيوجد لا محالة وجوزوا استعمال إن فيما لا يوجد أصلاً يقال في قطع الرجاء إن ابيض القار تغلبني قال الله تعالى فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى ( الأعراف 143 ) ولم يوجد الاستقرار ولا الرؤية فعلم أن دلالته على النفي أتم فإن مدلوله إلى مدلول ما أقرب فاستعمل أحدهما مكان الآخر هذا هو الظاهر وما يقال إن وما حرفان نافيان في الأصل فلا حاجة إلى الترادف
المسألة الثانية هو ضمير معلوم أو ضمير مذكور نقول فيه وجهان أشهرهما أنه ضمير معلوم وهو القرآن كأنه يقول ما القرآن إلا وحي وهذا على قول من قال النجم ليس المراد منه القرآن وأما على قول من يقول هو القرآن فهو عائد إلى مذكور والوجه الثاني أنه عائد إلى مذكور ضمناً وهو قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكلامه وذلك لأن قوله تعالى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) في ضمنه النطق وهو كلام وقول فكأنه تعالى يقول وما كلامه وهو نطقه إلا وحي وفيه وجه آخر أبعد وأدق وهو أن يقال قوله تعالى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ قد ذكر أن المراد منه في وجه أنه ما جن وما مسّه الجن فليس بكاهن وقوله وَمَا غَوَى أي ليس بينه وبين الغواية تعلق فليس بشاعر فإن الشعراء يتبعهم الغاوون وحينئذ يكون قوله وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى رداً عليهم حيث قالوا قوله قول كاهن وقالوا قوله قول شاعر فقال ما قوله إلا وحي وليس بقول كاهن ولا شاعر كما قال تعالى وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ( الحاقة 41 42 )
المسألة الثالثة الوحي اسم أو مصدر نقول يحتمل الوجهين فإن الوحي اسم معناه الكتاب ومصدر وله معان منها الإرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارة والإفهام فإن قلنا هو ضمير القرآن فالوحي اسم(28/243)
معناه الكتاب كأنه يقول ما القرآن إلا كتاب ويوحى بمعنى يرسل ويحتمل على هذا أيضاً أن يقال هو مصدر أي ما القرآن إلا إرسال وإلهام بمعنى المفعول أي مرسل وإن قلنا المراد من قوله إِنْ هُوَ قوله وكلامه فالوحي حينئذ هو الإلهام ملهم من الله أو مرسل وفيه مباحث
البحث الأول الظاهر خلاف ما هو المشهور عند بعض المفسرين وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان ينطق إلا عن وحي ولا حجة لمن توهم هذا في الآية لأن قوله تعالى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى إن كان ضمير القرآن فظاهر وإن كان ضميراً عائداً إلى قوله فالمراد من قوله هو القول الذي كانوا يقولون فيه إنه قول شاعر ورد الله عليهم فقال ولا بقول شاعر وذلك القول هو القرآن وإن قلنا بما قالوا به فينبغي أن يفسر الوحي بالإلهام
البحث الثاني هذا يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يجتهد وهو خلاف الظاهر فإنه في الحروب اجتهد وحرم ما قال الله لم يحرم وأذن لمن قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ نقول على ما ثبت لا تدل الآية عليه
البحث الثالث بحث يحتمل أن يكون من وحي يوحى ويحتمل أن يكون من أوحى ييوحى تقول عدم يعدم وأعدم يعدم وكذلك علم يعلم وأعلم يعلم فنقول يوحى من أوحى لا من وحى وإن كان وحي وأوحى كلاهما جاء بمعنى ولكن الله في القرآن عند ذكر المصدر لم يذكر الإيحاء الذي هو مصدر أوحى وعند ذكر الفعل لم يذكر وحي الذي مصدره وحى بل قال عند ذكر المصدر الوحي وقال عند ذكر الفعل أَوْحَى وكذلك القول في أحب وحب فإن حب وأحب بمعنى واحد والله تعالى عند ذكر المصدر لم يذكر في القرآن الإحباب وذكر الحب إلى أَوْ أَشَدَّ حَبّاً وعند الفعل لم يقل حبه الله بل قال يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) وقال أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ( الحجرات 12 ) وقال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) إلى غير ذلك وفيه سر من علم الصرف وهو أن المصدر والفعل الماضي الثلائي فيهما خلاف قال بعض علماء الصرف المصدر مشتق من الفعل الماضي والماضي هو الأصل والدليل عليه وجهان لفظي ومعنوي
أما اللفظي فإنهم يقولون مصدر فعل يفعل إذا كان متعدياً فعلاً بسكون العين وإذا كان لازماً فعول في الأكثر ولا يقولون الفعل الماضي من فعول فعلى وهذا دليل ما ذكرنا
وأما المعنوي فلأن ما يوجد من الأمور لا يوجد إلا وهو خاص وفي ضمنه العام مثاله الإنسان الذي يوجد ويتحقق يكون زيداً أن عمراً أو غيرهما ويكون في ضمنه أنه هندي أو تركي وفي ضمن ذلك أنه حيوان وناطق ولا يوجد أولاً إنسان ثم يصير تركياً ثم يصير زيداً أو عمراً
إذا علمت هذا فالفعل الذي يتحقق لا ينفك من أن يكون ماضياً أو مستقبلاً وفي ضمنه أنه فعل مع قطع النظر عن مضيه واستقباله مثاله الضرب إذا وجد فأما أن يكون قد مضى أو بعد لم يمض والأول ماض والثاني حاضر أو مستقبل ولا يوجد الضرب من حيث إنه ضرب خالياً عن المضي والحضور والاستقبال غير أن العاقل يدرك من فعل وهو يفعل الآن وسيفعل غداً أمراً مشتركاً فيسميه فعلاً كذلك يدرك في ضرب وهو يضرب الآن وسيضرب غداً أمراً مشتركاً فيسميه ضرباً فضرب يوجد أولاً ويستخرج منه الضرب والألفاظ(28/244)
وضعت لأمور تتحقق فيها فيعبر بها عنها والأمور المشتركة لا تتحقق إلا في ضمن أشياء أُخر فالوضع أولاً لما يوجد منه لا يدرك منه قبل الضرب وهذا ما يمكن أن يقال لمن يقول الماضي أصل والمصدر مأخوذ منه وأما الذي يقول المصدر أصل والماضي مأخوذ منه فله دلائل منها أن الاسم أصل والفعل متفرع والمصدر اسم ولأن المصدر معرب والماضي مبني والإعراب قبل البناء ولأن قال وقال وراع وراع إذا أردنا الفرق بينهما نرد أبنيتهما إلى المصدر فنقول قال الألف منقلبة من واو بدليل القول وقال ألف منقلبة من ياء بدليل القيل وكذلك الروع والريع وأما المعقول فلأن الألفاظ وضعت للأمور التي في الأذهان والعام قبل الخاص في الذهن فإن الموجود إذا أدرك يقول المدرك هذا الموجود جوهر أو عرض فإذا أدرك أنه جوهر يقول إنه جسم أو غير جسم عند من يجعل الجسم جوهراً وهو الأصح الأظهر ثم إذا أدرك كونه جسماً يقول هو تام وكذلك الأمر إلى أن ينتهي إلى أخص الأشياء إن أمكن الانتهاء إليه بالتقسيم فالوضع الأول الفعل وهو المصدر من غير زيادة ثم إذا انضم إليه زمان تقول ضرب أو سيضرب فالمصدر قبل الماضي وهذا هو الأصح إذا علمت هذا فنقول على مذهب من يقول المصدر في الثلاثي من الماضي فالحب وأحب كلاهما في درجة واحدة لأن كليهما من حب يحب والمصدر من الثلاثي قبل مصدر المنشعبة بمرتبة وعلى مذهب من يقول الماضي في الثلاثي مأخوذ من المصدر فالمصدر الثلاثي قبل المصدر في المنشعبة بمرتبتين فاستعمل مصدر الثلاثي لأنه قبل مصدر المنشعبة وأما الفعل في أحب وأوحى فلأن الألف فيهما تفيد فائدة لا يفيدها الثلاثي المجرد لأن أحب أدخل في التعدية وأبعد عن توهم اللزوم فاستعمله
المسألة الرابعة إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ أبلغ من قول القائل هو وحي وفيه فائدة غير المبالغة وهي أنهم كانوا يقولون هو قول كاهن هو قول شاعر فأراد نفي قولهم وذلك يحصل بصيغة النفي فقال ما هو كما يقولون وزاد فقال بل هو وحي وفيه زيادة فائدة أخرى وهو قوله يُوحَى ذلك كقوله تعالى وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) وفيه تحقيق الحقيقة فإن الفرس الشديد العدو ربما يقال هو طائر فإذا قال يطير بجناحيه يزيل جواز المجاز كذلك يقول بعض من لا يحترز في الكلام ويبالغ في المبالغة كلام فلان وحي كما يقول شعره سحر وكما يقول قوله معجزة فإذا قال يوحى يزول ذلك المجاز أو يبعد
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى
ثم قال تعالى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى وفيه وجهان أشهرهما عند المفسرين أن الضمير في عِلْمِهِ عائداً إلى الوحي أي الوحي علمه شديد القوى والوحي وإن كان هو الكتاب فظاهر وإن كان الإلهام فهو كقوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ( الشعراء 193 ) والأولى أن يقال الضمير عائد إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تقديره علم محمد شديد القوى جبريل وحينئذ يكون عائداً إلى صاحبكم تقديره علم صاحبكم وشديد القوى هو جبريل أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة فيعلم ويعمل وقوله شَدِيدُ الْقُوَى فيه فوائد الأولى أن مدح المعلم مدح المتعلم فلو قال علمه جبريل ولم يصفه ما كان يحصل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فضيلة ظاهرة الثانية هي أن فيه رداً عليهم حيث قالوا أساطير الأولين سمعها وقت سفره إلى الشام فقال لم يعلمه أحد من الناس بل معلمه شديد القوى والإنسان خلق ضعيفا وما أوتي من العلم إلا قليلاً الثالثة فيه وثوق بقول جبريل عليه السلام فقوله تعالى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى جمع ما يوجب الوثوق لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل لأنا إن ظننا(28/245)
بواحد فساد ذهن ثم نقل إلينا عن بعض الأكابر مسألة مشكلة لا نثق بقوله ونقول هو ما فهم ما قال وكذلك قوة الحفظ حتى لا نقول أدركها لكن نسيها وكذلك قوة الأمانة حتى لا نقول حرفها وغيرها فقال شَدِيدُ الْقُوَى ليجمع هذه الشرائط فيصير كقوله تعالى ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ إلى أن قال أَمِينٌ ( التكوير 20 21 ) الرابعة في تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهي من حيث إن الله تعالى لم يكن مختصاً بمكان فنسبته إلى جبريل كنسبته إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا علم بواسطته يكون نقصاً عن درجته فقال ليس كذلك لأنه شديد القوى يثبت لمكالمتنا وأنت بعد ما استويت فتكون كموسى حيث خر فكأنه تعالى قد علمه بواسطة ثم علمه من غير واسطة كما قال تعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أدبني ربي فأحسن تأديبي )
ذُو مِرَّة ٍ فَاسْتَوَى
وفي قوله تعالى ذُو مِرَّة ٍ وجوه أحدها ذو قوة ثانيها ذو كمال في العقل والدين جميعاً ثالثها ذو منظر وهيبة عظيمة رابعها ذو خلق حسن فإن قيل على قولنا المراد ذو قوة قد تقدم بيان كونه ذا قوى في قوله شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 ) فكيف نقول قواه شديدة وله قوة نقول ذلك لا يحسن إن جاء وصفاً بعد وصف وأما إن جاء بدلاً لا يجوز كأنه قال علمه ذو قوة وترك شديد القوى فليس وصفاً له وتقديره ذو قوة عظيمة أو كاملة وهو حينئذ كقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ ( التكوير 19 20 ) فكأنه قال علمه ذو قوة فاستوى والوجه الآخر في الجواب هو أن إفراد قوة بالذكر ربما يكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خصّه الله بها يقال فلان كثير المال وله مال لا يعرفه أحد أي أمواله الظاهرة كثيرة وله مال باطن على أنا نقول المراد ذو شدة وتقديره علمه من قواه شديدة وفي ذاته أيضاً شدة فإن الإنسان ربما تكون قواه شديدة وفي جسمه صغر وحقارة ورخاوة وفيه لطيفة وهي أنه تعالى أراد بقوله شَدِيدُ الْقُوَى قوته في العلم
ثم قال تعالى ذُو مِرَّة ٍ أي شدة في جسمه فقدم العلمية على الجسمية كما قال تعالى وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ( البقرة 247 ) وفي قوله فَاسْتَوَى وجهان المشهور أن المراد جبريل أي فاستوى جبريل في خلقه
وَهُوَ بِالاٍّ فُقِ الاٌّ عْلَى
ثم قال تعالى وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى والمشهور أن هو ضمير جبريل وتقديره استوى كما خلقه الله تعالى بالأفق الشرقي فسد المشرق لعظمته والظاهر أن المراد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) معناه استوى بمكان وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر لا حقيقة في الحصول في المكان فإن قيل كيف يجوز هذا والله تعالى يقول وَلَقَدْ رَءاهُ بِالاْفُقِ الْمُبِينِ ( التكوير 23 ) إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين نقول وفي ذلك الموضع أيضاً نقول كما قلنا ههنا إنه ( صلى الله عليه وسلم ) رأى جبريل وهو بالأفق المبين يقول القائل رأيت الهلال فيقال له أين رأيته فيقول فوق السطح أي أن الرائي فوق السطح لا المرئي و الْمُبِينُ هو الفارق من أبان أي فرق أي هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) انتهى وبلغ الغاية وصار نبياً كما صار بعض الأنبياء نبياً يأتيه الوحي في نومه وعلى هيئته وهو واصل إلى الأفق الأعلى والأفق الفارق بين المنزلتين فإن قيل ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه فإن قوله ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( النجم 8 ) إلى غير ذلك وقوله تعالى وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَة ً أُخْرَى عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى(28/246)
( النجم 14 ) كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته نقول سنبين موافقته لما ذكرنا إن شاء الله في مواضعه عند ذكر تفسيره فإن قيل الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته حيث ورد في الأخبار أن جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) أرى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه على صورته فسد المشرق فنقول نحن ما قلنا إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية حتى يلزم مخالفة الحديث وإنما نقول أن جبريل أرى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه مرتين وبسط جناحيه وقد ستر الجانب الشرقي وسده لكن الآية لم ترد لبيان ذلك
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى
ثم قال تعالى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى وفيه وجوه مشهورة أحدها أن جبريل دنا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي بعد ما مد جناحه وهو بالأفق عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها وقرب من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا ففي تدلى ثلاثة وجوه أحدها فيه تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني الدنو والتدلي بمعنى واحد كأنه قال دنا فقرب الثالث دنا أي قصد القرب من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتحرك عن المكان الذي كان فيه فتدلى فنزل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني على ما ذكرنا من الوجه الأخير في قوله فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ( النجم 7 ) أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) دنا من الخلق والأمة ولان لهم وصار كواحد منهم فتدل أي فتدلى إليهم بالقول اللين والدعاء الرفيق فقال إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ ( فصلت 6 ) وعلى هذا ففي الكلام كمالان كأنه تعالى قال إلا وحي يوحي جبريل على محمد فاستوى محمد وكمل فدنا من الخلق بعد علوه وتدلى إليهم وبلغ الرسالة الثالث وهو ضعيف سخيف وهو أن المراد منه هو ربه تعالى وهو مذهب القائلين بالجهة والمكان اللّهم إلا أن يريد القرب بالمنزلة وعلى هذا يكون فيه ما في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن ربه تعالى ( من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ومن مشى إليّ أتيته هرولة ) إشارة إلى المعنى المجازي وههنا لما بيّن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استوى وعلا في المنزلة العقلية لا في المكان الحسي قال وقرب الله منه تحقيقاً لما في قوله ( من تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً )
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى
ثم قال تعالى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى أي بين جبرائيل ومحمد عليهما السلام مقدار قوسين أو أقل ورد هذا على استعمال العرب وعادتهم فإن الأميرين منهم أو الكبيرين إذا اصطلحا وتعاهدا خرجا بقوسيهما ووتر كل واحد منهما طرف قوسه بطرف قوس صاحبه ومن دونهما من الرعية يكون كفه بكفه فينهيان باعيهما ولذلك تسمى مسايعة وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أن قوله قَابَ قَوْسَيْنِ على جعل كونهما كبيرين وقوله أَوْ أَدْنَى لفضل أحدهما على الآخر فإن الأمير إذا بايعه الرعية لا يكون مع المبايع قوس فيصافحه الأمير فكأنه تعالى أخبر أنهما كأميرين كبيرين فكان بينهما مقدار قوسين أو كان جبرائيل عليه السلام سفيراً بين الله تعالى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان كالتبع لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فصار كالمبايع الذي يمد الباع لا القوس هذا على قول من يفضل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على جبرائيل عليه السلام وهو مذهب أهل السنة إلا قليلاً منهم إذ كان جبرائيل رسولاً من الله واجب التعظيم والاتباع فصار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عنده كالتبع له على قول من يفضل جبريل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه وجه آخر على ما ذكرنا وهو أن يكون القوس عبارة عن بعد من قاس يقوس وعلى هذا فنقول ذلك البعد هو البعد النوعي الذي كان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه على كل حال كان بشراً وجبريل على كل حال كان ملكاً فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإن زال عن الصفات التي تخالف صفات الملك من الشهوة والغضب والجهل والهوى(28/247)
لكن بشريته كانت باقية وكذلك جبريل وإن ترك الكمال واللطف الذي يمنع الرؤية والاحتجاب لكن لم يخرج عن كونه ملكاً فلم يبق بينهما إلا اختلاف حقيقتهما وأما سائر الصفات الممكنة الزوال فزالت عنهما فارتفع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بلغ الأفق الأعلى من البشرية وتدلى جبريل عليه السلام حتى بلغ الأفق الأدنى من الملكية فتقاربا ولم يبق بينهما إلا حقيقتهما وعلى هذا ففي فاعل أوحى الأول وجهان أحدهما أن الله تعالى أوحى وعلى هذا ففي عبده وجهان أحدهما أنه جبريل عليه السلام ومعناه أوحى الله إلى جبريل وعلى هذا ففي فاعل أوحى الأخير وجهان أحدهما الله تعالى أيضاً والمعنى حينئذ أوحى الله تعالى إلى جبريل عليه السلام الذي أوحاه إليه تفخيماً وتعظيماً للموحي ثانيهما فاعل أوحى ثانياً جبريل والمعنى أوحى الله إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى كل رسول وفيه بيان أن جبرائيل أمين لم يخن في شيء مما أوحى إليه وهذا كقوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ( الشعراء 193 ) وقوله مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 21 ) الوجه الثاني في عبده على قولنا الموحي هو الله أنه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) معناه أوحى الله إلى محمد ما أوحى إليه للتفخيم والتعظيم وهذا على ما ذكرنا من التفسير ورد على ترتيب في غاية الحسن وذلك لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الأول حصل في الأفق الأعلى من مراتب الإنسان وهو النبوة ثم دنا من جبريل وهو في مرتبة النبوة فصار رسولاً فاستوى وتكامل ودنا من الأمة باللطف وتدلى إليهم بالقول الرفيق وجعل يتردد مراراً بين أمته وربه فأوحى الله إليه من غير واسطة جبريل ما أوحى والوجه الثاني في فاعل أوحى أولاً هو أنه جبريل أوحى أي عبده إلى عبد الله والله معلوم وإن لم يكن مذكوراً وفي قوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَة ِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ( سبأ 40 41 ) ما يوجب القطع بعدم جواز إطلاق هذا اللفظ على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا ففاعل أوحى ثانياً يحتمل وجهين أحدهما أنه جبريل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه جبريل للتفخيم وثانيهما أن يكون هو الله تعالى أي أوحى جبريل إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما أوحى الله إليه وفي الذي وجوه أولها الذي أوحى الصلاة ثانيها أن أحداً من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأمة من الأمم لا تدخل الجنة قبل أمتك ثالثها أن ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل وهذا على قولنا بأن المراد جبريل صحيح والوجهان المتقدمان على قولنا المراد محمد عليه الصلاة والسلام أظهر وفيه وجه غريب من حيث العربية مشهور معناه عند الأصوليين ولنبين ذلك في معرض الجواب عن سؤال وهو أن يقال بم عرف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن جبريل ملك من عند الله وليس أحداً من الجن والذي يقال إن خديجة كشفت رأسها امتحاناً في غاية الضعف إن ادعى ذلك القائل أن المعرفة حصلت بأمثال ذلك وهذا إن أراد القصة والحكاية وإن خديجة فعلت هذا لأن فعل خديجة غير منكر وإنما المنكر دعوى حصول المعرفة بفعلها وأمثالها وذلك لأن الشيطان ربما تستر عند كشف رأسها أصلاً فكان يشتبه بالملائكة فيحصل اللبس والإبهام والجواب الصحيح من وجهين أحدهما أن الله أظهر على يد جبريل معجزة عرفه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بها كما أظهر على يد محمد معجزات عرفناه بها وثانيهما أن الله تعالى خلق في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) علماً ضرورياً بأن جبريل من عند الله ملك لا جني ولا شيطان كما أن الله تعالى خلق في جبريل علماً ضرورياً أن المتكلم معه هو الله تعالى وأن المرسل له ربه لا غيره إذا علم الجوابان فنقول(28/248)
قوله تعالى
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى
فيه وجهان أحدهما أوحى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما أوحاه إلى جبريل أي كلمه الله أنه وحي أو خلق فيه علماً ضرورياً ثانيهما أوحى إلى جبريل ما أوحى إلى محمد دليله الذي به يعرف أنه وحي فعلى هذا يمكن أن يقال ما مصدرية تقديره فأوحى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الإيحاء أي العلم بالإيحاء ليفرق بين الملك والجن
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى
فيه مسائل
المسألة الأولى الفؤاد فؤاد من نقول المشهور أنه فؤاد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) معناه أنه ما كذب فؤاده واللام لتعريف ما علم حاله لسبق ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في قوله إِلَى عَبْدِهِ وفي قوله وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ( النجم 7 ) وقوله تعالى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ( النجم 2 ) ويحتمل أن يقال مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ أي جنس الفؤاد لأن المكذب هو الوهم والخيال يقول كيف يرى الله أو كيف يرى جبريل مع أنه ألطف من الهوى والهواء لا يرى وكذلك يقول الوهم والخيال إن رأى ربه رأى في جهة ومكان وعلى هيئة والكل ينافي كون المرئي إلاهاً ولو رأى جبريل عليه السلام مع أنه صار على صورة دحية أو غيره فقد انقلبت حقيقته ولو جاز ذلك لارتفع الأمان عن المرئيات فنقول رؤية الله تعالى ورؤية جبريل عليه السلام على ما رآه محمد عليه الصلاة والسلام جائزة عند من له قلب فالفؤاد لا ينكر ذلك وإن كانت النفس المتوهمة والمتخيلة تنكره
المسألة الثانية ما معنى مَا كَذَبَ نقول فيه وجوه الوجه الأول ما قاله الزمخشري وهو أن قلبه لم يكذب وما قال إن ما رآه بصرك ليس بصحيح ولو قال فؤاده ذلك لكان كاذباً فيما قاله وهو قريب مما قاله المبرد حيث قال معناه صدق الفؤاد فيما رأى ( رأى ) شيئاً فصدق فيه الثاني قرىء مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ بالتشديد ومعناه ما قال إن المرئي خيال لا حقيقة له الثالث هو أن هذا مقرر لما ذكرنا من أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى جبريل عليه السلام خلق الله له علماً ضرورياً علم أنه ليس بخيال وليس هو على ما ذكرنا قصد الحق وتقديره ما جوّز أن يكون كاذباً وفي الوقوع وإرادة نفي الجواز كثير قال الله تعالى لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَى ْء ( غافر 16 ) وقال لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) وقال وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ ( النمل 93 ) والكل لنفي الجواز بخلاف قوله تعالى لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( يوسف 56 ) لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً وَلاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( النساء 48 ) فإنه لنفي الوقوع
المسألة الثالثة الرائي في قوله مَا رَأَى هو الفؤاد أو البصر أو غيرهما نقول فيه وجوه الأول الفؤاد كأنه تعالى قال مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ما رآه الفؤاد أي لم يقل إنه جني أو شيطان بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح الثاني البصر أي مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ما رآه البصر ولم يقل إن ما رآه البصر خيال الثالث ما كذب الفؤاد ما رأى محمد عليه الصلاة والسلام وهذا على قولنا الفؤاد للجنس ظاهر أي القلوب تشهد بصحة ما رآه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( من الرؤيا ) وإن كانت الأوهام لا تعترف بها
المسألة الرابعة ما المرئي في قوله مَا رَأَى نقول على الاختلاف السابق والذي يحتمل الكلام(28/249)
وجوه ثلاثة الأول الرب تعالى والثاني جبريل عليه السلام والثالث الآيات العجيبة الإلاهية فإن قيل كيف تمكن رؤية الله تعالى بحيث لا يقدح فيه ولا يلزم منه كونه جسماً في جهة نقول اعلم أن العاقل إذا تأمل وتفكر في رجل موجود في مكان وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله و ( إذا ) تفكر في أمر لا يوجد أصلاً وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله تعالى يجد بينهما فرقاً وعقله يصحح الكلام الأول ويكذب الكلام الثاني فذلك ليس بمعنى كونه معلوماً لأنه لو قال الموجود معلوم الله والمعدوم معلوم الله لما وجد في كلامه خللاً واستبعاداً فالله راء بمعنى كونه عالماً ثم إن الله يكون رائياً ولا يصير مقابلاً للمرئي ولا يحصل في جهة ولا يكون مقابلاً له وإنما يصعب على الوهم ذلك من حيث إنه لم ير شيئاً إلا في جهة فيقول إن ذلك واجب ومما يصحح هذا أنك ترى في الماء قمراً وفي الحقيقة ما رأيت القمر حالة نظرك إلى الماء إلا في مكانه فوق السماء فرأيت القمر في الماء لأن الشعاع الخارج من البصر اتصل به فرد الماء ذلك الشعاع إلى السماء لكن وهمك لما رأى أكثر ما رآه في المقابلة لم يعهد رؤية شيء يكون خلفه إلا بالتوجه إليه قال إني أرى القمر ولا رؤية إلا إذ كان المرئي في مقابلة الحدقة ولا مقابل للحدقة إلا الماء فحكم إذن بناء على هذا أنه يرى القمر في الماء فالوهم يغلب العقل في العالم لكون الأمور العاجلة أكثرها وهمية حسية وفي الآخرة تزول الأوهام وتنجلي الأفهام فترى الأشياء لوجودها لا لتحيزها واعلم أن من ينكر جواز رؤية الله تعالى يلزمه أن ينكر جواز رؤية جبريل عليه السلام وفيه إنكار الرسالة وهو كفر وفيه ما يكاد أن يكون كفراً وذلك لأن من شك في رؤية الله تعالى يقول لو كان الله تعالى جائز الرؤية لكان واجب الرؤية لأن حواسنا سليمة والله تعالى ليس من وراء حجاب ولا هو في غاية البعد عنا لعدم كونه في جهة ولا مكان فلو جاز أن يرى ولا نراه للزم القدح في المحسوسات المشاهدات إذ يجوز حينئذ أن يكون عندنا جبل ولا نراه فيقال لذلك القائل قد صح أن جبريل عليه السلام كان ينزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده غيره وهو يراه ولو وجب ما يجوز لرآه كل أحد فإن قيل إن هناك حجاباً نقول وجب أن يرى هناك حجاباً فإن الحجاب لا يحجب إذا كان مرئياً على مذهبهم ثم إن النصوص وردت أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ربه بفؤاده فجعل بصره في فؤاده أو رآه ببصره فجعل فؤاده في بصره وكيف لا وعلى مذهب أهل السنة الرؤية بالإرادة لا بقدرة العبد فإذا حصل الله تعالى العلم بالشيء من طريق البصر كان رؤية وإن حصله من طريق القلب كان معرفة والله قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك للمعلوم في البصر كما قدر على أن يحصله بخلق مدرك في القلب والمسألة مختلف فيها بين الصحابة في الوقوع واختلاف الوقوع مما ينبىء عن الاتفاق على الجواز والمسألة مذكورة في الأصول فلا نطولها
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى
أي كيف تجادلونه وتوردون شكوككم عليه مع أنه رأى ما رأى عين اليقين ولا شك بعد الرؤية فهو جازم متيقن وأنتم تقولون أصابه الجن ويمكن أن يقال هو مؤكد للمعنى الذي تقدم وذلك لأن من تيقن شيئاً قد يكون بحيث لا يزول عن نفسه تشكيك وأكد بقوله تعالى
وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَة ً أُخْرَى عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى
وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما رآه وهو على بسيط الأرض كان يحتمل أن يقال أنه من الجن احتمالاً في غاية البعد لما بينا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حصل له العلم الضروري بأنه ملك مرسل واحتمال البعيد لا يقدح في الجزم واليقين ألا ترى أنا إذا نمنا بالليل وانتبهنا بالنهار نجزم(28/250)
بأن البحار وقت نومنا ما نشفت ولا غارت والجبال ما عدمت ولا سارت مع احتمال ذلك فإن الله قادر على ذلك وقت نومنا ويعيدها إلى ما كانت عليه في يومنا فلما رآه عند سدرة المنتهى وهو فوق السماء السادسة لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس فنفى ذلك الاحتمال أيضاً فقال تعالى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى رأي العين وكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقدون فيه وفيه مسائل
المسألة الأولى الواو يحتمل أن تكون عاطفة ويحتمل أن تكون للحال على ما بيناه أي كيف تجادلونه فيما رآه على وجه لا يشك فيه ومع ذلك لا يحتمل إيراد الشكوك عليه فإن كثيراً ما يشك المعتقد لشيء فيه ولكن تردد عليه الشكوك ولا يمكنه الجواب عنها ولا تثريب مع ذلك في أن الأمر كما ذكرنا من المثال لأنا لا نشك في أن البحار ما صارت ذهباً والجبال ما صارت عهناً وإذا أورد علينا مورد شكا وقال وقت نومك يحتمل أن الله تعالى قلبها ثم أغادها لا يمكننا الجواب عنه مع أنا لا نشك في استمرارها على ما هي عليه لا يقال اللام تنافي كون الواو للحال فإن المستعمل يقال أفتمارونه وقد رأى من غير لام لأنا نقول الواو التي للحال تدخل على جملة والجملة تتركب من مبتدأ وخبر أو هن فعل وفاعل وكلاهما يجوز فيه اللام
المسألة الثانية قوله نَزْلَة ً فعلة من النزول فهي كجلسة من الجلوس فلا بد من نزول فذلك النزول لمن كان نقول فيه وجوه وهي مرتبة على أن الضمير في رآه عائد إلى من وفيه قولان الأول عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى وهذا على قول من قال مَا رَأَى في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( النجم 11 ) هو الله تعالى وقد قيل بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ربه بقلبه مرتين وعلى هذا فالنزلة تحتمل وجهين أحدهما أنها لله وعلى هذا فوجهان أحدهما قول من يجوز على الله تعالى الحركة والانتقال وهو باطل وثانيهما النزول بالقرب المعنوي لا الحسي فإن الله تعالى قد يقرب بالرحمة والفضل من عبده ولا يراه العبد ولهذا قال موسى عليه السلام رَبّ أَرِنِى ( البقرة 260 ) أي أزل بعض حجب العظمة والجلال وادن من العبد بالرحمة والإفضال لأراك
الوجه الثاني أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رأى الله نزلة أخرى وحينئذ يحتمل ذلك وجهين أحدهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نزل على متن الهوى ومركب النفس ولهذا يقال لمن ركب متن هواه إنه علا في الأرض واستكبر قال تعالى عَلاَ فِى الاْرْضِ ( القصص 4 ) ثانيهما أن المراد من النزلة ضدها وهي العرجة كأنه قال رآه عرجة أخرى وإنما اختار النزلة لأن العرجة التي في الآخرة لا نزلة لها فقال نزلة ليعلم أنها من الذي كان في الدنيا والقول الثاني أنه عائد إلى جبريل عليه السلام أي رأى جبريل نزلة أخرى والنزلة حينئذ يحتمل أن تكون لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كما ذكرناه لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ما ورد في بعض أخبار ليلة المعراج جاوز جبريل عليه السلام وقال له جبريل عليه السلام لو دنوت أنملة لاحترقت ثم عاد إليه فذلك نزلة فإن قيل فكيف قال أُخْرَى نقول لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أمر الصلاة تردد مراراً فربما كان يجاوز كل مرة وينزل إلى جبريل ويحتمل أن تكون لجبريل عليه السلام وكلاهما منقول وعلى هذا الوجه فنزلة أخرى ظاهر لأن جبريل كان له نزلات وكان له نزلتان عليه وهو على صورته وقوله تعالى عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى المشهور أن السدرة شجرة في السماء السابعة وعليها مثل النبق وقيل في السماء السادسة وورد في الخبر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( نيقها كقلال هجر(28/251)
وورقها كآذان الفيلة ) وقيل سدرة المنتهى هي الحيرة القصوى من السدرة والسدرة كالركبة من الراكب عندما يحار العقل حيرة لا حيرة فوقها ما حار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما غاب ورأى ما رأى وقوله عِندَ ظرف مكان أو ظرف زمان في هذا الموضع نقول المشهور أنه ظرف مكان تقديره رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى وقيل ظرف زمان كما يقال صليت عند طلوع الفجر وتقديره رآه عند الحيرة القصوى أي في الزمان الذي تحار فيه عقول العقلاء والرؤية من أتم العلوم وذلك الوقت من أشد أوقات الجهل والحيرة فهو عليه الصلاة والسلام ما حار وقتاً من شأنه أن يحار العاقل فيه والله أعلم
المسألة الثالثة إن قلنا معناه رأى الله كيف يفهم عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى قلنا فيه أقوال الأول قول من يجعل الله في مكان وهو باطل وقد بالغنا في بيان بطلانه في سورة السجدة الثاني رآه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى لأن الظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما ذكرنا من المثال يقال رأيت الهلال فيقاله لقائله أين رأيته فيقول على السطح وربما يقول عند الشجرة الفلانية وأما إن قلنا إن المراد جبريل عليه السلام فالوجهان ظاهران وكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع جبريل عند سدرة المنتهى أظهر
المسألة الرابعة إضافة السدرة إلى المنتهى من أي ( أنواع ) الإضافة نقول يحتمل وجوهاً أحدها إضافة الشيء إلى مكانه يقال أشجار بلدة كذا لا تطول من البرد ويقال أشجار الجنة لا تيبس ولا تخلو من الثمار فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك وقيل لا يتعداه روح من الأرواح وثانيها إضافة المحل إلى الحال فيه يقال كتاب الفقه ومحل السواد وعلى هذا فالمنتهى عند السدرة تقديره سدرة عند منتهى العلوم ثالثها إضافة الملك إلى مالكه يقال دار زيد وأشجار زيد وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه قال الله تعالى إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) فالمنتهى إليه هو الله وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيت إليه للتشريف والتعظيم ويقال في التسبيح يا غاية مناه ويا منتهى أملاه
عِندَهَا جَنَّة ُ الْمَأْوَى
ثم قال تعالى عِندَهَا جَنَّة ُ الْمَأْوَى وفي الجنة خلاف قال بعضهم جنة المأوى هي الجنة التي وعد بها المتقون وحينئذ الإضافة كما في قوله تعالى دَارَ الْمُقَامَة ِ ( فاطر 35 ) وقيل هي جنة أخرى عندها يكون أرواح الشهداء وقيل هي جنة للملائكة وقرىء جنّه بالهاء من جن بمعنى أجن يقال جن الليل وأجن وعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون الضمير في قوله الْمُنتَهَى عِندَهَا عائداً إلى النزلة أي عند النزلة جن محمداً المأوى والظاهر أنه عائد إلى السدرة وهي الأصح وقيل إن عائشة أنكرت هذه القراءة وقيل إنها أجازتها
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَة َ مَا يَغْشَى
فيه مسائل
المسألة الأولى العامل في إِذْ ما قبلها أو ما بعدها فيه وجهان فإن قلنا ما قبلها ففيه احتمالان(28/252)
أظهرهما رَّءاهُ ( النجم 13 ) أي رآه وقت ما يغشى السدرة الذي يغشى والاحتمال الآخر العامل فيه الفعل الذي في النزلة تقديره رآه نزلة أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السدرة ما يغشى أي نزوله لم يكن إلا بعد ما ظهرت العجائب عند السدرة وغشيها ما غشى فحينئذ نزل محمد نزلة إشارة إلى أنه لم يرجع من غير فائدة وإن قلنا ما بعده فالعامل فيه مَا زَاغَ الْبَصَرُ ( النجم 17 ) أي ما زاغ بصره وقت غشيان السدرة ما غشيها وسنذكره عند تفسير الآية
المسألة الثانية قد ذكرت أن في بعض الوجوه سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى هي الحيرة القصوى وقوله يَغْشَى السّدْرَة َ على ذلك الوجه ينادي بالبطلان فهل يمكن تصحيحه نقول يمكن أن يقال المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة أي ورد على حالة الحيرة حالة الرؤية واليقين ورأى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عندما حار العقل ما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله تعالى ورحمته والأول هو الصحيح فإن النقل الذي ذكرنا من أن السدرة نبقها كقلال هجر يدل على أنها شجرة
المسألة الثالثة ما الذي غشى السدرة نقول فيه وجوه الأول فراش أو جراد من ذهب وهو ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي فإن صح فيه خبر فلا يبعد من جواز التأويل وإن لم يصح فلا وجه له الثاني الذي يغشى السدرة ملائكة يغشونها كأنهم طيور وهو قريب لأن المكان مكان لا يتعداه الملك فهم يرتقون إليه متشرفين به متبركين زائرين كما يزور الناس الكعبة فيجتمعون عليها الثالث أنوار الله تعالى وهو ظاهر لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما وصل إليها تجلى ربه لها كما تجلى للجبل وظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل الجبل دكاً ولم تتحرك الشجرة وخر موسى صعقاً ولم يتزلزل محمد الرابع هو مبهم للتعظيم يقول القائل رأيت ما رأيت عند الملك يشير إلى الإظهار من وجه وإلى الإخفاء من وجه
المسألة الرابعة يَغْشَى يستر ومنه الغواشي أو من معنى الإتيان يقال فلا يغشاني كل وقت أي يأتيني والوجهان محتملان وعلى قول من يقول الله يأتي ويذهب فالإتيان أقرب
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى
ثم قال تعالى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى وفيه مسائل
المسألة الأولى اللام في الْبَصَرُ يحتمل وجهين أحدهما المعروف وهو بصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي ما زاغ بصر محمد وعلى هذا فعدم الزيغ على وجوه إن قلنا الغاشي للسدرة هو الجراد والفراش فمعناه لم يتلفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن المقصود وعلى هذا فغشيان الجراد والفراش يكون ابتلاء وامتحاناً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإن قلنا أنوار الله ففيه وجهان أحدهما لم يتلفت يمنة ويسرة واشتغل بمطالعتها وثانيهما ما زاغ البصر بصعقة بخلاف موسى عليه السلام فإنه قطع النظر وغشي عليه وفي الأول بيان أدب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الثاني بيان قوته الوجه الثاني في اللام أنه لتعريف الجنس أي ما زاغ بصر أصلاً في ذلك الموضع لعظمة الهيبة فإن قيل لو كان كذلك لقال ما زاغ بصر لأنه أدل على العموم لأن النكرة في معرض النفي تعم نقول هو كقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) ولم يقل لا يدركه بصر(28/253)
المسألة الثانية إن كان المراد محمداً فلو قال ما زاغ قلبه كان يحصل به فائدة قوله مَا زَاغَ الْبَصَرُ نقول لا وذلك لأن من يحضر عند ملك عظيم يرى من نفسه أنه يهابه ويرتجف إظهاراً لعظمته مع أن قلبه قوي فإذا قال مَا زَاغَ الْبَصَرُ يحصل منه فائدة أن الأمر كان عظيماً ولم يزغ بصره من غير اختيار من صاحب البصر
المسألة الثالثة وَمَا طَغَى عطف جملة مستقلة على جملة أخرى أو عطف جملة مقدرة على جملة مثال المستقلة خرج زيد ودخل عمرو ومثال مقدرة خرج زيد ودخل فنقول الوجهان جائزان أما الأول فكأنه تعالى قال عند ظهور النور ما زاغ بصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما طغى محمد بسبب الالتفات ولو التفت لكان طاغياً وأما الثاني فظاهر على الأوجه أما على قولنا غشي السدرة جراد فلم يلتفت إليه وَمَا طَغَى أي ما التفت إلى غير الله فلم يلتفت إلى الجراد ولا إلى غير الجراد سوى الله وأما على قولنا غشيها نور فقوله مَا زَاغَ أي ما مال عن الأنوار وَمَا طَغَى أي ما طلب شيئاً وراءها وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال ما زاغ وما طغى ولم يقل ما مال وما جاوز لأن الميل في ذلك الموضع والمجاوزة مذمومان فاستعمل الزيغ والطغيان فيه وفيه وجه آخر وهو أن يكون ذلك بياناً لوصول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه ووجه ذلك أن بصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مَا زَاغَ أي ما مال عن الطريق فلم ير الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف من ينظر إلى عين الشمس مثلاً ثم ينظر إلى شيء أبيض فإنه يراه أصفر أو أخضر يزيغ بصره عن جادة الأبصار وَمَا طَغَى ما تخيل المعدوم موجوداً فرأى المعدوم مجاوزاً الحد
لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى
ثم قال تعالى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى وفيه مسائل
المسألة الأولى فيه دليل على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ليلة المعراج آيات الله ولم ير الله وفيه خلاف ووجهه هو أن الله تعالى ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات وقال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً إلى أن قال لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا ( الإسراء 1 ) ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظم ما يمكن فكانت الآية الرؤية وكان أكبر شيء هو الرؤية ألا ترى أن من له مال يقال له سافر لتربح ولا يقال سافر لتتفرج لما أن الربح أعظم من التفرج
المسألة الثانية قال بعض المفسرين لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى وهي أنه رأى جبريل عليه السلام في صورته فهل هو على ما قاله نقول الظاهر أن هذه الآيات غير تلك وذلك لأن جبريل عليه السلام وإن كان عظيماً لكن ورد في الأخبار أن لله ملائكة أعظم منه والكبرى تأنيث الأكبر فكأنه تعالى يقول رأى من آيات ربه آيات هن أكبر الآيات فإن قيل قال الله تعالى إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ ( المدثر 35 ) مع أن أكبر من سقر عجائب الله فكذلك الآيات الكبرى تكون جبريل وما فيه وإن كان لله آيات أكبر منه نقول سقر إحدى الكبر أي إحدى الدواهي الكبر ولا شك أن في الدواهي سقر عظيمة كبيرة وأما آيات الله فليس جبريل أكبرها ولأن سقر في نفسها أعظم وأعجب من جبريل عليه السلام فلا يلزم من صفتها بالكبر صفتها بالكبرى(28/254)
المسألة الثالثة الكبرى صفة ماذا نقول فيه وجهان أحدهما صفة محذوف تقديره لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى ثانيهما صفة آيات ربه وعلى هذا يكون مفعول رأى محذوفاً تقديره رأى من الآيات الكبرى آية أو شيئاً ثم قال تعالى
أَفَرَءَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواة َ الثَّالِثَة َ الاٍّ خْرَى
لما قرر الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدىء به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك فقوله تعالى أَفَرَءيْتُمُ إشارة إلى إبطال قولهم بنفس القول كما أن ضعيفاً إذا ادعى الملك ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون انظروا إلى هذا الذي يدعي الملك منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره فلذلك قال أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى أي كما هما فكيف تشركونهما بالله والتاء في اللاّت تاء تأنيث كما في المناة لكنها تكتب مطولة لئلا يوقف عليها فتصير هاء فيشتبه باسم الله تعالى فإن الهاء في الله أصلية ليست تاء تأنيث وقف عليها فانقلبت هاء وهي صنم كانت لثقيف بالطائف قال الزمخشري هي فعله من لوى يلوي وذلك لأنهم كانوا يلوون عليها وعلى ما قال فأصله لوية أسكنت الياء وحذفت لالتقاء الساكنين فبقيت لوه قلبت الواو ألفاً لفتح ما قبلها فصارت لات وقرىء اللات بالتشديد من لت قيل إنه مأخوذ من رجل كان يلت بالسمن الطعام ويطعم الناس فعبد واتخذ على صورته وثن وسموه باللاّت وعلى هذا فاللاّت ذكر وأما العزى فتأنيث الأعز وهي شجرة كانت تعبد فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خالد بن الوليد رضي الله عنه فقطعها وخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس منشورة الشعر تضرب رأسها وتدعوا بالويل والثبور فقتلها خالد وهو يقول يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
ورجع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره بما رأى وفعل فقال تلك العزى ولن تعبد أبداً وأما مناة فهي فعلة صنم الصفا وهي صخرة كانت لهذيل وخزاعة وفيه مسائل
المسألة الأولى الآخر لا يصح أن يقال إلا إذا كان الأول مشاركاً للثاني فلا يقال رأيت امرأة ورجلاً آخر ويقال رأيت رجلاً ورجلاً آخر لاشتراك الأول والثاني في كونهما من الرجال وههنا قوله الثَّالِثَة َ الاْخْرَى يقتضي على ما ذكرنا أن تكون العزى ثالثة أولى ومناة ثالثة أخرى وليس كذلك والجواب عنه من وجوه الأول الأخرى كما هي تستعمل للذم قال الله تعالى قَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ ( الأعراف 39 ) أي لمتأخرتهم وهم الأتباع ويقال لهم الأذناب لتأخرهم في المراتب فهي صفة ذم كأنه تعالى يقول ومناة الثالثة المتأخرة الذليلة ونقول على هذا للأصنام الثلاثة ترتيب وذلك لأن الأول كان وثناً على صورة آدمي والعزى صورتها صورة نبات ومناة صورتها صورة صخرة هي جماد فالآدمي أشرف من النبات والنبات أشرف من الجماد فالجماد متأخر والمناة جماد فهي في الأخريات من المراتب الجواب الثاني فيه محذوف تقديره أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى المعبودين بالباطل وَمَنَواة َ الثَّالِثَة َ المعبودة الأخرى والجواب الثالث هو أن الأصنام كان فيها كثرة واللاّت والعزى إذا أخذتا متقدمتين فكل صنمة توجد فهي ثالثة فهناك ثوالث فكأنه يقول لهما ثوالث كثيرة وهذه ثالثة أخرى وهذا كقول القائل يوماً ويوماً والجواب الرابع فيه تقديم وتأخير تقديره ومناة الأخرى الثالثة ويحتمل أن يقال الأخرى تستعمل لموهوم أو مفهوم وإن لم يكن مشهوراً ولا مذكوراً يقول من يكثر تأذيه من الناس إذا آذاه إنسان الآخر جاء يؤذينا وربما يسكت على قوله أنت الآخر(28/255)
فيفهم غرضه كذلك ههنا
المسألة الثانية وهي في الترتيب أولى ما فائدة الفاء في قوله أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وقد استعمل في مواضع بغير الفاء قال تعالى أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( الأحقاف 4 ) أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ ( فاطر 4 ) نقول لما قدم من عظمة آيات الله في ملكوته أن رسول الله إلى الرسل الذي يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدته وقوته لا يمكنه أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال أفرأيتم هذه الأصنام مع زلتها وحقارتها شركاء الله مع ما تقدم فقال بالفاء أي عقيب ما سمعتم من عظمة آيات الله تعالى الكبرى ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى فانظروا إلى اللاّت والعزى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه وعولتم عليه
المسألة الثالثة أين تتمة الكلام الذي يفيد فائدة ما نقول قد تقدم بيانه وهو أنه يقول هل رأيتم هذه حق الرؤية فإن رأيتموها علمتم أنها لا تصلح شركاء نظيره ما ذكرنا فيمن ينكر كون ضعيف يدعي ملكاً يقول لصاحبه أما تعرف فلاناً مقتصراً عليه مشيراً إلى بطلان ما يذهب إليه ثم قال تعالى
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاٍّ نثَى
وقد ذكرنا ما يجب ذكره في سورة والطور في قوله أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( الطور 39 ) ونعيد ههنا بعض ذلك أو ما يقرب منه فنقول لما ذكر اللاّت والعزى ومناة ولم يذكر شيئاً آخر قال إن هذه الأشياء التي رأيتموها وعرفتموها تجعلونها شركاء لله وقد سمعتم جلال الله وعظمته وإن الملائكة مع رفعتهم وعلوهم ينتهون إلى السدرة ويقفون هناك لا يبقى شك في كونهم بعيدين عن طريقة المعقول أكثر مما بعدوا عن طريقة المنقول فكأنهم قالوا نحن لا نشك أن شيئاً منها ليس مثلاً لله تعالى ولا قريباً من أن يماثله وإنما صورنا هذه الأشياء على صور الملائكة المعظمين الذين اعترف بهم الأنبياء وقالوا إنهم يرتقون ويقفون عند سدرة المنتهى ويرد عليهم الأمر والنهي وينهون إلى الله ما يصدر من عباده في أرضه وهم بنات الله فاتخذنا صوراً على صور الإناث وسميناها أسماء الإناث فاللاّت تأنيث اللوة وكان أصله أن يقال اللاهة لكن في التأنيث يوقف عليها فتصير اللاهة فأسقط إحدى الهاءين وبقيت الكلمة على حرفين أصليين وتاء التأنيث فجعلناها كالأصلية كما فعلنا بذات مال وذا مال والعزى تأنيث الأعز فقال لهم كيف جعلتم لله بنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البنات ناقصات والبنين كاملون والله كامل العظمة فالمنسوب إليه كيف جعلتموه ناقصاً وأنتم في غاية الحقارة والذلة حيث جعلتم أنفسكم أذل من خمار وعبد ثم صخرة وشجرة ثم نسبتم إلى أنفسكم الكامل فهذه القسمة جائزة على طريقكم أيضاً حيث أذللتم أنفسكم ونسبتم إليها الأعظم من الثقلين وأبغضتم البنات ونسبتموهن إلى الأعظم وهو الله تعالى وكان على عادتكم أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فإذن أنتم خالفتم الفكر والعقل والعادة التي لكم
تِلْكَ إِذاً قِسْمَة ٌ ضِيزَى
فيه مسائل
المسألة الأولى تلك إشارة إلى ماذا نقول إلى محذوف تقديره تلك القسمة قسمة ضيزى أي غير عادلة ويحتمل أن يقال معناه تلك النسبة قسمة وذلك لأنهم ما قسموا وما قالوا لنا البنون وله البنات وإنما(28/256)
نسبوا إلى الله البنات وكانوا يكرهونهن كما قال تعالى وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ( النحل 62 ) فلما نسبوا إلى الله البنات حصل من تلك النسبة قسمة جائزة وهذا الخلاف لا يرهق
المسألة الثانية إِذَا جواب ماذا نقول يحتمل وجوهاً الأول نسبتكم البنات إلى الله تعالى إذا كان لكم البنون قسمة ضيزى الثاني نسبتكم البنات إلى الله تعالى مع اعتقادكم أنهن ناقصات واختياركم البنين مع اعتقادكم أنهم كاملون إذا كنتم في غاية الحقارة والله تعالى في نهاية العظمة قسمة ضيزى فإن قيل ما أصل إِذَا قلنا هو إذا التي للظرف قطعت الإضافة عنها فحصل فيها تنوين وبيانه هو أنك تقول آتيك إذا طلعت الشمس فكأنك أضفت إذاً لطلوع الشمس وقلت آتيك وقت طلوع الشمس فإذا قال قائل آتيك فتقول له إذن أكرمك أي إذا أتيتني أكرمك فلما حذفت الإتيان لسبق ذكره في قول القائل أتيت بدله بتنوين وقلت إذن كما تقول وكلا آتيناه
المسألة الثالثة ضِيزَى قرىء بالهمزة وبغير همزة وعلى الأولى هي فعلى بكسر الفاء كذكرى على أنه مصدر وصف به كرجل عدل أي قسمة ضائزة وعلى القراءة الثانية هي فعلى وكان أصلها ضوزى لكن عين الكلمة كانت يائية فكسرت الفاء لتسلم العين عن القلب كذلك فعل ببيض فإن جمع أفعل فعل تقول أسود وسود وأحمر وحمر وتقول أبيض وبيض وكان الوزن بيض وكان يلزم منه قلب العين فكسرت الباء وتركت الباء على حالها وعلى هذا ضيزى للمبالغة من ضائزة تقول فاضل وأفضل وفاضلة وفضلى وكبير وأكبر وكبيرى وكبرى كذلك ضائز وضوز وضائزة وضوزى على هذا نقول أضوز من ضائز وضيزى من ضائزة فإن قيل قد قلت من قبل إن قوله أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( الطور 39 ) ليس بمعنى إنكار الأمرين بل بمعنى إنكار الأول وإظهار النكر بالأمر الثاني كما تقول أتجعلون لله أنداداً وتعلمون أنه خلق كل ما سواه فإنه لا ينكر الثاني وههنا قوله تِلْكَ إِذاً قِسْمَة ٌ ضِيزَى دلّ على أنه أنكر الأمرين جميعاً نقول قد ذكرنا هناك أن الأمرين محتملان أما إنكار الأمرين فظاهر في المشهور أما إنكار الأول فثابت بوجوه وأما الثاني فلما ذكرنا أنه تعالى قال كيف تجعلون لله البنات وقد صار لكم البنون بقدرته كما قال تعالى يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ الشورى 49 ) ( خالق البنين لكم لا يكون له بنات وأما قوله تِلْكَ إِذاً قِسْمَة ٌ ضِيزَى فنقول قد بينا أن تلك عائدة إلى النسبة أي نسبتكم البنات إلى الله تعالى مع أن لكم البنين قسمة ضائزة فالمنكر تلك النسبة وإن كان المنكر القسمة نقول يجوز أن يكون تقديره أيجوز جعل البنات لله تعالى كما أن واحداً إذا كان بينه وبين شريكه شيء مشترك على السوية فيأخذ نصفه لنفسه ويعطي من النصف الباقي نصفه لظالمه ونصفه لصاحبه فقال هذه قسمة ضائزة لا لكونه أخذ النصف فذلك حقه بل لكونه لم يوصل إليه النصف الباقي
إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاٌّ نفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى
ثم قال تعالى إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ وفيه مباحث تدق عن إدراك اللغوي إن يكن عنده من العلوم حظ عظيم ولنذكر ما قيل فيه أولاً فنقول قيل معناه إن هي إلا(28/257)
أسماء أي كونها إناثاً وكونها معبودات أسماء لا مسمى لها فإنها ليست بإناث حقيقة ولا معبودات وقيل أسماء أي قلتم بعضها عزى ولا عزة لها وقيل قلتم إنها آلهة وليست بآلهة والذي نقوله هو أن هذا جواب عن كلامهم وذلك على ما بينا أنهم قالوا نحن لا نشك في أن الله تعالى لم يلد كما تلد النساء ولم يولد كما تولد الرجال بالمجامعة والإحبال غير أنا رأينا لفظ الولد مستعملاً عند العرب في المسبب تقول بنت الجبل وبنت الشفة لما يظهر منهما ويوجد لكن الملائكة أولاد الله بمعنى أنهم وجدوا بسببه من غير واسطة فقلنا إنهم أولاده ثم إن الملائكة فيها تاء التأنيث فقلنا هم أولاد مؤنثة والولد المؤنث بنت فقلنا لهم بنات الله أي لا واسطة بينهم وبين الله تعالى في الإيجاد كما تقول الفلاسفة فقال تعالى هذه الأسماء استنبطتموها أنتم بهوى أنفسكم وأطلقتم على الله ما يوهم النقص وذلك غير جائز وقوله تعالى نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( الزمر 56 ) وقوله ( بيده الخير ) أسماء موهمة غير أنه تعالى أنزلها وله أن يسمي نفسه بما اختار وليس لأحد أن يسمى بما يوهم النقص من غير ورود الشرع به ولنبين التفسير في مسائل
المسألة الأولى هِى َ ضمير عائد إلى ماذا نقول الظاهر أنها عائدة إلى أمر معلوم وهو الأسماء كأنه قال ما هذه الأسماء التي وضعتموها أنتم وهو المشهور ويحتمل أن يقال هي عائدة إلى الأصنام بأنفسها أي ما هذه الأصنام إلا أسماء وعلى هذا فهو على سبيل المبالغة والتجوز يقال لتحقير إنسان ما زيد إلا اسم وما الملك إلا اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة تعتبر في الكلام بين الناس ويؤيد هذا القول قوله تعالى مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء ( يوسف 40 ) أي ما هذه الأصنام إلا أسماء
المسألة الثانية ما الفائدة في قوله سَمَّيْتُمُوهَا مع أن جميع الأسماء وضعوها أو بعضها هم وضعوها ولم ينكر عليهم نقول المسألة مختلف فيها ولا يتم الذم إلا بقوله تعالى مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ وبيانه هو أن الأسماء إن أنزلها الله تعالى فلا كلام فيها وإن وضعها للتفاهم فينبغي أن لا يكون في ضمن تلك الفائدة مفسدة أعظم منها لكن إيهام النقص في صفات الله تعالى أعظم منها فالله تعالى ما جوّز وضع الأسماء للحقائق إلا حيث تسلم عن المحرم فلم يوجد في هذه الأسماء دليل نقلي ولا وجه عقلي لأن ارتكاب المفسدة العظيمة لأجل المنفعة القليلة لا يجوزه العاقل فإذاً مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ووضع الاسم لا يكون إلا بدليل نقلي أو عقلي وهو أنه يقع خالياً عن وجوه المضار الراجحة
المسألة الثالثة كيف قال سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ مع أن هذه الأسامي لأصنامهم كانت قبلهم نقول فيه لطيفة وهي أنهم لو قالوا ما سميناها وإنما هي موضوعة قبلنا قيل لهم كل من يطلق هذه الألفاظ فهو كالمبتدىء الواضع وذلك لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعاً بدليل عقلي لم يجب اتباعه فمن يطلق اللفظ لأن فلاناً أطلقه لا يصح منه كما لا يصح أن يقول أضلني الأعمى ولو قاله لقيل له بل أنت أضللت نفسك حيث اتبعت من عرفت أنه لا يصلح للاقتداء به
المسألة الرابعة الأسماء لا تسمى وإنما يسمى بها فكيف قال سَمَّيْتُمُوهَا نقول عنه جوابان أحدهما لغوي وهو أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال أسماء وضعتموها فاستعمل سميتموها استعمال وضعتموها ويقال سميته زيداً وسميته يزيد فسميتموها بمعنى سميتم بها وثانيهما معنوي وهو أنه لو قال أسماء سميتم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلق به الباء في قوله بِهَا لأن قول القائل سميت به يستدعي مفعولاً آخر(28/258)
تقول سميت بزيد ابني أو عبدي أو غير ذلك فيكون قد جعل للأصنام اعتباراً وراء أسمائها وإذا قال إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أي وضعتموها في أنفسها لا مسميات لها لم يكن ذلك فإن قيل هذا باطل بقوله تعالى وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ( آل عمران 36 ) حيث لم يقل وإني سميتها بمريم ولم يكن ما ذكرت مقصوداً وإلا لكانت مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام نقول بينهما بون عظيم وذلك لأن هناك قال سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة مريم بقوله سَمَّيْتُهَا واسمها بقوله مَرْيَمَ وأما ههنا فقال إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أي ما هناك إلا أسماء موضوعة فلم تعتبر الحقيقة ههنا واعتبرت في مريم
المسألة الخامسة مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ على أي وجه استعملت الباء في قوله بِهَا مِن سُلْطَانٍ نقول كما يستعمل القائل ارتحل فلان بأهله ومتاعه أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع كذا ههنا
ثم قال تعالى إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء إِن تَتَّبِعُونَ بالتاء على الخطاب وهو ظاهر مناسب لقوله تعالى أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ على المغايبة وفيه وجهان أحدهما أن يكون الخطاب معهم لكنه يكون التفاتاً كأنه قطع الكلام معهم وقال لنبيه إنهم لا يتبعون إلا الظن فلا تلتفت إلى قولهم ثانيهما أن يكون المراد غيرهم وفيه احتمالان أحدهما أن يكون المراد آباءهم وتقديره هو أنه لما قال سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ كأنهم قالوا هذه ليست أسماء وضعناها نحن وإنما هي كسائر الأسماء تلقيناها ممن قبلنا من آبائنا فقال وسماها آباؤكم وما يتبعون إلا الظن فإن قيل كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي نقول وبصيغة المستقبل أيضاً كأنه يفرض الزمان بعد زمان الكلام كما في قوله تعالى وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ( الكهف 18 ) ثانيهما أن يكون المراد عامة الكفار كأنه قال إن يتبع الكافرون إلا الظن
المسألة الثانية ما معنى الظن وكيف ذمهم به وقد وجب علينا اتباعه في الفقه وقال ( صلى الله عليه وسلم ) عن الله تعالى ( أنا عند ظن عبدي بي ) نقول أما الظن فهو خلاف العلم وقد استعمل مجازاً مكان العلم والعلم مكانه وأصل العلم الظهور ومنه العلم والعالم وقد بينا في تفسير العالمين أن حروف ع ل م في تقاليبها فيها معنى الظهور ومنها لمع الآل إذا ظهر وميض السراب ولمع الغزال إذا عدا وكذا النعام وفيه الظهور وكذلك علمت والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئر ظنون لا يدري أفيها ماء أم لا ومنه الظنين المتهم لا يدري ما يظن نقول يجوز بناء الأمر على الظن الغالب عند العجز عن درك اليقين والاعتقاد ليس كذلك لأن اليقين لم يتعذر علينا وإلى هذا إشارة بقول وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى ( النجم 23 ) أي اتبعوا الظن وقد أمكنهم الأخذ باليقين وفي العمل يمتنع ذلك أيضاً
المسألة الثالثة مَا في قوله تعالى وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ خبرية أو مصدرية نقول فيه وجهان أحدهما مصدرية كأنه قال إن يتبعون إلا الظن وهوى الأنفس فإن قيل ما الفائدة في العدول عن صريح المصدر إلى الفعل مع زيادة ما وفيه تطويل نقول فيه فائدة وإنها في أصل الوضع ثم نذكرها هنا فنقول إذا قال القائل أعجبني صنعك يعلم من الصيغة أن الإعجاب من مصدر قد تحقق وكذلك إذا قال أعجبني ما تصنع يعلم أن الإعجاب من مصدر هو فيه فلو قال أعجبني صنعك وله صنع أمس وصنع اليوم لا يعلم أن المعجب أي صنع هو إذا علمت هذا فنقول ههنا قوله وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ يعلم منه أن المراد أنهم يتبعون(28/259)
ما تهوى أنفسهم في الحال والاستقبال إشارة إلى أنهم ليسوا بثابتين على ضلال واحد وما هوت أنفسهم في الماضي شيئاً من أنواع العبادة فالتزموا به وداموا عليه بل كل يوم هم يستخرجون عبادة وإذا انكسرت أصنامهم اليوم أتوا بغيرها غداً ويغيرون وضع عبادتهم بمقتضى شهوتهم اليوم ثانيهما أنها خبرية تقديره والذي تشتهيه أنفسهم والفرق بين المصدرية والخبرية أن المتبع على الأول الهوى وعلى الثاني مقتضى الهوى كما إذا قلت أعجبني مصنوعك
المسألة الرابعة كيف قال وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ بلفظ الجمع مع أنهم لا يتبعون ما تهواه كل نفس فإن من النفوس ما لا تهوى ما تهواه غيرها نقول هو من باب مقابلة الجمع بالجمع معناه اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه يقال خرج الناس بأهليهم أي كل واحد بأهله لا كل واحد بأهل الجمع
المسألة الخامسة بيّن لنا معنى الكلام جملة نقول قوله تعالى إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ أمران مذكوران يحتمل أن يكون ذكرهما لأمرين تقدير بين يتبعون الظن في الاعتقاد ويتبعون ما تهوى الأنفس في العمل والعبادة وكلاهما فاسد لأن الاعتقاد ينبغي أن يكون مبناه على اليقين وكيف يجوز اتباع الظن في الأمر العظيم وكلما كان الأمر أشرف وأخطر كان الاحتياط فيه أوجب وأحذر وأما العمل فالعبادة مخالفة الهوى فكيف تنبىء على متابعته ويحتمل أن يكون في أمر واحد على طريقة النزول درجة درجة فقال إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ أي وما دون الظن لأن القرونة تهوى ما لا يظن به خير وقوله تعالى وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى ( النجم 23 ) إشارة إلى أنهم على حال لا يعتد به لأن اليقين مقدور عليه وتحقق بمجيء الرسل وَالْهَدْى َ فيه وجوه ثلاثة الأولى القرآن الثاني الرسل الثالث المعجزات
أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى
ثم قال تعالى أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى المشهور أن أم منقطعة معناه أللإنسان ما اختاره واشتهاه وفي مَا تَمَنَّى وجوه الأولى الشفاعة تمنوها وليس لهم شفاعة الثاني قولهم وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت 50 ) الثالث قول الوليد بن المغيرة لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ( مريم 77 ) الرابع تمنى جماعة أن يكونوا أنبياء ولم تحصل لهم تلك الدرجة الرفيعة فإن قلت هل يمكن أن تكون أم ههنا متصلة نقول نعم والجملة الأولى حينئذ تحتمل وجهين أحدهما أنها مذكورة في قوله تعالى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( النجم 21 ) كأنه قال ألكم الذكر وله الأنثى على الحقيقة أو تجعلون لأنفسكم ما تشتهون وتتمنون وعلى هذا فقوله تلك إِذاً قِسْمَة ٌ ضِيزَى ( النجم 22 ) وغيرها جمل اعترضت بين كلامين متصلين ثانيهما أنها محذوفة وتقرير ذلك هو أنا بينا أن قوله أَفَرَءيْتُمُ ( النجم 19 ) لبيان فساد قولهم والإشارة إلى ظهور ذلك من غير دليل كما إذا قال قائل فلان يصلح للملك فيقول آخر لثالث أما رأيت هذا الذي يقوله فلان ولا يذكر أنه لا يصلح للملك ويكون مراده ذلك فيذكره وحده منهاً على عدم صلاحه فههنا قال تعالى أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى أي يستحقان العبادة أم للإنسان أن يعبد ما يشتهيه طبعه وإن لم يكن يستحق العبادة وعلى هذا فقوله أم للإنسان أي هل له أن يعبد بالتمنى والاشتهاء ويؤيد هذا قوله تعالى وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ أي عبدتم بهوى أنفسكم ما لا يستحق العبادة فهل لكم ذلك(28/260)
فَلِلَّهِ الاٌّ خِرَة ُ والاٍّ ولَى
ثم قال تعالى فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ والاْولَى وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق الفاء بالكلام وفيه وجوه الأولى أن تقديره الإنسان إذا اختار معبوداً في دنياه على ما تمناه واشتهاه فلله الآخرة والأولى يعاقبه على فعله في الدنيا وإن لم يعاقبه في الدنيا فيعاقبه في الآخرة وقوله تعالى وَكَمْ مّن مَّلَكٍ إلى قوله تعالى لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ ( النجم 26 ) يكون مؤكداً لهذا المعنى أي عقابهم يقع ولا يشفع فيهم أحد ولا يغنيهم شفاعة شافع الثاني أنه تعالى لما بيّن أن اتخاذ اللاّت والعزى باتباع الظن وهوى الأنفس كأنه قرره وقال إن لم تعلموا هذا فلله الآخرة والأولى وهذه الأصنام ليس لها من الأمر شيء فكيف يجوز الإشراك وقوله تعالى وَكَمْ مّن مَّلَكٍ على هذا الوجه جواب كلام كأنهم قالوا لا نشرك بالله شيئاً وإنما هذه الأصنام شفعاؤنا فإنها صورة ملائكة مقربين فقال وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً الثالث هذه تسلية كأنه تعالى قال ذلك لنبيه حيث بيّن رسالته ووحدانية الله ولم يؤمنوا فقال لا تأس فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ والاْولَى أي لا يعجزون الله الرابع هو ترتيب حق على دليله بيانه هو أنه تعالى لما بيّن رسالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى ( النجم 4 ) إلى آخره وبيّن بعض ما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو التوحيد قال إذاعلمتم صدق محمد ببيان رسالة الله تعالى فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ والاْولَى لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخبركم عن الحشر فهو صادق الخامس هو أن الكفار كانوا يقولون للمؤمنين أهؤلاء أهدى منا وقالوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) فقال تعالى إن الله اختار لكم الدنيا وأعطاكم الأموال ولم يعط المؤمنين بعض ذلك الأمر بل قلتم لو شاء الله لأغناهم وتحققتم هذه القضية فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ والاْولَى قولوا في الآخرة ما قلتم في الدنيا يهدي الله من يشاء كما يغني الله ما يشاء
المسألة الثانية الاْخِرَة َ صفة ماذا نقول صفة الحياة أو صفة الدار وهي اسم فاعل من فعل غير مستعمل تقول أخرته فتأخر وكان من حقه أن تقول فأخر كما تقول غبرته فغبر فمنعت منه سماعاً ولهذا البحث فائدة ستأتي إن شاء الله
المسألة الثالثة الاْولَى فعلى للتأنيث فالأول إذن أفعل صفة وفيه مباحث
البحث الأول لا بد من فاعل أخذ منه الأفعل والفعلى فإن كل فعلى وأفعل للتأنيث والتذكير له أصل فليؤخذ منه كالفضلى والأفضل من الفاضلة والفاضل فما ذلك نقول ههنا أخذ من أصل غير مستعمل كما قلنا إن الآخر فاعل من فعل غير مستعمل وسبب ذلك هو أن كل فعل مستعمل فله آخر وذلك لأن له ماضياً فإذا استعملت ماضيه لزم فراغ الفعل وإلا لكان الفاعل بعد في الفعل فلا يكون ماضياً فإنك لا تقول لمن هو بعد الأكل أكل إلا متجوزاً عندما يبقى له قليل فيقول أكل إشارة إلى أن ما بقي غير معتد به وتقول لمن قرب من الفراغ فرغت فيقول فرغت بمعنى أن ما بقي قليل لا يعتد به فكأني فرغت وأما الماضي في الحقيقة لا يصح إلا عند تمام الشيء والفراغ عنه فإذاً للفعل المستعمل آخر فلو كان لقولنا آخر على وزن فاعل فعل هو آخر يأخر كأمر يأمر لكان معناه صدر مصدره كجلس معناه صدر الجلوس منه بالتمام والكمال فكان ينبغي أن القائل إذا قال فلان آخر كان معناه وجد منه تمام الآخرية وفرغ منها فلا يكون بعد ما يكون آخر لكن تقدم أن كل فعل فله آخر بعده لا يقال يشكل بقولنا تأخر فإن معناه صار آخراً لأنا نقول وزن الفعل ينادي(28/261)
على صحة ما ذكرنا فإنه من باب التكلف والتكبر إذا استعمل في غير المتكبر أي يرى أنه آخر وليس في الحقيقة كذلك إذا علمت هذا فنقول الآخر فاعل ليس له فعل ومبالغته بأفعل وهو كقولنا أأُخر فنقلت الهمزة إلى مكان الألف والألف إلى مكان الهمزة فصارت الألف همزة والهمزة ألفاً ويدل عليه التأويل في المعنى فإن آخر الشيء جزء منه متصل به والآخر مباين عنه منفصل والمنفصل بعد المتصل والآخر أشد تأخراً عن الشيء من آخره والأول أفعل ليس له فاعل وليس له فعل والأول أبعد عن الفعل من الآخر وذلك لأن الفعل الماضي علم له آخر من وصفه بالماضي ولولا ذلك الوصف لما علم له آخر وأما الفعل لتفسير كونه فعلاً علم له أول لأن الفعل لا بد له من فاعل يقوم به أو يوجد منه فإذا الفاعل أولاً ثم الفعل فإذا كان الفاعل أول الفعل كيف يكون الأول له فعل يوجد منه فلا فعل له ولا فاعل فلا يقال آل الشيء بمعنى سبق كما يقال قال من القول أو نال من النيل لا يقال إن قولنا سبق أخذ منه السابق ومن السابق الأسبق مع أن الفاعل يسبق الفعل وكذلك يقال تقدم الشيء مع أن الفاعل متقدم على الفعل إلى غير ذلك نقول أما تقدم قد مضى الجواب عنه في تأخر وأما سبق يقول القائل سابقته فسبقته فجيب عنه بأن ذلك مفتقر إلى أمر يصدر من فاعل فالسابق إن استعمل في الأول فهو بطريق المشابهة لا بطريق الحقيقة والفاعل أول الفعل بمعنى قبل الفعل وليس سابق الفعل لأن الفاعل والفعل لا يتسابقان فالفاعل لا يسبقه والذي يوضح ما ذكرنا أن الآخر أبعد من الأول عن الفعل بخلاف الآخر وما يقال إن أول بمعنى جعل الآخر أولاً لاستخراج معنى من الكلام فبعيد وإلا لم يكن آخر دونه في إفادة ذلك بل التأويل من آل شيء إذا رجع أي رجعه إلى المعنى المراد وأبعد من اللفظين قبل وبعد فإن الآخر فاعل من غير فعل والأول أفعل من غير فاعل ولا فعل وقبل وبعد لا فاعل ولا أفعل فلا يفهم من فعل أصلاً لأن الأول أول لما فيه من معنى قبل وليس قبل قبلاً لما فيه من معنى الأول والآخر آخر لما فيه من معنى بعد وليس بعد بعداً لما فيه من معنى الآخر يدلك عليه أنك تعلل أحدهما بالآخر ولا تعكسه فتقول هذا آخر من جاء لأنه جاء بعد الكل ولا تقول هو جاء بعد الكل لأنه آخر من جاء ويؤيده أن الآخر لا يتحقق إلا ببعدية مخصوصة وهي التي لا بعدية بعدها وبعد ليس لا يتحقق إلا بالآخر فإن المتوسط بعد الأول ليس بآخر وهذا البحث من أبحاث الزمان ومنه يعلم معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تسبوا الدهر ( فإن الدهر هو الله ) ) أي الدهر هو الذي يفهم منه القبلية والبعدية والله تعالى هو الذي يفهم منه ذلك والبعدية والقبلية حقيقة لإثبات الله ولا مفهوم للزمان إلا ما به القبلية والبعدية فلا تسبوا الدهر فإن ما تفهمونه منه لا يتحقق إلا في الله وبالله ولولاه لما كان قبل ولا بعد
البحث الثاني ورد في كلام العرب الأولة تأنيث الأول وهو ينافيه صحة استعمال الأولى لأن الأولى تدل على أن الأول أفعل للتفصيل وأفعل للتفضيل لا يلحقه تاء التأنيث فلا يقال زيد أعلم وزينب أعلمة لسبب يطول ذكره وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى نقول الجواب عنه هو أن أول لما كان أفعل وليس له فاعل شابه الأربع والأرنب فجاز إلحاق التاء به ولما كان صفة شابه الأكبر والأصغر فقيل أولى
المسألة الرابعة أولى تدل على أن أول لا ينصرف فكيف يقال أفعله أولاً ويقال جاء زيداً أولاً وعمرو ثانياً فإن قيل جاز فيه الأمران بناء على أولة وأولى فمن قال بأن تأنيث أول أولة فهو كالأربع والأربعة فجاز التنوين ومن قال أولى لا يجوز نقول إذا كان كذلك كان الأشهر ترك التنوين لأن الأشهر أن تأنيثه أولى(28/262)
وعليه استعمال القرآن فإذن الجواب أن عند التأنيث الأولى أن يقال أولى نظراً إلى المعنى وعند العرب أولة لأنه هو الأصل ودل عليه دليل وإن كان أضعف من الغير وربما يقال بأن منع الصرف من أفعل لا يكون إلا إذا لم يكن تأنيثه إلا فعلى وأما إذا كان تأنيثه بالتاء أو جاز ذلك فيه لا يكون غير منصرف ثم قال تعالى
وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى
وقد علم وجه تعلقها بما قبلها في الوجوه المتقدمة في قوله تعالى فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ ( النجم 25 ) إن قلنا إن معناه أن اللات والعزى وغيرهما ليس لهم من الأمر شيء فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ والاْولَى فلا يجوز إشراكهم فيقولون نحن لا نشرك بالله شيئاً وإنما نقول هؤلاء شفعاؤنا فقال كيف تشفع هذه ومن في السماوات لا يملك الشفاعة وفيه مسائل
المسألة الأولى كَمْ كلمة تستعمل في المقادير إما لاستبانتها فتكون استفهامية كقولك كم ذراعاً طوله وكم رجلاً جاءك أي كم عدد الجائين تستبين المقدار وهي مثل كيف لاستبانة الأحوال وأي الاستبانة الأفراد وما لاستبانة الحقائق وإما لبيانها على الإجمال فتكون خبرية كقولك كم رجل أكرمني أي كثير منهم أكرموني غير أن عليه أسئلة الأول لم لم يجز إدخال من على الاستفهامية وجاز على الخبرية الثاني لم نصب مميز الاستفهامية وجر الذي للخبرية الثالث هي تستعمل في الخبرية في مقابلة رب فلم جعل اسماً مع أن رب حرف أما الجواب عن الأول فهو أن من يستعمل في الموضع المتعين بالإضافة تقول خاتم من فضة كما تقول خاتم فضة ولما لم تضف في الاستفهامية لم يجز استعمال ما يضاهيه وسنبين هذا الجواب والجواب عن السؤال الثاني هو أن نقول إن الأصل في المميز الإضافة وعن الثالث هو أن كم يدخل عليه حرف الجر فتقول إلى كم تصبر وفي كم يوم جئت وبكم رجل مررت ومن حيث المعنى إن كم إذا قرن بها من وجعل مميزه جمعاً كما في قول القائل كم من رجال خدمتهم ويكون معناه كثير من الرجال خدمتهم ورب وإن كانت للتقليل لكن لا تقوم مقام القليل فلا يمكن أن يقال في رب إنها عبارة عن قليل كما قلنا في كم إنه عبارة عن كثير
المسألة الثانية قال شفاعتهم على عود الضمير إلى المعنى ولو قال شفاعته لكان العود إلى اللفظ فيجوز أن يقال كم من رجل رأيته وكم من رجل رأيتهم فإن قلت هل بينهما فرق معنوي قلت نعم وهو أنه تعالى لما قال لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ ( النجم 26 ) يعني شفاعة الكل ولو قال شفاعته لكان معناه كثير من الملائكة كل واحد لا تغني شفاعته فربما كان يخطر ببال أحد أن شفاعتهم تغني إذا جمعت وعلى هذا ففي الكلام أمور كلها تشير إلى عظم الأمر أحدها كم فإنه للتكثير ثانيها لفظ الملك فإنه أشرف أجناس المخلوقات ثالثها في السماوات فإنها إشارة إلى علو منزلتهم ودنو مرتبتهم من مقر السعادة رابعها اجتماعهم على الأمر في قوله شَفَاعَتُهُمْ وكل ذلك لبيان فساد قولهم إن الأصنام يشفعون أي كيف تشفع مع حقارتها وضعفها ودناءة منزلتها فإن الجماد أخس الأجناس والملائكة أشرفها وهم في أعلى السماوات ولا تقبل شفاعة الملائكة(28/263)
فكيف تقبل شفاعة الجمادات
المسألة الثالثة ما الفائدة في قوله تعالى وَكَمْ مّن مَّلَكٍ بمعنى كثير من الملائكة مع أن كل من في السماوات منهم لا يملك الشفاعة نقول المقصود الرد عليهم في قولهم هذه الأصنام تشفع وذلك لا يحصل ببيان أن ملكاً من الملائكة لا تقبل شفاعته فاكتفى بذكر الكثيرة ولم يقل ما منهم أحد يملك الشفاعة لأنه أقرب إلى المنازعة فيه من قوله كثير مع أن المقصود حاصل به ثم ههنا بحث وهو أن في بعض الصور يستعمل صيغة العموم والمراد الكثير وفي البعض يستعمل الكثير والمراد الكل وكلاهما على طريقة واحد وهو استقلال الباقي وعدم الاعتداد ففي قوله تعالى تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء ( الأحقاف 25 ) كأنه يجعل الخارج عن الحكم غير ملتفت إليه وفي قوله تعالى وَكَمْ مّن مَّلَكٍ وقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( النحل 75 ) وقوله أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ( سبأ 41 ) يجعل المخرج غير ملتفت إليه فيجعل كأنه ما أخرجه كالأمر الخارج عن الحكم كأنه ما خرج وذلك يختلف بختلاف المقصود من الكلام فإن كان الكلام مذكوراً لأمر فيه يبالغ يستعمل الكل مثاله يقال للملك كل الناس يدعون لك إذا كان الغرض بيان كثرة الدعاء له لا غير وإن كان الكلام مذكوراً لأمر خارج عنه لا يبالغ فيه لأن المقصود غيره فلا يستعمل الكل مثاله إذا قال الملك لمن قال له اغتنم دعائي كثير من الناس يدعون لي إشارة إلى عدم احتياجه إلى دعائه لا لبيان كثرة الدعاء له فكذلك ههنا
المسألة الرابعة قال لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ ولم يقل لا يشفعون مع أن دعواهم أن هؤلاء شفعاؤنا لا أن شفاعتهم تنفع أو تغني وقال تعالى في مواضع أخرى مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) فنفي الشفاعة بدون الإذن وقال مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ نفى الشفيع وههنا نفى الإغناء نقول هم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا وكانوا يعتقدون نفع شفاعتهم كما قال تعالى لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) ثم نقول نفي دعواهم يشتمل على فائدة عظيمة أما نفي دعواهم لأنهم قالوا الأصنام تشفع لنا شفاعة مقربة مغنية فقال لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ بدليل أن شفاعة الملائكة لا تغني وأما الفائدة فلأنه لما استثنى بقوله إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ أي فيشفع ولكن لا يكون فيه بيان أنها تقبل وتغني أو لا تقبل فإذا قال لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ ثم قال إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ فيكون معناه تغني فيحصل البشارة لأنه تعالى قال الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( غافر 7 ) وقال تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ ( الشورى 5 ) والاستغفار شفاعة
وأما قوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) فليس المراد نفي الشفاعة وقبولها كما في هذه الآية حيث رد عليهم قولهم وإنما المراد عظمة الله تعالى وأنه لا ينطق في حضرته أحد ولا يتكلم كما في قوله تعالى لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ
المسألة الخامسة اللام في قوله لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى تحتمل وجهين أحدهما أن تتعلق بالإذن وهو على طريقين أحدهما أن يقال إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة ويرضى الثاني أن يكون الإذن في المشفوع له لأن الإذن حاصل للكل في الشفاعة للمؤمنين لأنهم جميعهم يستغفرون لهم فلا معنى للتخصيص ويمكن أن ينازع فيه وثانيهما أن تتعلق بالإغناء يعني إلا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة فتغني شفاعتهم لمن يشاء ويمكن أن يقال بأن هذا بعيد لأن ذلك(28/264)
يقتضي أن تشفع الملائكة والإغناء لا يحصل إلا لمن يشاء فيجاب عنه بأن التنبيه على معنى عظمة الله تعالى فإن الملك إذا شفع فالله تعالى على مشيئته بعد شفاعتهم يغفر لمن يشاء
المسألة السادسة ما الفائدة في قوله تعالى وَيَرْضَى نقول فيه فائدة الإرشاد وذلك لأنه لما قال لِمَن يَشَاء كان المكلف متردداً لا يعلم مشيئته فقال وَيَرْضَى ليعلم أنه العابد الشاكر لا المعاند الكافر فإنه تعالى قال إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ ( الزمر 7 ) فكأنه قال لِمَن يَشَاء ثم قال وَيَرْضَى بياناً لمن يشاء وجواب آخر على قولنا لا تغني شفاعتهم شيئاً ممن يشاء هو أن فاعل يرضى المدلول عليه لمن يشاء كأنه قال ويرضى هو أي تغنيه الشفاعة شيئاً صالحاً فيحصل به رضاه كما قال ويرضى هو أي تغنيه الشفاعة وحينئذ يكون يرضى للبيان لأنه لما قال لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ إشارة إلى نفي كل قليل وكثير كان اللازم عنده بالاستثناء أن شفاعتهم تغني شيئاً ولو كان قليلاً ويرضى المشفوع له ليعلم أنها تغني أكثر من اللازم بالاستثناء ويمكن أن يقال وَيَرْضَى لتبيين أن قوله يَشَاء ليس المراد المشيئة التي هي الرضا فإن الله تعالى إذا شاء الضلالة بعبد لم يرض به وإذا شاء الهداية رضي فقال لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى ليعلم أن المشيئة ليست هي المشيئة العامة إنما هي الخاصة ثم قال تعالى
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَة َ تَسْمِيَة َ الاٍّ نثَى
وقد بينا ذلك في سورة الطور واستدللنا بهذه الآية ونذكر ما يقرب منه ههنا فنقول الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ هم الذين لا يؤمنون بالرسل ولا يتبعون الشرع وإنما يتبعون ما يدعون أنه عقل فيقولون أسماء الله تعالى ليست توقيفية ويقولون الولد هو الموجود من الغير ويستدلون عليه بقول أهل اللغة كذا يتولد منه كذا يقال الزجاج يتولد من الآجر بمعنى يوجد منه وكذا القول في بنت الكرم وبنت الجبل ثم قالوا الملائكة وجدوا من الله تعالى فهم أولاده بمعنى الإيجاد ثم إنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث وصح عندهم أن يقال سجدت الملائكة فقالوا بنات الله فقال إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَة َ تَسْمِيَة َ الاْنثَى أي كما سمي الإناث بنات وفيه مسائل
المسألة الأولى كيف يصح أن يقال إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر من يموت ويعتقدون أنه يحشر عليه فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أنهم لما كانوا لا يجزمون به كانوا يقولون لا حشر فإن كان فلنا شفعاء يدل عليه قوله تعالى وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت 50 ) ثانيهما أنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه ( الحق ) وهو ما ورد به الرسل
المسألة الثانية قال بعض الناس أنثى فعلى من أفعل يقال في فعلها آنث ويقال في فاعلها أنبث يقال حديد ذكر وحديد أنيث والحق أن الأنثى يستعمل في الأكثر على خلاف ذلك بدليل جمعها على إناث
المسألة الثالثة كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث نقول عنه جوابان أحدهما ظاهر والآخر دقيق أما الظاهر فهو أن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لما جاء على وفقه آخر(28/265)
الآيات والدقيق هو أنه لو قال يسمونهم تسمية الإناث كان يحتمل وجهين أحدهما البنات وثانيهما الأعلام المعتادة للإناث كعائشة وحفصة فإن تسمية الإناث كذلك تكون فإذا قال تسمية الأنثى تعين أن تكون للجنس وهي البنت والبنات ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنهم لما قيل لهم إن الصنم جماد لا يشفع وبيّن لهم إن أعظم أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلا بالإذن قالوا نحن لا نعبد الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعباتها فإنها على صورها وننصبها بين أيدينا ليذكرنا الشاهد والغائب فنعظم الملك الذي ثبت أنه مقرب عظيم الشأن رفيع المكان فقال تعالى رداً عليهم كيف تعظمونهم وأنتم تسمونهم تسمية الأنثى ثم ذكر فيه مستندهم في ذلك وهو لفظ الملائكة ولم يقل إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى بل قال لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَة َ فإنهم اغتروا بالتاء واغترارهم باطل لأن التاء تجيء لمعان غير التأنيث الحقيقي والبنت لا تطلق إلا على المؤنث الحقيقي بالإطلاق والتاء فيها لتأكيد معنى الجمع كما في صياقلة وهي تشبه تلك التاء وذلك لأن الملائكة في المشهور جمع ملك والملك اختصار من الملأك بحزف الهمزة والملأك قلب المألك من الألوكة وهي الرسالة فالملائكة على هذا القول مفاعلة والأصل مفاعل ورد إلى ملائكة في الجمع فهي تشبه فعائل وفعائلة والظاهر أن الملائكة فعائل جمع مليكي منسوب إلى المليك بدليل قوله تعالى عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ في وعد المؤمن وقال في وصف الملائكة الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ( الأعراف 206 ) وقال أيضاً في الوعد وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى ( ص 40 ) وقال في وصف الملائكة وَلاَ الْمَلَئِكَة ُ الْمُقَرَّبُونَ ( النساء 172 ) فهم إذن عباد مكرمون اختصهم الله بمزيد قربه وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 50 ) كأمر الملوك والمستخدمين عند السلاطين الواقفين بأبوابهم منتظرين لورود أمر عليهم فهم منتسبون إلى المليك المقتدر في الحال فهم مليكيون وملائكة فالتاء للنسبة في الجمع كما في الصيارفة والبياطرة
فإن قيل هذا باطل من وجوه الأول أن أحداً لم يستعمل لواحد منهم مليكي كما استعمل صيرفي والثاني أن الإنسان عندما يصير عند الله تعالى يجب أن يكون من الملائكة وليس كذلك لأن المفهوم من الملائكة جنس غير الآدمي الثالث هو أن فعائلة في جمع فعيلى لم يسمع وإنما يقال فعيلة كما يقال جاء بالتميمة والحقيبة الرابع لو كان كذلك لما جمع ملك نقول
الجواب عن الأول أما عدم استعمال واحده فمسلم وهو لسبب وهو أن الملك كلما كان أعظم كان حكمه وخدمه وحشمه أكثر فإذا وصف بالعظمة وصف بالجمع فيقال صاحب العسكر الكثير ولا يوصف بواحد وصف تعظيم وأما ذلك الواحد فإن نسب إلى المليك عين للخبر بأن يقال هذا مليكي وذلك عندما تعرف عينه فتجعله مبتدأ وتخبر بالمليكي عنه والملائكة لم يعرفوا بأعيانهم إلا قليلاً منهم كجبريل وميكائيل وحينئذ لا فائدة في قولنا جبريل مليكي لأن من عرف الخبر ولا يصاغ الحمل إلا لبيان ثبوت الخبر للمبتدأ فلا يقال للإنسان حيوان أو جسم لأنه إيضاح واضح اللّهم إلا أن يستعمل ذلك في ضرب مثال أو في صورة نادرة لغرض وأما أن ينسب إلى المليك وهو مبتدأ فلا لأن العظمة في أن يقول واحد من الملائكة فنبه على كثرة المقربين إليه كما تقول واحد من أصحاب الملك ولا تقول صاحب الملك فإذا أردت التعظيم البالغ فعند الواحد استعمل اسم الملك غير منسوب بل هو موضوع لشدته وقوته كما قال تعالى ذُو مِرَّة ٍ ( النجم 6 ) و ذِى قُوَّة ٍ ( التكوير 20 ) فقال شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 ) و م ل ك تدل على الشدة في تقاليبها على ما عرف وعند(28/266)
الجمع استعمل الملائكة للتعظيم كما قاله تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 )
الجواب عن الثاني نقول قد يكون الاسم في الأول لوصف يختص ببعض من يتصف به وغيره لو صار متصفاً بذلك الوصف لا يسمى بذلك الاسم كالدابة فاعلة من دب ولا يقال للمرأة ذات الدب دابة اسماً وربما يقال لها صفة عند حالة ما تدب بدب مخصوص غير الدب العام الذي في الكل كما لو دبت بليل لأخذ شيء أو غيره أو يقال إنما سميت الملائكة ملائكة لطول انتسابهم من قبل خلق الآدمي بسنين لا يعلم عددها إلا الله فمن لم يصل إلى الله ويقوم ببابه لا يحصل له العهد والانتساب فلا يسمى بذلك الاسم
الجواب عن الثالث نقول الجموع القياسية لا مانع لها كفعال في جمع فعل كجال وثمار وأفعال كأثقال وأشجار وفعلان وغيرها وأما السماع وإن لم يرد إلا قليلاً فاكتفى بما فيه من التعظيم من نسبة الجمع إلا باب الله ويكون من باب المرأة والنساء
الجواب عن الرابع فالمنع ولعل هذا منه أو نقول حمل فعيلى على فعيل في الجمع كما حمل فيعل في الجمع على فعيل فقيل في جمع جيد جياد ولا يقال في فعيل أفاعل ويؤيد ما ذكرنا أن إبليس عندما كان واقفاً بالباب كان داخلاً في جملة الملائكة فنقول قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ( الكهف 50 ) عندما صرف وأبعد خرج عنهم وصار من الجن
وأما ما قاله بعض أهل اللغة من أن الملائكة جمع ملأك وأصل ملأك مألك من الألوكة وهي الرسالة ففيه تعسفات أكثر مما ذكرنا بكثير منها أن الملك لا يكون فعل بل هو مفعل وهو خلاف الظاهر ولم لم يستعمل مآلك على أصله كمآرب ومآثم ومآكل وغيرها مما لا يعد إلا بتعسف ومنها أن ملكاً لم جعل ملأك ولم يفعل ذلك بأخواته التي ذكرناها ومنها أن التاء لم ألحقت بجمعه ولم لم يقل ملائك كما في جمع كل مفعل والذي يرد قولهم قوله تعالى جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) فهي غير الرسل فلا يصح أن يقال جعلت الملائكة رسلاً كما لا يصح جعلت الرسل مرسلين وجعل المقترب قريباً لأن الجعل لا بد فيه من تغيير ومما يدل على خلاف ما ذكروا أن الكل منسوبون إليه موقوفون بين يديه منتظرون أمره لورود الأوامر عليهم ثم قال تعالى
وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً
وفيما يعود إليه الضمير في بِهِ وجوه أحدها ما نقله الزمخشري وهو أنه عائد إلى ما كانوا يقولون من غير علم ثانيها أنه عائد إلى ما تقدم في الآية المتقدمة من علم أي ما لهم بالله من علم فيشركون وقرىء مَّا لَهُم بِهَا وفيه وجوه أيضاً أحدها ما لهم بالآخرة وثانيها ما لهم بالتسمية ثالثها ما لهم بالملائكة فإن قلنا ( ما لهم بالآخرة ) فهو جواب لما قلنا إنهم وإن كانوا يقولون الأصنام شفعاؤنا عند الله وكانوا يربطون الإبل على قبور الموتى ليركبوها لكن ما كانوا يقولون به عن علم وإن قلنا بالتسمية قد تكون وهو أن العلم بالتسمية حاصل لهم فإنهم يعلمون أنهم ليسوا في شك إذ التسمية قد تكون وضعاً أولياً وهو لا يكون بالظن بل بالعلم بأنه(28/267)
وضع وقد يكون استعمالاً معنوياً ويتطرق إليه الكذب والصدق والعلم مثال الأول من وضع أولاً اسم السماء لموضوعها وقال هذا سماء مثال الثاني إذا قلنا بعد ذلك للماء والحجر هذا سماء فإنه كذب ومن يعتقده فهو جاهل وكذلك قولهم في الملائكة إنها بنات الله لم تكن تسمية وضعية وإنما أرادوا به أنهم موصوفون بأمر يجب استعمال لفظ البنات فيهم وذلك كذب ومعتقده جاهل فهذا هو المراد بما ذكرنا أن الظن يتبع في الأمور المصلحية والأفعال العرفية أو الشرعية عند عدم الوصول إلى اليقين وأما في الاعتقادات فلا يغني الظن شيئاً من الحق فإن قيل أليس الظن قد يصيب فكيف يحكم عليه بأنه لا يغني أصلاً نقول المكلف يحتاج إلى يقين يميز الحق من الباطل ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير لكن في الحق ينبغي أن يكون جازماً لاعتقاد مطابقه والظان لا يكون جازماً وفي الخير ربما يعتبر الظن في مواضع ويحتمل أن يقال المراد من الحق هو الله تعالى ومعناه أن الظن لا يفيد شيئاً من الله تعالى أي الأوصاف الإلاهية لا تستخرج بالظنون يدل عليه قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ( الحج 6 ) وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى في ثلاثة مواضع منع من الظن وفي جميع تلك المواضع كان المنع عقيب التسمية والدعاء باسم موضعان منها في هذه السورة أحدهما قوله تعالى إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( النجم 23 ) والثاني قوله تعالى وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاْلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ ( الحجرات 11 12 ) عقيب الدعاء بالقلب وكل ذلك دليل على أن حفظ اللسان أولى من حفظ غيره من الأركان وأن الكذب أقبح من السيئات الظاهرة من الأيدي والأرجل وهذه المواضع الثلاثة أحدها مدح من لا يستحق المدح كاللاّت والعزى من العز وثانيها ذم من لا يستحق الذم وهم الملائكة الذين هم عباد الرحمن يسمونهم تسمية الأنثى وثالثها ذم من لم يعلم حاله وأما مدح من حاله لا يعلم فلم يقل فيه لا يتبعون إلا الظن بل الظن فيه معتبر والأخذ بظاهر حال العاقل واجب ثم قال تعالى
فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا
أي اترك مجادلتهم فقد بلغت وأتيت بما كان عليك وأكثر المفسرين يقولون بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى فَأَعْرَضَ منسوخ بآية القتل وهو باطل فإن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ به وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم قيل له وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 ) ثم لما لم ينفع قال له ربه فأعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان فإنهم لا يتبعون إلا الظن ولا يتبعون الحق وقابلهم بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقابلة فكيف يكون منسوخاً والإعراض من باب أشكاه والهمزة فيه للسلب كأنه قال أزل العرض ولا تعرض عليهم بعد هذا أمراً وقوله تعالى مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا لبيان تقديم فائدة العرض والمناظرة لأن من لا يصغي إلى القول كيف يفهم معناه وفي ذِكْرِنَا وجوه الأول القرآن الثاني الدليل والبرهان الثالث ذكر الله تعالى فإن من لا ينظر في الشيء كيف يعرف صفاته وهم كانوا يقولون نحن لا نتفكر في آلاء الله لعدم تعلقنا بالله وإنما أمرنا مع من خلقنا وهم الملائكة أو الدهر على اختلاف أقاويلهم وتباين أباطيلهم وقوله تعالى وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا إشارة إلى إنكارهم الحشر كما قالوا إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( المؤمنون 37 ) وقال تعالى(28/268)
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( التوبة 38 ) يعني لم يثبتوا وراءها شيئاً آخر يعملون له فقوله مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا إشارة إلى إنكارهم الحشر لأنه إذا ترك النظر في آلاء الله تعالى لا يعرفه فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه فلا يبقى إذن فائدة في الدعاء واعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان طبيب القلوب فأتى على ترتيب الأطباء وترتيبهم أن الحال إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القوي ثم إذا عجزوا عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكي وقيل آخر الدواء الكي فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أولاً أمر القلوب بذكر الله فحسب فإن بذكر الله تطمئن القلوب كما أن بالغذاء تطمئن النفوس فالذكر غذاء القلب ولهذا قال أولاً قولوا لا إلاه إلا الله أمر بالذكر لمن انتفع مثل أبي بكر وغيره ممن انتفع ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل وقال أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ ( الأعراف 184 ) قُلِ انظُرُواْ ( يونس 101 ) أَفَلاَ يَنظُرُونَ ( الغاشيه 17 ) إلى غير ذلك ثم أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينفعهم قال أعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح(28/269)
بداية الجزء التاسع والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(29/2)
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى
ثم قال تعالى ذالِكَ مبلغهم من العلم ذالِكَ فيه وجوه الأول أظهرها أنه عائد إلى الظن أي غاية ما يبلغون به أنهم يأخذون بالظن وثانيها إيثار الحياة الدنيا مبلغهم من العلم أي ذلك الإيثار غاية ما بلغوه من العلم ثالثها فَأَعْرَضَ الَّذِى تَوَلَّى ( النجم 29 ) وذلك الإعراض غاية ما بلغوه من العلم والعلم على هذا يكون المراد منه العلم بالمعلوم وتكون الألف واللام للتعريف والعلم بالمعلوم هو ما في القرآن وتقرير هذا أن القرآن لما ورد بعضهم تلقاه بالقبول وانشرح صدره فبلغ الغاية القصوى وبعضهم قبله من حيث إنه معجزة واتبع الرسول فبلغ الدرجة الوسطى وبعضهم توقف فيه كأبي طالب وذلك أدنى المراتب وبعضهم رده وعابه فالأولون لم يجز الإعراض عنهم والآخرون وجب الإعراض عنهم وكان موضع بلوغه من العلم أنه قطع الكلام معه الإعراض عنه وعليه سؤال وهو أن الله تعالى بين أن غايتهم ذلك ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له والصبي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله
نقول ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله فكأن عدم علمهم لعدم قبولهم العلم وإنما قدر الله توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيحقق العقاب قال الزمخشري ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ كلام معترض بين كلامين والمتصل قوله تعالى ( فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ) وعلى ما ذكرنا المقصود لا يتم إلا به يكون كأنه تعالى قال أعرض عنهم فإن ذلك غايتهم ولا يوجد وراء ما ظهر منهم شيء وكأن قوله الَّذِى تَوَلَّى إشارة إلى قطع عذرهم بسبب الجهل فإن الجهل كان بالتولي وإيثار العاجل
ثم ابتدأ وقال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى وفي المناسبة وجوه الأول أنه تعالى لما قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعرض وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شديد الميل إلى إيمان قومه وكان ربما هجس في خاطره أن في الذكرى بعد منفعة وربما يؤمن من الكافرين قوم آخرون من غير قتال فقال له إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ علم أنه يؤمن بمجرد الدعاء أحد من المكلفين وإنما ينفع فيهم أن يقع السيف والقتال فأعرض عن الجدال وأقبل على القتال وعلى هذا فقوله بِمَنِ اهْتَدَى أي علم في الأزل من ضل في تقديره ومن اهتدى فلا يشتبه عليه الأمران ولا يأس في الإعراض ويعد في العرف مصلحة ثانيها هو(29/3)
على معنى قوله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( سبأ 24 ) وقوله تعالى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ( الأعراف 87 ) ووجهه أنهم كانوا يقولون نحن على الهدى وأنتم مبطلون وأقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الحجة عليهم فلم ينفعهم فقال تعالى أعرض عنهم وأجرك وقع على الله فإنه يعلم أنكم مهتدون ويعلم أنهم ضالون والمتناظران إذا تناظرا عند ملك قادر مقصودهم ظهور الأمر عند الملك فإن اعترف الخصم بالحق فذاك وإلا فغرض المصيب يظهر عند الملك فقال تعالى جادلت وأحسنت والله أعلم بالمحق من المبطل ثالثها أنه تعالى لما أمر نبيه بالإعراض وكان قد صدر منهم إيذاء عظيم وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتحمله رجاء أن يؤمنوا فنسخ جميع ذلك فلما لم يؤمنوا فكأنه قال سعيي وتحملي لإيذائهم وقع هباء فقال الله تعالى إن الله يعلم حال المضلين والمهتدين ( لله ما في السموات والأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا ) من المهتدين وفيه مسائل
المسألة الأولى هُوَ يسمى عماداً وفصلاً ولو قال إن ربك أعلم لتمَّ الكلام غير أن عند خلو الكلام عن هذا العماد ربما يتوقف السامع على سماع ما بعده ليعلم أن أَعْلَمُ خبر رَبَّكَ أو هو مع شيء آخر خبر مثاله لو قال إن زيداً أعلم منه عمرو يكون خبر زيد الجملة التي بعده فإن قال هُوَ أَعْلَمُ إنتفى ذلك التوهم
المسألة الثانية أَعْلَمُ يقتضي مفضلاً عليه يقال زيد أعلم من عمرو والله أعلم ممن نقول أفعل يجيء كثيراً بمعنى عالم لا عالم مثله وحينئذ إن كان هناك عالم فذلك مفضل عليه وإن لم يكن ففي الحقيقة هو العالم لا غير وفي كثير من المواضع أفعل في صفات الله بذلك المعنى يقال الله أكبر وفي الحقيقة لا كبير مثله ولا أكبر إلا هو والذي يناسب هذا أنه ورد في الدعوات يا أكرم الأكرمين كأنه قال لا أكرم مثلك وفي الحقيقة لا أكرم إلا هو وهذا معنى قول من يقول أَعْلَمُ بمعنى عالم بالمهتدي والضال ويمكن أن يقال أعلم من كل عالم بفرض عالم غيره
المسألة الثالثة علمته وعلمت به مستعملان قال الله تعالى في الأنعام هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ( الأنعام 117 ) ثم ينبغي أن يكون المراد من المعلوم العلم إذا كان تعلقه بالمعلوم أقوى إما لقوة العلم وإما لظهور المعلوم وإما لتأكيد وجوب العلم به وإما لكون الفعل له قوة أما قوة العلم فكما في قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ ( المزمل 20 ) وقال أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( العلق 14 ) لما كان علم الله تعالى تاماً شاملاً علقه بالمفعول الذي هو حال من أحوال عبده الذي هو بمرأى منه من غير حرف ولما كان علم العبد ضعيفاً حادثاً علقه بالمفعول الذي هو صفة من صفات الله تعالى الذي لا يحيط به علم البشر بالحرف أو لما كان كون الله رائياً لم يكن محسوساً به مشاهداً علق الفعل به بنفسه وبالآخر بالحرف وأما ظهور المعلوم فكما قال تعالى أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء ( الزمر 52 ) وهو معلوم ظاهر وأما تأكيد وجوب العلم به كما في قوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) ويمكن أن يقال هو من قبيل الظاهر وكذلك قوله تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ( التوبة 2 ) وأما قوة الفعل فقال تعالى عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ ( المزمل 20 ) وقال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى لما كان المستعمل صفة الفعل علقه بالمفعول بغير حرف وقال تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن كما كان(29/4)
المستعمل اسماً دالاً على فعل ضعف عمله لتعلقه بالمفعول
المسألة الرابعة قدم العلم بمن ضل على العلم بالمهتدي في كثير من المواضع منها في سورة الأنعام ومنها في سورة ن ومنها في السورة لأن في المواضع كلها المذكور نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) والمعاندون فذكرهم أولاً تهديداً لهم وتسلية لقلب نبيه عليه الصلاة والسلام
المسألة الخامسة قال في موضع واحد من المواضع هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ( الأنعام 117 ) وفي غيره قال بِمَن ضَلَّ فهل عندك فيه شيء قلت نعم ونبين ذلك ببحث عقلي وآخر نقلي أما العقلي فهو أن العلم القديم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه إن وجد أمس علم أنه وجد أمس في نهار أمس وليس مثل علمنا حيث يجوز أن يتحقق الشيء أمس ونحن لا نعلمه إلا في يومنا هذا بل لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ ولا يتأخر الواقع عن علمه طرفة عين وأما النقلي فهو أن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل إذا كان بمعنى المستقبل ولا يعمل عمله إذا كان ماضياً فلا تقول أنا ضارب زيداً أمس والواجب إن كنت تنصب أن تقول ضربت زيداً وإن كنت تستعمل اسم الفاعل فالواجب الإضافة تقول ضارب زيد أمس أنا ويجوز أن يقال أنا غداً ضارب زيداً والسبب فيه أن الفعل إذا وجد فلا تجدد له في ( غير ) الاستقبال ولا تحقق له في الحال فهو عدم وضعف عن أن يعمل وأما الحال وما يتوقع فله وجود فيمكن إعماله إذا ثبت هذا فنقول لما قال ضَلَّ كان الأمر ماضياً وعلمه تعلق به وقت وجوده فعلم وقوله أَعْلَمُ بمعنى عالم فيصير كأنه قال عالم بمن ضل فلو ترك الباء لكان إعمالاً للفاعل بمعنى الماضي ولما قال يُضِلَّ كان يعلم الضلال عند الوقوع وإن كان قد علم في الأزل أنه سيضل لكن للعلم بعد ذلك تعلق آخر سيوجد وهو تعلقه بكون الضلال قد وقع وحصل ولم يكن ذلك في الأزل فإنه لا يقال إنه تعالى علم أن فلاناً ضل في الأزل وإنما الصحيح أن يقال علم في الأزل فإنه سيضل فيكون كأنه يعلم أنه يضل فيكون اسم الفاعل بمعنى المستقبل وهو يعمل عمل الفعل فلا يقال زيد أعلم مسألتنا من عمرو وإنما الواجب أن يقال زيد أعلم بمسألتنا من عمرو ولهذا قالت النحاة في سورة الأنعام إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ يعلم من يضل وقالوا أَعْلَمُ للتفضيل لا يبنى إلا من فعل لازم غير متعد فإن كان متعدياً يرد إلى لازم وقولنا علم كأنه من باب علم بالضم وكذا في التعجب إذا قلنا ما أعلمه بكذا كأنه من فعل لازم وأما أنا فقد أجبت عن هذا بأن قوله أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ معناه عالم وقد قدمنا ما يجب أن يعتقد في أوصاف الله في أكثر الأمر أن معناه أنه عالم ولا عالم مثله فيكون أعلم على حقيقته وهو أحسن من أن يقال هو بمعنى عالم لا غير فإن قيل فلم قال ههنا بِمَن ضَلَّ وقال هناك يُضِلَّ قلنا لأن ههنا حصل الضلال في الماضي وتأكد حيث حصل يأس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأمر بالإعراض وأما هناك فقال تعالى من قبل وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِهِ ( الأنعام 116 )
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن يُضِلَّ بمعنى إن ضللت يعلمك الله فكان الضلال غير حاصل فيه فلم يستعمل صيغة الماضي
المسألة السادسة قال في الضلال عن سبيله وهو كاف في الضلال لأن الضلال لا يكون إلا في السبيل وأما بعد الوصول فلا ضلال أو لأن(29/5)
من ضل عن سبيله لا يصل إلى المقصود سواء سلك سبيلاً أو ( لم ) يسلك وأما من اهتدى إلى سبيل فلا وصول إن لم يسلكه ويصحح هذا أن من ضل في غير سبيله فهو ضال ومن اهتدى إليها لا يكون مهتدياً إلا إذا اهتدى إلى كل مسألة يضر الجهل بها بالإيمان فكان الاهتداء اليقيني هو الاهتداء المطلق فقال بِمَنِ اهْتَدَى وقال بِالْمُهْتَدِينَ ( القلم 7 )
ثم قال تعالى
وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى
إشارة إلى كمال غناه وقدرته ليذكر بعد ذلك ويقول إن ربك هو أعلم من الغني القادر لأن من علم ولم يقدر لا يتحقق منه الجزاء فقال وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن اللام في قوله لِيَجْزِى َ كاللام في قوله تعالى وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ( النحل 8 ) وهو جرى في ذلك على مذهبه فقال وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ معناه خلق ما فيهما لغرض الجزاء وهو لا يتحاشى مما ذكره لما عرف من مذهب الاعتزال وقال الواحدي اللام للعاقبة كما في قوله تعالى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً ( القصص 8 ) أي أخذوه وعاقبته أنه يكون لهم عدواً والتحقيق فيه وهو أن حتى ولام الغرض متقاربان في المعنى لأن الغرض نهاية الفعل وحتى للغاية المطلقة فبينهما مقاربة فيستعمل أحدهما مكان الآخر يقال سرت حتى أدخلها ولكي أدخلها فلام العاقبة هي التي تستعمل في موضع حتى للغاية ويمكن أن يقال هنا وجه أقرب من الوجهين وإن كان أخفى منهما وهو أن يقال إن قوله لِيَجْزِى َ متعلق بقوله ضل واهتدى لا بالعلم ولا بخلق ما في السموات تقديره كأنه قال هو أعلم بمن ضل واهتدى لِيَجْزِى َ أن من ضل واهتدى يجزي الجزاء والله أعلم به فيصير قوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ كلاماً معترضاً ويحتمل أن يقال هو متعلق بقوله تعالى فَأَعْرَضَ ( النجم 29 ) أي أعرض عنهم ليقع الجزاء كما يقول المريد فعلاً لمن يمنعه منه زرني لأفعله وذلك لأن ما دام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم ييأس ما كان العذاب ينزل والإعراض وقت اليأس وقوله تعالى وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى حينئذ يكون مذكوراً ليعلم أن العذاب الذي عند إعراضه يتحقق ليس مثل الذي قال تعالى فيه وَاتَّقُواْ فِتْنَة ً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّة ً ( الأنفال 25 ) بل هو مختص بالذين ظلموا وغيرهم لهم الحسنى وقوله تعالى في حق المسيء بِمَا عَمِلُواْ وفي حق المحسن بِالْحُسْنَى فيه لطيفة لأن جزاء المسيء عذاب فنبه على ما يدفع الظلم فقال لا يعذب إلا عن ذنب وأما في الحسنى فلم يقل بما عملوا لأن الثواب إن كان لا على حسنة يكون في غاية الفضل فلا يخل بالمعنى هذا إذا قلنا الحسنى هي المثوبة بالحسنى وأما إذا قلنا الأعمال الحسنى ففيه لطيفة غير ذلك وهي أن أعمالهم لم يذكر فيها التساوي وقال في أعمال المحسنين الْحُسْنَى إشارة إلى الكرم والصفح حيث ذكر أحسن الإسمين والحسنى صفة أقيمت مقام الموصوف كأنه تعالى قال بالأعمال الحسنى كقوله تعالى الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 ) وحينئذ هو كقوله تعالى لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( العنكبوت 7 ) أي يأخذ أحسن أعمالهم ويجعل ثواب كل ما وجد منهم لجزاء ذلك الأحسن أو هي صفة المثوبة كأنه قال ويجزي الذين(29/6)
أحسنوا بالمثوبة الحسنى أو بالعاقبة الحسنى أي جزاؤهم حسن العاقبة وهذا جزاء فحسب وأما الزيادة التي هي الفضل بعد الفضل فغير داخلة فيه
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَة ِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّة ٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى
ثم قال تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ الذين يحتمل أن يكون بدلاً عن الذين أحسنوا وهو الظاهر وكأنه تعالى قال ليجزي الذين أساءوا ويجزي الذين أحسنوا ويتبين به أن المحسن ليس ينفع الله بإحسانه شيئاً وهو الذي لا يسيء ولا يرتكب القبيح الذي هو سيئة في نفسه عند ربه فالذين أحسنوا هم الذين اجتنبوا ولهم الحسنى وبهذا يتبين المسيء والمحسن لأن من لا يجتنب كبائر الإثم يكون مسيئاً والذي يجتنبها يكون محسناً وعلى هذا ففيه لطيفة وهو أن المحسن لما كان هو من يجتنب الآثام فالذي يأتي بالنوافل يكون فوق المحسن لكن الله تعالى وعد المحسن بالزيادة فالذي فوقه يكون له زيادات فوقها وهم الذين لهم جزاء الضعف ويحتمل أن يكون ابتداء كلام تقديره الذين يجتنبون كبائر الإثم يغفر الله لهم والذي يدل عليه قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَة ِ وعلى هذا تكون هذه الآية مع ما قبلها مبينة لحال المسيء والمحسن وحال من لم يحسن ولم يسيء وهم الذين لم يرتكبوا سيئة وإن لم تصدر منهم الحسنات وهم كالصبيان الذين لم يوجد فيهم شرائط التكليف ولهم الغفران وهو دون الحسنى ويظهر هذا بقوله تعالى بعده هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّة ٌ أي يعلم الحالة التي لا إحسان فيها ولا إساءة كما علم من أساء وضل ومن أحسن واهتدى وفيه مسائل
المسألة الأولى إذا كان بدلاً عن الذين أحسنوا فلم خالف ما بعده بالمضي والاستقبال حيث قال تعالى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ ( النجم 31 ) وقال الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ولم يقل اجتنبوا نقول هو كما يقول القائل الذين سألوني أعطيتهم الذين يترددون إلى سائلين أي الذين عادتهم التردد والسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا قال الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة وقدموا عليها أخرى فإن قيل في كثير من المواضع قال في الكبائر وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ( الشورى 37 ) وقال في عباد الطاغوت وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ ( الزمر 17 ) فما الفرق نقول عبادة الطاغوت راجعة إلى الاعتقاد والاعتقاد إذا وجد دام ظاهراً فمن اجتنبها اعتقد بطلانها فيستمر وأما مثل الشرب والزنا أمر يختلف أحوال الناس فيه فيتركه زماناً ويعود إليه ولهذا يستبرأ الفاسق إذا تاب ولا يستبرأ الكافر إذا أسلم فقال في الآثام الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ دائماً ويثابرون على الترك أبداً وفي عبادة الأصنام اجْتَنَبُواْ بصيغة الماضي ليكون أدل على الحصول ولأن كبائر الإثم لها عدد أنواع فينبغي أن يجتنب عن نوع ويجتنب عن آخر ويجتنب عن ثالث ففيه تكرر وتجدد فاستعمل فيه صيغة الاستقبال وعبادة الصنم أمر واحد متحد فترك فيه ذلك الاستعمال وأتى بصيغة الماضي الدالة على وقوع الاجتناب لها دفعة
المسألة الثانية الكبائر جمع كبيرة وهي صفة فما الموصوف نقول هي صفة الفعلة كأنه يقول الفعلات الكبائر من الإثم فإن قيل فما بال اختصاص الكبيرة بالذنوب في الاستعمال ولو قال قائل الفعلة الكبيرة الحسنة لا يمنعه مانع نقول الحسنة لا تكون كبيرة لأنها إذا قوبلت بما يجب أن يوجد من العبد في(29/7)
مقابلة نعم الله تعالى تكون في غاية الصغر ولولا أن الله يقبلها لكانت هباء لكن السيئة من العبد الذي أنعم الله عليه بأنواع النعم كبيرة ولولا فضل الله لكان الاشتغال بالأكل والشرب والإعراض عن عبادته سيئة ولكن الله غفر بعض السيئات وخفف بعضها
المسألة الثالثة إذا ذكر الكبائر فما الفواحش بعدها نقول الكبائر إشارة إلى ما فيها من مقدار السيئة والفواحش إشارة إلى ما فيها من وصف القبح كأنه قال عظيمة المقادير قبيحة الصور والفاحش في اللغة مختص بالقبيح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التقاليب يدل عليه فإنك إذا قلبتها وقلت حشف كان فيه معنى الرداءة الخارجة عن الحد ويقال فحشت الناقة إذا وقفت على هيئة مخصوصة للبول فالفحش يلازمه القبح ولهذا لم يقل الفواحش من الإثم وقال في الكبائر كَبَائِرَ الإثْمِ لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة إلى الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش
المسألة الرابعة كثرت الأقاويل في الكبائر والفواحش فقيل الكبائر ما أوعد الله عليه بالنار صريحاً وظاهراً والفواحش ما أوجب عليه حداً في الدنيا وقيل الكبائر ما يكفر مستحله وقيل الكبائر مالا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو على مذهب المعتزلة وكل هذه التعريفات تعريف الشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم والفواحش هي التي قبحها واضح فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية كما يقال مثلاً في الأبرص علته بياض لطخة كبيرة ظاهرة اللون فالكبيرة لبيان الكمية والظهور لبيان الكيفية وعلى هذا فنقول على ما قلنا إن الأصل في كل معصية أن تكون كبيرة لأن نعم الله كثيرة ومخالفة المنعم سيئة عظيمة غير أن الله تعالى حط عن عباده الخطأ والنسيان لأنهما لا يدلان على ترك التعظيم إما لعمومه في العباد أو لكثرة وجوده منهم كالكذبة والغيبة مرة أو مرتين والنظرة والقبائح التي فيها شبهة فإن المجتنب عنها قليل في جميع الأعصار ولهذا قال أصحابنا إن استماع الغناء الذي مع الأوتار يفسق به وإن استمعه من أهل بلدة لا يعتدون أمر ذلك لا يفسق فعادت الصغيرة إلى ما ذكرنا من أن العقلاء إن لم يعدوه تاركاً للتعظيم لا يكون مرتكباً للكبيرة وعلى هذا تختلف الأمور باختلاف الأوقات والأشخاص فالعالم المتقي إذا كان يتبع النساء أو يكثر من اللعب يكون مرتبكاً للكبيرة والدلال والباعة والمتفرغ الذي لا شغل له لا يكون كذلك وكذلك اللعب وقت الصلاة واللعب في غير ذلك الوقت وعلى هذا كل ذنب كبيرة إلا ما علم المكلف أو ظن خروجه بفضل الله وعفوه عن الكبائر
المسألة الخامسة في اللمم وفيه أقوال أحدها ما يقصده المؤمن ولا يحققه وهو على هذا القول من لم يلم إذا جمع فكأنه جمع عزمه وأجمع عليه وثانيها ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال وهو من اللمم الذي هو مس من الجنون كأنه مسه وفارقه ويؤيد هذا قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ( آل عمران 135 ) ثالثها اللمم الصغير من الذنب من ألم إذا نزل نزولاً من غير لبث طويل ويقال ألم بالطعام إذا قلل من أكله وعلى هذا فقوله إِلاَّ اللَّمَمَ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون ذلك استثناء من الفواحش وحينئذ فيه وجهان أحدهما استثناء منقطع لأن اللمم ليس من الفواحش وثانيهما غير منقطع لما بينا أن كل معصية إذا نظرت إلى جانب الله تعالى وما يجب أن يكون عليه فهي كبيرة وفاحشة ولهذا قال الله تعالى وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً ( الأعراف 28 ) غير أن الله تعالى استثنى منها أموراً يقال الفواحش كل معصية(29/8)
إلا ما استثناه الله تعالى منها ووعدنا بالعفو عنه ثانيها إِلا بمعنى غير وتقديره والفواحش غير اللمم وهذا للوصف إن كان للتمييز كما يقال الرجال غير أولي الإربة فاللمم عين الفاحشة وإن كان لغيره كما يقال الرجال غير النساء جاؤوني لتأكيد وبيان فلا وثالثها هو استثناء من الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ لأن ذلك يدل على أنهم لا يقربونه فكأنه قال لا يقربونه إلا مقاربة من غير مواقعة وهو اللمم
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَة ِ وذلك على قولنا الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ابتداء الكلام في غاية الظهور لأن المحسن مجزى وذنبه مغفور ومجتنب الكبائر كذلك ذنبه الصغير مغفور والمقدم على الكبائر إذا تاب مغفور الذنب فلم يبق ممن لم تصل إليهم مغفرة إلا الذين أساؤا وأصروا عليها فالمغفرة واسعة وفيه معنى آخر لطيف وهو أنه تعالى لما أخرج المسيء عن المغفرة بين أن ذلك ليس لضيق فيها بل ذلك بمشيئة الله تعالى ولو أراد الله مغفرة كل من أحسن وأساء لفعل وما كان يضيق عنهم مغفرته والمغفرة من الستر وهو لا يكون إلا على قبيح وكل من خلقه الله إذا نظرت في فعله ونسبته إلى نعم الله تجده مقصراً مسيئاً فإن من جازى المنعم بنعم لا تحصى مع استغنائه الظاهر وعظمته الواضحة بدرهم أو أقل منه يحتاج إلى ستر ما فعله
ثم قال تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّة ٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ وفي المناسبة وجوه أحدها هو تقرير لما مر من قوله هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ ( النجم 30 ) كأن العامل من الكفار يقول نحن نعمل أموراً في جوف الليل المظلم وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله تعالى فقال ليس عملكم أخفى من أحوالكم وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم والله عالم بتلك الأحوال ثانيها هو إشارة إلى الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله فإن الحق علم أحوالهم وهم في بطون الأمهات فكتب على البعض أنه ضال والبعض أنه مهتد ثالثها تأكيد وبيان للجزاء وذلك لأنه لما قال لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ ( النجم 31 ) قال الكافرون هذا الجزاء لا يتحقق إلا بالحشر وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيد من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط غير ممكن فقال تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ فيجمعها بقدرته على وفق علمه كماأنشأكم وفيه مسائل
المسألة الأولى العامل في إِذْ يحتمل أن يكون ما يدل عليه أَعْلَمُ أي علمكم وقت الإنشاء ويحتمل أن يكون اذكروا فيكون تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ وقد تم الكلام ثم يقول إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب
المسألة الثانية ذكرنا مراراً أن قوله مّنَ الاْرْضِ من الناس من قال آدم فإنه من تراب وقررنا أن كل أحد أصله من التراب فإنه يصير غذاء ثم يصير نطفة
المسألة الثالثة لو قال قائل لا بد من صرف إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ إلى آدم لأن وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّة ٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ(29/9)
عائد إلى غيره فإنه لم يكن جنيناً ولو قلت بأن قوله تعالى إِذْ أَنشَأَكُمْ عائد إلى جميع الناس فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات وهو قول الفلاسفة نقول ليس كذلك لأنا نقول الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب وقوله تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ خطاب مع كل من بعد الإنزال على قول ومع من حضر وقت الإنزال على قول ولا شك أن كل هؤلاء من الأرض وهم كانوا أجنة
المسألة الرابعة الأجنة هم الذين في بطون الأمهات وبعد الخروج لا يسمى إلا ولداً أو سقطاً فما فائدة قوله تعالى فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ نقول التنبيه على كمال العلم والقدرة فإن بطن الأم في غاية الظلمة ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد
المسألة الخامسة لقائل أن يقول إذا قلنا إن قوله هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ تقرير لكونه عالماً بمن ضل فقوله تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ تعلقه به ظاهر وأما إن قلنا إنه تأكيد وبيان للجزاء فإنه يعلم الأجزاء فيعيدها إلى أبدان أشخاصها فكيف يتعلق به فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ نقول معناه حينئذ فلا تبرئوا أنفسكم من العذاب ولا تقولوا تفرقت الأجزاء فلا يقع العذاب لأن العالم بكم عند الإنشاء عالم بكم عند الإعادة وعلى هذا قوله أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى أي يعلم أجزاءه فيعيدها إليه ويثيبه بما أقدم عليه
المسألة السادسة الخطاب مع من فيه ثلاثة احتمالات الأول مع الكفار وهذا على قولنا إنهم قالوا كيف يعلمه الله فرد عليهم قولهم الثاني كل من كان زمان الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار الثالث هو مع المؤمنين وتقريره هو أن الله تعالى لما قال فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ( النجم 29 ) قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) قد علم كونك ومن معك على الحق وكون المشركين على الباطل فأعرض عنهم ولا تقولوا نحن على الحق وأنتم على الضلال لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك وفوض الأمر إلى الله تعالى فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى وعلى هذا فقول من قال فَأَعْرَضَ منسوخ أظهر وهو كقوله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدِى َ أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( سبأ 24 ) والله أعلم بجملة الأمور ويحتمل أن يقال على هذا الوجه الثالث إنه إرشاد للمؤمنين فخاطبهم الله وقال هو أعلم بكم أيها المؤمنون علم ما لكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء ولا تقولوا لآخر أنا خير منك وأنا أزكى منك وأتقى فإن الأمر عند الله ووجه آخر وهو إشارة إلى وجوب الخوف من العاقبة أي لا تقطعوا بخلاصكم أيها المؤمنون فإن الله يعلم عاقبة من يكون على التقي وهذا يؤيد قول من يقول أنا مؤمن إن شاء الله للصرف إلى العاقبة ثم قال تعالى
أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعض المفسرين نزلت الآية في الوليد بن المغيرة جلس عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيراً قوياً فقال له رجل لم تترك دين آبائك ثم قال له لا تخف وأعطني كذا وأنا أتحمل عنك أوزارك فأعطاه بعض ما التزمه وتولى عن الوعظ وسماع الكلام من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال بعضهم(29/10)
نزلت في عثمان رضي الله عنه كان يعطي ماله عطاء كثيراً فقال له أخوه من أمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح يوشك أن يفنى مالك فأمسك فقال له عثمان إن لي ذنوباً أرجو أن يغفر الله لي بسبب العطاء فقال له أخوه أنا أتحمل عنك ذنوبك إن تعطي ناقتك مع كذا فأعطاه ما طلب وأمسك يده عن العطاء فنزلت الآية وهذا قول باطل لا يجوز ذكره لأنه لم يتواتر ذلك ولا اشتهر وظاهر حال عثمان رضي الله عنه يأبى ذلك بل الحق أن يقال إن الله تعالى لما قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) من قبل فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا ( النجم 29 ) وكان التولي من جملة أنواعه تولى المستغني فإن العالم بالشيء لا يحضر مجالس ذكر ذلك الشيء ويسعى في تحصيل غيره فقال أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى عن استغناء أعلم بالغيب
المسألة الثانية الفاء تقتضي كلاماً يترتب هذا عليه فماذا هو نقول هو ما تقدم من بيان علم الله وقدرته ووعده المسيء والمحسن بالجزاء وتقديره هو أن الله تعالى لما بين أن الجزاء لا بد من وقوعه على الإساءة والإحسان وأن المحسن هو الذي يجتنب كبائر الإثم فلم يكن الإنسان مستغنياً عن سماع كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه فبعد هذا من تولى لا يكون توليه إلا بعد غاية الحاجة ونهاية الافتقار
المسألة الثالثة الَّذِى على ما قال بعض المفسرين عائد إلى معلوم وهو ذلك الرجل وهو الوليد والظاهر أنه عائد إلى مذكور فإن الله تعالى قال من قبل فَأَعْرَضَ مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وهو المعلوم لأن الأمر بالإعراض غير مختص بواحد من المعاندين فقال أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى أي الذي سبق ذكره فإن قيل كان ينبغي أن يقول الذين تولوا لأن ( من ) في قوله الَّذِى تَوَلَّى للعموم نقول العود إلى اللفظ كثير شائع قال تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ ( القصص 84 ) ولم يقل فلهم
المسألة الرابعة قوله تعالى وَأَعْطَى قَلِيلاً ما المراد منه نقول على ما تقدم هو المقدار الذي أعطاه الوليد وقوله وَأَكْدَى هو ما أمسك عنه ولم يعط الكل وعلى هذا لو قال قائل إن الإكداء لا يكون مذموماً لأن الإعطاء كان بغير حق فالامتناع لا يذم عليه وأيضاً فلا يبقى لقوله قَلِيلاً فائدة لأن الإعطاء حينئذ نفسه يكون مذموماً نقول فيه بيان خروجهم عن العقل والعرف أما العقل فلأنه منع من الإعطاء لأجل حمل الوزر فإنه لا يحصل به وأما العرف فلأن عادة الكرام من العرب الوفاء بالعهد وهو لم يف به حيث التزم الإعطاء وامتنع والذي يليق بما ذكرنا هو أن نقول تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا يعني إعطاء ما وجب إعطاؤه في مقابلة ما يجب لإصلاح أمور الآخرة ويقع في قوله تعالى عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ في مقابلة قوله تعالى ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ ( النجم 30 ) أي لم يعلم الغيب وما في الآخرة وقوله تعالى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( النجم 36 38 ) في مقابلة قوله هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ إلى قوله لِيَجْزِى َ الَّذِينَ ( النجم 30 31 ) لأن الكلامين جميعاً لبيان الجزاء ويمكن أن يقال إن الله تعالى لما بين حال المشركين المعاندين العابدين للات والعزى والقائلين بأن الملائكة بنات الله شرع في بيان أهل الكتاب وقال بعدما رأيت حال المشرك الذي تولى عن ذكرنا أفرأيت حال من تولى وله كتاب وأعطى قليلاً من الزمان حقوق الله تعالى ولما بلغ زمان محمد أكدى فهل علم الغيب فقال شيئاً لم يرد في كتبهم ولم ينزل عليهم في الصحف المتقدمة ووجد فيها بأن كل واحد يؤاخذ بفعله ويجازى(29/11)
بعمله وقوله تعالى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى يخبر أن المتولي المذكور من أهل الكتاب
المسألة الخامسة أكدى قيل هو من بلغ الكدية وهي الأرض الصلبة لا تحفر وحافر البئر إذا وصل إليها فامتنع عليه الحفر أو تعسر يقال أكدى الحافر والأظهر أنه الرد والمنع يقال أكديته أي رددته وقوله تعالى فأَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ قد علم تفسيره جملة أن المراد جهل المتولي وحاجته وبيان قبح التولي مع الحاجة إلى الإقبال وعلم الغيب أي العلم بالغيب أي علم ما هو غائب عن الخلق وقوله فَهُوَ يَرَى تتمة بيان وقت جواز التولي وهو حصول الرؤية وهو الوقت الذي لا ينفع الإيمان فيه وهناك لا يبقى وجوب متابعة أحد فيما رآه لأن الهادي يهدي إلى الطريق فإذا رأى المهتدي مقصده بعينه لا ينفيه السماع فقال تعالى هل علم الغيب بحيث رآه فلا يكون علمه علماً نظرياً بل علماً بصرياً فعصى فتولى وقوله تعالى فَهُوَ يَرَى يحتمل أن يكون مفعول يَرَى هو احتمال الواحد وزر الآخر كأنه قال فهو يرى أن وزره محمول ألم يسمع أن وزره غير محمول فهو عالم بالحمل وغافل عن عدم الحمل ليكون معذوراً ويحتمل أن لا يكون له مفعول تقديره فهو يرى رأي نظر غير محتاج إلى هاد ونذير
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى
وقوله تعالى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى حال أخرى مضادة للأولى يعذر فيها المتولي وهو الجهل المطلق فإن من علم الشيء علماً تاماً لا يؤمر بتعلمه والذي جهله جهلاً مطلقاً وهو الغافل على الإطلاق كالنائم أيضاً لا يؤمر فقال هذا المتولي هل علم الكل فجاز له التولي أولم يسمع شيئاً وما بلغه دعوة أصلاً فيعذر ولا واحد من الأمرين بكائن فهو في التولي غير معذور وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى بِمَا وَفَّى يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد ما فيها لا بصفة كونه فيها فكأنه تعالى يقول أم لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغير ذلك وهذه أمور مذكورة في صحف موسى مثال يقول القائل لمن توضأ بغير الماء توضأ بما توضأ به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا فالكلام مع الكل لأن المشرك وأهل الكتاب نبأهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما في صحف موسى ثانيهما أن المراد بما في الصحف مع كونه فيها كما يقول القائل فيما ذكرنا من المثال توضأ بما في القربة لا بما في الجرة فيريد عين ذلك لا جنسه وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب لأنهم الذين نبئوا به
المسألة الثانية صحف موسى وإبراهيم هل جمعها لكونها صحفاً كثيرة أو لكونها مضافة إلى اثنين كما قال تعالى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) الظاهر أنها كثيرة قال الله تعالى وَأَخَذَ الاْلْوَاحِ ( الأعراف 154 ) وقال تعالى وَأَلْقَى الالْوَاحَ ( الأعراف 150 ) وكل لوح صحيفة
المسألة الثالثة ما المراد بالذي فيها نقول قوله تعالى أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 38 39 ) وما بعده من الأمور المذكورة على قراءة من قرأ أن بالفتح وعلى قراءة من يكسر ويقول وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ففيه وجوه أحدها هو ما ذكر بقوله أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وهو الظاهر وإنما احتمل غيره لأن صحف موسى وإبراهيم ليس فيها هذا فقط(29/12)
وليس هذا معظم المقصود بخلاف قراءة الفتح فإن فيها تكون جميع الأصول على ما بين ثانيها هو أن الآخرة خير من الأولى يدل عليه قوله تعالى إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى ( الأعلى 18 19 ) ثالثها أصول الدين كلها مذكورة في الكتب بأسرها ولم يخل الله كتاباً عنها ولهذا قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وليس المراد في الفروع لأن فروع دينه مغايرة لفروع دينهم من غير شك
المسألة الرابعة قدم موسى ههنا ولم يقل كما قال في سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) فهل فيه فائدة نقول مثل هذا في كلام الفصحاء لا يطلب له فائدة بل التقديم والتأخير سواء في كلامهم فيصح أن يقتصر على هذا الجواب ويمكن أن يقال إن الذكر هناك لمجرد الإخبار والإنذار وههنا المقصود بيان انتفاء الأعذار فذكر هناك على ترتيب الوجود صحف إبراهيم قبل صحف موسى في الإنزال وأما ههنا فقد قلنا إن الكلام مع أهل الكتاب وهم اليهود فقدم كتابهم وإن قلنا الخطاب عام فصحف موسى عليه السلام كانت كثيرة الوجود فكأنه قيل لهم انظروا فيها تعلموا أن الرسالة حق وأرسل من قبل موسى رسل والتوحيد صدق والحشر واقع فلما كانت صحف موسى عند اليهود كثيرة الوجود قدمها وأما صحف إبراهيم فكانت بعيدة وكانت المواعظ التي فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف موسى فأخر ذكرها
المسألة الخامسة كثيراً ما ذكر الله موسى فأخر ذكره عليه السلام لأنه كان مبتلى في أكثر الأمر بمن حواليه وهم كانوا مشركين ومتهودين والمشركون كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام لكونه أباهم وأما قوله تعالى وَفَّى ففيه وجهان أحدهما أنه الوفاء الذي يذكر في العهود وعلى هذا فالتشديد للمبالغة يقال وفى ووفى كقطع وقطع وقتل وقتل وهو ظاهر لأنه وفى بالنذر وأضجع ابنه للذبح وورد في حقه قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ( الصافات 105 ) وقال تعالى إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ ( الصافات 106 ) وثانيهما أنه من التوفية التي من الوفاء وهو التمام والتوفية الإتمام يقال وفاه أي أعطاه تاماً وعلى هذا فهو من قوله وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة 124 ) وقيل وَفَّى أي أعطى حقوق الله في بدنه وعلى هذا فهو على ضد من قال تعالى فيه وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى مدح إبراهيم ولم يصف موسى عليه السلام نقول أما بيان توفيته ففيه لطيفة وهي أنه لم يعهد عهداً إلا وفى به وقال لأبيه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( يوسف 98 ) فاستغفر ووفى بالعهد ولم يغفر الله له فعلم ءانٍ لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وأن وزره لا تزره نفس أخرى وأما مدح إبراهيم عليه السلام فلأنه كان متفقاً عليه بين اليهود والمشركين والمسلمين ولم ينكر أحد كونه وفياً وموفياً وربما كان المشركون يتوقفون في وصف موسى عليه السلام ثم قال تعالى أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وقد تقدم تفسيره في سورة الملائكة والذي يحسن بهذا الموضع مسائل
الأولى أنا بينا أن الظاهر أن المراد من قوله بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى هو ما بينه بقوله أَلاَّ تَزِرُ فيكون هذا بدلاً عن ما وتقديره أم لم ينبأ بألا تزر وذكرنا هناك وجهين أحدهما المراد أن الآخرة خير وأبقى وثانيهما الأصول
المسألة الثانية أَلاَّ تَزِرُ أن خفيفة من الثقيلة كأنه قال أنه لا تزر وتخفيف الثقيلة لازم وغير لازم(29/13)
جائز وغير جائز فاللازم عندما يكون بعدها فعل أو حرف داخل على فعل ولزم فيها التخفيف لأنها مشبهة بالفعل في اللفظ والمعنى والفعل لا يمكن إدخاله على فعل فأخرج عن شبه الفعل إلى صورة تكون حرفاً مختصاً بالفعل فتناسب الفعل فتدخل عليه
المسألة الثالثة إن قال قائل الآية مذكورة لبيان أن وزر المسيء لا يحمل عنه وبهذا الكلام لا تحصل هذه الفائدة لأن الوازرة تكون مثقلة بوزرها فيعلم كل أحد أنها لا تحمل شيئاً ولو قال لا تحمل فارغة وزر أخرى كان أبلغ تقول ليس كما ظننت وذلك لأن المراد من الوازرة هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وزرت وحملت كما يقال شقاني الحمل وإن لم يكن عليه في الحال حمل وإذا لم تزر تلك النفس التي يتوقع منها ذلك فكيف تتحمل وزر غيرها فتكون الفائدة كاملة
وقوله تعالى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى تتمة بيان أحوال المكلف فإنه لما بين له أن سيئته لا يتحملها عنه أحد بين له أن حسنة الغير لا تجدي نفعاً ومن لم يعمل صالحاً لا ينال خيراً فيكمل بها ويظهر أن المسيء لا يجد بسبب حسنة الغير ثواباً ولا يتحمل عنه أحد عقاباً وفيه أيضاً مسائل
الأولى لَّيْسَ لِلإنسَانِ فيه وجهان أحدهما أنه عام وهو الحق وقيل عليه بأن في الأخبار أن ما يأتي به القريب من الصدقة والصوم يصل إلى الميت والدعاء أيضاً نافع فللإنسان شيء لم يسمع فيه وأيضاً قال الله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( الأنعام 160 ) وهي فوق ما سعى الجواب عنه أن الإنسان إن لم يسع في أن يكون له صدقة القريب بالإيمان لا يكون له صدقته فليس له إلا ما سعى وأما الزيادة فنقول الله تعالى لما وعد المحسن بالأمثال والعشرة وبالأضعاف المضاعفة فإذا أتى بحسنة راجياً أن يؤتيه الله ما يتفضل به فقد سعى في الأمثال فإن قيل أنتم إذن حملتم السعي على المبادرة إلى الشيء يقال سعى في كذا إذا أسرع إليه والسعي في قوله تعالى إِلاَّ مَا سَعَى معناه العمل يقال سعى فلان أي عمل ولو كان كما ذكرتم لقال إلا ما سعى فيه نقول على الوجهين جميعاً لا بد من زيادة فإن قوله تعالى لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ليس المراد منه أن له عين ما سعى بل المراد على ما ذكرت ليس له إلا ثواب ما سعى أو إلا أجر ما سعى أو يقال بأن المراد أن ما سعى محفوظ له مصون عن الإحباط فإذن له فعله يوم القيامة الوجه الثاني أن المراد من الإنسان الكافر دون المؤمن وهو ضعيف وقيل بأن قوله لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى كان في شرع من تقدم ثم إن الله تعالى نسخه في شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع وهو باطل إذ لا حاجة إلى هذا التكلف بعدما بان الحق وعلى ما ذكر فقوله مَا سَعَى مبقى على حقيقته معناه له عين ما سعى محفوظ عند الله تعالى ولا نقصان يدخله ثم يجزى به كما قال تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 )
المسألة الثانية أن مَا خبرية أو مصدرية نقول كونها مصدرية أظهر بدليل قوله تعالى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى أي سوف يرى المسعي والمصدر للمفعول يجيء كثيراً يقال هذا خلق الله أي مخلوقه
المسألة الثالثة المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة أو بيان كل عمل نقول المشهور أنهما لكل عمل فالخير مثاب عليه والشر معاقب به والظاهر أنه لبيان الخيرات يدل عليه اللام في قوله تعالى لِلإِنسَانِ فإن اللام لعود المنافع وعلى لعود المضار تقول هذا له وهذا عليه ويشهد له ويشهد عليه في المنافع(29/14)
والمضار وللقائل الأول أن يقول بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل كجموع السلامة تذكر إذا اجتمعت الإناث مع الذكور وأيضاً يدل عليه قوله تعالى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الاوْفَى والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة وأما في السيئة فالمثل أو دونه العفو بالكلية
المسألة الرابعة إِلاَّ مَا سَعَى بصيعة الماضي دون المستقبل لزياد الحث على السعي في العمل الصالح وتقريره هو أنه تعالى لو قال ليس للإنسان إلا ما يسعى تقول النفس إني أصلي غداً كذا ركعة وأتصدق بكذا درهماً ثم يجعل مثبتاً في صحيفتي الآن لأنه أمر يسعى وله فيه ما يسعى فيه فقال ليس له إلا ما قد سعى وحصل وفرغ منه وأما تسويلات الشيطان وعداته فلا اعتماد عليها ثم قال تعالى
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى
أي يعرض عليه ويكشف له من أريته الشيء وفيه بشارة للمؤمنين على ما ذكرنا وذلك أن الله يريه أعماله الصالحة ليفرح بها أو يكون يرى ملائكته وسائر خلقه ليفتخر العامل به على ما هو المشهور وهو مذكور لفرح المسلم ولحزن الكافر فإن سعيه يرى للخلق ويرى لنفسه ويحتمل أن يقال هو من رأى يرى فيكون كقوله تعالى وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ( التوبة 105 ) وفيها وفي الآية التي بعدها مسائل
الأولى العمل كيف يرى بعد وجوده ومضيه نقول فيه وجهان أحدهما يراه على صورة جميلة إن كان العمل صالحاً ثانيهما هو على مذهبنا غير بعيد فإن كل موجود يرى والله قادر على إعادة كل معدوم فبعد الفعل يرى وفيه وجه ثالث وهو أن ذلك مجاز عن الثواب يقال سترى إحسانك عند الملك أي جزاءه عليه وهو بعيد لما قال بعده ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الاوْفَى
المسألة الثانية الهاء ضمير السعي أي ثم يجزى الإنسان سعيه بالجزاء والجزاء يتعدى إلى مفعولين قال تعالى وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّة ً وَحَرِيراً ( الإنسان 12 ) ويقال جزاك الله خيراً ويتعدى إلى ثلاثة مفاعيل بحرف يقال جزاه الله على عمله الخير الجنة ويحذف الجار ويوصل الفعل فيقال جزاه الله عمله الخير الجنة هذا وجه وفيه وجه آخر وهو أن الضمير للجزاء وتقديره ثم يجزى جزاء ويكون قوله الْجَزَاء الاوْفَى تفسيراً أو بدلاً مثل قوله تعالى وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( الأنبياء 3 ) فإن التقدير والذين ظلموا أسروا النجوى الذين ظلموا والجزاء الأوفى على ما ذكرنا يليق بالمؤمنين الصالحين لأنه جزاء الصالح وإن قال تعالى فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا ( الإسراء 63 ) وعلى ما قيل يجاب أن الأوفى بالنظر إليه فإن جهنم ضررها أكثر بكثير مع نفع الآثام فهي في نفسها أوفى
المسألة الثالثة ثُمَّ لتراخي الجزاء أو لتراخي الكلام أي ثم نقول يجزاه فإن كان لتراخي الجزاء فكيف يؤخر الجزاء عن الصالح وقد ثبت أن الظاهر أن المراد منه الصالح نقول الوجهان محتملان وجواب(29/15)
السؤال هو أن الوصف بالأوفى يدفع ما ذكرت لأن الله تعالى من أول زمان يموت الصالح يجزيه جزاء على خيره ويؤخر له الجزاء الأوفى وهي الجنة أو نقول الأوفى إشارة إلى الزيادة فصار كقوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) وهي الجنة وَزِيَادَة ٌ وهي الرؤية فكأنه تعالى قال وأن سعيه سوف يرى ثم يرزق الرؤية وهذا الوجه يليق بتفسير اللفظ فإن الأوفى مطلق غير مبين فلم يقل أوفى من كذا فينبغي أن يكون أوفى من كل واف ولا يتصف به غير رؤية الله تعالى
المسألة الرابعة في بيان لطائف في الآيات الأولى قال في حق المسيء أَلاَّ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وهو لا يدل إلا على عدم الحمل عن الوازرة وهذا لا يلزم منه بقاء الوزر عليها من ضرورة اللفظ لجواز أن يسقط عنها ويمحو الله ذلك الوزر فلا يبقى عليها ولا يتحمل عنها غيرها ولو قال لا تزر وازرة إلا وزر نفسها كان من ضرورة الاستثناء أنها تزر وقال في حق المحسن ليس للإنسان إلا ما سعى ولم يقل ليس له ما لم يسع لأن العبارة الثانية ليس فيها أن له ما سعى وفي العبارة الأولى أن له ما سعى نظراً إلى الاستثناء وقال في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءه وفي حق المحسن بعبارة تقطع خوفه كل ذلك إشارة إلى سبق الرحمة الغضب
ثم قال تعالى
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى
القراءة المشهورة فتح الهمزة على العطف على ما يعني أن هذا أيضاً في الصحف وهو الحق وقرىء بالكسر على الاستئناف وفيه مسائل
الأولى ما المراد من الآية قلنا فيه وجهان أحدهما وهو المشهور بيان المعاد أي للناس بين يدي الله وقوف وعلى هذا فهو يتصل بما تقدم لأنه تعالى لما قال ثُمَّ يُجْزَاهُ كأن قائلاً قال لا ترى الجزاء ومتى يكون فقال إن المرجع إلى الله وعند ذلك يجازى الشكور ويجزي الكفور وثانيهما المراد التوحيد وقد فسر الحكماء أكثر الآيات التي فيها الانتهاء والرجوع بما سنذكره غير أن في بعضها تفسيرهم غير ظاهر وفي هذا الموضع ظاهر فنقول هو بيان وجود الله تعالى ووحدانيته وذلك لأنك إذا نظرت إلى الموجودات الممكنة لا تجد لها بداً من موجد ثم إن موجدها ربما يظن أنه ممكن آخر كالحرارة التي تكون على وجه يظن أنها من إشراق الشمس أو من النار فيقال الشمس والنار ممكنتان فمم وجودهما فإن استندتا إلى ممكن آخر لم يجد العقل بداً من الانتهاء إلى غير ممكن فهو واجب الوجود فإليه ينتهي الأمر فالرب هو المنتهى وهذا في هذا الموضع ظاهر معقول موافق للمنقول فإن المروي عن أبي بن كعب أنه قال عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( وأن إلى ربك المنتهى لا فكرة في الرب ) أي انتهى الأمر إلى واجب الوجود وهو الذي لا يكون وجوده بموجد ومنه كل وجود وقال أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا ذكر الرب فانتهوا ) وهو محتمل لما ذكرنا وأما بعض الناس فيبالغ ويفسر كل آية فيها الرجعى والمنتهى وغيرهما بهذا التفسير حتى قيل إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) بهذا المعنى وهذا دليل الوجود وأما دليل الوحدانية فمن حيث إن العقل انتهى إلى واجب الوجود من حيث إنه واجب الوجود لأنه لو لم يكن واجب الوجود لما كان منتهى بل يكون له موجد فالمنتهى هو الواجب من حيث إنه واجب وهذا المعنى واحد في الحقيقة والعقل لأنه لا بد من(29/16)
الانتهاء إلى هذا الواجب أو إلى ذلك الواجب فلا يثبت الواجب معنى غير أنه واجب فيبعد إذاً وجوبه فلو كان واجبان في الوجود لكان كل واحد قبل المنتهى لأن المجموع قبله الواجب فهو المنتهى وهذان دليلان ذكرتهما على وجه الاختصار
المسألة الثانية قوله تعالى إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى في المخاطب وجهان أحدهما أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل ثانيهما الخطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه بيان صحة دينه فإن كل أحد كان يدعى رباً وإلهاً لكنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما قال ( ربي الذي هو أحد وصمد ) يحتاج إليه كل ممكن فإذاً ربك هو المنتهى وهو رب الأرباب ومسبب الأسباب وعلى هذا القول الكاف أحسن موقعاً أما على قولنا إن الخطاب عام فهو تهديد بليغ للمسيء وحث شديد للمحسن لأن قوله أيها السامع كائناً من كان إلى ربك المنتهى يفيد الأمرين إفادة بالغة حد الكمال وأما على قولنا الخطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهو تسلية لقلبه كأنه يقول لا تحزن فإن المنتهى إلى الله فيكون كقوله تعالى فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إلى أن قال تعالى في آخر السورة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ي س 76 83 ) وأمثاله كثيرة في القرآن
المسألة الثالثة اللام على الوجه الأول للعهد لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول أبداً إن مرجعكم إلى الله فقال وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى الموعود المذكور في القرآن وكلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى الوجه الثاني للعموم أي إلى الرب كل منتهى وهو مبدأ وعلى هذا الوجه نقول منتهى الإدراكات المدركات فإن الإنسان أولاً يدرك الأشياء الظاهرة ثم يمعن النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى
وفيه مسائل
الأولى على قولنا إليه المنتهى المراد منه إثبات الوحدانية هذه الآيات مثبتات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى فإن من الفلاسفة من يعترف بأن الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول هو موجب لا قادر فقال تعالى هو أوجد ضدين الضحك والبكاء في محل واحد والموت والحياة والذكورة والأنوثة في مادة واحدة وإن ذلك لا يكون إلا من قادر واعترف به كل عاقل وعلى قولنا إن قوله تعالى وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) بيان المعاد فهو إشارة إلى بيان أمره فهو كما يكون في بعضها ضاحكاً فرحاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك يفعل به في الآخرة
المسألة الثانية أَضْحَكَ وَأَبْكَى لا مفعول لهما في هذا الموضع لأنهما مسوقتان لقدرة الله لا لبيان المقدور فلا حاجة إلى المفعول يقول القائل فلأن بيده الأخذ والعطاء يعطي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومعطى
المسألة الثالثة اختار هذين الوصفين للذكر والأنثى لأنهما أمران لا يعللان فلا يقدر أحد من الطبيعيين أن يبدي في اختصاص الإنسان بالضحك والبكاء وجهاً وسبباً وإذا لم يعلل بأمر ولا بد له من موجد فهو الله تعالى بخلاف الصحة والسقم فإنهم يقولون سببهما اختلال المزاج وخروجه عن الاعتدال ويدلك على(29/17)
هذا أنهم إذا ذكروا في الضحك أمراً له الضحك قالوا قوة التعجب وهو في غاية البطلان لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العجيبة ولا يضحك وقيل قوة الفرح وليس كذلك لأن الإنسان يفرح كثيراً ولا يضحك والحزين الذي عند غاية الحزن يضحكه المضحك وكذلك الأمر في البكاء وإن قيل لأكثرهم علماً بالأمور التي يدعيها الطبيعيون إن خروج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لماذا لا يقدر على تعليل صحيح وعند الخواص كالتي في المغناطيس وغيرها ينقطع الطبيعي كما أن عند أوضاع الكواكب ينقطع هو والمهندس الذي لا يفوض أمره إلى قدرة الله تعالى وإرادته
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا
والبحث فيه كما في الضحك والبكاء غير أن الله تعالى في الأول بين خاصة النوع الذي هو أخص من الجنس فإنه أظهر وعن التعليل أبعد ثم عطف عليه ما هو أعم منه ودونه في البعد عن التعليل وهي الإماتة والإحياء وهما صفتان متضادتان أي الموت والحياة كالضحك والبكاء والموت على هذا ليس بمجرد العدم وإلا لكان الممتنع ميتاً وكيفما كان فالإماتة والإحياء أمر وجودي وهما من خواص الحيوان ويقول الطبيعي في الحياة لاعتدال المزاج والمزاج من أركان متضادة هي النار والهواء والماء والتراب وهي متداعية إلى الانفكاك ومالا تركيب فيه من المتضادات لا موت له لأن المتضادات كل أحد يطلب مفارقة مجاوره فقال تعالى الذي خلق ومزج العناصر وحفظها مدة قادر على أن يحفظها أكثر من ذلك فإذا مات فليس عن ضرورة فهو بفعل فاعل مختار وهو الله تعالى فهو الذي أمات وأحيا فإن قيل متى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت نقول فيه وجوه أحدها أنه على التقديم والتأخير كأنه قال أحيا وأمات ثانيها هو بمعنى المستقبل فإن الأمر قريب يقال فلان وصل والليل دخل إذا قرب مكانه وزمانه فكذلك الإحياء والإماتة ثالثها أمات أي خلق الموت والجمود في العناصر ثم ركبها وأحيا أي خلق الحس والحركة فيها
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى
وهو أيضاً من جملة المتضادات التي تتوارد على النطفة فبعضها يخلق ذكراً وبعضها أنثى ولا يصل إليه فهم الطبيعي الذي يقول إنه من البرد والرطوبة في الأنثى فرب امرأة أيبس مزاجاً من الرجل وكيف وإذا نظرت في المميزات بين الصغير والكبير تجدها أموراً عجيبة منها نبات اللحية وأقوى ما قالوا في نبات اللحية أنهم قالوا الشعور مكونة من بخار دخاني ينحدر إلى المسام فإذا كانت المسام في غاية الرطوبة والتحلل كما في مزاج الصبي والمرأة لا ينبت الشعر لخروج تلك الأدخنة من المسام الرطبة بسهولة قبل أن يتكون شعراً وإذا كانت في غاية اليبوسة والتكاثف ينبت الشعر لعسر خروجه من المخرج الضيق ثم إن تلك المواد تنجذب إلى مواضع مخصوصة فتندفع إما إلى الرأس فتندفع إليه لأنه مخلوق كقبة فوق الأبخرة والأدخنة فتتصاعد إليه تلك المواد فلهذا يكون شعر الرأس أكثر وأطول ولهذا في الرجل مواضع تنجذب إليها الأبخرة والأدخنة منها الصدر لحرارة القلب والحرارة تجذب الرطوبة كالسراج للزيت ومنها بقرب آلة التناسل لأن حرارة الشهوة تجذب أيضاً ومنها اللحيان فإنها كثيرة الحركة بسبب الأكل والكلام والحركة أيضاً جاذبة فإذا قيل لهم فما السبب الموجب لتلازم نبات شعر اللحية وآلة التناسل فإنها إذا قطعت لم تنبت اللحية وما الفرق بين سن الصبا وسن الشباب(29/18)
وبين المرأة والرجل ففي بعضها يبهت وفي بعضها يتكلم بأمور واهية ولو فوضها إلى حكمة إلهية لكان أولى وفي مسألتان
الأول قال تعالى وَأَنَّهُ خَلَقَ ولم يقل وأنه هو خلق كما قال وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( النجم 43 ) وذلك لأن الضحك والبكاء ربما يتوهم متوهم أنه بفعل الإنسان وفي الإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم بعيداً لكن ربما يقول به جاهل كما قال من حاج إبراهيم الخليل عليه السلام حيث قال أَنَا أُحْى ِ وَأُمِيتُ ( البقرة 258 ) فأكد ذلك بذكر الفصل وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أن يفعل أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل ألا ترى إلى قوله تعالى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( النجم 48 ) حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى الله تعالى وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى ( القصص 78 ) ولذلك قال وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى ( النجم 49 ) لأنهم كانوا يستبعدون أن يكون رب محمد هو رب الشعرى فأكد في مواضع استبعادهم النسبة إلى الله تعالى الإسناد ولم يؤكده في غيره
المسألة الثانية الذكر والأنثى اسمان هما صفة أو اسمان ليسا بصفة المشهور عند أهل اللغة الثاني والظاهر أنهما من الأسماء التي هي صفات فالذكر كالحسن والعزب والأنثى كالحبلى والكبرى وإنما قلنا إنها كالحبلى في رأي لأنها حيالها أنشئت لا كالكبرى وإن قلنا إنها كالكبرى في رأي وإنما قلنا إن الظاهر أنهما صفتان لأن الصفة ما يطلق على شيء ثبت له أمر كالعالم يطلق على شيء له علم والمتحرك يقال لشيء له حركة بخلاف الشجر والحجر فإن الشجر لا يقال لشيء بشرط أن يثبت له أمر بل هو اسم موضوع لشيء معين والذكر اسم يقال لشيء له أمر ولهذا يوصف به ولا يوصف بالشجر يقال جاءني شخص ذكر أو إنسان ذكر ولا يقال جسم شجر والذي ذهب إلى أنه اسم غير صفة إنما ذهب إليه لأنه لم يرد له فعل والصفة في الغالب له فعل كالعالم والجاهل والعزب والكبرى والحبلى وذلك لا يدل على ما ذهب إليه لأن الذكورة والأنوثة من الصفات التي لا يتبدل بعضها ببعض فلا يصاغ لها أفعال لأن الفعل لما يتوقع له تجدد في صورة الغالب ولهذا لم يوجد للإضافيات أفعال كالأبوة والبنوة والأخوة إذ لم تكن من الذي يتبدل ووجد للإضافيات المتبدلة أفعال يقال واخاه وتبناه لما لم يكن مثبتاً بتكلف فقبل التبدل
مِن نُّطْفَة ٍ إِذَا تُمْنَى
وقوله تعالى مِن نُّطْفَة ٍ أي قطعة من الماء
وقوله تعالى إِذَا تُمْنَى من أمنى المني إذا نزل أو منى يمني إذا قدر وقوله تعالى مِن نُّطْفَة ٍ تنبيه على كمال القدرة لأن النطفة جسم متناسب الأجزاء ويخلق الله تعالى منه أعضاء مختلفة وطباعاً متباينة وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون على ما بينا ولهذا لم يقدر أحد على أن يدعيه كما لم يقدر أحد على أن يدعي خلق السموات ولهذا قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ كما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( الزمر 38 )
ثم قال تعالى
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَة َ الاٍّ خْرَى
وهي في قول أكثر المفسرين إشارة إلى الحشر والذي ظهر لي بعد طول التفكر والسؤال من فضل الله تعالى الهداية فيه إلى الحق أنه يحتمل أن يكون المراد نفخ(29/19)
الروح الإنسانية فيه وذلك لأن النفس الشريفة لا الأمارة تخالط الأجسام الكثيفة المظلمة وبها كرم الله بني آدم وإليه الإشارة في قوله فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءاخَرَ ( المؤمنون 14 ) غير خلق النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاماً وبهذا الخلق الآخر تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات وشارك الملك في الإدراكات فكما قال هنالك ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ ( المؤمنون 14 ) بعد خلق النطفة قال ههنا وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَة َ الاْخْرَى فجعل نفخ الروح نشأة أخرى كما جعله هنالك إنشاء آخر والذي أوجب القول بهذا هو أن قوله تعالى وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) عند الأكثرين لبيان الإعادة وقوله تعالى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الاوْفَى ( النجم 41 ) كذلك فيكون ذكر النشأة الأخرى إعادة ولأنه تعالى قال بعد هذا وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( النجم 48 ) وهذا من أحوال الدنيا وعلى ما ذكرنا يكون الترتيب في غاية الحسن فإنه تعالى يقول خلق الذكر والأنثى ونفخ فيهما الروح الإنسانية الشريفة ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ثم أقناه بالكسب بعد كبره فإن قيل فقد وردت النشأة الأخرى للحشر في قوله تعالى فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىء النَّشْأَة َ الاْخْرَى ( العنكبوت 20 ) نقول الآخرة من الآخر لا من الآخر لأن الآخر أفعل وقد تقدم على أن هناك لما ذكر البدء حمل على الإعادة وههنا ذكر خلقه من نطفة كما في قوله ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ثم قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ ( المؤمنون 14 ) وفي الآية مسائل
المسألة الأولى عَلَى للوجوب ولا يجب على الله الإعادة فما معنى قوله تعالى وَأَنَّ عَلَيْهِ قال الزمخشري على ما هو مذهبه عليه عقلاً فإن من الحكمة الجزاء وذلك لا يتم إلا بالحشر فيجب عليه عقلاً الإعادة ونحن لا نقول بهذا القول ونقول فيه وجهان الأول عليه بحكم الوعد فإنه تعالى قال إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ الْمَوْتَى ( ي س 12 ) فعليه بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشرع الثاني عليه للتعيين فإن من حضر بين جمع وحاولوا أمراً وعجزوا عنه يقال وجب عليك إذن أن تفعله أي تعينت له
المسألة الثانية قرىء النَّشْأَة َ على أنه مصدر كالضربة على وزن فعلة وهي للمرة تقول ضربته ضربتين أي مرة بعد مرة يعني النشأة مرة أخرى عليه وقرىء النشأة بالمد على أنه مصدر على وزن فعالة كالكفالة وكيفما قرىء فهي من نشأ وهو لازم وكان الواجب أن يقال عليه الإنشاء لا النشأة نقول فيه فائدة وهي أن الجزم يحصل من هذا بوجود الخلق مرة أخرى ولو قال عليه الإنشاء ربما يقول قائل الإنشاء من باب الإجلاس حيث يقال في السعة أجلسته فما جلس وأقمته فما قام فيقال أنشاء وما نشأ أي قصده لينشأ ولم يوجد فإذا قال عليه النشأة أي يوجد النشء ويحققه بحيث يوجد جزماً
المسألة الثالثة هل بين قول القائل عليه النشأة مرة أخرى وبين قوله عليه النشأة الأخرى فرق نقول نعم إذا قال عليه النشأة مرة أخرى لا يكون النشء قد علم أولاً وإذا قال عَلَيْهِ النَّشْأَة َ الاْخْرَى يكون قد علم حقيقة النشأة الأخرى فنقول ذلك المعلوم عليه
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى
وقد ذكرنا تفسيره فنقول أَغْنَى يعني دفع حاجته ولم يتركه محتاجاً لأن الفقير في مقابلة الغني فمن لم يبق فقيراً بوجه من الوجوه فهو غني مطلقاً ومن لم يبق فقيراً من وجه(29/20)
فهو غني من ذلك الوجه قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم ) وحمل ذلك على زكاة الفطر ومعناه إذا أتاه ما احتاج إليه وقوله تعالى أقنى معناه وزاد عليه الإقناء فوق الإغناء والذي عندي أن الحروف متناسبة في المعنى فنقول لما كان مخرج القاف فوق مخرج الغين جعل الإقناء لحالة فوق الإغناء وعلى هذا فالإغناء هو ما آتاه الله من العين واللسان وهداه إلى الارتضاع في صباه أو هو ما أعطاه الله تعالى من القوت واللباس المحتاج إليهما وفي الجملة كل ما دفع الله به الحاجة فهو إغناء وكل ما زاد عليه فهو إقناء
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى
إشارة إلى فساد قول قوم آخرين وذلك لأن بعض الناس يذهب إلى أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر وبعضهم يذهب إلى أن ذلك بالبخت وذلك بالنجوم فقال وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وإن قائل الغنى بالنجوم غالط فنقول هو رب النجوم وهو محركها كما قال تعالى هُوَ رَبُّ الشّعْرَى وقوله هُوَ رَبُّ الشّعْرَى لإنكارهم ذلك أكد بالفصل والشعرى نجم مضيء وفي النجوم شعريان إحداهما شامية والأخرى يمانية والظاهر أن المراد اليمانية لأنهم كانوا يعبدونها
ثم قال تعالى
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاٍّ ولَى
لما ذكر أنه أَغْنَى وَأَقْنَى ( النجم 48 ) وكان ذلك بفضل الله لا بعطاء الشعرى وجب الشكر لمن قد أهلك وكفى لهم دليلاً حال عاد وثمود وغيرهم و عَاداً الاْولَى قيل بالأولى تميزت من قوم كانوا بمكة هم عاد الآخرة وقيل الأولى لبيان تقدمهم لا لتمييزهم تقول زيد العالم جاءني فتصفه لا لتميزه ولكن لتبين علمه وفيه قراءات عَاداً الاْولَى بكسر نون التنوين لالتقاء الساكنين و عَادٍ الاْولَى بإسقاط نون التنوين أيضاً لالتقاء الساكنين كقراءة عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ( النجم 50 ) و عَاداً الاْولَى بإدغام النون في اللام ونقل ضمة الهمزة إلى اللام و عادالؤلي بهمزة الواو وقرأ هذا القارىء عَلَى ( الفتح 29 ) ودليله ضعيف وهو يحتمل هذا في موضع المؤقدة و المؤصدة ( الهمزة 6 8 ) للضمة والواو فهي في هذا الموضع تجزي على الهمزة وكذا في سؤقه لوجود الهمزة في الأصل وفي موسى وقوله لا يحسن
ثم قال تعالى
وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى
الاْولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى يعني وأهلك ثمود وقوله فَمَا أَبْقَى عائد إلى عاد وثمود أي فما أبقى عليهم ومن المفسرين من قال فما أبقاهم أي فما أبقى منهم أحداً ويؤيد هذا قوله تعالى فَهَلْ تَرَى لَهُم مّن بَاقِيَة ٍ ( الحاقة 8 ) وتمسك الحجاج على من قال إن ثقيفاً من ثمود بقوله تعالى فَمَا أَبْقَى
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى
وَقَوْمَ نُوحٍ أي أهلكهم مِن قَبْلُ والمسألة مشهورة في قبل وبعد تقطع عن الإضافة فتصير كالغاية فتبنى على الضمة أما البناء فلتضمنه الإضافة وأما على الضمة فلأنها لو بنيت على الفتحة لكان قد أثبت فيه ما يستحقه بالإعراب من حيث إنها ظروف زمان فتستحق النصب والفتح مثله ولو بنيت على الكسر لكان الأمر على ما يقتضيه الإعراب وهو الجر بالجار فبنى على ما يخالف حالتي إعرابها
وقوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى أما الظلم فلأنهم هم البادئون به المتقدمون فيه ( ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ) والبادىء أظلم وأما أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم ولا يدعو نبي على قومه إلا بعد الإصرار العظيم والظالم واضع(29/21)
الشيء في غير موضعه والطاغي المجاوز الحد فالطاغي أدخل في الظلم فهو كالمغاير والمخالف فإن المخالف مغاير مع وصف آخر زائد وكذا المغاير والمضاد وكل ضد غير وليس كل غير ضداً وعليه سؤال وهو أن قوله وَقَوْمَ نُوحٍ المقصود منه تخويف الظالم بالهلاك فإذا قال هم كانوا في غاية الظلم والطغيان فأهلكوا يقول الظالم هم كانوا أظلم فأهلكوا لمبالغتهم في الظلم ونحن ما بالغنا فلا نهلك وأما لو قال أهلكوا لأنهم ظلمة لخاف كل ظالم فما الفائدة في قوله أَظْلَمَ نقول المقصود بيان شدتهم وقوة أجسامهم فإنهم لم يقدموا على الظلم والطغيان الشديد إلا بتماديهم وطول أعمارهم ومع ذلك ما نجا أحد منهم فما حال من هو دونهم من العمر والقوة فهو كقوله تعالى أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ( الزخرف 8 )
بم وقوله تعالى
وَالْمُؤْتَفِكَة َ أَهْوَى
المؤتفكة المنقلبة وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وَالْمُؤْتَفِكَاتِ والمشهور فيه أنها قرىء قوم لوط لكن كانت لهم مواضع ائتفكت فهي مؤتفكات ويحتمل أن يقال المراد كل من انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه ولهذا ختم المهلكين بالمؤتفكات كمن يقول مات فلان وفلان وكل من كان من أمثالهم وأشكالهم
المسألة الثانية أَهْوَى أي أهواها بمعنى أسقطها فقيل أهواها من الهوى إلى الأرض من حيث حملها جبريل عليه السلام على جناحه ثم قلبها وقيل كانت عمارتهم مرتفعة فأهواها بالزلزلة وجعل عاليها سافلها
المسألة الثالثة قوله تعالى وَالْمُؤْتَفِكَة َ أَهْوَى على ما قلت كقول القائل والمنقلبة قلبها وقلب المنقلب تحصيل الحاصل نقول ليس معناه المنقلبة ما انقلبت بنفسها بل الله قلبها فانقلبت
المسألة الرابعة ما الحكمة في اختصاص المؤتفكة باسم الموضع في الذكر وقال في عاد وثمود وقوم نوح اسم القوم نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن ثمود اسم الموضع فذكر عاداً باسم القوم وثمود باسم الموضع وقوم نوح باسم القوم والمؤتفكة باسم الموضع ليعلم أن القوم لا يمكنهم صون أماكنهم عن عذاب الله تعالى ولا الموضع يحصن القوم عنه فإن في العادة تارة يقوي الساكن فيذب عن مسكنه وأخرى يقوي المسكن فيرد عن ساكنه وعذاب الله لا يمنعه مانع وهذا المعنى حصل للمؤمنين في آيتين أحدهما قوله تعالى وَكَفَّ أَيْدِى َ النَّاسِ عَنْكُمْ ( الفتح 20 ) وقوله تعالى وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللَّهِ ( الحشر 2 ) ففي الأول لم يقدر الساكن على حفظ مسكنه وفي الثاني لم يقو الحصن على حفظ الساكن والوجه الثاني هو أن عاداً وثمود وقوم نوح كان أمرهم متقدماً وأماكنهم كانت قد دثرت ولكن أمرهم كان مشهوراً متواتراً وقوم لوط كانت مساكنهم وآثار الانقلاب فيها ظاهرة فذكر الأظهر من الأمرين في كل قوم
ثم قال تعالى
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى
يحتمل أن يكون ما مفعولاً وهو الظاهر ويحتمل أن يكون الذي غشي هو الله تعالى فيكون كقوله تعالى(29/22)
وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ويحتمل أن يكون فاعلاً يقال ضربه من ضربه وعلى هذا نقول يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى سبب غضب الله عليهم أي غشاها عليهم السبب بمعنى أن الله غضب عليهم بسببه يقال لمن أغضب ملكاً بكلام فضربه الملك كلامك الذي ضربك
ثم قال تعالى
فَبِأَى ِّ آلا ءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى
قيل هذا أيضاً مما في الصحف وقيل هو ابتداء كلام والخطاب عام كأنه يقول بأي النعم أيها السامع تشك أو تجادل وقيل هو خطاب مع الكافر ويحتمل أن يقال مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يقال كيف يجوز أن يقول للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تَتَمَارَى لأنا نقول هو من باب لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) يعني لم يبق فيه إمكان الشك حتى أن فارضاً لو فرض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ممن يشك أو يجادل في بعض الأمور الخفية لما كان يمكنه المراء في نعم الله والعموم هو الصحيح كأنه يقول بأي آلاء ربك تتمارى أيها الإنسان كما قال وَأَخَّرَتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الانفطار 6 ) وقال تعالى وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً ( الكهف 54 ) فإن قيل المذكور من قبل نعم والآلاء نعم فكيف آلاء ربك نقول لما عد من قبل النعم وهو الخلق من النطفة ونفخ الروح الشريفة فيه والإغناء والإقناء وذكر أن الكافر بنعمه أهلك قال فَبِأَى ّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى فيصيبك مثل ما أصاب الذين تماروا من قبل أو تقول لما ذكر الإهلاك قال للشاك أنت ما أصابك الذي أصابهم وذلك بحفظ الله إياك فَبِأَى ّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى وسنزيده بياناً في قوله فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( الرحمن 13 ) في مواضع
ثم قال تعالى
هَاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاٍّ وْلَى
وفيه مسائل
المسألة الأولى المشار إليه بهذا ماذا نقول فيه وجوه أحدها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من جنس النذر الأولى ثانيها القرآن ثالثها ما ذكره من أخبار المهلكين ومعناه حينئذ هذا بعض الأمور التي هي منذرة وعلى قولنا المراد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالنذير هو المنذر و مِنْ لبيان الجنس وعلى قولنا المراد هو القرآن يحتمل أن يكون النذير بمعنى المصدر ويحتمل أن يكون بمعنى الفاعل وكون الإشارة إلى القرآن بعيد لفظاً ومعنى أما معنى فلأن القرآن ليس من جنس الصحف الأولى لأنه معجز وتلك لم تكن معجزة وذلك لأنه تعالى لما بين الوحدانية وقال فَبِأَى ّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَى قال هَاذَا نَذِيرٌ إشارة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإثباتاً للرسالة وقال بعد ذلك أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ إشارة إلى القيامة ليكون في الآيات الثلاث المرتبة إثبات أصول ثلاث مرتبة فإن الأصل الأول هو الله ووحدانيته ثم الرسول ورسالته ثم الحشر والقيامة وأما لفظاً فلأن النذير إن كان كاملاً فما ذكره من حكاية المهلكين أولى لأنه أقرب ويكون على هذا من بقي على حقيقة التبعيض أي هذا الذي ذكرنا بعض ما جرى ونبذ مما وقع أو يكون لابتداء الغاية بمعنى هذا إنذار من المنذرين المتقدمين يقال هذا الكتاب وهذا الكلام من فلان وعلى الأقوال كلها ليس ذكر الأولى لبيان الموصوف بالوصف وتمييزه عن النذر الآخرة كما يقال الفرقة الأولى احترازاً عن الفرقة الأخيرة وإنما هو لبيان الوصف للموصوف كما يقال زيد العالم جاءني فيذكر العالم إما لبيان أن زيداً عالم غير أنك لا تذكره بلفظ الخبر فتأتي به على طريقة الوصف وإما لمدح زيد به وإما لأمر آخر والأولى على العود إلى لفظ الجمع وهو النذر ولو كان(29/23)
لمعنى الجمع لقال من النذر الأولين يقال من الأقوام المتقدمة والمتقدمين على اللفظ والمعنى
ثم قال تعالى
أَزِفَتِ الاٌّ زِفَة ُ
وهو كقوله تعالى وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ ( الواقعة 1 ) ويقال كانت الكائنة وهذا الاستعمال يقع على وجوه منها ما إذا كان الفاعل صار فاعلاً لمثل ذلك الفعل من قبل ثم صدر منه مرة أخرى مثل الفعل فيقال فعل الفاعل أي الذي كان فاعلاً صار فاعلاً مرة أخرى يقال حاكه الحائك أي من شغله ذلك من قبل فعله ومنها ما يصير الفاعل فاعلاً بذلك الفعل ومنه يقال ( إذا مات الميت انقطع عمله ) وإذا غصب العين غاصب ضمنه فقوله أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ يحتمل أن يكون من القبيل الأول أي قربت الساعة التي كل يوم يزداد قربها فهي كائنة قريبة وازدادت في القرب ويحتمل أن يكون كقوله تعالى وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ أي قرب وقوعها وأزفت فاعلها في الحقيقة القيامة أو الساعة فكأنه قال أزفت القيامة الآزفة أو الساعة أو مثلها
بم وقوله تعالى
لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَة ٌ
فيه وجوه أحدها لا مظهر لها إلا الله فمن يعلمها لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى إياه وإظهاره إياها له فهو كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) وقوله تعالى لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ( الأعراف 187 ) ثانيها لا يأتي بها إلا الله كقوله تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 17 ) وفيه مسائل
الأولى مِنْ زائدة تقديره ليس لها غير الله كاشفة وهي تدخل على النفي فتؤكد معناه تقول ما جاءني أحد وما جاءني من أحد وعلى هذا يحتمل أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره ليس لها من كاشفة دون الله فيكون نفياً عاماً بالنسبة إلى الكواشف ويحتمل أن يقال ليست بزائدة بل معنى الكلام أنه ليس في الوجود نفس تكتشفها أي تخبر عنها كما هي ومتى وقتها من غير الله تعالى يعني من يكشفها فإنما يكشفها من الله لا من غير الله يقال كشف الأمر من زيد ودون يكون بمعنى غير كما في قوله تعالى ءالِهَة ً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ( الصافات 86 ) أي غير الله
المسألة الثانية كاشفة صفة لمؤنث أي نفس كاشفة وقيل هي للمبالغة كما في العلامة وعلى هذا لا يقال بأنه نفى أن يكون لها كاشفة بصيغة المبالغة ولا يلزم من الكاشف الفائق نفي نفس الكاشف لأنا نقول لو كشفها أحد لكان كاشفاً بالوجه الكامل فلا كاشف لها ولا يكشفها أحد وهو كقوله تعالى وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( ق 29 ) من حيث نفى كونه ظالماً مبالغاً ولا يلزم منه نفي كونه ظالماً وقلنا هناك إنه لو ظلم عبيده الضعفاء بغير حق لكان في غاية الظلم وليس في غاية الظلم فلا يظلمهم أصلاً
المسألة الثالثة إذا قلت إن معناه ليس لها نفس كاشفة فقوله مِن دُونِ اللَّهِ استثناء على الأشهر من الأقوال فيكون الله تعالى نفساً لها كاشفة نقول الجواب عنه من وجوه الأول لا فساد في ذلك قال الله تعالى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) حكاية عن عيسى عليه السلام والمعنى الحقيقة الثاني ليس هو صريح الاستثناء فيجوز فيه أن لا يكون نفساً الثالث الاستثناء الكاشف المبالغ(29/24)
ثم قال تعالى
أَفَمِنْ هَاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ
قيل من القرآن ويحتمل أن يقال هذا إشارة إلى حديث أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ ( النجم 57 ) فإنهم كانوا يتعجبون من حشر الأجساد وجمع العظام بعد الفساد
وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ
وقوله تعالى وَتَضْحَكُونَ يحتمل أن يكون المعنى وتضحكون من هذا الحديث كما قال تعالى فَلَمَّا جَاءهُم بِئَايَاتِنَا إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ ( الزخرف 47 ) في حق موسى عليه السلام وكانوا هم أيضاً يضحكون من حديث النبي والقرآن ويحتمل أن يكون إنكاراً على مطلق الضحك مع سماع حديث القيامة أي أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قربت فكان حقاً أن لا تضحكوا حينئذ
وقوله تعالى وَلاَ تَبْكُونَ أي كان حقاً لكم أن تبكوا منه فتتركون ذلك وتأتون بضده
وَأَنتُمْ سَامِدُونَ
وقوله تعالى وَأَنتُمْ سَامِدُونَ أي غافلون وذكر باسم الفاعل لأن الغفلة دائمة وأما الضحك والعجب فهما أمران يتجددان ويعدمان
فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ
يحتمل أن يكون الأمر عاماً ويحتمل أن يكون التفاتاً فيكون كأنه قال أيها المؤمنون اسجدوا شكراً على الهداية واشتغلوا بالعبادة ولم يقل اعبدوا الله إما لكونه معلوماً وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله فقال وَاعْبُدُواْ أي ائتوا بالمأمور ولا تعبدوا غير الله لأنها ليست بعبادة وهذا يناسب السجدة عند قراءته مناسبة أشد وأتم مما إذا حملناه على العموم
والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين(29/25)
سورة القمر
خمسون وخمس آيات مكية
اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ
أول السورة مناسب لآخر ما قبلها وهو قوله أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ ( النجم 57 ) فكأنه أعاد ذلك مع الدليل وقال قلت أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ وهو حق إذ القمر انشق والمفسرون بأسرهم على أن المراد أن القمر انشق وحصل فيه الانشقاق ودلت الأخبار على حديث الانشقاق وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة وقالوا سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آية الانشقاق بعينها معجزة فسأل ربه فشقه ومضى وقال بعض الفسرين المراد سينشق وهو بعيد ولا معنى له لأن من منع ذلك وهو الفلسفي يمنعه في الماضي والمستقبل ومن يجوزه لا حاجة إلى التأويل وإنما ذهب إليه ذلك الذاهب لأن الانشقاق أمر هائل فلو وقع لعم وجه الأرض فكان ينبغي أن يبلغ حد التواتر نقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان يتحدى بالقرآن وكانوا يقولون إنا نأتي بأفصح ما يكون من الكلام وعجزوا عنه فكان القرآن معجزة باقية إلى قيام القيامة لا يتمسك بمعجزة أخرى فلم ينقله العلماء بحيث يبلغ حد التواتر وأما المؤرخون فتركوه لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم وهو لما وقع الأمر قالوا بأنه مثل خسوف القمر وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم والقرآن أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشك فيه وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السموات وذكرناه مراراً فلا نعيده
بم وقوله تعالى
وَإِن يَرَوْاْ ءَايَة ً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ
تقديره وبعد هذا إن يروا آية يقولوا سحر فإنهم رأوا آيات أرضية وآيات سماوية ولم يؤمنوا ولم يتركوا عنادهم فإن يروا ما يرون بعد هذا لا يؤمنون وفيه وجه آخر وهو أن يقال المعنى أن عادتهم أنهم إن يروا آية يعرضوا فلما رأوا انشقاق القمر أعرضوا لتلك العادة وفيه مسائل
الأولى قوله ءايَة ً ماذا نقول آية اقتراب الساعة فإن انشقاق القمر من آياته وقد ردوا وكذبوا فإن يروا غيرها أيضاً يعرضوا أو آية الانشقاق فإنها معجزة أما كونها معجزة ففي غاية الظهور وأما كونها آية(29/26)
الساعة فلأن منكر خراب العالم ينكر انشقاق السماء وانفطارها وكذلك قوله في كل جسم سماوي من الكواكب فإذا انشق بعضها ثبت خلاف ما يقول به وبان جواز خراب العالم وقال أكثر المفسرين معناه أن من علامات قيام الساعة انشقاق القمر عن قريب وهذا ضعيف حملهم على هذا القول ضيق المكان وخفاء الأمر على الأذهان وبيان ضعفه هو أن الله تعالى لو أخبر في كتابه أن القمر ينشق وهو علامة قيام الساعة لكان ذلك أمراً لا بد من وقوعه مثل خروج دابة الأرض وطلوع الشمس من المغرب فلا يكون معجزة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما أن هذه الأشياء عجائب وليست بمعجزة للنبي لا يقال الإخبار عنها قبل وقوعها معجزة لأنا نقول فحينئذ يكون هذا من قبيل الإخبار عن الغيوب فلا يكون هو معجزة برأسه وذلك فاسد ولا يقال بأن ذلك كان معجزة وعلامة فأخبر الله في الصحف والكتب السالفة أن ذلك يكون معجزة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتكون الساعة قريبة حينئذ وذلك لأن بعثة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) علامة كائنة حيث قال ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) ولهذا يحكى عن سطيح أنه لما أخبر بوجود النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال عن أمور تكون فكان وجوده دليل أمور وأيضاً القمر لما انشق كان انشقاقه عند استدلال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على المشركين وهم كانوا غافلين عما في الكتب وأما أصحاب الكتب فلم يفتقروا إلى بيان علامة الساعة لأنهم كانوا يقولون بها وبقربها فهي إذن آية دالة على جواز تخريب السموات وهو العمدة الكبرى لأن السموات إذا طويت وجوز ذلك فالأرض ومن عليها لا يستبعد فناؤهما إذا ثبت هذا فنقول معنى اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ يحتمل أن يكون في العقول والأذهان يقول من يسمع أمراً لا يقع هذا بعيد مستبعد وهذا وجه حسن وإن كان بعض ضعفاء الأذهان ينكره وذلك لأن حمله على قرب الوقوع زماناً لا إمكاناً يمكن الكافر من مجادلة فاسدة فيقول قال الله تعالى في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اقْتَرَبَتِ ويقولون بأن من قبل أيضاً في الكتب ( السابقة ) كان يقول ( اقترب الوعد ) ثم مضى مائة سنة ولم يقع ولا يبعد أن يمضي ألف آخر ولا يقع ولو صح إطلاق لفظ القرب زماناً على مثل هذا لا يبقى وثوق بالإخبارات وأيضاً قوله اقْتَرَبَتِ لانتهاز الفرصة والإيمان قبل أن لا يصح الإيمان فللكافر أن يقول إذا كان القرب بهذا المعنى فلا خوف منها لأنها لا تدركني ولا تدرك أولادي ولا أولاد أولادي وإذا كان إمكانها قريباً في العقول يكون ذلك رداً بالغاً على المشركين والفلاسفة والله سبحانه وتعالى أول ما كلف الاعتراف بالوحدانية واليوم الآخر وقال اعلموا أن الحشر كائن فخالف المشرك والفلسفي ولم يقنع بمجرد إنكار ما ورد الشرع ببيانه ولم يقل لا يقع أو ليس بكائن بل قال ذلك بعيد ولم يقنع بهذا أيضاً بل قال ذلك غير ممكن ولم يقنع به أيضاً بل قال فإن امتناعه ضروري فإن مذهبهم أن إعادة المعدوم وإحياء الموتى محال بالضرورة ولهذا قالوا أَءذَا مِتْنَا ( المؤمنون 82 ) أَءذَا كُنَّا عِظَاماً ( الأسراء 49 ) أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ ( السجدة 10 ) بلفظ الاستفهام بمعنى الإنكار مع ظهور الأمر فلما استبعدوا لم يكتف الله ورسوله ببيان وقوعه بل قال إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا ( الحج 7 ) ولم يقتصر عليه بل قال وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ تَكُونُ قَرِيباً ( الأحزاب 63 ) ولم يتركها حتى قال ( اقتربت الساعة واقترب الوعد الحق اقترب للناس حسابهم ) اقتراباً عقلياً لا يجوز أن ينكر ما يقع في زمان طرفة عين لأنه على الله يسير كما أن تقليب الحدقة علينا يسير بل هو أقرب منه بكثير والذي يقويه قول العامة إن زمان وجود العالم زمان مديد والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير فلهذا قال اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ(29/27)
وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) فمعناه لا نبي بعدي فإن زماني يمتد إلى قيام الساعة فزماني والساعة متلاصقان كهاتين ولا شك أن الزمان زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما دامت أوامره نافذة فالزمان زمانه وإن كان ليس هو فيه كما أن المكان الذي تنفذ فيه أوامر الملك مكان الملك يقال له بلاد فلان فإن قيل كيف يصح حمله على القرب بالمعقول مع أنه مقطوع به قلت كما صح قوله تعالى لَعَلَّ السَّاعَة َ تَكُونُ قَرِيباً ( الأحزاب 63 ) فإن لعل للترجي والأمر عند الله معلوم وفائدته أن قيام الساعة ممكن لا إمكاناً بعيداً عن العادات كحمل الآدمي في زماننا حملاً في غاية الثقل أو قطعة مسافة بعيدة في زمان يسير فإن ذلك ممكن إمكاناً بعيداً وأما تقليب الحدقة فممكن إمكاناً في غاية القرب
المسألة الثانية الجمع الذين تكون الواو ضميرهم في قوله يَرَوْاْ و يُعْرِضُواْ غير مذكور فمن هم نقول هم معلومون وهم الكفار تقديره وهؤلاء الكفار إن يروا آية يعرضوا
المسألة الثالثة التنكير في الآية للتعظيم أي إن يروا آية قوية أو عظيمة يعرضوا
المسألة الرابعة قوله تعالى وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ما الفائدة فيه نقول فائدته بيان كون الآية خالية عن شوائب الشبه وأن الاعتراف لزمهم لأنهم لم يقدروا أن يقولوا نحن نأتي بمثلها وبيان كونهم معرضين لا إعراض معذور فإن من يعرض إعراض مشغول بأمر مهم فلم ينظر في الآية لا يستقبح منه الإعراض مثل ما يستقبح لمن ينظر فيها إلى آخرها ويعجز عن نسبتها إلى أحد ودعوى الإتيان بمثلها ثم يقول هذا ليس بشيء هذا سحر لأن ما من آية إلا ويمكن المعاند أن يقول فيها هذا القول
المسألة الخامسة ما المستمر نقول فيه وجوه أحدها دائم فإن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يأتي كل زمان بمعجزة قولية أو فعلية أرضية أو سماوية فقالوا هذا سحر مستمر دائم لا يختلف بالنسبة إلى النبي عليه السلام بخلاف سحر السحرة فإن بعضهم يقدر على أمر وأمرين وثلاثة ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكل وثانيها مستمر أي قوى من حبل مرير الفتل من المرة وهي الشدة وثالثها من المرارة أي سحر مر مستبشع ورابعها مستمر أي مار ذاهب فإن السحر لا بقاء له
وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ
ثم قال تعالى وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ وهو يحتمل أمرين أحدهما وكذبوا محمداً المخبر عن اقتراب الساعة وثانيهما كذبوا بالآية وهي انشقاق القمر فإن قلنا كذبوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقوله وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ أي تركوا الحجة وأولوا الآيات وقالوا هو مجنون تعينه الجن وكاهن يقول عن النجوم ويختار الأوقات للأفعال وساحر فهذه أهواءهم وإن قلنا كذبوا بانشقاق القمر فقوله وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ في أنه سحر القمر وأنه خسوف والقمر لم يصبه شيء فهذه أهواءهم وكذلك قولهم في كل آية
وقوله تعالى وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ فيه وجوه أحدها كل أمر مستقر على سنن الحق يثبت والباطل يزهق وحينئذ يكون تهديداً لهم وتسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو كقوله تعالى ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُم ( الزمر 7 )(29/28)
أي بأنها حق ثانيها وكل أمر مستقر في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم والأنبياء صدقوا وبلغوا ما جاءهم كقوله تعالى لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَى ْء ( غافر 16 ) وكما قال تعالى في هذه السورة وَكُلُّ شَى ْء فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ( القمر 52 53 ) ثالثها هو جواب قولهم سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ أي ليس أمره بذاهب بل كل أمر من أموره مستقر
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الاٌّ نبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
إشارة إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد فأخبرهم الرسول باقتراب الساعة وأقام الدليل على صدقه وإمكان قيام الساعة عقيب دعواه بانشقاق القمر الذي هو آية لأن من يكذب بها لا يصدق بشيء من الآيات فكذبوا بها واتبعوا الأباطيل الذاهبة وذكروا الأقاويل الكاذبة فذكر لهم أنباء المهلكين بالآيتين تخويفاً لهم وهذا هو الترتيب الحكمي ولهذا قال بعد الآيات حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ ( القمر 5 ) أي هذه حكمة بالغة والأنباء هي الأخبار العظام ويدلك على صدقه أن في القرآن لم يرد النبأ والأنباء إلا لما له وقع قال وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ( النمل 22 ) لأنه كان خبراً عظيماً وقال إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ ( الحجرات 6 ) أي محاربة أو مسالمة وما يشبهه من الأمور العرفية وإنما يجب التثبت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال وكذلك قال تعالى ذالِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ( آل عمران 44 ) فكذلك الأنباء ههنا وقال تعالى عن موسى لَّعَلّى اتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَة ٍ ( القصص 29 ) حيث لم يكن يعلم أنه يظهر له شيء عظيم يصلح أن يقال له نبأ ولم يقصده والظاهر أن المراد أنباء المهلكين بسبب التكذيب وقال بعضهم المراد القرآن وتقديره جاء فيه الأنباء وقيل قوله جَاءكُمْ مّنَ الاْنبَاء يتناول جميع ما ورد في القرآن من الزواجر والمواعظ وما ذكرناه أظهر لقوله فِيهِ مُزْدَجَرٌ وفي مَا وجهان أحدهما أنها موصولة أي جاءكم الذي فيه مزدجر ثانيهما موصوفة تقديره جاءكم من الأنباء شيء موصوف بأن فيه مزدجر وهذاأظهر والمزدجر فيه وجهان أحدهما ازدجار وثانيهما موضع ازدجار كالمرتقى ولفظ المفعول بمعنى المصدر كثير لأن المصدر هو المفعول الحقيقي ثم قال تعالى
حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ
وفيه وجوه الأول على قول من قال وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء المراد منه القرآن قال حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ بدل كأنه قال ولقد جاءهم حكمة بالغة ثانيها أن يكون بدلاً عن ما في قوله مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ الثاني حكمة بالغة خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه حكمة بالغة والإشارة حينئذ تحتمل وجوهاً أحدها هذا الترتيب الذي في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون وانقضى حكمة بالغة ثانيها إنزال ما فيه الأنباء حِكْمَة ٌ بَالِغَة ٌ ثالثها هذه الساعة المقتربة والآية الدالة عليها حكمة الثالث قرىء بالنصب فيكون حالاً وذو الحال ما في قوله مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي جاءكم ذلك حكمة فإن قيل إن كان مَا موصولة تكون معرفة فيحسن كونه ذا الحال فأما إن كانت بمعنى جاءهم من الأنباء شيء فيه ازدجار يكون منكراً وتنكير ذي الحال قبيح نقول كونه موصوفاً يحسن ذلك
وقوله فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ فيه وجهان أحدهما أن مَا نافية ومعناه أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الحق وإنما أرسلوا مبلغين وهو كقوله تعالى فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ( الشورى 48 ) ويؤيد هذا قوله تعالى فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي ليس عليك ولا على الأنبياء الإغناء والإلجاء فإذا بلغت فقد(29/29)
أتيت بماعليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها بقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وتول إذا لم تقدر ثانيهما مَا استفهامية ومعنى الآيات حينئذ أنك أتيت بما عليك من الدعوى وإظهار الآية عليها وكذبوا فأنذرتهم بما جرى على المكذبين فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَى ْءٍ نُّكُرٍ
قوله تعالى فَتَوَلَّ عَنْهُمْ قد ذكرنا أن المفسرين يقولون إلى قوله تَوَلَّ منسوخ وليس كذلك بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام
ثم قال تعالى يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَى ْء نُّكُرٍ قد ذكرنا أيضاً أن من ينصح شخصاً ولا يؤثر فيه النصح يعرض عنه ويقول مع غيره ما فيه نصح المعرض عنه ويكون فيه قصد إرشاده أيضاً فقال بعدما قال فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ للتخويف والعامل في يَوْمٍ هو ما بعده وهو قوله يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ والداعي معرف كالمنادي في قوله يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ ( ق 41 ) لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل إن منادياً ينادي وداعياً يدعو وفي الداعي وجوه أحدها أنه إسرافيل وثانيها أنه جبريل وثالثها أنه ملك موكل بذلك والتعريف حينئذ لا يقطع حد العلمية وإنما يكون ذلك كقولنا جاء رجل فقال الرجل وقوله تعالى إِلَى شَى ْء نُّكُرٍ أي منكر وهو يحتمل وجوهاً أحدها إلى شيء نكر في يومنا هذا لأنهم أنكروه أي يوم يدعو الداعي إلى الشيء الذي أنكروه يخرجون ثانيها نكر أي منكر يقول ذلك القائل كان ينبغي أن لا يكون أي من شأنه أن لا يوجد يقال فلان ينهى عن المنكر وعلى هذا فهو عندهم كان ينبغي أن لا يقع لأنه يرديهم في الهاوية فإن قيل ما ذلك الشيء النكر نقول الحساب أو الجمع له أو النشر للجمع وهذا أقرب فإن قيل النشر لا يكون منكراً فإنه إحياء ولأن الكافر من أين يعرف وقت النشر وما يجري عليه لينكره نقول يعرف ويعلم بدليل قوله تعالى عنهم قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ( يس 52 )
ثم قال تعالى
خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الاٌّ جْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ
وفيه قراءات خاشعاً وخاشعة وخشعاً فمن قرأ خاشعاً على قول القائل يخشع أبصارهم على ترك التأنيث لتقدم الفعل ومن قرأ خاشعة على قوله تخشع أبصارهم ومن قرأ خشعاً فله وجوه أحدها على قول من يقول يخشعن أبصارهم على طريقة من يقول أكلوني البراغيث ثانيها في خُشَّعاً ضمير أبصارهم بدل عنه تقديره يخشعون أبصارهم على بدل الاشتمال كقول القائل أعجبوني حسنهم ثالثها فيه فعل مضمر يفسره يخرجون تقديره يخرجون خشعاً أبصارهم على بدل الاشتمال والصحيح خاشعاً روي أن مجاهداً رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في منامه فقال له يا نبي الله خشعاً أبصارهم أو خاشعاً أبصارهم فقال عليه السلام خاشعاً ولهذه القراءة وجه آخر أظهر مما قالوه وهو أن يكون خشعاً منصوباً على أنه مفعول بقوله يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ خشعاً أي يدعو هؤلاء فإن قيل هذا فاسد من وجوه أحدها أن التخصيص لا فائدة فيه لأن الداعي يدعو كل أحد ثانيها قوله يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ بعد الدعاء فيكونون خشعاً قبل الخروج وإنه باطل ثالثها قراءة خاشعاً تبطل هذا نقول أما الجواب عن الأول فهو أن يقال قوله إِلَى شَى ْء نُّكُرٍ يدفع ذلك لأن كل(29/30)
أحد لا يدعى إلى شيء نكر وعن الثاني المراد ( من شيء نكر ) الحساب العسر يعني يوم يدع الداع إلى الحساب العسر خشعاً ولا يكون العامل في يَوْمَ يَدْعُو يخرجون بل اذكروا أو فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ كما قال تعالى فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) ويكون يخرجون ابتداء كلام وعن الثالث أنه لا منافاة بين القراءتين وخاشعاً نصب على الحال أو على أنه مفعول يدعو كأنه يقول يدعو الداعي قوماً خاشعة أبصارهم والخشوع السكون قال تعالى وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ ( طه 108 ) وخشوع الأبصار سكونها على كل حال لا تنفلت يمنة ولا يسرة كما في قوله تعالى لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ( إبراهيم 43 ) وقوله تعالى يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ( القمر 7 ) مثلهم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج ويحتمل أن يقال المنتشر مطاوع نشره إذا أحياه فكأنهم جراد يتحرك من الأرض ويدب إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعفهم
مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
ثم قال تعالى مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أي مسرعين إليه إنقياداً يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ يحتمل أن يكون العامل الناصب ليوم في قوله تعالى يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ ( القمر 6 ) أي يوم يدعو الداعي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ وفيه فائدتان إحداهما تنبيه المؤمن أن ذلك اليوم على الكافر عسير فحسب كما قال تعالى فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ( المدثر 9 10 ) يعني له عسر لا يسر معه ثانيتهما هي أن الأمرين متفقان مشتركان بين المؤمن والكافر فإن الخروج من الأجداث كأنهم جراد والانقطاع إلى الداعي يكون للمؤمن فإنه يخاف ولا يأمن العذاب إلا بإيمان الله تعالى إياه فيؤتيه الله الثواب فيبقى الكافر فيقول هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ
ثم إنه تعالى أعاد بعض الأنباء فقال كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فيها تهوين وتسلية لقلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن حاله كحال من تقدمه وفيه مسائل
المسألة الأولى إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز بالاتفاق وحسن وإلحاق ضمير الجمع به قبيح عند الأكثرين فلا يجوزون كذبوا قوم نوح ويجوزون كذبت فما الفرق نقول التأنيث قبل الجمع لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ولا تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعلها الذي هو فاعله فليس إذا قلنا ضربت هذه كانت هذه أنثى لأجل الضرب بخلاف الجمع لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم الذي هم فاعلوه فإنا إذا قلنا جمع ضربوا وهم ضاربون ليس مجرد اجتماعهم في الوجود يصحح قولنا ضربوا وهم ضاربون لأنهم إن اجتمعوا في مكان فهم جمع ولكن إن لم يضرب الكل لا يصح قولنا ضربوا فضمير الجمع من الفعل فاعلون جمعهم بسبب الاجتماع في الفعل والفاعلية وليس بسبب الفعل فلم يجز أن يقال ضربوا جمع لأن الجمع لم يفهم إلا بسبب أنهم ضربوا جميعهم فينبغي أن يعلم أولاً اجتماعهم في الفعل فيقول الضاربون ضربوا وأما ضربت هند فصحيح لأنه لا يصح أن يقال التأنيث لم يفهم إلا بسبب(29/31)
أنها ضربت بل هي كانت أنثى فوجد منها ضرب فصارت ضاربة وليس الجمع كانوا جمعاً فضربوا فصاروا ضاربين بل صاروا ضاربين لاجتماعهم في الفعل ولهذا ورد الجمع على اللفظ بعد ورود التأنيث عليه فقيل ضاربة وضاربات ولم يجمع اللفظ أولاً لأنثى ولا لذكر ولهذا لم يحسن أن يقال ضرب هند وحسن بالإجماع ضرب قوم والمسلمون
المسألة الثانية لما قال تعالى كَذَّبَتْ ما الفائدة في قوله تعالى فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا نقول الجواب عنه من وجوه الأول أن قوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أي بآياتنا وآية الانشقاق فكذبوا الثاني كذبت قوم نوح الرسل وقالوا لم يبعث الله رسولاً وكذبوهم في التوحيد فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره وذلك لأن قوم نوح مشركون يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كل رسول وينكر الرسالة لأنه يقول لا تعلق لله بالعالم السفلي وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيب فكذبوا الثالث قوله تعالى فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا للتصديق والرد عليهم تقديره كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ وكان تكذيبهم عبدنا أي لم يكن تكذيباً بحق كما يقول القائل كذبني فكذب صادقاً
المسألة الثالثة كثيراً ما يخص الله الصالحين بالإضافة إلى نفسه كما في قوله تعالى إِنَّ عِبَادِى ( الحجر 42 ) فِى عِبَادِى ( العنكبوت 56 ) اذْكُرْ عَبْدَنَا ( ص 170 ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ( يوسف 24 ) وكل واحد عبده فما السر فيه نقول الجواب عنه من وجوه الأول ما قيل في المشهور أن الإضافة إليه تشريف منه فمن خصصه بكونه عبده شرف وهذا كقوله تعالى أَن طَهّرَا بَيْتِى َ ( البقرة 125 ) وقوله تعالى نَاقَة ُ اللَّهِ ( الأعراف 73 ) الثاني المراد من عبدنا أي الذي عبدنا فالكل عباد لأنهم مخلوقون للعبادة لقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) لكن منهم من عبد فحقق المقصود فصار عبده ويؤيد هذا قوله تعالى كُونُواْ عِبَادًا لّى ( آل عمران 79 ) أي حققوا المقصود الثالث الإضافة تفيد الحصر فمعنى عبدنا هو الذي لم يقل بمعبود سوانا ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهاً فالعبد المضاف هو الذي بكليته في كل وقت لله فأكله وشربه وجميع أموره لوجه الله تعالى وقليل ما هم
المسألة الرابعة ما الفائدة في اختيار لفظ العبد مع أنه لو قال رسولنا لكان أدل على قبح فعلهم نقول قوله عبدنا أدل على صدقه وقبح تكذيبهم من قوله رسولنا لو قاله لأن العبد أقل تحريفاً لكلام السيد من الرسول فيكون كقوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( الحاقة 44 46 )
المسألة الخامسة قوله تعالى وَقَالُواْ مَجْنُونٌ إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا منه وقالوا هو مصاب الجن أو هو لزيادة بيان قبح صنعهم حيث لم يقنعوا بقولهم إنهم كاذب بل قالوا مجنون أي يقول مالا يقبله عاقل والكاذب العاقل يقول ما يظن به أنه صادق فقالوا مجنون أي يقول مالم يقل به عاقل فبين مبالغتهم في التكذيب
المسألة السادسة وَازْدُجِرَ إخبار من الله تعالى أو حكاية قولهم نقول فيه خلاف منهم من قال إخبار من الله تعالى وهو عطف على كذبوا وقالوا أي هم كذبوا وهو ازدجر أي أوذي وزجر وهو كقوله تعالى كُذّبُواْ وَأُوذُواْ ( الأنعام 34 ) وعلى هذا إن قيل لو قال كذبوا عبدنا وزجروه كان الكلام أكثر مناسبة(29/32)
نقول لا بل هذا أبلغ لأن المقصود تقوية قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذكر من تقدمه فقال وازدجر أي فعلوا ما يوجب الإنزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم وعدل عن الدعاء إلى الإيمان إلى الدعاء عليهم ولو قال زجروه ما كان يفيد أنه تأذى منهم لأن في السعة يقال آذوني ولكن ما تأذيت وأما أوذيت فهو كاللازم لا يقال إلا عند حصول الفعل لا قبله ومنهم من قال وَازْدُجِرَ حكاية قولهم أي هم قالوا ازدجر تقديره قالوا مجنون مزدجر ومعناه ازدجره الجن أو كأنهم قالوا جن وازدجر والأول أصح ويترتب عليه قوله تعالى
فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ
ترتيباً في غاية الحسن لأنهم لما زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه أني مغلوب وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء إِنّى بكسر الهمزة على أنه دعاء فكأنه قال إني مغلوب وبالفتح على معنى بأني
المسألة الثانية ما معنى مغلوب نقول فيه وجوه الأول غلبني الكفار فانتصر لي منهم الثاني غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم فانتصر لي من نفسي وهذا الوجه نقله ابن عطية وهو ضعيف الثالث وجه مركب من الوجهين وهو أحسن منهما وهو أن يقال إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احتمال وحلم واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملاً ثم إن يأسه يحصل والاحتمال يفر بعد اليأس بمدة بدليل قوله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ( الكهف 6 ) فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 ) وقال تعالى وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ( المؤمنون 27 ) فقال نوح يا إلهي إن نفسي غلبتني وقد أمرتني بالدعاء عليهم فأهلكهم فيكون معناه ( إني ) مغلوب بحكم البشرية أي غلبت وعيل صبري فانتصر لي منهم لا من نفسي
المسألة الثالثة فانتصر معناه انتصر لي أو لنفسك فإنهم كفروا بك وفيه وجوه أحدها فانتصر لي مناسب لقوله مغلوب ثانيها فانتصر لك ولدينك فإني غلبت وعجزت عن الانتصار لدينك ثالثها فانتصر للحق ولا يكون فيه ذكره ولا ذكر ربه وهذا يقوله قوي النفس بكون الحق معه يقول القائل اللهم أهلك الكاذب منا وانصر المحق منا ثم قال تعالى
فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ
عقيب دعائه وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها أو هو مجاز نقول فيه قولان أحدهما حقائقها وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا استبعاد فيه وثانيهما هو على طريق الاستعارة فإن الظاهر أن الماء كان من السحاب وعلى هذا فهو كما يقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفتح أفواه القرب أي كأنه ذلك فالمطر في الطوفان كان بحيث يقول القائل فتحت أبواب السماء ولا شك أن المطر من فوق كان في غاية الهطلان
المسألة الثانية قوله تعالى فَفَتَحْنَا بيان أن الله انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله كما قال(29/33)
تعالى وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً ( ي س 28 29 ) بياناً لكمال القدرة ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم بمطلوبهم
المسألة الثالثة الباء في قوله بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ما وجهه وكيف موقعه نقول فيه وجهان أحدهما كما هي في قول القائل فتحت الباب بالمفتاح وتقديره هو أن يجعل كأن الماء جاء وفتح الباب وعلى هذا تفسير قول من يقول يفتح الله لك بخير أي يقدر خيراً يأتي ويفتح الباب وعلى هذا ففيه لطيفة وهي من بدائع المعاني وهي أن يجعل المقصود مقدماً في الوجود ويقول كأن مقصودك جاء إلى باب مغلق ففتحه وجاءك وكذلك قول القائل لعل الله يفتح برزق أي يقدر رزقاً يأتي إلى الباب الذي كالمغلق فيدفعه ويفتحه فيكون الله قد فتحه بالرزق ثانيهما فَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء مقرونة بِمَاء مُّنْهَمِرٍ والانهمار الانسكاب والانصباب صباً شديداً والتحقيق فيه أن المطر يخرج من السماء التي هي السحاب خروج مترشح من ظرفه وفي ذلك اليوم كان يخرج خروج مرسل خارج من باب ثم قال تعالى
وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
وفيه من البلاغة ما ليس في قول القائل وفجرنا عيون الأرض وهذا بيان التمييز في كثير من المواضع إذا قلت ضاق زيد ذرعاً أثبت مالا يثبته قولك ضاق ذرع زيد وفيه مسائل
المسألة الأولى قال وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً ولم يقل ففتحنا السماء أبواباً لأن السماء أعظم من الأرض وهي للمبالغة ولهذا قال أَبْوابَ السَّمَاء ولم يقل أنابيب ولا منافذ ولا مجاري أو غيرها
وأما قوله تعالى وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً فهو أبلغ من قوله وفجرنا عيون الأرض لأنه يكون حقيقة لا مبالغة فيه ويكفي في صحة ذلك القول أن يجعل في الأرض عيوناً ثلاثة ولا يصلح مع هذا في السماء إلا قول القائل فأنزلنا من السماء ماء أو مياهاً ومثل هذا الذي ذكرناه في المعنى لا في المعجزة والحكمة قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الاْرْضِ ( الزمر 21 ) حيث لا مبالغة فيه وكلامه لا يماثل كلام الله ولا يقرب منه غير أني ذكرته مثلاً وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاْعْلَى ( النحل 60 )
المسألة الثانية العيون في عيون الماء حقيقة أو مجاز نقول المشهور أن لفظ العين مشترك والظاهر أنها حقيقة في العين التي هي آلة الأبصار ومجاز في غيرها أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الباصرة التي يخرج منها الدمع أو لأن الماء الذي في العين كالنور الذي في العين غير أنها مجاز مشهور صار غالباً حتى لا يفتقر إلى القرينة عند الاستعمال إلا للتمييز بين العينين فكما لا يحمل اللفظ على العين الباصرة إلا بقرينة كذلك لا يحمل على الفوارة إلا بقرينة مثل شربت من العين واغتسلت منها وغير ذلك من الأمور التي توجد في الينبوع ويقال عانه يعينه إذا أصابه بالعين وعينه تعييناً حقيقته جعله بحيث تقع عليه العين وعاينه معاينة وعياناً وعين أي صار بحيث تقع عليه العين
المسألة الثالثة قوله تعالى فَالْتَقَى المَاء قرىء فالتقى الماءان أي النوعان منه ماء السماء وماء(29/34)
الأرض فتثنى أسماء الأجناس على تأويل صنف تجمع أيضاً يقال عندي تمران وتمور وأتمار على تأويل نوعين وأنواع منه والصحيح المشهور فَالْتَقَى المَاء وله معنى لطيف وذلك أنه تعالى لما قال فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ( القمر 11 ) ذكر الماء وذكر الانهمار وهو النزول بقوة فلما قال وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً كان من الحسن البديع أن يقول ما يفيد أن الماء نبع منها بقوة فقال فَالْتَقَى المَاء أي من العين فار الماء بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء ولو جرى جرياً ضعيفاً لما كان هو يلتقي مع ماء السماء بل كان ماء السماء يرد عليه ويتصل به ولعل المراد من قوله وَفَارَ التَّنُّورُ ( هود 40 ) مثل هذا
وقوله تعالى عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ فيه وجوه الأول على حال قد قدرها الله تعالى كما شاء الثاني على حال قدر أحد الماءين بقدر الآخر الثالث على سائر المقادير وذلك لأن الناس اختلفوا فمنهم من قال ماء السماء كان أكثر ومنهم من قال ماء الأرض ومنهم من قال كانا متساويين فقال على أي مقدار كان والأول إشارة إلى عظمة أمر الطوفان فإن تنكير الأمر يفيد ذلك يقول القائل جرى على فلان شيء لا يمكن أن يقال إشارة إلى عظمته وفيه احتمال آخر وهو أن يقال التقى الماء أي اجتمع على أمر هلاكهم وهو كان مقدوراً مقدراً وفيه رد على المنجمين الذين يقولون إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة حول برج مائي والغرق لم يكن مقصوداً بالذات وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه فقال لم يكن ذلك إلا لأمر قد قدر ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم من المغرقين
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ
أي سفينة حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه إشارة إلى أنها كانت من ألواح مركبة موثقة بدثر وكان انفكاكها في غاية السهولة ولم يقع فهو بفضل الله والدسر المسامير
تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ
وقوله تعالى تَجْرِى أي سفينة ذات ألواح جارية وقوله تعالى بِأَعْيُنِنَا أي بمرأى منا أو بحفظنا لأن العين آلة ذلك فتستعمل فيه
وقوله تعالى
وقوله تعالى جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون نصبه بقوله حملناه أي حملناه جزاء أي ليكون ذلك الحمل جزاء الصبر على كفرانهم وثانيها أن يكون بقوله وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا لأن فيه معنى حفظنا أي ما تركناه عن أعيننا وعوننا جزاء له ثالثها أن يكون بفعل حاصل من مجموع ما ذكره كأنه قال فتحنا أبواب السماء وفجرنا الأرض عيوناً وحملناه وكل ذلك فعلناه جزاء له وإنما ذكرنا هذا لأن الجزاء ما كان يحصل إلا بحفظه وإنجائه لهم فوجب أن يكون جزاء منصوباً بكونه مفعولاً له بهذه الأفعال ولنذكر ما فيه من اللطائف في مسائل
المسألة الأولى قال في السماء فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء ( القمر 11 ) لأن السماء ذات الرجع وما لها فطور ولم يقل وشققنا السماء وقال في الأرض وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ ( القمر 12 ) لأنها ذات الصدع(29/35)
الثانية لما جعل المطر كالماء الخارج من أبواب مفتوحة واسعة ولم يقل في الأرض وأجرينا من الأرض بحاراً وأنهاراً بل قال عُيُوناً والخارج من العين دون الخارج من الباب ذكر في الأرض أنه تعالى فجرها كلها فقال وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ لتقابل كثرة عيون الأرض سعة أبواب السماء فيحصل بالكثرة ههنا ما حصل بالسعة ههنا
الثالثة ذكر عند الغضب سبب الإهلاك وهو فتح أبواب السماء وفجر الأرض بالعيون وأشار إلى الإهلاك بقوله تعالى عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( القمر 12 ) أي أمر الإهلاك ولم يصرح وعند الرحمة ذكر الإنجاء صريحاً بقوله تعالى وَحَمَلْنَاهُ وأشار إلى طريق النجاة بقوله ذَاتِ أَلْواحٍ وكذلك قال في موضع آخر فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ ( العنكبوت 14 ) ولم يقل فأهلكوا وقال فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ ( العنبكوت 15 ) فصرح بالإنجاء ولم يصرح بالإهلاك إشارة إلى سعة الرحمة وغاية الكرم أي خلقنا سبب الهلاك ولو رجعوا لما ضرهم ذلك السبب كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا ( هود 42 ) وعند الإنجاء أنجاه وجعل للنجاة طريقاً وهو اتخاذ السفينة ولو انكسرت لما ضره بل كان ينجيه فالمقصود عند الإنجاء هو النجاة فذكر المحل والمقصود عند الإهلاك إظهار البأس فذكر السبب صريحاً
الرابعة قوله تعالى تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا أبلغ من حفظنا يقول القائل اجعل هذا نصب عينك ولا يقول احفظه طلباً للمبالغة
الخامسة بِأَعْيُنِنَا يحتمل أن يكون المراد بحفظنا ولهذا يقال الرؤية لسان العين
السادسة قال كان ذلك جزاء على ما كفروا به لا على إيمانه وشكره فما جوزي به كان جزاء صبره على كفرهم وأما جزاء شكره لنا فباق وقرىء جَزَاء بكسر الجيم أي مجازاة كقتال ومقاتلة وقرىء لّمَن كَانَ كُفِرَ بفتح الكاف وأما كُفِرَ ففيه وجهان أحدهما أن يكون كفر مثل شكر يعدى بالحرف وبغير حرف يقال شكرته وشكرت له قال تعالى وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ( البقرة 152 ) وقال تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ ( البقرة 256 ) ثانيهما أن يكون من الكفر لا من الكفران أي جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه ويحتمل أن يقال كفر به وترك الظهور المراد
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَة ً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
وفي العائد إليه الضمير وجهان أحدهما عائد إلى مذكور وهو السفينة التي فيها ألواح وعلى هذا ففيه وجهان أحدهما ترك الله عينها مدة حتى رؤيت وعلمت وكانت على الجودي بالجزيرة وقيل بأرض الهند وثانيهما ترك مثلها في الناس يذكر وثاني الوجهين الأولين أنه عائد إلى معلوم أي تركنا السفينة آية والأول أظهر وعلى هذا الوجه يحتمل أن يقال تَّرَكْنَاهَا أي جعلناها آية لأنها بعد الفراغ منها صارت متروكة ومجعولة يقول القائل تركت فلاناً مثلة أي جعلته لما بينا أنه من فرغ من أمر تركه وجعله فذكر أحد الفعلين بدلاً عن الآخر
وقوله تعالى فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ إشارة إلى أن الأمر من جانب الرسل قد تم ولم يبق إلا جانب المرسل(29/36)
إليهم بأن كانوا منذرين متفكرين يهتدون بفضل الله فهل من مدكر مهتد وهذا الكلام يصلح حثاً ويصلح تخويفاً وزجراً وفيه مسائل
الأولى قال ههنا وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا وقال في العنكبوت وَجَعَلْنَاهَا ءايَة ً ( العنكبوت 15 ) قلنا هما وإن كانا في المعنى واحداً على ما تقدم بيانه لكن لفظ الترك يدل على الجعل والفراغ بالأيام فكأنها هنا مذكورة بالتفصيل حيث بين الإمطار من السماء وتفجير الأرض وذكر السفينة بقوله ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ( القمر 13 ) وذكر جريها فقال تَّرَكْنَاهَا إشارة إلى تمام الفعل المقدور وقال هناك وَجَعَلْنَاهَا إشارة إلى بعض ذلك فإن قيل إن كان الأمر كذلك فكيف قال ههنا وَحَمَلْنَاهُ ( القمر 13 ) ولم يقل وأصحابه وقال هناك فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ نقول النجاة ههنا مذكورة على وجه أبلغ مما ذكره هناك لأنه قال تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا ( القمر 14 ) أي حفظنا وحفظ السفينة حفظ لأصحابه وحفظ لأموالهم ودوابهم والحيوانات التي معهم فقوله فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ لا يلزم منه إنجاء الأموال إلا ببيان آخر والحكاية في سورة هود أشد تفصيلاً وأتم فلهذا قال قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ( هود 40 ) يعني المحمول ثم قال تعالى وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ّ ( هود 44 ) تصريحاً بخلاص السفينة وإشارة إلى خلاص كل من فيها وقوله ءايَة ً منصوبة على أنها مفعول ثان للترك لأنه بمعنى الجعل على ما تقدم بيانه وهو الظاهر ويحتمل أن يقال حال فإنك تقول تركتها وهي آية وهي إن لم تكن على وزن الفاعل والمفعول فهي في معناه كأنه قال تركناها دالة ويحتمل أن يقال نصبها على التمييز لأنها بعض وجوه الترك كقوله ضربته سوطاً
المسألة الثانية مُّدَّكِرٍ مفتعل من ذكر يذكر وأصله مذتكو ( لما ) كان مخرج الذال قريباً من مخرج التاء والحروف المتقاربة المخرج يصعب النطق بها على التوالي ولهذا إذا نظرت إلى الذال مع التاء عند النطق تقرب الذال من أن تصير تاء والتاء تقرب من أن تصير دالاً فجعل التاء دالاً ثم أدغمت الدال فيها ومنهم من قرأ على الأصل مذتكر ومنهم من قلب التاء دالاً وقرأ مذدكر ومن اللغويين من يقول في مدكر مذدكر فيقلب التاء ولا يدغم ولكل وجهة والمدكر المعتبر المتفكر وفي قوله مُّدَّكِرٍ إما إشارة إلى ما في قوله أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) أي هل من يتذكر تلك الحالة وإما إلى وضوح الأمر كأنه حصل للكل آيات الله ونسوها فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ يتذكر شيئاً منها
ثم قال تعالى
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ
وفيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك استفهاماً من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تنبيهاً له ووعداً بالعاقبة وثانيهما أن يكون عاماً تنبيهاً للخلق ونذر أسقط منه ياء الإضافة كما حذف ياء يسري في قوله تعالى وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( الفجر 4 ) وذلك عند الوقف ومثله كثير كما في قوله تعالى فَإِيَّاى َ فَاعْبُدُونِ ( العنكبوت 51 ) وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ ( ي س 43 ) ( الزمر 16 ) وقوله تعالى قَلِيلاً وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ ( الزمر 16 ) وقوله تعالى وَلاَ تَكْفُرُونِ ( البقرة 152 ) وقرىء بإثبات الياء عَذَابِى وفيه مسائل(29/37)
الأولى ما الذي اقتضى الفاى في قوله تعالى مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ نقول أما إن قلنا إن الاستفهام من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكأنه تعالى قال له قد علمت أخبار من كان قبلك فكيف كان أي بعدما أحاط بهم علمك بنقلها إليك وأما إن قلنا الاستفهام عام فنقول لما قال هَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ ( القمر 15 ) فرض وجودهم وقال يا من يتذكر وعلم الحال بالتذكير فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى ويحتمل أن يقال هو متصل بقوله فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ تقديره مدكر كيف كان عذابي
المسألة الثانية ما رأوا العذاب ولا النذر فكيف استفهم منهم نقول أما على قولنا الاستفهام من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقد علم لما علم وأما على قولنا عام فهو على تقدير الإدكار وعلى تقدير الإدكار يعلم الحال ويحتمل أن يقال إنه ليس باستفهام وإنما هو إخبار عن عظمة الأمر كما في قوله تعالى الْحَاقَّة ُ مَا الْحَاقَّة ُ ( الحاقة 1 2 ) و الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ ( القارعة 1 2 ) وهذا لأن الاستفهام يذكر للأخبار كما أن صيغة هل تذكر للاستفهام فيقال زيد في الدار بمعنى هل زيد في الدار ويقول المنجز وعده هل صدقت فكأنه تعالى قال عذابي وقع وكيف كان أي كان عظيماً وحينئذ لا يحتاج إلى علم من يستفهم منه
المسألة الثالثة قال تعالى من قبل فَفَتَحْنَا وَفَجَّرْنَا ولم يقل كيف كان عذابنا نقول لوجهين أحدهما لفظي وهو أن ياء المتكلم يمكن حذفها لأنها في اللفظ تسقط كثيراً فيما إذا التقى ساكنان تقول غلامي الذي وداري التي وهنا حذفت لتواخي آخر الآيات وأما النون والألف في ضمير الجمع فلا تحذف وأما الثاني وهو المعنوي فنقول إن كان الاستفهام من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فتوحيد الضمير للأنباء وفي فتحنا وفجرنا لترهيب العصاة ونقول قد ذكرنا أن قوله مِن مُّدَّكِرٍ ( القمر 15 ) فيه إشارة إلى قوله أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ ( الأعراف 172 ) فلما وحد الضمير بقوله أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قال فكيف كان
المسألة الرابعة النذر جمع نذير فهل هو مصدر كالنسيب والنحيب أو فاعل كالكبير والصغير نقول أكثر المفسرين على أنه مصدر ههنا أي كيف كان عاقبة عذابي وعاقبة إنذاري والظاهر أن المراد الأنباء أي كيف كان عاقبة أعداء الله ورسله هل أصاب العذاب من كذب الرسل أم لا فإذا علمت الحال يا محمد فاصبر فإن عاقبة أمرك كعاقبة أولئك النذر ولم يجمع العذاب لأنه مصدر ولو جمع لكان في جمعه تقدير وفرض ولا حاجة إليه فإن قيل قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( القمر 23 ) أي بالإنذارات لأن الإنذارات جاءتهم وأما الرسل فقد جاءهم واحد نقول كل من تقدم من الأمم الذين أشركوا بالله كذبوا بالرسل وقالوا ما أنزل الله من شيء وكان المشركون مكذبين بالكل ما خلا إبراهيم عليه السلام فكانوا يعتقدون فيه الخير لكونه شيخ المرسلين فلا يقال كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ أي بالأنبياء بأسرهم كما أنكم أيها المشركون تكذبون بهم
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
وفيه وجوه الأول للحفظ فيمكن حفظه ويسهل ولم يكن شيء من كتب الله تعالى يحفظ على ظهر القلب غير القرآن
وقوله تعالى فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ أي هل من يحفظ ويتلوه الثاني سهلناه للاتعاظ حيث أتينا فيه بكل حكمة الثالث جعلناه بحيث يعلق بالقلوب ويستلذ سماعه ومن لا يفهم يتفهمه ولا يسأم من سمعه وفهمه ولا يقول(29/38)
قد علمت فلا أسمعه بل كل ساعة يزداد منه لذة وعلماً الرابع وهو الأظهر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما ذكر بحال نوح عليه السلام وكان له معجزة قيل له إن معجزتك القرآن وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ تذكرة لكل أحد وتتحدى به في العالم ويبقى على مرور الدهور ولا يحتاج كل من يحضرك إلى دعاء ومسألة في إظهار معجزة وبعدك لا ينكر أحد وقوع ما وقع كما ينكر البعض انشقاق القمر وقوله تعالى فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ أي متذكر لأن الافتعال والتفعل كثيراً ما يجيء بمعنى وعلى هذا فلو قال قائل هذا يقتضي وجود أمر سابق فنسي نقول ما في الفطرة من الانقياد للحق هو كالمنسي فهل من مدكر يرجع إلى ما فطر عليه وقيل فهل من مدكر أي حافظ أو متعظ على ما فسرنا به قوله تعالى يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ وقوله فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ وعلى قولنا المراد متذكر إشارة إلى ظهور الأمر فكأنه لا يحتاج إلى نكر بل هو أمر حاصل عنده لا يحتاج إلى معاودة ما عند غيره
ثم قال تعالى
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ
وفيه مسائل
الأولى قال في قوم نوح كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ( الشعراء 105 ) ولم يقل في عاد كذبت قوم هود وذلك لأن التعريف كلما أمكن أن يؤتى به على وجه أبلغ فالأولى أن يؤتى به والتعريف بالاسم العلم أولى من التعريف بالإضافة إليه فإنك إذا قلت بيت الله لا يفيد ما يفيد قولك الكعبة فكذلك إذا قلت رسول الله لا يفيد ما يفيد قولك محمد فعاد اسم علم للقوم لا يقال قوم هود أعرف لوجهين أحدهما أن الله تعالى وصف عاداً بقوم هود حيث قال أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( هود 60 ) ولا يوصف الأظهر بالأخفى والأخص بالأعم ثانيهما أن قوم هود واحد وعاد قيل إنه لفظ يقع على أقوام ولهذا قال تعالى عَاداً الاْولَى ( النجم 50 ) لأنا نقول أما قوله تعالى لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( هود 60 ) فليس ذلك صفة وإنما هو بدل ويجوز في البدل أن يكون دون المبدل في المعرفة ويجوز أن يبدل عن المعرفة بالنكرة وأما عاداً الأولى فقد قدمنا أن ذلك لبيان تقدمهم أي عاداً الذين تقدموا وليس ذلك للتمييز والتعريف كما تقول محمد النبي شفيعي والله الكريم ربي ورب الكعبة المشرفة لبيان الشرف لا لبيانها وتعريفها كما تقول دخلت الدار المعمورة من الدارين وخدمت الرجل الزاهد من الرجلين فتبين المقصود بالوصف
المسألة الثانية لم يقل كذبوا هوداً كما قال فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا ( القمر 9 ) وذلك لوجهين أحدهما أن تكذيب نوح كان أبلغ وأشد حيث دعاهم قريباً من ألف سنة وأصروا على التكذيب ولهذا ذكر الله تعالى تكذيب نوح في مواضع ولم يذكر تكذيب غير نوح صريحاً وإن نبه عليه ( في ) واحد منها في الأعراف قال فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ( الأعراف 64 ) وقال حكاية عن نوح قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ ( الشعراء 117 ) وقال إِنَّهُمْ عَصَوْنِى ( نوح 21 ) وفي هذه المواضع لم يصرح بتكذيب قوم غيره منهم إلا قليلاً ولذلك قال تعالى في مواضع ذكر شعيب فكذبوه وقال الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا ( الأعراف 92 ) وقال تعالى عن قومه وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( الأعراف 66 ) لأنه دعا قومه زماناً مديداً وثانيهما أن حكاية عاد مذكورة ههنا على سبيل الاختصار فلم يذكر إلا تكذيبهم وتعذيبهم فقال كَذَّبَتْ عَادٌ كما قال كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ولم يذكر(29/39)
دعاءه عليهم وإجابته كما قال في نوح
المسألة الثالثة قال تعالى فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ قبل أن بين العذاب وفي حكاية نوح بين العذاب ثم قال فَكَيْفَ كَانَ فما الحكمة فيه نقول الاستفهام الذي ذكره في حكاية نوح مذكور ههنا وهو قوله تعالى فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ كما قال من قبل ومن بعد في حكاية ثمود غير أنه تعالى حكى في حكاية عاد فَكَيْفَ كَانَ مرتين المرة الأولى استفهم ليبين كما يقول المعلم لمن لا يعرف كيف المسألة الفلانية ليصير المسئول سائلاً فيقول كيف هي فيقول إنها كذا وكذا فكذلك ههنا قال كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى فقال السامع بين أنت فإني لا أعلم فقال أَنَّا أَرْسَلْنَا ( القمر 19 ) وأما المرة الثانية فاستفهم للتعظيم كما يقول القائل للعارف المشاهد كيف فعلت وصنعت فيقول نعم ما فعلت ويقول أتيت بعجيبة فيحقق عظمة الفعل بالاستفهام وإنما ذكر ههنا المرة الأولى ولم يذكر في موضع آخر لأن الحكاية ذكرها مختصرة فكان يفوت الاعتبار بسبب الاختصار فقال كَيْفَ كَانَ عَذَابِى حثاً على التدبر والتفكر وأما الاختصار في حكايتهم فلأن أكثر أمرهم الاستكبار والاعتماد على القوة وعدم الالتفات إلى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويدل على قوله تعالى فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة ً ( فصلت 15 ) وذكر استكبارهم كثيراً وما كان قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مبالغين في الاستكبار وإنما كانت مبالغتهم في التكذيب ونسبته إلى الجنون وذكر حالة نوح على التفصيل فإن قومه جمعوا بين التكذيب والاستكبار وكذلك حال صالح عليه السلام ذكرها على التفصيل لشدة مناسبتها بحال محمد ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال تعالى فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى بتوحيد الضمير هناك ولم يقل عذابنا وقال ههنا أَنَاْ ولم يقل إني والجواب ما ذكرناه في قوله تعالى فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء ( القمر 11 )
المسألة الثانية الصرصر فيها وجوه أحدها الريح الشديدة الصوت من الصرير والصرة شدة الصياح ثانيها دائمة الهبوب من أصر على الشيء إذا دام وثبت وفيه بحث وهو أن الأسماء المشتقة هي التي تصلح لأن يوصف بها وأما أسماء الأجناس فلا يوصف بها سواء كانت أجراماً أو معاني فلا يقال إنسان رجل جاء ولا يقال لون أبيض وإنما يقال إنسان عالم وجسم أبيض وقولنا أبيض معناه شيء له بياض ولا يكون الجسم مأخوذاً فيه ويظهر ذلك في قولنا رجل عالم فإن العالم شيء له علم حتى الحداد والخباز ولو أمكن قيام العلم بهما لكان عالماً ولا يدخل الحي في المعنى من حيث المفهوم فإنا إذا قلنا عالم يفهم أن ذلك حي لأن اللفظ ما وضع لحي يعلم بل اللفظ وضع لشيء يعلم ويزيده ظهوراً قولنا معلوم فإنه شيء يعلم أو أمر يعلم وإن لم يكن شيئاً ولو دخل الجسم في الأبيض لكان قولنا جسم أبيض كقولنا جسم له بياض فيقع الوصف بالجثة إذا علمت هذا فمن المستفاد بالجنس شيء دون شيء فإن قولنا الهندي يقع على كل منسوب إلى الهند وأما المهند فهو سيف منسوب إلى الهند فيصح أن يقال عبد هندي وتمر هندي ولا يصح أن يقال مهند وكذا الأبلق ولون آخر في فرس ولا يقال للثوب أبلق كذلك الأفطس أنف فيه تقعير إذا قال لقائل(29/40)
أنف أفطس فيكون كأنه قال أنف به فطس فيكون وصفه بالجثة وكان ينبغي أن لا يقال فرس أبلق ولا أنف أفطس ولا سيف مهند وهم يقولون فما الجواب وهذا السؤال يرد على الصرصر لأنها الريح الباردة فإذا قال ريح صرصر فليس ذلك كقولنا ريح باردة فإن الصرصر هي الريح الباردة فحسب فكأنه قال ريح باردة فنقول الألفاظ التي في معانيها أمران فصاعداً كقولنا عالم فإنه يدل على شيء له علم ففيه شيء وعلم هي على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون الحال هو المقصود والمحل تبع كما في العالم والضارب والأبيض فإن المقاصد في هذه الألفاظ العلم والضرب والبياض بخصوصها وأما المحل فمقصود من حيث إنه على عمومه حتى أن البياض لو كان يبدل بلون غيره اختل مقصوده كالأسود وأما الجسم الذي هو محل البياض إن أمكن أن يبدل وأمكن قيام البياض بجوهر غير جسم لما اختل الغرض ثانيها أن يكون المحل هو المقصود كقولنا الحيوان لأنه اسم لجنس ما له الحياة لا كالحي الذي هو اسم لشيء له الحياة فالمقصود هنا المحل وهو الجسم حتى لو وجد حي ليس بجسم لا يحصل مقصود من قال الحيوان ولو حمل اللفظ على الله الحي الذي لا يموت لحصل غرض المتكلم ولو حمل لفظ الحيوان على فرس قائم أو إنسان نائم لم تفارقه الحياة لم يبق للسامع نفع ولم يحصل للمتكلم غرض فإن القائل إذا قال لإنسان قائم وهو ميت هذا حيوان ثم بان موته لا يرجع عما قال بل يقول ما قلت إنه حي بل قلت إنه حيوان فهو حيوان فارقته الحياة ثالثها ما يكون الأمران مقصودين كقولنا رجل وامرأة وناقة وجمل فإن الرجل اسم موضوع لإنسان ذكر والمرأة لإنسان أنثى والناقة لبعير أنثى والجمل لبعير ذكر فالناقة إن أطلقت على حيوان فظهر فرساً أو ثور اختل الغرض وإن بان جملاً كذلك إذا علمت هذا ففي كل صورة كان المحل مقصوداً إما وحده وإما مع الحال فلا يوصف به فلا يقال جسم حيوان ولا يقال بعير ناقة وإنما يجعل ذلك جملة فيوصف بالجملة فيقال جسم هو حيوان وبعير هو ناقة ثم إن الأبلق والأفطس شأنه الحيوان من وجه وشأنه العالم من وجه وكذلك المهند لكن دليل ترجيح الحال فيه ظاهر لأن المهند لا يذكر إلا لمدح السيف والأفطس لا يقال إلا لوصف الأنف لا لحقيقته وكذلك الأبلق بخلاف الحيوان فإنه لا يقال لوصفه وكذلك الناقة إذا علمت هذا فالصرصر يقال لشدة الريح أو لبردها فوجب أن يعمل به ما يعمل بالبارد والشديد فجاز الوصف وهذا بحث عزيز
المسألة الثالثة قال تعالى ههنا إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً وقال في الطور وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ ( الذاريات 41 ) فعرف الريح هناك ونكرها هنا لأن العقم في الريح أظهر من البرد الذي يضر النبات أو الشدة التي تعصف الأشجار لأن الريح العقيم هي التي لا تنشىء سحاباً ولا تلقح شجراً وهي كثيرة الوقوع وأما الريح المهلكة الباردة فقلما توجد فقال الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف ثم زاده بياناً بقوله مَا تَذَرُ مِن شَى ْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( الذاريات 42 ) فتميزت عن الرياح العقم وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكرها
المسألة الرابعة قال هنا فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ وقال في السجدة فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ( فصلت 16 ) وقال في الحاقة سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ حُسُوماً ( الحاقة 7 ) والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله تعالى يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ( مريم 33 ) وقوله مُّسْتَمِرٌّ يفيد ما يفيده الأيام لأن الاستمرار ينبىء عن إمرار الزمان كما ينبىء عنه الأيام وإنما اختلف اللفظ مع اتحاد المعنى لأن الحكاية(29/41)
هنا مذكورة على سبيل الاختصار فذكر الزمان ولم يذكر مقداره ولذلك لم يصفها ثم إن فيه قراءتين إحدهما يَوْمِ نَحْسٍ بإضافة يوم وتسكين نحس على وزن نفس وثانيتهما يَوْمِ نَحْسٍ بتنوين الميم وكسر الحاء على وصف اليوم بالنحس كما في قوله تعالى فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ فإن قيل أيتهما أقرب قلنا الإضافة أصح وذلك لأن من يقرأ يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ يجعل المستمر صفة ليوم ومن يقرأ يوم نحس مستمر يكون المستمر وصفاً لنحس فيحصل منه استمرار النحوسة فالأول أظهر وأليق فإن قيل من يقرأ يوم نحس بسكون الحاء فماذا يقول في النحس نقول يحتمل أن يقول هو تخفيف نحس كفخذ وفخذ في غير الصفات ونصر ونصر ورعد ورعد وعلى هذا يلزمه أن يقول تقديره يوم كائن نحس كما تقول في قوله تعالى بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) ويحتمل أن يقول نحس ليس بنعت بل هو اسم معنى أو مصدر فيكون كقولهم يوم برد وحر وهو أقرب وأصح
المسألة الخامسة ما معنى مُّسْتَمِرٌّ نقول فيه وجوه الأول ممتد ثابت مدة مديدة من استمر الأمر إذا دام وهذا كقوله تعالى فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ( فصلت 16 ) لأن الجمع يفيد معنى الاستمرار والامتداد وكذلك قوله حُسُوماً ( الحاقة 7 ) الثاني شديد من المرة كما قلنا من قبل في قوله سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ( القمر 2 ) وهذا كقولهم أيام الشدائد وإليه الإشارة بقوله تعالى فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْى ِ ( فصلت 16 ) فإنه يذيقهم المر المضر من العذاب
ثم قال تعالى
تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ
فيه مسائل
المسألة الأولى تَنزِعُ النَّاسَ وصف أو حال نقول يحتمل الأمرين جميعاً إذ يصح أن يقال أرسل ريحاً صرصراً نازعة للناس ويصح أن يقال أرسل الريح نازعة فإن قيل كيف يمكن جعلها حالاً وذو الحال نكرة نقول الأمر هنا أهون منه في قوله تعالى وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الاْنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( القمر 4 ) فإنه نكرة وأجابوا عنه بأن مَا موصوفة فتخصصت فحسن جعلها ذات الحال فكذلك نقول ههنا الريح موصوفة بالصرصر والتنكير فيه للتعظيم وإلا فهي ثلاثة فلا يبعد جعلها ذات حال وفيه وجه آخر وهو أنه كلام مستأنف على فعل وفاعل كما تقول جاء زيد جذبني وتقديره جاء فجذبني كذلك ههنا قال إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً ( القمر 19 ) فأصبحت تَنزِعُ النَّاسَ ويدل عليه قوله تعالى فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى ( الحاقة 7 ) فالتاء في قوله تَنزِعُ النَّاسَ إشارة إلى ما أشار إليه بقوله صَرْعَى وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فيه وجوه أحدها نزعتهم فصرعتهم كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ كما قال صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ ثانيها نزعتهم فهم بعد النزع كأنهم أعجاز نخل وهذا أقرب لأن الانقعار قبل الوقوع فكأن الريح تنزع ( الواحد ) وتقعر ( ه ) فينقعر فيقع فيكون صريعاً فيخلو الموضع عنه فيخوى وقوله في الحاقة فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ إشارة إلى حالة بعد الانقعار الذي هو بعد النزع وهذا يفيد أن الحكاية ههنا مختصرة حيث لم يشر إلى صرعهم وخلو منازلهم عنهم بالكلية فإن حال الانقعار لا يحصل الخلو التام إذ هو مثل الشروع في الخروج والأخذ فيه ثالثها تنزعهم نزعاً بعنف كأنهم أعجاز نخل تقعرهم فينقعروا إشارة(29/42)
إلى قوتهم وثباتهم على الأرض وفي المعنى وجوه أحدها أنه ذكر ذلك إشارة إلى عظمة أجسادهم وطول أقدادهم ثانيها ذكره إشارة إلى ثباتهم في الأرض فكأنهم كانوا يعملون أرجلهم في الأرض ويقصدون المنع به على الريح وثالثها ذكره إشارة إلى يبسهم وجفافهم بالريح فكانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة
المسألة الثانية قال ههنا مُّنقَعِرٍ فذكر النخل وقال في الحاقة كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ فأنثها قال المفسرون في تلك السورة كانت أواخر الآيات تقتضي ذلك لقوله مُّسْتَمِرٌّ ( القمر 19 11 7 ) وهو جواب حسن فإن الكلام كما يزين بحسن المعنى يزين بحسن اللفظ ويمكن أن يقال النخل لفظه لفظ الواحد كالبقل والنمل ومعناه معنى الجمع فيجوز أن يقال فيه نخل منقعر ومنقعرة ومنقعرات ونخل خاوٍ وخاوية وخاويات ونخل باسق وباسقة وباسقات فإذا قال قائل منقعر أو خاوٍ أو باسق جرد النظر إلى اللفظ ولم يراع جانب المعنى وإذا قال منقعرات أو خاويات أو باسقات جرد النظر إلى المعنى ولم يراع جانب اللفظ وإذا قال منقعرة أو خاوية أو باسقة جمع بين الاعتبارين من حيث وحدة اللفظ وربما قال منقعرة على الإفراد من حيث اللفظ وألحق به تاء التأنيث التي في الجماعة إذا عرفت هذا فنقول ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الوجوه الثلاثة فقال وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ( ق 10 ) فإنها حال منها وهي كالوصف وقال نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ ( الحاقة 7 ) وقال نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فحيث قال مُّنقَعِرٍ كان المختار ذلك لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول لأنه الذي ورد عليه القعر فهو مقعور والخاو والباسق فاعل ومعناه إخلاء ما هو مفعول من علامة التأنيث أولاً كما تقول امرأة كفيل وامرأة كفيلة وامرأة كبير وامرأة كبيرة وأما الباسقات فهي فاعلات حقيقة لأن البسوق أمر قام بها وأما الخاوية فهي من باب حسن الوجه لأن الخاوي موضعها فكأنه قال نخل خاوية المواضع وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ فكان الدليل يقتضي ذلك بخلاف الشاعر الذي يختار اللفظ على المذهب الضعيف لأجل الوزن والقافية
ثم قال تعالى
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
وتفسيره قد تقدم والتكرير للتقرير وفي قوله عَذَابِى وَنُذُرِ لطيفة ما ذكرناها وهي تثبت بسؤال وجواب لو قال القائل أكثر المفسرين على أن النذر في هذا الموضع جمع نذير الذي هو مصدر معناه إنذار فما الحكمة في توحيد العذاب حيث لم يقل فكيف كان أنواع عذابي ووبال إنذاري نقول فيه إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب وذلك لأن الإنذار إشفاق ورحمة فقال الإنذارات التي هي نعم ورحمة تواترت فلما لم تنفع وقع العذاب دفعة واحدة فكانت النعم كثيرة والنقمة واحدة وسنبين هذا زيادة بيان حين نفسر قوله تعالى فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( الرحمن 13 ) حيث جمع الآلاء وكثر ذكرها وكررها ثلاثين مرة ثم بين الله تعالى حال قوم آخرين فقال(29/43)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ
وقد تقدم تفسيره غير أنه في قصة عاد قال كَذَّبَتْ ( القمر 18 ) ولم يقل بالنذر وفي قصة نوح قال كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ بِالنُّذُرِ ( الشعراء 105 ) فنقول هذا يؤيد ما ذكرنا من أن المراد بقوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ( القمر 9 ) أن عادتهم ومذهبهم إنكار الرسل وتكذيبهم فكذبوا نوحاً بناء على مذهبهم وإنما صرح ههنا لأن كل قوم يأتون بعد قوم وأتاهما رسولان فالمكذب المتأخر يكذب المرسلين جميعاً حقيقة والأولون يكذبون رسولاً واحداً حقيقة ويلزمهم تكذيب من بعده بناء على ذلك لأنهم لما كذبوا من تقدم في قوله الله تعالى واحد والحشر كائن ومن أرسل بعده كذلك قوله ومذهبه لزم منه أن يكذبوه ويدل على هذا أن الله تعالى قال في قوم نوح فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ ( الأعراف 64 ) وقال في عاد عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ ( هود 59 ) وأما قوله تعالى كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ( الشعراء 105 ) فإشارة إلى أنهم كذبوا وقالوا ما يفضي إلى تكذيب جميع المرسلين ولهذا ذكره بلفظ الجمع المعرف للاستغراق ثم إنه تعالى قال هناك عن نوح رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ ( الشعراء 117 ) ولم يقل كذبوا رسلك إشارة إلى ما صدر منهم حقيقة لا أن ما ألزمهم لزمه إذا عرفت هذا فلما سبق قصة ثمود ذكر رسولين ورسولهم ثالثهم قال كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ هذا كله إذا قلنا إن النذر جمع نذير بمعنى منذر أما إذا قلنا إنها الإنذارات فنقول قوم نوح وعاد لم تستمر المعجزات التي ظهرت في زمانهم وأما ثمود فأنذروا وأخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تدور بينهم وكذبوا فكان تكذيبهم بإنذارات وآيات ظاهرة فصرح بها وقوله فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ ( القمر 24 ) يؤيد الوجه الأول لأن من يقول لا أتبع بشراً مثلي وجميع المرسلين من البشر يكون مكذباً للرسل والباء في قوله بِالنُّذُرِ يؤيد الوجه الثاني لأنا بينا أن الله تعالى في تكذيب الرسل عدى التكذيب بغير حرف فقال كَذَّبُوهُ ( الأعراف 64 ) وَكَذَّبُواْ رُسُلُنَا ( غافر 70 ) فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا ( القمر 9 ) وكذبوني ( المؤمنون 26 ) وقال وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا رَّبُّهُمْ ( الأنفال 54 ) وبآياتنا ( البقرة 39 ) فعدى بحرف لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب والقائل هو الذي يكون كاذباً حقيقة والكلام والقول يقال فيه كاذب مجازاً وتعلق التكذيب بالقائل أظهر فيستغني عن الحرف بخلاف القول وقد ذكرنا ذلك وبيناه بياناً شافياً
فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ
وفي قوله تعالى بِالنُّذُرِ فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ مسائل
المسألة الأولى زيداً ضربته وزيد ضربته كلاهما جائز والنصب مختار في مواضع منها هذا الموضع وهو الذي يكون ما يرد عليه النصب والرفع بعد حرف الاستفهام والسبب في اختيار النصب أمر معقول وهو أن المستفهم يطلب من المسئول أن يجعل ما ذكره بعد حرف الاستفهام مبدأ لكلامه ويخبر عنه فإذا قال أزيد عندك معناه أخبرني عن زيد واذكر لي حاله فإذا انضم إلى هذه الحالة فعل مذكور ترجح جانب النصب فيجوز أن يقال أزيداً ضربته وإن لم يجب فالأحسن ذلك فإن قيل من قرأ أَبَشَرٌ مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ كيف ترك الأجود نقول نظراً إلى قوله تعالى فَقَالُواْ إذ ما بعد القول لا يكون إلا جملة والاسمية أولى والأولى أقوى وأظهر(29/44)
المسألة الثانية إذا كان بشراً منصوباً بفعل فما الحكمة في تأخر الفعل في الظاهر نقول قد تقدم مراراً أن البليغ يقدم في الكلام ما يكون تعلق غرضه به أكثر وهم كانوا يريدون تبيين كونهم محقين في ترك الاتباع فلو قالوا أنتبع بشراً يمكن أن يقال نعم اتبعوه وماذا يمنعكم من اتباعه فإذا قدموا حاله وقالوا هو نوعنا بشر ومن صنفنا رجل ليس غريباً نعتقد فيه أنه يعلم ما لا نعلم أو يقدر مالا نقدر وهو واحد وحيد وليس له جند وحشم وخيل وخدم فكيف نتبعه فيكونون قد قدموا الموجب لجواز الامتناع من الاتباع واعلم أن في هذه الآية إشارات إلى ذلك أحدها نكروه حيث قالوا أَبَشَراً ولم يقولوا أنتبع صالحاً أو الرجل المدعي النبوة أو غير ذلك من المعرفات والتنكير تحقير ثانيها قالوا أبشراً ولم يقولوا أرجلاً ثالثها قالوا مِنَّا وهو يحمل أمرين أحدهما من صنفنا ليس غريباً وثانيهما مِنَّا أي تبعنا يقول القائل لغيره أنت منا فيتأذى السامع ويقول لا بل أنت منا ولست أنا منكم وتحقيقه أن من للتبعيض والبعض يتبع الكل لا الكل يتبع البعض رابعها واحِداً يحتمل أمرين أيضاً أحدهما وحيداً إلى ضعفه وثانيهما واحداً أي هو من الآحاد لا من الأكابر المشهورين وتحقيق القول في استعمال الآحاد في الأصاغر حيث يقال هو من آحاد الناس هو أن من لا يكون مشهوداً بحسب ولا نسب إذا حدث عنه من لا يعرفه فلا يمكن أن يقول عنه قال فلان أو ابن فلان فيقول قال واحد وفعل واحد فيكون ذلك غاية الخمول لأن الأرذل لا ينضم إليه أحد فيبقى في أكثر أوقاته واحداً فيقال للأرذال آحاد
وقوله تعالى عنهم إِنَّا إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يحتمل وجهين أحدهما أن يكونوا قد قالوا في جواب من يقول لهم إن لم تتبعوه تكونوا في ضلال فيقولون له لا بل إن تبعناه نكون في ضلال ثانيهما أن يكون ذلك ترتيباً على ما مضى أي حاله ما ذكرنا من الضعف والوحدة فإن اتبعناه نكون في ضلال وسعر أي جنون على هذا الوجه فإن قلنا إن ذلك قالوه على سبيل الجواب فيكون القائل قال لهم إن لم تتبعوه فإنا إذاً في الحال في ضلال وفي سعر في العقبى فقالوا لا بل لو اتبعناه فإنا إذاً في الحال في ضلال وفي سعر من الذل والعبودية مجازاً فإنهم ما كانوا يعترفون بالسعير
المسألة الثالثة السعير في الآخرة واحد فكيف جمع نقول الجواب عنه من وجوه أحدها في جهنم دركات يحتمل أن تكون كل واحدة سعيراً أو فيها سعير ثانيها لدوام العذاب عليهم فإنه كلما نضجت جلودهم يبدلهم جلوداً كأنهم في كل زمان في سعير آخر وعذاب آخر ثالثها لسعة السعير الواحد كأنها سعر يقال للرجل الواحد فلان ليس برجل واحد بل هو رجال
ثم قال تعالى عنهم
أَءُلْقِى َ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
وقد تقدم أن النفي بطريق الاستفهام أبلغ لأن من قال ما أنزل عليه الذكر ربما يعلم أو يظن أو يتوهم أن السامع يكذبه فيه فإذا ذكر بطريق الاستفهام يكون معناه أن السامع يجيبني بقوله ما أنزل فيجعل الأمر حينئذ منفياً ظاهراً لا يخفى على أحد بل(29/45)
كل أحد يقول ما أنزل والذكر الرسالة أو الكتاب إن كان ويحتمل أن يراد به ما يذكره من الله تعالى كما يقال الحق ويراد به ما يحل من الله وفيه مسائل
المسألة الأولى قولهم أألقي بدل أأنزل وفيه إشارة إلى ما كانوا ينكرونه من طريق المبالغة وذلك لأن الإلقاء إنزال بسرعة والنبي كان يقول ( جاءني الوحي مع الملك في لحظة يسيرة ) فكأنهم قالوا الملك جسم والسماء بعيدة فكيف ينزل في لحظة فقالوا أألقي وما قالوا أأنزل وقولهم عليه إنكار آخر كأنهم قالوا ما ألقى ذكر أصلاً قالوا إن ألقى فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء وقولهم أألقى بدل عن قولهم أألقي الله للإشارة إلى أن الإلقاء من السماء غير ممكن فضلاً عن أن يكون من الله تعالى
المسألة الثانية عرفوا الذكر ولم يقولوا أألقى عليه ذكر وذلك لأن الله تعالى حكى إنكارهم لما لا ينبغي أن ينكر فقال أنكروا الذكر الظاهر المبين الذي لا ينبغي أن ينكر فهو كقول القائل أنكروا المعلوم
المسألة الثالثة بَلِ يستدعي أمراً مضروباً عنه سابقاً فما ذاك نقول قولهم أألقى للإنكار فهم قالوا ما ألقى ثم إن قولهم أألقى عليه الذكر لا يقتضي إلا أنه ليس بنبي ثم قالوا بل هو ليس بصادق
المسألة الرابعة الْكَذَّابُ فعال من فاعل للمبالغة أو يقال بل من فاعل كخياط وتمار نقول الأول هو الصحيح الأظهر على أن الثاني من باب الأولى لأن المنسوب إلى الشيء لا بد له من أن يكثر من مزاولة الشيء فإن من خاط يوماً ثوبه مرة لا يقال له خياط إذا عرفت هذا فنقول المبالغة إما في الكثرة وإما في الشدة فالكذاب إما شديد الكذب يقول مالا يقبله العقل أو كثير الكذب ويحتمل أن يكونوا وصفوه به لاعتقادهم الأمرين فيه وقولهم أَشِرٌ إشارة إلى أنه كذب لا لضرورة وحاجة إلى خلاص كما يكذب الضعيف وإنما هو استغنى وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد اتباعكم له فكان كل وصف مانعاً من الاتباع لأن الكاذب لا يلتفت إليه ولا سيما إذا كان كذبه لا لضرورة وقرىء أَشِرٌ فقال المفسرون هذا على الأصل المرفوض في الأشر والأخير على وزن أفعل التفضيل وإنما رفض الأصل فيه لأن أفعل إذا فسر قد يفسر بأفعل أيضاً والثاني بأفعل ثالث مثاله إذا قال ما معنى الأعلم يقال هو الأكثر علماً فإذا قيل الأكثر ماذا فيقال الأزيد عدداً أو شيء مثله فلا بد من أمر يفسر به الأفعل لا بمن بابه فقالوا أفعل التفضيل والفضيلة أصلها الخير والخير أصل في باب أفعل فلا يقال فيه أخير ثم إن الشر في مقابلة الخير يفعل به ما يفعل بالخير فيقال هو شر من كذا وخير من كذا والأشر في مقابلة الأخير ثم إن خيراً يستعمل في موضعين أحدهما مبالغة الخير بفعل أو أفعل على اختلاف يقال هذا خير وهذا أخير ويستعمل في مبالغة خير على المشابهة لا على الأصل فمن يقول أشر يكون قد ترك الأصل المستعمل لأنه أخذ في الأصل المرفوض بمعنى هو شر من غيره وكذا معنى الأعلم أن علمه خير من علم غيره أو هو خير من غرة الجهل كذلك القول في الأضعف وغيره(29/46)
ثم قال تعالى
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الاٌّ شِرُ
فإن قال قائل سيعلم للاستقبال ووقت أنزال القرآن على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا قد علموا لأن بعد الموت تتبين الأمور وقد عاينوا ما عاينوا فكيف القول فيه نقول فيه وجهان أحدهما أن يكون هذا القول مفروض الوقوع في وقت قولهم بل هو كذاب أشر فكأنه تعالى قال يوم قالوا بل هو كذاب أشر سيعلمون غداً وثانيهما أن هذا التهديد بالتعذيب لا بحصول العلم بالعذاب الأليم وهو عذاب جهنم لا عذاب القبر فهم سيعذبون يوم القيامة وهو مستقبل وقوله تعالى غَداً لقرب الزمان في الإمكان والأذهان ثم إن قلنا إن ذلك للتهديد بالتعذيب لا للتكذيب فلا حاجة إلى تفسيره بل يكون ذلك إعادة لقولهم من غير قصد إلى معناه وإن قلنا هو للرد والوعد ببيان انكشاف الأمر فقوله تعالى سَيَعْلَمُونَ غَداً معناه سيعلمون غداً أنهم الكاذبون الذين كذبوا لا لحاجة وضرورة بل بطروا وأشروا لما استغنوا وقوله تعالى غَداً يحتمل أن يكون المراد يوم القيامة ويحتمل أن يكون المراد يوم العذاب وهذا على الوجه الأول
ثم قال تعالى
إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ فِتْنَة ً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ بمعنى الماضي أو بمعنى المستقبل إن كان بمعنى الماضي فكيف يقول فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وإن كان بمعنى المستقبل فما الفرق بين حكاية عاد وحكاية ثمود حيث قال هناك أَنَّا أَرْسَلْنَا ( القمر 19 ) وقال ههنا إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ بمعنى إنا نرسل نقول هو بمعنى المستقبل وما قبله وهو قوله سَيَعْلَمُونَ غَداً يدل عليه فإن قوله إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ كالبيان له كأنه قال سيعلمون حيث نرسل الناقة وما بعده من قوله فَارْتَقِبْهُمْ وَنَبّئْهُمْ ( القمر 28 ) أيضاً يقتضي ذلك فإن قيل قوله تعالى فَنَادَوْاْ ( القمر 29 ) دليل على أن المراد الماضي قلنا سنجيب عنه في موضعه وأما الفارق فنقول حكاية ثمود مستقصاة في هذا الموضع حيث ذكر تكذيب القوم بالنذر وقولهم لرسولهم وتصديق الرسل بقوله يَعْلَمُونَ وذكر المعجزة وهي الناقة وما فعلوه بها والعذاب والهلاك يذكر حكاية على وجه الماضي والمستقبل ليكون وصفه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه حاضرها فيقتدي بصالح في الصبر والدعاء إلى الحق ويثق بربه في النصر على الأعداء بالحق فقال إني مؤيدك بالمعجزة القاطعة واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتم وجه لأن حال صالح كان أكثر مشابهة بحال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أتى بأمر عجيب أرضى كان أعجب مما جاء به الأنبياء لأن عيسى عليه السلام أحيا الميت لكن الميت كان محلاً للحياة فأثبت بإذن الله الحياة في محل كان قابلاً لها وموسى عليه السلام انقلبت عصاه ثعباناً فأثبت الله له في الخشبة الحياة لكن الخشبة نبات كان له قوة في النماء يشبه الحيوان في النمو فهو أعجب وصالح عليه السلام كان الظاهر في يده خروج الناقة من الحجر والحجر جماد لا محل للحياة ولا محل للنمو ( فيه ) والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بأعجب من الكل وهو التصرف في جرم السماء الذي يقول المشرك لا وصول(29/47)
لأحد إلى السماء ولا إمكان لشقه وخرقه وأما الأرضيات فقالوا إنها أجسام مشتركة المواد يقبل كل واحد منها صورة الأخرى والسموات لا تقبل ذلك فلما أتى بما عرفوا فيه أنه لا يقدر على مثله آدمي كان أتم وأبلغ من معجزة صالح عليه السلام التي هي أتم معجزة من معجزات من كان من الأنبياء غير محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( وفيه لطيفة ) وهو أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي وذكر معه مفعوله فالواجب الإضافة تقول وحشي قاتل عم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قلنا قاتل عم النبي بالإعمال فلا بد من تقدير الحكاية في الحال كما في قوله تعالى وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ( الكهف 18 ) على أنه يحكي القصة في حال وقوعها تقول خرجت أمس فإذا زيد ضارب عمراً كما تقول يضرب عمراً وإن كان الضرب قد مضى وإذا كان بمعنى المستقبل فالأحسن الإعمال تقول إني ضارب عمراً غداً فإن قلت إني ضارب عمرو غداً حيث كان الأمر وقع وكان جاز لكنه غير الأحسن والتحقيق فيه أن قولنا ضارب وسارق وقاتل أسماء في الحقيقة غير أن لها دلالة على الفعل فإذا كان الفعل تحقق في الماضي فهو قد عدم حقيقة فلا وجود للفعل في الحقيقة ولا في التوقع فيجب الحمل على ما للاسم من الإضافة وترك ما للفعل من الأعمال لغلبة الإسمية وفقدان الفعل بالماضي وإذا كان الفعل حاضراً أو متوقعاً في الاستقبال فله وجود حقيقة أو في التوقع فتجوز الإضافة لصورة الاسم والإعمال لتوقع الفعل أو لوجوده ولكن الإعمال أولى لأن في الاستقبال لن يضرب يفيد لا يكون ضارباً فلا ينبغي أن يضاف أما الإعمال فهو ينبىء عن توقع الفعل أو وجوده لأنه إذا قال زيد ضارب عمراً فالسامع إذا سمع بضرب عمرو علم أنه يفعل فإذا لم يره في الحال يتوقعه في الاستقبال غير أن الإضافة تفيد تخفيفاً حيث سقط بها التنوين والنون فتختار لفظاً لا معنى إذا عرفت هذا فنقول مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ مع ما فيه من التخفيف فيه تحقيق الأمر وتقديره كأنه وقع وكان بخلاف ما لو قيل إنا نرسل الناقة
المسألة الثانية فِتْنَة ً مفعول له فتكون الفتنة هي المقصودة من الإرسال لكن المقصود منه تصديق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو صالح عليه السلام لأنه معجزة فما التحقيق في تفسيره نقول فيه وجهان أحدهما أن المعجزة فتنة لأن بها يتميز حال من يثاب ممن يعذب لأن الله تعالى بالمعجزة لا يعذب الكفار إلا إذا كان ينبئهم بصدقه من حيث نبوته فالمعجزة ابتلاء لأنها تصديق وبعد التصديق يتميز المصدق عن المكذب وثانيهما وهو أدق أن إخراج الناقة من الصخرة كان معجزة وإرسالها إليهم ودورانها فيما بينهم وقسمة الماء كان فتنة ولهذا قال إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ فِتْنَة ً ولم يقل إنا مخرجوا الناقة فتنة والتحقيق في الفتنة والابتلاء والامتحان قد تقدم مراراً وإليه إشارة خفية وهي أن الله تعالى يهدي من يشاء وللهداية طرق منها ما يكون على وجه يكون للإنسان مدخل فيه بالكسب مثاله يخلق شيئاً دالاً ويقع تفكر الإنسان فيه ونظره إليه على وجه يترجح عنده الحق فيتبعه وتارة يلجئه إليه ابتداء ويصونه عن الخطأ من صغره فإظهار المعجز على يد الرسول أمر يهدي به من يشاء اهتداء مع الكسب وهداية الأنبياء من غير كسب منهم بل يخلق فيهم علوماً غير كسبية فقوله إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَة ِ فِتْنَة ً إشارة إليهم ولهذا قال لهم ومعناه على وجه يصلح لأن يكون فتنة وعلى هذا كل من كانت معجزته أظهر يكون ثواب قومه أقل وقوله تعالى فَارْتَقِبْهُمْ أي فارتقبهم بالعذاب ولم يقل فارتقب العذاب إشارة إلى حسن الأدب والاجتناب عن طلب الشر وقوله تعالى وَاصْطَبِرْ يؤيد ذلك بمعنى إن كانوا يؤذونك فلا تستعجل لهم العذاب ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى قرب الوقت إلى أمرهما والأمر بحيث يعجز عن الصبر(29/48)
ثم قال تعالى
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَة ٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ
أي مقسوم وصف بالمصدر مراداً به المشتق منه كقوله ماء ملح وقوله زور وفيه ضرب من المبالغة يقال للكريم كرم كأنه هو عين الكرم ويقال فلان لطف محض ويحتمل أن تكون القسمة وقعت بينهما لأن الناقة كانت عظيمة وكانت حيوانات القوم تنفر منها ولا ترد الماء وهي على الماء فصعب عليهم ذلك فجعل الماء بينهما يوماً للناقة ويوماً للقوم ويحتمل أن تكون لقلة الماء فشربه يوماً للناقة ويوماً للحيوانات ويحتمل أن يكون الماء كان بينهم قسمة يوم لقوم ويوم لقوم ولما خلق الله الناقة كانت ترد الماء يوم فكان الذين لهم الماء في غير يوم ورودها يقولون الماء كله لنا في هذا اليوم ويومكم كان أمس والناقة ما أخرت شيئاً فلا نمكنكم من الورود أيضاً في هذا اليوم فيكون النقصان وارداً على الكل وكانت الناقة تشرب الماء بأسره وهذا أيضاً ظاهر ومنقول والمشهور هنا الوجه الأوسط ونقول إن قوماً كانوا يكتفون بلبنها يوم ورودها الماء والكل ممكن ولم يرد في شيء خبر متواتر والثالث قطع وهو من القسمة لأنها مثبتة بكتاب الله تعالى أما كيفية القسمة والسبب فلا وقوله تعالى كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ مما يؤيد الوجه الثالث أي كل شرب محتضر للقوم بأسرهم لأنه لو كان ذلك لبيان كون الشرب محتضراً للقوم أو الناقة فهو معلوم لأن الماء ما كان يترك من غير حضور وإن كان لبيان أنه تحضره الناقة يوماً والقوم يوماً فلا دلالة في اللفظ عليه وأما إذا كانت العادة قبل الناقة على أن يرد الماء قوم في يوم وآخرون في يوم آخر ثم لما خلقت الناقة كانت تنقص شرب البعض وتترك شرب الباقين من غير نقصان فقال كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ كم أيها القوم فردوا كل يوم الماء وكل شرب ناقص تقاسموه وكل شرب كامل تقاسموه
فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ
ثم قال تعالى فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ نداء المستغيث كأنهم قالوا يالقدار للقوم كما يقول القائل بالله للمسلمين وصاحبهم قدار وكان أشجع وأهجم على الأمور ويحتمل أن يكون رئيسهم
وقوله تعالى فَتَعَاطَى فَعَقَرَ يحتمل وجوهاً الأول تعاطى آلة العقر فعقر الثاني تعاطى الناقة فعقرها وهو أضعف الثالث التعاطي يطلق ويراد به الإقدام على الفعل العظيم والتحقيق هو أن الفعل العظيم يقدم كل أحد فيه صاحبه ويبرىء نفسه منه فمن يقبله ويقدم عليه يقال تعاطاه كأنه كان فيه تدافع فأخذه هو بعد التدافع الرابع أن القوم جعلوا له على عمله جعلاً فتعاطاه وعقر الناقة
ثم قال تعالى
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ
وقد تقدم بيانه وتفسيره غير أن هذه الآية ذكرها في ثلاثة مواضع ذكرها في حكاية نوح بعد بيان العذاب وذكرها ههنا قبل بيان العذاب وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه وبعد بيانه فحيث ذكر قبل بيان العذاب ذكرها للبيان كما تقول ضربت فلاناً أي ضرب وأيما ضرب وتقول ضربته وكيف ضربته أي قوياً وفي حكاية عاد ذكرها مرتين للبيان والاستفهام وقد ذكرنا السبب فيه ففي حكاية نوح ذكر الذي للتعظيم وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان لأن عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عم العالم ولا كذلك عذاب قوم هود فإنه كان مختصاً بهم(29/49)
ثم قال تعالى
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَة ً وَاحِدَة ً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ
سمعوا صيحة فماتوا وفيه مسائل
المسألة الأولى كان في قوله فَكَانُواْ من أي الأقسام نقول قال النحاة تجيء تارة بمعنى صار وتمسكوا بقول القائل بتيماء قفر والمطي كأنها
قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
بمعنى صارت فقال بعض المفسرين في هذا موضع إنها بمعنى صار والتحقيق أن كان لا تخالف غيرها من الأفعال الماضية اللازمة التي لا تتعدى والذي يقال إن كان تامة وناقصة وزائدة وبمعنى صار فليس ذلك يوجب اختلاف أحوالها اختلافاً يفارق غيرها من الأفعال وذلك لأن كان بمعنى وجد أو حصل أو تحقق غير أن الذي وجد تارة يكون حقيقة الشيء وأخرى صفة من صفاته فإذا قلت كانت الكائنة وكن فيكون جعلت الوجود والحصول للشيء في نفسه فكأنك قلت وجدت الحقيقة الكائنة وكن أي احصل فيوجد في نفسه وإذا قلت كان زيد عالماً أي وجد علم زيد غير أنا نقول في وجد زيد عالماً إن عالماً حال وفي كان زيد عالماً نقول إنه خبر كقولنا حصل زيد عالماً غير أن قولنا وجد زيد عالماً ربما يفهم منه أن الوجود والحصول لزيد في تلك الحال كما تقول قام زيد منتحياً حيث يكون القيامة لزيد في تلك الحال وقولنا كان زيد عالماً ليس معناه كان زيد وفي تلك الحال هو عالم لكن هذا لا يوجب أن كان على خلاف غيره من الأفعال اللازمة التي لها بالحال تعلق شديد لأن من يفهم من قولنا حصل زيد اليوم على أحسن حال ما نفهمه من قولنا خرج زيد اليوم في أحسن زي لا يمنعه مانع من أن يفهم من قولنا كان زيد على أحسن حال مثل ما فهم هناك إذا عرفت هذا فنقول الفعل الماضي يطلق تارة على ما يوجد في الزمان المتصل بالحاضر كقولنا قام زيد في صباه ويطلق تارة على ما يوجد في الزمان الحاضر كقولنا قام زيد فقم وقم فان زيداً قام وكذلك القول في كان ربما يقال كان زيد قائماً عام كذا وربما يقال كان زيد قائماً الآن كما في قام زيد فقوله تعالى فَكَانُواْ فيه استعمال الماضي فيما اتصل بالحال فهو كقولك أرسل عليهم صيحة فماتوا أي متصلاً بتلك الحال نعم لو استعمل في هذا الموضع صار يجوز لكن كان وصار كل واحد بمعنى في نفسه وليس وإنما يلزم حمل كان على صار إذا لم يمكن أن يقال هو كذا كما في البيت حيث لا يمكن أن يقال البيوض فراخ وأما هنا يمكن أن يقال هم كهشيم ولولا الكاف لأمكن أن يقال يجب حمل كان على صار إذا كان المراد أنهم انقلبوا هشيماً كما يقلب الممسوخ وليس المراد ذلك
المسألة الثانية ما الهشيم نقول هو المهشوم أي المكسور وسمي هاشم هاشماً لهشمه الثريد في الجفان غير أن الهشيم استعمل كثيراً في الحطب المتكسر اليابس فقال المفسرون كانوا كالحشيش الذي يخرج من الحظائر بعد البلا بتفتت واستدلوا عليه بقوله تعالى هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ ( الكهف 54 ) وهو من باب إقامة الصفة مقام الموصوف كما يقال رأيت جريحاً ومثله السعير
المسألة الثالثة لماذا شبههم به قلنا يحتمل أن يكون التشبيه بكونهم يابسين كالحشيش بين الموتى الذين ماتوا من زمان وكأنه يقول سمعوا الصيحة فكانوا كأنهم ماتوا من أيام ويحتمل أن يكون لأنهم انضموا بعضهم إلى بعض كما ينضم الرفقاء عند الخوف داخلين بعضهم في بعض فاجتمعوا بعضهم فوق بعض(29/50)
كحطب الحاطب الذي يصفه شيئاً فوق شيء منتظراً حضور من يشتري منه شيئاً فإن الحطاب الذي عنده الحطب الكثير يجعل منه كالحظيرة ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوقيد فهو محقق لقوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) وقوله تعالى فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ( الجن 15 ) وقوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) كذلك ماتوا فصاروا كالحطب الذي لا يكون إلا للإحراق لأن الهشيم لا يصلح للبناء
ثم قال تعالى
وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
والتكرار للتذكار ثم بين حال قوم آخرون وهم قوم لوط فقال
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ
ثم بين عذابهم وإهلاكهم فقال
وفيه مسائل
الأولى الحاصب فاعل من حصب إذا رمى الحصباء وهي اسم الحجارة والمرسل عليهم هو نفس الحجارة قال الله تعالى وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مّن سِجّيلٍ ( الحجر 74 ) وقال تعالى عن الملائكة لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مِن طِينٍ ( الذاريات 33 ) فالمرسل عليهم ليس بحاصب فكيف الجواب عنه نقول الجواب من وجوه الأول أرسلنا عليهم ريحاً حاصباً بالحجارة التي هي الحصباء وكثر استعمال الحاصب في الريح الشديدة فأقام الصفة مقام الموصوف فإن قيل هذا ضعيف من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأن الريح مؤنثة قال تعالى بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَة ٍ ( الحاقة 6 ) بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ ( يونس 22 ) وقال تعالى فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ ( ص 36 ) وقال تعالى غُدُوُّهَا شَهْرٌ ( سبأ 12 ) وقال تعالى في وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ ( الحجر 22 ) وما قال لقاحاً ولا لقحة وأما المعنى فلأن الله تعالى بين أنه أرسل عليهم حجارة من سجيل مسومة عليها علامة كل واحد وهي لا تسمى حصباء وكان ذلك بأيدي الملائكة لا بالريح نقول تأنيث الريح ليس حقيقة ولها أصناف الغالب فيها التذكير كالإعصار قال تعالى فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ ( البقرة 266 ) فلما كان حاصب حجارة كان كالذي فيه نار وأما قوله كان الرمي بالسجيل لا بالحصباء وبأيدي الملائكة لا بالريح فنقول كل ريح يرمي بحجارة يسمى حاصباً وكيف لا والسحاب الذي يأتي بالبرد يسمى حاصباً تشبيهاً للبرد بالحصباء فكيف لا يقال في السجيل وأما الملائكة فإنهم حركوا الريح وهي حصبت الحجارة عليهم الجواب الثاني المراد عذاب حاصب وهذا أقرب لتناوله الملك والحساب والريح وكل ما يفرض الجواب الثالث قوله حَاصِباً هو أقرب من الكل لأن قوله أَنَّا أَرْسَلْنَا يدل على مرسل هو مرسل الحجارة وحاصبها فإن قيل كان ينبغي أن يقول حاصبين نقول لما لم يذكر الموصوف رجح جانب اللفظ كأنه قال شيئاً حاصباً إذ المقصود بيان جنس العذاب لا بيان من على يده العذاب وهذا وارد على من قال الريح مؤنث لأن ترك التأنيث هناك كترك علامة الجمع هنا
المسألة الثانية ما رتب الإرسال على التكذيب بالفاء فلم يقل ( كذبت قوم لوط بالنذر ) فأرسلنا كما(29/51)
قال فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء ( القمر 11 ) لأن الحكاية مسوقة على مساق ما تقدم من الحكايات فكأنه قال فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( القمر 30 ) كما قال من قبل ثم قيل لا علم لنا به وإنماأنت العليم فأخبرنا فقال أَنَّا أَرْسَلْنَا
المسألة الثالثة ما الحكمة في ترك العذاب حيث لم يقل فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى كما قال في الحكايات الثلاث نقول لأن التكرار ثلاث مرات بالغ ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا هل بلغت ثلاثاً ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فنكاحها باطل باطل باطل ) والإذكار تكرر ثلاث مرات فبثلاث مرار حصل التأكيد وقد بينا أنه تعالى ذكر فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى في حكاية نوح للتعظيم وفي حكاية ثمود للبيان وفي حكاية عاد أعادها مرتين للتعظيم والبيان جميعاً واعلم أنه تعالى ذكر فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى في ثلاث حكايات أربع مرات فالمرة الواحدة للإنذار والمرات الثلاث للإذكار لأن المقصود حصل بالمرة الواحدة وقوله تعالى فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( الرحمن 13 ) ذكره مرة للبيان وأعادها ثلاثين مرة غير المرة الأولى كما أعاد فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ثلاث مرات غير المرة الأولى فكان ذكر الآلاء عشرة أمثال ذكر العذاب إشارة إلى الرحمة التي قال في بيانها مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يَجْزِى إِلاَّ مِثْلَهَا ( الأنعام 160 ) وسنبين ذلك في سورة الرحمن
المسألة الرابعة إِلا ءالَ لُوطٍ استثناء مماذا إن كان من الذين قال فيهم إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً ذَلِكَ لايَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ثم قال إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ لكن لم يستثن عند قوله كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ وآله من قومه فيكون آله قد كذبوا ولم يكن كذلك الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الاستثناء ممن عاد إليهم الضمير في عليهم وهم القوم بأسرهم غير أن قوله كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ لا يوجب كون آله مكذبين لأن قول القائل عصى أهل بلدة كذا يصح وإن كان فيها شرذمة قليلة يطيعون فكيف إذا كان فيهم واحد أو اثنان من المطيعين لا غير فإن قيل ماله حاجة إلى الاستثناء لأن قوله إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ يصح وإن نجا منهم طائفة يسيرة نقول الفائدة لما كانت لا تحصل إلا ببيان إهلاك من كذب وإنجاء من آمن فكان ذكر الإنجاء مقصوداً وحيث يكون القليل من الجمع الكثير مقصوداً لا يجوز التعميم والإطلاق من غير بيان حال ذلك المقصود بالاستثناء أو بكلام منفصل مثاله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ ( الحجر 30 31 ) استثنى الواحد لأنه كان مقصوداً وقال تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) ولم يستثن إذ المقصود بيان أنها أوتيت لا بيان أنها ما أوتيت وفي حكاية إبليس كلاهما مراد ليعلم أن من تكبر على آدم عوقب ومن تواضع أثيب كذلك القول ههنا وأما عند التكذيب فكأن المقصود ذكر المكذبين فلم يستثن الجواب الثاني أن الاستثناء من كلام مدلول عليه كأنه قال ( إنا أرسلنا عليهم حاصباً فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط ) وجاز أن يكون الإرسال عليهم والإهلاك يكون عاماً كما في قوله تعالى وَاتَّقُواْ فِتْنَة ً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّة ً ( الأنفال 25 ) فكان الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصوداً ومن لم يكن كذلك كأطفالهم ودوابهم ومساكنهم فما نجا منهم أحد إلا آل لوط فإن قيل إذا لم يكن الاستثناء من قوم لوط بل كان من أمر عام فيجب أن يكون لوط أيضاً مستثنى نقول هو مستثنى عقلاً لأن من المعلوم أنه لا يجوز تركه وإنجاء أتباعه والذي يدل عليه أنه مستثنى قوله تعالى عن الملائكة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ ( العنكبوت 32 ) في جوابهم لإبراهيم عليه السلام حيث قال(29/52)
إِنَّ فِيهَا لُوطاً ( العنكبوت 32 ) فإن قيل قوله في سورة الحجر إِلا ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ ( الحجر 59 ) استثناء من المجرمين وآل لوط لم يكونوا مجرمين فكيف استثنى منهم والجواب مثل ما ذكرنا فأحد الجوابين إنا أرسلنا إلى قوم يصدق عليهم إنهم مجرمون وإن كان فيهم من لم يجرم ثانيهما إلى قوم مجرمين بإهلاك يعم الكل إلا آل لوط وقوله تعالى نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ كلام مستأنف لبيان وقت الإنجاء أو لبيان كيفية الاستثناء لأن آل لوط كان يمكن أن يكونوا فيهم ولا يصيبهم الحاصب كما في عاد كانت الريح تقلع الكافر ولا يصيب المؤمن منها مكروه أو يجعل لهم مدفعاً كما في قوم نوح فقال نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ أي أمرناهم بالخروج من القرية في آخر الليل والسحر قبيل الصبح وقيل هو السدس الأخير من الليل
ثم قال تعالى
نِّعْمَة ً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ
أي ذلك الإنجاء كان فضلاً منا كما أن ذلك الإهلاك كان عدلاً ولو أهلكوا لكان ذلك عدلاً قال تعالى وَاتَّقُواْ فِتْنَة ً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّة ً ( الأنفال 25 ) قال الحكماء العضو الفاسد يقطع ولا بد أن يقطع معه جزء من الصحيح ليحصل استئصال الفساد غير أن الله تعالى قادر على التمييز التام فهو مختار إن شاء أهلك من آمن وكذب ثم يثبت الذين أهلكهم من المصدقين في دار الجزاء وإن شاء أهلك من كذب فقال نعمة من عندنا إشارة إلى ذلك وفي نصبها وجهان أحدهما أنه مفعول له كأنه قال نجيناهم نعمة منا ثانيهما على أنه مصدر لأن الإنجاء منه إنعام فكأنه تعالى قال أنعمنا عليهم بالإنجاء إنعاماً وقوله تعالى كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ فيه وجهان أحدهما ظاهر وعليه أكثر المفسرين وهو أنه من آمن كذلك ننجيه من عذاب الدنيا ولا نهلكه وعداً لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يصونهم عن الإهلاكات العامة والسيئات المطبقة الشاملة وثانيهما وهو الأصح أن ذلك وعد لهم وجزاؤهم بالثواب في دار الآخرة كأنه قال كما نجيناهم في الدنيا أي كما أنعمنا عليهم ننعم عليهم يوم الحساب والذي يؤيد هذا أن النجاة من الإهلاكات في الدنيا ليس بلازم ومن عذاب الله في الآخرة لازم بحكم الوعيد وكذلك ينجي الله الشاكرين من عذاب النار ويذر الظالمين فيه ويدل عليه قوله تعالى مَّن يُرَدُّ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاْخِرَة ِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ ( آل عمران 145 ) وقوله تعالى فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ( المائدة 85 ) والشاكر محسن فعلم أن المراد جزاؤهم في الآخرة
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ
وفيه تبرئة لوط عليه السلام وبيان أنه أتى بما عليه فإنه تعالى لما رتب التعذيب على التكذيب وكان من الرحمة أن يؤخره ويقدم عليه الإنذارات البالغة بين ذلك فقال أهلكناهم وكان قد أنذرهم من قبل وفي قوله بَطْشَتَنَا وجهان أحدهما المراد البطشة التي وقعت وكان يخوفهم بها ويدل عليه قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً ( القمر 34 ) فكأنه قال إنا أرسلنا عليهم ما سبق ذكرها للإندار بها والتخويف وثانيهما المراد بها ما في الآخرة كما في قوله تعالى يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَة َ الْكُبْرَى ( الدخان 16 ) وذلك لأن الرسل كلهم كانوا ينذرون قومهم بعذاب الآخرة كما قال تعالى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ( الليل 14 ) وقال وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاْزِفَة ِ ( غافر 18 ) وقال تعالى إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ( النبأ 40 ) إلى غير(29/53)
ذلك وعلى ذلك ففيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ ( البروج 12 ) وقال ههنا بَطْشَتَنَا ولم يقل بطشنا وذلك لأن قوله تعالى إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ بيان لجنس بطشه فإذا كان جنسه شديداً فكيف الكبرى منه وأما لوط عليه السلام فذكر لهم البطشة الكبرى لئلا يكون مقصراً في التبليغ وقوله تعالى فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ يدل على أن النذر هي الإنذارات
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ
والمراودة من الرود ومنه الإرادة وهي قريبة من المطالبة غير أن المطالبة تستعمل في العين يقال طالب زيد عمراً بالدراهم والمراودة لا تستعمل إلا في العمل يقال راوده عن المساعدة ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثان بعن والمطالبة بالباء وذلك لأن الشغل منوط باختيار الفاعل والعين قد توجد من غير اختيار منه وهذا فرق الحال فإذا قلت أخبرني بأمره تعين عليه الخبر العين بخلاف ما إذا قيل عن كذا ويزيد هذا ظهوراً قول القائل أخبرني زيد عن مجيء فلان وقوله أخبرني بمجيئه فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه وأخبرني بمجيئه لا يكون إلا عن نفس المجيء والضيف يقع على الواحد والجماعة وقد ذكرناه في سورة الذاريات وكيفية المراودة مذكورة فيما تقدم وهي أنهم كانوا مفسدين وسمعوا يضيف دخلوا على لوط فراودوه عنهم وقوله فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ نقول إن جبريل كان فيهم فضرب ببعض جناحه على وجوههم فأعماهم وفي الآية مسائل
الأولى الضمير في راودوه إن كان عائداً إلى قوم لوط فما في قوله أَعْيُنَهُمْ أيضاً عائداً إليهم فيكون قد طمس أعين قوم ولم يطمس إلا أعين قليل منهم وهم الذين دخلوا دار لوط وإن كان عائداً إلى الذين دخلوا الدار فلا ذكر لهم فكيف القول فيه نقول المراودة حقيقة حصلت من جمع منهم لكن لما كان الأمر من القوم وكان غيرهم ذلك مذهبه أسندها إلى الكل ثم بقوله راودوه حصل قوم هم المراودون حقيقة فعاد الضمير في أعينهم إليهم مثاله قول القائل الذين آمنوا صلوا فصحت صلاتهم فيكون هم في صلاتهم عائداً إلى الذين صلوا بعدما آمنوا ولا يعود إلى مجرد الذين آمنوا لأنك لو اقتصرت على الذين آمنوا فصحت صلاتهم لم يكن كلاماً منظوماً ولو قلت الذين صلوا فصحت صلاتهم صح الكلام فعلم أن الضمير عائد إلى ما حصل بعد قوله رَاوَدُوهُ والضمير في راودوه عائد إلى المنذرين المتمارين بالنذر
المسألة الثانية قال ههنا فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ( يس 66 ) وقال في ي س وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فما الفرق نقول هذا مما يؤيد قول ابن عباس فإنه نقل عنه أنه قال المراد من الطمس الحجب عن الإدراك فما جعل على بصرهم شيء غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئاً فكانوا كالمطموسين وفي ي س أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة أي ألزق أحد الجفنين بالآخر فيكون على العين جلدة فيكون قد طمس عليها وقال غيره إنهم عموا وصارت عينهم مع وجههم كالصفحة الواحدة ويؤيده قوله تعالى فَذُوقُواْ عَذَابِى لأنهم إن بقوا مصرين ولم يروا شيئاً هناك لا يكون ذلك عذاباً والطمس بالمعنى الذي قاله غير ابن عباس عذاب فنقول الأولى أن يقال إنه تعالى حكى ههنا ما وقع وهو طمس العين وإذهاب ضوئها وصورتها(29/54)
بالكلية حتى صارت وجوههم كالصفحة الملساء ولم يمكنهم الإنكار لأنه أمر وقع وأما هناك فقد خوفهم بالممكن المقدور عليه فاختار ما يصدقه كل أحد ويعرف به وهو الطمس على العين لأن إطباق الجفن على العين أمر كثير الوقوع وهو بقدرة الله تعالى وإرادته فقال وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ وما شققنا جفنهم عن عينهم وهو أمر ظاهر الإمكان كثير الوقوع والطمس على ما وقع لقوم لوط نادر فقال هناك على أعينهم ليكون أقرب إلى القبول
المسألة الثالثة قوله تعالى فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ خطاب ممن وقع ومع من وقع قلنا فيه وجوه أحدها فيه إضمار تقديره فقلت على لسان الملائكة ذوقوا عذابي ثانيها هذا خطاب مع كل مكذب تقديره كنتم تكذبون فذوقوا عذابي فإنهم لما كذبوا ذاقوه ثالثها أن هذا الكلام خرج مخرج كلام الناس فإن الواحد من الملوك إذا أمر بضرب مجرم وهو شديد الغضب فإذا ضرب ضرباً مبرحاً وهو يصرح والملك يسمع صراخه يقول عند سماع صراخه ذق إنك مجرم مستأهل ويعلم الملك أن المعذب لا يسمع كلامه ويخاطب بكلامه المستغيث الصارخ وهذا كثير فكذلك لما كان كل أحد بمرأى من الله تعالى يسمع إذا عذب معانداً كان قد سخط الله عليه يقول ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) فَذُوقُواْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا ( السجدة 14 ) فَذُوقُواْ عَذَابِى ولا يكون به مخاطباً لمن يسمع ويجيب وذلك إظهار العدل أي لست بغافل عن تعذيبك فتتخلص بالصراخ والضراعة وإنما أنا بك عالم وأنت له أهل لما قد صدر منك فإن قيل هذا وقع بغير الفاء وأما بالفاء فلا تقول وبالفاء فإنه ربما يقول كنتم تكذبون فذوقوا
المسألة الرابعة النذر كيف يذاق نقول معناه ذق فعلك أي مجازاة فعلك وموجبه ويقال ذق الألم على فعلك وقوله فَذُوقُواْ عَذَابِى كقولهم ذق الألم وقوله وَنُذُرِ كقولهم ذق فعلك أي ذق ما لزم من إنذاري فإن قيل فعلى هذا لا يصح العطف لأن قوله فَذُوقُواْ عَذَابِى وما لزم من إنذاري وهو العذاب يكون كقول القائل ذوقوا عذابي وعذابي نقول قوله تعالى فَذُوقُواْ عَذَابِى أي العاجل منه وما لزم من إنذاري وهو العذاب الآجل لأن الإنذار كان به على ما تقدم بيانه فكأنه قال ذوقوا عذابي العاجل وعذابي الآجل فإن قيل هما لم يكونا في زمان واحد فكيف يقال ذوقوا نقول العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 )
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَة ً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ
أي العذاب الذي عم القوم بعد الخاص الذي طمس أعين البعض وفيه مسائل
المسألة الأولى صَبَّحَهُم فيه دلالة على الصبح فما معنى بُكْرَة ً نقول فائدته تبيين انطراقه فيه فقوله بُكْرَة ً يحتمل وجهين أحدهما أنها منصوبة على أنها ظرف ومثله نقوله في قوله تعالى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) وفيه بحث وهو أن الزمخشري قال ما الفائدة في قوله لَيْلاً وقال جواباً في التنكير دلالة على أنه كان في بعض الليل وتمسك بقراءة من قرأ مِّنَ الَّيْلِ وهو غير ظاهر والأظهر فيه أن يقال بأن الوقت المبهم يذكر لبيان أن تعيين الوقت ليس بمقصود المتكلم وأنه لا يريد بيانه كما يقول(29/55)
خرجنا في بعض الأوقات مع أن الخروج لا بد من أن يكون في بعض الأوقات فإنه لا يريد بيان الوقت المعين ولو قال خرجنا فربما يقول السامع متى خرجتم فإذا قال في بعض الأوقات أشار إلى أن غرضه بيان الخروج لا تعيين وقته فكذلك قوله تعالى صَبَّحَهُم بُكْرَة ً أي بكرة من البكر و أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً أي ليلاً من الليالي فلا أبينه فإن المقصود نفس الإسراء ولو قال أسرى بعبده من المسجد الحرام لكان للسامع أن يقول أيما ليلة فإذا قال ليلة من الليالي قطع سؤاله وصار كأنه قال لا أبينه وإن كان القائل ممن يجوز عليه الجهل فإنه يقول لا أعلم الوقت فهذا أقرب فإذا علمت هذا في أسرى ليلاً فاعلم مثله في صَبَّحَهُم بُكْرَة ً ويحتمل أن يقال على هذا الوجه صَبَّحَهُم بمعنى قال لهم عموا صباحاً استهزاء بهم كما قال فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) فكأنه قال جاءهم العذاب بكرة كالمصبح والأول أصح ويحتمل في قوله تعالى صَبَّحَهُم بُكْرَة ً على قولنا إنها منصوبة على الظرف مالا يحتمله قوله تعالى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً وهو أن صَبَّحَهُم معناه أتاهم وقت الصبح لكن التصبيح يطلق على الإتيان في أزمنة كثيرة من أول الصبح إلى ما بعد الإسفار فإذا قال بُكْرَة ً أفاد أنه كان أول جزء منه وما أخر إلى الإسفار وهذا أوجه وأليق لأن الله تعالى أوعدهم به وقت الصبح بقوله إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ( هود 81 ) وكان من الواجب بحكم الإخبار تحققه بمجيء العذاب في أول الصبح ومجرد قراءة صَبَّحَهُم ما كان يفيد ذلك وهذا أقوى لأنك تقول صبيحة أمس بكرة واليوم بكرة فيأتي فيه ما ذكرنا من أن المراد بكرة من البكر الوجه الثاني أنها منصوبة على المصدر من باب ضربته سوطاً ضرباً فإن المنصوب في ضربته ضرباً على المصدر وقد يكون غير المصدر كما في ضربته سوطاً ضرباً لا يقال ضرباً سوطاً بين أحد أنواع الضرب لأن الضرب قد يكون بسوط وقد يكون بغيره وأما بُكْرَة ً فلا يبين ذلك لأنا نقول قد بينا أن بكرة بين ذلك لأن الصبح قد يكون بالإتيان وقت الإسفار وقد يكون بالإتيان بالأبكار فإن قيل مثله يمكن أن يقال في أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً قلنا نعم فإن قيل ليس هناك بيان نوع من أنواع الإسراء نقول هو كقول القائل ضربته شيئاً فإن شيئاً لا بد منه في كل ضرب ويصح ذلك على أنه نصب على المصدر وفائدته ما ذكرنا من بيان عدم تعلق الغرض بأنواعه وكأن القائل يقول إني لا أبين ما ضربته به ولا أحتاج إلى بيانه لعدم تعلق المقصود به ليقطع سؤال السائل بماذا ضربه بسوط أو بعصا فكذلك القول في أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً يقطع سؤال السائل عن الإسراء لأن الإسراء هو السير أول الليل والسرى هو السير آخر الليل أو غير ذلك
المسألة الثانية مُّسْتَقِرٌّ يحتمل وجوهاً أحدها عذاب لا مدفع له أي يستقر عليهم ويثبت ولا يقدر أحد على إزالته ورفعه أو إحالته ودفعه ثانيها دائم فإنهم لما أهلكوا نقلوا إلى الجحيم فكأن ما أتاهم عذاب لا يندفع بموتهم فإن الموت يخلص من الألم الذي يجده المضروب من الضرب والمحبوس من الحبس وموتهم ما خلصهم ثالثها عذاب مستقر عليهم لا يتعدى غيرهم أي هو أمر قد قدره الله عليهم وقرره فاستقر وليس كما يقال إنه أمر أصابهم اتفاقاً كالبرد الذي يضر زرع قوم دون قوم ويظن به أنه أمر اتفاقي وليس لو خرجوا من أماكنهم لنجوا كما نجا آل لوط بل كان ذلك يتبعهم لأنه كان أمراً قد استقر
المسألة الثالثة الضمير في صَبَّحَهُم عائد إلى الذين عاد إليهم الضمير في أعينهم فيعود لفظاً إليهم للقرب ومعنى إلى الذين تماروا بالنذر أو الذين عاد إليهم الضمير في قوله وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا ( القمر 36 )(29/56)
ثم قال تعالى
فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ
مرة أخرى لأن العذاب كان مرتين أحدهما خاص بالمراودين والآخر عام
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ
قد فسرناه مراراً وبينا ما لأجله تكراراً
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في لفظ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ بدل قوم فرعون نقول القوم أعم من الآل فالقوم كل من يقوم الرئيس بأمرهم أو يقومون بأمره والآل كل من يؤول إلى الرئيس خيرهم وشرهم أو يؤول إليهم خيره وشره فالبعيد الذي لا يعرفه الرئيس ولا يعرف هو عين الرئيس وإنما يسمع اسمه فليس هو بآله إذا عرفت الفرق نقول قوم الأنبياء الذين هم غير موسى عليهم السلام لم يكن فيهم قاهر يقهر الكل ويجمعهم على كلمة واحدة وإنما كانوا هم رؤساء وأتباعاً والرؤساء إذا كثروا لا يبقى لأحد منهم حكم نافذ على أحد أما على من هو مثله فظاهر وأما على الأراذل فلأنهم يلجئون إلى واحد منهم ويدفعون به الآخر فيصير كل واحد برأسه فكأن الإرسال إليهم جميعاً وأما فرعون فكان قاهراً يقهر الكل وجعلهم بحيث لا يخالفونه في قليل ولا كثير فأرسل الله إليه الرسول وحده غير أنه كان عنده جماعة من التابعين المقربين مثل قارون تقدم عنده لماله العظيم وهامان لدهائه فاعتبرهم الله في الإرسال حيث قال في مواضع وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ ( الزخرف 46 ) وقال تعالى ثُمَّ بَعَثْنَا مِن وَهَامَانَ وَقَشرُونَ ( غافر 23 24 ) وقال في العنكبوت وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُّوسَى ( العنكبوت 39 ) لأنهم إن آمنوا آمن الكل بخلاف الأقوام الذين كانوا قبلهم وبعدهم فقال وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وقال كثيراً مثل هذا كما في قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 ) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ( غافر 28 ) وقال بلفظ الملأ أيضاً كثيراً
المسألة الثانية قال وَلَقَدْ جَاء ولم يقل في غيرهم جاء لأن موسى عليه السلام ما جاءهم كما جاء المرسلون أقوامهم بل جاءهم حقيقة حيث كان غائباً عن القوم فقدم عليهم ولهذا قال تعالى فَلَمَّا جَآء ءالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ وقوله تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) حقيقة أيضاً لأنه جاءهم من الله من السموات بعد المعراج كما جاء موسى قومه من الطور حقيقة
المسألة الثالثة النذر إن كان المراد منها الإنذارات وهو الظاهر فالكلام الذي جاءهم على لسان موسى ويده تلك وإن كان المراد الرسل فهو لأن موسى وهرون عليهما السلام جاءه وكل مرسل تقدمهما جاء لأنهم كلهم قالوا ما قالا من التوحيد وعبادة الله وقوله بعد ذلك كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا من غير فاء تقتضي ترتب التكذيب على المجيء فيه وجهان أحدهما أن الكلام تم عند قوله وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وقوله كَذَّبُواْ كلام مستأنف والضمير عائد إلى كل من تقدم ذكرهم من قوم نوح إلى آل فرعون ثانيهما أن الحكاية مسوقة(29/57)
على سياق ما تقدم فكأنه قال ( فكيف كان عذابي ونذر وقد كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم ) وعلى الوجه الأول آياتنا كلها ظاهرة وعلى الوجه الثاني المراد آياته التي كانت مع موسى عليه السلام وهي التسع في قول أكثر المفسرين ويحتمل أن يقال المراد أنهم كذبوا بآيات الله كلها السمعية والعقلية فإن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد وقوله تعالى فَأَخَذْنَاهُمْ إشارة إلى أنهم كانوا كالآبقين أو إلى أنهم عاصون يقال أخذ الأمير فلاناً إذا حبسه وفي قوله عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ لطيفة وهي أن العزيز المراد منه الغالب لكن العزيز قد يكون ( الذي ) يغلب على العدو ويظفر به وفي الأول يكون غير متمكن من أخذه لبعده إن كان هارباً ولمنعته إن كان محارباً فقال أحد غالب لم يكن عاجزاً وإنما كان ممهلاً
ثم قال تعالى
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَة ٌ فِى الزُّبُرِ
تنبيهاً لهم لئلا يأمنوا العذاب فإنهم ليسوا بخير من أولئك الذين أهلكوا وفيه مسائل
المسألة الأولى الخطاب مع أهل مكة فينبغي أن يكون كفارهم بعضهم وإلا لقال أنتم خير من أولئكم وإذا كان كفارهم بعضهم فكيف قال أَمْ لَكُم بَرَاءة ٌ ولم يقل أم لهم كما يقول القائل جاءنا الكرماء فأكرمناهم ولا يقول فأكرمناكم نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن المراد منه أكفاركم المستمرون على الكفر الذين لا يرجعون وذلك لأن جمعاً عظيماً ممن كان كافراً من أهل مكة يوم الخطاب أيقنوا بوقوع ذلك والعذاب لا يقع إلا بعد العلم بأنه لم يبق من القوم من يؤمن فقال الذين يصرون منكم على الكفر يا أهل مكة خير أم الذين أصروا من قبل فيصح كون التهديد مع بعضهم وأما قوله تعالى أَمْ لَكُم بَرَاءة ٌ ففيه وجهان أحدهما أم لكم لعمومكم براءة فلا يخاف المصر منكم لكونه في قوم لهم براءة وثانيهما أم لكم براءة إن أصررتم فيكون الخطاب عاماً والتهديد كذلك فالشرط غير مذكور وهو الإصرار
المسألة الثانية ما المراد بقوله خَيْرٌ وقول القائل خير يقتضي اشتراك أمرين في صفة محمودة مع رجحان أحدهما على الآخر ولم يكن فيهم خير ولا صفة محمودة نقول الجواب عنه من وجوه أحدها منع اقتضاء الاشتراك يدل عليه قول حسان أنتهجوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
مع اختصاص الخير بالنبي عليه السلام والشر بمن هجاه وعدم اشتراكهما في شيء منهما ثانيها أن ذلك عائد إلى ما في زعمهم أي أيزعم كفاركم أنهم خير من الكفار المتقدمين الذين أهلكوا وهم كانوا يزعمون في أنفسهم الخير وكذا فيمن تقدمهم من عبدة الأوثان ومكذبي الرسل وكانوا يقولون إن الهلاك كان بأسباب سماوية من اجتماع الكواكب على هيئة مذمومة ثالثها المراد أكفاركم أشد قوة فكأنه قال أكفاركم خير في القوة والقوة محمودة في العرف رابعها أن كل موجود ممكن ففيه صفات محمودة وأخرى غير محمودة فإذا نظرت إلى المحمودة في الموضعين وقابلت إحداهما بالأخرى تستعمل فيها لفظ الخير وكذلك في الصفات المذمومة تستعمل فيها لفظ الشر فإذا نظرت إلى كافرين وقلت أحدهما خير من الآخر فلك حينئذ أن تريد أحدهما خير من الآخر في الحسن والجمال وإذا نظرت إلى مؤمنين يؤذيانك قلت(29/58)
أحدهما شر من الآخر أي في الأذية لا الإيمان فكذلك ههنا أكفاركم خير لأن النظر وقع على ما يصلح مخلصاً لهم من العذاب فهو كما يقال أكفاركم فيهم شيء مما يخلصهم لم يكن في غيرهم فهم خير أم لا شيء فيهم يخلصهم لكن الله بفضله أمنهم لا بخصال فيهم
المسألة الثالثة أَمْ لَكُم بَرَاءة ٌ إشارة إلى سبب آخر من أسباب الخلاص وذلك لأن الخلاص إما أن يكون بسبب أمر فيهم أو لا يكون كذلك فإن كان بسبب أمر فيهم وذلك السبب لم يكن في غيرهم من الذين تقدموهم فيكونون خيراً منهم وإن كان لا بسبب أمر فيهم فيكون بفضل الله ومسامحته إياهم وإيمانه إياهم من العذاب فقال لهم أنتم خير منهم فلا تهلكون أم لستم بخير منهم لكن الله آمنكم وأهلكهم وكل واحد منهما منتف فلا تأمنوا وقوله تعالى أَمْ لَكُم بَرَاءة ٌ فِى الزُّبُرِ إشارة إلى لطيفة وهي أن العاقل لا يأمن إلا إذا حصل له الجزم بالأمن أو صار له آيات تقرب الأمر من القطع فقال لكم براءة يوثق بها وتكون متكررة في الكتب فإن الحاصل في بعض الكتب ربما يحتمل التأويل أو يكون قد تطرق إليه التحريف والتبديل كما في التوراة والإنجيل فقال هل حصل لكم براءة متكررة في كتب تأمنون بسببها العذاب فإن لم يكن كذلك لا يجوز الأمن لكن البراءة لم تحصل في كتب ولا كتاب واحد ولا شبه كتاب فيكون أمنهم من غاية الغفلة وعند هذا تبين فضل المؤمن فإنه مع ما في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من الوعد لا يأمن وإن بلغ درجة الأولياء والأنبياء لما في آيات الوعيد من احتمال التخصيص وكون كل واحد ممن يستثنى من الأمة ويخرج عنها فالمؤمن خائف والكافر آمن في الدنيا وفي الآخرة الأمر على العكس
ثم قال تعالى
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ
تتميماً لبيان أقسام الخلاص وحصره فيها وذلك لأن الخلاص إما أن يكون لاستحقاق من يخلص عن العذاب كما أن الملك إذا عذب جماعة ورأى فيهم من أحسن إليه فلا يعذبه وإما أن يكون لأمر في المخلص كما إذا رأى فيهم من له ولد صغير أو أم ضعيفة فيرحمه وإن لم يستحق ويكتب له الخلاص وإما أن لا يكون فيه ما يستحق الخلاص بسببه ولا في نفس المعذب مما يوجب الرحمة لكنه لا يقدر عليه بسبب كثرة أعوانه وتعصب إخوانه كما إذا هرب واحد من الملك والتجأ إلى عسكر يمنعون الملك عنه فكما نفى القسمين الأولين كذلك نفى القسم الثالث وهو التمتع بالأعوان وتحزب الإخوان وفيه مسائل
المسألة الأولى في حسن الترتيب وذلك لأن المستحق لذاته أقرب إلى الخلاص من المرحوم فإن المستحق لم يوجد فيه سبب العذاب والمرحوم وجد فيه ذلك ووجد المانع من العذاب وما لا سبب له لا يتحقق أصلاً وماله مانع ربما لا يقوى المانع على دفع السبب وما في نفس المعذب من المانع أقوى من الذي بسبب الغير لأن الذي من عنده يمنع الداعية ولا يتحقق الفعل عند عدم الداعية والذي من الغير بسبب التمتع لا يقطع قصده بل يجتهد وربما يغلب فيكون تعذيبه أضعاف ما كان من قبل بخلاف من يرق له قلبه وتمنعه الرحمة فإنها وإن لم تمنعه لكن لا يزيد في حمله وحبسه وزيادته في التعذيب عند القدرة فهذا ترتيب في غاية الحسن(29/59)
المسألة الثانية جَمِيعٌ فيه فائدتان إحداهما الكثرة والأخرى الاتفاق كأنه قال نحن كثير متفقون فلنا الانتصار ولا يقوم غير هذه اللفظة مقامها من الألفاظ المفردة إنما قلنا إن فيه فائدتين لأن الجمع يدل على الجماعة بحروفه الأصلية من ج م ع وبوزنه وهو فعيل بمعنى مفعول على أنهم جمعوا جمعيتهم العصبية ويحتمل أن يقال معناه نحن الكل لا خارج عنا إشارة إلى أن من اتبع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا اعتداد به قال تعالى في نوح أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( الشعراء 111 ) إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى ( هود 27 ) وعلى هذا جَمِيعٌ يكون التنوين فيه لقطع الإضافة كأنهم قالوا نحن جمع الناس
المسألة الثالثة ما وجه إفراد المنتصر مع أن نحن ضمير الجمع نقول على الوجه الأول ظاهر لأنه وصف الجزء الآخر الواقع خبراً فهو كقول القائل أنتم جنس منتصر وهم عسكر غالب والجميع كالجنس لفظه لفظ واحد ومعناه جمع فيه الكثرة وأما على الوجه الثاني فالجواب عنه من وجهين أحدهما أن المعنى وإن كان جميع الناس لا خارج عنهم إلا من لا يعتد به لكن لما قطع ونون صار كالمنكر في الأصل فجاز وصفه بالمنكر نظراً إلى اللفظ فعاد إلى الوجه الأول وثانيهما أنه خبر بعد خبر ويجوز أن يكون أحد الخبرين معرفة والآخرين نكرة قال تعالى وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ ( البروج 14 16 ) وعلى هذا فقوله نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ أفرده لمجاورته جَمِيعٌ ويحتمل أن يقال معنى نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ أن جميعاً بمعنى كل واحد كأنه قال نحن كل واحد منا منتصر كما تقول هم جميعهم أقوياء بمعنى أن كل واحد منهم قوي وهم كلهم علماء أي كل واحد عالم فترك الجمع واختار الإفراد لعود الخبر إلى كل واحد فإنهم كانوا يقولون كل واحد منا يغلب محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال أبي بن خلف الجمحي وهذا فيه معنى لطيف وهو أنهم ادعوا أن كل واحد غالب والله رد عليهم بأجمعهم بقوله
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
وهو أنهم ادعوا القوة العامة بحيث يغلب كل واحد منهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والله تعالى بين ضعفهم الظاهر الذي يعمهم جميعهم بقوله وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وحينئذ يظهر سؤال وهو أنه قال يُوَلُّونَ الدُّبُرَ ولم يقل يولون الأدبار وقال في موضع آخر يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( آل عمران 111 ) وقال وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَارَ ( الأحزاب 15 ) وقال في موضع آخر فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ فكيف تصحيح الإفراد وما الفرق بين المواضع نقول أما التصحيح فظاهر لأن قول القائل فعلوا كقوله فعل هذا وفعل ذاك وفعل الآخر قالوا وفي الجمع تنوب مناب الواوات التي في العطف وقوله يُوَلُّونَ بمثابة يول هذا الدبر ويول ذاك ويول الآخر أي كل واحد يولي دبره وأما الفرق فنقول اقتضاء أواخر الآيات حسن الإفراد فقوله يُوَلُّونَ الدُّبُرَ إفراده إشارة إلى أنهم في التولية كنفس واحدة فلا يتخلف أحد عن الجمع ولا يثبت أحد للزحف فهم كانوا في التولية كدبر واحد وأما في قوله فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ أي كل واحد يوجد به ينبغي أن يثبت ولا يولي دبره فليس المنهي هناك توليتهم بأجمعهم بل المنهي أن يولي واحد منهم دبره فكل أحد منهي عن تولية دبره فجعل كل واحد برأسه في الخطاب ثم جمع الفعل بقوله فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ولا يتم إلا بقوله الادْبَارَ وكذلك في قوله وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ ( لأحزاب 15 ) أي كل واحد قال أنا أثبت ولا أولي دبري وأما في قوله لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ( الحشر 12 )(29/60)
فإن المراد المنافقون الذين وعدوا اليهود وهم متفرقون بدليل قوله تعالى تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ( الحشر 14 ) وأما في هذا الموضع فهم كانوا يداً واحدة على من سواهم
ثم قال تعالى
بَلِ السَّاعَة ُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَة ُ أَدْهَى وَأَمَرُّ
إشارة إلى أن الأمر غير مقتصر على انهزامهم وإدبارهم بل الأمر أعظم منه فإن الساعة موعدهم فإنه ذكر ما يصيبهم في الدنيا من الدبر ثم بين ما هو منه على طريقة الإصرار هذا قول أكثر المفسرين والظاهر أن الإنذار بالساعة عام لكل من تقدم كأنه قال أهلكنا الذين كفروا من قبلك وأصروا وقوم محمد عليه السلام ليسوا بخير منهم فيصيبهم ما أصابهم إن أصروا ثم إن عذاب الدنيا ليس لإتمام المجازاة فإتمام المجازاة بالأليم الدائم وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الحكمة في كون اختصاص الساعة موعدهم مع أنها موعد كل أحد نقول الموعد الزمان الذي فيه الوعد والوعيد والمؤمن موعود بالخير ومأمور بالصبر فلا يقول هو متى يكون بل يفوض الأمر إلى الله وأما الكافر فغير مصدق فيقول متى يكون العذاب فيقال له اصبر فإنه آت يوم القيامة ولهذا كانوا يقولون عَجّل لَّنَا قِطَّنَا ( ص 16 ) وقال وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ( الحج 47 )
المسألة الثانية أدهى من أي شيء نقول يحتمل وجهين أحدهما ما مضى من أنواع عذاب الدنيا ثانيهما أدهى الدواهي فلا داهية مثلها
المسألة الثالثة ما المراد من قوله وَأَمَرُّ قلنا فيه وجهان أحدهما هو مبالغة من المر وهو مناسب لقوله تعالى فَذُوقُواْ عَذَابِى ( القمر 37 ) وقوله ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ( القمر 48 ) وعلى هذا فأدهى أي أشد وأمر أي آلم والفرق بين الشديد والأليم أن الشديد يكون إشارة إلى أنه لا يطيقه أحد لقوته ولا يدفعه أحد بقوته مثاله ضعيف ألقى في ماء يغلبه أو نار لا يقدر على الخلاص منها وقوي ألقي في بحر أو نار عظيمة يستويان في الألم ويتساويان في الإيلام لكن يفترقان في الشدة فإن نجاة الضعيف من الماء الضعيف بإعانة معين ممكن ونجاة القوي من البحر العظيم غير ممكن ثانيهما أمر مبالغة في المار إذ هي أكثر مروراً بهم إشارة إلى الدوام فكأنه يقول أشد وأدوم وهذا مختص بعذاب الآخرة فإن عذاب الدنيا إن اشتد قتل المعذب وزال فلا يدوم وإن دام بحيث لا يقتل فلا يكون شديداً ثالثها أنه المرير وهو من المرة التي هي الشدة وعلى هذا فإما أن يكون الكلام كما يقول القائل فلان نحيف نحيل وقوي شديد فيأتي بلفظين مترادفين إشارة إلى التأكيد وهو ضعيف وإما أن يكون أدهى مبالغة من الداهية التي هي اسم الفاعل من دهاه أمر كذا إذا أصابه وهو أمر صعب لأن الداهية صارت كالاسم الموضوع للشديد على وزن الباطية والسائبة التي لا تكون من أسماء الفاعلين وإن كانت الداهية أصلها ذلك غير أنها استعملت استعمال الأسماء وكتبت في أبوابها وعلى هذا يكون معناه ألزم وأضيق أي هي بحيث لا تدفع
ثم قال تعالى
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ
وفي الآية مسائل(29/61)
الأولى فيمن نزلت الآية في حقهم أكثر المفسرين اتفقوا على أنها نازلة في القدرية روى الواحدي في تفسيره قال سمعت الشيخ رضي الدين المؤيد الطوسي بنيسابور قال سمعت عبد الجبار قال أخبرنا الواحدي قال أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج قال أخبرنا أبو محمد عبد الله الكعبي قال حدثنا حمدان بن صالح الأشج حدثنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبي داود حدثنا سفيان الثوري عن زياد بن إسماعيل المخزومي عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة قال جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في القدر فأنزل الله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ إلى قوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) وكذلك نقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن هذه الآية نزلت في القدرية وروي عن عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( مجوس هذه الأمة القدرية ) وهم المجرمون الذين سماهم الله تعالى في قوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ وكثرت الأحاديث في القدرية وفيها مباحث الأول في معنى القدرية الذين قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نزلت الآية فيهم فنقول كل فريق في خلق الأعمال يذهب إلى أن القدري خصمه فالجبري يقول القدري من يقول الطاعة والمعصية ليستا بخلق الله وقضائه وقدره فهم قدرية لأنهم ينكرون القدر والمعتزلي يقول القدري هو الجبري الذي يقول حين يزني ويسرق الله قدرني فهو قدري لإثباته القدر وهما جميعاً يقولان لأهل السنة الذي يعترف بخلق الله وليس من العبد إنه قدري والحق أن القدري الذي نزلت فيه الآية هو الذي ينكر القدر ويقول بأن الحوادث كلها حادثة بالكواكب واتصالاتها ويدل عليه قوله جاء مشركو قريش يحاجون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في القدر فإن مذهبهم ذلك وما كانوا يقولون مثل ما يقول المعتزلة إن الله خلق لي سلامة الأعضاء وقوة الإدراك ومكنني من الطاعة والمعصية والله قادر على أن يخلق في الطاعة إلجاء والمعصية إلجاء وقادر على أن يطعم الفقير الذي أطعمه أنا بفضل الله والمشركون كانوا يقولون أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ ( يس 47 ) منكرين لقدرة الله تعالى على الإطعام وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مجوس هذه الأمة هم القدرية ) فنقول المراد من هذه الأمة إما الأمة التي كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مرسلاً إليهم سواء آمنوا به أو لم يؤمنوا كلفظ القوم وإما أمته الذين آمنوا به فإن كان المراد الأول فالقدرية في زمانه هم المشركون الذين أنكروا قدرة الله على الحوادث فلا يدخل فيهم المعتزلة وإن كان المراد هو الثاني فقوله ( مجوس هذه الأمة ) يكون معناه الذين نسبتهم إلى هذه الأمة كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة لكن الأمة المتقدمة أكثرهم كفرة والمجوس نوع منهم أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل فكذلك القدرية في هذه الأمة تكون نوعاً منهم أضعف دليلاً ولا يقتضي ذلك الجزم بكونهم في النار فالحق أن القدري هو الذي ينكر قدرة الله تعالى إن قلنا إن النسبة للنفي أو الذي يثبت قدرة غير الله تعالى على الحوادث إن قلنا إن النسبة للإثبات وحينئذ يقطع بكونه فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ وإنه ذائق مس سقر
البحث الثاني في بيان من يدخل في القدرية التي في النص ممن هو منتسب إلى أنه من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إن قلنا القدرية سموا بهذا الاسم لنفيهم قدرة الله تعالى فالذي يقول لا قدرة لله على تحريك العبد بحركة هي الصلاة وحركة هي الزنا مع أن ذلك أمر ممكن لا يبعد دخوله فيهم وأما الذي يقول بأن الله قادر غير أنه لم يجبره وتركه مع داعية العبد كالوالد الذي يجرب الصبي في حمل شيء تركه معه لا لعجز الوالد بل للابتلاء والامتحان لا كالمفلوج الذي لا قوة له إذا قال لغيره احمل هذا فلا يدخل فيهم ظاهراً وإن كان مخطئاً وإن قلنا إن القدرية سموا بهذا الاسم لإثباتهم القدرة على الحوادث لغير الله من الكواكب(29/62)
والجبري الذي قال هو الحائط الساقط الذي لا يجوز تكليفه بشيء لصدور الفعل من غيره وهم أهل الإباحة فلا شك في دخوله في القدرية فإنه يكفر بنفيه التكليف وأما الذي يقول خلق الله تعالى فينا الأفعال وقدرها وكلفنا ولا يسأل عما يفعل فما هو منهم
البحث الثالث اختلف القائلون في التعصب أن الاسم بالمعتزلة أحق أم بالأشاعرة فقالت المعتزلة الاسم بكم أحق لأن النسبة تكون للإثبات لا للنفي يقال للدهري دهري لقوله بالدهر وإثباته وللمباحي إباحي لإثباته الإباحة وللتنوية تنوية لإثباتهم الإثنين وهما النور والظلمة وكذلك أمثله وأنتم تثبتون القدر وقالت الأشاعرة النصوص تدل على أن القدري من ينفي قدرة الله تعالى ومشركو قريش ما كانوا قدرية إلا لإثباتهم قدرة لغير الله قالت المعتزلة إنما سمي المشركون قدرية لأنهم قالوا إن كان قادراً على الحوادث كما تقول يا محمد فلو شاء الله لهدانا ولو شاء لأطعم الفقير فاعتقدوا أن من لوازم قدرة الله تعالى على الحوادث خلقه الهداية فيهم إن شاء وهذا مذهبكم أيها الأشاعرة والحق الصراح أن كل واحد من المسلمين الذين ذهبوا إلى المذهبين خارج عن القدرية ولا يصير واحد منهم قدرياً إلا إذا صار النافي نافياً للقدرة والمثبت منكراً للتكليف
المسألة الثانية المجرمون هم المشركون ههنا كما في قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ ( السجدة 12 ) وقوله يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي ( المعارج 11 ) وفي قوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ( الرحمن 41 ) فالآية عامة وإن نزلت في قوم خاص وجرمهم تكذيب الرسل والنذر بالإشراك وإنكار الحشر وإنكار قدرة الله تعالى على الإحياء بعد الإماتة وعلى غيره من الحوادث
المسألة الثالثة فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يحتمل وجوهاً ثلاثة أحدها الجمع بين الأمرين في الدنيا أي هم في الدنيا في ضلال وجنون لا يعقلون ولا يهتدون وعلى هذا فقوله يُسْحَبُونَ بيان حالهم في تلك الصورة وهو أقرب ثانيها الجمع في الآخرة أي هم في ضلال الآخرة وسعر أيضاً أما السعر فكونهم فيها ظاهر وأما الضلال فلا يجدون إلى مقصدهم أو إلى ما يصلح مقصداً وهم متحيرون سبيلاً فإن قيل الصحيح هو الوجه الأخير لا غير لأن قوله تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ ظرف القول أي يوم يسحبون يقال لهم ذوقوا وسنبين ذلك فنقول يَوْمَ يُسْحَبُونَ يحتمل أن يكون منصوباً بعامل مذكور أو مفهوم غير مذكور والاحتمال الأول له وجهان أحدهما العامل سابق وهو معنى كائن ومستقر غير أن ذلك صار نسياً منسياً ثانيهما العامل متأخر وهو قوله ذُوقُواْ تقديره ذوقوا مس سقر يوم يسحب المجرمون والخطاب حينئذ مع من خوطب بقوله أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءة ٌ ( القمر 43 ) والاحتمال الثالث أن المفهوم هو أن يقال لهم يوم يسحبون ذوقوا وهذا هو المشهور وقوله تعالى ذُوقُواْ استعارة وفيه حكمة وهو أن الذوق من جملة الإدراكات فإن المذوق إذا لاقى اللسان يدرك أيضاً حرارته وبرودته وخشونته وملاسته كما يدرك سائر أعضائه الحسية ويدرك أيضاً طعمه ولا يدركه غير اللسان فإدراك اللسان أتم فإذا تأذى من نار تأذى بحرارته ومرارته إن كان الحار أو غيره لا يتأذى إلا بحرارته فإذن الذوق إدراك لمسي أتم من(29/63)
غيره في الملموسات فقال ذُوقُواْ إشارة إلى أن إدراكهم بالذوق أتم الإدراكات فيجتمع في العذاب شدته وإيلامه بطول مدته ودوامه ويكون المدرك له لا عذر له يشغله وإنما هو على أتم ما يكون من الإدراك فيحصل الألم العظيم وقد ذكرنا أن على قول الأكثرين يقال لهم أو نقول مضمر وقد ذكرنا أنه لا حاجة إلى الإضمار إذا كان الخطاب مع غير من قيل في حقهم إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ فإنه يصير كأنه قال ذوقوا أيها المكذبون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مس سقر يوم يسحب المجرمون المتقدمون في النار
ثم قال تعالى
إِنَّا كُلَّ شَى ْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
وفيه مسائل
الأولى المشهور أن قوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء متعلق بما قبله كأنه قال ذوقوا فإنا كل شيء خلقناه بقدر أي هو جزاء لمن أنكر ذلك وهو كقوله تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) والظاهر أنه ابتداء كلام وتم الكلام عند قوله ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ( القمر 48 ) ثم ذكر بيان العذاب لأن عطف وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ ( القمر 50 ) يدل على أن قوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ليس آخر الكلام ويدل عليه قوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) وقد ذكر في الآية الأولى الخلق بقوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ فيكون من اللائق أن يذكر الأمر فقال وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ وأما ما ذكر من الجدل فنقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تمسك عليهم بقوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ إلى قوله ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ( القمر 47 48 ) وتلا آية أخرى على قصد التلاوة ولم يقرأ الآية الأخيرة اكتفاء بعلم من علم الآية كما تقول في الاستدلالات لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ ( النساء 29 ) الآية وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ( الأنعام 121 ) الآية وَإِذَا تَدَايَنتُم ( البقرة 283 ) الآية إلى غير ذلك
المسألة الثانية كُلٌّ قرىء بالنصب وهو الأصح المشهور وبالرفع فمن قرأ بالنصب فنصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر كقوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ ( يس 39 ) وقوله وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ ( الإنسان 31 ) وذلك الفعل هو خلقناه وقد فسره قوله خَلَقْنَاهُ كأنه قال إنا خلقنا كل شيء بقدر وخلقناه على هذا لا يكون صفة لشيء كما في قوله تعالى وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( الذاريات 49 ) غير أن هناك يمنع من أن يكون صفة كونه خالياً عن ضمير عائد إلى الموصوف وههنا لم يوجد ذلك المانع وعلى هذا فالآية حجة على المعتزلة لأن أفعالنا شيء فتكون داخلة في كل شيء فتكون مخلوقة لله تعالى ومن قرأ بالرفع لم يمكنه أن يقول كما يقول في قوله وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ( فصلت 17 ) حيث قرىء بالرفع لأن كل شيء نكرة فلا يصح مبتدأ فيلزمه أن يقول كل شيء خلقناه فهو بقدر كقوله تعالى وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ( الرعد 8 ) في المعنى وهذان الوجهان ذكرهما ابن عطية في تفسيره وذكر أن المعتزلي يتمسك بقراءة الرفع ويحتمل أن يقال القراءة الأولى وهو النصب له وجه آخر وهو أن يقال نصبه بفعل معلوم لا بمضمر مفسر وهو قدرنا أو خلقنا كأنه قال إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر أو قدرنا كل شيء خلقناه بقدر وإنما قلنا إنه معلوم لأن قوله ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( غافر 62 ) دل عليه وقوله وَكُلَّ شى ْء بِمِقْدَارٍ دل على أنه قدر وحينئذ لا يكون في الآية دلالة على بطلان قول المعتزلي وإنما يدل على بطلان قوله اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) وأما على القراءة الثانية وهي الرفع فنقول جاز أن يكون كل شيء مبتدأ وخلقناه بقدر خبره وحينئذ تكون الحجة قائمة عليهم بأبلغ(29/64)
وجه وقوله كُلّ شَى ْء نكرة فلا يصلح مبتدأ ضعيف لأن قوله كُلّ شَى ْء عم الأشياء كلها بأسرها فليس فيه المحذور الذي في قولنا رجل قائم لأنه لا يفيد فائدة ظاهرة وقوله كُلّ شَى ْء يفيد ما يفيد زيد خلقناه وعمرو خلقناه مع زيادة فائدة ولهذا جوزوا ما أحد خير منك لأنه أفاد العموم ولم يحسن قول القائل أحد خير منك حيث لم يفد العموم
المسألة الثالثة ما معنى القدر قلنا فيه وجوه أحدها المقدار كما قال تعالى وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ( العرد 8 ) وعلى هذا فكل شيء مقدر في ذاته وفي صفاته أما المقدر في الذات فالجسم وذلك ظاهر فيه وكذلك القائم بالجسم من المحسوسات كالبياض والسواد وأما الجوهر الفرد مالا مقدار له والقائم بالجوهر مالا مقدار له بمعنى الامتداد كالعلم والجهل وغيرهما فنقول ههنا مقادير لا بمعنى الامتداد أما الجواهر الفرد فإن الإثنين منه أصغر من الثلاثة ولولا أن حجماً يزداد به الامتداد وإلا لما حصل دون الامتداد فيه وأما القائم بالجوهر فله نهاية وبداية فمقدار العلوم الحادثة والقدر المخلوقة متناهية وأما الصفة فلأن لكل شيء ابتدىء زماناً فله مقدار في البقاء لكون كل شيء حادثاً فإن قيل الله تعالى وصف به ولا مقدار له ولا ابتداء لوجوده نقول المتكلم إذا كان موصوفاً بصفة أو مسمى باسم ثم ذكر الأشياء المسماة بذلك الاسم أو الأشياء الموصوفة بتلك الصفة وأسند فعلاً من أفعاله إليه يخرج هو عنه كما يقول القائل رأيت جميع من في هذا البيت فرأيتهم كلهم أكرمني ويقول ما في البيت أحد إلا وضربني أو ضربته يخرج هو عنه لا لعدم كونه مقتضى الاسم بل بما في التركيب من الدليل على خروجه عن الإرادة فكذلك قوله خَلَقْنَاهُ و خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) يخرج عنه لا بطريق التخصيص بل بطريق الحقيقة إذا قلنا إن التركيب وضعي فإن هذا التركيب لم يوضع حينئذ إلا لغير المتكلم ثانيها القدر التقدير قال الله تعالى فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ( المرسلات 23 ) وقال الشاعر وقد قدر الرحمن ما هو قادر
أي قدر ما هو مقدر وعلى هذا فالمعنى أن الله تعالى لم يخلق شيئاً من غير تقدير كما يرمي الرامي السهم فيقع في موضع لم يكن قد قدره بل خلق الله كما قدر بخلاف قول الفلاسفة إنه فاعل لذاته والاختلاف للقوابل فالذي جاء قصيراً أو صغيراً فلاستعداد مادته والذي جاء طويلاً أو كبيراً فلاستعداد آخر فقال تعالى كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ منا فالصغير جاز أن يكون كبيراً والكبير جاز خلقه صغيراً ثالثها بِقَدَرٍ هو ما يقال مع القضاء يقال بقضاء الله وقدره وقالت الفلاسفة في القدر الذي مع القضاء إن ما يقصد إليه فقضاء وما يلزمه فقدر فيقولون خلق النار حارة بقضاء وهو مقضي به لأنها ينبغي أن تكون كذلك لكن من لوازمها أنها إذا تعلقت بقطن عجوز أو وقعت في قصب صعلوك تخرقه فهو بقدر لا بقضاء وهو كلام فاسد بل القضاء ما في العلم والقدر ما في الإرادة فقوله كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ أي بقدره مع إرادته لا على ما يقولون إنه موجب رداً على المشركين
ثم قال تعالى
وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَة ٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ(29/65)
أي إلا كلمة واحدة وهو قوله له ( كن ) هذا هو المشهور الظاهر وعلى هذا فالله إذا أراد شيئاً قال له ( كن ) فهناك شيئان الإرادة والقول فالإرادة والقول فالإرادة قدر والقول قضاء وقوله واحِدَة ٌ يحتمل أمرين أحدهما بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول إشارة إلى نفاذ الأمر ثانيهما بيان عدم اختلاف الحال فأمره عند خلق العرش العظيم كأمره عند خلق النمل الصغير فأمره عند الكل واحد وقوله كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ تشبيه الكون لا تشبيه الأمر فكأنه قال أمرنا واحدة فإذن المأمور كائن كلمح بالبصر لأنه لو كان راجعاً إلى الأمر لا يكون ذلك صفة مدح يليق به فإن كلمة ( كن ) شيء أيضاً يوجد كلمح بالبصر هذا هو التفسير الظاهر المشهور وفيه وجه ظاهر ذهب إليه الحكماء وهي أن مقدورات الله تعالى هي الممكنات يوجدها بقدرته وفي عدمها خلاف لا يليق بيانه بهذا الموضع لطوله لا لسبب غيره ثم إن الممكنات التي يوجدها الله تعالى قسمان أحدهما أمور لها أجزاء ملتئمة عند التئامها يتم وجودها كالإنسان والحيوان والأجسام النباتية والمعدنية وكذلك الأركان الأربعة والسموات وسائر الأجسام وسائر ما يقوم بالأجسام من الأعراض فهي كلها مقدرة له وحوادث فإن أجزاءها توجد أولاً ثم يوجد فيها التركيب والالتئام بعينها ففيها تقديرات نظراً إلى الأجزاء والتركيب والأعراض وثانيهما أمور ليس لها أجزاء ومفاصل ومقادير امتدادية وهي الأرواح الشريفة المنورة للأجسام وقد أثبتها جميع الفلاسفة إلا قليلاً منهم ووافقهم جمع من المتكلمين وقطع بها كثير ممن له قلب من أصحاب الرياضات وأرباب المجاهدات فتلك الأمور وجودها واحد ليس يوجد أولاً أجزاء وثانياً تتحقق تلك الأجزاء بخلاف الأجسام والأعراض القائمة بها إذا عرفت هذا قالوا الأجسام خلقية قدرية والأرواح إبداعية أمرية وقالوا إليه الإشارة بقوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) فالخلق في الأجسام والأمر في الأرواح ثم قالوا لا ينبغي أن يظن بهذا الكلام أنه على خلاف الأخبار فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أول ما خلق الله العقل ) وروى عنه عليه السلام أنه قال ( خلق الله الأرواح قبل الأجسام بألفي عام ) وقال تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) فالخلق أطلق على إيجاد الأرواح والعقل لأن إطلاق الخلق على ما يطلق عليه الأمر جائز وإن العالم بالكلية حادث وإطلاق الخلق بمعنى الإحداث جائز وإن كان في حقيقة الخلق تقدير في أصل اللغة ولا كذلك في الأحداث ولولا الفرق بين العبارتين وإلا لاستقبح الفلسفي من أن يقول المخلوق قديم كما يستقبح من أن المحدث قديم فإذن قوله ( صلى الله عليه وسلم ) خلق الله الأرواح بمعنى أحدثها بأمره وفي هذا الإطلاق فائدة عظيمة وهي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لو غير العبارة وقال في الأرواح أنها موجودة بالأمر والأجسام بالخلق لظن الذي لم يرزقه الله العلم الكثير أن الروح ليست بمخلوقة بمعنى ليست بمحدثة فكان يضل والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث رحمة وقالوا إذا نظرت إلى قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) وإلى قوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ( الحديد 4 ) وإلى قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَة َ مُضْغَة ً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَة َ عِظَاماً ( المؤمنون 14 ) تجد التفاوت بين الأمر والخلق والأرواح والأشباح حيث جعل لخلق بعض الأجسام زماناً ممتداً هو ستة أيام وجعل لبعضها تراخياً وترتيباً بقوله ثُمَّ خَلَقْنَا وبقوله فَخَلَقْنَا ولم يجعل للروح ذلك ثم قالوا ينبغي أن لا يظن بقولنا هذا إن الأجسام لا بد لها من زمان ممتد وأيام حتى يوجدها الله تعالى فيه بل الله مختار إن أراد خلق السموات والأرض والإنسان والدواب والشجر والنبات في أسرع من لمح البصر لخلقها كذلك ولكن مع هذا لا تخرج عن كونها موجودات حصلت لها أجزاء ووجود أجزائها قبل(29/66)
وجود التركيب فيها ووجودها بعد وجود الأجزاء والتركيب فيها فهي ستة ثلاثة في ثلاثة كما يخلق الله الكسر والإنكسار في زمان واحد ولهما ترتيب عقلي فالجسم إذن كيفما فرضت خلقه ففيه تقدير وجودات كلها بإيجاد الله على الترتيب والروح لها وجود واحد بإيجاد الله تعالى هذا قولهم ولنذكر ما في الخلق والأمر من الوجود المنقولة والمعقولة أحدها ما ذكرنا أن الأمر هو كلمة كُنَّ والخلق هو ما بالقدرة والإرادة ثانيها ما ذكروا في الأجسام أن منها الأرواح ثالثها هو أن الله له قدرة بها الإيجاد وإرادة بها التخصيص وذلك لأن المحدث له وجود مختص بزمان وله مقدار معين فوجوده بالقدرة واختصاصه بالزمان بالإرادة فالذي بقدرته خلق والذي بالإرادة أمر حيث يخصصه بأمره بزمان ويدل عليه المنقول والمعقول أما المنقول فقوله تعالى إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( يس 82 ) جعل كُنَّ لتعلق الإرادة واعلم أن المراد من كُنَّ ليس هو الحرف والكلمة التي من الكاف والنون لأن الحصول أسرع من كلمة كن إذا حملتها على حقيقة اللفظ فإن الكاف والنون لا يوجد من متكلم واحد إلا الترتيب ففي كن لفظ زمان والكون بعد بدليل قوله تعالى فَيَكُونُ بالفاء فإذن لو كان المراد يكن حقيقة الحرف والصوت لكان الحصول بعده بزمان وليس كذلك فإن قال قائل يمكن أن يوجد الحرفان معاً وليس كلام الله تعالى ككلامنا يحتاج إلى الزمان قلنا قد جعل له معنى غير ما نفهمه من اللفظ وأما المعقول فلأن الاختصاص بالزمان ليس لمعنى وعلة وإن كان بعض الناس ذهب إلى أن الخلق والإيجاد لحكمة وقال بأن الله خلق الأرض لتكون مقر الناس أو مثل هذا من الحكم ولم يمكنه أن يقول خلق الأرض في الزمان المخصوص لتكون مقراً لهم لأنه لو خلقها في غير ذلك لكانت أيضاً مقراً لهم فإذن التخصيص ليس لمعنى فهو لمحض الحكمة فهو يشبه أمر الملك الجبار الذي يأمر ولا يقال له لم أمرت ولم فعلت ولا يعلم مقصود الآمر إلا منه رابعها هو أن الأشياء المخلوقة لا تنفك عن أوصاف ثلاثة أو عن وصفين متقابلين مثاله الجسم لا بد له بعد خلقه أن يكون متحيزاً ولا بد له من أن يكون ساكناً أو متحركاً فإيجاده أولاً يخلقه وما هو عليه بأمره يدل عليه قوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ إلى أن قال مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ( الأعراف 54 ) فجعل مالها بعد خلقها من الحركة والسكون وغيرهما بأمره ويدل عليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ) جعل الخلق في الحقيقة والأمر في الوصف وكذلك قوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثم قال يُدَبّرُ الاْمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الاْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ( السجدة 4 5 ) وقد ذكرنا تفسيره خامسها مخلوقات الله تعالى على قسمين أحدهما خلقه الله تعالى في أسرع ما يكون كالعقل وغيره وثانيهما خلقه بمهلة كالسموات والإنسان والحيوان والنبات فالمخلوق سريعاً أطلق عليه الأمر والمخلوق بمهلة أطلق عليه الخلق وهذا مثل الوجه الثاني سادسها ما قاله فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ( فصلت 11 ) وهو أن الخلق هو التقدير والإيجاد بعده بعدية ترتيبية لا زمانية ففي علم الله تعالى أن السموات تكون سبع سموات في يومين تقديرية فهو قدر خلقه كما علم وهو إيجاد فالأول خلق والثاني وهو الإيجاد أمر وأخذ هذا من المفهوم اللغوي قال الشاعر وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
أي يقدر ولا يقطع ولا يفصل كالخياط الذي يقدر أولاً ويقطع ثانياً وهو قريب إلى اللغة لكنه بعيد(29/67)
الاستعمال في القرآن لأن الله تعالى حيث ذكر الخلق أراد الإيجاد منه قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ( العنكبوت 61 ) ومنه قوله تعالى أَوَ لَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ ( يس 77 ) وليس المراد أنا قدرنا أنه سيوجد منها إلى غير ذلك سابعها الخلق هو الإيجاد ابتداء والأمر هو ما به الإعادة فإن الله خلق الخلق أولاً بمهلة ثم يوم القيامة ببعثهم في أسرع من لحظة فيكون قوله وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ كقوله تعالى فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ واحِدَة ٌ ( الصافات 19 ج وقوله صَيْحَة ً واحِدَة ً ( يس 29 ) نَفْخَة ٌ واحِدَة ٌ ( الحاقة 13 ) وعلى هذا فقوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) إشارة إلى الوحدانية وقوله تعالى وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ إلى الحشر فكأنه بين الأصل الأول والأصل الآخر بالآيات ثامنها الإيجاد خلق والإعدام أمر يعني يقول للملائكة الغلاظ الشداد أهلكوا وافعلوا فلا يعصون الله ما أمرهم ولا يقفون الامتثال على إعادة الأمر مرة أخرى فأمره مرة واحدة يعقبه العدم والهلاك
وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى جعل الإيجاد الذي هو من الرحمة بيده والإهلاك يسلط عليه رسله وملائكته وجعل الموت بيد ملك الموت ولم يجعل الحياة بيد ملك وهذا مناسب لهذا الموضع لأنه بين النعمة بقوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) وبين قدرته على النقمة فقال وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( المؤمنون 18 ) وهو كقوله فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ( المؤمنون 27 ) عند العذاب وقوله تعالى فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً ( هود 66 ) وقوله تعالى فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ( هود 82 ) وكما ذكر في هذه الحكايات العذاب بلفظ الأمر وبين الإهلاك به كذلك ههنا ولا سيما إذا نظرت إلى ما تقدم من الحكايات ووجدتها عين تلك الحكايات يقوي هذا القول وكذلك قوله تعالى وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( القمر 51 ) يدل على صحة هذا القول تاسعها في معنى اللمح بالبصر وجهان أحدهما النظر بالعين يقال لمحته ببصري كما يقال نظرت إليه بعيني والباء حينئذ كما يذكر في الآيات فيقال كتبت بالقلم واختار هذا المثال لأن النظر بالعين أسرع حركة توجد في الإنسان لأن العين وجد فيها أمور تعين على سرعة الحركة أحدها قرب المحرك منها فإن المحرك العصبية ومنبتها الدماغ والعين في غاية القرب منه ثانيها صغر حجمها فإنها لا تعصى على المحرك ولا تثقل عليه بخلاف العظام ثالثها استدارة شكلها فإن دحرجة الكرة أسهل من دحرجة المربع والمثلث رابعها كونها في رطوبة مخلوقة في العضو الذي هو موضعها وهذه الحكمة في أن المرئيات في غاية الكثرة بخلاف المأكولات والمسموعات والمقاصد التي تقصد بالأرجل والمذوقات فلولا سرعة حركة الآلة التي بها إدراك المبصرات لما وصل إلى الكل إلا بعد طول زمان وثانيهما اللمح بالبصر معناه البرق يخطف بالبصر ويمر به سريعاً والباء حينئذ للإلصاق لا للاستعانة كقوله مررت به وذلك في غاية السرعة وقوله بِالْبَصَرِ فيه فائدة وهي غاية السرعة فإنه لو قال كلمح البرق حين برق ويبتدىء حركته من مكان وينتهي إلى مكان آخر في أقل زمان يفرض لصح لكن مع هذا فالقدر الذي مروره يكون بالبصر أقل من الذي يكون من مبتداه إلى منتهاه فقال كَلَمْحِ لا كما قيل من المبدأ إلى المنتهى بل القدر الذي يمر بالبصر وهو غاية القلة ونهاية السرعة(29/68)
ثم قال تعالى
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
والأشياع الأشكال وقد ذكرنا أن هذا يدل على أن قوله وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ ( القمر 50 ) تهديد بالإهلاك والثاني ظاهر
بم وقوله تعالى
وَكُلُّ شَى ْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ
إشارة إلى أن الأمر غير مقتصر على إهلاكهم بل الإهلاك هو العاجل والعذاب الآجل الذي هو معد لهم على ما فعلوه مكتوب عليهم والزبر هي كتب الكتبة الذين قال تعالى فيهم كَلاَّ بَلْ تُكَذّبُونَ بِالدّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الانفطار 9 11 ) و فَعَلُوهُ صفة شيء والنكرة توصف بالجمل
بم وقوله تعالى
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ
تعميم للحكم أي ليست الكتابة مقتصرة على ما فعلوه بل ما فعله غيرهم أيضاً مسطور فلا يخرج عن الكتب صغيرة ولا كبيرة وقد ذكرنا في قوله تعالى لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ ( سبأ 3 ) أن في قوله أَكْبَرَ فائدة عظيمة وهي أن من يكتب حساب إنسان فإنما يكتبه في غالب الأمر لئلا ينسى فإذا جاء بالجملة العظيمة التي يأمن نسيانها ربما يترك كتابتها ويشتغل بكتابة ما يخاف نسيانه فلما قال وَلا أَكْبَرَ أشار إلى الأمور العظام التي يؤمن من نسيانها أنها مكتوبة أي ليست كتابتنا مثل كتابتكم التي يكون المقصود منها الأمن من النسيان فكذلك نقول ههنا وفي قوله مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) وفي جميع هذه المواضع قدم الصغيرة لأنها أليق بالتثبت عند الكتابة فيبتدىء بها حفظاً عن النسيان في عادة الخلق فأجرى الله الذكر على عادتهم وهذا يؤيد ما ذكرنا من قبل أن كلا وإن كان نكرة يحسن الابتداء به للعموم وعدم الإبهام
ثم قال تعالى
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
قد ذكرنا تفسير المتقين والجنات في سور منها الطُّورِ وأما النهر ففيه قراءات فتح النون والهاء كحجر وهو اسم جنس ويقوم مقام الأنهار وهذا هو الظاهر الأصح وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن كمال اللذة بالبستان أن يكون الإنسان فيه وليس من اللذة بالنهر أن يكون الإنسان فيه بل لذته أن يكون في الجنة عند النهر فما فمعنى قوله تعالى وَنَهَرٍ نقول قد أجبنا عن هذا في تفسير قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( الذاريات 15 ) في سورة الذاريات وقلنا المراد في خلال العيون وفيما بينها من المكان وكذلك في جنات لأن الجنة هي الأشجار التي تستر شعاع الشمس ولهذا قال تعالى فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ( المرسلات 41 ) وإذا كانت الجنة هي الأشجار الساترة فالإنسان لا يكون في الأشجار وإنما يكون بينها أو خلالها فكذلك النهر ونزيد ههنا وجهاً آخر وهو أن المراد في جنات وعند نهر لكون المجاورة تحسن إطلاق اللفظ الذي لا يحسن إطلاقه عند عدم المجاورة كما قال علفتها تبناً وماء بارداً
وقالوا تقلدت سيفاً ورمحاً والماء لا يعلف والرمح لا يتقلد ولكن لمجاورة التبن والسيف حسن الإطلاق فكذلك هنا لم يأت في الثاني بما أتى به في الأول من كلمة في(29/69)
المسألة الثانية وحد النهر مع جمع الجنات وجمع الأنهار وفي كثير من المواضع كما في قوله تعالى تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( البقرة 25 ) إلى غيره من المواضع فما الحكمة فيه نقول أما على الجواب الأول فنقول لما بين أن معنى في نهر في خلال فلم يكن للسامع حاجة إلى سماع الأنهار لعلمه بأن النهر الواحد لا يكون له خلال وأما في قوله تعالى تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ فلو لم يجمع الأنهار لجاز أن يفهم أن في الجنات كلها نهراً واحداً كما في الدنيا فقد يكون نهر واحد ممتد جار في جنات كثيرة وأما على الثاني فنقول الإنسان يكون في جنات لأنا بينا أن الجمع في جنات إشارة إلى سعتها وكثرة أشجارها وتنوعها والتوحيد عندما قال مَّثَلُ الْجَنَّة ِ ( محمد 15 ) وقال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ ( التوبة 111 ) لاتصال أشجارها ولعدم وقوع القيعان الخربة بينها وإذا علمت هذا فالإنسان في الدنيا إذا كان في بيت في دار وتلك الدار في محلة وتلك المحلة في مدينة يقال إنه في بلدة كذا وأما القرب فإذا كان الإنسان في الدنيا بين نهرين بحيث يكون قربه منهما على السواء يقال إنه جالس عند نهرين فإذا قرب من أحدهما يقال من عند أحد نهرين دون الآخر لكن في دار الدنيا لا يمكن أن يكون عند ثلاثة أنهار وإنما يمكن أن يكون عند نهرين والثالث منه أبعد من النهرين فهو في الحقيقة ليس يكون في زمان واحد عند أنهار والله تعالى يذكر أمر الآخرة على ما نفهمه في الدنيا فقال عند نهر لما بينا أن قوله وَنَهَرٍ وإن كان يقتضي في نهر لكن ذلك للمجاورة كما في تقلدت سيفاً ورمحاً وأما قوله تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ فحقيقته مفهومة عندنا لأن الجنة الواحدة قد يجري فيها أنهار كثيرة أكثر من ثلاثة وأربعة فهذا ما فيه مع أن أواخر الآيات يحسن فيها التوحيد دون الجمع ويحتمل أن يقال و نهر التنكير للتعظيم وفي الجنة نهر وهو أعظم الأنهر وأحسنها وهو الذي من الكوثر ومن عين الرضوان وكان الحصول عنده شرفاً وغبطه وكل أحد يكون له مقعد عنده وسائر الأنهار تجري في الجنة ويراها أهلها ولا يرون القاعد عندها فقال الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أي ذلك النهر الذي عنده مقاعد المؤمنين وفي قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ( البقرة 249 ) لكونه غير معلوم لهم وفي هذا وجه حسن أيضاً ولا يحتاج على الوجهين أن نقول نهر في معنى الجمع لكونه اسم جنس
المسألة الثالثة قال ههنا فِى وقال في الذاريات جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( الذاريات 15 ) فما الفرق بينهما نقول إنا إن قلنا في نهر معناه في خلال فالإنسان يمكن أن يكون في الدنيا في خلال عيون كثيرة تحيط به إذا كان على موضع مرتفع من الأرض والعيون تنفجر منه وتجري فتصير أنهاراً عند الامتداد ولا يمكن أن يكون وفي خلال أنهار وإنما هي نهران فحسب وأما إن قلنا إن المراد عند نهر فكذلك وإن قلنا أي عظيم عليه مقاعد فنقول يكون ذلك النهر ممتداً وأصلاً إلى كل واحد وله عنده مقعد عيون كثيرة تابعة فالنهر للتشريف والعيون للتفرج والتنزه مع أن النهر العظيم يجتمع مع العيون الكثيرة فكان النهر مع وحدته يقوم مقام العيون مع كثرتها وهذا كله مع النظر إلى أواخر الآيات ههنا وهناك يحسن ذكر لفظ الواحد ههنا والجمع هناك
المسألة الرابعة قرىء فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ على أنها جمع نهار إذ لا ليل هناك وعلى هذا فكلمة في حقيقة فيه فقوله فِي جَنَّاتِ ظرف مكان وقوله وَنَهَرٍ أي وفي نهر إشارة إلى ظرف زمان وقرىء نهر بسكون الهاء وضم النون على أنه جمع نهر كأسد في جمع أسد نقله الزمخشري ويحتمل أن يقال نهر بضم الهاء جمع نهر كثمر في جمع ثمر(29/70)
ثم قال تعالى
فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ
فيه مسائل
المسألة الأولى وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ كيف مخرجه نقول يحتمل وجهين أحدهما أن يكون على صورة بدل كما يقول القائل فلان في بلدة كذا في دار كذا وعلى هذا يكون مقعد من جملة الجنات موضعاً مختاراً له مزية على مافي الجنات من المواضع وعلى هذا قوله عِندَ مَلِيكٍ لأنا بينا في أحد الوجوه أن المراد من قوله فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ( القمر 54 ) في جنات عند نهر فقال فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ويحتمل أن يقال عِندَ مَلِيكٍ صفة مقعد صدق تقول درهم في ذمة ملىء خير من دينار في ذمة معسر وقليل عند أمين أفضل من كثير عند خائن فيكون صفة وإلا لما حسن جعله مبتدأ ثانيهما أن يكون فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ كالصفة لجنات ونهر أي في جنات ونهر موصوفين بأنهما في مقعد صدق تقول وقفة في سبيل الله أفضل من كذا و عِندَ مَلِيكٍ صفة بعد صفة
المسألة الثانية قوله فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ يدل على لبث لا يدل عليه المجلس وذلك لأن قعد وجلس ليسا على ما يظن أنهما بمعنى واحد لا فرق بينهما بل بينهما فرق ولكن لا يظهر إلا للبارع والفرق هو أن القعود جلوس فيه مكث حقيقة واقتضاء ويدل عليه وجوه الأول هو أن الزمن يسمى مقعداً ولا يسمى مجلساً لطول المكث حقيقة ومنه سمي قواعد البيت والقواعد من النساء قواعد ولا يقال لهن جوالس لعدم دلالة الجلوس على المكث الطويل فذكر القواعد في الموضعين لكونه مستقراً بين الدوام والثبات على حالة واحدة ويقال للمركوب من الإبل قعود لدوام اقتعاده اقتضاء وإن لم يكن حقيقة فهو لصونه عن الحمل واتخاذه للركوب كأنه وجد فيه نوع قعود دائم اقتضى ذلك ولم يرد للإجلاس الثاني النظر إلى تقاليب الحروف فإنك إذا نظرت إلى ق ع د وقلبتها تجد معنى المكث في الكل فإذا قدمت القاف رأيت قعد وقدع بمعنى ومنه تقادع الفراش بمعنى تهافت وإذا قدمت العين رأيت عقد وعدق بمعنى المكث في غاية الظهور وفي عدق لخفاء يقال أعدق بيدك الدلو في البئر إذا أمره بطلبه بعد وقوعه فيها والعودقة خشبة عليها كلاب يخرج معه الدلو الواقع في البئر وإذا قدمت الدال رأيت دقع ودعق والمكث في الدقع ظاهر والدقعاء هي التراب الملتصق بالأرض والفقر المدقع هو الذي يلصق صاحبه بالتراب وفي دعق أيضاً إذ الدعق مكان تطؤه الدواب بحوافرها فيكون صلباً أجزاؤه متداخل بعضها ببعض لا يتحرك شيء منها عن موضعه الوجه الثالث الاستعمالات في القعود إذا اعتبرت ظهر ما ذكرنا قال تعالى لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ ( النساء 95 ) والمراد الذي لا يكون بعده اتباع وقال تعالى مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ( آل عمران 121 ) مع أنه تعالى قال إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ( الصف 4 ) فأشار إلى الثبات العظيم وقال تعالى إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ً فَاثْبُتُواْ ( الأنفال 45 ) فالمقاعد إذن هي المواضع التي يكون فيها المقاتل بئبات ومكث وإطلاق مقعدة على العضو الذي عليه القعود أيضاً يدل عليه إذا عرفت هذا الفرق بين الجلوس والقعود حصل لك فوائد منها ههنا فإنه يدل على دوام المكث وطول اللبث ومنها في قوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ ( ق 17 ) فإن القعيد بمعنى الجليس والنديم ثم إذا عرف هذا وقيل(29/71)
للمفسرين الظاهرين فما الفائدة في اختيار لفظ القعيد يدل لفظ الجليس مع أن الجليس أشهر يكون جوابهم أن آخر الآيات من قوله حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) والِدَى َّ عَتِيدٌ ( ق 23 ) وقوله بِجَبَّارٍ عَنِيدٍ ( هود 59 ) يناسب القعيد ولا الجليس وإعجاز القرآن ليس في السجع وإذا نظرت إلى ما ذكر تبين لك فائدة جليلة معنوية حكمية في وضع اللفظ المناسب لأن القعيد دل على أنهما لا يفارقانه ويداومان الجلوس معه وهذا هو المعجز وذلك لأن الشاعر يختار اللفظ الفاسد لضرورة الشعر والسجع ويجعل المعنى تبعاً للفظ والله تعالى بين الحكمة على ما ينبغي وجاء باللفظ على أحسن ما ينبغي وفائدة أخرى في قوله تعالى الْمُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ ( المجادلة 11 ) فإن قوله فَافْسَحُواْ إشارة إلى الحركة وقوله فَانشُزُواْ إشارة إلى ترك الجلوس فذكر المجلس إشارة إلى أن ذلك موضع جلوس فلا يجب ملازمته وليس بمقعد حتى لا يفارقونه
المسألة الثالثة فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ وجهان أحدهما مقعد صدق أي صالح يقال رجل صدق للصالح ورجل سوء للفاسد وقد ذكرناه في سورة إِنَّا فَتَحْنَا في قوله تعالى وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء ( الفتح 12 ) وثانيهما الصدق المراد منه ضد الكذب وعلى هذا ففيه وجهان الأول مقعد صدق من أخبر عنه وهو الله ورسوله الثاني مقعد ناله من صدق فقال بأن الله واحد وأن محمداً رسوله وحتمل أن يقال المراد أنه مقعد لا يوجد فيه كذب لأن الله تعالى صادق ويستحيل عليه الكذب ومن وصل إليه امتنع عليه الكذب لأن مظنة الكذب الجهل والواصل إليه يعلم الأشياء كما هي ويستغني بفضل الله عن أن يكذب ليستفيد بكذبه شيئاً فهو مقعد صدق وكلمة عِندَ قد عرفت معناها والمراد منه قرب المنزلة والشأن لا قرب المعنى والمكان وقوله تعالى مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ لأن القربة من الملوك لذيذة كلما كان الملك أشد اقتداراً كان المتقرب منه أشد التذاذاً وفيه إشارة إلى مخالفة معنى القرب منه من معنى القرب من الملوك فإن الملوك يقربون من يكون ممن يحبونه وممن يرهبونه مخافة أن يعصوا عليه وينحازوا إلى عدوه فيغلبونه والله تعالى قال مُّقْتَدِرٍ لا يقرب أحداً إلا بفضله
والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلامه(29/72)
سورة الرحمن
خمسون وخمس آيات مكية
الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ
اعلم أولاً أن مناسبة هذه السورة لما قبلها بوجهين أحدهما أن الله تعالى افتتح السورة المتقدمة بذكر معجزة تدل على العزة والجبروت والهيبة وهو انشقاق القمر فإن من يقدر على شق القمر يقدر على هد الجبال وقد الرجال وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدل على الرحمة والرحموت وهو القرآن الكريم فإن شفاء القلوب بالصفاء عن الذنوب ثانيهما أنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( القمر 16 ) غير مرة وذكر في السورة فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( الرحمن 13 ) مرة بعد مرة لما بينا أن تلك السورة سورة إظهار الهيبة وهذه السورة سورة إظهار الرحمة ثم إن أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها حيث قال في آخر تلك السورة عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) والاقتدار إشارة إلى الهيبة والعظمة وقال ههنا الرَّحْمَنُ أي عزيز شديد منتقم مقتدر بالنسبة إلى الكفار والفجار رحمن منعم غافر للأبرار ثم في التفسير مسائل
المسألة الأولى في لفظ الرَّحْمَنُ أبحاث ولا يتبين بعضها إلا بعد البحث في كلمة الله فنقول
المبحث الأول من الناس من يقول إن الله مع الألف واللام اسم علم لموجد الممكنات وعلى هذا فمنهم من قال الرَّحْمَنُ أيضاً اسم علم له وتمسك بقوله تعالى قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَاء الْحُسْنَى ( الإسراء 11 ) أي أياً ما منهما وجوز بعضهم قول القائل يا الرحمن كما يجوز يا الله وتمسك بالآية وكل هذا ضعيف وبعضها أضعف من بعض أما قوله الله مع الألف واللام اسم علم ففيه بعض الضعف وذلك لأنه لو كان كذلك لكانت الهمزة فيه أصلية فلا يجوز أن تجعل وصلية وكان يجب أن يقال خلق الله كما يقال علم أحمد وفهم إسماعيل بل الحق فيه أحد القولين إما أن نقول إله أو لاه اسم لموجد الممكنات اسم علم ثم استعمل مع الألف واللام كما في الفضل والعباس والحسن والخليل وعلى هذا(29/73)
فمن سمى غيره إلهاً فهو كمن يستعمل في مولود له فيقول لابنه محمد وأحمد وإن كان علمين لغيره قبله في أنه جائز لأن من سمى ابنه أحمد لم يكن له من الأمر المطاع ما يمنع الغير عن التسمية به ولم يكن له الاحتجار وأخذ الاسم لنفسه أو لولده بخلاف الملك المطاع إذا استأثر لنفسه اسماً لا يستجرىء أحد ممن تحت ولايته ما دام له الملك أن يسمى ولده أو نفسه بذلك الاسم خصوصاً من يكون مملوكاً لا يمكنه أن يسمي نفسه باسم الملك ولا أن يسمي ولده به والله تعالى ملك مطاع وكل من عداه تحت أمره فإذا استأثر لنفسه اسماً لا يجوز للعبيد أن يتسموا بذلك الاسم فمن يسمى فقد تعدى فالمشركون في التسمية متعدون وفي المعنى ضالون وإما أن نقول إله أو لاه اسم لمن يعبد والألف واللام للتعريف ولما امتنع المعنى عن غير الله امتنع الاسم فإن قيل فلو سمى أحد ابنه به كان ينبغي أن يجوز قلنا لا يجوز لأنه يوهم أنه اسم موضوع لذلك الابن لمعنى لا لكونه علماً فإن قيل تسمية الواحد بالكريم والودود جائزة قلنا كل ما يكون حمله على العلم وعلى اسم لمعنى ملحوظ في اللفظ الذكرى لا يفضي إلى خلل يجوز ذلك فيه فيجوز تسمية الواحد بالكريم والودود ولا يجوز تسميته بالخالق والقديم لأن على تقدير حمله على أنه علم غير ملحوظ فيه المعنى يجوز وعلى تقدير حمله على أنه اسم لمعنى هو قائم به كالقدرة التي بها بقاء الخلق أو العدم فلا يجوز لكن اسم المعبود من هذا القبيل فلا يجوز التسمية به فأحد هذين القولين حق وقولهم مع الألف واللام علم ليس بحق إذا عرفت البحث في الله فما يترتب عليه وهو أن الرحمن اسم على أضعف منه وتجويز يا الرحمن أضعف من الكل
البحث الثاني الله والرحمن في حق الله تعالى كالاسم الأول والوصف الغالب الذي يصير كالاسم بعد الاسم الأول كما في قولنا عمر الفاروق وعلى المرتضى وموسى الرضا وغير ذلك مما نجده في أسماء الخلفاء وأوصافهم المعرفة لهم التي كانت لهم وصفاً وخرجت بكثرة الاستعمال عن الوصفية حتى إن الشخص وإن لم يتصف به أو فارقه الوصف يقال له ذلك كالعلم فإذن للرحمن اختصاص بالله تعالى كما أن لتلك الأوصاف اختصاصاً بأولئك غير أن في تلك الأسماء والأوصاف جاز الوضع لما بينا حيث استوى الناس في الاقتدار والعظمة ولا يجوز في حق الله تعالى فإن قيل إن من الناس من أطلق لفظ الرحمن على اليمامي نقول هو كما أن من الناس من أطلق لفظ الإله على غير الله تعدياً وكفراً نظراً إلى جوازه لغة وهو اعتقاد باطل
البحث الثالث لله تعالى رحمتان سابقة ولاحقة فالسابقة هي التي بها خلق الخلق واللاحقة هي التي أعطى بها الخلق بعد إيجاده إياهم من الرزق والفطنة وغير ذلك فهو تعالى بالنظر إلى الرحمة السابقة رحمن وبالنظر إلى اللاحقة رحيم ولهذا يقال يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة فهو رحمن لأنه خلق الخلق أولاً برحمته فلما لم يوجد في غيره هذه الرحمة ولم يخلق أحد حداً لم يجز أن يقال لغيره رحمن ولما تخلق الصالحون من عباده ببعض أخلاقه على قدر الطاقة البشرية وأطعم الجائع وكسا العاري وجد شيء من الرحمة اللاحقة التي بها الرزق والإعانة فجاز أن يقال له رحيم وقد ذكرنا هذا كله في تفسير سورة الفاتحة غير أنا أردنا أن يصير ما ذكرنا مضموماً إلى ما ذكرناه هناك فأعدناه ههنا لأن هذا كله كالتفصيل لما ذكرناه في الفاتحة(29/74)
المسألة الثانية الرَّحْمَنُ مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي قوله عَلَّمَ الْقُرْءانَ وقيل الرَّحْمَنُ ( خبر ) مبتدأ تقديره هو الرحمن ثم أتى بجملة بعد جملة فقال عَلَّمَ الْقُرْءانَ والأول أصح وعلى القول الضعيف الرحمن آية
المسألة الثالثة قوله تعالى عَلَّمَ الْقُرْءانَ لا بد له من مفعول ثان فما ذلك نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما قيل علم بمعنى جعله علامة أي هو علامة النبوة ومعجزة وهذا يناسب قوله تعالى وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( القمر 1 ) على ما بينا أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيئة وهو أنه شق مالا يشقه أحد غيره وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة وهو أنه نشر من العلوم مالا ينشره غيره وهو ما في القرآن وعلى هذا الوجه من الجواب ففيه احتمال آخر وهو أنه جعله بحيث يعلم فهو كقوله وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ ( القمر 17 ) والتعليم على هذا الوجه مجاز يقال إن أنفق على متعلم وأعطى أجرة على تعليمة علمه وثانيهما أن المفعول الثاني لا بد منه وهو جبريل وغيره من الملائكة علمهم القرآن ثم أنزله على عبده كما قال تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) ويحتمل أن يقال المفعول الثاني هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه إشارة إلى أن القرآن كلام الله تعالى لا كلام محمد وفيه وجه ثالث وهو أنه تعالى علم القرآن الإنسان وهذا أقرب ليكون الإنعام أتم والسورة مفتتحة لبيان الأعم من النعم الشاملة
المسألة الرابعة لم ترك المفعول الثاني نقول إشارة إلى أن النعمة في تعميم التعليم لا في تعليم شخص دون شخص يقال فلان يطعم الطعام إشارة إلى كرمه ولا يبين من يطعمه
المسألة الخامسة ما معنى التعليم نقوله على قولنا له مفعول ثان إفادة العلم به فإن قيل كيف يفهم قوله تعالى عَلَّمَ الْقُرْءانَ مع قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ( آل عمران 7 ) نقول من لا يقف عند قوله إِلاَّ اللَّهُ ويعطف الرَّاسِخُونَ على الله عطف المفرد على المفرد لا يرد عليه هذا ومن يقف ويعطف قوله تعالى وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ عطف جملة على جملة يقول إنه تعالى علم القرآن لأن من علم كتاباً عظيماً ووقع على ما فيه وفيه مواضع مشكلة فعلم ما في تلك المواضع بقدر الإمكان يقال فلان يعلم الكتاب الفلاني ويتقنه بقدر وسعه وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين وكذلك القول في تعليم القرآن أو تقول لا يعلم تأويله إلا الله وأما غيره فلا يعلم من تلقاء نفسه مالم يعلم فيكون إشارة إلى أن كتاب الله تعالى ليس كعيره من الكتب التي يستخرج ما فيها بقوة الذكاء والعلوم
ثم قال تعالى خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في وجه الترتيب وهو على وجهين أحدهما ما ذكرنا أن المراد من علم علم الملائكة وتعليمه الملائكة قبل خلق الإنسان فعلم تعالى ملائكته المقربين القرآن حقيقة يدل عليه قوله تعالى إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ثم قال تعالى تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ ( الواقعة 77 80 ) إشارة إلى تنزيله بعد تعليمه وعلى هذا ففي النظم حسن زائد وذلك من حيث إنه تعالى ذكر أموراً علوية وأموراً سفلية وكل علوي قابله بسفلي وقدم العلويات على السفليات إلى آخر الآيات فقال عَلَّمَ الْقُرْءانَ إشارة إلى تعليم العلويين وقال عَلَّمَهُ البَيَانَ إشارة إلى تعليم(29/75)
السفليين وقال الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( القيامة 9 ) في العلويات وقال في مقابلتهما من السفليات وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 )
ثم قال تعالى وَالسَّمَاء رَفَعَهَا ( الرحمن 7 ) وفي مقابلتها وَالاْرْضَ وَضَعَهَا ( الرحمن 10 ) وثانيهما أن تقديم تعليم القرآن إشارة إلى كونه أتم نعمة وأعظم إنعاماً ثم بين كيفية تعليم القرآن فقال خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ وهو كقول القائل علمت فلاناً الأدب حملته عليه وأنفقت عليه مالي فقوله حملته وأنفقت بيان لما تقدم وإنما قدم ذلك لأنه الإنعام العظيم
المسألة الثانية ما الفرق بين هذه السورة وسورة العلق حيث قال هناك اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ ( العلق 1 ) ثم قال وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ ( العلق 3 4 ) فقدم الخلق على التعليم نقول في تلك السورة لم يصرح بتعليم القرآن فهو كالتعليم الذي ذكره في هذه السورة بقوله عَلَّمَهُ البَيَانَ بعد قوله خَلَقَ الإِنسَانَ
المسألة الثالثة ما المراد من الإنسان نقول هو الجنس وقيل المراد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل المراد آدم والأول أصح نظراً إلى اللفظ في خُلِقَ ويدخل فيه محمد وآدم وغيرهما من الأنبياء
المسألة الرابعة ما البيان وكيف تعليمه نقول من المفسرين من قال البيان المنطق فعلمه ما ينطق به ويفهم غيره ما عنده فإن به يمتاز الإنسان عن غيره عن الحيوانات وقوله خَلَقَ الإِنسَانَ إشارة إلى تقدير خلق جسمه الخاص و عَلَّمَهُ البَيَانَ إشارة إلى تميزه بالعلم عن غيره وقد خرج ما ذكرنا أولاً أن البيان هو القرآن وأعاده ليفصل ماذكره إجمالاً بقوله تعالى عَلَّمَ الْقُرْءانَ كما قلنا في المثال حيث يقول القائل علمت فلاناً الأدب حملته عليه وعلى هذا فالبيان مصدر أريد به ما فيه المصدر وإطلاق البيان بمعنى القرآن على القرآن في القرآن كثير قال تعالى هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ ( آل عمران 138 ) وقد سمى الله تعالى القرآن فرقاناً وبياناً والبيان فرقان بين الحق والباطل فصح إطلاق البيان وإرادة القرآن
المسألة الخامسة كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن نقول أما إن قلنا إن المراد من قوله علم القرآن هو أنه علم الإنسان القرآن فنقول حذفه لعظم نعمة التعليم وقدم ذكره على من علمه وعلى بيان خلقه ثم فصل بيان كيفية تعليم القرآن فقال خَلَقَ الإِنسَانَ عِلْمِهِ وقد بين ذلك وأما إن قلنا المراد عَلَّمَ الْقُرْءانَ الملائكة فلأن المقصود تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه من التكذيب به وتعليمه للملائكة لا يظهر للإنسان أنه فائدة راجعة إلى الإنسان وأما تعليم الإنسان فهي نعمة ظاهرة فقال عَلَّمَهُ البَيَانَ أي علم الإنسان تعديداً للنعم عليه ومثل هذا قال في اقْرَأْ قال مرة عَلَّمَ بِالْقَلَمِ من غير بيان المعلم ثم قال مرة أخرى عَلَّمَ الإِنسَانَ لَمْ يَعْلَمْ وهو البيان ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توقيفية حصل العلم بها بتعليم الله(29/76)
ثم قال تعالى
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ
وفي الترتيب وجوه أحدها هو أن الله تعالى لما ثبت كونه رحمن وأشار إلى ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن ذكر نعمه وبدأ بخلق الإنسان فإنه نعمة جميع النعم به تتم ولولا وجوده لما انتفع بشيء ثم بين نعمة الإدراك بقوله عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 4 ) وهو كالوجود إذ لولاه لما حصل النفع والانتفاع ثم ذكر من المعلومات نعمتين ظاهرتين هما أظهر أنواع النعم السماوية وهما الشمس والقمر ولولا الشمس لما زالت الظلمة ولولا القمر لفات كثير من النعم الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ما تظهر نعمتهما ثم بين كمال نفعهما في حركتهما بحساب لا يتغير ولو كانت الشمس ثابتة في موضع لما انتفع بها أحد ولو كان سيرها غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها وبناء الأمر على الفصول ثم بين في مقابلتهما نعمتين ظاهرتين من الأرض وهما النبات الذي لا ساق له والذي له ساق فإن الرزق أصله منه ولولا النبات لما كان للآدمي رزق إلا ما شاء الله وأصل النعم على الرزق الدار وإنما قلنا النبات هو أصل الرزق لأن الرزق إما نباتي وإما حيواني كاللحم واللبن وغيرهما من أجزاء الحيوان ولولا النبات لما عاش الحيوان والنبات وهو الأصل وهو قسمان قائم على ساق كالحنطة والشعير والأشجار الكبار وأصول الثمار وغير قائم كالبقول المنبسطة على الأرض والحشيش والعشب الذي هو غذاء الحيوان ثانيها هو أنه تعالى لما ذكر القرآن وكان هو كافياً لا يحتاج معه إلى دليل آخر قال بعده الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ وغيرها من الآيات إشارة إلى أن بعض الناس إن تكن له النفس الزكية التي يغنيها الله بالدلائل التي في القرآن فله في الآفاق آيات منها الشمس والقمر وإنما اختارهما للذكر لأن حركتهما بحسبان تدل على فاعل مختار سخرهما على وجه مخصوص ولو اجتمع من في العالم من الطبيعيين والفلاسفة وغيرهم وتواطئوا أن يثبتوا حركتهما على الممر المعين على الصواب المعين والمقدار المعلوم في البطء والسرعة لما بلغ أحد مراده إلى أن يرجع إلى الحق ويقول حركهما الله تعالى كما أراد وذكر الأرض والسماء وغيرهما إشارة إلى ما ذكرنا من الدلائل العقلية المؤكدة لما في القرآن من الدلائل السمعية ثالثها هو أنا ذكرنا أن هذه السورة مفتتحة بمعجزة دالة عليها من باب الهيئة فذكر معجزة القرآن بما يكون جواباً لمنكري النبوة على الوجه الذي نبهنا عليه وذلك هو أنه تعالى أنزل على نبيه الكتاب وأرسله إلى الناس بأشرف خطاب فقال بعض المنكرين كيف يمكن نزول الجرم من السماء إلى الأرض وكيف يصعد ما حصل في الأرض إلى السماء فقال تعالى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ إشارة إلى ( أن ) حركتهما بمحرك مختار ليس بطبيعي وهم وافقونا فيه وقالوا إن الحركة الدورية لا يمكن أن تكون طبيعية اختيارية فنقول من حرك الشمس والقمر على الإستدارة أنزل الملائكة على الاستقامة ثم النجم والشجر يتحركان إلى فوق على الاستقامة مع أن الثقيل على مذهبكم لا يصعد إلى جهة فوق فذلك بقدرة الله تعالى وإرادته فكذلك حركة الملك جائزة مثل الفلك وأما قوله بِحُسْبَانٍ ففيه إشارة إلى الجواب عن قولهم عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل ( ص 8 ) وذلك لأنه تعالى كما اختار لحركتهما ممراً معيناً وصوباً معلوماً ومقداراً مخصوصاً كذلك اختار للملك وقتاً معلوماً وممراً معيناً بفضله وفي التفسير مباحث(29/77)
الأول ما الحكمة في تعريفه عما يرجع إلى الله تعالى حيث قال هما بِحُسْبَانٍ ولم يقل حركهما الله بحسبان أو سخرهما أو أجراهما كما قال خَلَقَ الإِنسَانَ وقال عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 3 4 ) نقول فيه حكم منها أن يكون إشارة إلى أن خلق الإنسان وتعليمه البيان أتم وأعظم من خلق المنافع له من الرزق وغيره حيث صرح هناك بأنه فاعله وصانعه ولم يصرح هنا ومنها أن قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ههنا بمثل هذا في العظم يقول القائل إني أعطيتك الألوف والمئات مراراً وحصل لك الآحاد والعشرات كثيراً وما شكرت ويكون معناه حصل لك مني ومن عطائي لكنه يخصص التصريح بالعطاء عند الكثير ومنها أنه لما بينا أن قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إشارة إلى دليل عقلي مؤكد السمعي ولم يقل فعلت صريحاً إشارة إلى أنه معقول إذا نظرت إليه عرفت أنه مني واعترفت به وأما السمعي فصرح بما يرجع إليه من الفعل الثاني على أي وجه تعلق الباء من بِحُسْبَانٍ نقول هو بين من تفسيره والتفسير أيضاً مر بيانه وخرج من وجه آخر فنقول في الحسبان وجهان الأول المشهور أن المراد الحساب يقال حسب حساباً وحسباناً وعلى هذا فالباء للمصالحة تقول قدمت بخير أي مع خير ومقروناً بخير فكذلك الشمس والقمر يجريان ومعهما حسابهما ومثله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( الرعد 8 ) وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ( الرعد 8 ) ويحتمل أن تكون للاستعانة كما في قولك بعون الله غلبت وبتوفيق الله حجت فكذلك يجريان بحسبان من الله والوجه الثاني أن الحسبان هو الفلك تشبيهاً له بحسبان الرحا وهو ما يدور فيدير الحجر وعلى هذا فهو للاستعانة كما يقال في الآلات كتبت بالقلم فهما يدوران بالفلك وهو كقوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( ي س 40 ) الثالث على الوجه المشهور هل كل واحد يجري بحسبان أو كلاهما بحسبان واحد ما المراد نقول كلاهما محتمل فإن نظرنا إليهما فلكل واحد منهما حساب على حدة فهو كقوله تعالى كُلٌّ فِى فَلَكٍ ( الأنبياء 33 ) لا بمعنى أن الكل مجموع في فلك واحد وكقوله وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ( الرعد 8 ) وإن نظرنا إلى الله تعالى فللكل حساب واحد قدر الكل بتقدير حسبانهما بحساب مثاله من يقسم ميراث نفسه لكل واحد من الورثة نصيباً معلوماً بحساب واحد ثم يختلف الأمر عندهم فيأخذ البعض السدس والبعض كذا والبعض كذا فكذلك الحساب الواحد وأما قوله وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ففيه أيضاً مباحث
الأول ما الحكمة في ذكر الجمل السابقة من غير واو عاطفة ومن هنا ذكرها بالواو العاطفة نقول ليتنوع الكلام نوعين وذلك لأن من بعد النعم على غيره تارة يذكر نسقاً من غير حرف فيقول فلان أنعم عليك كثيراً أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل قواك بعد ضعف وأخرى يذكرها بحرف عاطف وذلك العاطف قد يكون واواً وقد يكون فاء وقد يكون ثم فيقول فلان أكرمك وأنعم عليك وأحسن إليك ويقول رباك فعلمك فأغناك ويقول أعطاك ثم أغناك ثم أحوج الناس إليك فكذلك هنا ذكر التعديد بالنوعين جميعاً فإن قيل زده بياناً وبين الفرق بين النوعين في المعنى قلنا الذي يقول بغير حرف كأنه يقصد به بيان النعم الكثيرة فيترك الحرف ليستوعب الكل من غير تطويل كلام ولهذا يكون ذلك النوع في أغلب الأمر عند مجاوزة النعم ثلاثاً أو عندما تكون أكثر من نعمتين فإن ذكر ذلك عند نعمتين فيقول فلان أعطاك المال وزوجك البنت فيكون في كلامه إشارة إلى نعم كثيرة وإنما اقتصر على النعمتين للأنموذج والذي يقول بحرف فكأنه يريد التنبيه على استقلال كل نعمة بنفسها وإذهاب توهم البدل والتفسير فإن قول القائل أنعم عليك أعطاك المال هو تفسير للأول فليس في كلامه ذكر نعمتين معاً بخلاف ما إذا ذكر بحرف فإن قيل إن(29/78)
كان الأمر على ما ذكرت فلو ذكر النعم الأول بالواو ثم عند تطويل الكلام في الآخر سردها سرداً هل كان أقرب إلى البلاغة وورود كلامه تعالى عليه كفاه دليلاً على أن ما ذكره الله تعالى أبلغ وله دليل تفصيلي ظاهر يبين ببحث وهو أن الكلام قد يشرع فيه المتكلم أولاً على قصد الاختصار فيقتضي الحال التطويل إما لسائل يكثر السؤال وإما لطالب يطلب الزيادة للطف كلام المتكلم وإما لغيرهما من الأسباب وقد يشرع على قصد الإطناب والتفصيل فيعرض ما يقتضي الاقتصار على المقصود من شغل السامع أو المتكلم وغير ذلك مما جاء في كلام الآدميين نقول كلام الله تعالى فوائده لعباده لا له ففي هذه السورة ابتدأ الأمر بالإشارة إلى بيان أتم النعم إذ هو المقصود فأتى بما يختص بالكثرة ثم إن الإنسان ليس بكامل العلم يعلم مراد المتكلم إذا كان الكلام من أبناء جنسه فكيف إذا كان الكلام كلام الله تعالى فبدأ الله به على الفائدة الأخرى وإذهاب توهم البدل والتفسير والنعي على أن كل واحد منها نعمة كاملة فإن قيل إذا كان كذلك فما الحكمة في تخصيص العطف بهذا الكلام والابتداء به لا بما قبله ولا بما بعده قلنا ليكون النوعان على السواء فذكر الثمانية من النعم كتعليم القرآن وخلق الإنسان وغير ذلك أربعاً منها بغير واو وأربعاً بواو وأما قوله تعالى فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَالنَّخْلُ ( الرحمن 11 ) وقوله وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ ( الرحمن 12 ) فلبيان نعمة الأرض على التفصيل ثم في اختيار الثمانية لطيفة وهي أن السبعة عدد كامل والثمانية هي السبعة مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى أن نعم الله خارجة عن حد التعديد لما أن الزائد على الكمال لا يكون معيناً مبيناً فذكر الثمانية منها إشارة إلى بيان الزيادة على حد العدد لا لبيان الانحصار فيه
المسألة الثانية النجم ماذا نقول فيه وجهان أحدهما النبات الذي لا ساق له والثاني نجم السماء والأول أظهر لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر ذكر أرضين في مقابلة سماوين ولأن قوله يَسْجُدَانِ يدل على أن المراد ليس نجم السماء لأن من فسر به قال يسجد بالغروب وعلى هذا فالشمس والقمر أيضاً كذلك يغربان فلا يبقى للاختصاص فائدة وأما إذا قلنا هما أرضان فنقول يَسْجُدَانِ بمعنى ظلالهما تسجد فيختص السجود بهما دون الشمس والقمر وفي سجودهما وجوه أحدها ما ذكرنا من سجود الظلال ثانيها خضوعهما لله تعالى وخروجهما من الأرض ودوامهما وثباتهما عليها بإذن الله تعالى فسخر الشمس والقمر بحركة مستديرة والنجم بحركة مستقيمة إلى فوق فشبه النبات في مكانها بالسجود لأن الساجد يثبت ثالثها حقيقة السجود توجد منهما وإن لم تكن مرئية كما يسمح كل منهما وإن لم يفقه كما قال تعالى وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ( الإسراء 44 ) رابعها السجود وضع الجبهة أو مقاديم الرأس على الأرض والنجم والشجر في الحقيقة رؤوسهما على الأرض وأرجلهما في الهواء لأن الرأس من الحيوان ما به شربه واغذاؤه وللنجم والشجر اغتذاؤهما وشربهما بأجذالهما ولأن الرأس لا تبقى بدونه الحياة والشجر والنجم لا يبقى شيء منهما ثابتاً غضاً عند وقوع الخلل في أصولهما ويبقى عند قطع فروعهما وأعاليهما وإنما يقال للفروع رؤوس الأشجار لأن الرأس في الإنسان هو ما يلي جهة فوق فقيل لأعالي الشجر رؤوس إذا علمت هذا فالنجم والشجر رؤوسهما على الأرض دائماً فهو سجودهما بالشبه لا بطريق الحقيقة
المسألة الثالثة في تقديم النجم على الشجر موازنة لفظية للشمس والقمر وأمر معنوي وهو أن النجم في معنى السجود أدخل لما أنه ينبسط على الأرض كالساجد حقيقة كما أن الشمس في الحسبان أدخل لأن حساب سيرها أيسر عند المقومين من حساب سير القمر إذ ليس عند المقومين أصعب من تقويم القمر في حساب الزيج(29/79)
ثم قال تعالى
وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ
ورفع السماء معلوم معنى ونصبها معلوم لفظاً فإنها منصوبة بفعل يفسره قوله رَفَعَهَا كأنه تعالى قال رفع السماء وقرىء وَالسَّمَاء بالرفع على الابتداء والعطف على الجملة الابتدائية التي هي قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( الرحمن 5 ) وأما وضع الميزان فإشارة إلى العدل وفيه لطيفة وهي أنه تعالى بدأ أولاً بالعلم ثم ذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن ثم ذكر العدل وذكر أخص الأمور له وهو الميزان وهو كقوله تعالى وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ( الحديد 25 ) ليعمل الناس بالكتاب ويفعلوا بالميزان ما يأمرهم به الكتاب فقوله عَلَّمَ الْقُرْءانَ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ مثل وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ فإن قيل العلم لا شك في كونه نعمة عظيمة وأما الميزان فما الذي فيه من النعم العظيمة التي بسببها يعد في الآلاء نقول النفوس تأبى الغبن ولا يرضى أحد بأن يغلبه الآخر ولو في الشيء اليسير ويرى أن ذلك استهانة به فلا يتركه لخصمه لغلبة فلا أحد يذهب إلى أن خصمه يغلبه فلولا التبيين ثم التساوي لأوقع الشيطان بين الناس البغضاء كما وقع عند الجهل وزوال العقل والسكر فكما أن العقل والعلم صارا سبباً لبقاء عمارة العالم فكذلك العدل في الحكمة سبب وأخص الأسباب الميزان فهو نعمة كاملة ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته لكثرته وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء اللذين لا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما
ثم قال تعالى
أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ
وعلى هذا قيل المراد من الميزان الأول العدل ووضعه شرعه كأنه قال شرع الله العدل لئلا تطغوا في الميزان الذي هو آلة العدل هذا هو المنقول والأولى أن يعكس الأمر ويقال الميزان الأول هو الآلة والثاني هو بمعنى المصدر ومعناه وضع الميزان لئلا تطغوا في الوزن أو بمعنى العدل وهو إعطاء كل مستحق حقه فكأنه قال وضع الآلة لئلا تطغوا في إعطاء المستحقين حقوقهم ويجوز إرادة المصدر من الميزان كإرادة الوثوق من الميثاق والوعد من الميعاد فإذن المراد من الميزان آلة الوزن والوجه الثاني ( أنّ ) ( أن ) مفسرة والتقدير شرع العدل أي لا تطغوا فيكون وضع الميزان بمعنى شرع العدل وإطلاق الوضع للشرع والميزان للعدل جائز ويحتمل أن يقال وضع الميزان أي الوزن
وقوله أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ على هذا الوجه المراد منه الوزن فكأنه نهى عن الطغيان في الوزن والاتزان وإعادة الميزان بلفظه يدل على أن المراد منهما واحد فكأنه قال ألا تطغوا فيه فإن قيل لو كان المراد الوزن لقال ألا تطغوا في الوزن نقول لو قال في الوزن لظن أن النهي مختص بالوزن للغير لا بالاتزان للنفس فذكر بلفظ الآلة التي تشتمل على الأخذ والإعطاء وذلك لأن المعطي لو وزن ورجح رجحاناً ظاهراً يكون قد أربى ولا سيما في الصرف وبيع المثل
وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ
وقوله تعالى وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يدل على أن المراد من قوله أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ هو بمعنى لا تطغوا في الوزن لأن قوله وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ كالبيان لقوله أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ وهو الخروج(29/80)
عن إقامته بالعدل وقوله وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يحتمل وجهين أحدهما أقيموا بمعنى قوموا به كما في قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا ( البقرة 43 ) أي قوموا بها دواماً لأن الفعل تارة يعدى بحرف الجر وتارة بزيادة الهمزة تقول أذهبه وذهب به ثانيها أن يكون أقيموا بمعنى قوموا يقال في العود أقمته وقومته والقسط العدل فإن قيل كيف جاء قسط بمعنى جار لا بمعنى عدل نقول القسط اسم ليس بمصدر والأسماء التي لا تكون مصادر إذا أتى بها آت أو وجدها موجد يقال فيها أفعل بمعنى أثبت كما قال فلان أطرف وأتحف وأعرف بمعنى جاء بطرفة وتحفة وعرف وتقول أقبض السيف بمعنى أثبت له قبضة وأعلم الثوب بمعنى جعل له علماً وأعلم بمعنى أثبت العلامة وكذا ألجم الفرس وأسرج فإذا أمر بالقسط أو أثبته فقد أقسط وهو بمعنى عدل وأما قسط فهو فعل من اسم ليس بمصدر والاسم إذا لم يكن مصدراً في الأصل ويورد عليه فعل فربما يغيره عما هو عليه في أصله مثاله الكتف إذا قلت كتفته كتافاً فكأنك قلت أخرجته عما كان عليه من الانتفاع وغيرته فإن معنى كتفته شددت كتفيه بعضهما إلى بعض فهو مكتوف فالكتف كالقسط صارا مصدرين عن اسم وصار الفعل معناه تغير عن الوجه الذي ينبغي أن يكون وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يقال القاسط والمقسط ليس أصلهما واحداً وكيف كان يمكن أن يقال أقسط بمعنى أزال القسط كما يقال أشكى بمعنى أزال الشكوى أو أعجم بمعنى أزال العجمة وهذا البحث فيه فائدة فإن قول القائل فلان أقسط من فلان وقال الله تعالى ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ( البقرة 282 ) والأصل في أفعل التفضيل أن يكون من الثلاثي المجرد تقول أظلم وأعدل من ظالم وعادل فكذلك أقسط كان ينبغي أن يكون من قاسط ولم يكن كذلك لأنه على ما بينا الأصل القسط وقسط فعل فيه لا على الوجه والإقساط إزالة ذلك ورد القسط إلى أصله فصار أقسط موافقاً للأصل وأفعل التفضيل يؤخذ مما هو أصل لا من الذي فرع عليه فيقال أظلم من ظالم لا من متظلم وأعلم من عالم لا من معلم والحاصل أن الأقسط وإن كان نظراً إلى اللفظ كان ينبغي أن يكون من القاسط لكنه نظراً إلى المعنى يجب أن يكون من المقسط لأن المقسط أقرب من الأصل المشتق وهو القسط ولا كذلك الظالم والمظلم فإن الأظلم صار مشتقاً من الظالم لأنه أقرب إلى الأصل لفظاً ومعنى وكذلك العالم والمعلم والخبر والمخبر
ثم قال وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ أي لا تنقصوا الموزون والميزان ذكره الله تعالى ثلاث مرات كل مرة بمعنى آخر فالأول هو الآلة وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( الرحمن 7 ) والثاني بمعنى المصدر أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ ( الرحمن 8 ) أي الوزن والثالث للمفعول وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ أي الموزون وذكر الكل بلفظ الميزان لما بينا أن الميزان أشمل للفائدة وهو كالقرآن ذكره الله تعالى بمعنى المصدر في قوله تعالى فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ ( القيامة 18 ) وبمعنى المقروء في قوله إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ ( القيامة 17 ) وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) فكأنه آلة ومحل له وفي قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ ( الحجر 87 ) وفي كثير من المواضع ذكر القرآن لهذا الكتاب الكريم وبين القرآن والميزان مناسبة فإن القرآن فيه من العلم مالا يوجد في غيره من الكتب والميزان فيه من العدل مالا يوجد في غيره(29/81)
من الآلات فإن قيل ما الفائدة في تقديم السماء على الفعل حيث قال وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وتقديم الفعل على الميزان حيث قال وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( الرحمن 7 ) نقول قد ذكرنا مراراً أن في كل كلمة من كلمات الله فوائد لا يحيط بها علم البشر إلا ما ظهر والظاهر ههنا أنه تعالى لما عد النعم الثمانية كما بينا وكان بعضها أشد اختصاصاً بالإنسان من بعض فما كان شديد الاختصاص بالإنسان قدم فيه الفعل كما بينا أن الإنسان يقول أعطيتك الألوف وحصلت لك العشرات فلا يصرح في القليل بإسناد الفعل إلى نفسه وكذلك يقول في النعم المختصة أعطيتك كذا وفي التشريك وصل إليك مما اقتسمتم بينكم كذا فيصرح بالإعطاء عند الاختصاص ولا يسند الفعل إلى نفسه عند التشريك فكذلك ههنا ذكر أموراً أربعة بتقديم الفعل قال تعالى عَلَّمَ الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( الرحمن 7 ) وأموراً أربعة بتقديم الاسم قال تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَالاْرْضَ وَضَعَهَا ( الرحمن 5 10 ) لما أن تعليم القرآن نفعه إلى الإنسان أعود وخلق الإنسان مختص به وتعليمه البيان كذلك ووضع الميزان كذلك لأنهم هم المنتفعون به الملائكة ولا غير الإنسان من الحيوانات وأما الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء والأرض فينتفع به كل حيوان على وجه الأرض وتحت السماء
ثم قال تعالى
وَالاٌّرْضَ وَضَعَهَا لِلاٌّ نَامِ
في مباحث
الأول هو أنه قد مر أن تقديم الاسم على الفعل كان في مواضع عدم الاختصاص وقوله تعالى لِلاْنَامِ يدل على الاختصاص فإن اللام لعود النفع نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما ما قيل إن الأنام يجمع الإنسان وغيره من الحيوان فقوله لِلاْنَامِ لا يوجب الاختصاص بالإنسان ثانيهما أن الأرض موضوعة لكل ما عليها وإنما خص الإنسان بالذكر لأن انتفاعه بها أكثر فإنه ينتفع بها وبما فيها وبما عليها فقال لِلاْنَامِ لكثرة انتفاع الأنام بها إذا قلنا إن الأنام هو الإنسان وإن قلنا إنه الخلق فالخلق يذكر ويراد به الإنسان في كثير من المواضع
فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاٌّ كْمَامِ
وقوله تعالى فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاْكْمَامِ إشارة إلى الأشجار وقوله وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ ( الرحمن 12 ) إشارة إلى النبات الذي ليس بشجر والفاكهة ما تطيب به النفس وهي فاعلة إما على طريقة عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) أي ذات رضى يرضى بها كل أحد وإما على تسمية الآلة بالفاعل يقال راوية للقربة التي يروى بها العطشان وفيه معنى المبالغة كالراحلة لما يرحل عليه ثم صار اسماً لبعض الثمار وضعت أولاً من غير اشتقاق والتنكير للتكثير أي كثيرة كما يقال لفلان مال أي عظيم وقد ذكرنا وجه دلالة التنكير على التعظيم وهو أن القائل كأنه يشير إلى أنه عظيم لا يحيط به معرفة كل أحد فتنكيره إشارة إلى أنه خارج عن أن يعرف كنهه
وقوله تعالى وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاْكْمَامِ إشارة إلى النوع الآخر من الأشجار لأن الأشجار المثمرة أفضل الأشجار وهي منقسمة إلى أشجار ثمار هي فواكه لا يقتات بها وإلى أشجار ثمار هي قوت وقد يتفكه بها كما أن الفاكهة قد يقتات بها فإن الجائع إذا لم يجد غير الفواكه يتقوت بها ويأكل غير متفكه بها وفيه مباحث(29/82)
الأول ما الحكمة في تقديم الفاكهة على القوت نقول هو باب الابتداء بالأدنى والارتقاء إلى الأعلى والفاكهة في النفع دون النخل الذي منه القوت والتفكه وهو دون الحب الذي عليه المدار في سائر المواضع وبه يتغذى الأنام في جميع البلاد فبدأ بالفاكهة ثم ذكر النخل ثم ذكر الحب الذي هو أتم نعمة لموافقته مزاج الإنسان ولهذا خلقه الله في سائر البلاد وخصص النخل بالبلاد الحارة
البحث الثاني ما الحكمة في تنكير الفاكهة وتعريف النخل وجوابه من وجوه أحدها أن القوت محتاج إليه في كل زمان متداول في كل حين وأوان فهو أعرف والفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص وثانيها هو أن الفاكهة على ما بينا ما يتفكه به وتطيب به النفس وذلك عند كل أحد بحسب كل وقت شيء فمن غلب عليه حرارة وعطش يريد التفكه بالحامض وأمثاله ومن الناس من يريد التفكه بالحلو وأمثاله فالفاكهة غير متعينة فنكرها والنخل والحب معتادان معلومان فعرفهما وثالثها النخل وحدها نعمة عظيمة تعلقت بها منافع كثيرة وأما الفاكهة فنوع منها كالخوخ والإجاص مثلاً ليس فيه عظيم النعمة كما في النخل فقال فَاكِهَة ٍ بالتنكير ليدل على الكثرة وقد صرح بالكثرة في مواضع أخر فقال يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَة ٍ كَثِيرَة ٍ ( ص 51 ) وقال وَفَاكِهَة ٍ كَثِيرَة ٍ لاَّ مَقْطُوعَة ٍ وَلاَ مَمْنُوعَة ٍ ( الواقعة 32 33 ) فالفاكهة ذكرها الله تعالى ووصفها بالكثرة صريحاً وذكرها منكرة لتحمل على أنها موصوفة بالكثرة اللائقة بالنعمة في النوع الواحد منها بخلاف النخل
البحث الثالث ما الحكمة في ذكر الفاكهة باسمها لا باسم أشجارها وذكر النخل باسمها لا باسم ثمرها نقول قد تقدم بيانه في سورة ي س حيث قال تعالى مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ( ي س 34 ) وهو أن شجرة العنب وهي الكرم بالنسبة إلى ثمرتها وهي العنب حقيرة وشجرة النخل بالنسبة إلى ثمرتها عظيمة وفيها من الفوائد الكثيرة على ماعرف من اتخاذ الظروف منها والانتفاع بجمارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة فهي أتم نعمة بالنسبة إلى الغير من الأشجار فذكر النخل باسمه وذكر الفاكهة دون أشجارها فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها
البحث الرابع ما معنى ذَاتُ الاْكْمَامِ نقول فيه وجهان أحدهما الأكمام كل ما يغطي جمع كم بضم الكاف ويدخل فيه لحاؤها وليفها ونواها والكل منتفع به كما أن النخل منتفع بها وأغصانها وقلبها الذي هو الجمار ثانيهما الأكمام جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الطلع فإنه يكون أولاً في وعاء فينشق ويخرج منه الطلع فإن قيل على الوجه الأول ذَاتُ الاْكْمَامِ في ذكرها فائدة لأنها إشارة إلى أنواع النعم وأما على الوجه الثاني فما فائدة ذكرها نقول الإشارة إلى سهولة جمعها والانتفاع بها فإن النخلة شجرة عظيمة لا يمكن هزها لتسقط منها الثمرة فلا بد من قطف الشجرة فلو كان مثل الجميز الذي يقال إنه يخرج من الشجرة متفرقاً واحدة واحدة لصعب قطافها فقال ذَاتُ الاْكْمَامِ أي يكون في كم شيء كثير إذا أخذ عنقود واحد منه كفى رجلا واثنين كعناقيد العنب فانظر إليها فلو كان العنب حباتها في الأشجار متفرقة كالجميز والزعرور لم يمكن جمعه بالهز متى أريد جمعه فخلقه الله تعالى عناقيد مجتمعة كذلك الرطب فكونها ذَاتُ الاْكْمَامِ من جملة إتمام الإنعام(29/83)
ثم قال تعالى
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ
اقتصر من الأشجار على النخل لأنها أعظمها ودخل في الحب القمح والشعير وكل حب يقتات به خبزاً أو يؤدم به بينا أنه أخره في الذكر على سبيل الارتقاء درجة فدرجة فالحبوب أنفع من النخل وأعم وجوداً في الأماكن وقوله تعالى ذُو الْعَصْفِ فيه وجوه أحدها التبن الذي تنتفع به دوابنا التي خلقت لنا ثانيها أوراق النبات الذي له ساق الخارجة من جوانب الساق كأوراق السنبلة من أعلاها إلى أسفلها ثالثها العصف هو ورق ما يؤكل فحسب والريحان فيه وجوه قيل ما يشم وقيل الورق وقيل هو الريحان المعروف عندنا وبزره ينفع في الأدوية والأظهر أن رأسها كالزهر وهو أصل وجود المقصود فإن ذلك الزهر يتكون بذلك الحب وينعقد إلى أن يدرك فالعصف إشارة إلى ذلك الورق والريحان إلى ذلك الزهر وإنما ذكرهما لأنهما يؤولان إلى المقصود من أحدهما علف الدواب ومن الآخر دواء الإنسان وقرىء الريحان بالجر معطوفاً على العصف وبالرفع عطفاً على الحب وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد من الريحان المشموم فيكون أمراً مغايراً للحب فيعطف عليه والثاني أن يكون التقدير ذو الريحان بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كما في وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) وهذا مناسب للمعنى الذي ذكرنا ليكون الريحان الذي ختم به أنواع النعم الأرضية أعز وأشرف ولو كان المراد من الريحان هو المعروف أو المشمومات لما حصل ذلك الترتيب وقرىء وَالرَّيْحَانُ ولا يقرأ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ ويعود الوجهان فيه
ثم قال تعالى
فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مباحث
الأول الخطاب مع من نقول فيه وجوه الأول الإنس والجن وفيه ثلاثة أوجه أحدها يقال الأنام اسم للجن والإنس وقد سبق ذكره فعاد الضمير إلى ما في الأنام من الجنس ثانيها الأنام اسم الإنسان و الجان لما كان منوياً وظهر من بعد بقوله وَخَلَقَ الْجَانَّ ( الرحمن 15 ) جاز عود الضمير إليه وكيف لا وقد جاز عود الضمير إلى المنوي وإن لم يذكر منه شيء تقول لا أدري أيهما خير من زيد وعمرو ثالثها أن يكون المخاطب في النية لا في اللفظ كأنه قال فبأي آلاء ربكما تكذبان أيها الثقلان الثاني الذكر والأنثى فعاد الضمير إليهما والخطاب معهما الثالث فبأي آلاء ربك تكذب فبأي آلاء ربك تكذب بلفظ واحد والمراد التكرار للتأكيد الرابع المراد العموم لكن العام يدخل فيه قسمان بهما ينحصر الكل ولا يبقى شيء من العام خارجاً عنه فإنك إذا قلت إنه تعالى خلق من يعقل ومن لا يعقل أو قلت الله يعلم ما ظهر وما لم يظهر إلى غير ذلك من التقاسيم الحاصرة يلزم التعميم فكأنه قال يا أيها القسمان فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ واعلم أن التقسيم الحاصر لا يخرج عن أمرين أصلاً ولا يحصل الحصر إلا بهما فإن زاد فهناك قسمان قد طوى أحدهما في الآخر مثاله إذا قلت اللون إما سواد وإما بياض وإما حمرة وإما صفرة وإما غيرها فكأنك قلت اللون إما أسود وإما ليس بسواد أو إما بياض وإما ليس ببياض ثم الذي ليس ببياض إما حمرة وإما ليس بحمرة وكذلك إلى جملة التقسيمات فأشار إلى القسمين الحاصرين على أن ليس لأحد ولا لشيء أن ينكر نعم الله الخامس التكذيب قد يكون بالقلب دون اللسان كما في المنافقين وقد يكون باللسان دون القلب كما في المعاندين وقد يكون بهما جميعاً فالكذب لا يخرج عن أن يكون باللسان أو(29/84)
بالقلب فكأنه تعالى قال يا أيها القلب واللسان فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن النعم بلغت حداً لا يمكن المعاند أن يستمر على تكذيبها السادس المكذب مكذب بالرسول والدلائل السمعية التي بالقرآن ومكذب بالعقل والبراهين والتي في الآفاق والأنفس فكأنه تعالى قال يا أيها المكذبان بأي آلاء ربكما تكذبان وقد ظهرت آيات الرسالة فإن الرحمن علم القرآن وآيات الوحدانية فإنه تعالى خلق الإنسان وعلمه البيان ورفع السماء ووضع الأرض السابع المكذب قد يكون مكذباً بالفعل وقد يكون التكذيب منه غير واقع بعد لكنه متوقع فالله تعالى قال يا أيها المكذب تكذب وتتلبس بالكذب ويختلج في صدرك أنك تكذب فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وهذه الوجوه قريبة بعضها من بعض والظاهر منها الثقلان لذكرهما في الآيات من هذه السورة بقوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( الرحمن 31 ) وبقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ ( الرحمن 33 ) وبقوله خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ ( الرحمن 14 ) إلى غير ذلك ( والزوجان ) لوروده في القرآن كثير والتعميم بإرادة نوعين حاصرين للجميع ويمكن أن يقال التعميم أولى لأن المراد لو كان الإنس والجن اللذان خاطبهما بقوله فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ما كان يقول بعد خلق الإنسان بل كان يخاطب ويقول خلقناك يا أيها الإنسان من صلصال وخلقناك يا أيها الجان أو يقول خلقك يا أيها الإنسان لأن الكلام صار خطاباً معهما ولما قال الإنسان دل على أن المخاطب غيره وهو العموم فيصير كأنه قال يا أيها الخلق والسامعون إنا خلقنا الإنسان من صلصال كالفخار وخلقنا الجان من مارج من نار وسيأتي باقي البيان في مواضع من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى الثاني ما الحكمة في الخطاب ولم يسبق ذكر مخاطب نقول هو من باب الالتفات إذ مبنى افتتاح السورة على الخطاب مع كل من يسمع فكأنه لما قال الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 2 ) قال اسمعوا أيها السامعون والخطاب للتقريع والزجر كأنه تعالى نبه الغافل المكذب على أنه يفرض نفسه كالواقف بين يدي ربه يقول له ربه أنعمت عليك بكذا وكذا ثم يقول فبأي آلائي تكذب ولا شك أنه عند هذا يستحي استحياء لا يكون عنده فرض الغيبة الثالث ما الفائدة في اختيار لفظة الرب وإذا خاطب أراد خطاب الواحد فلم قال رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وهو الحاضر المتكلم فكيف يجعل التكذيب المسند إلى المخاطب وارداً على الغائب ولو قال بأي آلائي تكذبان كان أليق في الخطاب نقول في السورة المتقدمة قال كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( القمر 23 ) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ( القمر 33 ) وقال كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( القمر 42 ) وقال فَأَخَذْنَاهُمْ ( القمر 42 ) وقال كَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ ( القمر 21 ) كلها بالاستناد إلى ضمير المتكلم حيث كان ذلك للتخويف فالله تعالى أعظم من أن يخشى فلو قال أخذهم القادر أو المهلك لما كان في التعظيم مثل قوله فَأَخَذْنَاهُمْ ولهذا قال تعالى وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ( آل عمران 28 30 ) وهذا كما أن المشهور بالقوة يقول أنا الذي تعرفني فيكون في إثبات الوعيد فوق قوله أنا المعذب فلما كان الإسناد إلى النفس مستعملاً في تلك السورة عند الإهلاك والتعذيب ذكر في هذه السورة عند بيان الرحمة لفظ يزيل الهيبة وهو لفظ الرب فكأنه تعالى قال فبأي آلاء ربكما تكذبان وهو رباكما الرابع ما الحكمة في تكرير هذه الآية وكونه إحدى وثلاثين مرة نقول الجواب عنه من وجوه الأول إن فائدة التكرير التقرير وأما هذا العدد الخاص فالأعداد توقيفية لا تطلع على تقدير المقدرات أذهان الناس والأولى أن لا يبالغ الإنسان في استخراج الأمور البعيدة في كلام الله تعالى تمسكاً بقول عمر(29/85)
رضي الله تعالى عنه حيث قال مع نفسه عند قراءته سورة عبس كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفع عصا كانت بيده وقال هذا لعمر الله التكليف وما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه وسيأتي فائدة كلامه تعالى في تفسير السورة إن شاء الله تعالى الجواب الثاني ما قلناه إنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ أربع مرات لبيان ما في ذلك من المعنى وثلاث مرات للتقرير والتكرير وللثلاث والسبع من بين الأعداد فوائد ذكرناها في قوله تعالى وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ ( لقمان 27 ) فلما ذكرنا العذاب ثلاث مرات ذكر الآلاء إحدى وثلاثين مرة لبيان ما فيه من المعنى وثلاثين مرة للتقرير الآلاء مذكورة عشر مرات أضعاف مرات ذكر العذاب إشارة إلى معنى قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ( الأنعام 16 ) الثالث إن الثلاثين مرة تكرير بعد البيان في المرة الأولى لأن الخطاب مع الجن والإنس والنعم منحصرة في دفع المكروه وتحصيل المقصود لكن أعظم المكروهات عذاب جهنم ولها سبعة أبواب وأتم المقاصد نعيم الجنة ولها ثمانية أبواب فإغلاق الأبواب السبعة وفتح الأبواب الثمانية جميعه نعمة وإكرام فإذا اعتبرت تلك النعم بالنسبة إلى جنسي الجن والإنس تبلغ ثلاثين مرة وهي مرات التكرير للتقرير والمرة الأولى لبيان فائدة الكلام وهذا منقول وهو ضعيف لأن الله تعالى ذكر نعم الدنيا والآخرة وما ذكره اقتصار على بيان نعم الآخرة الرابع هو أن أبواب النار سبعة والله تعالى ذكر سبع آيات تتعلق بالتخويف من النار من قوله تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ إلى قوله تعالى يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ ( الرحمن 31 44 ) ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك جنتين حيث قال وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) ولكل جنة ثمانية أبواب تفتح كلها للمتقين وذكر من أول السورة إلى ما ذكرنا من آيات التخويف ثماني مرات فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ سبع مرات للتقرير بالتكرير استيفاء للعدد الكثير الذي هو سبعة وقد بينا سبب اختصاصه في قوله تعالى سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ ( لقمان 27 ) وسنعيد منه طرفاً إن شاء الله تعالى فصار المجموع ثلاثين مرة المرة الواحدة التي هي عقيب النعم الكثيرة لبيان المعنى وهو الأصل والتكثير تكرار فصار إحدى وثلاثين مرة
ثم قال تعالى
خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ
وفي الصلصال وجهان أحدهما هو بمعنى المسنون من صل اللحم إذا أنتن ويكون الصلصال حينئذ من الصلول وثانيهما من الصليل يقال صل الحديد صليلاً إذا حدث منه صوت وعلى هذا فهو الطين اليابس الذي يقع بعضه على بعض فيحدث فيما بينهما صوت إذ هو الطين اللازب الحر الذي إذا التزق بالشيء ثم انفصل عنه دفعة سمع منه عند الانفصال صوت فإن قيل الإنسان إذا خلق من صلصال كيف ورد في القرآن أنه خلق من التراب وورد أنه خلق من الطين ومن حمأ ومن ماء مهين إلى غير ذلك نقول أما قوله مّن تُرَابٍ ( الحج 5 ) تارة و مّن مَّاء مَّهِينٍ ( المرسلات 20 ) أخرى فذلك باعتبار شخصين آدم خلق من الصلصال ومن حمأ وأولاده خلقوا من ماء مهين ولولا خلق آدم لما خلق أولاده ويجوز أن يقال زيد خلق من حمأ بمعنى أن أصله الذي هو جده خلق منه وأما قوله مّن طِينٍ لاَّزِبٍ ( الصافات 11 ) مّنْ حَمَإٍ ( الحجر 26 ) وغير ذلك فهو إشارة إلى أن آدم عليه السلام خلق أولاً من التراب ثم صار طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم(29/86)
لازباً فكأنه خلق من هذا ومن ذاك ومن ذلك والفخار الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف مستعمل على أصل الاشتقاق وهو مبالغة الفاخر كالعلام في العالم وذلك أن التراب الذي من شأنه التفتت إذا صار بحيث يجعل ظرف الماء والمائعات ولا يتفتت ولا ينقع فكأنه يفخر على أفراد جنسه
ثم قال تعالى
وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفي الجان وجهان أحدهما هو أبو الجن كما أن الإنسان المذكور هنا هو أبو الإنس وهو آدم ثانيهما هو الجن بنفسه فالجان والجن وصفان من باب واحد كما يقال ملح ومالح أو نقول الجن اسم الجنس كالملح والجان مثل الصفة كالمالح
وفيه بحث وهو أن العرب تقول جن الرجل ولا يعلم له فاعل يبني الفعل معه على المذكور وأصل ذلك جنه الجان فهو مجنون فلا يذكر الفاعل لعدم العلم به ويقتصر على قولهم جن فهو مجنون وينبغي أن يعلم أن القائل الأول لا يقول الجان اسم علم لأن الجان للجن كآدم لنا وإنما يقول بأن المراد من الجان أبوهم كما أن المراد من الإنسان أبونا آدم فالأول منا خلق من صلصال ومن بعده خلق من صلبه كذلك الجن الأول خلق من نار ومن بعده من ذريته خلق من مارج والمارج المختلط ثم فيه وجهان أحدهما أن المارج هو النار المشوبة بدخان والثاني النار الصافية والثاني أصح من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأنه تعالى قال مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ أي نار مارجة وهذا كقول القائل هو مصوغ من ذهب فإن قوله من ذهب فيه بيان تناسب الأخلاط فيكون المعنى الكل من ذهب غير أنه يكون أنواعاً مختلفة مختلطة بخلاف ما إذا قلت هذا قمح مختلط فلك أن تقول مختلط بماذا فيقول من كذا وكذا فلو اقتصر على قوله من قمح وكان منه ومن وغيره أيضاً لكان اقتصاره عليه مختلط بما طلب من البيان وأما المعنى فلأنه تعالى كما قال خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ ( الرحمن 14 ) أي من طين حر كذلك بين أن خلق الجان من نار خالصة فإن قيل فكيف يصح قوله مَّارِجٍ بمعنى مختلط مع أنه خالص نقول النار إذا قويت التهبت ودخل بعضها في بعض كالشيء الممتزج امتزاجاً جيداً لا تميز فيه بين الأجزاء المختلطة وكأنه من حقيقة واحدة كما في الطين المختمر وذلك يظهر في التنور المسجور إن قرب منه الحطب تحرقه فكذلك مارج بعضها ببعض لا يعقل بين أجزائها دخان وأجزاء أرضية وسنبين هذا في قوله تعالى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ( الرحمن 19 ) فإن قيل المقصود تعديد النعم على الإنسان فما وجه بيان خلق الجان نقول الجواب عندي من وجوه أحدها ما بينا أن قوله رَبّكُمَا خطاب مع الإنس والجن يعدد عليهما النعم بل على الإنسان وحده ثانيها أنه بيان فضل الله تعالى على الإنسان حيث بين أنه خلق من أصل كثيف كدر وخلق الجان من أصل لطيف وجعل الإنسان أفضل من الجان فإنه إذا نظر إلى أصله علم أنه ما نال الشرف إلا بفضل الله تعالى فكيف يكذب بآلاء الله ثالثها أن الآية مذكورة لبيان القدرة لا لبيان النعمة وكأنه تعالى لما بين النعم الثمانية التي ذكرها في أول السورة فكأنه ذكر الثمانية لبيان خروجها عن العدد الكثير الذي هو سبعة ودخولها في الزيادة التي يدل عليها الثمانية كما بينا وقلنا إن العرب عند الثامن تذكر الواو إشارة إلى أن الثامن من جنس آخر فبعد تمام السبعة الأول(29/87)
شرع في بيان قدرته الكاملة وقال هو الذي خلق الإنسان من تراب والجان من نار ( فبأي آلاء ) الكثيرة المذكورة التي سبقت من السبعة والتي دلت عليها الثامنة ( تكذبان ) وإذا نظرت إلى ما دلت عليه الثمانية وإلى قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يظهر لك صحة ما ذكر أنه بين قدرته وعظمته ثم يقول فبأي تلك الآلاء التي عددتها أولاً تكذبان وسنذكر تمامه عند تلك الآيات
ثم قال تعالى
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه وجوه أولها مشرق الشمس والقمر ومغربهما والبيان حينئذ في حكم إعادة ما سبق مع زيادة لأنه تعالى لما قال الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن 5 ) دل على أن لهما مشرقين ومغربين ولما ذكر خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 3 4 ) دل على أنه مخلوق من شيء فبين أنه الصلصال الثاني مشرق الشتاء ومشرق الصيف فإن قيل ما الحكمة في اختصاصهما مع أن كل يوم من ستة أشهر للشمس مشرق ومغرب يخالف بعضها البعض نقول غاية انحطاط الشمس في الشتاء وغاية ارتفاعها في الصيف والإشارة إلى الطرفين تتناول ما بينهما فهو كما يقول القائل في وصف ملك عظيم له المشرق والمغرب ويفهم أن له ما بينهما أيضاً الثالث التثنية إشارة إلى النوعين الحاصرين كما بينا أن كل شيء فإنه ينحصر في قسمين فكأنه قال رب مشرق الشمس ومشرق غيرها فهما مشرقان فتناول الكل أو يقال مشرق الشمس والقمر وما يغرض إليهما العاقل من مشرق غيرهما فهو تثنية في معنى الجمع
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق الآية بما قبلها فنقول لما ذكر تعالى المشرق والمغرب وهما حركتان في الفلك ناسب ذلك ذكر البحرين لأن الشمس والقمر يجريان في الفلك كما يجري الإنسان في البحر قال تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين ولأن المشرقين والمغربين فيهما إشارة إلى البحر لانحصار البر والبحر بين المشرق والمغرب لكن البر كان مذكوراً بقوله تعالى وَالاْرْضَ وَضَعَهَا ( الرحمن 10 ) فذكر ههنا مالم يكن مذكوراً المسألة الثانية مَرَجَ إذا كان متعدياً كان بمعنى خلط أو ما يقرب منه فكيف قال تعالى مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ ( الرحمن 15 ) ولم يقل من ممروج نقول مرج متعد ومرج بكسر الراء لازم فالمارج والمريج من مرج يمرج كفرح يفرح والأصل في فعل أن يكون غريزياً والأصل في الغريزي أن يكون لازماً ويثبت له حكم الغريزي وكذلك فعل في كثير من المواضع
المسألة الثالثة في البحرين وجوه أحدها بحر السماء وبحر الأرض ثانيها البحر الحلو والبحر المالح كما قال تعالى وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَاذَا عَذَابِ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ هَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ( فاطر 12 ) وهو أصح وأظهر من(29/88)
الأول ثالثها ما ذكر في المشرقين وفي قوله تُكَذّبَانِ إنه إشارة إلى النوعين الحاصرين فدخل فيه بحر السماء وبحر الأرض والبحر العذب والبحر المالح رابعها أنه تعالى خلق في الأرض بحاراً تحيط بها الأرض وببعض جزائرها يحيط الماء وخلق بحراً محيطاً بالأرض وعليه الأرض وأحاط به الهواء كما قال به أصحاب علم الهيئة وورد به أخبار مشهورة وهذه البحار التي في الأرض لها اتصال بالبحر المحيط ثم إنهما لا يبغيان على الأرض ولا يغطيانها بفضل الله تعالى لتكون الأرض بارزة يتخذها الإنسان مكاناً وعند النظر إلى أمر الأرض يحار الطبيعي ويتلجلج في الكلام فإن عندهم موضع الأرض بطبعه أن يكون في المركز ويكون الماء محيطاً بجميع جوانبه فإذا قيل لهم فكيف ظهرت الأرض من الماء ولم ترسب يقولون لانجذاب البحار إلى بعض جوانبها فإن قيل لماذا انجذب فالذي يكون عنده قليل من العقل يرجع إلى الحق ويجعله بإرادة الله تعالى ومشيئته والذي يكون عديم العقل يجعل سببه من الكواكب وأوضاعها واختلاف مقابلاتها وينقطع في كل مقام مرة بعد أخرى وفي آخر الأمر إذا قيل له أوضاع الكواكب لم اختلفت على الوجه الذي أوجب البرد في بعض الأرض دون بعض آخر صار كما قال تعالى فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ ( البقرة 258 ) ويرجع إلى الحق إن هداه الله تعالى
المسألة الرابعة إذا كان المرج بمعنى الخلط فما الفائدة في قوله تعالى يَلْتَقِيَانِ نقول قوله تعالى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسل بعضهما في بعض وهما عند الإرسال بحيث يلتقيان أو من شأنهما الاختلاط والالتقاء ولكن الله تعالى منعهما عما في طبعهما وعلى هذا يلتقيان حال من البحرين ويحتمل أن يقال من محذوف تقديره تركهما فهما يلتقيان إلى الآن ولا يمتزجان وعلى الأول فالفائدة إظهار القدرة في النفع فإنه إذا أرسل الماءين بعضهما على بعض وفي طبعهما بخلق الله وعادته السيلان والالتقاء ويمنعهما البرزخ الذي هو قدرة الله أو بقدرة الله يكون أدل على القدرة مما إذا لم يكونا على حال يلتقيان وفيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الحكماء اتفقوا على أن الماء له حيز واحد بعضه ينجذب إلى بعض كأجزاء الزئبق غير أن عند الحكماء المحققين ذلك بإجراء الله تعالى ذلك عليه وعند من يدعي الحكمة ولم يوفقه الله من الطبيعيين يقول ذلك له بطبعه فقوله يَلْتَقِيَانِ أي من شأنهما أن يكون مكانهما واحداً ثم إنهما بقيا في مكان متميزين فذلك برهان القدرة والاختيار وعلى الوجه الثاني الفائدة في بيان القدرة أيضاً على المنع من الاختلاط فإن الماءين إذا تلاقيا لا يمتزجان في الحال بل يبقيان زماناً يسيراً كالماء المسخن إذا غمس إناء مملوء منه في ماء بارد إن لم يمكث فيه زماناً لا يمتزج بالبارد لكن إذا دام مجاورتهما فلا بد من الامتزاج فقال تعالى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلاهما ذهاباً إلى أن يلتقيان ولا يمتزجان فذلك بقدرة الله تعالى
ثم قال تعالى بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ إشارة إلى ما ذكرنا من منعه إياهما من الجريان على عادتهما والبرزخ الحاجز وهو قدرة الله تعالى في البعض وبقدرة الله في الباقي فإن البحرين قد يكون بينهما حاجز أرضي محسوس وقد لا يكون وقوله لاَّ يَبْغِيَانِ فيه وجهان أحدهما من البغي أي لا يظلم أحدهما على الآخر بخلاف قول الطبيعي حيث يقول الماءآن كلاهما جزء واحد فقال هما لا يَبْغِيَانِ ذلك وثانيهما أن يقال لا يبغيان من البغي بمعنى الطلب أي لا يطلبان شيئاً وعلى هذا ففيه وجه آخر وهو أن يقال إن يبغيان لا مفعول له معين بل هو بيان أنهما لا يبغيان في ذاتهما ولا يطلبان شيئاً أصلاً بخلاف ما يقول الطبيعي أنه يطلب الحركة والسكون في موضع عن موضع(29/89)
ثم قال تعالى
يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ فَبِأَى ِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في القراءات التي فيها قرىء يخرج من خرج ويخرج بفتح الراء من أخرج وعلى الوجهين فاللؤلؤ والمرجان مرفوعان ويخرج بكسر الراء بمعنى يخرج الله ونخرج بالنون المضمومة والراء المكسورة وعلى القراءتين ينصب اللؤلؤ والمرجان اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره وقيل المرجان هو الحجر الأحمر
المسألة الثانية اللؤلؤ لا يخرج إلا من المالح فكيف قال مِنْهُمَا نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن ظاهر كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس الذي لا يوثق بقوله ومن علم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من المالح وما وجدوه إلا فيه لكن لا يلزم من هذا أن لا يوجد في الغير سلمنا لم قلتم أن الصدف يخرج بأمر الله من الماء العذب إلى الماء المالح وكيف يمكن الجزم والأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم ثانيهما أن نقول إن صح قولهم في اللؤلؤ إنه لا يخرج إلا من البحر المالح فنقول فيه وجوه أحدها أن الصدف لا يتولد فيه اللؤلؤ إلا من المطر وهو بحر السماء ثانيها أنه يتولد في ملتقاهما ثم يدخل الصدف في المالح عند انعقاد الدر فيه طالباً للملوحة كالمتوحمة التي تشتهي الملوحة أوائل الحمل فيثقل هناك فلا يمكنه الدخول في العذب ثالثها أن ما ذكرتم إنما كان يرد أن لو قال يخرج من كل واحد منهما فأما على قوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا لا يرد إذ الخارج من أحدهما مع أن أحدهما مبهم خارج منهما كما قال تعالى وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ( نوح 16 ) يقال فلان خرج من بلاد كذا ودخل في بلاد كذا ولم يخرج إلا من موضع من بيت من محلة في بلدة رابعها أن ( من ) ليست لابتداء شيء كما يقال خرجت الكوفة بل لابتداء عقلي كما يقال خلق آدم من تراب ووجدت الروح من أمر الله فكذلك اللؤلؤ يخرج من الماء أي منه يتولد
المسألة الثالثة أي نعمة عظيمة في اللؤلؤ والمرجان حتى يذكرهما الله مع نعمة تعلم القرآن وخلق الإنسان وفي الجواب قولان الأول أن نقول النعم منها خلق الضروريات كالأرض التي هي مكاننا ولولا الأرض لما أمكن وجود التمكين وكذلك الرزق الذي به البقاء ومنها خلق المحتاج إليه وإن لم يكن ضرورياً كأنواع الحبوب وإجراء الشمس والقمر ومنها النافع وإن لم يكن محتاجاً إليه كأنواع الفواكه وخلق البحار من ذلك كما قال تعالى وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ( البقرة 164 ) ومنها الزينة وإن لم يكن نافعاً كاللؤلؤ والمرجان كما قال تعالى وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا ( فاطر 12 ) فالله تعالى ذكر أنواع النعم الأربعة التي تتعلق بالقوى الجسمانية وصدرها بالقوة العظيمة التي هي الروح وهي العلم بقوله عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 2 ) والثاني أن نقول هذه بيان عجائب الله تعالى لا بيان النعم والنعم قد تقدم ذكرها هنا وذلك لأن خلق الإنسان من صلصال وخلق الجان من نار من باب العجائب لا من باب النعم ولو خلق الله الإنسان من أي شيء خلقه لكان إنعاماً إذا عرفت هذا فنقول الأركان أربعة التراب والماء والهواء والنار فالله تعالى(29/90)
بين بقوله خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ ( الرحمن 14 ) أن الإنسان خلقه من تراب وطين وبين بقوله خُلِقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ ( الرحمن 15 ) أن النار أيضاً أصل لمخلوق عجيب وبين بقوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ أن الماء أصل لمخلوق آخر كالحيوان عجيب بقي الهواء لكنه غير محسوس فلم يذكر أنه أصل مخلوق بل بين كونه منشأ للجواري في البحر كالأعلام فقال
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاٌّ عْلَامِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في جعل الجواري خاصة له وله السموات وما فيها والأرض وما عليها نقول هذا الكلام مع العوام فذكر مالا يغفل عنه من له أدنى عقل فضلاً عن الفاضل الذكي فقال لا شك أن الفلك في البحر لا يملكه في الحقيقة أحد إذ لا تصرف لأحد في هذا الفلك وإنما كلهم منتظرون رحمة الله تعالى معترفون بأن أموالهم وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى وهم في ذلك يقولون لك الفلك ولك الملك وينسبون البحر والفلك إليه ثم إذا خرجوا ونظروا إلى بيوتهم المبنية بالحجارة والكلس وخفي عليهم وجوه الهلاك يدعون مالك الفلك وينسبون ما كانوا ينسبون البحر والفلك إليه وإليه الإشارة بقوله فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ ( العنكبوت 65 ) الآية
المسألة الثانية ( الجواري ) جمع جارية وهي اسم للسفينة أو صفة فإن كانت اسماً لزم الاشتراك والأصل عدمه وإن كانت صفة الأصل أن تكون الصفة جارية على الموصوف ولم يذكر الموصوف هنا فنقول الظاهر أن تكون صفة للتي تجري ونقل عن الميداني أن الجارية السفينة التي تجري لما أنها موضوعة للجري وسميت المملوكة جارية لأن الحرة تراد للسكن والازدواج والمملوكة لتجري في الحوائج لكنها غلبت السفينة لأنها في أكثر أحوالها تجري ودل العقل على ما ذكرنا من أن السفينة هي التي تجري غير أنها غلبت بسبب الاشتقاق على السفينة الجارية ثم صار يطلق عليها ذلك وإن لم تجر حتى يقال للسفينة الساكنة أو المشدودة على ساحل البحر جارية لما أنها تجري وللملوكة الجالسة جارية للغلبة ترك الموصوف وأقيمت الصفة مقامه فقوله تعالى وَلَهُ الْجَوَارِ أي السفن الجاريات على أن السفينة أيضاً فعيلة من السفن وهو النحت وهي فعيلة بمعنى فاعلة عند ابن دريد أي تسفن الماء أو فعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى منحوتة فالجارية والسفينة جاريتان على الفلك وفيه لطيفة لفظية وهي أن الله تعالى لما أمر نوحاً عليه السلام باتخاذ السفينة قال وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ( هود 37 ) ففي أول الأمر قال لها الفلك لأنها بعد لم تكن جرت ثم سماها بعدما عملها سفينة كما قال تعالى فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَة ِ ( العنكبوت 15 ) وسماها جارية كما قال تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَة ِ ( الحاقة 11 ) وقد عرفنا أمر الفلك وجريها وصارت كالمسماة بها فالفلك قبل الكل ثم السفينة ثم الجارية
المسألة الثالثة ما معنى المنشآت نقول فيه وجهان أحدهما المرفوعات من نشأت السحابة إذا ارتفعت وأنشأ الله إذا رفعه وحينئذ إما هي بأنفسها مرتفعة في البحر وإما مرفوعات الشراع وثانيهما المحدثات الموجودات من أنشأ الله المخلوق أي خلقه فإن قيل الوجه الثاني بعيد لأن قوله فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ(29/91)
متعلق بالمنشآت فكأنه قال وله الجواري التي خلقت في البحر كالأعلام وهذا غير مناسب وأما على الأول فيكون كأنه قال الجواري التي رفعت في البحر كالأعلام وذلك جيد والدليل على صحة ما ذكرنا أنك تقول الرجل الجريء في الحرب كالأسد فيكون حسناً ولو قلت الرجل العالم بدل الجريء في الحرب كالأسد لا يكون كذلك نقول إذا تأملت فيما ذكرنا من كون الجارية صفة أقيمت مقام الموصوف كان الإنشاء بمعنى الخلق لا ينافي قوله فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ لأن التقدير حينئذ له السفن الجارية في البحر كالأعلام فيكون أكثر بياناً للقدرة كأنه قال له السفن التي تجري في البحر كالأعلام أي كأنها الجبال والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى فالأعلام جمع العلم الذي هو الجبل وأما الشراع المرفوع كالعلم الذي هو معروف فلا عجب فيه وليس العجب فيه كالعجب في جري الجبل في الماء وتكون المنشآت معروفة كما أنك تقول الرجل الحسن الجالس كالقمر فيكون متعلق قولك كالقمر الحسن لا الجالس فيكون منشأ للقدرة إذ السفن كالجبال والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى
المسألة الرابعة قرىء المنشآت بكسر الشين ويحتمل حينئذ أن يكون قوله الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ يقوم مقام الجملة والجواري معرفة ولا توصف المعارف بالجمل فلا نقول الرجل كالأسد جاءني ولا الرجل هو أسد جاءني وتقول رجل كالأسد جاءني ورجل هو أسد جاءني فلا تحمل قراءة الفتح إلا على أن يكون حالاً وهو على وجهين أحدهما أن تجعل الكاف اسماً فيكون كأنه قال الجواري المنشآت شبه الأعلام ثانيهما يقدر حالاً هذا شبهه كأنه يقول كالأعلام ويدل عليه قوله فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ( هود 42 )
المسألة الخامسة في جمع الجواري وتوحيد البحر وجمع الأعلام فائدة عظيمة وهي أن ذلك إشارة إلى عظمة البحر ولو قال في البحار لكانت كل جارية في بحر فيكون البحر دون بحر يكون فيه الجواري التي هي كالجبال وأما إذا كان البحر واحداً وفيه الجواري التي هي كالجبال يكون ذلك بحراً عظيماً وساحله بعيداً فيكون الإنجاء بقدرة كاملة
ثم قال تعالى
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
وفيه وجهان أحدهما وهو الصحيح أن الضمير عائد إلى الأرض وهي معلومة وإن لم تكن مذكورة قال تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ ( فاطر 45 ) الآية وعلى هذا فله ترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه تعالى لما قال وَلَهُ الْجَوَارِ ( الرحمن 24 ) إشارة إلى أن كل أحد يعرف ويجزم بأنه إذا كان في البحر فروحه وجسمه وماله في قبضة الله تعالى فإذا خرج إلى البر ونظر إلى الثبات الذي للأرض والتمكن الذي له فيها ينسى أمره فذكره وقال لا فرق بين الحالتين بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وكل من على وجه الأرض فإنه كمن على وجه الماء ولو أمعن العاقل النظر لكان رسوب الأرض الثقيلة في الماء الذي هي عليه أقرب إلى العقل من رسوب الفلك الخفيفة فيه الثاني أن الضمير عائد إلى الجارية إلا أنه بضرورة ما قبلها كأنه تعالى قال الجواري ولا شك في أن كل من فيها إلى الفناء أقرب فكيف يمكنه إنكار كونه في ملك الله تعالى وهو لا يملك لنفسه في تلك الحالة نفعاً ولا ضراً وقوله تعالى فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ ( الرحمن 27 ) يدل على أن الصحيح الأول وفيه مسائل(29/92)
المسألة الأولى مِنْ للعقلاء وكل ما على وجه الأرض مع الأرض فان فما فائدة الاختصاص بالعقلاء نقول المنتفع بالتخويف هو العاقل فخصه تعالى بالذكر
المسألة الثانية الفاني هو الذي فنى وكل من عليها سيفنى فهو باق بعد ليس بفان نقول كقوله إِنَّكَ مَيّتٌ ( الزمر 30 ) وكما يقال للقريب إنه واصل وجواب آخر وهو أن وجود الإنسان عرض وهو غير باق وما ليس بباق فهو فان فأمر الدنيا بين شيئين حدوث وعدم أما البقاء فلا بقاء له لأن البقاء استمرار ولا يقال هذا تثبيت بالمذهب الباطل الذي هو القول بأن الجسم لا يبقى زمانين كما قيل في العرض لأنا نقول قوله مِنْ بدل قوله ( ما ) ينفي ذلك التوهم لأني قلت ( من عليها فان ) لا بقاء له وما قلت ما عليها فان ومن مع كونه على الأرض يتناول جسماً قام به أعراض بعضها الحياة والأعراض غير باقية فالمجموع لم يبق كما كان وإنما الباقي أحد جزأيه وهو الجسم وليس يطلق عليه بطريق الحقيقة لفظة ( من ) فالفاني ليس ما عليها وما عليها ليس بباق
المسألة الثالثة ما الفائدة في بيان أنه تعالى قال فَانٍ نقول فيه فوائد منها الحث على العبادة وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة ومنها المنع من الوثوق بما يكون للمرء فلا يقول إذا كان في نعمة إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله معتمداً على ماله وملكه ومنها الأمر بالصبر إن كان في ضر فلا يكفر بالله معتمداً على أن الأمر ذاهب والضر زائل ومنها ترك اتخاذ الغير معبوداً والزجر على الاغترار بالقرب من الملوك وترك التقرب إلى الله تعالى فإن أمرهم إلى الزوال قريب فيبقى القريب منهم عن قريب في ندم عظيم لأنه إن مات قبلهم يلقى الله كالعبد الآبق وإن مات الملك قبله فيبقى بين الخلق وكل أحد ينتقم منه ويتشفى فيه ويستحي ممن كان يتكبر عليه وإن ماتا جميعاً فلقاء الله عليه بعد التوفي في غاية الصعوبة ومنها حسن التوحيد وترك الشرك الظاهر والخفي جميعاً لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد
ثم قال تعالى
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الوجه يطلق على الذات والمجسم يحمل الوجه على العضو وهو خلاف العقل والنقل أعني القرآن لأن قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) يدل على أن لا يبقى إلا وجه الله تعالى فعلى القول الحق لا إشكال فيه لأن المعنى لا يبقى غير حقيقة الله أو غير ذات الله شيء وهو كذلك وعلى قول المجسم يلزم أن لا تبقى يده التي أثبتها ورجله التي قال بها لا يقال فعلى قولكم أيضاً يلزم أن لا يبقى علم الله ولا قدرة الله لأن الوجه جعلتموه ذاتاً والذات غير الصفات فإذا قلت كل شيء هالك إلا حقيقة الله خرجت الصفات عنها فيكون قولكم نفياً للصفات نقول الجواب عنه بالعقل والنقل أما النقل فذلك أمر يذكر في غير هذا الموضع وأما العقل فهو أن قول القائل لم يبق لفلان إلا ثوب يتناول الثوب وما قام به من اللون والطول والعرض وإذا قال لم يبق إلا كمه لا يدل على بقاء جيبه وذيله فكذلك قولنا يبقى ذات الله تعالى يتناول صفاته وإذا قلتم لا يبقى غير وجهه بمعنى العضو يلزمه أن لا تبقى يده
المسألة الثانية فما السبب في حسن إطلاق لفظ الوجه على الذات نقول إنه مأخوذ من عرف الناس(29/93)
فإن الوجه يستعمل في العرف لحقيقة الإنسان ألا ترى أن الإنسان إذا رأى وجه غيره يقول رأيته وإذا رأى غير الوجه من اليد والرجل مثلاً لا يقول رأيته وذلك لأن اطلاع الإنسان على حقائق الأشياء في أكثر الأمر يحصل بالحس فإن الإنسان إذا رأى شيئاً علم منه مالم يكن يعلم حال غيبته لأن الحس لا يتعلق بجميع المرئي وإنما يتعلق ببعضه ثم إن الحس يدرك والحدس يحكم فإذا رأى شيئاً بحسه يحكم عليه بأمر بحدسه لكن الإنسان اجتمع في وجهه أعضاء كثيرة كل واحد يدل على أمر فإذا رأى الإنسان وجه الإنسان حكم عليه بأحكام ما كان يحكم بها لولا رؤيته وجهه فكان أدل على حقيقة الإنسان وأحكامه من غيره فاستعمل الوجه في الحقيقة في الإنسان ثم نقل إلى غيره من الأجسام ثم نقل لي ما ليس بجسم يقال في الكلام هذا وجه حسن وهذا وجه ضعيف وقول من قال إن الوجه من المواجهة كما هو المسطور في البعض من الكتب الفقهية فليس بشيء إذ الأمر على العكس لأن الفعل من المصدر والمصدر من الاسم الأصلي وإن كان بالنقل فالوجه أول ما وضع للعضو ثم استعمل واشتق منه غيره ويعرف ذلك العارف بالتصريف البارع في الأدب
المسألة الثالثة لو قال ويبقى ربك أو الله أو غيره فحصلت الفائدة من غير وقوع في توهم ما هو ابتدع نقول ما كان يقوم مقام الوجه لفظ آخر ولا وجه فيه إلا ما قاله الله تعالى وذلك لأن سائر الأسماء المعروفة لله تعالى أسماء الفاعل كالرب والخالق والله عند البعض بمعنى المعبود فلو قال ويبقى ربك ربك وقولنا ربك معنيان عند الاستعمال أحدهما أن يقال شيء من كل ربك ثانيهما أن يقال يبقى ربك مع أنه حالة البقاء ربك فيكون المربوب في ذلك الوقت وكذلك لو قال يبقى الخالق والرازق وغيرهما
المسألة الرابعة ما الحكمة في لفظ الرب وإضافة الوجه إليه وقال في موضع آخر فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 ) وقال يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ( الروم 38 ) نقول المراد في الموضعين المذكورين هو العبادة أما قوله فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فظاهر لأن المذكور هناك الصلاة وأما قوله يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فالمذكور هو الزكاة قال تعالى من قبل فَئَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ( الروم 38 ) ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ( الروم 38 ) ولفظ الله يدل على العبادة لأن الله هو المعبود والمذكور في هذا الموضع النعم التي بها تربية الإنسان فقال وَجْهُ رَبّكَ
المسألة الخامسة الخطاب بقوله رَبَّكَ مع من نقول الظاهر أنه مع كل أحد كأنه يقول ويبقى وجه ربك أيها السامع ويحتمل أن يكون الخطاب مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قيل فيكف قال فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ خطاباً مع الإثنين وقال وَجْهُ رَبّكَ خطاباً مع الواحد نقول عند قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ وقعت الإشارة إلى فناء كل أحد وبقاء الله فقال وجه ربك أي يا أيها السامع فلا تلتفت إلى أحد غير الله تعالى فإن كل من عداه فان والمخاطب كثيراً ما يخرج عن الإرادة في الكلام فإنك إذا قلت لمن يشكو إليك من أهل موضع سأعاقب لأجلك كل من في ذلك الموضع يخرج المخاطب عن الوعيد وإن كان من أهل الموضع فقال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ليعلم كل أحد أن غيره فان ولو قال وجه ربكما لكان كل واحد يخرج نفسه ورفيقه المخاطب من الفناء فإن قلت لو قال ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل نقول كأن الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف(29/94)
وتعديد النعم فلو قال بلفظ الرب لم يدل عليه الخطاب وفي لفظ الرب عادة جارية وهي أنه لا يترك استعماله مع الإضافة فالعبد يقول ربنا اغفر لنا ورب اغفر لي والله تعالى يقول رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ( الدخان 8 ) و رَبّ الْعَالَمِينَ ( الفاتحة 2 ) وحيث ترك الإضافة ذكره مع صفة أخرى من أوصاف اللفظ حيث قال تعالى بَلْدَة ٌ طَيّبَة ٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( سبأ 15 ) وقال تعالى سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) ولفظ الرب يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى التربية يقال ربه يربه رباً مثل رباه يربيه ويحتمل أن يكون وصفاً من الرب الذي هو مصدر بمعنى الراب كالطب للطبيب والسمع للحاسة والبخل للبخيل وأمثال ذلك لكن من باب فعل وعلى هذا فيكون كأنه فعل من باب فعل يفعل أي فعل الذي للغريزي كما يقال فيما إذا قلنا فلان أعلم وأحكم فكان وصفاً له من باب فعل اللازم ليخرج عن التعدي
المسألة السادسة الْجَلْالِ إشارة إلى كل صفة من باب النفي كقولنا الله ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولهذا يقال جل أن يكون محتاجاً وجل أن يكون عاجزاً والتحقيق فيه أن الجلال هو بمعنى العظمة غير أن العظمة أصلها في القوة والجلال في الفعل فهو عظيم لا يسعه عقل ضعيف فجل أن يسعه كل فرض معقول وَالإكْرَامِ إشارة إلى كل صفة هي من باب الإثبات كقولنا حي قادر عالم وأما السميع والبصير فإنهما من باب الإثبات كذلك عند أهل السنة وعند المعتزلة من باب النفي وصفات باب النفي قبل صفات باب الإثبات عندنا لأنا أولاً نجد الدليل وهو العالم فنقول العالم محتاج إلى شيء وذلك الشيء ليس مثل العالم فليس بمحدث ولا محتاج ولا ممكن ثم نثبت له القدرة والعلم وغيرهما ومن هنا قال تعالى لعباده لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ ( الصافات 35 ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) ونفي الإلهية عن غير الله نفي صفات غير الله عن الله فإنك إذا قلت الجسم ليس بإله لزم منه قولك الله ليس بجسم و ( الجلال والإكرام ) وصفان مرتبان على أمرين سابقين فالجلال مرتب على فناء الغير والإكرام على بقائه تعالى فيبقى الفرد وقد عز أن يحد أمره بفناء من عداه وما عداه ويبقى وهو مكرم قادر عالم فيوجد بعد فنائهم من يريد وقرىء ذُو الْجَلْالِ و ذِى الْجَلَالِ وسنذكر ما يتعلق به في تفسير آخر السورة إن شاء الله تعالى
ثم قال تعالى
يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه وجهان أحدهما أنه حال تقديره يبقى وجه ربك مسئولاً وهذا منقول معقول وفيه إشكال وهو أنه يفضي إلى التناقض لأنه لما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ( الرحمن 27 ) كان إشارة إلى بقائه بعد فناء من على الأرض فكيف يكون في ذلك الوقت مسئولاً لمن في الأرض فأما إذا قلنا الضمير عائد إلى ( الأمور ) الجارية ( في يومنا ) فلا إشكال في هذا الوجه وأما على الصحيح فنقول عنه أجوبة أحدها لما بينا أنه فان نظراً إليه ولا يبقى إلا بإبقاء الله فيصح أن يكون الله مسئولاً ثانيها أن يكون مسئولاً معنى لا حقيقة لأن الكل إذا فنوا ولم يكن وجود إلا بالله فكأن القوم فرضوا سائلين بلسان الحال ثالثها أن قوله وَيَبْقَى للاستمرار فيبقى ويعيد من كان في الأرض ويكون مسئولاً والثاني أنه ابتداء كلام وهو أظهر وفيه مسائل(29/95)
المسألة الأولى ماذا يسأله السائلون فنقول يحتمل وجوهاً أحدها أنه سؤال استعطاء فيسأله كل أحد الرحمة وما يحتاج إليه في دينه ودنياه ثانيها أنه سؤال استعلام أي عنده علم الغيب لا يعلمه إلا هو فكل أحد يسأله عن عاقبة أمره وعما فيه صلاحه وفساده فإن قيل ليس كل أحد يعترف بجهله وعلم الله نقول هذا كلام في حقيقة الأمر من جاهل فإن كان من جاهل معاند فهو في الوجه الأول أيضاً وارد فإن من المعاندين من لا يعترف بقدرة الله فلا يسأله شيئاً بلسانه وإن كان يسأله بلسان حاله لإمكانه والوجه الأول إشارة إلى كمال القدرة أي كل أحد عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه والوجه الثاني إشارة إلى كمال العلم أي كل أحد جاهل بما عند الله من المعلومات ثالثها أن ذلك سؤال استخراج أمر وقوله مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي من الملائكة يسألونه كل يوم ويقولون إلهنا ماذا نفعل وبماذا تأمرنا وهذا يصلح جواباً آخر عن الإشكال على قول من قال يسأله حال لأنه يقول قال تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) ومن عليها تكون الأرض مكانه ومعتمده ولولاها لا يعيش وأما من فيها من الملائكة الأرضية فهم فيها وليسوا عليها ولا تضرهم زلزلتها فعندما يفنى من عليها ويبقى الله تعالى لا يفنى هؤلاء في تلك الحال فيسألونه ويقولون ماذا نفعل فيأمرهم بما يأمرهم ويفعلون ما يؤمرون ثم يقول لهم عندما يشاء موتوا فيموتوا هذا على قول من قال يَسْأَلُهُ حال وعلى الوجه الآخر لا إشكال
المسألة الثانية هو عائد إلى من نقول الظاهر المشهور أنه عائد إلى الله تعالى وعليه اتفاق المفسرين ويدل عليه ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن ذلك الشأن فقال ( يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع من يشاء ويضع من يشاء ) ويحتمل أن يقال هو عائد إلى يوم و كُلَّ يَوْمٍ ظرف سؤالهم أي يقع سؤالهم في كل يوم وهو في شأن يكون جملة وصف بها يوم وهو نكرة كما يقال يسألني فلان كل يوم هو يوم راحتي أي يسألني أيام الراحة وقوله هُوَ فِى شَأْنٍ يكون صفة مميزة للأيام التي فيها شأن عن اليوم الذي قال تعالى فيه لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ( غافر 16 ) فإنه تعالى في ذلك اليوم يكون هو السائل وهو المجيب ولا يسأل في ذلك اليوم لأنه ليس يوماً هو في شأن يتعلق بالسائلين من الناس والملائكة وغيرهم وإنما يسألونه في يوم هو في شأن يتعلق بهم فيطلبون ما يحتاجون إليه أو يستخرجون أمره بما يفعلون فيه فإن قيل فهذا ينافي ما ورد في الخبر نقول لا منافاة لقوله عليه السلام في جواب من قال ما هذا الشأن فقال ( يغفر ذنباً ( ويفرج كرباً ) ) أي فالله تعالى جعل بعض الأيام موسومة بوسم يتعلق بالخلق من مغفرة الذنوب والتفريج عن المكروب فقال تعالى يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ في تلك الأيام التي في ذلك الشأن وجعل بعضها موسومة بأن لا داعي فيها ولا سائل وكيف لا نقول بهذا ولو تركنا كل يوم على عمومه لكان كل يوم فيه فعل وأمر وشأن فيفضي ذلك إلى القول بالقدم والدوام اللهم إلا أن يقال عام دخله التخصيص كقوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) و تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء ( الأحقاف 25 )
المسألة الثالثة فعلى المشهور يكون الله تعالى في كل يوم ووقت في شأن وقد جف القلم بما هو كائن نقول فيه أجوبة منقولة في غاية الحسن فلا نبخل بها وأجوبة معقولة نذكرها بعدها أما المنقولة فقال بعضهم المراد سوق المقادير إلى المواقيت ومعناه أن القلم جف بما يكون في كل ( يوم و ) وقت فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل فيه فيوجد وهذا وجه حسن لفظاً ومعنى وقال بعضهم شؤون يبديها لا(29/96)
شؤون يبتديها وهو مثل الأول معنى أي لا يتغير حكمه بأنه سيكون ولكن يأتي وقت قدر الله فيه فعله فيبدو فيه ما قدره الله وهذان القولان ينسبان إلى الحسن بن الفضل أجاب بهما عبد الله بن طاهر وقال بعضهم يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويشفي سقيماً ويمرض سليماً ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً إلى غير ذلك وهو مأخوذ من قوله عليه السلام ( يغفر ذنباً ويفرج كرباً ) وهو أحسن وأبلغ حيث بين أمرين أحدهما يتعلق بالآخرة والآخر بالدنيا وقدم الأخروي على الدنيوي وأما المعقولة فهي أن نقول هذا بالنسبة إلى الخلق ومن يسأله من أهل السموات والأرض لأنه تعالى حكم بما أراد وقضى وأبرم فيه حكمه وأمضى غير أن ما حكمه يظهر كل يوم فنقول أبرم الله اليوم رزق فلان ولم يرزقه أمس ولا يمكن أن يحيط علم خلقه بما أحاط به علمه فتسأله الملائكة كل يوم إنك يا إلهنا في هذا اليوم في أي شأن في نظرنا وعلمنا الثاني هو أن الفعل يتحقق بأمرين من جانب الفاعل بأمر خاص ومن جانب المفعول في بعض الأمور ولا يمكن غيره وعلى وجه يختاره الفاعل من وجوه متعددة مثال الأول تحريك الساكن لا يمكن إلا بإزالة السكون عنه والإتيان بالحركة عقيبه من غير فصل ومثال الثاني تسكين الساكن فإنه يمكن مع إبقاء السكون فيه ومع إزالته عقيبه من غير فصل أو مع فصل إذ يمكن أن يزيل عنه السكون ولا يحركه مع بقاء الجسم إذا عرفت هذا فالله تعالى خلق الأجسام الكثيرة في زمان واحد وخلق فيها صفات مختلفة في غير ذلك الزمان فإيجادها فيه لا في زمان آخر بعد ذلك الزمان فمن خلقه فقيراً في زمان لم يمكن خلقه غنياً في عين ذلك الزمان مع خلقه فقيراً فيه وهذا ظاهر والذي يظن أن ذلك يلزم منه العجز أو يتوهم فليس كذلك بل العجز في خلاف ذلك لأنه لو خلقه فقيراً في زمان يريد كونه غنياً لما وقع الغنى فيه مع أنه أراده فيلزم العجز من خلاف ما قلنا لا فيما قلنا فإذن كل زمان هو غير الزمان الآخر فهو معنى قوله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ وهو المراد من قول المفسرين أغنى فقيراً وأفقر غنياً وأعز ذليلاً وأذل عزيزاً إلى غير ذلك من الأضداد ثم اعلم أن الضدين ليسا منحصرين في مختلفين بل المثلان في حكمهما فإنهما لا يجتمعان فمن وجد فيه حركة إلى مكان في زمان لا يمكن أن توجد فيه في ذلك الزمان حركة أخرى أيضاً إلى ذلك المكان وليس شأن الله مقتصراً على إفقار غنى أو إغناء فقير في يومنا دون إفقاره أو إغنائه أمس ولا يمكن أن يجمع في زيد إغناء هو أمسي مع إغناء هو يومي فالغنى المستمر للغني في نظرنا في الأمر متبدل الحال فهو أيضاً من شأن الله تعالى واعلم أن الله تعالى يوصف بكونه لا يشغله شأن عن شأن ومعناه أن الشأن الواحد لا يصير مانعاً له تعالى عن شأن آخر كما أنه يكون مانعاً لنا مثاله واحد منا إذا أراد تسويد جسم بصبغة يسخنه بالنار أو تبييض جسم يبرده بالماء والماء والنار متضادان إذا طلب منه أحدهما وشرع فيه يصير ذلك مانعاً له من فعل الآخر وليس ذلك الفعل مانعاً من الفعل لأن تسويد جسم وتبييض آخر لا تنافي بينهما وكذلك تسخينه وتسويده بصبغة لا تنافي فيه فالفعل صار مانعاً للفاعل من فعله ولم يصر مانعاً من الفعل وفي حق الله مالا يمنع الفعل لا يمنع الفاعل فيوجد تعالى من الأفعال المختلفة مالا يحصر ولا يحصى في آن واحد أما ما يمنع من الفعل كالذي يسود جسماً في آن لم يمكنه أن يبيضه في ذلك الآن فهو قد يمنع الفاعل أيضاً وقد لا يمنع ولكن لا بد من منعه للفاعل فالتسويد لا يمكن معه التبييض والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن أصلاً لكن أسبابه تمنع أسباباً آخر لا تمنع الفاعل إذا علمت هذا البحث فقد أفادك(29/97)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
التحقيق في قوله تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ولنذكر أولاً ما قيل فيه تبركاً بأقوال المشايخ ثم نحققه بالبيان الشافي فنقول اختلف المفسرون فيه وأكثرهم على أن المراد سنقصدكم بالفعل وقال بعضهم خرج ذلك مخرج التهديد على ما هي عادة استعمال الناس فإن السيد يقول لعبده عند الغضب سأفرغ لك وقد يكون السيد فارغاً جالساً لا يمنعه شغل وأما التحقيق فيه فنقول عدم الفراغ عبارة عن أن يكون الفاعل في فعل لا يمكنه معه إيجاد فعل آخر فإن من يخيط يقول ما أنا بفارغ للكتابة لكن عدم الفراغ قد يكون لكون أحد الفعلين مانعاً للفاعل من الفعل الآخر يقال هو مشغول بكذا عن كذا كما في قول القائل أنا مشغول بالخياطة عن الكتابة وقد يكون عدم الفراغ لكون الفعل مانعاً من الفعل لا لكونه مانعاً من الفاعل كالذي يحرك جسماً في زمان لا يمكن تسكينه في ذلك الزمان فهو ليس بفارغ للتسكين ولكن لا يقال في مثل هذا الوقت أنا مشغول بالتحريك عن التسكين فإن في مثل هذا الموضع لو كان غير مشغول به بل كان في نفس المحل حركة لا بفعل ذلك الفاعل لا يمكنه التسكين فليس امتناعه منه إلا لاستحالته بالتحريك وفي الصورة الأولى لولا اشتغاله بالخياطة لتمكن من الكتابة إذا عرفت هذا صار عدم الفراغ قسمين أحدهما بشغل والآخر ليس بشغل فنقول إذا كان الله تعالى باختياره أوجد الإنسان وأبقاه مدة أرادها بمحض القدرة والإرادة لا يمكن مع هذا إعدامه فهو في فعل لا يمنع الفاعل لكن يمنع الفعل ومثل هذا بينا أنه ليس بفراغ وإن كان له شغل فإذا أوجد ما أراد أولاً ثم بعد ذلك أمكن الإعدام والزيادة في آنه فيتحقق الفراغ لكن لما كان للإنسان مشاهدة مقتصرة على أفعال نفسه وأفعال أبناء جنسه وعدم الفراغ منهم بسبب الشغل يظن أن الله تعالى فارغ فحمل الخلق عليه أنه ليس بفارغ فيلزم منه الفعل وهو لا يشغله شأن عن شأن يلزمه حمل اللفظ على غير معناه واعلم أن هذا ليس قولاً آخر غير قول المشايخ بل هو بيان لقولهم سنقصدكم غير أن هذا مبين والحمد لله على أن هدانا للبيان من غير خروج عن قول أرباب اللسان واعلم أن أصل الفراغ بمعنى الخلو لكن ذلك إن كان في المكان فيتسع ليتمكن آخر وإن كان في الزمان فيتسع للفعل فالأصل أن زمان الفاعل فارغ عن فعله وغير فارغ لكن المكان مرئي بالخلو فيه فيطلق الفراغ على خلو المكان في الظرف الفلاني والزمان غير مرئي فلا يرى خلوه ويقال فلان في زمان كذا فارغ لأن فلاناً هو المرئي لا الزمان والأصل أن هذا الزمان من أزمنة فلان فارغ فيمكنه وصفه للفعل فيه وقوله تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ استعمال على ملاحظة الأصل لأن المكان إذا خلا يقال لكذا ولا يقال إلى كذا فكذلك الزمان لكن لما نقل إلى الفاعل وقيل الفاعل على فراغ وهو عند الفراغ يقصد إلى شيء آخر قيل في الفاعل فرغ من كذا إلى كذا وفي الظرف يقال فرغ من كذا لكذا فقال لكم على ملاحظة الأصل وهو يقوي ما ذكرنا أن المانع ليس بالنسبة إلى الفعل بل بالنسبة إلى الفعل وأما أَيُّهَ فنقول الحكمة في نداء المبهم والإتيان بالوصف بعده هي أن المنادي يريد صون كلامه عن الضياع فيقول أولاً يا أي نداء لمبهم ليقبل عليه كل من يسمع ويتنبه لكلامه من يقصده ثم عند إقبال السامعين يخصص المقصود فيقول الرجل والتزم فيه أمران أحدهما الوصف بالمعرف باللام أو باسم الإشارة فتقول يا أيها الرجل أو يا أيهذا لا الأعرف منه وهو العلم لأن بين المبهم الواقع على كل جنس والعلم المميز عن كل شخص تباعداً وثانيهما توسط ها التنبيه بينه وبين(29/98)
الوصف لأن الأصل في أي الإضافة لما أنه في غاية الإبهام فيحتاج إلى التمييز وأصل التمييز على ما بينا الإضافة فوسط بينهما لتعويضه عن الإضافة والتزم أيضاً حذف لام التعريف عند زوال أي فلا تقول يا الرجل لأن في ذلك تطويلاً من غير فائدة فإنك لا تفيد باللام التنبيه الذي ذكرنا فقولك يا رجل مفيد فلا حاجة إلى اللام فهو يوجب إسقاط اللام عند الإضافة المعنوية فإنها لما أفادت التعريف كان إثبات اللام تطويلاً من غير فائدة لكونه جمعاً بين المعرفين وقوله تعالى الثَّقَلاَنِ المشهور أن المراد الجن والإنس وفيه وجوه أحدها أنهما سميا بذلك لكونهما مثقلين بالذنوب ثانيهما سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض فإن التراب وإن لطف في الخلق ليتم خلق آدم لكنه لم يخرج عن كونه ثقيلاً وأما النار فلما ولد فيها خلق الجن كثفت يسيراً فكما أن التراب لطف يسيراً فكذلك النار صارت ثقيلة فهما ثقلان فسميا بذلك ثالثها الثقيل أحدهما لا غير وسمي الآخر به للمجاورة والاصطحاب كمايقال العمران والقمران وأحدهما عمر وقمر أو يحتمل أن يكون المراد العموم بالنوعين الحاصرين تقول يا أيها الثقل الذي هو كذا والثقل الذي ليس كذا والثقل الأمر العظيم قال عليه السلام ( إني تارك فيكم الثقلين )
ثم قال تعالى
يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ والأرض فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في وجه الترتيب وحسنه وذلك لأنه تعالى لماقال سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( الرحمن 31 ) وبينا أنه لم يكن له شغل فكأن قائلاً قال فلم كان التأخير إذا لم يكن شغل هناك مانع فقال المستعجل يستعجل إما لخوف فوات الأمر بالتأخير وإما لحاجة في الحال وإما لمجرد الاختيار والإرادة على وجه التأخير وبين عدم الحاجة من قبل بقوله كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ( الرحمن 26 27 ) لأن ما يبقى بعد فناء الكل لا يحتاج إلى شيء فبين عدم الخوف من الفوات وقال لا يفوتون ولا يقدرون على الخروج من السموات والأرض ولو أمكن خروجهم عنهما لما خرجوا عن ملك الله تعالى فهو آخذهم أين كانوا وكيف كانوا
المسألة الثانية المعشر الجماعة العظيمة وتحقيقه هو أن المعشر العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بابتداء فيه حيث يعيد الآحاد ويقول أحد عشر وإثنا عشر وعشرون وثلاثون أي ثلاث عشرات فالمعشر كأنه محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة
المسألة الثالثة هذا الخطاب في الدنيا أو في الآخرة نقول الظاهر فيه أنه في الآخرة فإن الجن والإنس يريدون الفرار من العذاب فيجدون سبعة صفوف من الملائكة محيطين بأقطار السموات والأرض والأولى ما ذكرنا أنه عام بمعنى لا مهرب ولا مخرج لكم عن ملك الله تعالى وأينما توليتم فثم ملك الله وأينما تكونوا أتاكم حكم الله(29/99)
المسألة الرابعة ما الحكمة في تقديم الجن على الإنس ههنا وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ( الإسراء 88 ) نقول النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن فقدم في كل موضع من يظن به القدرة على ذلك
المسألة الخامسة ما معنى لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ نقول ذلك يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون بياناً بخلاف ما تقدم أي ما تنفذون ولا تنفذون إلا بقوة وليس لكم قوة على ذلك ثانيها أن يكون على تقدير وقوع الأمر الأول وبيان أن ذلك لا ينفعكم وتقديره ما تنفذوا وإن نفذتم ما تنفذون إلا ومعكم سلطان الله كما يقول خرج القوم بأهلهم أي معهم ثالثها أن المراد من النفوذ ما هو المقصود منه وذلك لأن نفوذهم إشارة إلى طلب خلاصهم فقال لا تنفذون من أقطار السموات لا تتخلصون من العذاب ولا تجدون ما تطلبون من النفود وهو الخلاص من العذاب إلا بسلطان من الله يجيركم وإلا فلا مجير لكم كما تقول لا ينفعك البكاء إلا إذا صدقت وتريد به أن الصدق وحده ينفعك لا أنك إن صدقت فينفعك البكاء رابعها أن هذا إشارة إلى تقرير التوحيد ووجهه هو كأنه تعالى قال يا أيها الغافل لا يمكنك أن تخرج بذهنك عن أقطار السموات والأرض فإذا أنت أبداً تشاهد دليلاً من دلائل الوحدانية ثم هب أنك تنفذ من أقطار السموات والأرض فاعلم أنك لا تنفذ إلا بسلطان تجده خارج السموات والأرض قاطع دال على وحدانيته تعالى والسلطان هو القوة الكاملة
ثم قال تعالى
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما وجه تعلق الآية بما قبلها نقول إن قلنا يا معشر الجن والإنس نداء ينادي به يوم القيامة فكأنه تعالى قال يوم يرسل عليكما شواظ من نار فلا يبقى لكما انتصار إن استطعتما النفوذ فانفذا وإن قلنا إن النداء في الدنيا فنقول قوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ إشارة إلى أنه لا مهرب لكم من الله فيمكنكم الفرار قبل الوقوع في العذاب ولا ناصر لكم فيخلصكم من النار بعد وقوعكم فيها وإرسالها عليكم فكأنه قال إن استطعتم الفرار لئلا تقعوا في العذاب ففروا ثم إذا تبين لكم أن لا فرار لكم ولا بد من الوقوع فيه فإذا وقعتم فيه وأرسل عليكم فاعلموا أنكم لا تنصرون فلا خلاص لكم إذن لأن الخلاص إما بالدفع قبل الوقوع وإما بالرفع بعده ولا سبيل إليهما
المسألة الثانية كيف ثنى الضمير في قوله عَلَيْكُمَا مع أنه جمع قبله بقوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ( الرحمن 33 ) والخطاب مع الطائفتين وقال فَلاَ تَنتَصِرَانِ وقال من قبل لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ( الرحمن 33 ) نقول فيه لطيفة وهي أن قوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ لبيان عجزهم وعظمة ملك الله تعالى فقال إن استطعتم أن تنفذوا باجتماعكم وقوتكم فانفذوا ولا تستطيعون لعجزكم فقد بان عند اجتماعكم واعتضادكم بعضكم ببعض فهو عند افتراقكم أظهر فهو خطاب عام مع كل أحد عند الانضمام إلى جميع من عداه من الأعوان والإخوان(29/100)
وأماقوله تعالى يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا فهو لبيان الإرسال على النوعين لا على كل واحد منهما لأن جميع الإنس والجن لا يرسل عليهم العذاب والنار فهو يرسل على النوعين ويتخلص منه بعض منهما بفضل الله ولا يخرج أحد من الأقطار أصلاً وهذا يتأيد بما ذكرنا أنه قال لا فرار لكم قبل الوقوع ولا خلاص لكم عند الوقوع لكن عدم الفرار عام وعدم الخلاص ليس بعام والجواب الثاني من حيث اللفظ هو أن الخطاب مع المعشر فقوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أيها المعشر وقوله يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا ليس خطاباً مع النداء بل هو خطاب مع الحاضرين وهما نوعان وليس الكلام مذكوراً بحرف واو العطف حتى يكون النوعان مناديين في الأول وعند عدم التصريح بالنداء فالتثنية أولى كقوله تعالى فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا وهذا يتأيد بقول تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ ( الرحمن 31 ) وحيث صرح بالنداء جمع الضمير وقال بعد ذلك فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا حيث لم يصرح بالنداء
المسألة الثالثة ما الشواظ وما النحاس نقول الشواظ لهب النار وهو لسانه وقيل ذلك لا يقال إلا للمختلط بالدخان الذي من الحطب والظاهر أن هذا مأخوذ من قول الحكماء إن النار إذا صارت خالصة لا ترى كالتي تكون في الكير الذي يكون في غاية الاتقاد وكما في التنور المسجور فإنه يرى فيه نور وهو نار وأما النحاس ففيه وجهان أحدهما الدخان والثاني القطر وهو النحاس المشهور عندنا ثم إن ذكر الأمرين بعد خطاب النوعين يحتمل أن يكون لاختصاص كل واحد بواحد وحينئذ فالنار الخفيف للإنس لأنه يخالف جوهره والنحاس الثقيل للجن لأنه يخالف جوهره أيضاً فإن الإنس ثقيل والنار خفيفة والجن خفاف والنحاس ثقيل وكذلك إن قلنا المراد من النحاس الدخان ويحتمل أن يكون ورودهما على حد واحد منهما وهو الظاهر الأصح
المسألة الرابعة من قرأ نحاس بالجر كيف يعربه ولو زعم أنه عطف على النار يكون شواظ من نحاس والشواظ لا يكون من نحاس نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما تقديره شيء من نحاس كقولهم تقلدت سيفاً ورمحاً وثانيهما وهو الأظهر أن يقول الشواظ لم يكن إلا عندما يكون في النار أجزاء هوائية وأرضية وهو الدخان فالشواظ مركب من نار ومن نحاس وهو الدخان وعلى هذا فالمرسل شيء واحد لا شيئان غير أنه مركب فإن قيل على هذا لا فائدة لتخصيص الشواظ بالإرسال إلا بيان كون تلك النار بعد غير قوية قوة تذهب عنه الدخان نقول العذاب بالنار التي لا ترى دون العذاب بالنار التي ترى لتقدم الخوف على الوقوع فيه وامتداد العذاب والنار الصرفة لا ترى أو ترى كالنور فلا يكون لها لهيب وهيبة وقوله تعالى وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ نفي لجميع أنواع الانتصار فلا ينتصر أحدهما بالآخر ولا هما بغيرهما وإن كان الكفار يقولون في الدنيا نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ( القمر 44 ) والانتصار التلبس بالنصرة يقال لمن أخذ الثأر انتصر منه كأنه انتزع النصرة منه لنفسه وتلبس بها ومن هذا الباب الانتقام والادخار والادهان والذي يقال فيه إن الانتصار بمعنى الامتناع فَلاَ تَنتَصِرَانِ بمعنى لا تمتنعان وهو في الحقيقة راجع إلى ما ذكرنا لأنه يكون متلبساً بالنصرة فهو ممتنع لذلك
ثم قال تعالى
فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَة ً كَالدِّهَانِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
إشارة إلى ما(29/101)
أعظم من إرسال الشواظ على الإنس والجن فكأنه تعالى ذكر أولاً ما يخاف منه الإنسان ثم ذكر ما يخاف منه كل واحد ممن له إدراك من الجن والإنس والملك حيث تخلوا أماكنهم بالشق ومساكن الجن والإنس بالخراب ويحتمل أن يقال إنه تعالى لما قال كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) إشارة إلى سكان الأرض قال بعد ذلك فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء بياناً لحال سكان السماء وفيه مسائل
المسألة الأولى الفاء في الأصل للتعقيب على وجوه ثلاثة منها التعقيب الزماني للشيئين اللذين لا يتعلق أحدهما بالآخر عقلاً كقوله قعد زيد فقام عمرو لمن سألك عن قعود زيد وقيام عمر وإنهما كانا معاً أو متعاقبين ومنها التعقيب الذهني للذين يتعلق أحدهما بالآخر كقولك جاء زيد فقام عمرو إكراماً له إذ يكون في مثل هذا قيام عمرو مع مجيء زيد زماناً ومنها التعقيب في القول كقولك لا أخاف الأمير فالملك فالسلطان كأنك تقول أقول لا أخاف الأمير وأقول لا أخاف الملك وأقول لا أخاف السلطان إذا عرفت هذا فالفاء هنا تحتمل الأوجه جميعاً أما الأول فلأن إرسال الشواظ عليهم يكون قبل انشقاق السموات ويكون ذلك الإرسال إشارة إلى عذاب القبر وإلى ما يكون عند سوق المجرمين إلى المحشر إذ ورد في التفسير أن الشواظ يسوقهم إلى المحشر فيهربون منها إلى أن يجتمعوا في موضع واحد وعلى هذا معناه يرسل عليكما شواظ فإذا انشقت السماء يكون العذاب الأليم والحساب الشديد على ما سنبين إن شاء الله وأما الثاني فوجهه أن يقال يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فيكون ذلك سبباً لكون السماء تكون حمراء إشارة إلى أن لهيبها يصل إلى السماء ويجعلها كالحديد المذاب الأحمر وأما الثالث فوجهه أن يقال لما قال فَلاَ تَنتَصِرَانِ ( الرحمن 35 ) أي في وقت إرسال الشواظ عليكما قال فإذا انشقت السماء وصارت كالمهل وهو كالطين الذائب كيف تنتصران إشارة إلى أن الشواظ المرسل لهب واحد أو فإذا انشقت السماء وذابت وصارت الأرض والجو والسماء كلها ناراً فكيف تنتصران
المسألة الثانية كلمة ( إذا ) قد تستعمل لمجرد الظرف وقد تستعمل للشرط وقد تستعمل للمفاجأة وإن كانت في أوجهها ظرفاً لكن بينها فرق فالأول مثل قوله تعالى وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ( الليل 1 2 ) والثاني مثل قوله إذا أكرمتني أكرمك ومن هذا الباب قوله تعالى فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ( آل عمران 159 ) وفي الأول لا بد وأن يكون الفعل في الوقت المذكور متصلاً به وفي الثاني لا يلزم ذلك فإنك إذا قلت إذا علمتني تثاب يكون الثواب بعده زماناً لكن استحقاقه يثبت في ذلك الوقت متصلاً به والثالث مثال ما يقول خرجت فإذا قد أقبل الركب أما لو قال خرجت إذا أقبل الركب فهو في جواب من يقول متى خرجت إذا عرفت هذا فنقول على أي وجه استعمل ( إذا ) ههنا نقول يحتمل وجهين أحدهما الظرفية المجردة على أن الفاء للتعقيب الزماني فإن قوله فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء بيان لوقت العذاب كأنه قال إذا انشقت السماء يكون العذاب أي بعد إرسال الشواظ وعند انشقاق السماء يكون وثانيهما الشرطية وذلك على الوجه الثالث وهو قولنا فَلاَ تَنتَصِرَانِ عند إرسال الشواظ فكيف تنتصران إذا انشقت السماء كأنه قال إذا انشقت السماء فلا تتوقعوا الانتصار أصلاً وأما الحمل على المفاجأة على أن يقال يرسل عليكما شواظ فإذا السماء قد انشقت فبعيد ولا يحمل ذلك إلا على الوجه الثاني من أن الفاء للتعقيب الذهني(29/102)
المسألة الثالثة ما المختار من الأوجه نقول الشرطية وحينئذ له وجهان أحدهما أن يكون الجزاء محذوفاً رأساً ليفرض السامع بعده كل هائل كما يقول القائل إذا غضب السلطان على فلان لا يدري أحد ماذا يفعله ثم ربما يسكت عند قوله إذا غضب السلطان متعجباً آتياً بقرينة دالة على تهويل الأمر ليذهب السامع مع كل مذهب ويقول كأنه إذا غضب السلطان يقتل ويقول الآخر إذا غضب السلطان ينهب ويقول الآخر غير ذلك وثانيهما ما بينا من بيان عدم الانتصار ويؤيد هذا قوله تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ إلى أن قال تعالى وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً ( الفرقان 25 26 ) فكأنه تعالى قال إذا أرسل عليهم شواظ من نار ونحاس فلا ينتصران فإذا انشقت السماء كيف ينتصران فيكون الأمر عسيراً فيكون كأنه قال فإذا انشقت السماء يكون الأمر عسيراً في غاية العسر ويحتمل أن يقال فإذا انشقت السماء يلقى المرء فعله ويحاسب حسابه كما قال تعالى إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ إلى أن قال وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ( الانشقاق 1 6 ) الآية
المسألة الرابعة ما المعنى من الانشقاق نقول حقيقته ذوبانها وخرابها كما قال تعالى يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء ( السماء 104 ) إشارة إلى خرابها ويحتمل أن يقال انشقت بالغمام كما قال تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ ( الفرقان 25 ) وفيه وجوه منها أن قوله بِالْغَمَامِ أي مع الغمام فيكون مثل ما ذكرنا ههنا من الانفطار والخراب
المسألة الخامسة ما معنى قوله تعالى فَكَانَتْ وَرْدَة ً كَالدّهَانِ نقول المشهور أنها في الحال تكون حمراء يقال فرس ورد إذا أثبت للفرس الحمرة وحجرة وردة أي حمراء اللون وقد ذكرنا أن لهيب النار يرتفح في السماء فتذوب فتكون كالصفر الذائب حمراء ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يقال وردة للمرة من الورود كالركعة والسجدة والجلسة والقعدة من الركوع والسجود والجلوس والقعود وحينئذ الضمير في كانت كما في قوله إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً ( ي س 53 ) أي الكائنة أو الداهية وأنث الضمير لتأنيث الظاهر وإن كان شيئاً مذكراً فكذا ههنا قال فَكَانَتْ وَرْدَة ً واحدة أي الحركة التي بها الانشقاق كانت وردة واحدة وتزلزل الكل وخرب دفعة والحركة معلومة بالانشقاق لأن المنشق يتحرك ويتزلزل وقوله تعالى كَالدّهَانِ فيه وجهان أحدهما جمع دهن وثانيهما أن الدهان هو الأديم الأحمر فإن قيل الأديم الأحمر مناسب للوردة فيكون معناه كانت السماء كالأديم الأحمر ولكن ما المناسبة بين الوردة وبين الدهان نقول الجواب عنه من وجوه الأول المراد من الدهان ما هو المراد من قوله تعالى يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ( المعارج 8 ) وهو عكر الزيت وبينهما مناسبة فإن الورد يطلق على الأسد فيقال أسد ورد فليس الورد هو الأحمر القاني والثاني أن التشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان والثالث هو أن الدهن المذاب ينصب انصبابة واحدة ويذوب دفعة والحديد والرصاص لا يذوب غاية الذوبان فتكون حركة الدهن بعد الذوبان أسرع من حركة غيره فكأنه قال حركتها تكون وردة واحدة كالدهان المصبوبة صباً لا كالرصاص الذي يذوب منه ألطفه وينتفع به ويبقي الباقي وكذلك الحديد والنحاس وجمع الدهان لعظمة السماء وكثرة ما يحصل من ذوبانها لاختلاف أجزائها فإن الكواكب تخالف غيرها(29/103)
ثم قال تعالى
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه وجهان أحدهما لا يسأله أحد عن ذنبه فلا يقال له أنت المذنب أو غيرك ولا يقال من المذنب منكم بل يعرفونه بسواد وجوههم وغيره وعلى هذا فالضمير في ذنبه عائد إلى مضمر مفسر بما يعده وتقديره لا يسأل إنس عن ذنبه ولا جان يسأل أي عن ذنبه وثانيهما معناه قريب من المعنى قوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 ) كأنه يقول لا يسأل عن ذنبه مذنب إنس ولا جان وفيه إشكال لفظي لأن الضمير في ذنبه إن عاد إلى أمر قبله يلزم استحالة ما ذكرت من المعنى بل يلزم فساد المعنى رأساً لأنك إذا قلت لا يسأل مسؤول واحد أو إنسي مثلاً عن ذنبه فقولك بعد إنس ولا جان يقتضي تعلق فعل بفاعلين وأنه محال والجواب عنه من وجهين أحدهما أن لا يفرض عائداً وإنما يجعل بمعنى المظهر لا غير ويجعل عن ذنبه كأنه قال عن ذنب مذنب ثانيهما وهو أدق وبالقبول أحق أن يجعل ما يعود إليه الضمير قبل الفعل فيقال تقديره فالمذنب يومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان وفيه مسائل لفظية ومعنوية
المسألة الأولى اللفظية الفاء للتعذيب وأنه يحتمل أن يكون زمانياً كأنه يقول فإذا انشقت السماء يقع العذاب فيوم وقوعه لا يسأل وبين الأحوال فاصل زماني غير متراخ ويحتمل أن يكون عقلياً كأنه يقول يقع العذاب فلا يتأخر تعلقه بهم مقدار ما يسألون عن ذنبهم ويحتمل أن يكون أراد الترتيب الكلامي كأنه يقول تهربون بالخروج من أقطار السموات وأقول لا تمتنعون عند انشقاق السماء فأقول لا تمهلون مقدار ما تسألون
المسألة الثانية ما المراد من السؤال نقول المشهور ما ذكرنا أنهم لا يقال لهم من المذنب منكم وهو على هذا سؤال استعلام وعلى الوجه الثاني سؤال توبيخ أي لا يقال له لم أذنب المذنب ويحتمل أن يكون سؤال موهبة وشفاعة كما يقول القائل أسألك ذنب فلان أي أطلب منك عفوه فإن قيل هذا فاسد من وجوه أحدها أن السؤال إذا عدى بعن لا يكون إلا بمعنى الاستعلام أو التوبيخ وإذا كان بمعنى لاستعطاء يعدى بنفسه إلى مفعولين فيقال نسألك العفو والعافية ثانيها الكلام لا يحتمل تقديراً ولا يمكن تقديره بحيث يطابق الكلام لأن المعنى يصير كأنه يقول لا يسأل واحد ذنب أحد بل أحد لا يسأل ذنب نفسه ثالثها قوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ( الرحمن 41 ) لا يناسب ذلك نقول أما الجواب عن الأول فهو أن السؤال ربما يتعدى إلى مفعولين غير أنه عند الاستعلام يحذف الثاني ويؤتى بما يتعلق به يقال سألته عن كذا أي سألته الإخبار عن كذا فيحذف الإخبار ويكتفي بما يدل عليه وهو الجار والمجرور فيكون المعنى طلبت منه أن يخبرني عن كذا وعن الثاني أن التقدير لا يسأل إنس ذنبه ولا جان والضمير يكون عائداً إلى المضمر لفظاً لا معنى كما نقول قبلوا أنفسهم فالضمير في أنفسهم عائد إلى ما في قولك قتلوا لفظاً لا معنى لأن ما في قتلوا ضمير الفاعل وفي أنفسهم ضمير المفعول إذ الواحد لا يقتل نفسه وإنما المراد كل واحد قتل واحداً غيره فكذلك ( كل ) إنس لا يسأل ( عن ) ذنبه أي ذنب إنس غيره ومعنى الكلام لا يقال لأحد اعف عن فلان لبيان أن لا مسئول في ذلك الوقت من الإنس والجن وإنما كلهم سائلون الله والله(29/104)
تعالى حينئذ هو المسئول
وأما المعنوية فالأولى كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) وبينه وبين قوله تعالى وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ( الصافات 24 ) نقول على الوجه المشهور جوابان أحدهما أن للآخرة مواطن فلا يسأل في موطن ويسأل في موطن وثانيهما وهو أحسن لا يسأل عن فعله أحد منكم ولكن يسأل بقوله لم فعل الفاعل فلا يسأل سؤال استعلام بل يسأل سؤال توبيخ وأما على الوجه الثاني فلا يرد السؤال فلا حاجة إلى بيان الجمع
والثانية ما الفائدة في بيان عدم السؤال نقول على الوجه المشهور فائدته التوبيخ لهم كقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ ( عبس 40 41 ) وقوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ( آل عمران 106 ) وعلى الثاني بيان أن لا يؤخذ منهم فدية فيكون ترتيب الآيات أحسن لأن فيها حينئذ بيان أن لا مفر لهم بقوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ ( الرحمن 33 ) ثم بيان أن لا مانع عنهم بقوله فَلاَ تَنتَصِرَانِ ( الرحمن 35 ) ثم بيان أن لا فداء لهم عنهم بقوله لا يسأل وعلى الوجه الأخير بيان أن لا شفيع لهم ولا راحم وفائدة أخرى وهو أنه تعالى لما بين أن العذاب في الدنيا مؤخر بقوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ ( الرحمن 31 ) بين أنه في الآخرة لا يؤخر بقدر ما يسأل وفائدة أخرى وهو أنه تعالى لما بين أن لا مفر لهم بقول لاَ تَنفُذُونَ ( الرحمن 33 ) ولا ناصر لهم يخلصهم بقوله فَلاَ تَنتَصِرَانِ بين أمراً آخر وهو أن يقول المذنب ربما أنجو في ظل خمول واشتباه حال فقال ولا يخفى أحد من المذنبين بخلاف أمر الدنيا فإن الشرذمة القليلة ربما تنجو من العذاب العام بسبب خمولهم
بم وقال تعالى
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاٌّ قْدَامِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
اتصال الآيات بما قبلها على الوجه المشهور ظاهر لا خفاء فيه إذ قوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ كالتفسير وعلى الوجه الثاني من أن المعنى لا يسأل عن ذنبه غيره كيف قال يعرف ويؤخذ وعلى قولنا لا يسأل سؤال حط وعفو أيضاً كذلك وفيه مسائل
المسألة الأولى السيما كالضيزى وأصله سومى من السومة وهو يحتمل وجوهاً أحدها كي على جباههم قال تعالى يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ ( التوبة 35 ) ثانيها سواد كما قال تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ( آل عمران 106 ) وقال تعالى وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) ثالثها غبرة وقترة
المسألة الثانية ما وجه إفراد ( يؤخذ ) مع أن ( المجرمين ) جمع وهم المأخوذون نقول فيه وجهان أحدهما أن يؤخذ متعلق بقوله تعالى بِالنَّوَاصِى كما يقول القائل ذهب بزيد وثانيهما أن يتعلق بما يدل عليه يؤخذ فكأنه تعالى قال فيؤخوذون بالنواصي فإن قيل كيف عدى الأخذ بالباء وهو يتعدى بنفسه قال تعالى لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَة ٌ ( الحديد 15 ) وقال خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ ( طه 21 ) نقول الأخذ يتعدى بنفسه كما بينت وبالباء(29/105)
أيضاً كقوله تعالى لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى ( طه 94 ) لكن في الاستعمال تدقيق وهو أن المأخوذ إن كان مقصوداً بالأخذ توجه الفعل نحوه فيتعدى إليه من غير حرف وإن كان المقصود بالأخذ غير الشيء المأخوذ حساً تعدى إليه بحرف لأنه لما لم يكن مقصوداً فكأنه ليس هو المأخوذ وكأن الفعل لم يتعد إليه بنفسه فذكر الحرف ويدل على ما ذكرنا استعمال القرآن فإن الله تعالى قال خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ في العصا وقال تعالى وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ ( النساء 102 ) أَخَذَ الاْلْوَاحَ ( الأعراف 154 ) إلى غير ذلك فلما كان ما ذكر هو المقصود بالأخذ عدى الفعل إليه من غير حرف وقال تعالى لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى وقال تعالى فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ ويقال خذ بيدي وأخذ الله بيدك إلى غير ذلك مما يكون المقصود بالأخذ غير ما ذكرنا فإن قيل ما الفائدة في توجيه الفعل إلى غير ما توجه إليه الفعل الأول ولم قال يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى نقول فيه بيان نكالهم وسوء حالهم ونبين هذا بتقديم مثال وهو أن القائل إذا قال ضرب زيد فقتل عمرو فإن المفعول في باب ما لم يسم فاعله قائم مقام الفاعل ومشبه به ولهذا أعرب إعرابه فلو لم يوجه يؤخذ إلى غير ما وجه إليه يعرف لكان الأخذ فعل من عرف فيكون كأنه قال يعرف المجرمين عارف فيأخذهم ذلك العارف لكن المجرم يعرفه بسيماه كل أحد ولا يأخذه كل من عرفه بسيماه بل يمكن أن يقال قوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ المراد يعرفهم الناس والملائكة الذين يحتاجون في معرفتهم إلى علامة أما كتبة الأعمال والملائكة الغلاظ الشداد فيعرفونهم كما يعرفون أنفسهم من غير احتياج إلى علامة وبالجملة فقوله يعرف معناه يكونون معروفين عند كل أحد فلو قال يأخذون يكون كأنه قال فيكونون مأخوذين لكل أحد كذلك إذا تأملت في قول القائل شغلت فضرب زيد علمت عند توجه التعليق إلى مفعولين دليل تغاير الشاغل والضارب لأنه يفهم منه أنى شغلني شاغل فضرب زيداً ضارب فالضارب غير ذلك الشاغل وإذا قلت شغل زيد فضرب لا يدل على ذلك حيث توجه إلى مفعول واحد وإن كان يدل فلا يظهر مثل ما يظهر عند توجهه إلى مفعولين أما بيان النكال فلأنه لما قال فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى بين كيفية الأخذ وجعلها مقصود الكلام ولو قال فيؤخذون لكان الكلام يتم عنده ويكون قوله بِالنَّوَاصِى فائدة جاءت بعد تمام الكلام فلا يكون هو المقصود وأما إذا قال فيؤخذ فلا بد له من أمر يتعلق به فينتظر السامع وجود ذلك فإذا قال بِالنَّوَاصِى يكون هذا هو المقصود وفي كيفية الأخذ ظهور نكالهم لأن في نفس الأخذ بالناصية إذلالاً وإهانة وكذلك الأخذ بالقدم لا يقال قد ذكرت أن التعدية بالباء إنما تكون حيث لا يكون المأخوذ مقصوداً والآن ذكرت أن الأخذ بالنواصي هو المقصود لأنا نقول لا تنافي بينهما فإن الأخذ بالنواصي مقصود الكلام والناصية ما أخذت لنفس كونها ناصية وإنما أخذت ليصير صاحبها مأخوذاً وفرق بين مقصود الكلام وبين الأخذ وقوله تعالى فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ فيه وجهان أحدهما يجمع بين ناصيتهم وقدمهم وعلى هذا ففيه قولان أحدهما أن ذلك قد يكون من جانب ظهورهم فيربط بنواصيهم أقدامهم من جانب الظهر فتخرج صدورهم نتأ والثاني أن ذلك من جانب وجوههم فتكون رءوسهم على ركبهم ونواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة الوجه الثاني أنهم يسحبون سحباً فبعضهم يؤخذ بناصيته وبعضهم يجر برجله والأول أصح وأوضح(29/106)
ثم قال تعالى
هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ
والمشهور أن ههنا إضماراً تقديره يقال لهم هذه جهنم وقد تقدم مثله في مواضع ويحتمل أن يقال معناه هذه صفة جهنم فأقيم المضاف إليه مقام المضاف ويكون ما تقدم هو المشار إليه والأقوى أن يقال الكلام عند النواصي والأقدام قد تم وقوله هَاذِهِ جَهَنَّمُ لقربها كما يقال هذا زيد قد وصل إذا قرب مكانه فكأنه قال جهنم التي يكذب بها المجرمون هذه قريبة غير بعيدة عنهم ويلائمه قوله يُكَذّبُ لأن الكلام لو كان بإضمار يقال لقال تعالى لهم هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون لأن في هذا الوقت لا يبقى مكذب وعلى هذا التقدير يضمر فيه كان يكذب
ثم قال تعالى
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ
هو كقوله تعالى وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ ( الكهف 29 ) وكقوله تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا ( السجدة 20 ) لأنهم يخرجون فيستغيثون فيظهر لهم من بعد شيء مائع هو صديدهم المغلي فيظنونه ماء فيردون عليه كما يرد العطشان فيقعون ويشربون منه شرب الهيم فيجدونه أشد حراً فيقطع أمعاءهم كما أن العطشان إذا وصل إلى ماء مالح لا يبحث عنه ولا يذوقه وإنما يشربه عباً فيحرق فؤاده ولا يسكن عطشه وقوله حَمِيمٍ إشارة إلى ما فعل فيه من الإغلاء وقوله تعالى ءانٍ إشارة إلى ما قبله وهو كما يقال قطعته فانقطع فكأنه حمته النار فصار في غاية السخونة وآن الماء إذا انتهى في الحر نهاية
ثم قال تعالى
فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه بحث وهو أن هذه الأمور ليست من الآلاء فكيف قال فَبِأَى ّ الاء نقول الجواب من وجهين أحدهما ما ذكرناه وثانيهما أن المراد فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا مما أشرنا إليه في أول السورة تُكَذّبَانِ فتستحقان هذه الأشياء المذكورة من العذاب وكذلك نقول في قوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) هي الجنان ثم إن تلك الآلاء لا ترى وهذا ظاهر لأن الجنان غير مرئية وإنما حصل الإيمان بها بالغيب فلا يحسن الاستفهام بمعنى الإنكار مثل ما يحسن الاستفهام عن هيئة السماء والأرض والنجم والشجر والشمس والقمر وغيرها مما يدرك ويشاهد لكن النار والجنة ذكرتا للترهيب والترغيب كما بينا أن المراد فبأيهما تكذبان فتستحقان العذاب وتحرمان الثواب
ثم قال تعالى
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه لطائف الأولى التعريف في عذاب جهنم قال هَاذِهِ جَهَنَّمُ ( الرحمن 43 ) والتنكير في الثواب بالجنة إشارة إلى أن كثرة المراتب التي لا تحد ونعمه التي لا تعد وليعلم أن آخر العذاب جهنم وأول مراتب الثواب الجنة ثم بعدها مراتب وزيادات الثانية قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ق 45 ) أن الخوف خشية سببها ذل الخاشي والخشية خوف سببه عظمة المخشى قال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) لأنهم عرفوا عظمة الله فخافوه لا لذل منهم بل لعظمة جانب الله وكذلك قوله مّنْ خَشْية ِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ ( المؤمنون 57 ) وقال تعالى لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( الحشر 21 ) أي لو كان المنزل عليه العالم بالمنزل كالجبل العظيم في القوة والارتفاع لتصدع من خشية الله لعظمته وكذلك قوله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ( الأحزاب 37 ) وإنما قلنا إن الخشية تدل على ما ذكرنا لأن الشيخ للسيد والرجل الكبير يدل على حصول معنى العظمة في خ ش ي وقال تعالى في الخوف وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا(29/107)
( طه 21 ) لما كان الخوف يضعف في موسى وقال لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ ( العنكبوت 33 ) وقال فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ( الشعراء 14 ) وقال إني خِفْتُ الْمَوَالِى َ مِن وَرَائِى ( مريم 5 ) ويدل عليه تقاليب خ و ف فإن قولك خفي قريب منه والخافي فيه ضعف والأخيف يدل عليه أيضاً وإذا علم هذا فالله تعالى مخوف ومخشي والعبد من الله خائف وخاش لأنه إذا نظر إلى نفسه رآها في غاية الضعف فهو خائف وإذا نظر إلى حضرة الله رآها في غاية العظمة فهو خاش لكن درجة الخاشي فوق درجة الخائف فلهذا قال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء جعله منحصراً فيهم لأنهم وإن فرضوا أنفسهم على غير ما هم عليه وقدروا أن الله رفع عنهم جميع ما هم فيه من الحوائج لا يتركون خشيته بل تزداد خشيتهم وإما الذي يخافه من حيث إنه يفقره أو يسلب جاهه فربما يقل خوفه إذا أمن ذلك فلذلك قال تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ وإذا كان هذا للخائف فما ظنك بالخاشي الثالثة لما ذكر الخوف ذكر المقام وعند الخشية ذكر اسمه الكريم فقال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ وقال لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ وقال عليه السلام ( خشية الله رأس كل حكمة ) لأنه يعرف ربه بالعظمة فيخشاه وفي مقام ربه قولان أحدهما مقام ربه أي المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربه وهو مقام عبادته كما يقال هذا معبد الله وهذا معبد الباري أي المقام الذي يعبد الله العبد فيه والثاني مقام ربه الموضع الذي فيه الله قائم على عباده من قوله تعالى أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( الرعد 33 ) أي حافظ ومطلع أخذاً من القائم على الشيء حقيقة الحافظ له فلا يغيب عنه وقيل مقام مقحم يقال فلان يخاف جانب فلان أي يخاف فلاناً وعلى هذا الوجه يظهر الفرق غاية الظهور بين الخائف والخاشي لأن الخائف خاف مقام ربه بين يدي الله فالخاشي لو قيل له افعل ما تريد فإنك لا تحاسب ولا تسأل عما تفعل لما كان يمكنه أن يأتي بغير التعظيم والخائف ربما كان يقدم على ملاذ نفسه لو رفع عنه القلم وكيف لا ويقال خاصة الله من خشية الله في شغل شاغل عن الأكل والشرب واقفون بين يدي الله سابحون في مطالعة جماله غائصون في بحار جلاله وعلى الوجه الثاني قرب الخائف من الخاشي وبينهما فرق الرابعة في قوله جَنَّتَانِ وهذه اللطيفة نبينها بعدما نذكر ما قيل في التثنية قال بعضهم المراد جنة واحدة كما قيل في قوله أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ ( ق 24 ) وتمسك بقول القائل ومهمهين سرت مرتين
قطعته بالسهم لا السهمين
فقال أراد مهمهاً واحداً بدليل توحيد الضمير في قطعته وهو باطل لأن قوله بالسهم يدل على أن المراد مهمهان وذلك لأنه لو كان مهمهاً واحداً لما كانوا في قطعته يقصدون جدلاً بل يقصدون التعجب وهو إرادته قطع مهمهين بأهبة واحدة وسهم واحد وهو من العزم القوي وأما الضمير فهو عائد إلى مفهوم تقديره قطعت كليهما وهو لفظ مقصور معناه التثنية ولفظه للواحد يقال كلاهما معلوم ومجهول قال تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا ( الكهف 33 ) فوحد اللفظ ولا حاجة ههنا إلى التعسف ولا مانع من أن يعطي الله جنتين وجناناً عديدة وكيف وقد قال بعد ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( الرحمن 48 ) وقال فيهما والثاني وهو الصحيح أنهما جنتان وفيه وجوه أحدها أنهما جنة للجن وجنة للإنس لأن المراد هذان النوعان وثانيهما جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي لأن التكليف بهذين النوعين وثالثها جنة هي جزاء وجنة أخرى زيادة على الجزاء ويحتمل أن يقال جنتان جنة جسمية والأخرى روحية فالجسمية في نعيم والروحية في روح فكان كما قال تعالى فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة ٍ نَعِيمٍ(29/108)
( الواقعة 89 ) وذلك لأن الخائف من المقربين والمقرب في روح وريحان وجنة نعيم وأما اللطيفة فنقول لما قال تعالى في حق المجرم إنه يطوف بين نار وبين حميم آن وهما نوعان ذكر لغيره وهو الخائف جنتين في مقابلة ما ذكر في حق المحرم لكنه ذكر هناك أنهم يطوفون فيفارقون عذاباً ويقعون في الآخر ولم يقل ههنا يطوفون بين الجنتين بل جعلهم الله تعالى ملوكاً وهم فيها يطاف عليهم ولا يطاف بهم احتراماً لهم وإكراماً في حقهم وقد ذكرنا في قوله تعالى مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ( الرعد 35 ) وقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ ( الذاريات 15 ) أنه تعالى ذكر الجنة والجنات فهي لاتصال أشجارها ومساكنها وعدم وقوع الفاصل بينهما كمهامه وقفار صارت كجنة واحدة ولسعتها وتنوع أشجارها وكثرة مساكنها كأنها جنات ولاشتمالها على ما تلتذ به الروح والجسم كأنها جنتان فالكل عائد إلى صفة مدح
ثم قال تعالى
ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
هي جمع فنن أي ذواتا أغصان أو جمع فن أي فيهما فنون من الأشجار وأنواع من الثمار فإن قيل أي الوجهين أقوى نقول الأول لوجهين أحدهما أن الأفنان في جمع فنن هو المشهور والفنون في جمع الفن كذلك ولا يظن أن الأفنان والفنون جمع فن بل كل واحد منهما جمع معرف بحرف التعريف والأفعال في فعل كثير والفعول في فعل أكثر ثانيهما قوله تعالى فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَة ٍ زَوْجَانِ ( الرحمن 52 ) مستقل بما ذكر من الفائدة ولأن ذلك فيما يكون ثابتاً لا تفاوت فيه ذهناً ووجوداً أكثر فإن قيل كيف تمدح بالأفنان والجنات في الدنيا ذوات أفنان كذلك نقول فيه وجهان أحدهما أن الجنات في الأصل ذوات أشجار والأشجار ذوات أغصان والأغصان ذوات أزهار وأثمار وهي لتنزه الناظر إلا أن جنة الدنيا لضرورة الحاجة وجنة الآخرة ليست كالدنيا فلا يكون فيها إلا ما فيه اللذة وأما الحاجة فلا وأصول الأشجار وسوقها أمور محتاج إليها مانعة للإنسان عن التردد في البستان كيفما شاء فالجنة فيها أفنان عليها أوراق عجيبة وثمار طيبة من غير سوق غلاظ ويدل عليه أنه تعالى لم يصف الجنة إلا بما فيه اللذة بقوله ذَوَاتَا أَفْنَانٍ أي الجنة هي ذات فنن غير كائن على أصل وعرف بل هي واقفة في الجو وأهلها من تحتها والثاني من الوجهين هو أن التنكير للأفنان للتكثير أو للتعجب
ثم قال تعالى
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَة ٍ زَوْجَانِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
أي في كل واحدة منهما عين جارية كما قال تعالى فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَة ٌ وفي كل واحدة منهما من الفواكه نوعان وفيها مسائل بعضها يذكر عند تفسير قوله تعالى فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فِيهِمَا فَاكِهَة ٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( الرحمن 66 68 ) وبعضها يذكر ههنا
المسألة الأولى هي أن قوله ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( الرحمن 48 ) و فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ و فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَة ٍ زَوْجَانِ كلها أوصاف للجنتين المذكورتين فهو كالكلام الواحد تقديره جنتان ذواتا أفنان ثابت فيهما عينان كائن فيهما من كل فاكهة زوجان فإن قيل ما الفائدة في فصل بعضها عن بعض(29/109)
بقوله تعالى فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ثلاث مرات مع أنه في ذكر العذاب ما فصل بين كلامين بها حيث قال يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ ( الرحمن 35 ) مع أن إرسال نحاس غير إرسال شواظ وقال يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ ( الرحمن 44 ) مع أن الحميم غير الجحيم وكذا قال تعالى هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ( الرحمن 43 ) وهو كلام تام وقوله تعالى يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ ( الرحمن 44 ) كلام آخر ولم يفصل بينهما بالآية المذكورة نقول فيه تغليب جانب الرحمة فإن آيات العذاب سردها سرداً وذكرها جملة ليقصر ذكرها والثواب ذكره شيئاً فشيئاً لأن ذكره يطيب للسامع فقال بالفصل وتكرار عود الضمير إلى الجنس بقوله فِيهِمَا عَيْنَانِ فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَة ٍ لأن إعادة ذكر المحبوب محبوب والتطويل بذكر اللذات مستحسن
المسألة الثانية قوله تعالى فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ أي في كل واحدة عين واحدة كما مر وقوله فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَة ٍ زَوْجَانِ معناه كل واحدة منهما زوج أو معناه في كل واحدة منهما من الفواكه زوجان ويحتمل أن يكون المراد مثل ذلك أي في كل واحدة من الجنتين زوج من كل فاكهة ففيهما جميعاً زوجان من كل فاكهة وهذا إذا جعلنا الكنايتين فيهما للزوجين أو نقول من كل فاكهة لبيان حال الزوجين ومثاله إذا دخلت من على ما لا يمكن أن يكون كائناً في شيء كقولك في الدار من الشرق رجل أي فيها رجل من الشرق ويحتمل أن يكون المراد في كل واحدة منها زوجان وعلى هذا يكون كالصفة بما يدل عليه من كل فاكهة كأنه قال فيهما من كل فاكهة أي كائن فيهما شيء من كل فاكهة وذلك الكائن زوجان وهذا بين فيما تكون من داخله على ما لا يمكن أن يكون هناك كائن في الشيء غيره كقولك في الدار من كل ساكن فإذا قلنا فيهما من كل فاكهة زوجان الثالث عند ذكر الأفنان لو قال فيهما من كل فاكهة زوجان كان متناسباً لأن الأغصان عليها الفواكه فما الفائدة في ذكر العينين بين الأمرين المتصل أحدهما بالآخر نقول جرى ذكر الجنة على عادة المتنعمين فإنهم إذا دخلوا البستان لا يبادرون إلى أكل الثمار بل يقدمون التفرج على الأكل مع أن الإنسان في بستان الدنيا لا يأكل حتى يجوع ويشتهي شهوة مؤلمة فكيف في الجنة فذكر ما يتم به النزهة وهو خضرة الأشجار وجريان الأنهار ثم ذكر ما يكون بعد النزهة وهو أكل الثمار فسبحان من يأتي بالآي بأحسن المعاني في أبين المباني
ثم قال تعالى
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مسائل نحوية ولغوية ومعنوية
المسألة الأولى من النحوية هو أن المشهور أن ( متكئين ) حال وذو الحال من في قوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ ( الرحمن 46 ) والعامل ما يدل عليه اللام الجارة تقديره لهم في حال الاتكاء جنتان وقال صاحب الكشاف يحتمل أن يكون نصباً على المدح وإنما حمله على هذا إشكال في قول من قال إنه حال وذلك لأن الجنة ليست لهم حال الإتكاء بل هي لهم في كل حال فهي قبل الدخول لهم ويحتمل أن يقال هو حال وذو الحال ما تدل عليه الفاكهة لأن قوله تعالى فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَة ٍ زَوْجَانِ ( الرحمن 52 ) يدل على متفكهين بها كأنه قال يتفكه المتفكهون بها متكئين وهذا فيه معنى لطيف وذلك لأن الأكل إن كان ذليلاً كالخول والخدم والعبيد(29/110)
والغلمان فإنه يأكل قائماً وإن كان عزيزاً فإن كان يأكل لدفع الجوع يأكل قاعداً ولا يأكل متكئاً إلا عزيز متفكه ليس عند جوع يقعده للأكل ولا هنالك من يحسمه فالتفكه مناسب للإتكاء
المسألة الثانية من المسائل النحوية عَلَى فُرُشٍ متعلق بأي فعل هو إن كان متعلقاً بما في مُتَّكِئِينَ حتى يكون كأنه يقول يتكئون على فرش كما كان يقال فلان اتكأ على عصاه أو على فخذيه فهو بعيد لأن الفراش لا يتكأ عليه وإن كان متعلقاً بغيره فماذا هو نقول متعلق بغيره تقديره يتفكه الكائنون على فرش متكئين من غير بيان ما يتكئون عليه ويحتمل أن يكون اتكاؤهم على الفرش غير أن الأظهر ما ذكرنا ليكون ذلك بياناً لما تحتهم وهم بجميع بدنهم عليه وهو أنعم وأكرم لهم
المسألة الثالثة الظاهر أن لكل واحد فرشاً كثيرة لا أن لكل واحد فراشاً فلكلهم فرش عليها كائنون
المسألة الرابعة لغوية الاستبرق هو الديباج الثخين وكما أن الديباج معرب بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العجم استعمل الاسم المعجم فيه غير أنهم تصرفوا فيه تصرفاً وهو أن اسمه بالفارسية ستبرك بمعنى ثخين تصغير ( ستبر ) فزادوا فيه همزة متقدمة عليه وبدلوا الكاف بالقاف أما الهمزة فلأن حركات أوائل الكلمة في لسان العجم غير مبنية في كثير من المواضع فصارت كالسكون فأثبتوا فيه همزة كما أثبتوا همزة الوصل عند سكون أول الكلمة ثم إن البعض جعلوها همزة وصل وقالوا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ والأكثرون جعلوها همزة قطع لأن أول الكلمة في الأصل متحرك لكن بحركة فاسدة فأتوا بهمزة تسقط عنهم الحركة الفاسدة وتمكنهم من تسكين الأول وعند تساوي الحركة فالعود إلى السكون أقرب وأواخر الكلمات عند الوقف تسكن ولا تبدل حركة بحركة وأما القاف فلأنهم لو تركوا الكاف لاشتبه ستبرك بمسجدك ودارك فأسقطوا منه الكاف التي هي على لسان العرب في آخر الكلم للخطاب وأبدلوها قافاً ثم عليه سؤال مشهور وهو أن القرآن أنزل بلسان عربي مبين وهذا ليس بعربي والجواب الحق أن اللفظة في أصلها لم تكن بين العرب بلغة وليس المراد أنه أنزل بلغة هي في أصل وضعها على لسان العرب بل المراد أنه منزل بلسان لا يخفى معناه على أحد من العرب ولم يستعمل فيه لغة لم تتكلم العرب بها فيصعب عليهم مثله لعدم مطاوعة لسانهم التكلم بها فعجزهم عن مثله ليس إلا لمعجز
المسألة الخامسة معنوية الإتكاء من الهيئات الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب فالمتكىء تكون أمور جسمه على ما ينبغي وأحوال قلبه على ما ينبغي لأن العليل يضطجع ولا يستلقي أو يستند إلى شيء على حسب ما يقدر عليه للاستراحة وأما الإتكاء بحيث يضع كفه تحت رأسه ومرفقه على الأرض ويجافي جنبيه عن الأرض فذاك أمر لا يقدر عليه وأما مشغول القلب في طلب شيء فتحركه تحرك مستوفز
المسألة السادسة قال أهل التفسير قوله بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ يدل على نهاية شرفها فإن ما تكون بطائنها من الإستبرق تكون ظهائرها خيراً منها وكأن شيء لا يدركه البصر من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم وفيه وجه آخر معنوي وهو أن أهل الدنيا يظهرون الزينة ولا يتمكنون من أن يجعلوا البطائن كالظهائر لأن غرضهم إظهار الزينة والبطائن لا تظهر وإذا انتفى السبب انتفى المسبب فلما لم يحصل في جعل البطائن من الديباج مقصودهم وهو الإظهار تركوه وفي الآخرة الأمر مبني على الإكرام والتنعيم فتكون البطائن كالظهائر فذكر البطائن
المسألة السابعة قوله تعالى وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فيه إشارة إلى مخالفتها لجنة دار الدنيا من ثلاثة(29/111)
أوجه أحدها أن الثمرة في الدنيا على رءوس الشجرة والإنسان عند الاتكاء يبعد عن رءوسها وفي الآخرة هو متكىء والثمرة تنزل إليه ثانيها في الدنيا من قرب من ثمرة شجرة بعد عن الأخرى وفي الآخرة كلها دان في وقت واحد ومكان واحد وفي الآخرة المستقر في جنة عنده جنة أخرى ثالثها أن العجائب كلها من خواص الجنة فكان أشجارها دائرة عليهم ساترة إليهم وهم ساكنون على خلاف ما كان في الدنيا وجناتها وفي الدنيا الإنسان متحرك ومطلوبه ساكن وفيه الحقيقة وهي أن من لم يكسل ولم يتقاعد عن عبادة الله تعالى وسعى في الدنيا في الخيرات انتهى أمره إلى سكون لا يحوجه شيء إلى حركة فأهل الجنة إن تحركوا تحركوا لا لحاجة وطلب وإن سكنوا سكنوا لا لاستراحة بعد التعب ثم إن الولي قد تصير له الدنيا أنموذجاً من الجنة فإنه يكون ساكناً في بيته ويأتيه الرزق متحركاً إليه دائراً حواليه يدلك عليه قوله تعالى كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ( آل عمران 37 )
المسألة الثامنة الجنتان إن كانتا جسميتين فهو أبداً يكون بينهما وهما عن يمينه وشماله هو يتناول ثمارهما وإن كانت إحداهما روحية والأخرى جسمية فلكل واحد منهما فواكه وفرش تليق بها
ثم قال تعالى
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ
وفيه مباحث
الأول في الترتيب وأنه في غاية الحسن لأنه في أول الأمر بين المسكن وهو الجنة ثم بين ما يتنزه به فإن من يدخل بستاناً يتفرج أولاً فقال ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فِيهِمَا عَيْنَانِ ( الرحمن 48 50 ) ثم ذكر ما يتناول من المأكول فقال فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَة ٍ ( الرحمن 52 ) ثم ذكر موضع الراحة بعد التناول وهو الفراش ثم ذكر ما يكون في الفراش معه
الثاني فِيهِنَّ الضمير عائد إلى ماذا نقول فيه ثلاثة أوجه أحدها إلى الآلاء والنعم أي قاصرات الطرف ثانيها إلى الفراش أي في الفرش قاصرات وهما ضعيفان أما الأول فلأن اختصاص القاصرات بكونهن في الآلاء مع أن الجنتين في الآلاء والعينين فيهما والفواكه كذلك لا يبقى له فائدة وأما الثاني فلأن الفرش جعلها ظرفهم حيث قال مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ ( الرحمن 54 ) وأعاد الضمير إليها بقوله بَطَائِنُهَا ( الرحمن 54 ) ولم يقل بطائنهن فقوله فِيهِنَّ يكون تفسيراً للضمير فيحتاج إلى بيان فائدة لأنه تعالى قال بعد هذا مرة أخرى فِيهِنَّ خَيْراتٌ ( الرحمن 70 ) ولم يكن هناك ذكر الفرش فالأصح إذن هو الوجه الثالث وهو أن الضمير عائد إلى الجنتين وجمع الضمير ههنا وثنى في قوله فِيهِمَا عَيْنَانِ ( الرحمن 50 ) و فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَة ٍ ( الرحمن 52 ) وذلك لأنا بينا أن الجنة لها اعتبارات ثلاثة أحدها اتصال أشجارها وعدم وقوع الفيافي والمهامة فيها والأراضي الغامرة ومن هذا الوجه كأنها جنة واحدة لا يفصلها فاصل وثانيها اشتمالها على النوعين الحاصرين للخيرات فإن فيها ما في الدنيا وما ليس في الدنيا وفيها ما يعرف ومالا يعرف وفيها ما يقدر على وصفه وفيها مالا يقدر وفيها لذات جسمانية ولذات غير جسمانية فلاشتمالها على النوعين كأنها جنتان وثالثها لسعتها وكثرة أشحارها وأماكنها وأنهارها ومساكنها كأنها جنات فهي من وجه جنة واحدة ومن وجه جنتان ومن وجه جنات إذا ثبت هذا فنقول اجتماع النسوان للمعاشرة مع الأزواج والمباشرة في الفراش في موضع واحد في الدنيا لا يمكن وذلك لضيق المكان أو عدم الإمكان أو دليل ذلة النسوان فإن الرجل الواحد لا يجمع بين النساء في بيت إلا إذا كن جواري غير ملتفت إليهن فأما إذا كانت كل واحدة كبيرة النفس كثيرة المال فلا يجمع بينهن واعلم أن الشهوة في الدنيا كما تزداد بالحسن الذي في الأزواج تزداد بسبب العظمة وأحوال الناس في(29/112)
أكثر الأمر تدل عليه إذا ثبت هذا فنقول الحظايا في الجنة يجتمع فيهن حسن الصورة والجمال والعز والشرف والكمال فتكون الواحدة لها كذا وكذا من الجواري والغلمان فتزداد اللذة بسبب كمالها فإذن ينبغي أن يكون لكل واحدة ما يليق بها من المكان الواسع فتصير الجنة التي هي واحدة من حيث الاتصال كثيرة من حيث تفرق المساكن فيها فقال فِيهِنَّ وأما الدنيا فليس فيها تفرق المساكن دليلاً للعظمة واللذة فقال فِيهِمَا ( الرحمن 50 ) وهذا من اللطائف الثالث قاصرات الطرف صفة لموصوف حذف وأقيمت الصفة مكانه والموصوف النساء أو الأزواج كأنه قال فيهن نساء قاصرات الطرف وفيه لطيفة فإنه تعالى لم يذكر النساء إلا بأوصافهن ولم يذكر اسم الجنس فيهن فقال تارة وَحُورٌ عِينٌ ( الواقعة 22 ) وتارة عُرُباً أَتْرَاباً ( الرحمن 56 ) وتارة قَاصِراتُ الطَّرْفِ ( الرحمن 56 ) ولم يذكر نساء كذا وكذا لوجهين أحدهما الإشارة إلى تنحدرهن وتسترهن فلم يذكرهن باسم الجنس لأن اسم الجنس يكشف من الحقيقة مالا يكشفه الوصف فإنك إذا قلت المتحرك المريد الآكل الشارب لا تكون بينته بالأوصاف الكثيرة أكثر مما بينته بقولك حيوان وإنسان وثانيهما إعظاماً لهن ليزداد حسنهن في أعين الموعودين بالجنة فإن بنات الملوك لا يذكرن إلا بالأوصاف
المسألة الرابعة قَاصِراتُ الطَّرْفِ من القصر وهو المنع أي المانعات أعينهن من النظر إلى الغير أو من القصور وهو كون أعينهن قاصرة لا طماح فيها للغير أقول والظاهر أنه من القصر إذ القصر مدح والقصور ليس كذلك ويحتمل أن يقال هو من القصر بمعنى أنهن قصرن أبصارهن فأبصارهن مقصورة وهن قاصرات فيكون من إضافة الفاعل إلى المفعول والدليل عليه هو أن القصر مدح والقصور ليس كذلك وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أنه تعالى قال من بعد هذه حُورٌ مَّقْصُوراتٌ ( الرحمن 72 ) فهن مقصورات وهن قاصرات وفيه وجهان أحدهما أن يقال هن قاصرات أبصارهن كما يكون شغل العفائف وهن قاصرات أنفسهن في الخيام كما هو عادة المخدرات لأنفسهن في الخيام ولأبصارهن عن الطماح وثانيهما أن يكون ذلك بياناً لعظمتهن وعفافهن وذلك لأن المرأة التي لا يكون لها رادع من نفسها ولا يكون لها أولياء يكون فيها نوع هوان وإذا كان لها أولياء أعزة امتنعت عن الخروج والبروز وذلك يدل على عظمتهن وإذا كن في أنفسهن عند الخروج لا ينظرن يمنة ويسرة فهن في أنفسهن عفائف فجمع بين الإشارة إلى عظمتهن بقوله تعالى مَّقْصُوراتٌ منعهن أولياؤهن وههنا وليهن الله تعالى وبين الإشارة إلى عفتهن بقوله تعالى قَاصِراتُ الطَّرْفِ ثم تمام اللطف أنه تعالى قدم ذكر ما يدل على العفة على ما يدل على العظمة وذكر في أعلى الجنتين قاصرات وفي أدناهما مقصورات والذي يدل على أن المقصورات يدل على العظمة أنهن يوصفن بالمخدرات لا بالمتخدرات إشارة إلى أنهن خدرهن خادر لهن غيرهن كالذي يضرب الخيام ويدلي الستر بخلاف من تتخذه لنفسها وتغلق بابها بيدها وسنذكر بيانه في تفسير الآية بعد
المسألة الخامسة قَاصِراتُ الطَّرْفِ فيها دلالة عفتهن وعلى حسن المؤمنين في أعينهن فيجبن أزواجهن حباً بشغلهن عن النظر إلى غيرهم ويدل أيضاً على الحياء لأن الطرف حركة الجفن والحورية لا تحرك جفنها ولا ترفع رأسها
المسألة السادسة لَمْ يَطْمِثْهُنَّ فيه وجوه أحدها لم يفرعهن ثانيها لم يجامعهن ثالثها لم يمسسهن وهو أقرب إلى حالهن وأليق بوصف كمالهن لكن لفظ الطمث غير ظاهر فيه ولو كان المراد منه(29/113)
المس لذكر اللفظ الذي يستحسن وكيف وقد قال تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ( البقرة 237 ) وقال فَاعْتَزِلُواْ ( البقرة 222 ) ولم يصرح بلفظ موضوع للوطء فإن قيل فما ذكرتم من الإشكال باق وهو أنه تعالى كنى عن الوطء في الدنيا باللمس كما في قوله تعالى أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء ( النساء 43 ) على الصحيح في تفسير الآية وسنذكره وإن كان على خلاف قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه وبالمس في قوله مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ( البقرة 237 ) ولم يذكر المس في الآخرة بطريق الكناية نقول إنما ذكر الجماع الدنيا بالكناية لما أنه في الدنيا قضاء للشهوة وأنه يضعف البدن ويمنع من العبادة وهو في بعض الأوقات قبحه كقبح شرب الخمر وفي بعض الأوقات هو كالأكل الكثير وفي الآخرة مجرد عن وجوه القبح وكيف لا والخمر في الجنة معدودة من اللذات وأكلها وشربها دائم إلى غير ذلك فالله تعالى ذكره في الدنيا بلفظ مجازي مستور في غاية الخفاء بالكناية إشارة إلى قبحه وفي الآخرة ذكره بأقرب الألفاظ إلى التصريح أو بلفظ صريح لأن الطمث أدل من الجماع والوقاع لأنهما من الجمع والوقوع إشارة إلى خلوه عن وجوه القبح
المسألة السابعة ما الفائدة في كلمة قَبْلَهُمْ قلنا لو قال لم يطمثهن إنس ولا جان يكون نفياً لطمث المؤمن إياهن وليس كذلك
المسألة الثامنة ما الفائدة في ذكر الجان مع أن الجان لا يجامع نقول ليس كذلك بل الجن لهم أولاد وذريات وإنما الخلاف في أنهم هل يواقعون الإنس أم لا والمشهور أنهم يواقعون وإلا لما كان في الجنة أحساب ولا أنساب فكأن مواقعة الإنس إياهن كمواقعة الجن من حيث الإشارة إلى نفيها
ثم قال تعالى
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وهذا التشبيه فيه وجهان أحدهما تشبيه بصفائهما وثانيهما بحسن بياض اللؤلؤ وحمرة الياقوت والمرجان صغار اللؤلؤ وهي أشد بياضاً وضياء من الكبار بكثير فإن قلنا إن التشبيه لبيان صفائهن فنقول فيه لطيفة هي أن قوله تعالى قَاصِراتُ الطَّرْفِ إشارة إلى خلوصهن عن القبائح وقوله كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ إشارة إلى صفائهن في الجنة فأول ما بدأ بالعقليات وختم بالحسيات كما قلنا إن التشبيه لبيان مشابهة جسمهن بالياقوت والمرجان في الحمرة والبياض فكذلك القول فيه حيث قدم بيان العفة على بيان الحسن ولا يبعد أن يقال هو مؤكد لما مضى لأنهن لما كن قاصرات الطرف ممتنعات عن الاجتماع بالإنس والجن لم يطمثهن فهن كالياقوت الذي يكون في معدنه والمرجان المصون في صدفه لا يكون قد مسه يد لامس وقد بينا مرة أخرى في قوله تعالى كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ أن ( كأن ) الداخلة على المشبه به لا تفيد من التأكيد ما تفيده الداخلة على المشبه فإذا قلت زيد كالأسد كان معناه زيد يشبه الأسد وإذا قلت كأن زيداً الأسد فمعناه يشبه أن زيداً هو الأسد حقيقة لكن قولنا زيد يشبه الأسد ليس فيه مبالغة عظيمة فإنه يشبهه في أنهما حيوانان وجسمان وغير ذلك وقولنا زيد يشبه لا يمكن حمله على الحقيقة أما من حيث اللفظ فنقول إذا دخلت الكاف على المشبه به وقيل إن زيداً كالأسد عملت الكاف في الأسد عملاً لفظياً والعمل اللفظي مع العمل المعنوي فكأن الأسد عمل به عمل حتى صار زيداً وإذا قلت كأن زيداً الأسد تركت الأسد على(29/114)
إعرابه فإذن هو متروك على حاله وحقيقته وزيد يشبه به في تلك الحال ولا شك في أن زيداً إذا شبه بأسد هو على حاله باق يكون أقوى مما إذا شبه بأسد لم يبق على حاله وكأن من قال زيد كالأسد نزل الأسد عن درجته فساواه زيد ومن قال كأن زيداً الأسد رفع زيداً عن درجته حتى ساوى الأسد وهذا تدقيق لطيف
ثم قال تعالى
هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه وجوه كثيرة حتى قيل إن في القرآن ثلاث آيات في كل آية منها مائة قول الأولى قوله تعالى فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( البقرة 152 ) الثانية قوله تعالى ءانٍ عُدتُّمْ عُدْنَا ( الإسراء 8 ) الثالثة قوله تعالى هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ ولنذكر الأشهر منها والأقرب أما الأشهر فوجوه أحدها هل جزاء التوحيد غير الجنة أي جزاء من قال لا إله إلا الله إدخال الجنة ثانيها هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة ثالثها هل جزاء من أحسن إليكم في الدنيا بالنعم وفي العقبى بالنعيم إلا أن تحسنوا إليه بالعبادة والتقوى وأما الأقرب فإنه عام فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو إليه أيضاً ولنذكر تحقيق القول فيه وترجع الوجوه كلها إلى ذلك فنقول الإحسان يستعمل في ثلاث معان أحدها إثبات الحسن وإيجاده قال تعالى فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ( غافر 64 ) وقال تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ ( السجدة 7 ) ثانيها الإتيان بالحسن كالإظراف والإغراب للإتيان بالظريف والغريب قال تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( الأنعام 160 ) ثالثها يقال فلان لا يحسن الكتابة ولا يحسن الفاتحة أي لا يعلمهما والظاهر أن الأصل في الإحسان الوجهان الأولان والثالث مأخوذ منهما وهذا لا يفهم إلا بقرينة الاستعمال مما يغلب على الظن إرادة العلم إذا علمت هذا فنقول يمكن حمل الإحسان في الموضعين على معنى متحد من المعنيين ويمكن حمله فيهما على معنيين مختلفين أما الأول فنقول هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ أي هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن لكن الفعل الحسن من العبد ليس كل ما يستحسنه هو بل الحسن هو ما استحسنه الله منه فإن الفاسق ربما يكون الفسق في نظره حسناً وليس بحسن بل الحسن ما طلبه الله منه كذلك الحسن من الله هو كل ما يأتي به مما يطلبه العبد كما أتى العبد بما يطلبه الله تعالى منه وإليه الإشارة بقوله تعالى وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 ) وقوله تعالى وَهُمْ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ( الأنبياء 102 ) وقال تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) أي ما هو حسن عندهم وأما الثاني فنقول هل جزاء من أثبت الحسن في عمله في الدنيا إلا أن يثبت الله الحسن فيه وفي أحواله في الدارين وبالعكس هل جزاء من أثبت الحسن فينا وفي صورنا وأحوالنا إلا أن نثبت الحسن فيه أيضاً لكن إثبات الحسن في الله تعالى محال فإثبات الحسن أيضاً في أنفسنا وأفعالنا فنحسن أنفسنا بعبادة حضرة الله تعالى وأفعالنا بالتوجه إليه وأحوال باطننا بمعرفته تعالى وإلى هذا رجعت الإشارة وورد في الأخبار من حسن وجوه المؤمنين وقبح وجوه الكافرين وأما الوجه الثالث وهو الحمل على المعنيين فهو أن تقول على جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يثبت الله فيه الحسن وفي جميع أحواله فيجعل وجهه حسناً وحاله حسناً ثم فيه لطائف
اللطيفة الأولى هذه إشارة إلى رفع التكليف عن العوام في الآخرة وتوجيه التكليف على الخواص فيها أما الأول فلأنه تعالى لما قال هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ والمؤمن لا شك في أنه يثاب(29/115)
بالجنة فيكون له من الله الإحسان جزاء له ومن جازى عبداً على عمله لا يأمره بشكره ولأن التكليف لو بقي في الآخرة فلو ترك العبد القيام بالتكليف لاستحق العقاب والعقاب ترك الإحسان لأن العبد لما عبد الله في الدنيا ما دام وبقي يليق بكرمه تعالى أن يحسن إليه في الآخرة ما دام وبقي فلا عقاب على تركه بلا تكليف وأما الثاني فنقول خاصة الله تعالى عبدنا الله تعالى في الدنيا لنعم قد سبقت له علينا فهذا الذي أعطانا الله تعالى ابتداء نعمة وإحسان جديد فله علينا شكره فيقولون الحمد لله ويذكرون الله ويثنون عليه فيكون نفس الإحسان من الله تعالى في حقهم سبباً لقيامهم بشكره فيعرضون هم على أنفسهم عبادته تعالى فيكون لهم بأدنى عبادة شغل شاغل عن الحور والقصور والأكل والشرب فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتنابذون ولا يلعبون فيكون حالهم كحال الملائكة في يومنا هذا لا يتناكحون ولا يلعبون فلا يكون ذلك تكليفاً مثل هذه التكاليف الشاقة وإنما يكون ذلك لذة زائدة على كل لذة في غيرها
اللطيفة الثانية هذه الآية تدل على أن العبد محكم في الآخرة كما قال تعالى لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ( يس 57 ) وذلك لأنا بينا أن الإحسان هو الإتيان بما هو حسن عند من أتى بالإحسان لكن الله لما طلب منا العبادة طلب كما أراد فأتى به المؤمن كما طلب منه فصار محسناً فهذا يقتضي أن يحسن الله إلى عبده ويأتي بما هو حسن عنده وهو ما يطلبه كما يريد فكأنه قال هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ أي هل جزاء من أتى بما طلبته منه على حسب إرادتي إلا أن يؤتى بما طلبه مني على حسب إرادته لكن الإرادة متعلقة بالرؤية فيجب بحكم الوعد أن تكون هذه آية دالة على الرؤية البلكفية
اللطيفة الثالثة هذه الآية تدل على أن كل ما يفرضه الإنسان من أنواع الإحسان من الله تعالى فهو دون الإحسان الذي وعد الله تعالى به لأن الكريم إذا قال للفقير افعل كذا ولك كذا ديناراً وقال لغيره افعل كذا على أن أحسن إليك يكون رجاء من لم يعين له أجراً أكثر من رجاء من عين له هذا إذا كان الكريم في غاية الكرم ونهاية الغنى إذا ثبت هذا فالله تعالى قال جزاء من أحسن إلى أن أحسن إليه بما يغبط به وأوصل إليه فوق ما يشتهيه فالذي يعطي الله فوق ما يرجوه وذلك على وفق كرمه وإفضاله
ثم قال تعالى
وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَآمَّتَانِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فَبِأَى ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
لما ذكر الجزاء ذكر بعده مثله وهو جنتان أخريان وهذا كقوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) وفي قوله تعالى دُونِهِمَا وجهان أحدهما دونهما في الشرف وهو ما اختاره صاحب الكشاف وقال قوله مُدْهَامَّتَانِ مع قوله في الأوليين ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( الرحمن 48 ) وقوله في هذه عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ مع قوله في الأوليين عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( الرحمن 50 ) لأن النضخ دون الجري وقوله في الأولين مِن كُلّ فَاكِهَة ٍ زَوْجَانِ ( الرحمن 52 ) مع قوله في هاتين فَاكِهَة ٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( الرحمن 68 ) وقوله في الأوليين فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها وعدم إدراك العقول إياها مع قوله في هاتين رَفْرَفٍ خُضْرٍ ( الرحمن 76 ) دليل عليه ولقائل أن يقول هذا ضعيف لأن عطايا الله في الآخرة(29/116)
متتابعة لا يعطي شيئاً بعد شيء إلا ويظن الظان أنه ذلك أو خير منه ويمكن أن يجاب عنه تقريراً لما اختاره الزمخشري أن الجنتين اللتين دون الأولين لذريتهم اللذين ألحقهم الله بهم ولأتباعهم ولكنه إنما جعلهما لهم إنعاماً عليهم أي هاتان الأخريان لكم أسكنوا فيهما من تريدون الثاني أن المراد دونهما في المكان كأنهم في جنتين ويطلعوا من فوق على جنتين أخريين دونهما ويدل عليه قوله تعالى لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ ( الزمر 20 ) الآية والغرف العالية عندها أفنان والغرف التي دونها أرضها مخضرة وعلى هذا ففي الآيات لطائف
الأولى قال في الأوليين ذَوَاتَا أَفْنَانٍ وقال في هاتين مُدْهَامَّتَانِ أي مخضرتان في غاية الخضرة وإدهام الشيء أي اسواد لكن لا يستعمل في بعض الأشياء والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى أسود ويحتمل أن يقال الأرض الخالية عن الزرع يقال لها بياض أرض وإذا كانت معمورة يقال لها سواد أرض كما يقال سواد البلد وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليكم بالسواد الأعظم ومن كثر سواد قوم فهو منهم ) والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض وانتهاءها هو السواد فإن الأبيض يقبل كل لون والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان ولهذا يطلق الكافر على الأسود ولا يطلق على لون آخر ولما كانت الخالية عن الزرع متصفة بالبياض واللاخالية بالسواد فهذا يدل على أنهما تحت الأوليين مكاناً فهم إذا نظروا إلى ما فوقهم يرون الأفنان تظلهم وإذا نظروا إلى ما تحتهم يرون الأرض مخضرة وقوله تعالى فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ أي فائرتان ماؤهما متحرك إلى جهة فوق وأما العينان المتقدمتان فتجريان إلى صوب المؤمنين فكلاهما حركتهما إلى جهة مكان أهل الإيمان وأما قول صاحب الكشاف النضخ دون الجري فغير لازم لجواز أن يكون الجري يسيراً والنضخ قوياً كثيراً بل المراد أن النضخ فيه الحركة إلى جهة العلو والعينان في مكان المؤمنين فحركة الماء تكون إلى جهتهم فالعينان الأوليان في مكانهم فتكون حركة مائهما إلى صوب المؤمنين جرياً
بم وأما قوله تعالى
فِيهِمَا فَاكِهَة ٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
فهو كقوله تعالى فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَة ٍ زَوْجَانِ ( الرحمن 52 ) وذلك لأن الفاكهة أرضية نحوه البطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات وشجرية نحو النخل وغيره من الشجريات فقال مُدْهَامَّتَانِ ( الرحمن 64 ) بأنواع الخضر التي منها الفواكه الأرضية وفيهما أيضاً الفواكه الشجرية وذكر منها نوعين وهما الرمان والرطب لأنهما متقابلان فأحدهما حلو والآخر غير حلو وكذلك أحدهما حار والآخر بارد وأحدهما فاكهة وغذاء والآخر فاكهة وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة وأحدهما أشجاره في غاية الطول والآخر أشجاره بالضد وأحدهما ما يؤكل منه بارز ومالا يؤكل كامن والآخر بالعكس فهما كالضدين والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كما قال(29/117)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ وقدمنا ذلك
ثم قال تعالى
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
أي في باطنهن الخير وفي ظاهرهن الحسن والخيرات جمع خيرة وقد بينا أن في قوله تعالى قَاصِراتُ الطَّرْفِ إلى أن قال كَأَنَّهُنَّ ( الرحمن 56 58 ) إشارة إلى كونهن حساناً
بم وقوله تعالى
حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
إشارة إلى عظمتهن فإنهن ما قصرن حجراً عليهن وإنما ذلك إشارة إلى ضرب الخيام لهن وإدلاء الستر عليهن والخيمة مبيت الرجل كالبيت من الخشب حتى إن العرب تسمي البيت من الشعر خيمة لأنه معد للإقامة إذا ثبت هذا فنقول قوله مَّقْصُوراتٌ فِى الْخِيَامِ إشارة إلى معنى في غاية اللطف وهو أن المؤمن في الجنة لا يحتاج إلى التحرك لشيء وإنما الأشياء تتحرك إليه فالمأكول والمشروب يصل إليه من غير حركة منه ويطاف عليهم بما يشتهونه فالحور يكن في بيوت وعند الانتقال إلى المؤمنين في وقت إرادتهم تسير بهن للارتحال إلى المؤمنين خيام وللمؤمنين قصور تنزل الحور من الخيام إلى القصور وقوله تعالى لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ قد سبق تفسيره
ثم قال تعالى
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِى ٍّ حِسَانٍ فَبِأَى ِّ ءَالا ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الحكمة في تأخير ذكر اتكائهم عن ذكر نسائهم في هذا الموضع مع أنه تعالى قدم ذكر اتكائهم على ذكر نسائهم في الجنتين المتقدمتين حيث قال مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ ( الرحمن 54 ) ثم قال قَاصِراتُ الطَّرْفِ ( الرحمن 56 ) وقال ههنا فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ ( الرحمن 70 ) ثم قال مُتَّكِئِينَ والجواب عنه من وجهين أحدهما أن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم منعمون دائماً لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستفيض وعند قضاء وطره يستعمل الاغتسال والانتشار في الأرض للكسب ومنهم من يكون متردداً في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويريح قلبه من التعب قبل قضاء الوطر فيكون التعب لازماً قبل قضاء الوطر أو بعده فالله تعالى قال في بيان أهل الجنة متكئين قبل الاجتماع بأهلهم وبعد الاجتماع كذلك ليعلم أنهم دائم على السكون فلا تعب لهم لا قبل الاجتماع ولا بعد الاجتماع وثانيهما هو أنا بينا في الوجهين المتقدمين أن الجنتين المتقدمتين لأهل الجنة الذين جاهدوا والمتأخرين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم فهم فيهما وأهلهم في الخيام منتظرات قدوم أزواجهن فإذا دخل المؤمن جنته التي هي سكناه يتكىء على الفرش وتنتقل إليه أزواجه الحسان فكونهن في الجنتين المتقدمتين بعد اتكائهم على الفرش وأما كونهم في الجنتين المتأخرتين فذلك حاصل في يومنا واتكاء المؤمن غير حاصل في يومنا فقدم ذكر كونهن فيهن هنا وأخره هناك و مُتَّكِئِينَ حال والعامل فيه ما دل عليه قوله لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ ( الرحمن 74 ) وذلك في قوة الاستثناء كأنه قال لم يطمثهن إلا المؤمنون فإنهم يطمثوهن متكئين وما ذكرنا من قبل في قوله تعالى مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ ( الرحمن 54 ) يقال هنا
المسألة الثانية الرفرف إما أن يكون أصله من رف الزرع إذا بلغ من نضارته فيكون مناسباً لقوله تعالى مُدْهَامَّتَانِ ( الرحمن 64 ) ويكون التقدير أنهم متكئون على الرياض والثياب العبقرية وإما أن يكون من رفرفة الطائر(29/118)
وهي حومة في الهواء حول ما يريد النزول عليه فيكون المعنى أنهم على بسط مرفوعة كما قال تعالى وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَة ٍ ( الواقعة 34 ) وهذا يدل على أن قوله تعالى وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( الرحمن 62 ) أنهما دونهما في المكان حيث رفعت فرشهم وقوله تعالى خُضْرٍ صيغة جمع فالرفرف يكون جمعاً لكونه اسم جنس ويكون واحده رفرفة كحنظلة وحنظل والجمع في متكئين يدل عليه فإنه لما قال مُتَّكِئِينَ دل على أنهم على رفارف
المسألة الثالثة ما الفرق بين الفرش والرفرف حيث لم يقل رفارف اكتفاء بما يدل عليه قوله مُتَّكِئِينَ وقال فُرُشٍ ولم يكتف بما يدل عليه ذلك نقول جمع الرباعي أثقل من جمع الثلاثي ولهذا لم يجيء للجمع في الرباعي إلا مثال واحد وأمثلة الجمع في الثلاثي كثيرة وقد قرىء ( على رفارف خضر ) و ( رفارف خضار وعباقر )
المسألة الرابعة إذ قلنا إن الرفرف هي البسط فما الفائدة في الخضر حيث وصف تعالى ثياب الجنة بكونها خضراً قال تعالى ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ ( الإنسان 21 ) نقول ميل الناس إلى اللون الأخضر في الدنيا أكثر وسبب الميل إليه هو أن الألوان التي يظن أنها أصول الألوان سبعة وهي الشفاف وهو الذي لا يمنع نفوذ البصر فيه ولا يحجب ما وراءه كالزجاج والماء الصافي وغيرهما ثم الأبيض بعده ثم الأصفر ثم الأحمر ثم الأخضر ثم الأزرق ثم الأسود والأظهر أن الألوان الأصلية ثلاثة الأبيض والأسود وبينهما غاية الخلاف والأحمر متوسط بين الأبيض والأسود فإن الدم خلق على اللون المتوسط فإن لم تكن الصحة على ما ينبغي فإن كان لفرط البرودة فيه كان أبيض وإن كان لفرط الحرارة فيه كان أسود لكن هذه الثلاثة يحصل منها الألوان الأخر فالأبيض إذا امتزج بالأحمر حصل الأصفر يدل عليه مزج اللبن الأبيض بالدم وغيره من الأشياء الحمر وإذا امتزج الأبيض بالأسود حصل اللون الأزرق يدل عليه خلط الجص المدقوق بالفحم وإذا امتزج الأحمر بالأسود حصل الأزرق أيضاً لكنه إلى السواد أميل وإذا امتزج الأصفر بالأزرق حصل الأخضر من الأصفر والأزرق وقد علم أن الأصفر من الأبيض والأحمر والأزرق من الأبيض والأسود والأحمر والأسود فالأخضر حصل فيه الألوان الثلاثة الأصلية فيكون ميل الإنسان إليه لكونه مشتملاً على الألوان الأصلية وهذا بعيد جداً والأقرب أن الأبيض يفرق البصر ولهذا لا يقدر الإنسان على إدامة النظر في الأرض عند كونها مستورة بالثلج وإنه يورث الجهر والنظر إلى الأشياء السود يجمع البصر ولهذا كره الإنسان النظر إليه وإلى الأشياء الحمر كالدم والأخضر لما اجتمع فيه الأمور الثلاثة دفع بعضها أذى بعض وحصل اللون الممتزج من الأشياء التي في بدن الإنسان وهي الأحمر والأبيض والأصفر والأسود ولما كان ميل النفس في الدنيا إلى الأخضر ذكر الله تعالى في الآخرة ما هو على مقتضى طبعه في الدنيا
المسألة الخامسة العبقري منسوب إلى عبقر وهو عند العرب موضع من مواضع الجن فالثياب المعمولة عملاً جيداً يسمونها عبقريات مبالغة في حسنها كأنها ليست من عمل الإنس ويستعمل في غير الثياب أيضاً حتى يقال للرجل الذي يعمل عملاً عجيباً هو عبقري أي من ذلك البلد قال ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام الذي رآه ( فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه ) واكتفى بذكر اسم الجنس عن الجمع ووصفه بما توصف به الجموع فقال حسان وذلك لما بينا أن جمع الرباعي يستثقل بعض الاستثقال وأما من قرأ عباقري فقد جعل اسم ذلك الموضع عباقر فإن زعم أنه جمعه فقد وهم وإن جمع العبقري ثم نسب فقد التزم تكلفاً خلاف ما كلف(29/119)
الأدباء التزامه فإنهم في الجمع إذا نسبوا ردوه إلى الواحد وهذا القارىء تكلف في الواحد ورده إلى الجمع ثم نسبه لأن عند العرب ليس في الوجود بلاد كلها عبقر حتى تجمع ويقال عباقر فهذا تكلف الجمع فيما لا جمع له ثم نسب إلى ذلك الجمع والأدباء تكره الجمع فيما ينسب لئلا يجمعوا بين الجمع والنسبة
ثم قال تعالى
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في الترتيب وفيه وجوه أحدها أنه تعالى لما ختم نعم الدنيا بقوله تعالى فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ ختم نعم الآخرة بقوله تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ إشارة إلى أن الباقي والدائم لذاته هو الله تعالى لا غير والدنيا فانية والآخرة وإن كانت باقية لكن بقاؤها بإبقاء الله تعالى ثانيها هو أنه تعالى في أواخر هذه السور كلها ذكر اسم الله فقال في السورة التي قبل هذه عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) وكون العبد عند الله من أتم النعم كذلك ههنا بعد ذكر الجنات وما فيها من النعم قال تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ إشارة إلى أن أتم النعم عند الله تعالى وأكمل اللذات ذكر الله تعالى وقال في السورة التي بعد هذه فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة ٍ نَعِيمٍ ( الواقعة 89 ) ثم قال تعالى في آخر السورة فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( الواقعة 96 ) ثالثها أنه تعالى ذكر جميع الذات في الجنات ولم يذكر لذة السماع وهي من أتم أنواعها فقال مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ يسمعون ذكر الله تعالى
المسألة الثانية أصل التبارك من البركة وهي الدوام والثبات ومنها بروك البعير وبركة الماء فإن الماء يكون فيها دائماً وفيه وجوه أحدها دام اسمه وثبت وثانيها دام الخير عنده لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير وثالثها تبارك بمعنى علا وارتفع شأناً لا مكاناً
المسألة الثالثة قال بعد ذكر نعم الدنيا وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ( الرحمن 27 ) وقال بعد ذكر نعم الآخرة تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ لأن الإشارة بعد عد نعم الدنيا وقعت إلى عدم كل شيء من الممكنات وفنائها في ذواتها واسم الله تعالى ينفع الذاكرين ولا ذاكر هناك يوحد الله غاية التوحيد فقال ويبقى وجه الله تعالى والإشارة هنا وقعت إلى أن بقاء أهل الجنة بإبقاء الله ذاكرين اسم الله متلذذين به فقال تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ أي في ذلك اليوم لا يبقى اسم أحد إلا اسم الله تعالى به تدور الألسن ولا يكون لأحد عند أحد حاجة بذكره ولا من أحد خوف فإن تذاكروا تذاكروا باسم الله
المسألة الرابعة الاسم مقحم أو هو أصل مذكور له التبارك نقول فيه وجهان أحدهما وهو المشهور أنه مقحم كالوجه في قوله تعالى وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ يدل عليه قوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنين 14 ) و تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ( الملك 1 ) وغيره من صور استعمال لفظ تبارك وثانيهما هو أن الاسم تبارك وفيه إشارة إلى معنى بليغ أما إذا قلنا تبارك بمعنى علا فمن علا اسمه كيف يكون مسماه وذلك لأن الملك إذا عظم شأنه لا يذكر اسمه إلا بنوع تعظيم ثم إذا انتهى الذاكر إليه يكون تعظيمه له أكثر(29/120)
فإن غاية التعظيم للاسم أن السامع إذا سمعه قام كما جرت عادة الملوك أنهم إذا سمعوا في الرسائل اسم سلطان عظيم يقومون عند سماع اسمه ثم إن أتاهم السلطان بنفسه بدلاً عن كتابه الذي فيه اسمه يستقبلونه ويضعون الجباه على الأرض بين يديه وهذا من الدلائل الظاهرة على أن علو الاسم يدل على علو زائد في المسمى أما إن قلنا بمعنى دام الخير عنده فهو إشارة إلى أن ذكر اسم الله تعالى يزيل الشر ويهرب الشيطان ويزيد الخير ويقرب السعادات وأما إن قلنا بمعنى دام اسم الله فهو إشارة إلى دوام الذاكرين في الجنة على ما قلنا من قبل
المسألة الخامسة القراءة المشهورة ههنا ذِى الْجَلَالِ وفي قوله تعالى وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ لأن الجلال للرب والاسم غير المسمى وأما وجه الرب فهو الرب فوصف هناك الوجه ووصف ههنا الرب دون الاسم ولو قال ويبقى الرب لتوهم أن الرب إذا بقي رباً فله في ذلك الزمان مربوب فإذا قال وجه أنسى المربوب فحصل القطع بالبقاء للحق فوصف الوجه يفيد هذه الفائدة والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه(29/121)
سورة الواقعة
وهي ست وتسعون آية مكية
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَة ٌ خَافِضَة ٌ رَّافِعَة ٌ
أما تعلق هذه السورة بما قبلها فذلك من وجوه أحدها أن تلك السورة مشتملة على تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه عن التكذيب كما مر وهذه السورة مشتملة على ذكر الجزاء بالخير لمن شكر وبالشر لمن كذب وكفر ثانيها أن تلك السورة متضمنة للتنبيهات بذكر الآلاء في حق العباد وهذه السورة كذلك لذكر الجزاء في حقهم يوم التناد ثالثها أن تلك السورة سورة إظهار الرحمة وهذه السورة سورة إظهار الهيبة على عكس تلك السورة مع ما قبلها وأما تعلق الأول بالآخر ففي آخر تلك السورة إشارة إلى الصفات من باب النفي والإثبات وفي أول هذه السورة إلى القيامة وإلى ما فيها من المثوبات والعقوبات وكل واحد منهما يدل على علو اسمه وعظمة شأنه وكمال قدرته وعز سلطانه ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى ففي تفسيرها جملة وجوه أحدها المراد إذا وقعت القيامة الواقعة أو الزلزلة الواقعة يعترف بها كل أحد ولا يتمكن أحد من إنكارها ويبطل عناد المعاندين فتخفض الكافرين في دركات النار وترفع المؤمنين في درجات الجنة هؤلاء في الجحيم وهؤلاء في النعيم الثاني وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ تزلزل الناس فتخفض المرتفع وترفع المنخفض وعلى هذا فهي كقوله تعالى فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ( الحجر 74 ) في الإشارة إلى شدة الواقعة لأن العذاب الذي جعل العالي سافلاً بالهدم والسافل عالياً حتى صارت الأرض المنخفضة كالجبال الراسية والجبال الراسية كالأرض المنخفضة أشد وأبلغ فصارت البروج العالية مع الأرض متساوية والواقعة التي تقع ترفع المنخفضة فتجعل من الأرض أجزاء عالية ومن السماء أجزاء سافلة ويدل عليه قوله تعالى إِذَا رُجَّتِ الاْرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً ( الواقعة 4 5 ) فإنه إشارة إلى أن الأرض تتحرك بحركة مزعجة والجبال تتفتت فتصير الأرض المنخفضة كالجبال الراسية والجبال الشامخة كالأرض السافلة كما يفعل هبوب الريح في الأرض المرملة الثالث إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ يظهر(29/122)
وقوعها لكل أحد وكيفية وقوعها فلا يوجد لها كاذبة ولا متأول يظهر فقوله خَافِضَة ٌ رَّافِعَة ٌ معطوف على كَاذِبَة ٌ نسقاً فيكون كما يقول القائل ليس لي في الأمر شك ولا خطأ أي لا قدرة لأحد على رفع المنخفض ولا خفض المرتفع
المسألة الثانية إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ يحتمل أن تكون الواقعة صفة لمحذوف وهي القيامة أو الزلزلة على ما بينا ويحتمل أن يكون المحذوف شيئاً غير معين وتكون تاء التأنيث مشيرة إلى شدة الأمر الواقع وهوله كما يقال كانت الكائنة والمراد كان الأمر كائناً ما كان وقولنا الأمر كائن لا يفيد إلا حدوث أمر ولو كان يسيراً بالنسبة إلى قوله كانت الكائنة إذ في الكائنة وصف زائد على نفس كونه شيئاً ولنبين هذا ببيان كون الهاء للمبالغة في قولهم فلان راوية ونسابة وهو أنهم إذا أرادوا أن يأتوا بالمبالغة في كونه راوياً كان لهم أن يأتوا بوصف بعد الخبر ويقولون فلان راو جيد أو حسن أو فاضل فعدلوا عن التطويل إلى الإيجاز مع زيادة فائدة فقالوا نأتي بحرف نيابة عن كلمة كما أتينا بهاء التأنيث حيث قلنا ظالمة بدل قول القائل ظالم أنثى ولهذا لزمهم بيان الأنثى عند مالا يمكن بيانها بالهاء في قولهم شاة أنثى وكالكتابة في الجمع حيث قلنا قالوا بدلاً عن قول القائل قال وقال وقال وقالا بدلاً عن قوله قال وقال فكذلك في المبالغة أرادوا أن يأتوا بحرف يغني عن كلمة والحرف الدال على الزيادة ينبغي أن يكون في الآخر لأن الزيادة بعد أصل الشيء فوضعوا الهاء عند عدم كونها للتأنيث والتوحيد في اللفظ المفرد لا في الجمع للمبالغة إذا ثبت هذا فنقول في كانت الكائنة ووقعت الواقعة حصل هذا معنى لا لفظاً أما معنى فلأنهم قصدوا بقولهم كانت الكائنة أن الكائن زائد على أصل ما يكون وأما لفظاً فلأن الهاء لو كانت للمبالغة لما جاز إثبات ضمير المؤنث في الفعل بل كان ينبغي أن يقولوا كان الكائنة ووقع الواقعة ولا يمكن ذلك لأنا نقول المراد به المبالغة
المسألة الثالثة العامل في إِذَا ماذا نقول فيه ثلاث أوجه أحدها فعل متقدم يجعل إذا مفعولاً به لا ظرفاً وهو اذكر كأنه قال اذكر القيامة ثانيها العامل فيها ليس لوقعتها كاذبة كما تقول يوم الجمعة ليس لي شغل ثالثها يخفض قوم ويرفع قوم وقد دل عليه خَافِضَة ٌ رَّافِعَة ٌ وقيل العامل فيها قوله وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ ( الواقعة 8 ) أي في يوم وقوع الواقعة
المسألة الرابعة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا إشارة إلى أنها تقع دفعة واحدة فالوقعة للمرة الواحدة وقوله كَاذِبَة ٌ يحتمل وجوهاً أحدها كاذبة صفة لمحذوف أقيمت مقامه تقديره ليس لها نفس تكذب ثانيها الهاء للمبالغة كما تقول في الواقعة وقد تقدم بيانه ثالثها هي مصدر كالعاقبة فإن قلنا بالوجه الأول فاللام تحتمل وجهين أحدهما أن تكون للتعليل أي لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدة وقعتها كما يقال لا كاذب عند الملك لضبطه الأمور فيكون نفياً عاماً بمعنى أن كل أحد يصدقه فيما يقول وقال وقبله نفوس كواذب في أمور كثيرة ولا كاذب فيقول لا قيامة لشدة وقعتها وظهور الأمر وكما يقال لا يحتمل الأمر الإنكار لظهوره لكل أحد فيكون نفياً خاصاً بمعنى لا يكذب أحد فيقول لا قيامة وقبله نفوس قائلة به كاذبة فيه ثانيهما أن تكون للتعدية وذلك كما يقال ليس لزيد ضارب وحينئذ تقديره إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها امرؤ يوجد لها كاذب إن أخبر عنها فهي خافضة رافعة تخفض قوماً وترفع قوماً وعلى هذا لا تكون عاملاً في إِذَا وهو بمعنى ليس لها كاذب يقول هي أمر سهل يطاق يقال لمن يقدم على أمر عظيم ظاناً أنه يطيقه سل نفسك أي سهلت الأمر(29/123)
عليك وليس بسهل وإن قلنا بالوجه الثاني وهو المبالغة ففيه وجهان أحدهما ليس لها كاذب عظيم بمعنى أن من يكذب ويقدم على الكذب العظيم لا يمكنه أن يكذب لهول ذلك اليوم وثانيهما أن أحداً لو كذب وقال في ذلك اليوم لا قيامة ولا واقعة لكان كاذباً عظيماً ولا كاذب لهذه العظمة في ذلك اليوم والأول أدل على هول اليوم وعلى الوجه الثالث يعود ما ذكرنا إلى أنه لا كاذب في ذلك اليوم بل كل أحد يصدقه
المسألة الخامسة خَافِضَة ٌ رَّافِعَة ٌ تقديره هي خافضة رافعة وقد سبق ذكره في التفسير الجملي وفيه وجوه أخرى أحدها خافضة رافعة صفتان للنفس الكاذبة أي ليس لوقعتها من يكذب ولا من يغير الكلام فتخفض أمراً وترفع آخر فهي خافضة أو يكون هو زيادة لبيان صدق الخلق في ذلك اليوم وعدم إمكان كذبهم والكاذب يغير الكلام ثم إذا أراد نفي الكذب عن نفسه يقول ما عرفت مما كان كلمة واحدة وربما يقول ما عرفت حرفاً واحداً وهذا لأن الكاذب قد يكذب في حقيقة الأمر وربما يكذب في صفة صفاته والصفة قد يكون ملتفتاً إليها وقد لا يكون ملتفتاً إليها التفاتاً معتبراً وقد لا يكون ملتفتاً إليها أصلاً مثال الأول قول القائل ما جاء زيد ويكون قد جاء ومثال الثاني ما جاء يوم الجمعة ومثال الثالث ما جاء بكرة يوم الجمعة ويكون قد جاء بكرة يوم الجمعة وما جاء أول بكرة يوم الجمعة والثاني دون الأول والرابع دون الكل فإذا قال القائل ما أعرف كلمة كاذبة نفى عنه الكذب في الإخبار وفي صفته والذي يقول ما عرفت حرفاً واحداً نفى أمراً وراءه والذي يقول ما عرفت أعرافة واحدة يكون فوق ذلك فقوله لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَة ٌ خَافِضَة ٌ رَّافِعَة ٌ أي من يغير تغييراً ولو كان يسيراً
ثم قال تعالى
إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً
أي كانت الأرض كثيباً مرتفعاً والجبال مهيلاً منبسطاً وقوله تعالى فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً كقوله تعالى في وصف الجبال كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ( القارعة 5 ) وقد تقدم بيان فائدة ذكر المصدر وهي أنه يفيد أن الفعل كان قولاً معتبراً ولم يكن شيئاً لا يلتفت إليه ويقال فيه إنه ليس بشيء فإذا قال القائل ضربته ضرباً معتبراً لا يقول القائل فيه ليس بضرب محتقراً له كما يقال هذا ليس بشيء والعامل في إِذَا رُجَّتِ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون إذا رجت بدلاً عن إذا وقعت فيكون العامل فيها ما ذكرنا من قبل ثانيها أن يكون العامل في إِذَا وَقَعَتِ ( الواقعة 1 ) هو قوله لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا ( الواقعة 2 ) والعامل في إِذَا رُجَّتِ هو قوله خَافِضَة ٌ رَّافِعَة ٌ ( الواقعة 3 ) تقديره تخفض الواقعة وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال والفاء للترتيب الزماني لأن الأرض مالم تتحرك والجبال مالم تنبس لا تكون هباء منبثاً والبس التقليب والهباء هو الهواء المختلط بأجزاء أرضية تظهر في خيال الشمس إذا وقع شعاعها في كوة وقال الذين يقولون إن بين الحروف والمعاني مناسبة إن الهواء إذا خالطه أجزاء ثقيلة أرضية ثقل من لفظه حرف فأبدلت الواو الخفيفة بالباء التي لا ينطق بها إلا بإطباق الشفتين بقوة ما لو في الباء ثقل ما(29/124)
ثم قال تعالى
وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَة ً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأمَة ِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأمَة ِ
أي في ذلك اليوم أنتم أزواج ثلاثة أصناف وفسرها بعدها بقوله فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الفاء تدل على التفسير وبيان ما ورد على التقسيم كأنه قال ( أزواجاً ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ) إلخ ثم بين حال كل قوم فقال مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ فترك التقسيم أولاً واكتفى بما يدل عليه فإنه ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها وسبق قوله تعالى وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَة ً يغني عن تعديد الأقسام ثم أعاد كل واحدة لبيان حالها
المسألة الثانية الْمَيْمَنَة ِ مَا هم أصحاب الجنة وتسميتهم بأصحاب الميمنة إما لكونهم من جملة من كتبهم بأيمانهم وإما لكون أيمانهم تستنير بنور من الله تعالى كما قال تعالى يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ( الحديد 12 ) وإما لكون اليمين يراد به الدليل على الخير والعرب تتفاءل بالسانح و ( هو ) الذي يقصد جانب اليمين من الطيور والوحوش عند الزجر والأصل فيه أمر حكمي وهو أنه تعالى لما خلق الخلق كان له في كل شيء دليل على قدرته واختياره حتى إن في نفس الإنسان له دلائل لا تعد ولا تحصى ودلائل الاختيار إثبات مختلفين في محلين متشابهين أو إثبات متشابهين في محلين مختلفين إذ حال الإنسان من أشد الأشياء مشابهة فإنه مخلوق من متشابه ثم إنه تعالى أودع في الجانب الأيمن من الإنسان قوة ليست في الجانب الأيسر لو اجتمع أهل العلم على أن يذكروا له مرجحاً غير قدرة الله وإرادته لا يقدرون عليه فإن كان بعضهم يدعى كياسة وذكاء يقول إن الكبد في الجانب الأيمن وبها قوة التغذية والطحال في الجانب الأيسر وليس فيه قوة ظاهرة النفع فصار الجانب الأيمن قوياً لمكان الكبد على اليمين فنقول هذا دليل الاختيار لأن اليمين كالشمال وتخصيص الله اليمين يجعله مكان الكبد دليل الاختيار إذا ثبت أن الإنسان يمينه أقوى من شماله فضلوا اليمين على الشمال وجعلوا الجانب الأيمن للأكابر وقيل لمن له مكانة هو من أصحاب اليمين ووضعوا له لفظاً على وزن العزيز فينبغي أن يكون الأمر على ذلك الوجه كالسميع والبصير ومالا يتغير كالطويل والقصير وقيل له اليمين وهو يدل على القوة ووضعوا مقابلته اليسار على الوزن الذي اختص به الاسم المذموم عند النداء بذلك الوزن وهو الفعال فإن عند الشتم والنداء بالاسم المذموم يؤتى بهذا الوزن مع البناء على الكسر فيقال يا فجار يا فساق يا خباث وقيل اليمين اليسار ثم بعد ذلك استعمل في اليمين وأما الميمنة فهي مفعلة كأنه الموضع الذي فيه اليمين وكل ما وقع بيمين الإنسان في جانب من المكان فذلك موضع اليمين فهو ميمنة كقولنا ملعبة
المسألة الثالثة جعل الله تعالى الخلق على ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة وذلك لأن جوانب الإنسان أربعة يمينه وشماله وخلفه وقدامه واليمين في مقابلة الشمال والخلف في مقابلة القدام ثم إنه تعالى أشار بأصحاب اليمين إلى الناجين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وهم من أصحاب الجانب الأشرف المكرمون وبأصحاب الشمال إلى الذين حالهم على خلاف أصحاب اليمين وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم مهانون وذكر السابقين الذين لا حساب عليهم ويسبقون الخلق من غير حساب بيمين أو شمال أن الذين يكونون في المنزلة العليا من الجانب الأيمن وهم المقربون بين يدي الله يتكلمون في حق الغير ويشفعون للغير(29/125)
ويقضون أشغال الناس وهؤلاء أعلى منزلة من أصحاب اليمين ثم إنه تعالى لم يقل في مقابلتهم قوماً يكونون متخلفين مؤخرين عن أصحاب الشمال لا يلتفت إليهم لشدة الغضب عليهم وكانت القسمة في العادة رباعية فصارت بسبب الفضل ثلاثية وهو كقوله تعالى فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ ( فاطر 32 ) لم يقل منهم متخلف عن الكل
المسألة الرابعة ما الحكمة في الابتداء بأصحاب اليمين والانتقال إلى أصحاب الشمال ثم إلى السابقين مع أنه في البيان بين حال السابقين ثم أصحاب الشمال على الترتيب والجواب أن نقول ذكر الواقعة وما يكون عند وقوعها من الأمور الهائلة إنما يكون لمن لا يكون عنده من محبة الله تعالى ما يكفه مانعاً عن المعصية وأما الذين سرهم مشغول بربهم فلا يجزنون بالعذاب فلما ذكر تعالى إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَة ُ ( اواقعة 11 ) وكان فيه من التخويف مالا يخفى وكان التخويف بالذين يرغبون ويرهبون بالثواب والعقاب أولى ذكر ما ذكره لقطع العذر لا نفع الخبر وأما السابقون فهم غير محتاجين إلى ترغيب أو ترهيب فقدم سبحانه أصحاب اليمين الذين يسمعون ويرغبون ثم ذكر السابقين ليجتهد أصحاب اليمين ويقربوا من درجتهم وإن كان لا ينالها أحد إلا بجذب من الله فإن السابق يناله ما يناله بجذب وإليه الإشارة بقوله جذبة من جذبات الرحمن خير من عبادة سبعين سنة
المسألة الخامسة ما معنى قوله مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ نقول هو ضرب من البلاغة وتقريره هو أن يشرع المتكلم في بيان أمر ثم يسكت عن الكلام ويشير إلى أن السامع لا يقدر على سماعه كما يقول القائل لغيره أخبرك بما جرى عليَّ ثم يقول هناك هو مجيباً لنفسه لا أخاف أن يحزنك وكما يقول القائل من يعرف فلاناً فيكون أبلغ من أن يصفه لأن السامع إذا سمع وصفه يقول هذا نهاية ما هو عليه فإذا قال من يعرف فلاناً بفرض السامع من نفسه شيئاً ثم يقول فلان عند هذا المخبر أعظم مما فرضته وأنبه مما علمت منه
المسألة السادسة ما إعرابه ومنه يعرف معناه نقول فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ مبتدأ أراد المتكلم أن يذكر خبره فرجع عن ذكره وتركه وقوله مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ جملة استفهامية على معنى التعجب كما تقول لمدعي العلم ما معنى كذا مستفهماً ممتحناً زاعماً أنه لا يعرف الجواب حتى إنك تحب وتشتهي ألا يجيب عن سؤالك ولو أجاب لكرهته لأن كلامك مفهوم كأنك تقول إنك لا تعرف الجواب إذا عرفت هذا فكأن المتكلم في أول الأمر مخبراً ثم لم يخبر بشيء لأن في الأخبار تطويلاً ثم لم يسكت وقال ذلك ممتحناً زاعماً أنك لا تعرف كنهه وذلك لأن من يشرع في كلام ويذكر المبتدأ ثم يسكت عن الخبر قد يكون ذلك السكوت لحصول علمه بأن المخاطب قد علم الخبر من غير ذكر الخبر كما أن قائلاً إذا أراد أن يخبر غيره بأن زيداً وصل وقال إن زيداً ثم قبل قوله جاء وقع بصره على زيد ورآه جالساً عنده يسكت ولا يقول جاء لخروج الكلام عن الفائدة وقد يسكت عن ذكر الخبر من أول الأمر لعلمه بأن المبتدأ وحده يكفي لمن قال من جاء فإنه إن قال زيد يكون جواباً وكثيراً ما نقول زيد ولا نقول جاء وقد يكون السكوت عن الخبر إشارة إلى طول القصة كقول القائل الغضبان من زيد ويسكت ثم يقول ماذا أقول عنه إذا علم هذا فنقول لما قال فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ كان كأنه يريد أن يأتي بالخبر فسكت عنه ثم قال في نفسه إن السكوت قد يوهم أنه لظهور حال الخبر كما يسكت على زيد في جواب من جاء فقال مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ ممتحناً زاعماً أنه لا يفهم ليكون(29/126)
ذلك دليلاً على أن سكوته على المبتدأ لم يكن لظهور الأمر بل لخفائه وغرابته وهذا وجه بليغ وفيه وجه ظاهر وهو أن يقال معناه أنه جملة واحدة استفهامية كأنه قال وأصحاب الميمنة ما هم على سبيل الاستفهام غير أنه أقام المظهر مقام المضمر وقال فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ والإتيان بالمظهر إشارة إلى تعظيم أمرهم حيث ذكرهم ظاهراً مرتين وكذلك القول في قوله تعالى وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَة ِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَة ِ وكذلك في قوله الْحَاقَّة ُ مَا الْحَاقَّة ُ ( الحاقة 1 2 ) وفي قوله الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ ( القارعة 1 2 )
المسألة السابعة ما الحكمة في اختيار لفظ الْمَشْئَمَة ِ في مقابلة الْمَيْمَنَة ِ مع أنه قال في بيان أحوالهم وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشّمَالِ نقول اليمين وضع للجانب المعروف أولاً ثم تفاءلوا به واستعملوا منه ألفاظاً في مواضع وقالوا هذا ميمون وقالوا أيمن به ووضعوا للجانب المقابل له اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه فصار في مقابلة اليمين كيفما يدور فيقال في مقابلة اليمنى اليسرى وفي مقابلة الأيمن الأيسر وفي مقابلة الميمنة الميسرة ولا تستعمل الشمال كما تستعمل اليمين فلا يقال الأشمل ولا المشملة وتستعمل المشأمة كما تستعمل الميمنة فلا يقال في مقابلة اليمين لفظ من باب الشؤم وأما الشآم فليس في مقابلة اليمين بل في مقابلة يمان إذا علم هذا فنقول بعد ما قالوا باليمين لم يتركوه واقتصروا على استعمال لفظ اليمين في الجانب المعروف من الآدمي ولفظ الشمال في مقابلته وحدث لهم لفظان آخران فيه أحدهما الشمال وذلك لأنهم نظروا إلى الكواكب من السماء وجعلوا ممرها وجه الإنسان وجعلوا السماء جانبين وجعلوا أحدهما أقوى كما رأوا في الإنسان فسموا الأقوى بالجنوب لقوة الجانب كما يقال غضوب ورءوف ثم رأوا في مقابلة الجنوب جانباً آخر شمل ذلك الجانب عمارة العالم فسموه شمالاً واللفظ الآخر المشأمة والأشأم في مقابلة الميمنة والأيمن وذلك لأنهم لما أخذوا من اليمين اليمن وغيره للتفاؤل وضعوا الشؤم في مقابلته لا في أعضائهم وجوانبهم تكرهاً لجعل جانب من جوانب نفسه شؤماً ولما وضعوا ذلك واستمر الأمر عليه نقلوا اليمين من الجانب إلى غيره فالله تعالى ذكر الكفار بلفظين مختلفين فقال وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَة ِ وَأَصْحَابُ الشّمَالِ وترك لفظ الميسرة واليسار الدال على هون الأمر فقال ههنا وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَة ِ بأفظع الاسمين ولهذا قالوا في العساكر الميمنة والميسرة اجتناباً من لفظ الشؤم
ثم قال تعالى
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَائِكَ الْمُقَرَّبُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في إعرابه ثلاثة أوجه أحدها وَالسَّابِقُونَ عطف على وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ ( الواقعة 8 ) وعنده تم الكلام وقوله وَالسَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ جملة واحدة والثاني أن قوله وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ جملة واحدة كما يقول القائل أنت أنت وكما قال الشاعر
أنا أبو النجم وشعري شعري
وفيه وجهان أحدهما أن يكون لشهرة أمر المبتدأ بما هو عليه فلا حاجة إلى الخبر عنه وهو مراد الشاعر وهو المشهور عند النحاة والثاني للإشارة إلى أن في المبتدأ مالا يحيط العلم به ولا يخبر عنه ولا يعرف منه إلا نفس المبتدأ وهو كمايقول القائل لغيره أخبرني عن حال الملك فيقول لا أعرف من الملك إلا أنه(29/127)
ملك فقوله وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أي لا يمكن الإخبار عنهم إلا بنفسهم فإن حالهم وما هم عليه فوق أن يحيط به علم البشر وههنا لطيفة وهي أنه في أصحاب الميمنة قال مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ ( الواقعة 8 ) بالاستفهام وإن كان للإعجاز لكن جعلهم مورد الاستفهام وههنا لم يقل والسابقون ما السابقون لأن الاستفهام الذي للإعجاز يورد على مدعي العلم فيقال له إن كنت تعلم فبين الكلام وأما إذا كان يعترف بالجهل فلا يقال له كذبت ولا يقال كيف كذا وما الجواب عن ذلك فكذلك في وَالسَّابِقُونَ ما جعلهم بحيث يدعون فيورد عليهم الاستفهام فيبين عجزهم بل بنى الأمر على أنهم معترفون في الابتداء بالعجز وعلى هذا فقوله تعالى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ كقول العالم لمن سأل عن مسألة معضلة وهو يعلم أنه لا يفهمها وإن كان أبانها غاية الإبانة أن الأمر فيها على ما هو عليه ولا يشتغل بالبيان وثالثها هو أن السابقون ثانياً تأكيد لقوله وَالسَّابِقُونَ والوجه الأوسط هو الأعدل الأصح وعلى الوجه الأوسط قول آخر وهو أن المراد منه أن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى
المسألة الثانية أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يقتضي الحصر فينبغي أن لا يكون غيرهم مقرباً وقد قال في حق الملائكة إنهم مقربون نقول أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ من الأزواج الثلاثة فإن قيل فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ ليسوا من المقربين نقول للتقريب درجات وَالسَّابِقُونَ في غاية القرب ولا حد هناك ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يقال المراد السابقون مقربون من الجنات حال كون أصحاب اليمين متوجهين إلى طريق الجنة لأنه بمقدار ما يحاسب المؤمن حساباً يسيراً ويؤتى كتابه بيمينه يكون السابقون قد قربوا من المنزل أو قربهم إلى الله في الجنة وأصحاب اليمين بعد متوجهون إلى ما وصل إليه المقربون ثم إن السير والارتفاع لا ينقطع فإن السير في الله لا انقطاع له والارتفاع لا نهاية له فكلما تقرب أصحاب اليمين من درجة السابق يكون قد انتقل هو إلى موضع أعلى منه فأولئك هم المقربون في جنات النعيم في أعلى عليين حال وصول أصحاب اليمين إلى الحور العين
المسألة الثالثة بعد بيان أقسام الأزواج لم يعد إلى بيان حالهم على ترتيب ذكرهم بل بين حال السابقين مع أنه أخرهم وأخر ذكر أصحاب الشمال مع أنه قدمهم أولاً في الذكر على السابقين نقول قد بينا أن عند ذكر الواقعة قدم من ينفعه ذكر الأهوال وأخر من لا يختلف حاله بالخوف والرجاء وأما عند البيان فذكر السابق لفضيلته وفضيلة حاله
ثم قال تعالى
فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى عرف النعيم باللام ههنا وقال في آخر السورة فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة ٍ نَعِيمٍ ( الواقعة 89 ) بدون اللام والمذكور في آخر السورة هو واحد من السابقين فله جنة من هذه الجنات وهذه معرفة بالإضافة إلى المعرفة وتلك غير معرفة فما الفرق بينهما فنقول الفرق لفظي ومعنوي فاللفظي هو أن السابقين معرفون باللام المستغرقة لجنسهم فجعل موضع المعرفين معرفاً وأما هناك فهو غير معرف لأن قوله إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( الواقعة 88 ) أي إن كان فرداً منهم فجعل موضعه غير معرف مع جواز أن يكون الشخص معرفاً(29/128)
وموضعه غير معرف كما قال تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( الذاريات 15 ) و إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ( القمر 54 ) وبالعكس أيضاً وأما المعنوي فنقول عند ذكر الجمع جمع الجنات في سائر المواضع فقال تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وقال تعالى أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ ( الواقعة 11 12 ) لكن السابقون نوع من المتقين وفي المتقين غير السابقون أيضاً ثم إن السابقين لهم منازل ليس فوقها منازل فهي صارت معروفة لكونها في غاية العلو أو لأنها لا أحد فوقها وأما باقي المتقين فلكل واحد مرتبة وفوقها مرتبة فهم في جنات متناسبة في المنزلة لا يجمعها صقع واحد لاختلاف منازلهم وجنات السابقين على حد واحد في على عليين يعرفها كل أحد وأما الواحد منهم فإن منزلته بين المنازل ولا يعرف كل أحد أنه لفلان السابق فلم يعرفها وأما منازلهم فيعرفها كل أحد ويعلم أنها للسابقين ولم يعرف الذي للمتقين على وجه كذا
المسألة الثانية إضافة الجنة إلى النعيم من أي الأنواع نقول إضافة المكان إلى ما يقع في المكان يقال دار الضيافة ودار الدعوة ودار العدل فكذلك جنة النعيم وفائدتها أن الجنة في الدنيا قد تكون للنعيم وقد تكون للاشتغال والتعيش بأثمان ثمارها بخلاف الجنة في الآخرة فإنها للنعيم لا غير
المسألة الثالثة في جَنَّاتِ النَّعِيمِ يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر ويحتمل أن يكون خبراً واحداً أما الأول فتقديره أولئك المقربون كائنون في جنات كقوله ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ وأما الثاني فتقديرهم المقربون في الجنات من الله كما يقال هو المختار عند الملك في هذه البلدة وعلى الوجه الأول فائدته بيان تنعيم جسمهم وكرامة نفسهم فهم مقربون عند الله فهم في غاية اللذة وفي جنات فجسمهم في غاية النعيم بخلاف المقربين عند الملوك فإنهم يلتذون بالقرب لكن لا يكون لجسمهم راحة بل يكونون في تعب من الوقوف وقضاء الأشغال ولهذا قال فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ولم يقتصر على جنات وعلى الوجه الثاني فائدته التمييز عن الملائكة فإن المقربين في يومنا هذا في السموات هم الملائكة والسابقون المقربون في الجنة فيكون المقربون في غيرها هم الملائكة وفيه لطيفة وهي أن قرب الملائكة قرب الخواص عند الملك الذين هم للأشغال فهم ليسوا في نعيم وإن كانوا في لذة عظيمة ولا يزالون مشفقين قائمين بباب الله يرد عليهم الأمر ولا يرتفع عنهم التكليف والسابقون لهم قرب عند الله كما يكون لجلساء الملوك فهم لا يكون بيدهم شغل ولا يرد عليهم أمر فيلتذون بالقرب ويتنعمون بالراحة
ثم قال تعالى
ثُلَّة ٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ
وهذا خبر بعد خبر وفيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرت أن قوله وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( الواقعة 10 ) جملة وإنما كان الخبر عين المبتدأ لظهور حالهم أو لخفاء أمرهم على غيرهم فكيف جاء خبر بعده نقول ذلك المقصود قد أفاد ذكر خبر آخر لمقصود آخر كما أن واحداً يقول زيد لا يخفى عليك حاله إشارة إلى كونه من المشهورين ثم يشرع في حال يخفى على السامع مع أنه قال لا يخفى لأن ذلك كالبيان كونه ليس من الغرباء كذلك ههنا قال وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ لبيان عظمتهم ثم ذكر حال عددهم
المسألة الثانية الاْوَّلِينَ من هم نقول المشهور أنهم من كان قبل نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما قال ثُلَّة ٌ والثلة(29/129)
الجماعة العظيمة لأن من قبل نبينا من الرسل والأنبياء من كان من كبار أصحابهم إذا جمعوا يكونون أكثر بكثير من السابقين من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا قيل إن الصحابة لما نزلت هذه الآية صعب عليهم قلتهم فنزل بعده ثُلَّة ٌ مّنَ الاْوَّلِينَ ( الواقعة 13 ) وَثُلَّة ٌ مّنَ الاْخِرِينَ ( الواقعة 40 ) هذا في غاية الضعف من وجوه أحدها أن عدد أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذا كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى من مضى في غاية القلة فماذا كان عليهم من إنعام الله على خلق كثير من الأولين وما هذا إلا خلف غير جائز وثانيها أن هذا كالنسخ في الأخبار وأنه في غاية البعد ثالثها ما ورد بعدها لا يرفع هذا لأن الثلة من الأولين هنا في السابقين من الأولين وهذا ظاهر لأن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كثروا ورحمهم الله تعالى فعفا عنهم أموراً لم تعف عن غيرهم وجعل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) الشفاعة فكثر عدد الناجين وهم أصحاب اليمين وأما من لم يأثم ولم يرتكب الكبيرة من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهم في غاية القلة وهم السابقون ورابعها هذا توهم وكان ينبغي أن يفرحوا بهذه الآية لأنه تعالى لما قال ثُلَّة ٌ مّنَ الاْوَّلِينَ دخل فيهم الأول من الرسل والأنبياء ولا نبي بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا جعل قليلاً من أمته مع الرسل والأنبياء والأولياء الذين كانوا في درجة واحدة يكون ذلك إنعاماً في حقهم ولعله إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ) الوجه الثاني المراد منه السَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ ( التوبة 100 ) فإن أكثرهم لهم الدرجة العليا لقوله تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ ( الحديد 10 ) الآية وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وعلى هذا فقوله وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَة ً ( الواقعة 7 ) يكون خطاباً مع الموجودين وقت التنزيل ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا عليه السلام وهذا ظاهر فإن الخطاب لا يتعلق إلا بالموجودين من حيث اللفظ ويدخل فيه غيرهم بالدليل الوجه الثالث ثُلَّة ٌ مّنَ الاْوَّلِينَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنفسهم وَقَلِيلٌ مّنَ الاْخِرِينَ الذين قال الله تعالى فيهم وَاتَّبَعَتْهُمْ ( الطور 21 ) فالمؤمنون وذرياتهم إن كانوا من أصحاب اليمين فهم في الكثرة سواء لأن كل صبي مات وأحد أبويه مؤمن فهو من أصحاب اليمين وأما إن كانوا من المؤمنين السابقين فقلما يدرك ولدهم درجة السابقين وكثيراً ما يكون ولد المؤمن أحسن حالاً من الأب لتقصير في أبيه ومعصية لم توجد في الابن الصغير وعلى هذا فقوله ثَمَّ الاْخَرِينَ المراد منه الآخرون التابعون من الصغار
ثم قال تعالى
عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَة ٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ
والموضونة هي المنسوجة القوية اللحمة والسدى ومنه يقال للدرع المنسوجة موضونة والوضين هو الحبل العريض الذي يكون منه الحزم لقوة سداه ولحمته والسرر التي تكون للملوك يكون لها قوائم من شيء صلب ويكون مجلسهم عليها معمولاً بحرير وغير ذلك لأنه أنعم من الخشب وما يشبهه في الصلابة وهذه السرر قوائمها من الجواهر النفيسة وأرضها من الذهب الممدود وقوله تعالى مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا للتأكيد والمعنى أنهم كائنون على سرر متكئين عليها متقابلين ففائدة التأكيد هو أن لا يظن أنهم كائنون على سرر متكئين على غيرها كما يكون حال من يكون على كرسي صغير لا يسعه للاتكاء فيوضع تحته شيء آخر للاتكاء عليه فلما قال على سرر متكئين عليها دل هذا على أن استقرارهم واتكاءهم جميعاً على سرر وقوله تعالى مُّتَقَابِلِينَ فيه وجهان أحدهما أن أحداً لا يستدبر أحداً وثانيهما أن أحداً(29/130)
من السابقين لا يرى غيره فوقه وهذا أقرب لأن قوله مُّتَقَابِلِينَ على الوجه الأول يحتاج إلى أن يقال متقابلين معناه أن كل أحد يقابل أحداً في زمان واحد ولا يفهم هذا إلا فيما لا يكون فيه اختلاف جهات وعلى هذا فيكون معنى الكلام أنهم أرواح ليس لهم أدبار وظهور فيكون المراد من السابقين هم الذين أجسامهم أرواح نورانية جميع جهاتهم وجه كالنور الذي يقابل كل شيء ولا يستدبر أحداً والوجه الأول أقرب إلى أوصاف المكانيات
ثم قال تعالى
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ
والولدان جمع الوليد وهو في الأصل فعيل بمعنى مفعول وهو المولود لكن غلب على الصغار مع قطع النظر عن كونهم مولودين والدليل أنهم قالوا للجارية الصغيرة وليدة ولو نظروا إلى الأصل لجردوها عن الهاء كالقتيل إذا ثبت هذا فنقول في الولدان وجهان أحدهما أنه على الأصل وهم صغار المؤمنين وهو ضعيف لأن صغار المؤمنين أخبر الله تعالى عنهم أنه يلحقهم بآبائهم ومن الناس المؤمنين الصالحين من لا ولد له فلا يجوز أن يخدم ولد المؤمن مؤمناً غيره فيلزم إما أن يكون لهم اختصاص ببعض الصالحين وأن لا يكون لمن لا يكون له ولد من يطوف عليه من الولدان وإما أن يكون ولد الآخر يخدم غير أبيه وفيه منقصة بالأب وعلى هذا الوجه قيل هم صغار الكفار وهو أقرب من الأول إذ ليس فيه ما ذكرنا من المفسدة والثاني أنه على الاستعمال الذي لم يلحظ فيه الأصل وهو إرادة الصغار مع قطع النظر عن كونهم مولودين وهو حينئذ كقوله تعالى وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ ( الطور 24 ) وفي قوله تعالى مُّخَلَّدُونَ وجهان أحدهما أنه من الخلود والدوام وعلى هذا الوجه يظهر وجهان آخران أحدهما أنهم مخلدون ولا موت لهم ولا فناء وثانيهما لا يتغيرون عن حالهم ويبقون صغاراً دائماً لا يكبرون ولا يلتحون والوجه الثاني أنه من الخلدة وهو القرط بمعنى في آذانهم حلق والأول أظهر وأليق
ثم قال تعالى
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ
أواني الخمر تكون في المجالس وفي الكوب وجهان أحدهما أنه من جنس الأقداح وهو قدح كبير وثانيهما من جنس الكيزان ولا عروة له ولا خرطوم والإبريق له عروة وخرطوم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما الفرق بين الأكواب والأباريق والكأس حيث ذكر الأكواب والأباريق بلفظ الجميع والكأس بلفظ الواحد ولم يقل وكئوس نقول هو على عادة العرب في الشرب يكون عندهم أوان كثيرة فيها الخمر معدة موضوعة عندهم وأما الكأس فهو القدح الذي يشرب به الخمر إذا كان فيه الخمر ولا يشرب واحد في زمان واحد إلا من كأس واحد وأما أواني الخمر المملوءة منها في زمان واحد فتوجد كثيراً فإن قيل الطواف بالكأس على عادة أهل الدنيا وأما الطواف بالأكواب والأباريق فغير معتاد فما الفائدة فيه نقول عدم الطواف بها في الدنيا لدفع المشقة عن الطائف لثقلها وإلا فهي محتاج إليها بدليل أنه عند الفراغ يرجع إلى الموضع الذي هو فيه وأما في الآخرة فالآنية تدور بنفسها والوليد معها إكراماً لا للحمل وفيه وجه آخر من حيث اللغة وهو أن الكأس إناء فيه شراب فيدخل في مفهومه المشروب والإبريق آنية لا يشترط في(29/131)
إطلاق اسم الإبريق عليها أن يكون فيها شراب وإذا ثبت هذا فنقول الإناء المملوء الاعتبار لما فيه لا للإناء وإذا كان كذلك فاعتبار الكأس بما فيه لكن فيه مشروب من جنس واحد وهو المعتبر والجنس لا يجمع إلا عند تنوعه فلا يقال للأرغفة من جنس واحد أخباز وإنما يقال أخباز عندما يكون بعضها أسود وبعضها أبيض وكذلك اللحوم يقال عند تنوع الحيوانات التي منها اللحوم ولا يقال للقطعتين من اللحم لحمان وأما الأشياء المصنفة فتجمع فالأقداح وإن كانت كبيرة لكنها لما ملئت خمراً من جنس واحد لم يجز أن يقال لها خمور فلم يقل كئوس وإلا لكان ذلك ترجيحاً للظروف لأن الكأس من حيث إنها شراب من جنس واحد لا بجمع واحد فيترك الجمع ترجيحاً لجانب المظروف بخلاف الإبريق فإن المعتبر فيه الإناء فحسب وعلى هذا يتبين بلاغة القرآن حيث لم يرد فيه لفظ الكئوس إذ كان ما فيها نوع واحد من الخمر وهذا بحث عزيز في اللغة
المسألة الثانية في تأخير الكأس ترتيب حسن فكذلك في تقديم الأكواب إذا كان الكوب منه يصب الشراب في الإبريق ومن الإبريق الكأس
المسألة الثالثة مّن مَّعِينٍ بيان ما في الكأس أو بيان ما في الأكواب والأباريق نقول يحتمل أن يكون الكل من معين والأول أظهر بالوضع والثاني ليس كذلك فلما قال وَكَأْسٍ فكأنه قال ومشروب وكأن السامع محتاجاً إلى معرفة المشروب وأما الإبريق فدلالته على المشروب ليس بالوضع وأما المعنى فلأن كون الكل ملآناً هو الحق ولأن الطواف بالفارغ لا يليق فكان الظاهر بيان ما في الكل ومما يؤيد الأول هو أنه تعالى عند ذكر الأواني ذكر جنسها لا نوع ما فيها فقال تعالى وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَة ٍ مّن فِضَّة ٍ وَأَكْوابٍ ( الإنسان 15 ) الآية وعند ذكر الكأس بين ما فيها فقال وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ فيحتمل أن الطواف بالأباريق وإن كانت فارغة للزينة والتجمل وفي الآخرة تكون للإكرام والتنعم لا غير
المسألة الرابعة ما معنى المعين قلنا ذكرنا في سورة الصافات أنه فعيل أو مفعول ومضى فيه خلاف فإن قلنا فعيل فهو من معن الماء إذا جرى وإن قلنا مفعول فهو من عانه إذا شخصه بعينه وميزه والأول أصح وأظهر لأن المعيون يوهم بأنه معيوب لأن قول القائل عانني فلان معناه ضرني إذا أصابتني عينه ولأن الوصف بالمفعول لا فائدة فيه وأما الجريان في المشروب فهو إن كان في الماء فهو صفة مدح وإن كان في غيره فهو أمر عجيب لا يوجد في الدنيا فيكون كقوله تعالى وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ ( محمد 15 )
ثم قال تعالى
لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى لاَّ يُصَدَّعُونَ فيه وجهان أحدهما لا يصيبهم منها صداع يقال صدعني فلان أي أورثني الصداع والثاني لا ينزفون عنها ولا ينفدونها من الصدع والظاهر أن أصل الصداع منه وذلك لأن الألم الذي في الرأس يكون في أكثر الأمر بخلط وريح في أغشية الدماغ فيؤلمه فيكون الذي به صداع كأنه يتطرف في غشاء دماغه(29/132)
المسألة الثانية إن كان المراد نفي الصداع فكيف يحسن عنها مع أن المستعمل في السبب كلمة من فيقال مرض من كذا وفي المفارقة يقال عن فيقال برىء عن المرض نقول الجواب هو أن السبب الذي يثبت أمراً في شيء كأنه ينفصل عنه شيء ويثبت في مكانه فعله فهناك أمران ونظران إذا نظرت إلى المحل ورأيت فيه شيئاً تقول هذا من ماذا أي ابتداء وجوده من أي شيء فيقع نظرك على السبب فتقول هذا من هذا أي ابتداء وجوده منه وإذا نظرت إلى جانب المسبب ترى الأمر الذي صدر عنه كأنه فارقه والتصق بالمحل ولهذا لا يمكن أن يوجد ذلك مرة أخرى والسبب كأنه كان فيه وانتقل عنه في أكثر الأمر فههنا يكون الأمران من الأجسام والأمور التي لها قرب وبعد إذا علم هذا فنقول المراد ههنا بيان خمر الآخرة في نفسها وبيان ما عليها فالنظر وقع عليها لا على الشاربين ولو كان المقصود أنهم لا يصدعون عنها لوصف منهم لما كان مدحاً لها وأما إذا قال هي لا تصدع لأمر فيها يكون مدحاً لها فلما وقع النظر عليها قال عنها وأما إذا كنت تصف رجلاً بكثرة الشرب وقوته عليه فإنك تقول في حقه هو لا يصدع من كذا من الخمر فإذا وصفت الخمر تقول هذه لا يصدع عنها أحد
المسألة الثالثة قوله تعالى وَلاَ يُنزِفُونَ تقدم تفسيره في الصافات والذي يحسن ذكره هنا أن نقول إن كان معنى لا يُنزَفُونَ لا يسكرون فنقول إما أن نقول معنى لاَّ يُصَدَّعُونَ أنهم لا يصيبهم الصداع وإما أنهم لا يفقدون فإن قلنا بالقول الأول فالترتيب في غاية الحسن لأنه على طريقة الارتقاء فإن قوله تعالى لاَّ يُصَدَّعُونَ معناه لا يصيبهم الصداع لكن هذا لا ينفي السكر فقال بعده ولا يورث السكر كقول القائل ليس فيه مفسدة كثيرة ثم يقول ولا قليلة تتميماً للبيان ولو عكست الترتيب لا يكون حسناً وإن قلنا لا يُنزَفُونَ لا يفقدون فالترتيب أيضاً كذلك لأن قولنا لاَّ يُصَدَّعُونَ أي لا يفقدونه ومع كثرته ودوام شربه لا يسكرون فإن عدم السكر لنفاد الشراب ليس بعجب لكن عدم سكرهم مع أنهم مستديمون للشراب عجيب وإن قلنا لا يُنزَفُونَ بمعنى لا ينفد شرابهم كما بينا هناك فنقول أيضاً إن كان لا يصدعون بمعنى لا يصيبهم صداع فالترتيب في غاية الحسن وذلك لأن قوله لاَّ يُصَدَّعُونَ لا يكون بيان أمر عجيب إن كان شرابهم قليلاً فقال لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا مع أنهم لا يفقدون الشراب ولا ينزفون الشراب وإن كان بمعنى لا ينزفون عنها فالترتيب حسن لأن معناه لا ينزفون عنها بمعنى لا يخرجون عما هم فيه ولا يؤخذ منهم ما أعطوا من الشراب ثم إذا أفنوها بالشراب يعطون
ثم قال تعالى
وَفَاكِهَة ٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما وجه الجر والفاكهة لا يطوف بها الولدان والعطف يقتضي ذلك نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حالتين أحدهما حالة الشرب والأخرى حال عدمه فالفاكهة من رءوس الأشجار تؤخذ كما قال تعالى قُطُوفُهَا دَانِيَة ٌ ( الحاقة 23 ) وقال وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ( الرحمن 54 ) إلى غير ذلك وأما حالة الشراب فجاز أن يطوف بها الولدان فيناولوهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده عنده وإن(29/133)
كان كل واحد منهما مشاركاً للآخر في القرب منها والوجه الثاني أن يكون عطفاً في المعنى على جنات النعيم أي هم المقربون في جنات وفاكهة ولحم وحور أي في هذه النعم يتقلبون والمشهور أنه عطف في اللفظ للمجاورة لا في المعنى وكيف لا يجوز هذا وقد جاز تقلد سيفاً ورمحاً
المسألة الثانية هل في تخصيص التخيير بالفاكهة والاشتهاء باللحم بلاغة قلت وكيف لا وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة وإن كان لا يحيط بها ذهني الكليل ولا يصل إليها على القليل والذي يظهر لي فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم وإذا حضرا عند الشبعان تميل إلى الفاكهة والجائع مشته والشبعان غير مشته وإنما هو مختار إن أراد أكل وإن لم يرد لا يأكل ولا يقال في الجائع إن أراد أكل لأن أن لا تدخل إلا على المشكوك إذا علم هذا ثبت أن في الدنيا اللحم عند المشتهي مختار والفاكهة عند غير المشتهى مختارة وحكاية الجنة على ما يفهم في الدنيا فحص اللحم بالاشتهاء والفاكهة بالاختيار والتحقيق فيه من حيث اللفظ أن الاختيار هو أخذ الخير من أمرين والأمران اللذان يقع فيهما الاختيار في الظاهر لا يكون للمختار أو لا ميل إلى أحدهما ثم يتفكر ويتروى ويأخذ ما يغلبه نظره على الآخر فالتفكه هو ما يكون عند عدم الحاجة وأما إن اشتهى واحد فاكهة بعينها فاستحضرها وأكلها فهو ليس بمتفكه وإنما هو دافع حاجة وأما فواكه الجنة تكون أولاً عند أصحاب الجنة من غير سبق ميل منهم إليها ثم يتفكهون بها على حسب اختيارهم وأما اللحم فتميل أنفسهم إليه أدنى ميل فيحضر عندهم وميل النفس إلى المأكول شهوة ويدل على هذا قوله تعالى قُطُوفُهَا دَانِيَة ٌ ( الحاقة 23 ) وقوله وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ( الرحامن 54 ) وقوله تعالى وَفَاكِهَة ٍ كَثِيرَة ٍ لاَّ مَقْطُوعَة ٍ وَلاَ مَمْنُوعَة ٍ ( الواقعة 32 33 ) فهو دليل على أنها دائمة الحضور وأما اللحم فالمروي أن الطائر يطير فتميل نفس المؤمن إلى لحمه فينزل مشوياً ومقلياً على حسب ما يشتهيه فالحاصل أن الفاكهة تحضر عندهم فيتخير المؤمن بعد الحضور واللحم يطلبه المؤمن وتميل نفسه إليه أدنى ميل وذلك لأن الفاكهة تلذ الأعين بحضورها واللحم لا تلذ الأعين بحضوره ثم إن في اللفظ لطيفة وهي أنه تعالى قال مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ولم يقل مما يختارون مع قرب أحدهما إلى الآخر في المعنى وهو أن التخير من باب التكلف فكأنهم يأخذون ما يكون في نهاية الكمال وهذا لا يوجد إلا ممن لا يكون له حاجة ولا اضطرار
المسألة الثالثة ما الحكمة في تقديم الفاكهة على اللحم نقول الجواب عنه من وجوه أحدها العادة في الدنيا التقديم للفواكه في الأكل والجنة وضعت بما علم في الدنيا من الأوصاف وعلى ما علم فيها ولا سيما عادة أهل الشرب وكأن المقصود بيان حال شرب أهل الجنة وثانيها الحكمة في الدنيا تقتضي أكل الفاكهة أولاً لأنها ألطف وأسرع انحداراً وأقل حاجة إلى المكث الطويل في المعدة للهضم ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها وثالثها يخرج مما ذكرنا جواباً خلا عن لفظ التخيير والاشتهاء هو أنه تعالى لما بين أن الفاكهة دائمة الحضور والوجود واللحم يشتهي ويحضر عند الاشتهاء دل هذا على عدم الجوع لأن الجائع حاجته إلى اللحم أكثر من اختياره اللحم فقال وَفَاكِهَة ٍ لأن الحال في الجنة يشبه حال الشبعان في الدنيا فيميل إلى الفاكهة أكثر فقدمها وهذا الوجه أصح لأن من الفواكه مالا يؤكل إلا بعد الطعام فلا يصح الأول جواباً في الكل(29/134)
ثم قال تعالى
وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ
وفيها قراءات الأولى الرفع وهو المشهور ويكون عطفاً على ولدان فإن قيل قال قبله حُورٌ مَّقْصُوراتٌ فِى الْخِيَامِ ( الرحمن 72 ) إشارة إلى كونها مخدرة ومستورة فكيف يصح قولك إنه عطف على ولدان نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما وهو المشهور أن نقول هو عطف عليهم في اللفظ لا في المعنى أو في المعنى على التقدير والمفهوم لأن قوله تعالى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ ( الواقعة 17 ) معناه لهم ولدان كما قال تعالى وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ ( الطور 24 ) فيكون وَحُورٌ عِينٌ بمعنى ولهم حور عين وثانيهما وهو أن يقال ليست الحور منحصرات في جنس بل لأهل الجنة حُورٌ مَّقْصُوراتٌ في حظائر معظمات ولهن جواري وخوادم وحور تطوف مع الولدان السقاة فيكون كأنه قال يطوف عليهم ولدان ونساء الثانية الجر عطفاً على أكواب وأباريق فإن قيل كيف يطاف بهن عليهم نقول الجواب سبق عند قوله وَلَحْمِ طَيْرٍ ( الواقعة 21 ) أو عطفاً على جَنَّاتُ أي أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( الواقعة 12 ) وحور وقرىء وَقَرّى عَيْناً بالنصب ولعل الحاصل على هذه القراءة على غير العطف بمعنى العطف لكن هذا القارىء لا بد له من تقدير ناصب فيقول يؤتون حوراً فيقال قد رافعاً فقال ولهم حور عين فلا يلزم الخروج عن موافقة العاطف وقوله تعالى كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ فيه مباحث
الأول الكاف للتشبيه والمثل حقيقة فيه فلو قال أمثال اللؤلؤ المكنون لم يكن إلى الكاف حاجة فما وجه الجمع بين كلمتي التشبيه نقول الجواب المشهور أن كلمتي التشبيه يفيدان التأكيد والزيادة في التشبيه فإن قيل ليس كذلك بل لا يفيدان ما يفيد أحدهما لأنك إن قلت مثلاً هو كاللؤلؤة للمشبه دون المشبه به في الأمر الذي لأجله التشبيه نقول التحقيق فيه هو أن الشيء إذا كان له مثل فهو مثله فإذا قلت هو مثل القمر لا يكون في المبالغة مثل قولك هو قمر وكذلك قولنا هو كالأسد وهو أسد فإذا قلت كمثل اللؤلؤ كأنك قلت مثل اللؤلؤ وقولك هو اللؤلؤ أبلغ من قولك هو كاللؤلؤ وهذا البحث يفيدنا ههنا ولا يفيدنا في قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء لأن النفي في مقابلة الإثبات ولا يفهم معنى النفي من الكلام مالم يفهم معنى الإثبات الذي يقابله فنقول قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء في مقابلة قول من يقول كمثله شيء فنفى ما أثبته لكن معنى قوله كَمِثْلِهِ شَى ْء إذا لم نقل بزيادة الكاف هو أن مثل مثله شيء وهذا كلام يدل على أن له مثلاً ثم إن لمثله مثلاً فإذا قلنا ليس كذلك كان رداً عليه والرد عليه صحيح بقي أن يقال إن الراد على من يثبت أموراً لا يكون نافياً لكل ما أثبته فإذا قال قائل زيد عالم جيد ثم قيل رداً عليه ليس زيد عالماً جيداً لا يلزم من هذا أن يكون نافياً لكونه عالماً فمن يقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء بمعنى ليس مثل مثله شيء لا يلزم أن يكون نافياً لمثله بل يحتمل أن يكون نافياً لمثل المثل فلا يكون الراد أيضاً موحداً فيخرج الكلام عن إفادة التوحيد فنقول يكون مفيداً للتوحيد لأنا إذا قلنا ليس مثل مثله شيء لزم أن لا يكون له مثل لأنه لو كان له مثل لكان هو مثل مثله وهو شيء بدليل قوله تعالى قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 ) فإن حقيقة الشيء هو الموجود فيكون مثل مثله شيء وهو منفي بقولنا ليس مثل مثله(29/135)
شيء فعلم أن الكلام لا يخرج عن إفادة التوحيد فعلم أن الحمل على الحقيقة يفيد في الكلام مبالغة في قوله تعالى كَأَمْثَالِ وأما عدم الحمل عليها في قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء فهو أوجز فتجعل الكاف زائدة لئلا يلزم التعطيل وهو نفي الإله نقول فيه فائدة وهو أن يكون ذلك نفياً مع الإشارة إلى وجه الدليل على النفي وذلك لأنه تعالى واجب الوجود وقد وافقنا من قال بالشريك ولا يخالفنا إلا المعطل وذلك إثباته ظاهراً وإذا كان هو واجب الوجود فلو كان له مثل لخرج عن كونه واجب الوجود لأنه مع مثله تعادلاً في الحقيقة وإلا لما كان ذلك مثله وقد تعدد فلا بد من انضمام مميز إليه به يتميز عن مثله فلو كان مركباً فلا يكون واجباً لأن كل مركب ممكن فلو كان له مثل لما كان هو هو فيلزم من إثبات المثل له نفيه فقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء إذا حملناه أنه ليس مثل مثله شيء ويكون في مقابلته قول الكافر مثل مثله شيء فيكون مثبتاً لكونه مثل مثله ويكون مثله يخرج عن حقيقة نفسه ومنه لا يبقى واجب الوجود فذكر المثلين لفظاً يفيد التوحيد مع الإشارة إلى وجه الدليل على بطلان قول المشرك ولو قلنا ليس مثله شيء يكون نفياً من غير إشارة إلى دليل والتحقيق فيه أنا نقول في نفي المثل رداً على المشرك لا مثل لله ثم نستدل عليه ونقول لو كان له مثل لكان هو مثلاً لذلك المثل فيكون ممكناً محتاجاً فلا يكون إلهاً ولو كان له مثل لما كان الله إلهاً واجب الوجود لأن عند فرض مثل له يشاركه بشيء وينافيه بشيء فيلزم تركه فلو كان له مثل لخرج عن حقيقة كونه إلهاً فإثبات الشريك يفضي إلى نفي الإله فقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء توحيد بالدليل وليس مثله شيء توحيد من غير دليل وشيء من هذا رأيته في كلام الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله بعدما فرغت من كتابة هذا مما وافق خاطري خاطره على أني معترف بأني أصبت منه فوائدلا لا أحصيها وأما قوله تعالى اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ إشارة إلى غاية صفائهن أي اللؤلؤ الذي لم يغير لونه الشمس والهواء
ثم قال تعالى
جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
وفي نصبه وجهان أحدهما أنه مفعول له وهو ظاهر تقديره فعل بهم هذا ليقع جزاء وليجزون بأعمالهم وعلى هذا فيه لطيفة وهي أن نقول المعنى أن هذا كله جزاء عملكم وأما الزيادة فلا يدركها أحد منكم وثانيهما أنه مصدر لأن الدليل على أن كل ما يفعله الله فهو جزاء فكأنه قال تجزون جزاء وقوله بِمَا كَانُوا قد ذكرنا فائدته في سورة الطور وهي أنه تعالى قال في حق المؤمنين فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الواقعة 24 ) وفي حق الكافرين إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( التحريم 7 ) إشارة إلى أن العذاب عين جزاء ما فعلوا فلا زيادة عليهم والثواب جَزَاء مّمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( السجدة 17 ) فلا يعطيهم الله عين عملهم بل يعطيهم بسبب عملهم ما يعطيهم والكافر يعطيه عين ما فعل فيكون فيه معنى قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يَجْزِى إِلاَّ مِثْلَهَا ( الأنعام 160 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى أصولية ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله في مواضع كثيرة ونحن نذكر بعضها(29/136)
فالأولى قالت المعتزلة هذا يدل على أن يقال الثواب على الله واجب لأن الجزاء لا يجوز المطالبة به وقد أجاب عنه الإمام فخر الدين رحمه الله بأجوبة كثيرة وأظن به أنه لم يذكر ما أقوله فيه وهو ما ذكروه ولو صح لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة وذلك لأن العقل إذا حكم بأن ترك الجزاء قبيح وعلم بالعقل أن القبيح من الله لا يوجد علم أن الله يعطي هذه الأشياء لأنها أجزية وإيصال الجزاء واجب وأما إذا قلنا بمذهبنا تكون الآيات مفيدة مبشرة لأن البشارة لا تكون إلا بالخير عن أمر غير معلوم لا يقال الجزاء كان واجباً على الله وأما الخبر بهذه الأشياء فلا يذكرها مبشراً لأنا نقول إذا وجب نفس الجزاء فما أعطانا الله تعالى من النعم في الدنيا جزاء فثواب الآخرة لا يكون إلا تفضلاً منه غاية ما في الباب أنه تعالى كمل النعمة بقوله هذا جزاؤكم أي جعلته لكم جزاء ولم يكن متعيناً ولا واجباً كما أن الكريم إذا أعطى من جاء بشيء يسير شيئاً كثيراً فيظن أنه يودعه إيداعاً أو يأمره بحمله إلى موضع فيقول له هذا لك فيفرح ثم إنه يقول هذا إنعام عظيم يوجب على خدمة كثيرة فيقول له هذا جزاء ما أتيت به ولا أطلب منك على هذا خدمة فإن أتيت بخدمة فلها ثواب جديد فيكون هذا غاية الفضل وعند هذا نقول هذا كله إذا كان الآتي غير العبد وأما إذا فعل العبد ما أوجب عليه سيده لا يستحق عليه أجراً ولا سيما إذا أتى بما أمر به على نوع اختلال فما ظنك بحالنا مع الله عز وجل مع أن السيد لا يملك من عبده إلا البنية والله تعالى يملك منا أنفسنا وأجسامنا ثم إنك إذا تفكرت في مذهب أهل السنة تجدهم قد حققوا معنى العبودية غاية التحقيق واعترفوا أنهم عبيد لا يملكون شيئاً ولا يجب للعبد على السيد دين والمعتزلة لم يحققوا العبودية وجعلوا بينهم وبين الله معاملة توجب مطالبة ونرجوا أن يحقق الله تعالى معنا المالكية غاية التحقيق ويدفع حاجاتنا الأصلية ويطهر أعمالنا كما أن السيد يدفع حاجة عبده بإطعامه وكسوته ويطهر صومه بزكاة فطره وإذا جنى جناية لم يمكن المجنى عليه منه بل يختار فداءه ويخلص رقبته من الجناية كذلك يدفع الله حاجاتنا في الآخرة وأهم الحاجات أن يرحمنا ويعفو عنا ويتغمدنا بالمغفرة والرضوان حيث منع غيره عن تملك رقابنا باختيار الفداء عنا وأرجو أن لا يفعل مع إخواننا المعتزلة ما يفعله المتعاملان في المحاسبة بالنقير والقطمير والمطالبة بما يفضل لأحدهما من القليل والكثير
المسألة الثانية قالوا لو كان في الآخرة رؤية لكانت جزاء وقد حصر الله الجزاء فيما ذكر والجواب عنه أن نقول لم قلتم إنها لو كانت تكون جزاء بل تكون فضلاً منه فوق الجزاء وهب أنها تكون جزاء ولكن لم قلتم إن ذكر الجزاء حصر وإنه ليس كذلك لأن من قال لغيره أعطيتك كذا جزاء على عمل لا ينافي قوله وأعطيتك شيئاً آخر فوقه أيضاً جزاء عليه وهب أنه حصر لكن لم قلتم إن القربة لا تدل على الرؤية فإن قيل قال في حق الملائكة وَلاَ الْمَلَئِكَة ُ الْمُقَرَّبُونَ ( النساء 172 ) ولم يلزم من قربهم الرؤية نقول أجبنا أن قربهم مثل قرب من يكون عند الملك لقضاء الأشغال فيكون عليه التكليف والوقوف بين يديه بالباب تخرج أوامره عليه كما قال تعالى وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( التحريم 6 ) وقرب المؤمن قرب المنعم من الملك وهو الذي لا يكون إلا للمكالمة والمجالسة في الدنيا لكن المقرب المكلف ليس كلما يروح إلى باب الملك يدخل عليه وأما المنعم لا يذهب إليه إلا ويدخل عليه فظهر الفرق
والذي يدل على أن قوله أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 11 ) فيه إشارة إلى الرؤية هو أن الله تعالى في سورة المطففين ذكر الأبرار والفجار ثم إنه تعالى قال في حق الفجار إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ(29/137)
( المطففين 15 ) وقال في الأبرار يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ( المطففين 28 ) ولم يذكر في مقابلة المحجوبون ما يدل على مخالفة حال الأبرار حال الفجار في الحجاب والقرب لأن قوله لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) وإن كان دليلاً على القرب وعلو المنزلة لكنه في مقابلة قوله لَفِى سِجّينٍ ( المطففين 7 ) فقوله تعالى في حقهم يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مع قوله تعالى وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ( الإنسان 21 ) يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون لجلساء الملك عند الملك وقوله في حق الملائكة في تلك السورة يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ( المطففين 21 ) يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون للكتاب والحساب عند الملك لما أنه في الدنيا يحسد أحدهما الآخر فإن الكاتب إن كان قربه من الملك بسبب الخدمة لا يختار قرب الكتاب والحساب بل قرب النديم ثم إنه بين ذلك النوع من القرب وبين القرب الذي بسبب الكتابة ما يحمله على أن يختار غيره وفي سورة المطففين قوله لَّمَحْجُوبُونَ يدل على أن المقربين غير محجوبين عن النظر إلى الله تعالى وينبغي أن لا ينظر إلى الله قولنا جلساء الملك في ظاهر النظر الذي يقتضي في نظر القوم الجهة وإلى القرب الذي يفهم العامي منه المكان إلا بنظر العلماء الأخبار الحكماء الأخبار
المسألة الثالثة قالوا قوله تعالى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يدل على أن العمل عملهم وحاصل بفعلهم نقول لا نزاع في أن العلم في الحقيقة اللغوية وضع للفعل والمجنون للذي لا عقل له والعاقل للذي بلغ الكمال فيه وذلك ليس إلا بوضع اللغة لما يدرك بالحس وكل أحد يرى الحركة من الجسمين فيقول تحرك وسكن على سبيل الحقيقة كما يقول تدور الرحا ويصعد الحجر وإنما الكلام في القدرة التي بها الفعل في المحل المرئي وذلك خارج عن وضع اللغة
ثم قال تعالى
لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً
ثم قال تعالى لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الحكمة في تأخير ذكره عن الجزاء مع أنه من النعم العظيمة نقول فيه لطائف الأولى أن هذا من أتم النعم فجعلها من باب الزيادة التي منها الرؤية عند البعض ولا مقابل لها من الأعمال وإنما قلنا إنها من أتم النعم لأنها نعمة سماع كلام الله تعالى على ما سنبين أن المراد من قوله سَلاَماً هو ما قال في سورة يس سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) فلم يذكرها فيما جعله جزاء وهذا على قولنا أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 11 ) ليس فيه دلالة على الرؤية الثانية أنه تعالى بدأ بأتم النعم وهي نعمة الرؤيا وهي الرؤية بالنظر كما مر وختم بمثلها وهي نعمة المخاطبة الثالثة هي أنه تعالى لما ذكر النعم الفعلية وقابلها بأعمالهم حيث قال جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الواقعة 24 ) ذكر النعم القولية في مقابلة أذكارهم الحسنة ولم يذكروا اللذات العقلية التي في مقابلة أعمال قلوبهم من إخلاصهم واعتقادهم لأن العمل القلبي لم ير ولم يسمع فما يعطيهم الله تعالى من النعمة تكون نعمة لم ترها عين ولا سمعتها أذن وإليه الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) فيها ( مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) وقوله عليه السلام ( ولا خطر ) إشارة إلى الزيادة والذي يدل على النعمة القولية في مقابلة قولهم الطيب قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة ُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ إلى قوله نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ(29/138)
( فصلت 30 32 )
المسألة الثانية قوله تعالى لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً نفي للمكروه لما أن اللغو كلام غير معتبر لأنه عند المعتبرين من الرجال مكروه ونفي المكروه لا يعد من النعم العظيمة التي مر ذكرها كيف وقد ذكرت أن تأخير هذه النعمة لكونها أتم ولو قال إن فلاناً في بلدة كذا محترم مكرم لا يضرب ولا يشتم فهو غير مكرم وهو مذموم والواغل مذموم وهو الذي يدخل على قوم يشربون ويأكلون فيأكل ويشرب معهم من غير دعاء ولا إذن فكأنه بالنسبة إليهم في عدم الاعتبار كلام غير معتبر وهو اللغو وكذلك ما يتصرف منه مثل الولوغ لا يقال إلا إذا كان الوالغ كلباً أو ما يشبهه من السباع وأما التأثيم فهو النسبة إلى الإثم ومعناه لا يذكر إلا باطلاً ولا ينسبه أحد إلا إلى الباطل وأما التقديم فلأن اللغو أعم من التأثيم أي يجعله آثماً كما تقول إنه فاسق أو سارق ونحو ذلك وبالجملة فالمتكلم ينقسم إلى أن يلغو وإلى أن لا يلغو والذي لا يلغو يقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيأخذ الناس بأقوالهم وهو لا يؤخذ عليه شيء فقال تعالى لا يلغو أحد ولا يصدر منه لغو ولا ما يشبه اللغو فيقول له الصادق لا يلغو ولا يأثم ولا شك في أن الباطل أقبح ما يشبهه فقال لا يأثم أحد
المسألة الثالثة قال تعالى في سورة النبأ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً ( النبأ 35 ) فهل بينهما فرق قلنا نعم الكذاب كثير التكذيب ومعناه هناك أنهم لا يسمعون كذباً ولا أحداً يقول لآخر كذبت وفائدته أنهم لا يعرفون كذباً من معين من الناس ولا من واحد منهم غير معين لتفاوت حالهم وحال الدنيا فإنا نعلم أن بعض الناس بأعيانهم كذابون فإن لم نعرف ذلك نقطع بأن في الناس كذاباً لأن أحدهم يقول لصاحبه كذبت فإن صدق فصاحبه كذاب وإن لم يصدق فهو كاذب فيعلم أن في الدنيا كذاباً بعينه أو بغير عينه ولا كذلك في الآخرة فلا كذب فيها وقال ههنا وَلاَ تَأْثِيماً وهو أبلغ من التكذيب فإن من يقول في حق من لا يعرفه إنه زان أو شارب الخمر مثلاً فإنه يأثم وقد يكون صادقاً فالذي ليس عن علم إثم فلا يقول أحد لأحد قلت مالا علم لك به فالكلام ههنا أبلغ لأنه قصر السورة على بيان أحوال الأقسام لأن المذكورين هنا هم السابقون وفي سورة النبأ هم المتقون وقد بينا أن السابق فوق المتقي
المسألة الرابعة إِلاَّ قِيلاً استثناء متصل منقطع فنقول فيه وجهان أحدهما وهو الأظهر أنه منقطع لأن السلام ليس من جنس اللغو تقديره لكن يسمعون قيلا سلاماً سلاماً ثانيهما أنه متصل ووجهه أن نقول المجاز قد يكون في المعنى ومن جملته أنك تقول مالي ذنب إلا أحبك فلهذا تؤذيني فتستثني محبته من الذنب ولا تريد المنقطع لأنك لا تريد بهذا القول بيان أنك تحبه إنما تريد في تبرئتك عن الذنوب ووجهه هو أن بينهما غاية الخلاف وبينهما أمور متوسطة مثاله الحار والبارد وبينهما الفاتر الذي هو أقرب إلى الحار من البارد وأقرب إلى البارد من الحار والمتوسط يطلق عليه اسم البارد عند النسبة إلى الحار فيقال هذا بارد ويخبر عنه بالنسبة إلى البارد فيقال إنه حار إذا ثبت هذا فنقول قول القائل مالي ذنب إلا أني أحبك معناه لا تجد ما يقرب من الذنب إلا المحبة فإن عندي أموراً فوقها إذا نسبتها إلى الذنب تجد بينها غاية الخلاف فيكون ذلك كقوله درجات الحب عندي طاعتك وفوقها إن أفضل جانب أقل أمر من أمورك على جانب الحفظ لروحي إشارة إلى المبالغة كما يقول القائل ليس هذا بشيء مستحقراً بالنسبة إلى ما(29/139)
فوقه فقوله لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً أي يسمعون فيها كلاماً فائقاً عظيم الفائدة كامل اللذة أدناها وأقربها إلى اللغو قول بعضهم لبعض سلام عليك فلا يسمعون ما يقرب من اللغو إلا سلاماً فما ظنك بالذين يبعد منه كما يبعد الماء البارد الصادق والماء الذي كسرت الشمس برودته وطلب منه ماء حار ليس عندي ماء حار إلا هذا أي ليس عندي ما يبعد من البارد الصادق البرودة ويقرب من الحار إلا هذا وفيه المبالغة الفائقة والبلاغة الرائقة وحينئذ يكون اللغو مجازاً والاستثناء متصلاً فإن قيل إذا لم يكن بد من مجاز وحمل اللغو على ما يقرب منه بالنسبة إليه فليحمل إلا على لكن لأنهما مشتركان في إثبات خلاف ما تقدم نقول المجاز في الأسماء أولى من المجاز في الحروف لأنها تقبل التغير في الدلالة وتتغير في الأحوال ولا كذلك الحروف لأن الحروف لا تصير مجازاً إلا بالاقتران باسم والإسم يصير مجازاً من غير الاقتران بحرف فإنك تقول رأيت أسداً يرمي ويكون مجازاً ولا اقتران له بحرف وكذلك إذا قلت لرجل هذا أسد وتريد بأسد كامل الشجاعة ولأن عرض المتكلم في قوله مالي ذنب إلا أني أحبك لا يحصل بما ذكرت من المجاز ولأن العدول عن الأصل لا يكون له فائدة من المبالغة والبلاغة
المسألة الخامسة في قوله تعالى قِيلاً قولان أحدهما إنه مصدر كالقول فيكون قيلا مصدراً كما أن القول مصدر لكن لا يظهر له في باب فعل يفعل إلا حرف ثانيهما إنه اسم والقول مصدر فهو كالسدل والستر بكسر السين اسم وبفتحها مصدر وهو الأظهر وعلى هذا نقول الظاهر أنه اسم مأخوذ من فعل هو قال وقيل لما لم يذكر فاعله وما قيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن القيل والقال يكون معناه نهى عن المشاجرة وحكاية أمور جرت بين أقوام لا فائدة في ذكرها وليس فيها إلا مجرد الحكاية من غير وعظ ولا حكمة لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم ) وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله والقال اسم للقول مأخوذ من قيل لما لم يذكر فاعله تقول قال فلان كذا ثم قيل له كذا فقال كذا فيكون حاصل كلامه قيل وقال وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله والقال مأخوذ من قيل هو قال ولقائل أن يقول هذا باطل لقوله تعالى وَقِيلِهِ يارَبّ رَبّ إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ ( الزخرف 88 ) فإن الضمير للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أي يعلم الله قيل محمد وَقِيلِهِ يارَبّ إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ كما قال نوح عليه السلام إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ ( نوح 27 ) وعلى هذا فقوله تعالى فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ( الزخرف 89 ) إرشاد له لئلا يدعو على قومه عند يأسه منهم كما دعا عليهم نوح عنده وإذا كان القول مضافاً إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يكون القيل اسماً لقول لم يعلم قائله فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما إن قولنا إنه اسم مأخوذ من قيل الموضوع لقول لم يعلم قائله في الأصل لا ينافي جواز استعماله في قول من علم بغير الموضوع وثانيهما وهو الجواب الدقيق أن نقول الهاء في وَقِيلِهِ ضمير كما في ربه وكالضمير المجهول عند الكوفيين وهو ضمير الشأن وعند البصريين قال فَإِنَّهَا لاَ لاِوْلِى الاْبْصَارِ ( الحج 46 ) والهاء غير عائد إلى مذكور غير أن الكوفيين جعلوه لغير معلوم والبصريين جعلوه ضمير القصة والظاهر في هذه المسألة قول الكوفيين وعلى هذا معنى عبارتهم بلغ غاية علم الله تعالى قيل القائل منهم يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلآء إشارة إلى أن الاختصاص بذلك القول في كل أحد إنهم لا يؤمنون لعلمه أنهم قائلون بهذا وأنهم عالمون وأهل السماء علموا بأن عند الله علم الساعة يعلمها فيعلم قول من يقول وَقِيلِهِ يارَبّ إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ ( الزخرف 88 ) من غير(29/140)
تعيين قول لاشتراك الكل فيه ويؤيد هذا أن الضمير لو كان عائداً إلى معلوم فإما أن يكون إلى مذكور قبله ولا شيء فيما قبله يصح عود الضمير إليه وإما إلى معلوم غير مذكور وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لكن الخطاب بقوله فَاصْفَحِ ( الحجر 85 ) كان يقتضي أن يقول وقيلك يا رب لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) هو المخاطب أولاً بكلام الله وقد قال قبله وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ ( الزخرف 87 ) وقال من قبل قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ( الزخرف 81 ) وكان هو المخاطب أولاً إذا تحقق هذا نقول إذا تفكرت في استعمال لفظ القيل في القرآن ترى ما ذكرنا ملحوظاً مراعى فقال ههنا إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً لعدم اختصاص هذا القول بقائل دون قائل فيسمع هذا القول دائماً من الملائكة والناس كما قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ ( الرعد 23 24 ) وقال تعالى سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) حيث كان المسلم منفرداً وهو الله كأنه قال سلام قولاً منا وقال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ( فصلت 33 ) وقال هِى َ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً ( المزمل 6 ) لأن الداعي معين وهم الرسل ومن اتبعهم من الأمة وكل من قام ليلاً فإن قوله قويم ونهجه مستقيم وقال تعالى وَقِيلِهِ يارَبّ رَبّ ( الزخرف 88 ) لأن كل أحد يقول إنهم لا يؤمنون أما هم فلاعترافهم ولإقرارهم وأما غيرهم فلكفرانهم بإسرافهم وإصرارهم ويؤيد ما ذكرنا أنه تعالى قال لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً والاستثناء المتصل يقرب إلى المعنى بالنسبة إلى غيره وهو قول لا يعرف قائله فقال إِلاَّ قِيلاً وهو سلام عليك وأما قول من يعرف وهو الله فهو الأبعد عن اللغو غاية البعد وبينهما نهاية الخلاف فقال سَلاَمٌ قَوْلاً ( يس 58 )
المسألة السادسة سَلَامٌ فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه صفة وصف الله تعالى بها قِيلاً كما يوصف الشيء بالمصدر حيث يقال رجل عدل وقوم صوم ومعناه إلا قيلا سالماً عن العيوب وثانيها هو مصدر تقديره إلا أن يقولوا سلاماً وثالثها هو بدل من قِيلاً تقديره إلا سلاماً
المسألة السابعة تكرير السلام هل فيه فائدة نقول فيه إشارة إلى تمام النعمة وذلك لأن أثر السلام في الدنيا لا يتم إلا بالتسليم ورد السلام فكما أن أحد المتلاقيين في الدنيا يقول للآخر السلام عليك فيقول الآخر وعليك السلام فكذلك في الآخرة يقولون سَلَاماً سَلَاماً ثم إنه تعالى لما قال سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) لم يكن له رد لأن تسليم الله على عبده مؤمن له فأما الله تعالى فهو منزه عن أن يؤمنه أحد بل الرد إن كان فهو قول المؤمن سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
المسألة الثامنة ما الفرق بين قوله تعالى سَلَاماً سَلَاماً بنصبهما وبين قوله تعالى قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ ( هود 69 ) قلنا قد ذكرنا هناك أن قوله ( سلام عليك ) أتم وأبلغ من قولهم سلاماً عليك فإبراهيم عليه السلام أراد أن يتفضل عليهم بالذكر ويجيبهم بأحسن ما حيوا وأما هنا فلا يتفضل أحد من أهل الجنة على الآخر مثل التفضل في تلك الصورة إذ هم من جنس واحد وهم المؤمنون ولا ينسب أحد إلى أحد تقصيراً
المسألة التاسعة إذا كان قول القائل ( سلام عليك ) أتم وأبلغ فما بال القراءة المشهورة صارت بالنصب ومن قرأ ( سلام ) ليس مثل الذي قرأ بالنصب نقول ذلك من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأنه يستثنى من المسموع وهو مفعول منصوب فالنصب بقوله لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وأما المعنى فلأنا بينا أن الاستثناء متصل وقولهم سَلَامٌ أبعد من اللغو من قولهم سَلاَماً فقال إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً ليكون أقرب إلى اللغو من غيره وإن كان في نفسه بعيداً عنه(29/141)
ثم قال تعالى
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ
لما بين حال السابقين شرع في شأن أصحاب الميمنة من الأزواج الثلاثة وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في ذكرهم بلفظ الْمَيْمَنَة ِ مَا ( الواقعة 8 ) عند ذكر الأقسام وبلفظ الْيَمِينِ مَا عند ذكر الإنعام نقول الميمنة مفعلة إما بمعنى موضع اليمين كالمحكمة لموضع الحكم أي الأرض التي فيها اليمين وإما بمعنى موضع اليمن كالمنارة موضع النار والمجمرة موضع الجمر فكيفما كان الميمنة فيها دلالة على الموضع لكن الأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض ويتفرقون لقوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ( الروم ) 14 ) وقال يَصَّدَّعُونَ ( الروم 43 ) فيتفرقون بالمكان فأشار في الأول إليهم بلفظ يدل على المكان ثم عند الثواب وقع تفرقهم بأمر مبهم لا يتشاركون فيه كالمكان فقال وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ وفيه وجوه أحدها أصحاب اليمين الذين يأخذون بأيمانهم كتبهم ثانيها أصحاب القوة ثالثها أصحاب النور وقد تقدم بيانه
المسألة الثانية ما الحكمة في قوله تعالى فِى سِدْرٍ وأية نعمة تكون في كونهم في سدر والسدر من أشجار البوادي لا بمر ولا بحلو ولا بطيب نقول فيه حكمة بالغة غفلت عنها الأوائل والأواخر واقتصروا في الجواب والتقريب أن الجنة تمثل بما كان عند العرب عزيزاً محموداً وهو صواب ولكنه غير فائق والفائق الرائق الذي هو بتفسير كلام الله لائق هو أن نقول إنا قد بينا مراراً أن البليغ يذكر طرفي أمرين يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما كما يقال فلان ملك الشرق والغرب ويفهم منه أنه ملكهما وملك ما بينهما ويقال فلان أرضى الصغير والكبير ويفهم منه أنه أرضى كل أحد إلى غير ذلك فنقول لا خفاء في أن تزين المواضع التي يتفرج فيها بالأشجار وتلك الأشجار تارة يطلب منها نفس الورق والنظر إليه والاستظلال به وتارة يقصد إلى ثمارها وتارة يجمع بينهما لكن الأشجار أوراقها على أقسام كثيرة ويجمعها نوعان أوراث صغار وأوراق كبار والسدر في غاية الصغر والطلح وهو شجر الموز في غاية الكبر فقوله تعالى فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ إشارة إلى ما يكون ورقه في غاية الصغر من الأشجار وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر منها فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى أوراقها والورق أحد مقاصد الشجر ونظيره في الذكر ذكر النخل والرمان عند القصد إلى ذكر الثمار لأن بينهما غاية الخلاف كما بيناه في موضعه فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى ثمارها وكذلك قلنا في النخيل والأعناب فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة والكرم من أصغر الأشجار المثمرة وبينهما أشجار فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار وهذا جواب فائق وفقنا الله تعالى له
المسألة الثالثة ما معنى المخضود نقول فيه وجهان أحدهما مأخوذ الشوك فإن شوك السدر يستقصف ورقها ولولاه لكان منتزه العرب ذلك لأنها تظل لكثرة أوراقها ودخول بعضها في بعض وثانيهما مخضود أي متعطف إلى أسفل فإن رؤوس أغصان السدر في الدنيا تميل إلى فوق بخلاف أشجار الثمار فإن رؤوسهما تتدلى وحينئذ معناه أنه يخالف سدر الدنيا فإن لها ثمراً كثيراً(29/142)
المسألة الرابعة ما الطلح نقول الظاهر أنه شجر الموز وبه يتم ما ذكرنا من الفائدة روي أن علياً عليه السلام سمع من يقرأ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ فقال ما شأن الطلح إنما هو ( وطلع ) واستدل بقوله تعالى لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ( ق 10 ) فقالوا في المصاحف كذلك فقال لا تحول المصاحف فنقول هذا دليل معجزة القرآن وغزارة علم علي رضي الله عنه أما المعجزة فلأن علياً كان من فصحاء العرب ولما سمع هذا حمله على الطلع واستمر عليه وما كان قد اتفق حرفه لمبادرة ذهنه إلى معنى ثم قال في نفسه إن هذا الكلام في غاية الحسن لأنه تعالى ذكر الشجر المقصود منه الورق للاستظلال به والشجر المقصود منه الثمر للاستغلال به فذكر النوعين ثم إنه لما اطلع على حقيقة اللفظ علم أن الطلح في هذا الموضع أولى وهو أفصح من الكلام الذي ظنه في غاية الفصاحة فقال المصحف بين لي أنه خير مما كان في ظني فالمصحف لا يحول والذي يؤيد هذا أنه لو كان طلع لكان قوله تعالى وَفَاكِهَة ٍ كَثِيرَة ٍ ( الواقعة 32 ) تكرار أحرف من غير فائدة وأما على الطلح فتظهر فائدة قوله تعالى وَفَاكِهَة ٍ وسنبينها إن شاء الله تعالى
المسألة الخامسة ما المنضود فنقول إما الورق وإما الثمر والظاهر أن المراد الورق لأن شجر الموز من أوله إلى أعلاه يكون ورقاً بعد ورق وهو ينبت كشجر الحنطة ورقاً بعد ورق وساقه يغلظ وترتفع أوراقه ويبقى بعضها دون بعض كما في القصب فموز الدنيا إذا ثبت كان بين القصب وبين بعضها فرجة وليس عليها ورق وموز الآخرة يكون ورقه متصلاً بعضه ببعض فهو أكثر أوراقاً وقيل المنضود المثمر فإن قيل إذا كان الطلح شجراً فهو لا يكون منضوداً وإنما يكون له ثمر منضود فكيف وصف به الطلح نقول هو من باب حسن الوجه وصف بسبب اتصاف ما يتصل به يقال زيد حسن الوجه وقد يترك الوجه ويقال زيد حسن والمراد حسن الوجه ولا يترك إن أوهم فيصح أن يقال زيد مضروب الغلام ولا يجوز ترك الغلام لأنه يوهم الخطأ وأما حسن الوجه فيجوز ترك الوجه
ثم قال تعالى
وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ
وفيه وجوه الأول ممدود زماناً أي لا زوال له فهو دائم كما قال تعالى أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا ( الرعد 35 ) أي كذلك الثاني ممدود مكاناً أي يقع على شيء كبير ويستره من بقعة الجنة الثالث المراد ممدود أي منبسط كما قال تعالى وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا ( الحجر 19 ) فإن قيل كيف يكون الوجه الثاني نقول الظل قد يكون مرتفعاً فإن الشمس إذا كانت تحت الأرض يقع ظلها في الجو فيتراكم الظل فيسود وجه الأرض وإذا كانت على أحد جانبيها قريبة من الأفق ينبسط على وجه الأرض فيضيء الجو ولا يسخن وجه الأرض فيكون في غاية الطيبة فقوله وَظِلّ مَّمْدُودٍ أي عند قيامه عموداً على الأرض كالظل بالليل وعلى هذا فالظل ليس ظل الأشجار بل ظل يخلقه الله تعالى
بم وقوله تعالى
وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ
فيه أيضاً وجوه الأول مسكوب من فوق وذلك لأن العرب أكثر ما يكون عندهم الآبار والبرك فلا سكب للماء عندهم بخلاف المواضع التي فيها العيون النابعة من الجبال الحاكمة على الأرض تسكب عليها الثاني جار في غير أخدود لأن الماء المسكوب يكون جارياً في الهواء ولا نهر هناك كذلك الماء في الجنة الثالث كثير وذلك الماء عند العرب عزيز لا يسكب بل يحفظ(29/143)
ويشرب فإذا ذكروا النعم يعدون كثرة الماء ويعبرون عن كثرتها بإراقتها وسكبها والأول أصح
ثم قال تعالى
وَفَاكِهَة ٍ كَثِيرَة ٍ لاَّ مَقْطُوعَة ٍ وَلاَ مَمْنُوعَة ٍ
لما ذكر الأشجار التي يطلب منها ورقها ذكر بعدها الأشجار التي يقصد ثمرها وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الحكمة في تقديم الأشجار المورقة على غير المورقة نقول هي ظاهرة وهو أنه قدم الورق على الشجر على طريقة الارتقاء من نعمة إلى ذكر نعمة فوقها والفواكه أتم نعمة
المسألة الثانية ما الحكمة في ذكر الأشجار المورقة بأنفسها وذكر أشجار الفواكه بثمارها نقول هي أيضاً ظاهرة فإن الأوراق حسنها عند كونها على الشجر وأما الثمار فهي في أنفسها مطلوبة سواء كانت عليها أو مقطوعة ولهذا صارت الفواكه لها أسماء بها تعرف أشجارها فيقال شجر التين وورقه
المسألة الثالثة ما الحكمة في وصف الفاكهة بالكثرة لا بالطيب واللذة نقول قد بينا في سورة الرحمن أن الفاكهة فاعلة كالراضية في قوله فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) أي ذات فكهة وهي لا تكون بالطبيعة إلا بالطيب واللذة وأما الكثرة فبينا أن الله تعالى حيث ذكر الفاكهة ذكر ما يدل على الكثرة لأنها ليست لدفع الحاجة حتى تكون بقدر الحاجة بل هي للتنعم فوصفها بالكثرة والتنوع
المسألة الرابعة لاَّ مَقْطُوعَة ٍ أي ليست كفواكه الدنيا فإنها تنقطع في أكثر الأوقات والأزمان وفي كثير من المواضع والأماكن وَلاَ مَمْنُوعَة ٍ أي لا تمنع من الناس لطلب الأعواض والأثمان والممنوع من الناس لطلب الأعواض والأثمان ظاهر في الحس لأن الفاكهة في الدنيا تمنع عن البعض فهي ممنوعة وفي الآخرة ليست ممنوعة وأما القطع فيقال في الدنيا إنها انقطعت فهي منقطعة لا مقطوعة فقوله تعالى لاَّ مَقْطُوعَة ٍ في غاية الحسن لأن فيه إشارة إلى دليل عدم القطع كما أن في لا مَمْنُوعَة ٍ دليلاً على عدم المنع وبيانه هو أن الفاكهة في الدنيا لا تمنع إلا لطلب العوض وحاجة صاحبها إلى ثمنها لدفع حاجة به وفي الآخرة مالكها الله تعالى ولا حاجة له فلزم أن لا تمنع الفاكهة من أحد كالذي له فاكهة كثيرة ولا يأكل ولا يبيع ولا يحتاج إليها بوجه من الوجوه لا شك في أن يفرقها ولا يمنعها من أحد وأما الانقطاع فنقول الذي يقال في الدنيا الفاكهة انقطعت ولا يقال عند وجودها امتنعت بل يقال منعت وذلك ون الإنسان لا يتكلم إلا بما يفهمه الصغير والكبير ولكن كل أحد إذا نظر إلى الفاكهة زمان وجودها يرى أحداً يحوزها ويحفظها ولا يراها ينفسها تمتنع فيقول إنها ممنوعة وأما عند انقطاعها وفقدها لا يرى أحداً قطعها حساً وأعدمها فيظنها منقطعة بنفسها لعدم إحساسه بالقاطع ووجود إحساسه بالمانع فقال تعالى لو نظرتم في الدنيا حق النظر علمتم أن كل زمان نظراً إلى كونه ليلاً ونهاراً ممكن فيه الفاكهة فهي بنفسها لا تنقطع وإنما لا توجد عند المحقق لقطع الله إياها وتخصيصها بزمان دون زمان وعند غير المحقق لبرد الزمان وحره وكونه محتاجاً إلى الظهور والنمو والزهر ولذلك تجري العادة بأزمنة فهي يقطعها الزمان في نظر غير المحقق فإذا كانت الجنة ظلها ممدوداً لا شمس هناك ولا زمهرير استوت الأزمنة والله تعالى يقطعها فلا تكون مقطوعة بسبب حقيقي ولا ظاهر فالمقطوع يتفكر الإنسان فيه ويعلم أنه مقطوع لا منقطع من غير قاطع وفي الجنة لا قاطع فلا تصير مقطوعة(29/144)
المسألة الخامسة قدم نفي كونها مقطوعة لما أن القطع للموجود والمنع بعد الوجود لأنها توجد أولاً ثم تمنع فإن لم تكن موجودة لا تكون ممنوعة محفوظة فقال لا تقطع فتوجد أبداً ثم إن ذلك الموجود لا يمنع من أحد وهو ظاهر غير أنا نحب أن لا نترك شيئاً مما يخطر بالبال ويكون صحيحاً
ثم قال تعالى
وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَة ٍ
وقد ذكرنا معنى الفرش ونذكر وجهاً آخر فيها إن شاء الله تعالى وأما المرفوعة ففيها ثلاثة أوجه أحدها مرفوعة القدر يقال ثوب رفيع أي عزيز مرتفع القدر والثمن ويدل عليه قوله تعالى عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا ( الرحمن 54 ) وثانيها مرفوعة بعضها فوق بعض ثالثها مرفوعة فوق السرير
ثم قال تعالى
إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لاًّصْحَابِ الْيَمِينِ
وفي الإنشاء مسائل
المسألة الأولى الضمير في أَنشَأْنَاهُنَّ عائد إلى من فيه ثلاثة أوجه أحدها إلى حُورٌ عِينٌ ( الواقعة 22 ) وهو بعيد لبعدهن ووقوعهن في قصة أخرى ثانيها أن المراد من الفرش النساء والضمير عائد إليهن لقوله تعالى هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ ( البقرة 187 ) ويقال للجارية صارت فراشاً وإذا صارت فراشاً رفع قدرها بالنسبة إلى جارية لم تصر فراشاً وهو أقرب من الأول لكن يبعد ظاهراً لأن وصفها بالمرفوعة ينبىء عن خلاف ذلك وثالثها أنه عائد إلى معلوم دل عليه فرش لأنه قد علم في الدنيا وفي مواضع من ذكر الآخرة أن في الفرش حظايا تقديره وفي فرش مرفوعة حظايا منشآت وهو مثل ما ذكر في قوله تعالى قَاصِراتُ الطَّرْفِ ( الرحمن 56 ) ومقصورات ( الرحمن 72 ) فهو تعالى أقام الصفة مقام الموصوف ولم يذكر نساء الآخرة بلفظ حقيقي أصلاً وإنما عرفهن بأوصافهن ولباسهن إشارة إلى صونهن وتخدرهن وقوله تعالى مَّرْفُوعَة ٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ يحتمل أن يكون المراد الحور فيكون المراد الإنشاء الذي هو الابتداء ويحتمل أن يكون المراد بنات آدم فيكون الإنشاء بمعنى إحياء الإعادة وقوله تعالى أَبْكَاراً يدل على الثاني لأن الإنشاء لو كان بمعنى الابتداء لعلم من كونهن أبكاراً من غير حاجة إلى بيان ولما كان المراد إحياء بنات آدم قال أَبْكَاراً أي نجعلهن أبكاراً وإن متن ثيبات فإن قيل فما الفائدة على الوجه الأول نقول الجواب من وجهين الأول أن الوصف بعدها لا يكون من غيرها إذا كن أزواجهم بين الفائدة لأن البكر في الدنيا لا تكون عارفة بلذة الزوج فلا ترضى بأن تتزوج من رجل لا تعرفه وتختار التزويج بأقرانها ومعارفها لكن أهل الجنة إذا لم يكن من جنس أبناء آدم وتكون الواحدة منهن بكراً لم تر زوجاً ثم تزوجت بغير جنسها فربما يتوهم منها سوء عشرة فقال أَبْكَاراً فلا يوجد فيهن ما يوجد في أبكار الدنيا الثاني المراد أبكاراً بكارة تخالف بكارة الدنيا فإن البكارة لا تعود إلا على بعد وقوله تعالى أَتْرَاباً يحتمل وجوهاً أحدها مستويات في السن فلا تفضل إحداهن على الأخرى بصغر ولا كبر كلهن خلقن في زمان واحد ولا يلحقهن عجز ولا زمانة ولا تغير لون وعلى هذا إن كن من بنات آدم فالفظ فيهن حقيقة وإن كن من غيرهن فمعناه ما كبرن سمين به لأن كلاً منهن تمس وقت مس الأخرى لكن نسي الأصل وجعل عبارة عن ذلك كاللذة للمتساويين من العقلاء فأطلق على حور(29/145)
الجنة أتراباً ثانيها أتراباً متماثلات في النظر إليهن كالأتراب سواء وجدن في زمان أو في أزمنة والظاهر أنه في أزمنة لأن المؤمن إذا عمل عملاً صالحاً خلق له منهن ما شاء الله ثالثها أتراباً لأصحاب اليمين أي على سنهم وفيه إشارة إلى الاتفاق لأن أحد الزوجين إذا كان أكبر من الآخر فالشاب يعيره
المسألة الثانية إن قيل ما الفائدة في قوله فَجَعَلْنَاهُنَّ نقول فائدته ظاهرة تتبين بالنظر إلى اللام في لاِصْحَابِ الْيَمِينِ فنقول إن كانت اللام متعلقة بأتراباً يكون معناه أَنشَأْنَاهُنَّ وهذا لا يجوز وإن كانت متعلقة بأنشأناهن يكون معناه أنشأناهن لأصحاب اليمين والإنشاء حال كونهن أبكاراً وأتراباً فلا يتعلق الإنشاء بالأبكار بحيث يكون كونهن أبكاراً بالإنشاء لأن الفعل لا يؤثر في الحال تأثيراً واجباً فنقول صرفه للإنشاء لا يدل على أن الإنشاء كان بفعل فيكون الإنعام عليهم بمجرد إنشائهن لأصحاب اليمين فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ليكون ترتيب المسبب على السبب فاقتضى ذلك كونهن أبكاراً وأما إن كان الإنشاء أولاً من غير مباشرة للأزواج ما كان يقتضي جعلهن أبكاراً فالفاء لترتيب المقتضى على المقتضى
ثم قال تعالى
ثُلَّة ٌ مِّنَ الاٌّ وَّلِينَ وَثُلَّة ٌ مِّنَ الاٌّ خِرِينَ
وقد ذكرنا ما فيه لكن هنا لطيفة وهي أنه تعالى قال في السابقين ثُلَّة ٌ مّنَ الاْوَّلِينَ ( الواقعة 13 ) قبل ذكر السرر والفاكهة والحور وذكر في أصحاب اليمين ثُلَّة ٌ مّنَ الاْوَّلِينَ بعد ذكر هذه النعم نقول السابقون لا يلتفتون إلى الحور العين والمأكول والمشروب ونعم الجنة تتشرف بهم وأصحاب اليمين يلتفتون إليها فقدم ذكرها عليهم ثم قال هذا لكم وأما السابقون فذكرهم أولاً ثم ذكر مكانهم فكأنه قال لأهل الجنة هؤلاء واردون عليكم والذي يتمم هذه اللطيفة أنه تعالى لم يقدم ثلة السابقين إلا لكونهم مقربين حساً فقال الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ ( الواقعة 11 12 ) ثم قال ثُلَّة ٌ ثم ذكر النعم لكونها فوق الدنيا إلا المودة في القربى من الله فإنها فوق كل شيء وإلى هذا أشار بقوله تعالى قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى ( الشورى 23 ) أي في المؤمنين ووعد المرسلين بالزلفى في قوله وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى ( ص 25 ) وأما قوله فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( الواقعة 12 ) فقد ذكرنا أنه لتمييز مقربي المؤمنين من مقربي الملائكة فإنهم مقربون في الجنة وهم مقربون في أماكنهم لقضاء الأشغال التي للناس وغيرهم بقدرة الله وقد بان من هذا أن المراد من أصحاب اليمين هم الناجون الذين أذنبوا وأسرفوا وعفا الله عنهم بسبب أدنى حسنة لا الذين غلبت حسناتهم وكثرت وسنذكر الدليل عليه في قوله تعالى فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( الواقعة 91 )
ثم قال تعالى
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الحكمة في ذكر السموم والحميم وترك ذكر النار وأهوالها نقول فيه إشارة بالأدنى إلى الأعلى فقال هواؤهم الذي يهب عليهم سموم وماؤهم الذي يستغيثون به حميم مع أن الهواء والماء أبرد الأشياء وهما أي السموم والحميم من أضر الأشياء بخلاف الهواء والماء في الدنيا فإنهما من أنفع(29/146)
الأشياء فما ظنك بنارهم التي هي عندنا أيضاً أحر ولو قال هم في نار كنا نظن أن نارهم كنارنا لأنا ما رأينا شيئاً أحر من التي رأيناها ولا أحر من السموم ولا أبرد من الزلال فقال أبرد الأشياء لهم أحرها فكيف حالهم مع أحرها فإن قيل ما السموم نقول المشهور هي ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل غالباً والأولى أن يقال هي هواء متعفن يتحرك من جانب إلى جانب فإذا استنشق الإنسان منه يفسد قلبه بسبب العفونة ويقتل الإنسان وأصله من السم كسم الحية والعقرب وغيرهما ويحتمل أن يكون هذا السم من السم وهو خرم الإبرة كماقال تعالى حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ ( الأعراف 40 ) لأن سم الأفعى ينفذ في المسام فيفسدها وقيل إن السموم مختصة بما يهب ليلاً وعلى هذا فقوله سَمُومٍ إشارة إلى ظلمة ما هم فيه غير أنه بعيد جداً لأن السموم قد ترى بالنهار بسبب كثافتها
المسألة الثانية الحميم هو الماء الحار وهو فعيل بمعنى فاعل من حمم الماء بكسر الميم أو بمعنى مفعول من حمم الماء إذا سخنه وقد ذكرناه مراراً غير أن ههنا لطيفة لغوية وهي أن فعولاً لما تكرر منه الشيء والريح لما كانت كثيرة الهبوب تهب شيئاً بعد شيء خص السموم بالفعول والماء الحار لما كان لا يفهم منه الورود شيئاً بعد شيء لم يقل فيه حموم فإن قيل ما اليحموم نقول فيه وجوه أولها أنه اسم من أسماء جهنم ثانيها أنه الدخان ثالثها أنه الظلمة وأصله من الحمم وهو الفحم فكأنه لسواده فحم فسموه باسم مشتق منه وزيادة الحرف فيه لزيادة ذلك المعنى فيه وربما تكون الزيادة فيه جاءت لمعنيين الزيادة في سواده والزيادة في حرارته وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى دونهم في العذاب دائماً لأنهم إن تعرضوا لمهب الهواء أصابهم الهواء الذي هو السموم وإن استكنوا كما يفعله الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان في الكن يكونوا في ظل من يحموم وإن أرادوا الرد عن أنفسهم السموم بالاستكنان في مكان من حميم فلا انفكاك لهم من عذاب الحميم ويحتمل أن يقال فيه ترتيب وهو أن السموم يضربه فيعطش وتلتهب نار السموم في أحشائه فيشرب الماء فيقطع أمعاءه ويريد الاستظلال بظل فيكون ذلك الظل ظل اليحموم فإن قيل كيف وجه استعمال ( من ) في قوله تعالى مّن يَحْمُومٍ فنقول إن قلنا إنه اسم جهنم فهو لابتداء الغاية كما تقول جاءني نسيم من الجنة وإن قلنا إنه دخان فهو كما في قولنا خاتم من فضة وإن قلنا إنه الظلمة فكذلك فإن قيل كيف يصح تفسيره بجهنم مع أنه اسم منصرف منكر فكيف وضع لمكان معرف ولو كان اسماً لها قلنا استعماله بالألف واللام كالجحيم أو كان غير منصرف كأسماء جهنم يكون مثله على ثلاثة مواضع كلها يحموم
ثم قال تعالى
لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ
قال الزمخشري كرم الظل نفعه الملهوف ودفعه أذى الحر عنه ولو كان كذلك لكان البارد والكريم بمعنى واحد والأقرب أن يقال فائدة الظل أمران أحدهما دفع الحر والآخر كون الإنسان فيه مكرماً وذلك لأن الإنسان في البرد يقصد عين الشمس ليتدفأ بحرها إذا كان قليل الثياب فإذا كان من المكرمين يكون أبداً في مكان يدفع الحر والبرد عن نفسه في الظل أما الحر فظاهر(29/147)
وأما البرد فيدفعه بإدفاء الموضع بإيقاد ما يدفئه فيكون الظل في الحر مطلوباً للبرد فيطلب كونه بارداً وفي البرد يطلب لكونه ذا كرامة لا لبرد يكون في الظل فقال لاَّ بَارِدٍ يطلب لبرده ولا ذي كرامة قد أعد للجلوس فيه وذلك لأن المواضع التي يقع عليها ظل كالمواضع التي تحت أشجار وأمام الجدار يتخذ منها مقاعد فتصير تلك المقاعد محفوظة عن الفاذورات وباقي المواضع تصير مزابل ثم إذا وقعت الشمس في بعض الأوقات عليها تطلب لنظافتها وكونها معدة للجلوس فتكون مطلوبة في مثل هذا الوقت لأجل كرامتها لا لبردها فقوله تعالى لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ يحتمل هذا ويحتمل أن يقال إن الظل يطلب لأمر يرجع إلى الحس أو لأمر يرجع إلى العقل فالذي يرجع إلى الحس هو برده والذي يرجع إلى العقل أن يكون الرجوع إليه كرامة وهذا لا برد له ولا كرامة فيه وهذا هو المراد بما نقله الواحدي عن الفراء أن العرب تتبع كل منفي بكريم إذا كان المنفي أكرم فيقال هذه الدار ليست بواسعة ولا كريمة والتحقيق فيه ما ذكرنا أن وصف الكمال إما حسي وإما عقلي والحسي يصرح بلفظه وأما العقلي فلخفائه عن الحس يشار إليه بلفظ جامع لأن الكرامة والكرامة عند العرب من أشهر أوصاف المدح ونفيهما نفي وصف الكمال العقلي فيصير قوله تعالى لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ معناه لا مدح فيه أصلاً لا حساً ولا عقلاً
ثم قال تعالى
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءَابَآؤُنَا الاٌّ وَّلُونَ
وفي الآيات لطائف نذكرها في مسائل
المسألة الأولى ما الحكمة في بيان سبب كونهم في العذاب مع أنه تعالى لم يذكر سبب كون أصحاب اليمين في النعيم ولم يقل إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين فنقول قد ذكرنا مراراً أن الله تعالى عند إيصال الثواب لا يذكر أعمال العباد الصالحة وعند إيصال العقاب يذكر أعمال المسيئين لأن الثواب فضل والعقاب عدل والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص وظلم وأما العدل فإن لم يعلم سبب العقاب يظن أن هناك ظلماً فقال هم فيها بسبب ترفهم والذي يؤيد هذه اللطيفة أن الله تعالى قال في حق السابقين جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الواقعة 24 ) ولم يقل في حق أصحاب اليمين ذلك لأنا أشرنا أن أصحاب اليمين هم الناجون بالفضل العظيم وسنبين ذلك في قوله تعالى فَسَلَامٌ لَّكَ ( الواقعة 91 ) وإذا كان كذلك فالفضل في حقهم متمحض فقال هذه النعم لكم ولم يقل جزاء لأن قوله جَزَاء في مثل هذا الموضع وهو موضع العفو عنهم لا يثبت لهم سروراً بخلاف من كثرت حسناته فيقال له نعم ما فعلت خذ هذا لك جزاء
المسألة الثانية جعل السبب كونهم مترفين وليس كل من هو من أصحاب الشمال يكون مترفاً فإن فيهم من يكون فقيراً نقول قوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ليس بذم فإن المترف هو الذي جعل ذا ترف أي نعمة فظاهر ذلك لا يوجب ذماً لكن ذلك يبين قبح ما ذكر عنهم بعده وهو قوله تعالى وَكَانُواْ يُصِرُّونَ لأن صدور الكفران ممن عليه غاية الإنعام أقبح القبائح فقال إنهم كانوا مترفين ولم يشكروا نعم الله بل أصروا على الذنب وعلى هذا فنقول النعم التي تقتضي شكر الله وعبادته في كل أحد كثيرة فإن الخلق والرزق وما يحتاج إليه وتتوقف مصالحه عليه حاصل للكل غاية ما في الباب أن حال الناس في الإتراف متقارب فيقال في حقل البعض بالنسبة إلى بعض إنه في ضر ولو حمل نفسه على القناعة لكان أغنى(29/148)
الأغنياء وكيف لا والإنسان إذا نظر إلى حالة يجدها مفتقرة إلى مسكني يأوي إليه ولباس الحر والبرد وما يسد جوعه من المأكول والمشروب وغير هذا من الفضلات التي يحمل عليها شح النفس ثم إن أحداً لا يغلب عن تحصيل مسكن باشتراء أو اكتراء فإن لم يكن فليس هو أعجز من الحشرات لا تفقد مدخلاً أو مغارة وأما اللباس فلو اقتنع بما يدفع الضرورة كان يكفيه في عمره لباس واحد كلما تمزق منه موضع يرقعه من أي شيء كان بقي أمر المأكول والمشروب فإذا نظر الناظر يجد كل أحد في جميع الأحوال غير مغلوب عن كسرة خبز وشربة ماء غير أن طلب الغنى يورث الفقر فيريد الإنسان بيتاً مزخرفاً ولباساً فاخراً ومأكولاً طيباً وغير ذلك من أنواع الدواب والثياب فيفتقر إلى أن يحمل المشاق وطلب الغنى يورث فقره وارتياد الارتفاع يحط قدره وبالجملة شهوة بطنه وفرجه تكسر ظهره على أننا نقول في قوله تعالى كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ لا شك أن أهل القبور لما فقدوا الأيدي الباطشة والأعين الباصرة وبان لهم الحقائق علموا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ بالنسبة إلى تلك الحالة
المسألة الثالثة ما الإصرار على الحنث العظيم نقول الشرك كما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وفيها لطيفة وهي أنه أشار في الآيات الثلاث إلى الأصول الثلاثة فقوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ من حيث الاستعمال يدل على ذمهم بإنكار الرسل إذ المترف متكبر بسبب الغنى فينكر الرسالة والمترفون كانوا يقولون أَبَشَرٌ مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ ( القمر 34 ) وقوله يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ( الواقعة 46 ) إشارة إلى الشرك ومخالفة التوحيد وقوله تعالى وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً إشارة إلى إنكار الحشر والنشر وقوله تعالى وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ فيه مبالغات من وجوه أحدها قوله تعالى كَانُواْ يُصِرُّونَ وهو آكد من قول القائل إنهم قبل ذلك أصروا لأن اجتماع لفظي الماضي والمستقبل يدل على الاستمرار لأن قولنا فلان كان يحسن إلى الناس يفيد كون ذلك عادة له ثانيها لفظ الإصرار فإن الإصرار مداومة المعصية والغلول ولا يقال في الخير أصر ثالثها الحنث فإنه فوق الذنب فإن الحنث لا يكاد في اللغة يقع على الصغيرة والذنب يقع عليها وأما الحنث في اليمين فاستعملوه لأن نفس الكذب عند العقلاء قبيح فإن مصلحة العالم منوطة بالصدق وإلا لم يحصل لأحد بقول أحد ثقة فلا يبنى على كلامه مصالح ولا يجتنب عن مفاسد ثم إن الكذب لما وجد في كثير من الناس لأغراض فاسدة أرادوا توكيد الأمر بضم شيء إليه يدفع توهمه فضموا إليه الأيمان ولا شيء فوقها فإذا حنث لم يبق أمر يفيد الثقة فيلزم منه فساد فوق فساد الزنا والشرب غير أن اليمين إذا كانت على أمر مستقبل ورأى الحالف غيره جوز الشرع الحنث ولم يجوزه في الكبيرة كالزنا والقتل لكثرة وقوع الأيمان وقلة وقوع القتل والذي يدل على أن الحنث هو الكبيرة قولهم للبالغ بلغ الحنث أي بلغ مبلغاً بحيث يرتكب الكبيرة وقبله ما كان ينفي عنه الصغيرة لأن الولي مأمور بالمعاقبة على إساءة الأدب وترك الصلاة
المسألة الرابعة قوله تعالى الْعَظِيمِ هذا يفيد أن المراد الشرك فإن هذه الأمور لا تجتمع في غيره
المسألة الخامسة كيف اشتهر مِتْنَا بكسر الميم مع أن استعمال القرآن في المستقبل يموت قال تعالى عن يحيى وعيسى عليهما السلام وَيَوْمَ أَمُوتُ ( مريم 33 ) ولم يقرأ أمات على وزن أخاف وقال(29/149)
تعالى قُلْ مُوتُواْ ( آل عمران 119 ) ولم يقل قل ماتوا وقال تعالى وَلاَ تَمُوتُنَّ ( آل عمران 102 ) ولم يقل ولا تماتوا كما قال لا تَخَافُواْ ( الصافات 30 ) أقلنا فيه وجهان أحدهما أن هذه الكلمة خالفت غيرها فقيل فيها أَمْواتٌ والسماع مقدم على القياس والثاني مات يمات لغة في مات يموت فاستعمل ما فيها الكسر لأن الكسر في الماضي يوجد أكثر الأمرين أحدهما كثرة يفعل على يفعل وثانيهما كونه على فعل يفعل مثل خاف يخاف وفي مستقبلها الضم لأنه يوجد لسببين أحدهما كون الفعل على فعل يفعل مثل طال يطول فإن وصفه بالتطويل دون الطائل يدل على أنه من باب قصر يقصر وثانيهما كونه على فعل يفعل تقول فعلت في الماضي بالكسر وفي المستقبل بالضم
المسألة السادسة كيف أتى باللام المؤكدة في قوله لَمَبْعُوثُونَ مع أن المراد هو النفي وفي النفي لا يذكر في خبر إن اللام يقال إن زيداً ليجيء وإن زيداً لا يجيء فلا تذكر اللام وما مرادهم بالاستفهام إلا الإنكار بمعنى إنا لا نبعث نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما عند إرادة التصريح بالنفي يوجد التصريح بالنفي وصيغته ثانيهما أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار ونحن نستكثر مبالغته وتأكيده فحكوا كلامهم على طريقة الاستفهام بمعنى الإنكار ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم فقالوا أولاً أَءذَا مِتْنَا ولم يقتصروا عليه بل قالوا بعده وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أي فطال عهدنا بعد كوننا أمواتاً حتى صارت اللحوم تراباً والعظام رفاتاً ثم زادوا وقالوا مع هذا يقال لنا إِنَّكُمْ لَمَبْعُوثُونَ بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه أحدها استعمال كلمة إن ثانيها إثبات اللام في خبرها ثالثها ترك صيغة الاستقبال والإتيان بالمفعول كأنه كائن فقالوا لنا إِنَّكُمْ لَمَبْعُوثُونَ ثم زادوا وقالوا أَوَ ءابَاؤُنَا الاْوَّلُونَ يعني هذا أبعد فإنا إذا كنا تراباً بعد موتنا والآباء حالهم فوق حال العظام الرفات فكيف يمكن البعث وقد بينا في سورة والصافات هذا كله وقلنا إن قوله أَوَ ءابَاؤُنَا الاْوَّلُونَ ( الصافات 17 ) معناه أو يقولوا آباؤنا الأولون إشارة إلى أنهم في الإشكال أعظم ثم إن الله تعالى أجابهم ورد عليهم في الجواب في كل مبالغة بمبالغة أخرى فقال
قُلْ إِنَّ الاٌّ وَّلِينَ وَالاٌّ خِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ
فقوله قُلْ إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور وذلك أن في الرسالة أسراراً لا تقال إلا للأبرار ومن جملتها تعيين وقت القيامة لأن العوام لو علموا لاتَّكلوا والأنبياء ربما اطلعوا على علاماتها أكثر مما بينوا وربما بينوا للأكابر من الصحابة علامات على ما نبين ففيه وجوه أولها قوله قُلْ يعني أن هذا من جملة الأمور التي بلغت في الظهور إلى حد يشترك فيه العوام والخواص فقال قل قولاً عاماً وهكذا في كل موضع قال قل كان الأمر ظاهراً قال الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الصمد 1 ) وقال قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( الكهف 110 ) وقال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) أي هذا هو الظاهر من أمر الروح وغيره خفي ثانيها قوله تعالى إِنَّ الاْوَّلِينَ وَالاْخِرِينَ بتقديم الأولين على الآخرين في جواب قولهم أَوَ ءابَاؤُنَا الاْوَّلُونَ ( الواقعة 48 ) فإنهم أخروا ذكر الآباء لكون الاستبعاد فيهم أكثر فقال إن الأولين الذين تستبعدون بعثهم وتؤخرونهم يبعثهم الله في أمر مقدم على الآخرين يتبين منه إثبات حال من أخرتموه(29/150)
مستبعدين إشارة إلى كون الأمر هيناً ثالثها قوله تعالى لَمَجْمُوعُونَ فإنهم أنكروا قوله لَمَبْعُوثُونَ ( الواقعة 47 ) فقال هو واقع مع أمر زائد وهو أنهم يحشرون ويجمعون في عرصة الحساب وهذا فوق البعث فإن من بقي تحت التراب مدة طويلة ثم حشر ربما لا يكون له قدرة على الحركة وكيف لو كان حياً محبوساً في قبره مدة لتعذرت عليه الحركة ثم إنه تعالى بقدرته يحركه بأسرع حركة ويجمعه بأقوى سير وقوله تعالى لَمَجْمُوعُونَ فوق قول القائل مجموعون كما قلنا إن قول قول القائل إنه يموت في إفادة التوكيد دون قوله إنه ميت رابعها قوله تعالى إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ فإنه يدل على أن الله تعالى يجمعهم في يوم واحد معلوم واجتماع عدد من الأموات لا يعلم عددهم إلا الله تعالى في وقت واحد أعجب من نفس البعث وهذا كقوله تعالى في سورة والصافات فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ واحِدَة ٌ ( الصافات 19 ) أي أنتم تستبعدون نفس البعث والأعجب من هذا أنه يبعثهم بزجرة واحدة أي صيحة واحدة فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ أي يبعثون مع زيادة أمر وهو فتح أعينهم ونظرهم بخلاف من نعس فإنه إذا انتبه يبقى ساعة ثم ينظر في الأشياء فأمر الإحياء عند الله تعالى أهون من تنبيه نائم خامسها حرف إِلَى أدل على البعث من اللام ولنذكر هذا في جواب سؤال هو أن الله تعالى قال يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ( التغابن 9 ) وقال هنا لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ولم يقل لميقاتنا وقال وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ( التغابن 143 ) نقول لما كان ذكر الجمع جواباً للمنكرين المستبعدين ذكر كلمة إِلَى الدالة على التحرك والانتقال لتكون أدل على فعل غير البعث ولا يجمع هناك قال يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ولا يفهم النشور من نفس الحرف وإن كان يفهم من الكلام ولهذا قال ههنا لَمَجْمُوعُونَ بلفظ التأكيد وقال هناك يَجْمَعُكُمْ وقال ههنا إِلَى مِيقَاتِ وهو مصير الوقت إليه وأما قوله تعالى فَلَمَّا جَآء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا فنقول الموضع هناك لم يكن مطلوب موسى عليه السلام وإنما كان مطلوبه الحضور لأن من وقت له وقت وعين له موضع كانت حركته في الحقيقة لأمر بالتبع إلى أمر وأما هناك فالأمر الأعظم الوقوف في موضعه لا زمانه فقال بكلمة دلالتها على الموضع والمكان أظهر
ثم قال تعالى
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لاّكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِأونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ
في تفسير الآيات مسائل
المسألة الأولى الخطاب مع من نقول قال بعض المفسرين مع أهل مكة والظاهر أنه عام مع كل ضال مكذب وقد تقدم مثل هذا في مواضع وهو تمام كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه تعالى قال لنبيه قل إن الأولين والآخرين لمجموعون ثم إنكم تعذبون بهذه الأنواع من العذاب
المسألة الثانية قال ههنا الضَّالُّونَ الْمُكَذّبُونَ بتقديم الضال وقال في آخر السورة وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّالّينَ ( الواقعة 92 ) بتقديم المكذبين فهل بينهما فرق قلت نعم وذلك أن المراد من الضالين ههنا هم الذين صدر منهم الإصرار على الحنث العظيم فضلوا في سبيل الله ولم يصلوا إليه ولم(29/151)
يوحدوه وذلك ضلال عظيم ثم كذبوا رسله وقالوا أَءذَا مِتْنَا فكذبوا بالحشر فقال أَيُّهَا الضَّالُّونَ الذين أشركتم الْمُكَذّبُونَ الذين أنكرتم الحشر لتأكلون ما تكرهون وأما هناك فقال لهم أَيُّهَا الْمُكَذّبُونَ الذين كذبتم بالحشر الضَّالُّونَ في طريق الخلاص الذين لا يهتدون إلى النعيم وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب هنا مع الكفار فقال يا أيها الذين ضللتم أولاً وكذبتم ثانياً والخطاب في آخر السورة مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يبين له حال الأزواج الثلاثة فقال المقربون في روح وريحان وجنة ونعيم وأصحاب اليمين في سلام وأما المكذبون الذين كذبوا فقد ضلوا فقدم تكذيبهم إشارة إلى كرامة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث بين أن أقوى سبب في عقابهم تكذيبهم والذي يدل على أن الكلام هناك مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قوله فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( الواقعة 91 )
المسألة الثالثة ما الزقوم نقول قد بيناه في موضع آخر واختلف فيه أقوال الناس ومآل الأقوال إلى كون ذلك في الطعم مراً وفي اللمس حاراً وفي الرائحة منتناً وفي المنظر أسود لا يكاد آكله يسيغه فيكره على ابتلاعه والتحقيق اللغوي فيه أن الزقوم لغية عربية دلنا تركيبه على قبحه وذلك لأن زق لم يجتمع إلا في مهمل أو في مكروه منه مزق ومنه زمق شعره إذا نتفه ومنه القزم للدناءة وأقوى من هذا أن القاف مع كل حرف من الحرفين الباقيين يدل على المكروه في أكثر الأمر فالقاف مع الميم قمامة وقمقمة وبالعكس مقامق الغليظ الصوت والقمقمة هو السور وأما القاف مع الزاي فالزق رمي الطائر بذرقه والزقزقة الخفة وبالعكس القزنوب فينفر الطبع من تركيب الكلمة من حروف اجتماعها دليل الكراهة والقبح ثم قرن بالأكل فدل على أنه طعام ذو غضة وأما ما يقال بأن العرب تقول زقمني بمعنى أطعمتني الزبد والعسل واللبن فذلك للمجانة كقولهم أرشقني بثوب حسن وأرجمني بكيس من ذهب وقوله مِن شَجَرٍ لابتداء الغاية أي تناولكم منه وقوله فَمَالِئُونَ مِنْهَا زيادة في بيان العذاب أي لا يكتفى منكم بنفس كما الأكل يكتفي من يأكل الشيء لتحلة القسم بل يلزمون بأن تملأوا منها البطون والهاء عائدة إلى الشجرة والبطون يحتمل أن يكون المراد منه مقابلة الجمع بالجمع أي يملأ كل واحد منكم بطنه ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد منكم يملأ البطون والبطون حينئذ تكون بطون الأمعاء لتخيل وصف المعي في باطن الإنسان له كيأكل في سبعة أمعاء فيملأون بطون الأمعاء وغيرها والأول أظهر والثاني أدخل في التعذيب والوعيد قوله فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ أي عقيب الأكل تجر مرارته وحرارته إلى شرب الماء فيشربون على ذلك المأكول وعلى ذلك الزقوم من الماء الحار وقد تقدم بيان الحميم وقوله فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ بيان أيضاً لزيادة العذاب أي لا يكون أمركم أمر من شرب ماءاً حاراً منتناً فيمسك عنه بل يلزمكم أن تشربوا منه مثل ما تشرب الهيم وهي الجمال التي أصابها العطش فتشرب ولا تروى وهذا البيان في الشرب لزيادة العذاب وقوله فَمَالِئُونَ مِنْهَا في الأكل فإن قيل الأهيم إذا شرب الماء الكثير يضره ولكن في الحال يلتذ به فهل لأهل الجحيم من شرب الحميم الحار في النار لذة قلنا لا وإنما ذلك لبيان زيادة العذاب ووجهه أن يقال يلزمون بشرب الحميم ولا يكتفي منهم بذلك الشرب بل يلزمون أن يشربوا كما يشرب الجمل الأهيم الذي به الهيام أو هم إذا شربوا تزداد حرارة الزقوم في جوفهم فيظنون أنه من الزقوم لا من الحميم فيشربون منه شيئاً كثيراً بناء على وهم الري والقول في الهيم كالقول في البيض أصله هوم وهذا من هام يهيم كأنه من العطش يهيم والهيام ذلك الداء الذي يجعله كالهائم من العطش(29/152)
ثم قال تعالى
هَاذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ
يعني ليس هذا كل العذاب بل هذا أول ما يلقونه وهو بعض منه وأقطع لأمعائهم
ثم قال تعالى
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ
دليلاً على كذبهم وصدق الرسل في الحشر لأن قوله ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ إلزام على الإقرار بأن الخالق في الابتداء هو الله تعالى ولما كان قادراً على الخلق أولاً كان قادراً على الخلق ثانياً ولا مجال للنظر في ذاته وصفاته تعالى وتقدس وإن لم يعترفوا به بل يشكون ويقولن الخلق الأول من مني بحسب الطبيعة فنقول المنى من الأمور الممكنة ولا وجود للممكن بذاته بل بالغير على ما عرف فيكون المنى من القادر القاهر وكذلك خلق الطبيعة وغيرها من الحادثات أيضاً فقال لهم هل تشكون في أن الله خلقكم أولاً أم لا فإن قالوا لا نشك في أنه خالقاً فيقال فهل تصدقون أيضاً بخلقكم ثانياً فإن من خلقكم أولاً من لا شيء لا يعجز أن يخلقكم ثانياً من أجزاء هي عنده معلومة وإن كنتم تشكون وتقولون الخلق لا يكون إلا من منى وبعد الموت لا والده ولا مني فيقال لهم هذا المنى أنتم تخلقونه أم الله فإن كنتم تعترفون بالله وبقدرته وإرادته وعمله فذلك يلزمكم القول بجواز الحشر وصحته و ( لولا ) كلمة مركبة من كلمتين معناها التحضيض والحث والأصل فيه لم لا فإذا قلت لم لا أكلت ولم ما أكلت جاز الاستفهامان فإن معناه لا علة لعدم الأكل ولا يمكنك أن تذكر علة له كما تقول لم فعلت موبخاً يكون معناه فعلت أمراً لا سبب له ولا يمكنك ذكر سبب له ثم إنهم تركوا حرف الاستفهام عن العلة وأتوا بحرف الاستفهام عن الحكم فقالوا هلا فعلت كما يقولون في موضع لم فعلت هذا وأنت تعلم فساده أتفعل هذا وأنت عاقل وفيه زيادة حث لأن قول القائل لم فعلت حقيقته سؤال عن العلة ومعناه أن علته غير معلومة وغير ظاهرة فلا يجوز ظهور وجوده وقوله أفعلت سؤال عن حقيقته ومعناه أنه في جنسه غير ممكن والسائل عن العلة كأنه سلم الوجود وجعله معلوماً وسأل عن العلة كما يقول القائل زيد جاء فلم جاء والسائل عن الوجود لم يسلمه وقول القائل لم فعلت وأنت تعلم ما فيه دون قوله أفعلت وأنت تعلم ما فيه لأن في الأول جعله كالمصيب في فعله لعلة خفية تطلب منه وفي الثاني جعله مخطئاً في أول الأمر وإذا علم ما بين لم فعلت وأفعلت علم ما بين لم تفعل وهلا تفعل وأما ( لولا ) فنقول هي كلمة شرط في الأصل والجملة الشرطية غير مجزومة بها كما أن جملة الاستفهام غير مجزوم به لكن لولا تدل على الاعتساف وتزيد نفي النظر والتواني فيقول لولا تصدقون بدل قوله لم لا وهلا لأنه أدل على نفي ما دخلت عليه وهو عدم التصديق وفيه لطيفة وهي أن لولا تدخل على فعل ماض على مستقبل قال تعالى فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ ( التوبة 122 ) فما وجه اختصاص المستقبل ههنا بالذكر وهلا قال فلولا صدقتم نقول هذا كلام معهم في الدنيا والإسلام فيها مقبول ويجب ما قبله فقال لم لا تصدقون في ساعتكم والدلائل واضحة مستمر والفائدة حاصلة فأما في قوله فَلَوْلاَ نَفَرَ لم تكن الفائدة تحصل إلا بعد مدة فقال لو سافرتم(29/153)
لحصل لكم الفائدة في الحال وقد فات ذلك فإن كنتم لا تسافرون في الحال تفوتكم الفائدة أيضاً في الاستقبال ثم قال تعالى أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ من تقرير قوله تعالى نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ وذلك لأنه تعالى لما قال نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ قال الطبيعيون نحن موجودون من نطف الخلق بجواهر كامنة وقبل كل واحد نطفة واحد فقال تعالى رداً عليهم هل رأيتم هذا المنى وأنه جسم ضعيف متشابه الصورة لا بد له من مكون فأنتم خلقتم النطفة أم غيركم خلقها ولا بد من الاعتراف بخالق غير مخلوق قطعاً للتسلسل الباطل وإلى ربنا المنتهى ولا يرتاب فيه أحد من أول ما خلق الله النطفة وصورها وأحياها ونورها فلم لا تصدقون أنه واحد أحد صمد قادر على الأشياء فإنه يعيدكم كما أنشأكم في الابتداء والاستفهام يفيد زيادة تقرير وقد علمت ذلك مراراً
بم قال تعالى
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَة َ الاٍّ ولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ
فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون وفيه مسائل
المسألة الأولى في الترتيب فيه وجهان أحدهما أنه تقرير لما سبق وهو كقوله تعالى وفيه مسائل
المسألة الأولى في الترتيب فيه وجهان أحدهما أنه تقرير لما سبق وهو كقوله تعالى الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) فقال نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ ( الواقعة 57 ) ثم قال نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ فمن قدر على الإحياء والإماتة وهما ضدان ثبت كونه مختاراً فيمكن الإحياء ثانياً منه بعد الإماتة بخلاف ما لو كان الإحياء منه ولم يكن له قدرة على الإماتة فيظن به أنه موجب لا مختار والموجب لا يقدر على كل شيء ممكن فقال نحن خلقناكم وقدرنا الموت بينكم فانظروا فيه واعلموا أنا قادرون أن ننشئكم ثانيهما أنه جواب عن قول مبطل يقول إن لم تكن الحياة والموت بأمور طبيعية في الأجسام من حرارات ورطوبات إذا توفرت بقيت حية وإذا نقصت وفنيت ماتت لم يقع الموت وكيف يليق بالحكيم أن يخلق شيئاً يتقن خلقه ويحسن صورته ثم يفسده ويعدمه ثم يعيده وينشئه فقال تعالى نحن قدرنا الموت ولا يرد قولكم لماذا أعدم ولماذا أنشأ ولماذا هدم لأن كمال القدرة يقتضي ذلك وإنما يقبح من الصائغ والباني صياغة شيء وبناؤه وكسره وإنشاؤه لأنه يحتاج إلى صرف زمان إليه وتحمل مشقة وما مثله إلا مثل إنسان ينظر إلى شيء فيقطع نظره عنه طرفة عين ثم يعاوده ولا يقال له لم قطعت النظر ولم نظرت إليه ولله المثل الأعلى من هذا لأن هنا لا بد من حركة وزمان ولو توارد على الإنسان أمثاله لتعب لكن في المرة الواحدة لا يثبت التعب والله تعالى منزه عن التعب ولا افتقار لفعله إلى زمان ولا زمان لفعله ولا إلى حركة بجرم وفيه وجه آخر ألطف منها وهو أن قوله تعالى أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ ( الواقعة 58 ) معناه أفرأيتم ذلك ميتاً لا حياة فيه وهو منى ولو تفكرتم فيه لعلمتم أنه كان قبل ذلك حياً متصلاً بحي وكان أجزاء مدركة متألمة متلذذة ثم إذا أمنيتموه لا تستريبون في كونه ميتاً كالجمادات ثم إن الله تعالى يخلقه آدمياً ويجعله بشراً سوياً فالنطفة كانت قبل الانفصال حية ثم صارت ميتة ثم أحياها الله تعالى مرة أخرى فاعلموا أنما إذا خلقناكم أولاً ثم قدرنا بينكم الموت ثانياً ثم ننشئكم مرة أخرى فلا تستبعدوا ذلك كما في النطف(29/154)
المسألة الثانية ما الفرق بين هذا الموضع وبين أول سورة تبارك حيث قال هناك خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) بتقديم ذكر الموت نقول الكلام هنا على الترتيب الأصلي كما قال تعالى في مواضع منها قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) ثم قال بعد ذلك ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ ( المؤمنون 15 ) وأما في سورة الملك فنذكر إن شاء الله تعالى فائدتها ومرجعها إلى ما ذكرنا أنه قال خلق الموت في النطف بعد كونها حية عند الاتصال ثم خلق الحياة فيها بعد الموت وهو دليل الحشر وقيل المراد من الموت هنا الموت الذي بعد الحياة والمراد هناك الذي قبل الحياة
المسألة الثالثة قال ههنا نَحْنُ قَدَّرْنَا وقال في سورة الملك خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ فذكر الموت والحياة بلفظ الخلق وههنا قال خَلَقْنَاكُمْ وقال قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ فنقول كان المراد هناك بيان كون الموت والحياة مخلوقين مطلقاً لا في الناس على الخصوص وهنا لما قال خَلَقْنَاكُمْ ( الواقعة 57 ) خصصهم بالذكر فصار كأنه قال خلقنا حياتكم فلو قال نحن قدرنا موتكم كان ينبغي أنه يوجد موتهم في الحال ولم يكن كذلك ولهذا قال قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ وأما هناك فالموت والحياة كانا مخلوقين في محلين ولم يكن ذلك بالنسبة إلى بعض مخصوص
المسألة الرابعة هل في قوله تعالى بَيْنِكُمْ بدلاً عن غيره من الألفاظ فائدة نقول نعم فائدة جليلة وهي تبين بالنظر إلى الألفاظ التي تقوم مقامها فنقول قدرنا لكم الموت وقدرنا فيكم الموت فقوله قدرنا فيكم يفيد معنى الخلق لأن تقدير الشيء في الشيء يستدعي كونه ظرفاً له إما ظرف حصول فيه أو ظرف حلول فيه كما يقال البياض في الجسم والكحل في العين فلو قال قدرنا فيكم الموت لكان مخلوقاً فينا وليس كذلك وإن قلنا قدرنا لكم الموت كان ذلك ينبىء عن تأخره عن الناس فإن القائل إذا قال هذا معد لك كان معناه أنه اليوم لغيرك وغداً لك كما قال تعالى وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ( آل عمران 140 )
المسألة الخامسة قوله وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ المشهور أن المراد منه وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم يقال فاته الشيء إذا غلبه ولم يقدر عليه ومثله سبقه وعلى هذا نعيد ما ذكرناه من الترتيب ونقول إذا كان قوله نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ لبيان أنه خلق الحياة وقدر الموت وهما ضدان وخالق الضدين يكون قادراً مختاراً فقال وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عاجزين عن الشيء بخلاف الموجب الذي لا يمكنه من إيقاع كل واحد من الضدين فيسبقه ويفوته فإن النار لا يمكنها التبريد لأن طبيعتها موجبة للتسخين وأما إن قلنا بأنه ذكره رداً عليهم حيث قالوا لو لم يكن الموت من فناء الرطوبات الأصلية وانطفاء الحرارة الغريزية وكان بخلق حكيم مختار ما كان يجوز وقوعه لأن الحكيم كيف يبني ويهدم ويوجد ويعدم فقال وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي عاجزين بوجه من الوجوه التي يستبعدونها من البناء والصائغ فإنه يفتقر في الإيجاد إلى زمان ومكان وتمكين من المفعول وإمكان ويلحقه تعب من تحريك وإسكان والله تعالى يخلق بكن فيكون فهو فوق ما ذكرنا من المثل من قطع النظر وإعادته في أسرع حين حيث لا يصح من القائل أن يقول لم قطعت النظر في ذلك الزمان اللطيف الذي لا يدرك ولا يحس بل ربما يكون مدعى القدرة التامة على الشيء في الزمان اليسير بالحركة السريعة يأتي بشيء ثم يبطله ثم يأتي بمثله ثم يبطله يدلك عليه فعل أصحاب خفة اليد حيث يوهم أنه يفعل شيئاً ثم يبطله ثم يأتي بمثله إراءة من نفسه القدرة وعلى هذا(29/155)
فنقول قوله في سورة تبارك خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ لِيَبْلُوَكُمْ ( الملك 2 ) معناه أمات وأحيا لتعلموا أنه فاعل مختار فتعبدونه وتعتقدون الثواب والعقاب فيحسن عملكم ولو اعتقدتموه موجباً لما عملتم شيئاً على هذا التفسير المشهور والظاهر أن المراد من قوله وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ حقيقته وهي أنا ما سبقنا وهو يحتمل شيئين أحدهما أن يكون معناه أنه هو الأول لم يكن قبله شيء وثانيهما في خلق الناس وتقدير الموت فيهم ما سبق وهو على طريقة منع آخر وفيه فائدتان أما إذا قلنا وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ معناه ما سبقنا شيء فهو إشارة إلى أنكم من أي وجه تسلكون طريق النظر تنتهون إلى الله وتقفون عنده ولا تجاوزونه فإنكم إن كنتم تقولون قبل النطفة أب وقبل الأب نطفة فالعقل يحكم بانتهاء النطف والآباء إلى خالق غير مخلوق وأنا ذلك فإني لست بمسبوق وليس هناك خالق ولا سابق غيري وهذا يكون على طريقة التدرج والنزول من مقام إلى مقام والعاقل الذي هداه الله تعالى الهداية القوية يعرف أولاً والذي دونه يعرف بعد ذلك برتبة والمعاند لا بد من أن يعرف إن عاد إلى عقله بعد المراتب ويقول لا بد للكل من إله وهو ليس بمسبوق فيما فعله فمعناه أنه فعل ما فعل ولم يكن لمفعوله مثال وأما إن قلنا إنه ليس بمسبوق وأي حاجة في إعادته له بمثال هو أهون فيكون كقوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) ويؤيده قوله تعالى عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَالاً تَعْلَمُونَ فإن قيل هذا لا يصح لأن مثل هذا ورد في سؤال سائل والمراد ما ذكرنا كأنه قال وإنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وما نحن بمسبوقين أي لسنا بعاجزين مغلوبين فهذا دليلنا وذلك لأن قوله تعالى إِنَّا لَقَادِرُونَ أفاد فائدة انتفاء العجز عنه فلا بد من أن يكون لقوله تعالى وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فائدة ظاهرة ثم قال تعالى عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ في الوجه المشهور قوله تعالى عَلَى أَن نُّبَدّلَ يتعلق بقوله وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي على التبديل ومعناه وما نحن عاجزين عن التبديل
والتحقيق في هذا الوجه أن من سبقه الشيء كأنه غلبه فعجز عنه وكلمة على في هذا الوجه مأخوذة من استعمال لفظ المسابقة فإنه يكون على شيء فإن من سبق غيره على أمر فهو الغالب وعلى الوجه الآخر يتعلق بقوله تعالى نَحْنُ قَدَّرْنَا وتقديره نحن قدرنا بينكم على وجه التبديل لا على وجه قطع النسل من أول الأمر كما يقول القائل خرج فلان على أن يرجع عاجلاً أي على هذا الوجه خرج وتعلق كلمة على هذا الوجه أظهر فإن قيل على ما ذهب إليه المفسرون لا إشكال في تبديل أمثالكم أي أشكالكم وأوصافكم ويكون الأمثال جمع مثل ويكون معناه وما نحن بعاجزين على أن نمسخكم ونجعلكم في صورة قردة وخنازير فيكون كقوله تعالى وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ( يس 67 ) وعلى ما قلت في تفسير المسبوقين وجعلت المتعلق لقوله عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ هو قوله نَحْنُ قَدَّرْنَا فيكون قوله نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ معناه على أن نبدل أمثالهم لا على عملهم نقول هذا إيراد وارد على المفسرين بأسرهم إذا فسروا الأمثال بجمع المثل وهو الظاهر كما في قوله تعالى ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم ( محمد 38 ) وقوله وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ( الإنسان 28 ) فإن قوله إِذَا دليل الوقوع وتغير أوصافهم بالمسخ ليس أمراً يقع والجواب أن يقال الأمثال إما أن يكون جمع مثل وإما جمع مثل فإن كان جمع مثل فنقول معناه قدرنا بينكم الموت على هذا الوجه وهو أن نغير أوصافكم فتكونوا أطفالاً ثم شباناً ثم كهولاً ثم شيوخاً ثم يدرككم الأجل وما قدرنا بينكم الموت على أن نهلككم دفعة واحدة إلا إذا جاء وقت ذلك فتهلكون بنفخة واحدة وإن قلنا هو جمع مثل فنقول معنى نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ نجعل أمثالكم بدلاً وبدله بمعنى جعله بدلاً ولم يحسن أن يقال(29/156)
بدلناكم على هذا الوجه لأنه يفيد أنا جعلنا بدلاً فلا يدل على وقوع الفناه عليهم غاية ما في الباب أن قول القائل جعلت كذا بدلاً لا تتم فائدته إلا إذا قال جعلته بدلاً عن كذا لكنه تعالى لما قال نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ فالمثل يدل على المثل فكأنه قال جعلنا أمثالكم بدلاً لكم ومعناه على ما ذكرنا أنه لم نقدر الموت على أن نفني الخلق دفعة بل قدرناه على أن نجعل مثلهم بدلهم مدة طويلة ثم نهلكهم جميعاً ثم ننشئهم وقوله تعالى فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ على الوجه المشهور في التفسير أنه فيما لا تعلمون من الأوصاف والأخلاق والظاهر أن المراد فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ من الأوصاف والزمان فإن أحداً لا يدري أنه متى يموت ومتى ينشأ أو كأنهم قالوا ومتى الساعة والإنشاء فقال لا علم لكم بهما هذا إذا قلنا إن المراد ما ذكر فيه على الوجه المشهور وفيه لطيفة وهي أن قوله فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ تقرير لقوله تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ ( الواقعة 59 ) وكأنه قال كيف يمكن أن تقولوا هذا وأنتم تنشأون في بطون أمهاتكم على أوصاف لا تعلمون وكيف يكون خالق الشيء غير عالم به وهو كقوله تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّة ٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ( النجم 32 ) وعلى ما ذكرنا فيه فائدة وهي التحريض على العمل الصالح لأن التبديل والإنشاء وهو الموت والحشر إذا كان واقعاً في زمان لا يعلمه أحد فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة ولا يغفل عن إعداد العدة وقال تعالى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَة َ الاْولَى تقريراً لإمكان النشأة الثانية
ثم قال تعالى
أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَارِعُونَ
ذكر بعد دليل الخلق دليل الرزق فقوله أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ إشارة إلى دليل الخلق وبه الابتداء وقوله أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ إشارة إلى دليل الرزق وبه البقاء وذكر أموراً ثلاثة المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول ورتبه ترتيباً فذكر المأكول أولاً لأنه هو الغذاء ثم المشروب لأن به الاستمراء ثم النار للتي بها الإصلاح وذكر من كل نوع ما هو الأصل فذكر من المأكول الحب فإنه هو الأصل ومن المشروب الماء لأنه هو الأصل وذكر من المصلحات النار لأن بها إصلاح أكثر الأغذية وأعمها ودخل في كل واحد منها ما هو دونه هذا هو الترتيب وأما التفسير فنقول الفرق بين الحرث والزرع هو أن الحرث أوائل الزرع ومقدماته من كراب الأرض وإلقاء البذر وسقي المبذور والزرع هو آخر الحرث من خروج النبات واستغلاظه واستوائه على الساق فقوله أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أي ما تبتدئون منه من الأعمال أأنتم تبلغونها المقصود أم الله ولا يشك أحد في أن إيجاد الحب في السنبلة ليس بفعل الناس وليس بفعلهم إن كان سوى إلقاء البذر والسقي فإن قيل هذا يدل على أن الله هو الزارع فكيف قال تعالى يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ( الفتح 29 ) وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الزرع للزارع ) قلنا قد ثبت من التفسير أن الحرث متصل بالزرع فالحرث أوائل الزرع والزرع أواخر الحرث فيجوز إطلاق أحدهما على الآخر لكن قوله يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بدلاً عن قوله يعجب الحراث يدل على أن الحارث إذا كان هو المبتدي فربما يتعجب بما يترتب على فعله من خروج النبات والزارع لما كان هو المنتهى ولا يعجبه إلا شيء عظيم فقال يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ الذين تعودوا أخذ الحراث فما ظنك بإعجابه الحراث وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الزرع للزارع ) فيه فائدة لأنه لو قال للحارث فمن ابتدأ بعمل الزرع وأتى بكراب الأرض وتسويتها يصير حارثاً وذلك قبل إلقاء البذرة لزرع لمن أتى بالأمر المتأخر وهو إلقاء البذر أي من له البذر على مذهب أبي حنيفة(29/157)
رحمة الله تعالى عليه وهذا أظهر لأنه بمجرد الإلقاء في الأرض يجعل الزرع للملقى سواء كان مالكاً أو غاصباً
ثم قال تعالى
لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
وهو تدريج في الإثبات وبيانه هو أنه لما قال تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرِعُونَ لَوْ ( الواقعة 64 ) لم يبعد من معاند أن يقول نحن نحرث وهو بنفسه يصير زرعاً لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا فقال تعالى ولو سلم لكم هذا الباطل هذا الباطل فما تقولون في سلامته عن الآفات التي تصيبه فيفسد قبل اشتداد الحب وقبل انعقاده أو قبل اشتداد الحب وقبل ظهور الحب فيه فهل تحفظونه منها أو تدفعونها عنه أو هذا الزرع بنفسه يدفع عن نفسه تلك الآفات كما تقولون إنه بنفسه ينبت ولا يشك أحد أن دفع الآفات بإذن الله تعالى وحفظه عنها بفضل الله وعلى هذا أعاده ليذكر أموراً مرتبة بعضها على بعض فيكون الأمر الأول للمهتدين والثاني للظالمين والثالث للمعاندين الضالين فيذكر الأمر الذي لا شك فيه في آخر الأمر إقامة للحجة على الضال المعاند
وفيه سؤال وهو أنه تعالى ههنا قال لَجَعَلْنَاهُ بلام الجواب وقال في الماء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ( الواقعة 7 ) من غير لام فما الفرق بينهما نقول ذكر الزمخشري عنه جوابين أحدهما قوله تعالى لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً كان قريب الذكر فاستغنى بذكر اللام فيه عن ذكرها ثانياً وهذا ضعيف لأن وقوله تعالى لَّوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ( يس 66 ) مع قوله لَّوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ ( يس 67 ) أقرب من قوله لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً و جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ( الواقعة 30 ) اللهم إلا أن نقول هناك أحدهما قريب من الآخر ذكراً لا معنى لأن الطمس لا يلزمه المسخ ولا بالعكس والمأكول معه المشروب في الدهر فالأمران تقاربا لفظاً ومعنى والجواب الثاني أن اللام يفيد نوع تأكيد فذكر اللام في المأكول ليعلم أن أمر المأكول أهم من أمر المشروب وأن نعمته أعظم وما ذكرنا أيضاً وارد عليه لأن أمر الطمس أهون من أمر المسخ وأدخل فيهما اللام وههنا جواب آخر يبين بتقديم بحث عن فائدة اللام في جواب لو فنقول حرف الشرط آذا دخل على الجملة يخرجها عن كونها جملة في المعنى فاحتاجوا إلى علامة تدل على المعنى فأتوا بالجزم في المستقبل لأن الشرط يقتضي جزاء وفيه تطويل فالجزم الذي هو سكون أليق بالموضع وبينه وبين المعنى أيضاً مناسبة لكن كلمة لو مختصة بالدخول على الماضي معنى فإنها إذا دخلت على المستقبل جعلته ماضياً والتحقيق فيه أن الجملة الشرطية لا تخرج عن أقسام فإنها إذا ذكرت لا بد من أن يكون الشرط معلوم الوقوع لأن الشرط إن كان معلوم الوقوع فالجزاء لازم الوقوع فجعل الكلام جملة شرطية عدول عن جملة إسنادية إلى جملة تعليقية وهو تطويل من غير فائدة فقول القائل آتيك إن طلعت الشمس تطويل والأولى أن يقول آتيك جزماً من غير شرط فإذا علم هذا فحال الشرط لا يخلو من أن يكون معلوم العدم أو مشكوكاً فيه فالشرط إذا وقع على قسمين فلا بد لهما من لفظين وهما إن ولو واختصت إن بالشكوك ولو بمعلوم لأمر بيناه في موضع آخر لكن ما علم عدم يكون الآخر فقد أثبت منه فهو ماض أو في حكمه لأن العلم بالأمور يكون بعد وقوعها وما يشك فيه فهو مستقبل أو في معناه لأننا نشك في الأمور المستقبلة أنها تكون أولاً تكون والماضي خرج عن التردد(29/158)
وإذا ثبت هذا فنقول لما دخل لو على الماضي وما اختلف آخر بالعامل لم يتبين فيه إعراب وإن لما دخل على المستقبل بان فيه الإعراب ثم إن الجزاء على حسب الشرط وكان الجزاء في باب لو ماضياً فلم يتبين فيه الحال ولا سكون فيضاف له حرف يدل على خروجه عن كونه جملة ودخوله في كونه جزء جملة إذا ثبت هذا فنقول عندما يكون الجزاء ظاهراً يستغني عن الحرف الصارف لكن كون الماء المذكور في الآية وهو الماء المشروب المنزل من المزن أجاجاً ليس أمراً واقعاً يظن أنه خبر مستقل ويقويه أنه تعالى يقول جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً على طريقة الإخبار والحرث والزرع كثيراً ما وقع كونه حطاماً فلو قال جعلناه حطاماً كان يتوهم منه الإخبار فقال هناك لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ ليخرجه عما هو صالح له في الواقع وهو الحطامية وقال الماء المنزل المشروب من المزن جعلناه أجاجاً لأنه لا يتوهم ذلك فاستغنى عن اللام وفيه لطيفة أخرى نحوية وهي أن في القرآن إسقاط اللام عن جزاء لو حيث كانت لو داخلة على مستقبل لفظاً وأما إذا كان ما دخل عليه لو ماضياً وكان الجزاء موجباً فلا كما في قوله تعالى وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا ( السجدة 13 ) لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ( إبراهيم 21 ) وذلك لأن لو إذا دخلت على فعل مستقل كما في قوله لَّوْ نَشَاء فقد أخرجت عن حيزها لفظاً لأن لو للماضي فإذا خرج الشرط عن حيزه جاز في الجزاء الإخراج عن حيزه لفظاً وإسقاط اللام عنه لأن إن كان حيزها المستقبل وتدخل على المستقبل فإذا جعل ما دخل إن عليه ماضياً كقولك إن جئتني جاز في الخبر الإخراج عن حيزه وترك الجزم فنقول أكرمك بالرفع وأكرمك بالجزم كما تقول في لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ وفي لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ ( الواقعة 70 ) وما ذكرناه من الجواب في قوله أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ ( يس 47 ) إذا نظرت إليه تجده مستقيماً وحيث لم يقل لو شاء الله أطعمه علم أن الآخر جزاء ولم يبق فيه توهم لأنه إما أن يكون عند المتكلم وذلك غير جائز لأن المتكلم عالم بحقيقة كلامه وإما أن يكون عندهم وذلك غير جائز ههنا لأن قولهم لو شاء الله أطعمه رد على المؤمنين في زعمهم يعني أنتم تقولون إن الله لو شاء فعل فلا نطعم من لو شاء الله أطعمه على زعمكم فلما كان أطعمه جزاءاً معلوماً عند السامع والمتكلم استغنى عن اللام والحطام كالفتات والجذاذ وهو من الحطم كما أن الفتات والجذاذ من الفت والجذ والفعال في أكثر الأمر يدل على مكروه أو منكر أما في المعاني فكالسبات والفواق والزكام والدوار والصداع لأمراض وآفات في الناس والنبات وأما في الأعيان فكالجذاذ والحطام والفتات وكذا إذا لحقته الهاء كالبرادة والسحالة وفيه زيادة بيان وهو أن ضم الفاء من الكلمة يدل على ما ذكرنا في الأفعال فإنا نقول فعل لما لم يسم فاعله وكان السبب أن أوائل الكلم لما لم يكن فيه التخفيف المطلق وهو السكون لم يثبت التثقيل المطلق وهو الضم فإذا ثبت فهو لعارض إن علم كما ذكرنا فلا كلام وإن لم يعلم كما في برد وقفل فالأمر خفي يطول ذكره والوضع يدل عليه في الثلاثي وقوله تعالى إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ وفيه وجهان أما على الوجه الأول كأنما هو كلام مقدر عنهم كأنه يقول وحينئذ يحق أن تقولوا إنا لمعذبون دائمون في العذاب وأما على الوجه الثاني فيقولون إنا لمعذبون ومحرمون عن إعادة الزرع مرة أخرى يقولون إنا لمعذبون بالجوع بهلاك الزرع ومحرومون عن دفعه بغير الزرع لفوات الماء والوجه الثاني في الغرم إنا لمكرهون بالغرامة من غرم الرجل وأصل الغرم والغرام لزوم المكروه(29/159)
ثم قال تعالى
أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ
خصه بالذكر لأنه ألطف وأنظف أو تذكيراً لهم بالإنعام عليهم والمزن السحاب الثقيل بالماء لا بغيره من أنواع العذاب يدل على ثقله قلب اللفظ وعلى مدافعة الأمر وهو التزم في بعض اللغات السحاب الذي مس الأرض وقد تقدم تفسير الأجاج أنه الماء المر من شدة الملوحة والظاهر أنه هو الحار من أجيج النار كالحطام من الحطيم وقد ذكرناه في قوله تعالى هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ( الفرقان 53 ) ذكر في الماء الطيب صفتين إحداهما عائدة إلى طعمه والأخرى عائدة إلى كيفية ملمسه وهي البرودة واللطافة وفي الماء الآخر أيضاً صفتين إحداهما عائدة إلى طعمه والأخرى عائدة إلى كيفية لمسه وهي الحرارة ثم قال تعالى فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ لم يقل عند ذكر الطعام الشكر وذلك لوجهين أحدهما أنه لم يذكر في المأكول أكلهم فلما لم يقل تأكلون لم يقل تشكرون وقال في الماء تَشْرَبُونَ فقال تَشْكُرُونَ والثاني أن في المأكول قال تَحْرُثُونَ ( الواقعة 63 ) فأثبت لهم سعياً فلم يقل تشكرون وقال في الماء أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ لا عمل لكم فيه أصلاً فهو محض النعمة فقال فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ وفيه وجه ثالث وهو الأحسن أن يقال النعمة لا تتم إلا عند الأكل والشرب ألا ترى أن في البراري التي لا يوجد فيها الماء لا يأكل الإنسان شيئاً مخافة العطش فلما ذكر المأكول أولاً وأتمه بذكر المشروب ثانياً قال فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ على هذه النعمة التامة
ثم قال تعالى
أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ
وفي شجرة النار وجوه أحدها أنها الشجرة التي تورى النار منها بالزند والزندة كالمرخ وثانيها الشجرة التي تصلح لإيقاد النار كالحطب فإنها لو لم تكن لم يسهل إيقاد النار لأن النار لا تتعلق بكل شيء كما تتعلق بالحطب وثالثها أصول شعلها ووقود شجرتها ولولا كونها ذات شعل لما صلحت لإنضاج الأشياء والباقي ظاهر
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَة ً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ
في قوله تَذْكِرَة ٌ وجهان أحدهما تذكرة لنار القيامة فيجب على العاقل أن يخشى الله تعالى وعذابه إذا رأى النار الموقدة وثانيهما تذكرة بصحة البعث لأن من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر لا يعجز عن إيداع الحرارة الغريزية في بدن الميت وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الاْخْضَرِ نَاراً ( يس 80 ) والمقوى هو الذي(29/160)
أوقده فقواه وزاده وفيه لطيفة وهو أنه تعالى قدم كونها تذكرة على كونها متاعاً ليعلم أن الفائدة الأخروية أتم وبالذكر أهم
ثم قال تعالى
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في وجه تعلقه بما قبله نقول لما ذكر الله تعالى حال المكذبين بالحشر والوحدانية ذكر الدليل عليهما بالخلق والرزق ولم يفدهم الإيمان قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن وظيفتك أن تكمل في نفسك وهو علمك بربك وعملك لربك فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ( طه 130 ) وفي موضع آخر
المسألة الثانية التسبيح التنزيه عما لا يليق به فما فائدة ذكر الاسم ولم يقل فسبح بربك العظيم فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما هو المشهور وهو أن الاسم مقحم وعلى هذا الجواب فنقول فيه فائدة زيادة التعظيم لأن من عظم عظيماً وبالغ في تعظيمه لم يذكر اسمه إلا وعظمه فلا يذكر اسمه في موضع وضيع ولا على وجه الاتفاق كيفما اتفق وذلك لأن من يعظم شخصاً عند حضوره ربما لا يعظمه عند غيبته فيذكره باسم علمه فإن كان بمحضر منه لا يقول ذلك فإذا عظم عنده لا يذكره في حضوره وغيبته إلا بأوصاف العظمة فإن قيل فعلى هذا فما فائدة الباء وكيف صار ذلك ولم يقل فسبح اسم ربك العظيم أو الرب العظيم نقول قد تقدم مراراً أن الفعل إذا كان تعلقه بالمفعول ظاهراً غاية الظهور لا يتعدى إليه بحرف فلا يقال ضربت بزيد بمعنى ضربت زيداً وإذا كان في غاية الخفاء لا يتعدى إليه إلا بحرف فلا يقال ذهبت زيداً بمعنى ذهبت بزيد وإذا كان بينهما جاز الوجهان فنقول سبحته وسبحت به وشكرته وشكرت له إذا ثبت هذا فنقول لما علق التسبيح بالاسم وكان الاسم مقحماً كان التسبيح في الحقيقة متعلقاً بغيره وهو الرب وكان التعلق خفياً من وجه فجاز ادخال الباء فإن قيل إذا جاز الإسقاط والإثبات فما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) فنقول ههنا تقديم الدليل على العظمة أن يقال الباء في قوله بِاسْمِ غير زائدة وتقريره من وجهين أحدهما أنه لما ذكر الأمور وقال نحن أم أنتم فاعترف الكل بأن الأمور من الله وإذا طولبوا بالوحدانية قالوا نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناماً آلهة في الاسم ونسميها آلهة والذي خلقها وخلق السموات هو الله فنحن ننزهه في الحقيقة فقال فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ وكما أنك أيها العاقل اعترفت بعدم اشتراكهما في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكهما في الاسم ولا تقل لغيره إله فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة وعلى هذا فالخطاب لا يكون مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بل يكون كما يقول الواعظ يا مسكين أفنيت عمرك وما أصلحت عملك ولا يريد أحداً بعينه وتقديره يا أيها المسكين السامع وثانيهما أن يكون المراد بذكر ربك أي إذا قلت وتولوا فسبح ربك بذكر اسمه بين قومك واشتغل بالتبليغ والمعنى اذكره باللسان والقلب وبين وصفه لهم وإن لم يقبلوا فإنك مقبل على شغلك الذي هو التبليغ ولو قال فسبح ربك ما أفاد الذكر لهم وكان ينبىء عن التسبيح بالقلب ولما قال فسبح باسم ربك والاسم هو الذي يذكر لفظاً دل على أنه مأمور بالذكر اللساني وليس له أن يقتصر على الذكر القلبي ويحتمل أن يقال فسبح مبتدئاً باسم ربك العظيم فلا تكون الباء زائدة
المسألة الثالثة كيف يسبح ربنا نقول إما معنى فبأن يعتقد فيه أنه واحد منزه عن الشريك وقادر(29/161)
بريء عن العجز فلا يعجز عن الحشر وإما لفظاً فبأن يقال سبحان الله وسبحان الله العظيم وسبحانه عما يشركون أو ما يقوم مقامه من الكلام الدال على تنزيهه عن الشريك والعجز فإنك إذا سبحته واعتقدت أنه واحد منزه عن كل مالا يجوز في حقيقته لزم أن لا يكون جسماً لأن الجسم فيه أشياء كثيرة وهو واحد حقيقي لا كثرة لذاته ولا يكون عرضاً ولا في مكان وكل مالا يجوز له ينتفي عنه بالتوحيد ولا يكون على شيء ولا في شيء ولا عن شيء وإذا قلت هو قادر ثبت له العلم والإرادة والحياة وغيرها من الصفات وسنذكر ذلك في تفسير سورة الإخلاص إن شاء الله تعالى
المسألة الرابعة ما الفرق بين الْعَظِيمِ وبين الاْعْلَى وهل في ذكر الْعَظِيمِ هنا بدل الاْعْلَى وذكر الاْعْلَى في قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) بدل الْعَظِيمِ فائدة نقول أما الفرق بين العظيم والأعلى فهو أن العظيم يدل على القرب والأعلى يدل على البعد بيانه هو أن ما عظم من الأشياء المدركة بالحس قريب من كل ممكن لأنه لو بعد عنه لخلا عنه موضعه فلو كان فيه أجزاء أخر لكان أعظم مما هو عليه فالعظيم بالنسبة إلى الكل هو الذي يقرب من الكل وأما الصغير إذا قرب من جهة فقد بعد عن أخرى وأما العلي فهو البعيد عن كل شيء لأن ما قرب من شيء من جهة فوق يكون أبعد منه وكان أعلى فالعلي المطلق بالنسبة إلى كل شيء هو الذي في غاية البعد عن كل شيء إذا عرفت هذا فالأشياء المدركة تسبح الله وإذا علمنا من الله معنى سلبياً فصح أن نقول هو أعلى من أن يحيط به إدراكنا وإذا علمنا منه وصفاً ثبوتياً من علم وقدرة يزيد تعظيمه أكثر مما وصل إليه علمنا فنقول هو أعظم وأعلى من أن يحيط به علمنا وقولنا أعظم معناه عظيم لا عظيم مثله ففيه مفهوم سلبي ومفهوم ثبوتي وقوله أعلى معناه هو علي ولا علي مثله والعلي إشارة إلى مفهوم سلبي والأعلى مثله بسبب آخر فالأعلى مستعمل على حقيقته لفظاً ومعنى والأعظم مستعمل على حقيقته لفظاً وفيه معنى سلبي وكأن الأصل في العظيم مفهوم ثبوتي لا سلب فيه فالأعلى أحسن استعمالاً من الأعظم هذا هو الفرق
ثم قال تعالى
فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في الترتيب ووجهه هو أن الله تعالى لما أرسل رسوله الهدى ودين الحق آتاه كل ما ينبغي له وطهره عن كل مالا ينبغي له فآتاه الحكمة وهي البراهين القاطعة واستعمالها على وجوهها والموعظة الحسنة وهي الأمور المفيدة المرققة للقلوب المنورة للصدور والمجادلة التي هي على أحسن الطرق فأتى بها وعجز الكل عن معارضته بشيء ولم يؤمنوا والذي يتلى عليه كل ذلك ولا يؤمن لا يبقى له غير أنه يقول هذا البيان ليس لظهور المدعى بل لقوة ذهن المدعى وقوته على تركيب الأدلة وهو يعلم أنه يغلب بقوة جداله لا بظهور مقاله وربما يقول أحد المناظرين للآخر عند انقطاعه أنت تعلم أن الحق بيدي لكن تستضعفني ولا تنصفني وحينئذ لا يبقى للخصم جواب غير القسم بالأيمان التي لا مخارج عنها أنه غير مكابر وأنه منصف وذلك لأنه لو أتى بدليل آخر لكان له أن يقول وهذا الدليل أيضاً غلبتني فيه بقوتك وقدرتك فكذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما آتاه الله جل وعز ما ينبغي قالوا إنه يريد التفضل علينا وهو يجادلنا فيما يعلم(29/162)
خلافه فلم يبق له إلا أن يقسم فأنزل الله تعالى عليه أنواعاً من القسم بعد الدلائل ولهذا كثرت الأيمان في أوائل التنزيل وفي السبع الأخير خاصة
المسألة الثانية في تعلق الباء نقول إنه لما بين أنه خالق الخلق والرزق وله العظمة بالدليل القاطع ولم يؤمنوا قال لم يبق إلا القسم فأقسم بالله إني لصادق
المسألة الثالثة ما المعنى من قوله فَلاَ أُقْسِمُ مع أنك تقول إنه قسم نقول فيه وجوه منقولة ومعقولة غير مخالفة للنقل أما المنقول فأحدها أن ( لا ) زائدة مثلها في قوله تعالى لّئَلاَّ يَعْلَمَ ( الحديد 29 ) معناه ليعلم ثانيها أصلها لأقسم بلام التأكيد أشبعت فتحتها فصارت لا كما في الوقف ثالثها لا نافية وأصله على مقالتهم والقسم بعدها كأنه قال لا والله لا صحة لقول الكفار أقسم عليه أما المعقول فهو أن كلمة لا هي نافية على معناها غير أن في الكلام مجازاً تركيبياً وتقديره أن نقول لا في النفي هنا كهي في قول القائل لا تسألني عما جرى علي يشير إلى أن ما جرى عليه أعظم من أن يشرح فلا ينبغي أن يسأله فإن غرضه من السؤال لا يحصل ولا يكون غرضه من ذلك النهي إلا بيان عظمة الواقعة ويصير كأنه قال جرى على أمر عظيم ويدل عليه أن السامع يقول له ماذا جرى عليك ولو فهم من حقيقة كلامه النهي عن السؤال لما قال ماذا جرى عليك فيصح منه أن يقول أخطأت حيث منعتك عن السؤال ثم سألتني وكيف لا وكثيراً ما يقول ذلك القائل الذي قال لا تسألني عند سكون صاحبه عن السؤال أو لا تسألني ولا تقول ماذا جرى عليك ولا يكون للسامع أن يقول إنك منعتني عن السؤال كل ذلك تقرر في أفهامهم أن المراد تعظيم الواقعة لا النهي إذا علم هذا فنقول في القسم مثل هذا موجود من أحد وجهين إما لكون الواقعة في غاية الظهور فيقول لا أقسم بأنه على هذا الأمر لأنه أظهر من أن يشهر وأكثر من أن ينكر فيقول لا أقسم ولا يريد به القسم ونفيه وإنما يريد الإعلام بأن الواقعة ظاهرة وإما لكون المقسم به فوق ما يقسم به والمقسم صار يصدق نفسه فيقول لا أقسم يميناً بل ألف يمين ولا أقسم برأس الأمير بل برأس السلطان ويقول لا أقسم بكذا مريداً لكونه في غاية الجزم والثاني يدل عليه أن هذه الصيغة لم ترد في القرآن والمقسم به هو الله تعالى أو صفة من صفاته وإنما جاءت أمور مخلوقة والأول لا يرد عليه إشكال إن قلنا إن المقسم به في جميع المواضع رب الأشياء كما في قوله وَالصَّافَّاتِ ( الصافات 1 ) المراد منه رب الصافات ورب القيامة ورب الشمس إلى غير ذلك فإذاً قوله لاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ أي الأمر أظهر من أن يقسم عليه وأن يتطرق الشك إليه
المسألة الرابعة مواقع النجوم ما هي فنقول فيه وجوه الأول المشارق والمغارب أو المغارب وحدها فإن عندها سقوط النجوم الثاني هي مواضعها في السماء في بروجها ومنازلها الثالث مواقعها في اتباع الشياطين عند المزاحمة الرابع مواقعها يوم القيامة حين تنتثر النجوم وأما مواقع نجوم القرآن فهي قلوب عباده وملائكته ورسله وصالحي المؤمنين أو معانيها وأحكامها التي وردت فيها
المسألة الخامسة هل في اختصاص مواقع النجوم للقسم بها فائدة قلنا نعم فائدة جليلة وبيانها أنا قد ذكرنا أن القسم بمواقعها كما هي قسم كذلك هي من الدلائل وقد بيناه في الذاريات وفي الطور وفي النجم وغيرها فنقول هي هنا أيضاً كذلك وذلك من حيث إن الله تعالى لما ذكر خلق الآدمي من المنى(29/163)
وموته بين بإشارته إلى إيجاد الضدين في الأنفس قدرته واختياره ثم لما ذكر دليلاً من دلائل الأنفس ذكر من دلائل الآفاق أيضاً قدرته واختياره فقال أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ( الواقعة 63 ) أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء ( الواقعة 68 ) إلى غير ذلك وذكر قدرته على زرعه وجعله حطاماً وخلقه الماء فراتاً عذباً وجعله أجاجاً إشارة إلى أن القادر على الضدين مختار ولم يكن ذكر من الدلائل السماوية شيئاً فذكر الدليل السماوي في معرض القسم وقال مواقع النجوم فإنها أيضاً دليل الاختيار لأن كون كل واحد في موضع من السماء دون غيره من المواضع مع استواء المواضع في الحقيقة دليل فاعل مختار فقال بِمَواقِعِ النُّجُومِ ليس إلى البراهين النفسية والآفاقية بالذكر كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) وهذا كقوله تعالى وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ( الذاريات 20 21 ) وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( الذاريات 22 ) حيث ذكر الأنواع الثلاثة كذلك هنا ثم قال تعالى وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ والضمير عائد إلى القسم الذي يتضمنه قوله تعالى فَلاَ أُقْسِمُ فإنه يتضمن ذكر المصدر ولهذا توصف المصادر التي لم تظهر بعد الفعل فيقال ضربته قوياً وفيه مسائل نحوية ومعنوية أما النحوية
فالمسألة الأولى هو أن يقال جواب لَّوْ تَعْلَمُونَ ماذا وربما يقول بعض من لا يعلم إن جوابه ما تقدم وهو فاسد في جميع المواضع لأن جواب الشرط لا يتقدم وذلك لأن عمل الحروف في معمولاتها لا يكون قبل وجودها فلا يقال زيداً إن قام ولا غيره من الحروف والسر فيه أن عمل الحروف مشبه بعمل المعاني ويميز بين الفاعل والمفعول وغيرهما فإذا كان العامل معنى لا موضع له في الحس فيعلم تقدمه وتأخر مدرك بالحس جاز أن يقال قائماً ضربت زيد أو ضرباً شديداً ضربته وأما الحروف فلها تقدم وتأخر مدرك بالحس فلم يمكن بعد علمنا بتأخرها فرض وجودها متقدمة بخلاف المعاني إذا ثبت هذا فنقول عمل حرف الشرط في المعنى إخراج كل واحدة من الجملتين عن كونها جملة مستقلة فإذا قلت من وأن لا يمكن إخراج الجملة الأولى عن كونها جملة بعد وقوعها جمل ليعلم أن حرفها أضعف من عمل المعنى لتوقفه على عمله مع أن المعنى أمكن فرضه متقدماً ومتأخراً وعمل الأفعال عمل معنوي وعمل الحروف عمل مشبه بالمعنى إذا ثبت هذا فنقول في قوله تعالى وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى ( يوسف 24 ) قال بعض الوعاظ متعلق بلولا فلا يكون الهم وقع منه وهو باطل لما ذكرنا وهنا أدخل في البطلان لأن المتقدم لا يصلح جزاء للمتأخر فإن من قال لو تعلمون إن زيداً لقائم لم يأت بالعربية إذا تبين هذا فالقول يحتمل وجهين أحدهما أن يقال الجواب محذوف بالكلية لم يقصد بذلك جواب وإنما يراد نفي ما دخلت عليه لو وكأنه قال وإنه لقسم لا تعلمون وتحقيقه أن لو تذكر لامتناع الشيء لامتناع غيره فلا بد من انتفاء الأول فإدخال لو على تعلمون أفادنا أن علمهم منتف سواء علمنا الجواب أو لم نعلم وهو كقولهم في الفعل المتعدي فلان يعطى ويمنع حيث لا يقصد به مفعول وإنما يراد إثبات القدرة وعلى هذا إن قيل فما فائدة العدول إلى غير الحقيقة وترك قوله إنه لقسم ولا تعلمون فنقول فائدته تأكيد النفي لأن من قال لو تعلمون كان ذلك دعوى منه فإذا طولب وقيل لم قلت إنا لا نعلم يقول لو تعلمون لفعلتم كذا فإذا قال في ابتداء الأمر لا تعلمون كان مريداً للنفي فكأنه قال أقول إنكم لا تعلمون قولاً من غير تعلق بدليل وسبب وثانيهما أن يكون له جواب تقديره لو تعلمون لعظمتموه لكنكم ما عظمتموه فعلم أنكم لا تعلمون إذ لو تعلمون لعظم في أعينكم ولا تعظيم فلا تعلمون(29/164)
المسألة الثانية إن قيل قوله لَّوْ تَعْلَمُونَ هل له مفعول أم لا قلنا على الوجه الأول لا مفعول له كما في قولهم فلان يعطي ويمنع وكأنه قال لا علم لكم ويحتمل أن يقال لا علم لكم بعظم القسم فيكون له مفعول والأول أبلغ وأدخل في الحسن لأنهم لا يعلمون شيئاً أصلاً لأنهم لو علموا لكان أولى الأشياء بالعلم هذه الأمور الظاهرة بالبراهين القاطعة فهو كقوله صُمٌّ بُكْمٌ ( الفرقان 44 ) وقوله كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ وعلى الثاني أيضاً يحتمل وجهين أحدهما لو كان لكم علم بالقسم لعظمتموه وثانيهما لو كان لكم علم بعظمته لعظمتموه
المسألة الثالثة كيف تعلق قوله تعالى لَّوْ تَعْلَمُونَ بما قبله وما بعده فنقول هو كلام اعتراض في أثناء الكلام تقديره وإنه لقسم عظيم لو تعلمون لصدقتم فإن قيل فما فائدة الاعتراض نقول الاهتمام بقطع اعتراض المعترض لأنه لما قال وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ أراد أن يصفه بالعظمة بقوله عظيم والكفار كانوا يجهلون ذلك ويدعون العلم بأمور النجم وكانوا يقولون لو كان كذلك فما باله لا يحصل لنا علم وظن فقال لو تعلمون لحصل لكم القطع وعلى ما ذكرنا الأمر أظهر من هذا وذلك لأنا قلنا إن قوله لاَ أُقْسِمُ معناه الأمر واضح من أن يصدق بيمين والكفار كانوا يقولون أين الظهور ونحن نقطع بعدمه فقال لو تعلمون شيئاً لما كان كذلك والأظهر منه أنا بينا أن كل ما جعله الله قسماً فهو في نفسه دليل على المطلوب وأخرجه مخرج القسم فقوله وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ معناه عند التحقيق وإنه دليل وبرهان قوي لو تعلمون وجهه لاعترفتم بمدلوله وهو التوحيد والقدرة على الحشر وذلك لأن دلالة اختصاص الكواكب بمواضعها في غاية الظهور ولا يلزم الفلاسفة دليل أظهر منه وأما المعنوية
فالمسألة الأولى ما المقسم عليه نقول فيه وجهان الأول القرآن كانوا يجعلونه تارة شعراً وأخرى سحراً وغير ذلك وثانيهما هو التوحيد والحشر وهو أظهر وقوله لَقُرْءانٌ ابتداء كلام وسنبين ذلك
المسألة الثانية ما الفائدة في وصفه بالعظيم في قوله وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ فنقول لما قال فَلاَ أُقْسِمُ وكان معناه لا أقسم بهذا لوضوح المقسم به عليه قال لست تاركاً للقسم بهذا لأنه ليس بقسم أو ليس بقسم عظيم بل هو قسم عظيم ولا أقسم به بل بأعظم منه أقسم لجزمي بالأمر وعلمي بحقيقته
المسألة الثالثة اليمين في أكثر الأمر توصف بالمغلظة والعظم يقال في المقسم حلف فلان بالأيمان العظام ثم تقول في حقه يمين مغلظة لأن آثامها كبيرة وأما في حق الله عز وجل فبالعظيم وذلك هو المناسب لأن معناه هو الذي قرب قوله من كل قلب وملأ الصدر بالرعب لما بينا أن معنى العظيم فيه ذلك كما أن الجسم العظيم هو الذي قرب من أشياء عظيمة وملأ أماكن كثيرة من العظم كذلك العظيم الذي ليس بجسم قرب من أمور كثيرة وملأ صدوراً كثيرة
ثم قال تعالى
إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ
وفيه مسائل(29/165)
المسألة الأولى الضمير في قوله تعالى أَنَّهُ عائد إلى ماذا فنقول فيه وجهان أحدهما إلى معلوم وهو الكلام الذي أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكان معروفاً عند الكل وكان الكفار يقولون إنه شعر وإنه سحر فقال تعالى رداً عليهم إِنَّهُ لَقُرْءانٌ عائد إلى مذكور وهو جميع ما سبق في سورة الواقعة من التوحيد والحشر والدلائل المذكورة عليهما والقسم الذي قال فيه وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ( الواقعة 76 ) وذلك لأنهم قالوا هذا كله كلام محمد ومخترع من عنده فقال إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ
المسألة الثانية القرآن مصدر أو اسم غير مصدر فنقول فيه وجهان أحدهما مصدر أريد به المفعول وهو المقروء ومثله في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) وهذا كما يقال في الجسم العظيم أنظر إلى قدرة الله تعالى أي مقدوره وهو كما في قوله تعالى هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى ( لقمان 11 ) ثانيهما اسم لما يقرأ كالقربان لما يتقرب به والحلوان لما يحلى به فم المكاري أو الكاهن وعلى هذا سنبين فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزكاة يعطى شيئاً أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو يعطى شيئاً دونه ويعطى الجبران أيضاً حيث قال الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى فيقال له هو كالقرآن بمعنى المقروء ويجوز أن يقال لما أخذ جابر أو مجبور أو يقال هو اسم لما يجبر به كالقربان
المسألة الثالثة إذا كان هذا الكلام للرد على المشركين فهم ما كانوا ينكرون كونه مقروءاً فما الفائدة في قوله إِنَّهُ لَقُرْءانٌ نقول فيه وجهان أحدهما أنه إخبار عن الكل وهو قوله قُرْءانَ كَرِيمٌ فهم كانوا ينكرون كونه قرآناً كريماً وهم ما كانوا يقرون به وثانيهما وهو أحسن من الأول أنهم قالوا هو مخترع من عنده وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول إنه مسموع سمعته وتلوته عليكم فما كان القرآن عندهم مقروءاً وما كانوا يقولون إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ القرآن وفرق بين القراءة والإنشاء فلما قال إِنَّهُ لَقُرْءانٌ أثبت كونه مقروءاً على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليقرأ ويتلى فقال تعالى إِنَّهُ لَقُرْءانٌ سماه قرآناً لكثرة ما قرىء ويقرأ إلى الأبد بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة
المسألة الرابعة قوله كَرِيمٌ فيه لطيفة وهي أن الكلام إذا قرىء كثيراً يهون في الأعين والآذان ولهذا ترى من قال شيئاً في مجلس الملوك لا يذكره ثانياً ولو قيل فيه يقال لقائله لم تكرر هذا ثم إنه تعالى لما قال إِنَّهُ لَقُرْءانٌ أي مقروء قرىء ويقرأ قال كَرِيمٌ أي لا يهون بكثرة التلاوة ويبقى أبد الدهر كالكلام الغض والحديث الطري ومن هنا يقع أن وصف القرآن بالحديث مع أنه قديم يستمد من هذا مدداً فهو قديم يسمعه السامعون كأنه كلام الساعة وما قرع سمع الجماعة لأن الملائكة الذين علموه قبل النبي بألوف من السنين إذا سمعوه من أحدنا يتلذذون به التذاذ السامع بكلام جديد لم يذكر له من قبل والكريم اسم جامع لصفات المدح قيل الكريم هو الذي كان طاهر الأصل ظاهر الفضل حتى إن من أصله غير زكي لا يقال له كريم مطلقاً بل يقال له كريم في نفسه ومن يكون زكي الأصل غير زكي النفس لا يقال له كريم إلا مع تقييد فيقال هو كريم الأصل لكنه خسيس في نفسه ثم إن السخي المجرد هو الذي يكثر عطاؤه للناس أو يسهل عطاؤه ويسمى كريماً وإن لم يكن له فضل آخر لا على الحقيقة ولكن ذلك لسبب وهو أن الناس يحبون من يعطيهم ويفرحون بمن يعطى أكثر مما يفرحون بغيره فإذا رأوا زاهداً أو عالماً لا يسمونه كريماً ويؤيد هذا أنهم إذا رأوا واحداً لا يطلب منهم شيئاً يسمونه كريم النفس لمجرد تركه الاستعطاء لما أن الأخذ منهم صعب عليهم وهذا كله في العادة الرديئة وأما في الأصل فيقال الكريم هو(29/166)
الذي استجمع فيه ما ينبغي من طهارة الأصل وظهور الفضل ويدل على هذا أن السخي في معاملته ينبغي أن لا يوجد منه ما يقال بسببه إنه لئيم فالقرآن أيضاً كريم بمعنى طاهر الأصل ظاهر الفضل لفظه فصيح ومعناه صحيح لكن القرآن أيضاً كريم على مفهوم العوام فإن كل من طلب منه شيئاً أعطاه فالفقيه يستدل به ويأخذ منه والحكيم يستمد به ويحتج به والأديب يستفيد منه ويتقوى به والله تعالى وصف القرآن بكونه كريماً وبكونه عزيزاً وبكونه حكيماً فلكونه كريماً كل من أقبل عليه نال منه ما يريده فإن كثيراً من الناس لا يفهم من العلوم شيئاً وإذا اشتغل بالقرآن سهل عليه حفظه وقلما يرى شخص يحفظ كتاباً يقرؤه بحيث لا يغير منه كلمة بكلمة ولا يبدل حرفًا بحرف وجميع القراء يقرأون القرآن من غير توقف ولا تبديل ولكونه عزيزاً أن كل من يعرض عنه لا يبقى معه منه شيء بخلاف سائر الكتب فإن من قرأ كتاباً وحفظه ثم تركه يتعلق بقلبه معناه حتى ينقله صحيحاً والقرآن من تركه لا يبقى معه منه شيء لعزته ولا يثبت عند من لا يلزمه بالحفظ ولكونه حكيماً من اشتغل به وأقبل عليه بالقلب أغناه عن سائر العلوم وقوله تعالى فِى كِتَابِ جعله شيئاً مظروفاً بكتاب فما ذلك نقول فيه وجهان أحدهما المظروف القرآن أي هو قرآن في كتاب كما يقال فلان رجل كريم في بيته لا يشك السامع أن مراد القائل أنه في الدار قاعد ولا يريد به أنه كريم إذا كان في الدار وغير كريم إذا كان خارجاً ولا يشك أيضاً أنه لا يريد به أنه كريم في بيته بل المراد أنه رجل كريم وهو في البيت فكذلك ههنا أن القرآن كريم وهو في كتاب أو المظروف كريم على معنى أنه كريم في كتاب كما يقال فلان رجل كريم في نفسه فيفهم كل أحد أن القائل لم يجعله رجلاً مظروفاً فإن القائل لم يرد أنه رجل في نفسه قاعد أو نائم وإنما أراد به أنه كريم كرمه في نفسه فكذلك قرآن كريم فالقرآن كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كريماً عند الكفار ثانيهما المظروف هو مجموع قوله تعالى ( لقرآن كريم ) أي هو كذا في كتاب كما يقال وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ ( المطففين 19 ) في كتاب الله تعالى والمراد حينئذ أنه في اللوح المحفوظ نعته مكتوب إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ والكل صحيح والأول أبلغ في التعظيم بالمقروء السماوي
المسألة الخامسة ما المراد من الكتاب نقول فيه وجوه الأول وهو الأصح أنه اللوح المحفوظ ويدل عليه قوله تعالى بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 20 21 ) الثاني الكتاب هو المصحف الثالث كتاب من الكتب المنزلة فهو قرآن في التوراة والإنجيل وغيرهما فإن قيل كيف سمي الكتاب كتاباً والكتاب فعال وهو إذا كان للواحد فهو إما مصدر كالحساب والقيام وغيرهما أو اسم لما يكتب كاللباس واللثام وغيرهما فكيفما كان فالقرآن لا يكون في كتاب بمعنى المصدر ولا يكون في مكتوب وإنما يكون مكتوباً في لوح أو ورق فالمكتوب لا يكون في الكتاب إنما يكون في القرطاس نقول ما ذكرت من الموازين يدل على أن الكتاب ليس المكتوب ولا هو المكتوب فيه أو المكتوب عليه فإن اللثام ما يلثم به والصوان ما يصان فيه الثوب لكن اللوح لما لم يكن إلا الذي يكتب فيه صح تسميته كتاباً
المسألة السادسة المكتوب هو المستور قال الله تعالى كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ( الواقعة 23 ) قال بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ( الصمد 24 ) فإن كان المراد من الكتاب اللوح فهو ليس بمستور وإنما الشيء فيه منشور وإن كان المراد هو المصحف فعدم كونه مكتوباً مستوراً فكيف الجواب عنه فنقول المكنون المحفوظ إذا كان غير عزيز يحفظ بالعين وهو ظاهر للناس فإذا كان شريفاً عزيزاً لا يكتفي بالصون والحفظ بالعين بل يستر(29/167)
عن العيون ثم كلما تزداد عزته يزداد ستره فتارة يكون مخزوناً ثم يجعل مدفوناً فالستر صار كاللازم للصون البالغ فقال مَّكْنُونٌ أي محفوظ غاية الحفظ فذكر اللام وأراد الملزوم وهو باب من الكلام الفصيح تقول مثلاً فلان كبريت أحمر أي قليل الوجود والجواب الثاني إن اللوح المحفوظ مستور عن العين لا يطلع عليه إلا ملائكة مخصوصون ولا ينظر إليه إلا قوم مطهرون وأما القرآن فهو مكتوب مستور أبد الدهر عن أعين المبدلين مصون عن أيدي المحرفين فإن قيل فما فائدة كونه فِى كِتَابِ وكل مقروء في كتاب نقول هو لتأكيد الرد على الكفار لأنهم كانوا يقولون إنه مخترع من عنده مفترى فلما قال مقروء عليه اندفع كلامهم ثم إنهم قالوا إن كان مقروءاً عليه فهو كلام الجن فقال فِى كِتَابِ أي لم ينزل به عليه الملك إلا بعدما أخذه من كتاب فهو ليس بكلام الملائكة فضلاً أن يكون كلام الجن وأما إذا قلنا إذا كان كريماً فهو في كتاب ففائدته ظاهرة وأما فائدة كونه فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ فيكون رداً على من قال إنه أساطير الأولين في كتب ظاهرة أي فلم لا يطالعها الكفار ولم لا يطلعون عليه لا بل هو فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ فإذا بين فيما ذكرنا أن وصفه بكونه قرآناً صار رداً على من قال يذكره من عنده وقوله فِى كِتَابِ رد على من قال يتلوه عليه الجن حيث اعترف بكونه مقروءاً ونازع في شيء آخر وقوله مَّكْنُونٌ رد على من قال إنه مقروء في كتاب لكنه من أساطير الأولين
المسألة السابعة لاَّ يَمَسُّهُ الضمير عائد إلى الكتاب على الصحيح ويحتمل أن يقال هو عائد إلى ما عاد إليه المضمر من قوله أَنَّهُ ومعناه لا يمس القرآن إلا المطهرون والصيغة إخبار لكن الخلاف في أنه هل هو بمعنى النهي كما أن قوله تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ( البقرة 228 ) إخبار بمعنى الأمر فمن قال المراد من الكتاب اللوح المحفوظ وهو الأصح على ما بينا قال هو إخبار معنى كما هو إخبار لفظاً إذا قلنا إن المضمر في يَمَسُّهُ للكتاب ومن قال المراد المصحف اختلف في قوله وفيه وجه ضعيف نقله ابن عطية أنه نهي لفظاً ومعنى وجلبت إليه ضمة الهاء لا للإعراب ولا وجه له
المسألة الثامنة إذا كان الأصح أن المراد من الكتاب اللوح المحفوظ فالصحيح أن الضمير في لاَّ يَمَسُّهُ للكتاب فكيف يصح قول الشافعي رحمة الله تعالى عليه لا يجوز مس المصحف للمحدث نقول الظاهر أنه ما أخذه من صريح الآية ولعله أخذه من السنة فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى عمرو بن حزم ( لا يمس القرآن من هو على غير طهر ) أو أخذه من الآية على طريق الاستنباط وقال إن المس يطهر صفة من الصفات الدالة على التعظيم والمس بغير طهور نوع إهانة في المعنى وذلك لأن الأضداد ينبغي أن تقابل بالأضداد فالمس بالمطهر في مقابلة المس على غير طهر وترك المس خروج عن كل واحدة منهما فكذلك الإكرام في مقابلة الإهانة وهناك شيء لا إكرام ولا إهانة فنقول إن من لا يمس المصحف لا يكون مكرماً ولا مهيناً وبترك المس خرج عن الضدين ففي المس عن الطهر التعظيم وفي المس على الحدث الإهانة فلا تجوز وهو معنى دقيق يليق بالشافعي رحمه الله ومن يقرب منه في الدرجة
ثم إن ههنا لطيفة فقهية لاحت لهذا الضعيف في حال تفكره في تفسير هذه الآية فأراد تقييدها هنا فإنها من فضل الله فيجب علي إكرامها بالتقييد بالكتاب وهي أن الشافعي رحمه الله منع المحدث والجنب من مس المصحف وجعلهما غير مطهرين ثم منع الجنب عن قراءة القرآن ولم يمنع المحدث وهو استنباط منه(29/168)
من كلام الله تعالى وذلك لأن الله تعالى منعه عن المسجد بصريح قوله وَلاَ جُنُباً ( النساء 43 ) فدل ذلك على أنه ليس أهلاً للذكر لأنه لو كان أهلاً للذكر لما منعه من دخول المسجد لأنه تعالى أذن لأهل الذكر في الدخول بقوله تعالى فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ( النور 36 ) الآية والمأذون في الذكر في المسجد مأذون في دخول المسجد ضرورة فلو كان الجنب أهلاً للذكر لما كان ممنوعاً عن دخول المسجد والمكث فيه وأنه ممنوع عنهما وعن أحدهما وأما المحدث فعلم أنه غير ممنوع عن دخول المسجد فإن من الصحابة من كان يدخل المسجد وجوز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نوم القوم في المسجد وليس النوم حدثاً إذ النوم الخاص يلزمه الحكم بالحدث على اختلاف بين الأئمة ومالم يكن ممنوعاً من دخول المسجد لم يثبت كونه غير أهل للذكر فجاز له القراءة فإن قيل وكان ينبغي أن لا يجوز للجنب أن يسبح ويستغفر لأنه ذكر نقول القرآن هو الذكر المطلق قال الله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وقال الله تعالى ص وَالْقُرْءانِ ذِى ( ص 1 ) وقوله يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مع أنا نعلم أن المسجد يسمى مسجداً ومسجد القوم محل السجود والمراد منه الصلاة والذكر الواجب في الصلاة هو القرآن فالقرآن مفهوم من قوله يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ومن حيث المعقول هو أن غير القرآن ربما يذكر مريداً به معناه فيكون كلاماً غير ذكراً فإن من قال أستغفر الله أخبر عن نفسه بأمر ومن قال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كذلك أخبر عن أمر كائن بخلاف من قال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الصمد 1 ) فإنه ليس بمتكلم به بل هو قائل له غير آمر لغيره بالقول فالقرآن هو الذكر الذي لا يكون إلا على قصد الذكر لا على قصد الكلام فهو المطلق وغيره قد يكون ذكراً وقد لا يكون فإن قيل فإذا قال ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ( الحجر 46 ) وأراد الإخبار ينبغي أن لا يكون قرآناً وذكراً نقول هو في نفسه قرآن ومن ذكره على قصد الإخبار وأراد الأمر والإذن في الدخول يخرج عن كونه قارئاً للقرآن وإن كان لا يخرج عن كونه قرآناً ولهذا نقول نحن ببطلان صلاته ولو كان قارئاً لما بطلت وهذا جواب فيه لطف ينبغي أن يتنبه له المطالع لهذا الكتاب وذلك من حيث إني فرقت بين أن يقال ليس قول القائل ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ على قصد الإذن قرآناً وبين قوله ليس القائل ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ على غير قصد بقارىء للقرآن وأما الجواب من حيث المعقول فهو أن العبادة على منافاة الشهوة والشهوة إما شهوة البطن وإما شهوة شهوة البطن وإما شهوة الفرج في أكثر الأمر فإن أحداً لا يخلو عنهما وإن لم يشته شيئاً آخر من المأكول والمشروب والمنكوح لكن شهوة البطن قد لا تبقى شهوة بل تصير حاجة عند الجوع وضرورة عند الخوف ولهذا قال تعالى وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ ( الواقعة 21 ) أي لا يكون لحاجة ولا ضرورة بل لمجرد الشهوة وقد بيناه في هذه السورة وأما شهوة الفرج فلا تخرج عن كونها شهوة وإن خرجت تكون في محل الحاجة لا الضرورة فلا يعلم أن شهوة الفرج ليست شهوة محضة والعبادة فيها منضمة للشهوة فلم تخرج شهوة الفرج عن كونها عبادة بدنية قط بل حكم الشارع ببطلان الحج به وبطلان الصوم والصلاة وأما قضاء شهوة البطن فلما لم يكن شهوة مجردة بطل به الصلاة والصوم دون الحج وربما لم تبطل به الصلاة أيضاً إذا ثبت هذا فنقول خروج الخارج دليل قضاء الشهوة البطنية وخروج المني دليل قضاء الشهوة الفرجية فواجب بهما تطهير النفس لكن الظاهر والباطن متحاذيان فأمر الله تعالى بتطهير الظاهر عند الحدث والإنزال لموافقه الباطن والإنسان إذا كان له بصيرة وينظر في تطهير باطنه عند الاغتسال للجنابة فإنه يجد خفة ورغبة في الصلاة والذكر وهنا تتمة لهذه اللطيفة وهي أن قائلاً لو قال لو صح قولك للزم أن يجب الوضوء بالأكل كما يجب(29/169)
بالحدث لأن الأكل قضاء الشهوة وهذا كما أن الاغتسال لما وجب بالإنزال لكونه دليل قضاء الشهوة وكذا بالإيلاج لكونه قضاء بالإيلاج فكذلك الإحداث والأكل فنقول ههنا سر مكنون وهو ما بيناه أن الأكل قد يكون لحاجة وضرورة فنقول الأكل لا يعلم كونه للشهوة إلا بعلامة فإذا أحدث علم أنه أكل ولا يعلم كونه للشهوة وأما الإيلاج فلا يكون للحاجة ولا يكون للضرورة فهو شهوة كيفما كان فناط الشارع إيجاب التطهير بدليلين أحدهما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنما الماء من الماء ) فإن الإنزال كالإحداث وكما أن الحدث هو الخارج وهو أصل في إيجاب الوضوء كذلك ينبغي أن يكون الإنزال الذي هو الخروج هو الأصل في إيجاب الغسل فإن عنده يتبين قضاء الحاجة والشهوة فإن الإنسان بعد الإنزال لا يشتهي الجماع في الظاهر وثانيهما ما روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) الوضوء من أكل ما مسته النار فإن ذلك دليل قضاء الشهوة كما أن خروج الحدث دليله وذلك لأن المضطر لا يصبر إلى أن يستوي الطعام بالنار بل يأكل كيفما كان فأكل الشيء بعد الطبخ دليل على أنه قاض به الشهوة لا دافع به الضرورة ونعود إلى الجواب عن السؤال ونقول إذا تبين هذا فالشافعي رضي الله عنه قضى بأن شهوة الفرج شهوة محضة فلا تجامع العبادة الجنابة فلا ينبغي أن يقرأ الجنب القرآن والمحدث يجوز له أن يقرأ لأن الحدث ليس يكون عن شهوة محضة
المسألة التاسعة قوله إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ هم الملائكة طهرهم الله في أول أمرهم وأبقاهم كذلك طول عمرهم ولو كان المراد نفي الحدث لقال لا يمسه إلا المطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء والهاء والقراءة المشهورة الصحيحة الْمُطَهَّرُونَ من التطهير لا من الإطهار وعلى هذا يتأيد ما ذكرنا من وجه آخر وذلك من حيث إن بعضهم كان يقول هو من السماء ينزل به الجن ويلقيه عليه كما كانوا يقولون في حق الكهنة فإنهم كانوا يقولون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كاهن فقال لا يمسه الجن وإنما يمسه المطهرون الذين طهروا عن الخبث ولا يكونون محلاً للإفساد والسفك فلا يفسدون ولا يسفكون وغيرهم ليس بمطهر على هذا الوجه فيكون هذا رداً على القائلين بكونه مفترياً وبكونه شاعراً وبكونه مجنوناً بمس الجن وبكونه كاهناً وكل ذلك قولهم والكل رد عليهم بما ذكر الله تعالى ههنا من أوصاف كتاب الله العزيز
المسألة العاشرة قوله تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ مصدر والقرآن الذي في كتاب ليس تنزيلاً إنما هو منزل كما قال تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ( الشعراء 193 ) نقول ذكر المصدر وإرادة المفعول كثير كما قلنا في قوله تعالى هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ ( لقمان 11 ) فإن قيل ما فائدة العدول عن الحقيقة إلى المجاز في هذا الموضع فنقول التنزيل والمنزل كلاهما مفعولان ولهما تعلق بالفاعل لكن تعلق الفاعل بالمصدر أكثر وتعلق المفعول عبارة عن الوصف القائم به فنقول هذا في الكلام فإن كلام الله أيضاً وصف قائم بالله عندنا وإنما نقول من حيث الصيغة واللفظ ولك أن تنظر في مثال آخر ليتيسر لك الأمر من غير غلط وخطأ في الاعتقاد فنقول في القدرة والمقدور تعلق القدرة بالفاعل أبلغ من تعلق المقدور فإن القدرة في القادر والمقدور ليس فيه فإذا قال هذا قدرة الله تعالى كان له من العظمة مالا يكون في قوله هذا مقدور الله لأن عظمة الشيء بعظمة الله فإذا جعلت الشيء قائماً بالتعظيم غير مباين عنه كان أعظم وإذا ذكرته بلفظ يقال مثله فيما لا يقوم بالله وهو المفعول به كان دونه فقال تَنزِيلَ ولم يقل منزل ثم إن ههنا بلاغة أخرى وهي أن المفعول قد يذكر ويراد به المصدر على ضد ما ذكرنا كما في قوله مُدْخَلَ صِدْقٍ(29/170)
( الإسراء 80 ) أي دخول صدق أو إدخال صدق وقال تعالى كُلَّ مُمَزَّقٍ ( سبأ 7 ) أي تمزيق فالممزق بمعنى التمزيق كالمنزل بمعنى التنزيل وعلى العكس سواء وهذه البلاغة هي أن الفعل لا يرى والمفعول به يصير مرئياً والمرئي أقوى في العلم فيقال مزقهم تمزيقاً وهو فعل معلوم لكل أحد علماً بيناً يبلغ درجة الرؤية ويصير التمزق هنا كما صار الممزق ثابتاً مرئياً والكلام يختلف بمواضع الكلام ويستخرج الموفق بتوفيق الله وقوله مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ أيضاً لتعظيم القرآن لأن الكلام يعظم بعظمة المتكلم ولهذا يقال لرسول الملك هذا كلام الملك أو كلامك وهذا كلام الملك الأعظم أو كلام الملك الذي دونه إذا كان الرسول رسول ملوك فيعظم الكلام بقدر عظمة المتكلم فإذا قال مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ تبين منه عظمة لا عظمة مثلها وقد بينا تفسير العالم وما فيه من اللطائف وقوله تَنزِيلَ رد على طائفة أخرى وهم الذين يقولون أَنَّهُ فِى كِتَابِ و لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ وهم الملائكة لكن الملك يأخذ ويعلم الناس من عنده ولا يكون من الله تعالى وذلك أن طائفة من الروافض يقولون إن جبرائيل أنزل على علي فنزل على محمد فقال تعالى هو من الله ليس باختيار الملك أيضاً وعند هذا تبين الحق فعاد إلى توبيخ الكفار
ثم قال تعالى
أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ( هذا ) إشارة إلى ماذا فنقول المشهور أنه إشارة إلى القرآن وإطلاق الحديث في القرآن على الكلام القديم كثير بمعنى كونه اسماً لا وصفاً فإن الحديث اسم لما يتحدث به ووصف يوصف به ما يتجدد فيقال أمر حادث ورسم حديث أي جديد ويقال أعجبني حديث فلان وكلامه وقد بينا أن القرآن قديم له لذة الكلام الجديد والحديث الذي لم يسمع الوجه الثاني أنه إشارة إلى ما تحدثوا به من قبل في قوله تعالى وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءابَاؤُنَا الاْوَّلُونَ ( الواقعة 47 48 ) وذلك لأن الكلام مستقل منتظم فإنه تعالى رد عليهم ذلك بقوله تعالى قُلْ إِنَّ الاْوَّلِينَ وَالاْخِرِينَ ( الواقعة 49 ) وذكر الدليل عليهم بقوله نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ ( الواقعة 57 ) وبقوله أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ ( الواقعة 58 ) أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ( الواقعة 63 ) وأقسم بعد إقامة الدلائل بقوله فَلاَ أُقْسِمُ ( الواقعة 75 ) وبين أن ذلك كله إخبار من الله بقوله إِنَّهُ لَقُرْءانٌ ( الواقعة 77 ) ثم عاد إلى كلامهم وقال أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ الذي تتحدثون به أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ لأصحابكم تعلمون خلافه وتقولونه أم أنتم به جازمون وعلى الإصرار عازمون وسنبين وجهه بتفسير المدهن وفيه وجهان أحدهما أن المدهن المراد به المكذب قال الزجاج معناه أفبالقرآن أنتم تكذبون والتحقيق فيه أن الإدهان تليين الكلام لاستمالة السامع من غير اعتقاد صحة الكلام من المتكلم كما أن العدو إذا عجز عن عدوه يقول له أنا داع لك ومثن عليك مداهنة وهو كاذب فصار استعمال المدهن في المكذب استعمالاً ثانياً وهذا إذا قلنا إن الحديث هو القرآن والوجه الثاني المدهن هو الذي يلين في الكلام ويوافق باللسان وهو مصر على الخلاف فقال أَنتُمْ فمنهم من يقول إن النبي كاذب وإن الحشر محال وذلك لما هم عليه من حب الرياسة وتخافون أنكم إن صدقتم ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم(29/171)
أنكم تكذبون الرسل والأول عليه أكثر المفسرين لكن الثاني مطابق لصريح اللفظ فإن الحديث بكلامهم أولى وهو عبارة عن قولهم أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( الواقعة 47 ) والمدهن يبقى على حقيقته فإنهم ما كانوا مدهنين بالقرآن وقول الزجاج مكذبون جاء بعده صريحاً وأما قوله وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ففيه وجوه الأول تجعلون شكر النعم أنكم تقولون مطرنا بنوء كذا وهذا عليه أكثر المفسرين الثاني تجعلون معاشكم وكسبكم تكذيب محمد يقال فلان قطع الطريق معاشه والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق يقال للمأكول رزق كما يقال للمقدور قدرة والمخلوق خلق وعلى هذا فالتكذيب مصدر قصد به ما كانوا يحصلون به مقاصدهم وأما قوله تُكَذّبُونَ فعلى الأول المراد تكذيبهم بما قال الله تعالى وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وغير ذلك وعلى الثاني المراد جميع ما صدر منهم من التكذيب وهو أقرب إلى اللفظ
ثم قال تعالى
فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد من كلمة لَوْلاَ معنى هلا من كلمات التحضيض وهي أربع كلمات لولا ولوما وهلا وألا ويمكن أن يقال أصل الكلمات لم لا على السؤال كما يقول القائل إن كنت صادقاً فلم لا يظهر صدقك ثم إنما قلنا الأصل لم لا لكونه استفهاماً أشبه قولنا هلا ثم إن الاستفهام تارة يكون عن وجود شيء وأخرى عن سبب وجوده فيقال هل جاء زيد ولم جاء والاستفهام بهل قبل الاستفهام بلم ثم إن الاستفهام قد يستعمل للإنكار وهو كثير ومنه قوله تعالى ههنا أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ ( الواقعة 81 ) وقوله أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ ( الصافات 125 ) وقوله تعالى أَءفْكاً ءالِهَة ً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ( الصافات 86 ) ونظائرها كثيرة وقد ذكرنا لك الحكمة فيه وهي أن النافي والناهي لا يأمر أن يكذب المخاطب فعرض بالنفي لئلا يحتاج إلى بيان النفي إذا ثبت هذا فالاستفهام ( بهل ) لإنكار الفعل والاستفهام ( بلم ) لإنكار سببه وبيان ذلك أن من قال لم فعلت كذا يشير إلى أنه لا سبب للفعل ويقول كان الفعل وقع من غير سبب الوقوع وهو غير جائز وإذا قال هل فعلت ينكر نفس الفعل لا الفعل من غير سبب وكأنه في الأول يقول لو وجد للفعل سبب لكان فعله أليق وفي الثاني يقول الفعل غير لائق ولو وجد له سبب
المسألة الثانية إن كل واحد منهما يقع في صدر الكلام ويستدعي كلاماً مركباً من كلامين في الأصل أما في ( هل ) فلأن أصلها أنك تستعملها في جملتين فتقول هل جاء زيد أو ما جاء لكنك ربما تحذف أحديهما وأما في ( لو ) فإنك تقول لو كان كذا لكان كذا وربما تحذف الجزاء كما ذكرنا في قوله تعالى لَّوْ تَعْلَمُونَ ( الواقعة 76 ) لأنه يشير بلو إلى أن المنفي له دليل فإذا قال القائل لو كنتم تعلمون وقيل له لم لا يعلمون قال إنهم لو يعلمون لفعلوا كذا فدليله مستحضر إن طولب به بينه وإذا ثبت أن النفي بلو والنفي بهل أبلغ من النفي بلا والنفي بقوله لم وإن كان بينهما اشتراك معنى ولفظاً وحكماً وصارت كلمات التحضيض وهي لو ما ولولا وهلا وألا كما تقول لم لا فإذن قول القائل هل تفعل وأنت عنه مستغن(29/172)
كقوله لم تفعل وهو قبي وقوله وهلا تفعل وأنت إليه محتاج وألا تفعل وأنت إليه محتاج وقوله لولا ولوما كقوله لم لا تفعل ولم لا فعلت فقد وجد في ألا زيادة نص لأن نقل اللفظ لا يخلو من نص كما أن المعنى صار فيه زيادة ما على ما في الأصل كما بيناه وقوله تعالى فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أي لم لا يقولون عند الموت وهو وقت ظهور الأمور وزمان اتفاق الكلمات ولو كان ما يقولونه حقاً ظاهراً كما يزعمون لكان الواجب أن يشركوا عند النزع وهذا إشارة إلى أن كل أحد يؤمن عند الموت لكن لم يقبل إيمان من لم يؤمن قبله فإن قيل ما سمع منهم الاعتراف وقت النزع بل يقولون نحن نكذب الرسل أيضاً وقت بلوغ النفس إلى الحلقوم ونموت عليه فنقول هذه الآية بعينها إشارة وبشارة أما الإشارة فإلى الكفار وأما البشارة فللرسل أما الإشارة وهي أن الله تعالى ذكر للكفار حالة لا يمكنهم إنكارها وهي حالة الموت فإنهم وإن كفروا بالحشر وهو الحياة بعد الموت لكنهم لم ينكروا الموت وهو أظهر من كل ما هو من مثله فلا يشكون في حالة النزع ولا يشكون في أن في ذلك الوقت لا يبقى لهم لسان ينطق ولا إنكار بعمل فتفوتهم قوة الاكتساب لإيمانهم ولا يمكنهم الإتيان بما يجب فيكون ذلك حثاً لهم على تجديد النظر النظر في طلب الحق قبل تلك الحالة وأما البشارة فلأن الرسل لما كذبوا وكذب مرسلهم صعب عليهم فبشروا بأن المكذبين سيرجعون عما يقولون ثم هو إن كان قبل النزع فذلك مقبول وإلا فعند الموت وهو غير نافع والضمير في بَلَغَتِ للنفس أو للحياة أو الروح وقوله وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ تأكيد لبيان الحق أي في ذلك الوقت تصير الأمور مرئية مشاهدة ينظر إليها كل من بلغ إلى تلك الحالة فإن كان ما ذكرتم حقاً كان ينبغي أن يكون في ذلك الوقت وقد ذكرنا التحقيق في حِينَئِذٍ في قوله يَوْمَئِذٍ ( الطور 11 ) في سورة والطور واللفظ والمعنى متطابقان على ما ذكرنا لأنهم كانوا يكذبون بالرسل والحشر وصرح به الله في هذه السورة عنهم حيث قال إنهم وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءذَا مِتْنَا ( الواقعة 46 47 ) وهذا كالتصريح بالتكذيب لأنهم ما كانوا ينكرون أن الله تعالى منزل لكنهم كانوا يجعلون أيضاً الكواكب من المنزلين وأما المضمر فذكره الله تعالى عند قوله أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ ( الواقعة 68 ) ثم قال أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ ( الواقعة 69 ) بالواسطة وبالتفويض على ما هو مذهب المشركين أو مذهب الفلاسفة وأيضاً التفسير المشهور محتاج إلى إضمار تقديره أتجعلون شكر رزقكم وأما جعل الرزق بمعنى المعاش فأقرب يقال فلان رزقه في لسانه ورزق فلان في رجله ويده وأيضاً فقوله تعالى فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ متصل بما قبله لما بينا أن المراد أنكم تكذبون الرسل فلم لا تكذبونهم وقت النزع لقوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( العنكبوت 63 ) فعلم أنهم كذبوا كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كذب المنجمون ورب الكعبة ) ولم يكذبوا وهذا على قراءة من يقرأ تُكَذّبُونَ بالتخفيف وأما المدهن فعلى ما ذكرنا يبقى على الأصل ويوافقه وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( القلم 9 ) فإن المراد هناك ليس تكذب فيكذبون لأنهم أرادوا النفاق لا التكذيب الظاهر
ثم قال تعالى
فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى أكثر المفسرين على أن ( لولا ) في المرة الثانية مكررة وهي بعينها هي التي قال تعالى فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( الواقعة 83 ) ولها جواب واحد وتقديره على ما قاله الزمخشري فلولا ترجعونها إذا(29/173)
بلغت الحلقوم أي إن كنتم غير مدينين وقال بعضهم هو كقوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ( البقرة 38 ) حيث جعل فَلاَ خَوْفٌ جزاء شرطين والظاهر خلاف ما قالوا وهو أن يقال جواب لولا في قوله فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ هو ما يدل عليه ما سبق يعني تكذبون مدة حياتكم جاعلين التكذيب رزقكم ومعاشكم فلولا تكذبون وقت النزع وأنتم في ذلك الوقت تعلمون الأمور وتشاهدونها وأما لولا في المرة الثانية فجوابها تَرْجِعُونَهَا
المسألة الثانية في مَدِينِينَ أقوال منهم من قال المراد مملوكين ومنهم من قال مجزيين وقال الزمخشري من دانه السلطان إذا ساسه ويحتمل أن يقال المراد غير مقيمين من مدن إذا أقام هو حينئذ فعيل ومنه المدينة وجمعها مدائن من غير إظهار الياء ولو كانت مفعلة لكان جمعها مداين كمعايش بإثبات الياء ووجهه أن يقال كان قوم ينكرون العذاب الدائم وقوم ينكرون العذاب ومن اعترف به كان ينكر دوامه ومثله قوله تعالى لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) قيل إن كنتم على ما تقولون لا تبقون في العذاب الدائم فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا إن لم تكن الآخرة دار الإقامة وأما على قوله ( مجزيين ) فالتفسير مثل هذا كأنه قال ستصدقون وقت النزع رسل الله في الحشر فإن كنتم بعد ذلك غير مجزيين فلم لا ترجعون أنفسكم إلى دنياكم فإن التعويق للجزاء لا غير ولولا الجزاء لكنتم مختارين كما كنت في دنياكم التي ليست دار الجزاء مختارين تكونون حيث تريدون من الأماكن وأما على قولنا مملوكين من الملك ومنه المدينة للملوكة فالأمر أظهر بمعنى أنكم إذا كنتم لستم تحت قدرة أحد فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا كما كنتم في دنياكم التي ليست دار جزاء مع أن ذلك مشتهى أنفسكم ومنى قلوبكم وكل ذلك عند التحقيق راجع إلى كلام واحد وأنهم كانوا يأخذون بقول الفلاسفة في بعض الأشياء دون بعض وكانوا يقولون بالطبائع وأن الأمطار من السحب وهي متولدة بأسباب فلكية والنبات كذلك والحيوان كذلك ولا اختيار لله في شيء وسواء عليه إنكار الرسل والحشر فقال تعالى إن كان الأمر كما يقولون فما بال الطبيعي الذي يدعى العلم لا يقدر على أن يرجع النفس من الحلقوم مع أن في الطبع عنده إمكاناً لذلك فإن عندهم البقاء بالغداء وزوال الأمراض بالدواء وإذا علم هذا فإن قلنا غَيْرَ مَدِينِينَ معناه غير مملوكين رجع إلى قولهم من إنكار الاختيار وقلب الأمور كما يشاء الله وإن قلنا غير مقيمين فكذلك لأن إنكار الحشر بناء على القول بالطبع وإن قلنا غير محاسبين ومجزيين فكذلك ثم لما بين أن الموت كائن والحشر بعده لازم بين ما يكون بعد الحشر ليكون ذلك باعثاً للمكلف على العمل الصالح وزاجراً للمتمرد عن العصيان والكذب فقال
فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ
هذا وجه تعلقه معنى وأماتعلقه لفظاً فنقول لما قال فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا ( الواقعة 86 87 ) وكان فيها أن رجوع الحياة والنفس إلى البدن ليس تحت قدرتهم ولا رجوع لهم بعد الموت إلى الدنيا صار كأنه قال أنتم بعد الموت دائمون في دار الإقامة ومجزيون فالمجزى إن كان من المقربين فله الروح والريحان وفيه مسائل
المسألة الأولى في معنى الروح وفيه وجوه الأول هو الرحمة قال تعالى وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ(29/174)
( يوسف 87 ) أي من رحمة الله الثاني الراحة الثالث الفرح وأصل الروح السعة ومنه الروح لسعة ما بين الرجلين دون الفحج وقرىء فَرَوْحٌ بضم الراء بمعنى الرحمة
المسألة الثانية في الكلام إضمار تقديره فله روح أفصحت الفاء عنه لكونه فاء الجزاء لربط الجملة بالشرط فعلم كونها جزاء وكذلك إذا كان أمراً أو نهياً أو ماضياً لأن الجزاء إذا كان مستقبلاً يعلم كونه جزاء بالجزم الظاهر في السمع والخط وهذه الأشياء التي ذكرت لا تحتمل الجزم أما غير الأمر والنهي فظاهر وأما الأمر والنهي فلأن الجزم فيهما ليس لكونهما جزاءين فلا علامة للجزاء فيه فاختاروا الفاء فإنها لترتيب أمر على أمر والجزاء مرتب على الشرط
المسألة الثالثة في الريحان وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ( الرحمن 12 ) ولكن ههنا فيه كلام فمنهم من قال المراد ههنا ما هو المراد ثمة إما الورق وإما الزهر وإما النبات المعروف وعلى هذا فقد قيل إن أرواح أهل الجنة لا تخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليهم بريحان من الجنة يشمونه وقيل إن المراد ههنا غير ذلك وهو الخلود وقيل هو رضاء الله تعالى عنهم فإذا قلنا الروح هو الرحمة فالآية كقوله تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( التوبة 21 ) وأما جَنَّة َ نَعِيمٍ فقد تقدم القول فيها عند تفسير السابقين في قوله أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( الواقعة 11 12 ) وذكرنا فائدة التعريف هناك وفائدة التنكير ههنا
المسألة الرابعة ذكر في حق المقربين أموراً ثلاثة ههنا وفي قوله تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم ( التوبة 21 ) وذلك لأنهم أتوا بأمور ثلاثة وهي عقيدة حقة وكلمة طيبة وأعمال حسنة فالقلب واللسان والجوارح كلها كانت مرتبة برحمة الله على عقيدته وكل من له عقيدة حقة يرحمه الله ويرزقه الله دائماً وعلى الكلمة الطيبة وهي كلمة الشهادة وكل من قال لا إله إلا الله فله رزق كريم والجنة له على أعماله الصالحة قال تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( التوبة 111 ) وقال وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى ( النازعات 40 41 ) فإن قيل فعلى هذا من أتى بالعقيدة الحقة ولم يأت بالكلمة الطيبة ينبغي أن يكون من أهل الرحمة ولا يرحم الله إلا من قال لا إله إلا الله نقول من كانت عقيدته حقة لا بد وأن يأتي بالقول الطيب فإن لم يسمع لا يحكم به لأن العقيدة لا اطلاع لنا عليها فالقول دليل لنا وأما الله تعالى فهو عالم الأسرار ولهذا ورد في الأخبار أن من الناس من يدفن في مقابر الكفار ويحشر مع المؤمنين ومنهم من يدفن في مقابر المسلمين ويحشر مع الكفار لا يقال إن من لا يعمل الأعمال الصالحة لا تكون له الجنة على ما ذكرت لأنا نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن عقيدته الحقة وكلمته الطيبة لا يتركانه بلا عمل فهذا أمر غير واقع وفرض غير جائز وثانيهما أنا نقول من حيث الجزاء وأما من قال لا إله إلا الله فيدخل الجنة وإن لم يعمل عملاً لا على وجه الجزاء بل بمحض فضل الله من غير جزاء وإن كان الجزاء أيضاً من الفضل لكن من الفضل ما يكون كالصدقة المبتدأة ومن الفضل مالا كما يعطي الملك الكريم آخر والمهدي إليه غيرملك لا يستحق هديته ولا رزقه(29/175)
ثم قال تعالى
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في السلام وفيه وجوه أولها يسلم به صاحب اليمين على صاحب اليمين كما قال تعالى من قبل لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ( الواقعة 25 26 ) ثانيها فَسَلَامٌ لَّكَ أي سلامة لك من أمر خاف قلبك منه فإنه في أعلى المراتب وهذا كما يقال لمن تعلق قلبه بولده الغائب عنه إذا كان يخدم عند كريم يقول له كن فارغاً من جانب ولدك فإنه في راحة ثالثها أن هذه الجملة تفيد عظمة حالهم كما يقال فلان ناهيك به وحسبك أنه فلان إشارة إلى أنه ممدوح فوق الفضل
المسألة الثانية الخطاب بقوله لَكَ مع من نقول قد ظهر بعض ذلك فنقول يحتمل أن يكون المراد من الكلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحينئذ فيه وجه وهو ما ذكرنا أن ذلك تسلية لقلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنهم غير محتاجين إلى شيء من الشفاعة وغيرها فسلام لك يا محمد منهم فإنهم في سلامة وعافية لا يهمك أمرهم أو فسلام لك يا محمد منهم وكونهم ممن يسلم على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) دليل العظمة فإن العظيم لا يسلم عليه إلا عظيم وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكانته فوق مكانة أصحاب اليمين بالنسبة إلى المقربين الذين هم في عليين كأصحاب الجنة بالنسبة إلى أهل عليين فلما قال وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ كان فيه إشارة إلى أن مكانهم غير مكان الأولين المقربين فقال تعالى هؤلاء وإن كانوا دون الأولين لكن لا تنفع بينهم المكانة والتسليم بل هم يرونك ويصلون إليك وصول جليس الملك إلى الملك والغائب إلى أهله وولده وأما المقربون فهم يلازمونك ولا يفارقونك وإن كنت أعلى مرتبة منهم
ثم قال تعالى
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَة ُ جَحِيمٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ههنا مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّالّينَ وقال من قبل ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذّبُونَ وقد بينا فائدة التقديم والتأخير هناك
المسألة الثانية ذكر الأزواج الثلاثة في أول السورة بعبارة وأعادهم بعبارة أخرى فقال فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ ( الواقعة 8 ) ثم قال وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ ( الواقعة 27 ) وقال وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَة ِ ( الواقعة 9 ) ثم قال وَأَصْحَابُ الشّمَالِ ( الواقعة 41 ) وأعادهم ههنا وفي المواضع الثلاثة ذكر أصحاب اليمين بلفظ واحد أو بلفظين مرتين أحدهما غير الآخر وذكر السابقين في أول السورة بلفظ السابقين وفي آخر السورة بلفظ المقربين وذكر أصحاب النار في الأول بلفظ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَة ِ ثم بلفظ الشّمَالِ مَا ثم بلفظ الْمُكَذّبِينَ فما الحكمة فيه نقول أما السابق فله حالتان إحداهما في الأولى والأخرى في الآخرة فذكره في المرة الأولى بماله في الحالة الأولى وفي الثانية بماله في الحالة الآخرة وليس له حالة هي واسطة بين الوقوف للعرض وبين الحساب بل هو ينقل من الدنيا إلى أعلى عليين ثم ذكر أصحاب اليمين بلفظين متقاربين لأن حالهم قريبة من حال السابقين وذكر الكفار بألفاظ ثلاثة كأنهم في الدنيا ضحكوا عليهم بأنهم أصحاب موضع شؤم فوصفوهم بموضع الشؤم فإن المشأمة مفعلة وهي الموضع ثم قال الشّمَالِ مَا(29/176)
فإنهم في الآخرة يؤتون كتابهم بشمالهم ويقفون في موضع هو شمال لأجل كونهم من أهل النار ثم إنه تعالى لما ذكر حالهم في أول الحشر بكونهم من أصحاب الشمال ذكر ما يكون لهم من السموم والحميم ثم لم يقتصر عليه ثم ذكر السبب فيه فقال إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ ( الواقعة 45 46 ) فذكر سبب العقاب لما بينا مراراً أن العادل يذكر للعقاب سبباً والمتفضل لا يذكر للإنعام والتفضل سبباً فذكرهم في الآخرة ما عملوه في الدنيا فقال وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ ليكون ترتيب العقاب على تكذيب الكتاب فظهر العدل وغير ذلك ظاهر
ثم قال تعالى
إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى هَاذَا إشارة إلى ماذا نقول فيه وجوه أحدها القرآن ثانيها ما ذكره في السورة ثالثها جزاء الأزواج الثلاثة
المسألة الثانية كيف أضاف الحق إلى اليقين مع أنهما بمعنى واحد نقول فيه وجوه أحدها هذه الإضافة كما أضاف الجانب إلى الغربي في قوله وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) وأضاف الدار إلى الآخرة في قوله وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ ( الأنعام 32 ) غير أن المقدر هنا غير ظاهر فإن شرط ذلك أن يكون بحيث يوصف باليقين ويضاف إليه الحق وما يوصف باليقين بعد إضافة الحق إليه وثانيها أنه من الإضافة التي بمعنى من كما يقال باب من ساج وباب ساج وخاتم من فضة وخاتم فضة فكأنه قال لهو الحق من اليقين ثالثها وهو أقرب منها ما ذكره ابن عطية أن ذلك نوع تأكيد يقال هذا من حق الحق وصواب الصواب أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه والذي وقع في تقرير هذا أن الإنسان أظهر ما عنده الأنوار المدركة بالحس وتلك الأنوار أكثرها مشوبة بغيرها فإذا وصل الطالب إلى أوله يقول وجدت أمر كذا ثم إنه مع صحة إطلاق اللفظ عليه لا يتميز عن غيره فيتوسط الطالب ويأخذ مطلوبه من وسطه مثاله من يطلب الماء ثم يصل إلى بركة عظيمة فإذا أخذ من طرفه شيئاً يقول هو ماء وربما يقول قائل آخر هذا ليس بماء وإنما هو طين وأما الماء ما أخذته من وسط البركة فالذي في طرف البركة ماء بالنسبة إلى أجسام أخرى ثم إذا نسب إلى الماء الصافي ربما يقال له شيء آخر فإذا قال هذا هو الماء حقاً قد أكد وله أن يقول حق الماء أي الماء حقاً هذا بحيث لا يقول أحد فيه شيء فكذلك ههنا كأنه قال هذا هو اليقين حقاً لا اليقين الذي يقول بعض إنه ليس بيقين ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يقال الإضافة على حقيقتها ومعناه أن هذا القول لك يا محمد وللمؤمنين وحق اليقين أن تقول كذا ويقرب من هذا ما يقال حق الكمال أن يصلي المؤمن وهذا كما قيل في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) أن الضمير راجع إلى الكلمة أي إلا بحق الكلمة ومن حق الكلمة أداء الزكاة والصلاة فكذلك حق اليقين أن يعرف ما قاله الله تعالى في الواقعة في حق الأزواج الثلاثة وعلى هذا معناه أن اليقين لا يحق ولا يكون إلا إذا صدق فيما قاله بحق فالتصديق حق اليقين الذي يستحقه وأما قوله فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ فقد تقدم تفسيره وقلنا إنه تعالى لما بين الحق وامتنع الكفار قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) هذا هو حق فإن امتنعوا فلا تتركهم ولا تعرض عنهم وسبح ربك في نفسك وما عليك من قومك سواء صدقوك أو كذبوك ويحتمل أن يكون المراد فسبح واذكر ربك باسمه الأعظم وهذا(29/177)
متصل بما بعده لأنه قال في السورة التي تلي هذه سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ ( الحديد 1 ) فكأنه قال سبح الله ما في السموات فعليك أن توافقهم ولا تلتفت إلى الشرذمة القليلة الضالة فإن كل شيء معك يسبح الله عز وجل(29/178)
سورة الحديد
وهي تسع وعشرون آية مكية
سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى التسبيح تبعيد الله تعالى من السوء وكذا التقديس من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد
واعلم أن التسبيح عن السوء يدخل فيه تبعيد الذات عن السوء وتبعيد الصفات وتبعيد الأفعال وتبعيد الأسماء وتبعيد الأحكام أما في الذات فأن لا تكون محلاً للإمكان فإن السوء هو العدم وإمكانه ثم نفي الإمكان يستلزم نفي الكثرة ونفيها يستلزم نفي الجسمية والعرضية ونفي الضد والند وحصول الوحدة المطلقة وأما في الصفات فأن يكون منزهاً عن الجهل بأن يكون محيطاً بكل المعلومات ويكون قادراً على كل المقدورات وتكون صفاته منزهة عن التغيرات وأما في الأفعال فأن تكون فاعليته موقوفة على مادة ومثال لأن كل مادة ومثال فهو فعله لما بينا أن كل ما عداه فهو ممكن وكل ممكن فهو فعله فلو افتقرت فاعليته إلى مادة ومثال لزم التسلسل وغير موقوفة على زمان ومكان لأن كل زمان فهو مركب من أجزاء منقضية فيكون ممكناً كل مكان فهو يعد ممكن مركب من أفراد الأحياز فيكون كل واحد منهما ممكناً ومحدثاً فلو افتقرت فاعليته إلى زمان وإلى مكان لافتقرت فاعلية الزمان والمكان إلى زمان ومكان فيلزم التسلسل وغير موقوفة على جلب منفعة ولا دفع مضرة وإلا لكان مستكملاً بغيره ناقصاً في ذاته وذلك محال وأما في الأسماء فكما قال وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 18 ) وأما في الأحكام فهو أن كل ما شرعه فهو مصلحة وإحسان وخير وأن كونه فضلاً وخيراً ليس على سبيل الوجوب عليه بل على سبيل الإحسان وبالجملة يجب أن يعلم من هذا الباب أن حكمه وتكليفه لازم لكل أحد وأنه ليس لأحد عليه حكم ولا تكليف ولا يجب لأحد عليه شيء أصلاً فهذا هو ضبط معاقد التسبيح
المسألة الثانية جاء في بعض الفواتح سَبِّحِ على لفظ الماضي وفي بعضها على لفظ المضارع وذلك إشارة إلى أن كون هذه الأشياء مسبحة غير مختص بوقت دون وقت بل هي كانت مسبحة أبداً في(29/179)
الماضي وتكون مسبحة أبداً في المستقبل وذلك لأن كونها مسبحة صفة لازمة لماهياتها فيستحيل انفكاك تلك الماهيات عن ذلك التسبيح وإنما قلنا إن هذه المسبحية صفة لازمة لماهياتها لأن كل ما عدا الواجب ممكن وكل ممن فهو مفتقر إلى الواجب وكون الواجب واجباً يقتضي تنزيهه عن كل سوء في الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء على ما بيناه فظهر أن هذه المسبحية كانت حاصلة في الماضي وتكون حاصلة في المستقبل والله أعلم
المسألة الثالثة هذا الفعل تارة عدي باللام كما في هذه السورة وأخرى بنفسه كما في قوله وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً وأصله التعدي بنفسه لأن معنى سبحته أي بعدته عن السوء فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له وإما أن يراد يسبح لله أحدث التسبيح لأجل الله وخالصاً لوجهه
المسألة الرابعة زعم الزجاج أن المراد بهذا التسبيح التسبيح الذي هو القول واحتج عليه بوجهين الأول أنه تعالى قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ( الإسراء 44 ) فلو كان المراد من التسبيح هو دلالة آثار الصنع على الصانع لكانوا يفقهونه الثاني أنه تعالى قال وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ ( الأنبياء 79 ) فلو كان تسبيحاً عبارة عن دلالة الصنع على الصانع لما كان في ذلك تخصيص لداود عليه السلام واعلم أن هذا الكلام ضعيف ( لحجتين )
أما الأولى فلأن دلالة هذه الأجسام على تنزيه ذات الله وصفاته وأفعاله من أدق الوجوه ولذالك فإن العقلاء اختلفوا فيها فقوله وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ لعله إشارة إلى أقوام جهلوا بهذه الدلالة وأيضاً فقوله لاَّ تَفْقَهُونَ إشارة إن لم يكن إشارة إلى جمع معين فهو خطاب مع الكل فكأنه قال كل هؤلاء ما فقهوا ذلك وذلك لا ينافي أن يفقهه بعضهم
وأما الحجة الثانية فضعيفة لأن هناك من المحتمل أن الله خلق حياة في الجبل حتى نطق بالتسبيح أما هذه الجمادات التي تعلم بالضرورة أنها جمادات يستحيل أن يقال إنها تسبح الله على سبيل النطق بذلك التسبيح إذ لو جوزنا صدور الفعل المحكم عن الجمادات لما أمكننا أن نستدل بأفعال الله تعالى على كونه عالماً حياً وذلك كفر بل الحق أن التسبيح الذي هو القول لا يصدر إلا من العاقل العارف بالله تعالى فينوي بذلك القول تنزيه ربه سبحانه ومثل ذلك لا يصح من الجمادات فإذاً التسبيح العام الحاصل من العاقل والجماد لا بد وأن يكون مفسراً بأحد وجهين الأول أنها تسبح بمعنى أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني أن الممكنات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يريد ليس له عن فعله وتكوينه مانع ولا دافع إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إن حملنا التسبيح المذكور في الآية على التسبيح بالقول كان المراد بقوله مَا فِي السَّمَاوَاتِ من في السموات ومنهم حملة العرش فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ ( فصلت 38 ) ومنهم المقربون قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ ( سبأ 41 ) ومن سائر الملائكة قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا ( الفرقان 18 ) وأما المسبحون الذين هم في الأرض فمنهم الأنبياء كما قال ذو النون لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ ( الأنبياء 87 ) وقال موسى سُبْحَانَكَ إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ ( الأعراف 143 ) والصحابة يسبحون كما قال سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران 191 ) وأما إن حملنا هذا التسبيح على التسبيح المعنوي فأجزاء السموات وذرات الأرض والجبال والرمال والبحار والشجر والدواب والجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم والنور والظلمة والذوات والصفات والأجسام(29/180)
والأعراض كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال الله منقادة لتصرف الله كما قال عز من قائل وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وهذا التسبيح هو المراد بالسجود في قوله وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( النحل 49 ) أما قوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالمعنى أنه القادر الذي لا ينازعه شيء فهو إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى أنه العالم الذي لا يحتجب عن علمه شيء من الجزئيات والكليات أو أنه الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب ولما كان العلم بكونه قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً لا جرم قدم العزيز على الحكيم في الذكر
واعلم أن قوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يدل على أن العزيز ليس إلا هو لأن هذه الصيغة تفيد الحصر يقال زيد هو العالم لا غيره فهذا يقتضي أنه لا إله إلا الواحد لأن غيره ليس بعزيز ولا حكيم ومالا يكون كذلك لا يكون إلهاً
ثم قال تعالى
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يُحْى ِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
واعلم أن الملك الحق هو الذي يستغني في ذاته وفي جميع صفاته عن كل ما عداه ويحتاج كل ما عداه إليه في ذواتهم وفي صفاتهم والموصوف بهذين الأمرين ليس إلا هو سبحانه أما أنه مستغن في ذاته وفي جميع صفاته عن كل ما عداه فلأنه لو افتقر في ذاته إلى الغير لكان ممكناً لذاته فكان محدثاً فلم يكن واجب الوجود وأما أنه مستغن في جميع صفاته السلبية والإضافية عن كل ما عداه فلأن كل ما يفرض صفة له فإما أن تكون هويته سبحانه كافية في تحقق تلك الصفة سواء كانت الصفة سلباً أو إيجاباً أو لا تكون كافية في ذلك فإن كانت هويته كافية في ذلك من دوام تلك الهوية دوام تلك الصفة سلباً كانت الصفة أو إيجاباً وإن لم تكن تلك لزم الهوية كافية فحينئذ تكون تلك الهوية ممتنعة الانفكاك عن ثبوت تلك الصفة وعن سلبها ثم ثبوت تلك الصفة وسلبها يكون متوقفاً على ثبوت أمر آخر وسلبه والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء فهويته سبحانه تكون موقوفة التحقق على تحقق علة ثبوت تلك الصفة أو علة سلبها والموقوف على الغير ممكن لذاته فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته وهذا خلف فثبت أنه سبحانه غير مفتقر لا في ذاته ولا في شيء من صفاته السلبية ولا الثبوتية إلى غيره وأما أن كل ما عداه مفتقر إليه فلأن كل ما عداه ممكن لأن واجب الوجود لا يكون أكثر من واحد والممكن لا بد له من مؤثر ولا واجب إلا هذا الواحد فإذن كل ما عداه فهو مفتقر إليه سواء كان جوهراً أو عرضاً وسواء كان الجوهر روحانياً أو جسمانياً وذهب جمع من العقلاء إلى أن تأثير واجب الوجود في إعطاء الوجود لا في الماهيات فواجب الوجود يجعل السواد موجوداً أما أنه يستحيل أن يجعل السواد سواداً قالوا لأنه لو كان كون السواد سواداً بالفاعل لكان يلزم من فرض عدم ذلك الفاعل أن لا يبقى السواد سواداً وهذا محال فيقال لهم يلزمكم على هذا التقدير أن لا يكون الوجود أيضاً بالفاعل وإلا لزم من فرض عدم ذلك الفاعل أن لا يكون الوجود وجوداً فإن قالوا تأثير الفاعل ليس في الوجود بل في جعل الماهية موصوفة بالوجود قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول أن موصوفية الماهية بالوجود ليس أمراً ثبوتياً إذ لو(29/181)
كان أمراً ثبوتياً لكانت له ماهية ووجود فحينئذ تكون موصوفية تلك الماهية بالوجود زائدة عليه ولزم التسلسل وهو محال وإذا كان موصوفية الماهية بالوجوه ليس أمراً ثبوتياً استحال أن يقال لا تأثير للفاعل في الماهية ولا في الوجود بل تأثيره في موصوفية الماهية بالوجود الثاني أن بتقدير أن تكون تلك الموصوفية أمراً ثبوتياً استحال أيضاً جعلها أثراً للفاعل وإلا لزم عند فرض عدم ذلك الفاعل أن تبقى الموصوفية موصوفية فظهر أن الشبهة التي ذكروها لو تمت واستقرت يلزم نفي التأثير والمؤثر أصلاً بل كما أن الماهيات إنما صارت موجودة بتأثير واجب الوجود فكذا أيضاً الماهيات إنما صارت ماهيات بتأثير واجب الوجود وإذا لاحت هذه الحقائق ظهر بالبرهان العقلي صدق قوله تعالى لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بل ملك السموات والأرض بالنسبة إلى كمال ملكه أقل من الذرة بل لا نسبة له إلى كمال ملكه أصلاً لأن ملك السموات والأرض ملك متناه وكمال ملكه غير متناه والمتناهي لا نسبة له ألبتة إلى غير المتناهي لكنه سبحانه وتعالى ذكر ملك السموات والأرض لأنه شيء مشاهد محسوس وأكثر الخلق عقولهم ضعيفة قلما يمكنهم الترقي من المحسوس إلى المعقول
ثم إنه سبحانه لما ذكر من دلائل الآفاق ملك السموات والأرض ذكر بعده دلائل الأنفس فقال لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ يُحْى ِ وَيُمِيتُ وَهُوَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكر المفسرون فيه وجهين أحدهما يحيي الأموات للبعث ويميت الأحياء في الدنيا والثاني قال الزجاج يحيي النطف فيجعلها أشخاصاً عقلاء فاهمين ناطقين ويميت وعندي فيه وجه ثالث وهو أنه ليس المراد من تخصيص الإحياء والإماتة بزمان معين وبأشخاص معينين بل معناه أنه هو القادر على خلق الحياة والموت كما قال في سورة الملك الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) والمقصود منه كونه سبحانه هو المنفرد بإيجاد هاتين الماهيتين على الإطلاق لا يمنعه عنهما مانع ولا يرده عنهما راد وحينئذ يدخل فيه الوجهان اللذان ذكرهما المفسرون
المسألة الثانية موضع لاَ إله رفع على معنى هو يحيي ويميت ويجوز أن يكون نصباً على معنى له ملك السموات والأرض حال كونه محيياً ومميتاً واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الآفاق أولاً ودلائل الأنفس ثانياً ذكر لفظاً يتناول الكل فقال وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وفوائد هذه الآية مذكورة في أول سورة الملك
هُوَ الاٌّ وَّلُ وَالاٌّ خِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في تفسير هذه الآية ( إنه الأول ليس قبله شيء والآخر ليس بعده شيء ) وأعلم أن هذا المقام مقام مهيب غامض عميق والبحث فيه من وجوه الأول أن تقدم(29/182)
الشيء على الشيء يعقل على وجوه أحدها التقدم بالتأثير فإنا نعقل أن لحركة الأصبع تقدماً على حركة الخاتم والمراد من هذا التقدم كون المتقدم مؤثراً في المتأخر وثانيها التقدم بالحاجة لا بالتأثير لأنا نعقل احتياج الاثنين إلى الواحد وإن كنا نعلم أن الواحد ليس علة للاثنين وثالثها التقدم بالشرف كتقدم أبي بكر على عمر ورابعها التقدم بالرتبة وهو إما من مبدأ محسوس كتقدم الإمام على المأموم أو من مبدأ معقول وذلك كما إذا جعلنا المبدأ هو الجنس العالي فإنه كلما كان النوع أشد تسفلاً كان أشد تأخراً ولو قلبناه انقلب الأمر وخامسها التقدم بالزمان وهو أن الموجود في الزمان المتقدم متقدم على الموجود في الزمان المتأخر فهذا ما حصله أرباب العقول من أقسام القبلية والتقدم وعندي أن ههنا قسماً سادساً وهو مثل تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض فإن ذلك التقدم ليس تقدماً بالزمان وإلا وجب أن يكون الزمان محيطاً بزمان آخر ثم الكلام في ذلك المحيط كالكلام في المحاط به فيلزم أن يحيط بكل زمان زمان آخر لا نهاية بحيث تكون كلها حاضرة في هذا الآن فلا يكون هذا الآن الحاضر واحداً بل يكون كل حاضر في حاضر آخر لا إلى نهاية وذلك غير معقول وأيضاً فلأن مجموع تلك الآنات الحاضرة متأخر عن مجموع الآنات الماضية فلمجموع الأزمنة زمان آخر محيط بها لكن ذلك محال لأنه لما كان زماناً كان داخلاً في مجموع الأزمنة فإذاً ذلك لزمان داخل في ذلك المجموع وخارج عنه وهو محال فظهر بهذا البرهان الظاهر أن تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض ليس بالزمان وظاهر أنه ليس بالعلة ولا بالحاجة وإلا لوجدا معاً كما أن العلة والعلول يوجدان معاً والواحد والإثنين يوجدان معاً وليس أيضاً بالشرف ولا بالمكان فثبت أن تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض قسم سادس غير الأقسام الخمسة المذكورة وإذا عرفت هذا فنقول إن القرآن دل على أنه تعالى أول لكل ما عداه والبرهان دل أيضاً على هذا المعنى لأنا نقول كل ما عدا الواجب ممكن وكل ممكن محدث فكل ما عدا الواجب فهو محدث وذلك الواجب أول لكل ما عداه إنما قلنا أن ما عدا الواجب ممكن لأنه لو وجد شيئآن واجبان لذاتهما لاشتركا في الواجب الذاتي ولتباينا بالتعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً ثم كل واحد من جزأيه إن كان واجباً فقد اشترك الجزآن في الوجوب وتباينا بالخصوصية فيكون كل واحد من ذينك الجزأين أيضاً مركباً ولزم التسلسل وإن لم يكونا واجبين أو لم يكن أحدهما واجباً كان الكل المتقوم به أولى بأن لا يكون واجباً فثبت أن كل ما عدا الواجب ممكن وكل ممكن محدث لأن كل ممكن مفتقر إلى المؤثر وذلك الافتقار إما حال الوجود أو حال العدم فإذاً كان حال الوجود فإما حال البقاء وهو محال لأنه يقتضي إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل وهو محال فإن تلك الحاجة إما حال الحدوث أو حال العدم وعلى التقديرين فيلزم أن يكون كل ممكن محدثاً فثبت أن كل ما عدا ذلك الواجب فهو محدث محتاج إلى ذلك الواجب فإذاً ذلك الواجب يكون قبل كل ما عداه ثم طلب العقل كيفية تلك القبلية فقلنا لا يجوز أن تكون تلك القبلية بالتأثير لأن المؤثر من حيث هو مؤثر مضاف إلى الأثر من حيث هو أثر والمضافان معاً والمع لا يكون قبل ولا يجوز أن تكون لمجرد الحاجة لأن المحتاج والمحتاج إليه لا يمتنع أن يوجدا معاً وقد بينا أن تلك المعية ههنا ممتنعة ولا يجوز أن تكون لمحض الشرف فإنه ليس المطلوب من هذه القبلية ههنا مجرد أنه تعالى أشرف من الممكنات وأما القبلية المكانية فباطلة وبتقدير ثبوتها فتقدم المحدث على(29/183)
المحدث أمر زائد آخر وراء كون أحدهما فوق الآخر بالجهة وأما التقدم الزماني فباطل لأن الزمان أيضاً ممكن ومحدث أما أولاً فلما بينا أن واجب الوجود لا يكون أكثر من واحد وأما ثانياً فلأن أمارة الإمكان والحدوث فيه أظهر كما في غيره لأن جميع أجزائه متعاقبة وكل ما وجد بعد العدم وعدم بعد الوجود فلا شك أنه ممكن المحدث وإذا كان جميع أجزاء الزمان ممكناً ومحدثاً والكل متقوم بالأجزاء فالمفتقر إلى الممكن المحدث أولى بالإمكان والحدوث فإذن الزمان بمجموعه وبأجزائه ممكن ومحدث فتقدم موجده عليه لا يكون بالزمان لأن المتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان وإلا فيلزم في ذلك الزمان أن يكون داخلاً في مجموع الأزمنة لأنه زمان وأن يكون خارجاً عنها لأنه ظرفها والظرف مغاير للمظروف لا محال لكن كون الشيء الواحد داخلاً في شيء وخارجاً عنه محال وأما ثالثاً فلأن الزمان ماهيته تقتضي السيلان والتجدد وذلك يقتضي المسبوقية بالغير والأزل ينافي المسبوقية بالغير فالجمع بينهما محال فثبت أن تقدم الصانع على كل ما عداه ليس بالزمان ألبتة فإذن الذي عند العقل أنه متقدم على كل ما عداه أنه ليس ذلك التقدم على أحد هذه الوجوه الخمسة فبقي أنه نوع آخر من التقدم يغاير هذه الأقسام الخمسة فأما كيفية ذلك التقدم فليس عند العقل منها خبر لأن كل ما يخطر ببال العقل فإنه لا بد وأن يقترن به حال من الزمان وقد دل الدليل على أن كل ذلك محال فإذن كونه تعالى أولاً معلوم على سبيل الإجمال فأما على سبيل التفصيل والإحاطة بحقيقة تلك الأولية فليس عند عقول الخلق منه أثر
النوع الثاني من هذا غوامض الموضع وهو أن الأزل متقدم على اللا يزال وليس الأزل شيئاً سوى الحق فتقدم الأزل على اللا يزال يتسدعي الامتياز بين الأزل وبين اللا يزال فهذا يقتضي أن يكون اللا يزال له مبدأ وطرف حتى يحصل هذا الامتياز لكن فرض هذا الطرف محال لأن كل مبدأ فرضته فإن اللايزال كان حاصلاً قبله لأن المبدأ الذي يفرض قبل ذلك الطرف المفروض بزيادة مائة سنة يكون من جملة اللايزال لا من جملة الأزل فقد كان معنى اللايزال موجوداً قبل أن كان موجوداً وذلك محال
النوع الثالث من غوامض هذا الموضوع أن امتياز الأزل عن اللا يزال يستدعي انقضاء حقيقة الأزل وانقضاء حقيقة الأزل محال لأن مالا أول له يمتنع انقضاؤه وإذا امتنع انقضاؤه امتنع أن يحصل عقيبه ماهية اللا يزال فإذن يمتنع امتياز الأزل عن اللا يزال وامتياز اللا يزال عن الأزال وإذا امتنع حصول هذا الإمتياز امتنع حصول التقدم والتأخر فهذه أبحاث غامضة في حقيقة التقدم والأولية والأزلية وما هي إلا بسبب حيرة العقول البشرية في نور جلال ماهية الأزلية والأولية فإن العقل إنما يعرف الشيء إذا أحاط به وكل ما استحضره العقل ووقف عليه فذاك يصير محاطاً به والمحاط يكون متناهياً والأزلية تكون خارجة عنه فهو سبحانه ظاهر باطن في كونه أولاً لأن العقول شاهدة بإسناد المحدثات إلى موجد متقدم عليها فكونه تعالى أولاً أظهر من كل ظاهر من هذه الجهة ثم إذا أردت أن تعرف حقيقة تلك الأولية عجزت لأن كل ما أحاط به عقلك وعلمك فهو محدود عقلك ومحاط علمك فيكون متناهياً فتكون الأولية خارجة عنا فكونه تعالى أولاً إذا اعتبرته من هذه الجهة كان إبطن من كل باطن فهذا هو البحث عن كونه تعالى أولاً
أما البحث عن كونه آخراً فمن الناس من قال هذا محال لأنه تعالى إنما يكون آخر الكل ما عداه لو بقي هو مع عدم كل ما عداه لكن عدم ما عداه إنما يكون بعد وجوده وتلك البعدية زمانية فإذن لا يمكن(29/184)
فرض عدم كل عداه إلا مع وجود الزمان الذي به تتحقق تلك البعدية فإذن حال ما فرض عدم كل ما عداه أن لا يعدم كل ما عداه فهذا خلف فإذن فرض بقائه مع عدم كل ما عداه محال وهذه الشبهة مبنية أيضاً على أن التقدم والتأخر لا يتقرران إلا بالزمان وقد دللنا على فساد هذه المقدمة فبطلت هذه الشبهة وأما الذين سلموا إمكان عدم كل ما عداه مع بقائه فمنهم من أوجب ذلك حتى يتقرر كونه تعالى آخراً للكل وهذا مذهب جهم فإنه زعم أنه سبحانه يوصل الثواب إلى أهل الثواب ويوصل العقاب إلى أهل العقاب ثم يفني الجنة وأهلها والنار وأهلها والعرش والكرسي والملك والفلك ولا يبقى مع الله شيء أصلاً فكما أنه كان موجوداً في الأزل ولا شيء يبقى موجوداً في اللا يزال أبد الآباد ولا شيء واحتج عليه بوجوه أولها قوله هو الآخر يكون آخراً إلا عند فناء الكل وثانيها أنه تعالى إما أن يكون عالماً بعدد حركات أهل الجنة والنار أو لا يكون عالماً بها فإن كان عالماً بها كان عالماً بكميتها وكل ماله عدد معين فهو متناه فإذن حركات أهل الجنة متناهية فإذن لا بد وأن يحصل بعدها عدم أبدي غير منقض وإذا لم يكن عالماً بها كان جاهلاً بها والجهل على الله محال وثالثها أن الحوادث المستقبلة قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فهو متناه والجواب أن إمكان استمرار هذه الأشياء حاصل إلى الأبد والدليل عليه هو أن هذه الماهيات لو زالت إمكاناتها لزم أن ينقلب الممكن لذاته ممتنعاً لذاته ولو انقلبت قدرة الله من صلاحية التأثير إلى امتناع التأثير لانقلبت الماهيات وذلك محال فوجب أن يبقى هذا الإمكان أبداً فإذن ثبت أنه يجب انتهاء هذه المحدثات إلى العدم الصرف أما التمسك بالآية فسنذكر الجواب عنه بعد ذلك إن شاء الله تعالى وأما الشبهة الثانية فجوابها أنه يعلم أنه ليس لها عدد معين وهذا لا يكون جهلاً إنما الجهل أن يكون له عدد معين ولا يعلمه أما إذا لم يكن له عدد معين وأنت تعلمه على الوجه فهذا لا يكون جهلاً بل علماً وأما الشبهة الثالثة فجوابها أن الخارج منه إلى الوجود أبداً لا يكون متناهياً ثم إن المتكلمين لما أثبتوا إمكان بقاء العالم أبداً عولوا في بقاء الجنة والنار أبداً على إجماع المسلمين وظواهر الآيات ولا يخفى تقريرها وأما جمهور المسلمين الذين سلموا بقاء الجنة والنار أبداً فقد اختلفوا في معنى كونه تعالى آخراً على وجوه أحدها أنه تعالى يفني جميع العالم والممكنات فيتحقق كونه آخراً ثم إنه يوجدها ويبقيها أبداً وثانيها أن الموجود الذي يصح في العقل أن يكون آخراً لكل الأشياء ليس إلا هو فلما كانت صحة آخرية كل الأشياء مختصة به سبحانه لا جرم وصف بكونه آخراً وثالثها أن الوجود منه تعالى يبتدىء ولا يزال ينزل وينزل حتى ينتهي إلى الموجود الأخير الذي كون هو مسبباً لكل ما عداه ولا يكون سبباً لشيء آخر فبهذا الاعتبار يكون الحق سبحانه أولاً ثم إذا انتهى أخذ يترقى من هذا الموجود الأخير درجة فدرجة حتى ينتهي إلى آخر الترقي فهناك وجود الحق سبحانه فهو سبحانه أول في نزول الوجود منه إلى الممكنات آخر عند الصعود من الممكنات إليه ورابعها أنه يميت الخلق ويبقى بعدهم فهو سبحانه آخر بهذا الاعتبار وخامسها أنه أول في الوجود وآخر في الاستدلال لأن المقصود من جميع الاستدلالات معرفة الصانع وأما سائر الاستدلالات التي لا يراد منها معرفة الصانع فهي حقيرة خسيسة أما كونه تعالى ظاهراً وباطناً فاعلم أنه ظاهر بحسب الوجود فإنك لا ترى شيئاً من الكائنات والممكنات إلا ويكون دليلاً على وجوده وثبوته وحقيقته وبراءته عن جهات التغير على ما قررناه وأما كونه تعالى باطناً فمن وجوه الأول أن كمال كونه ظاهراً سبب لكونه باطناً فإن هذه الشمس لو دامت على الفلك لما كنا نعرف أن هذا الضوء(29/185)
إنما حصل بسببها بل ربما كنا نظن أن الأشياء مضيئة لذواتها إلا أنها لما كانت بحيث تغرب ثم ترى أنها متى غربت أبطلت الأنوار وزالت الأضواء عن هذا العالم علمنا حينئذ أن هذه الأضواء من الشمس فههنا لو أمكن انقطاع وجود الله عن هذه الممكنات لظهر حينئذ أن وجود هذه الممكنات من وجود الله تعالى لكنه لما دام ذلك الجود ولم ينقطع صار دوامه وكماله سبباً لوقوع الشبهة حتى إنه ربما يظن أن نور الوجود ليس منه بل وجود كل شيء له من ذاته فظهر أن هذا الاستتار إنما وقع من كمال وجوده ومن دوام جوده فسبحان من اختفى عن العقول لشدة ظهوره واحتجب عنها بكمال نوره
الوجه الثاني أن ماهيته غير معقولة للبشر ألبتة ويدل عليه أن الإنسان لا يتصور ماهية الشيء إلا إذا أدركه من نفسه على سبيل الوجدان كالألم واللذة وغيرهما أو أدركه بحسه كالألوان والطعوم وسائر المحسوسات فأما مالا يكون كذلك فيتعذر على الإنسان أن يتصور ماهيته ألبتة وهويته المخصوصة جل جلاله ليست كذلك فلا تكون معقولة للبشر ويدل عليه أيضاً أن المعلوم منه عند الخلق إما الوجود وإما السلوب وهو أنه ليس بجسم ولا جوهر وإما الإضافة وهو أنه الأمر الذي من شأنه كذا وكذا والحقيقة المخصوصة مغايرة لهذه الأمور فهي غير معقولة ويدل عليه أن أظهر الأشياء منه عند العقل كونه خالقاً لهذه المخلوقات ومتقدماً عليها وقد عرفت حيرة العقل ودهشته في معرفة هذه الأولية فقد ظهر بما قدمناه أنه سبحانه هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن وسمعت والدي رحمه الله يقول إنه كان يروى أنه لما نزلت هذه الآية أقبل المشركون نحو البيت وسجدوا
المسألة الثانية احتج كثير من العلماء في إثبات أن الإله واحد بقوله هُوَ الاْوَّلُ قالوا الأول هو الفرد السابق ولهذا المعنى لو قال أول مملوك اشتريته فهو حر ثم اشترى عبدين لم يعتقا لأن شرط كونه أولاً حصول الفردية وههنا لم تحصل فلو اشترى بعد ذلك عبداً واحداً لم يعتق لأن شرط الأولية كونه سابقاً وههنا لم يحصل فثبت أن الشرط في كونه أولاً أن يكون فرداً فكانت الآية دالة على أن صانع العالم فرد
المسألة الثالثة أكثر المفسرين قالوا إنه أول لأنه قبل كل شيء وإنه آخر لأنه بعد كل شيء وإنه ظاهر بحسب الدلائل وإنه باطن عن الحواس محتجب عن الأبصار وأن جماعة لما عجزوا عن جواب جهم قالوا معنى هذه الألفاظ مثل قول القائل فلان هو أول هذا الأمر وآخره وظاهره وباطنه أي عليه يدور وبه يتم
واعلم أنه لما أمكن حمل الآية على الوجوه التي ذكرناها مع أنه يسقط بها استدلال جهم لم يكن بنا إلى حمل الآية على هذا المجاز حاجة وذكروا في الظاهر والباطن أن الظاهر هو الغالب العالي على كل شيء ومنه قوله تعالى فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( الصف 14 ) أي غالبين عالين من قولك ظهرت على فلان أي علوته ومنه قوله تعالى عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( الزخرف 33 ) وهذا معنى ما روى في الحديث ( وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ) وأما الباطن فقال الزجاج إنه العالم بما بطن كما يقول القائل فلان يظن أمر فلان أي يعلم أحواله الباطنة قال الليث يقال أنت أبطن بهذا الأمر من فلان أي أخبر بباطنه فمعنى كونه باطناً كونه عالماً ببواطن الأمور وهذا التفسير عندي فيه نظر لأن قوله بعد ذلك وَهُوَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ يكون تكراراً أما على التفسير الأول فإنه يحسن موقعه لأنه يصير التقدير كأنه قيل إن أحداً لا يحيط به ولا يصل إلى(29/186)
أسراره وإنه لا يخفى عليه شيء من أحوال غيره ونظيره تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 )
هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وهو مفسر في الأعراف والمقصود منه دلائل القدرة
ثم قال تعالى يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الاْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وهو مفسر في سبأ والمقصود منه كمال العلم وإنما قدم وصف القدرة على وصف العلم لأن العلم بكونه تعالى قادراً قبل العلم بكونه تعالى عالماً ولذلك ذهب جمع من المحققين إلى أن أول العلم بالله هو العلم بكونه قادراً وذهب آخرون إلى أن أول العلم بالله هو العلم بكونه مؤثراً وعلى التقديرين فالعلم بكونه قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً
ثم قال تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه قد ثبت أن كل ما عدا الواجب الحق فهو ممكن وكل ممكن فوجوده من الواجب فإذن وصول الماهية الممكنة إلى وجودها بواسطة إفادة الواجب الحق ذلك الوجود لتلك الماهية فالحق سبحانه هو المتوسط بين كل ماهية وبين وجودها فهو إلى كل ماهية أقرب من وجود تلك الماهية ومن هذا السر قال المحققون ما رأيت شيئاً إلا ورأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وقال المتوسطون ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله معه وقال الظاهريون ما رأيت الله بعده
واعلم أن هذه الدقائق التي أظهرناها في هذه المواضع لها درجتان إحداهما أن يصل الإنسان إليها بمقتضى الفكرة والروية والتأمل والتدبر والدرجة الثانية أن تتفق لنفس الإنسان قوة ذوقية وحالة وجدانية لا يمكن التعبير عنها وتكون نسبة الإدراك مع الذوق إلى الإدراك لا مع الذوق كنسبة من يأكل السكر إلى من يصف حلاوته بلسانه
المسألة الثانية قال المتكلمون هذه المعية إما بالعلم وإما بالحفظ والحراسة وعلى التقديرين فقد انعقد الإجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيز فإذن قوله وَهُوَ مَعَكُمْ لا بد فيه من التأويل وإذا جوزنا التأويل في موضع وجب تجويزه في سائر المواضع
المسألة الثالثة اعلم أن في هذه الآيات ترتيباً عجيباً وذلك لأنه بين قوله هُوَ الاْوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ كونه إلهاً لجميع الممكنات والكائنات ثم بين كونه إلهاً للعرش والسموات والأرضين ثم بين بقوله وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ معينه لنا بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم وهو كونه عالماً بظواهرنا وبواطننا فتأمل في كيفية هذا الترتيب ثم تأمل في ألفاظ هذه الآيات فإن فيها أسراراً عجيبة وتنبيهات على أمور عالية(29/187)
ثم قال تعالى
لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ
أي إلى حيث لا مالك سواه ودل بهذا القول على إثبات المعاد
ثم قال تعالى
يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
وهذه الآيات قد تقدم تفسيرها في سائر السور وهي جامعة بين الدلالة على قدرته وبين إظهار نعمه والمقصود من إعادتها البعث على النظر والتأمل ثم الاشتغال بالشكر
ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ
قوله تعالى بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواعاً من الدلائل على التوحيد والعلم والقدرة أتبعها بالتكاليف وبدأ بالأمر بالإيمان ورسوله فإن قيل قوله ءامَنُواْ خطاب مع من عرف الله أو مع من لم يعرف الله فإن كان الأول كان ذلك أمراً بأن يعرفه من عرف فيكون ذلك أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال وإن كان الثاني كان الخطاب متوجهاً على من لم يكن عارفاً به ومن لم يكن عارفاً به استحال أن يكون عارفاً بأمره فيكون الأمر متوجهاً على من يستحيل أن يعرف كونه مأموراً بذلك الأمر وهذا تكليف مالا يطاق والجواب من الناس من قال معرفة وجود الصانع حاصلة للكل وإنما المقصود من هذا الأمر معرفة الصفات
ثم قال تعالى ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه أمر الناس أولاً بأن يشتغلوا بطاعة الله ثم أمرهم ثانياً بترك الدنيا والإعراض عنها وإنفاقها في سبيل الله كما قال قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ( الأنعام 91 ) فقوله قُلِ اللَّهُ هو المراد ههنا من قوله بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ وقوله ثُمَّ ذَرْهُمْ هو المراد ههنا من قوله وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
المسألة الثانية في الآية وجهان الأول أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها ثم إنه تعالى جعلها تحت يد المكلف وتحت تصرفه لينتفع بها على وفق إذن الشرع فالمكلف في تصرفه في هذه الأموال بمنزلة الوكيل والنائب والخليفة فوجب أن يسهل عليكم الإنفاق من تلك الأموال كما يسهل على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه الثاني أنه جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم لأجل أنه نقل أموالهم إليكم على سبيل الإرث فاعتبروا بحالهم فإنها كما انتقلت منهم إليكم فستنقل منكم إلى غيركم فلا تبخلوا بها
المسألة الثالثة اختلفوا في هذا الإنفاق فقال بعضهم هو الزكاة الواجبة وقال آخرون بل يدخل فيه التطوع ولا يمتنع أن يكون عاماً في جميع وجوه البر ثم إنه تعالى ضمن لمن فعل ذلك أجراً كبيراً فقال(29/188)
فَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ قال القاضي هذه الآية تدل على أن هذا الأجر لا يحصل بالإيمان المنفرد حتى ينضاف هذا الإنفاق إليه فمن هذا الوجه يدل على أن من أخل بالواجب من زكاة وغيرها فلا أجر له
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف وذلك لأن الآية تدل على أن من أخل بالزكاة الواجبة لم يحصل له ذلك الأجر الكبير فلم قلتم إنها تدل على أنه لا أجر له أصلاً
بم وقوله تعالى
وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى وبخ على ترك الإيمان بشرطين أحدهما أن يدعو الرسول والمراد أنه يتلو عليهم القرآن المشتمل على الدلائل الواضحة الثاني أنه أخذ الميثاق عليهم وذكروا في أخذ الميثاق وجهين الأول ما نصب في العقول من الدلائل الموجبة لقبول دعوة الرسل واعلم أن تلك الدلائل كما اقتضت وجوب القبول فهي أوكد من الحلف واليمين فلذلك سماه ميثاقاً وحاصل الأمر أنه تطابقت دلائل النقل والعقل أما النقل فبقوله وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ وأما العقل فبقوله وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ ومتى اجتمع هذان النوعان فقد بلغ الأمر إلى حيث تمتنع الزيادة عليه واحتج بهذه الآية من زعم أن معرفة الله تعالى لا تجب إلا بالسمع قال لأنه تعالى إنما ذمهم بناء على أن الرسول يدعوهم فعلمنا أن استحقاق الذم لا يحصل إلا عند دعوة الرسول الوجه الثاني في تفسير أخذ الميثاق قال عطاء ومجاهد والكلبي والمقاتلان يريد حين أخرجهم من ظهر آدم وقال أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) وهذا ضعيف وذلك لأنه تعالى إنما ذكر أخذ الميثاق ليكون ذلك سبباً في أنه لم يبق لهم عذر في ترك الإيمان بعد ذلك وأخذ الميثاق وقت إخراجهم من ظهر آدم غير معلوم للقوم إلا بقول الرسول فقبل معرفة صدق الرسول لا يكون ذلك سبباً في وجوب تصديق الرسول أما نصب الدلائل والبينات فمعلوم لكل أحد فذلك يكون سبباً لوجوب الإيمان بالرسول فعلمنا أن تفسير الآية بهذا المعنى غير جائز
المسألة الثانية قال القاضي قوله وَمَا لَكُمْ يدل على قدرتهم على الإيمان إذ لا يجوز أن يقال ذلك إلا لمن لا يتمكن من الفعل كما لا يقال مالك لا تطول ولا تبيض فيدل هذا على أن الاستطاعة قبل الفعل وعلى أن القدرة صالحة للضدين وعلى أن الإيمان حصل بالعبد لا بخلق الله
المسألة الثالثة قرىء وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ على البناء للفاعل أما قوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فالمعنى إن كنتم تؤمنون بشيء لأجل دليل فما لكم لا تؤمنون الآن فإنه قد تطابقت الدلائل النقلية والعقلية وبلغت مبلغاً لا يمكن الزيادة عليها(29/189)
هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
قال القاضي بين بذلك أن مراده بإنزال الآيات البينات التي هي القرآن وغيره من المعجزات أن يخرجهم من الظلمات إلى النور وأكد ذلك بقوله وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ولو كان تعالى يريد من بعضهم الثبات على ظلمات الكفر ويخلق ذلك فيهم ويقدره لهم تقديراً لا يقبل الزوال لم يصح هذا القول فإن قيل أليس أن ظاهره يدل على أنه تعالى يخرج من الظلمات إلى النور فيجب أن يكون الإيمان من فعله قلنا لو أراد بهذا الإخراج خلق الإيمان فيه لم يكن لقوله تعالى هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُمْ معنى لأنه سواء تقدم ذلك أو لم يتقدم فخلقه لما خلقه لا يتغير فالمراد إذن بذلك أنه يلطف بهم في إخراجهم من الظلمات إلى النور ولولا ذلك لم يكن بأن يصف نفسه بأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور أولى من أن يصف نفسه بأنه يخرجهم من النور إلى الظلمات
واعلم أن هذا الكلام على خسته وروغته معارض بالعلم وذلك لأنه تعالى كان عالماً بأن علمه سبحانه بعدم إيمانهم قائم وعالماً بأن هذا العلم ينافي وجود الإيمان فإذا كلفهم بتكوين أحد الضدين مع علمه بقيام الضد الآخر في الوجود بحيث لا يمكن إزالته وإبطاله فهل يعقل مع ذلك أن يريد بهم ذلك الخير والإحسان لا شك أن مما لا يقوله عاقل وإذا توجهت المعارضة زالت تلك القوة أما قوله وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ فقد حمله بعضهم على بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقط وهذا التخصيص لا وجه له بل يدخل فيه ذلك مع سائر ما يتمكن به المرء من أداء التكاليف
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ والأرض لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَائِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
ثم قال تعالى وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
لما أمر أولاً بالإيمان وبالإنفاق ثم أكد في الآية المتقدمة إيجاب الإيمان أتبعه في هذه الآية بتأكيد إيجاب الإنفاق والمعنى أنكم ستموتون فتورثون فهلا قدمتموه في الإنفاق في طاعة الله وتحقيقه أن المال لا بد وأن يخرج عن اليد إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله فإن وقع على الوجه الأول كان أثره اللعن والمقت والعقاب وإن وقع على الوجه الثاني كان أثره المدح والثواب وإذا كان لا بد من خروجه عن اليد فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه بحيث يستعقب اللعن والعقاب
ثم لما بين تعالى أن الإنفاق فضيلة بين أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة فقال
لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى تقدير الآية لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ومن أنفق من بعد الفتح كما(29/190)
قال لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة ِ ( الحشر 20 ) إلا أنه حذف لوضوح الحال
المسألة الثانية المراد بهذا الفتح فتح مكة لأن إطلاق لفظ الفتح في المتعارف ينصرف إليه قال عليه الصلاة والسلام ( لا هجرة بعد الفتح ) وقال أبو مسلم ويدل القرآن على فتح آخر بقوله فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ( الفتح 27 ) وأيهما كان فقد بين الله عظم موقع الإنفاق قبل الفتح
المسألة الثالثة قال الكلبي نزلت هذه الآية في فضل أبي بكر الصديق لأنه كان أول من أنفق المال على رسول الله في سبيل الله قال عمر ( كنت قاعداً عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال مالي أرى أبا بكر عليه عباءة خللها في صدره فقال أنفق ماله علي قبل الفتح )
واعلم أن الآية دلت على أن من صدر عنه الإنفاق في سبيل الله والقتال مع أعداء الله قبل الفتح يكون أعظم حالاً ممن صدر عنه هذان الأمران بعد الفتح ومعلوم أن صاحب الإنفاق هو أبو بكر وصاحب القتال هو علي ثم إنه تعالى قدم صاحب الإنفاق في الذكر على صاحب القتال وفيه إيماء إلى تقديم أبي بكر ولأن الإنفاق من باب الرحمة والقتال من باب الغضب وقال تعالى ( سبقت رحمتي غضبي ) فكان السبق لصاحب الإنفاق فإن قيل بل صاحب الإنفاق هو علي لقوله تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ ( الإنسان 8 ) قلنا إطلاق القول بأنه أنفق لا يتحقق إلا إذا أنفق في الوقائع العظيمة أموالاً عظيمة وذكر الواحدي في البسيط أن أبا بكر كان أول من قاتل على الإسلام ولأن علياً في أول ظهور الإسلام كان صبياً صغيراً ولم يكن صاحب القتال وأما أبا بكر فإنه كان شيخاً مقدماً وكان يذب عن الإسلام حتى ضرب بسببه ضرباً أشرف به على الموت
المسألة الرابعة جعل علماء التوحيد هذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام وأنفق وجاهد مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الفتح وبينوا الوجه في ذلك وهو عظم موقع نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام بالنفس وإنفاق المال في تلك الحال وفي عدد المسلمين قلة وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد بخلاف ما بعد الفتح فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قوياً والكفر ضعيفاً ويدل عليه قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ ( التوبة 100 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )
ثم قال تعالى وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى أي وكل واحد من الفريقين وَعَدَ اللَّهُ بِالْحُسْنَى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات
المسألة الثانية القراءة المشهورة وَكُلاًّ بالنصب لأنه بمنزلة زيداً وعدت خيراً فهو مفعول وعد وقرأ ابن عامر ( وكل ) بالرفع وحجته أن الفعل إذا تأخر عن مفعوله لم يقع عمله فيه والدليل عليه أنهم قالوا(29/191)
زيد ضربت وكقوله في الشعر قد أصبحت أم الخيار تدعى
علي ذنباً كله لم أصنع
روي ( كله ) بالرفع لتأخر الفعل عنه لموجب آخر واعلم أن للشيخ عبد القاهر في هذا الباب كلاماً حسناً قال إن المعنى في هذا البيت يتفاوت بسبب النصب والرفع وذلك لأن النصب يفيد أنه ما فعل كل الذنوب وهذا لا ينافي كونه فاعلاً لبعض الذنوب فإنه إذا قال ما فعلت كل الذنوب أفاد أنه ما فعل الكل ويبقى احتمال أنه فعل البعض بل عند من يقول بأن دليل الخطاب حجة يكون ذلك اعترافاً بأنه فعل بعض الذنوب أما رواية الرفع وهي قوله كله لم أصنع فمعناه أن كل واحد واحد من الذنوب محكوم عليه بأنه غير مصنوع فيكون معناه أنه ماأتى بشيء من الذنوب ألبتة وغرض الشاعر أن يدعي البراءة عن جميع الذنوب فعلمنا أن المعنى يتفاوت بالرفع والنصب ومما يتفاوت فيه المعنى بسبب تفاوت الإعراب في هذا الباب قوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) فمن قرأ ( كل ) شيء بالنصب أفاد أنه تعالى خلق الكل بقدر ومن قرأ ( كل ) بالرفع لم يفد أنه تعالى خلق الكل بل يفيد أن كل ما كان مخلوقاً له فهو إنما خلقه بقدر وقد يكون تفاوت الإعراب في هذا الباب بحيث لا يوجب تفاوت المعنى كقوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ ( يس 39 ) فإنك سواء قرأت وَالْقَمَرِ بالرفع أو بالنصب فإن المعنى واحد فكذا في هذه الآية سواء قرأت وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى أو قرأت وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى فإن المعنى واحد غير متفاوت
المسألة الثالثة تقدير الآية وكلا وعده الله الحسنى إلا أنه حذف الضمير لظهوره كما في قوله أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( الفرقان 41 ) وكذا قوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) ثم قال وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ والمعنى أنه تعالى لما وعد السابقين والمحسنين بالثواب فلا بد وأن يكون عالماً بالجزئيات وبجميع المعلومات حتى يمكنه إيصال الثواب إلى المستحقين إذ لو لم يكن عالماً بهم وبأفعالهم على سبيل التفصيل لما أمكن الخروج عن عهدة الوعد بالتمام فلهذا السبب أتبع ذلك الوعد بقوله وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
ثم قال تعالى
مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا أن رجلاً من اليهود قال عند نزول هذه الآية ما استقرض إله محمد حتى افتقر فلطمه أبو بكر فشكا اليهودي ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له ما أردت بذلك فقال ما ملكت نفسي أن لطمته فنزل قوله تعالى وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( آل عمران 186 ) قال المحققون اليهودي إنما قال ذلك على سبيل الاستهزاء لا لأن العاقل يعتقد أن الإله يفتقر وكذا القول في قولهم إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ( آل عمران 181 )
المسألة الثانية أنه تعالى أكد بهذه الآية ترغيب الناس في أن ينفقوا أموالهم في نصرة المسلمين وقتال الكافرين ومواساة فقراء المسلمين وسمى ذلك الإنفاق قرضاً من حيث وعد به الجنة تشبيهاً بالقرض
المسألة الثالثة اختلفوا في المراد من هذا الإنفاق فمنهم من قال المراد الإنفاقات الواجبة ومنهم(29/192)
من قال بل هو في التطوعات والأقرب دخول الكل فيه
المسألة الرابعة ذكروا في كون القرض حسناً وجوهاً أحدها قال مقاتل يعني طيبة بها نفسه وثانيها قال الكلبي يعني يتصدق بها لوجه الله وثالثها قال بعض العلماء القرض لا يكون حسناً حتى يجمع أوصافاً عشرة الأول أن يكون من الحلال قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب ) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول ) والثاني أن يكون من أكرم ما يملكه دون أن ينفق الرديء قال الله تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ( البقرة 267 ) الثالث أن تتصدق به وأنت تحبه وتحتاج إليه بأن ترجو الحياة وهو المراد بقوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( البقرة 177 ) وبقول وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ ( الإنسان 8 ) على أحد التأويلات وقال عليه الصلاة والسلام ( الصدقة أن تعطي وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا ) والرابع أن تصرف صدقتك إلى الأحوج الأولى بأخذها ولذلك خص الله تعالى أقواماً بأخذها وهم أهل السهمان الخامس أن تكتم الصدقة ما أمكنك لأنه تعالى قال وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ( البقرة 271 ) السادس أن لا تتبعها مناً ولا أذى قال تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( البقرة 264 ) السابع أن تقصد بها وجه الله ولا ترائي كما قال إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( الليل 20 21 ) ولأن المرائي مذموم بالاتفاق الثامن أن تستحقر ما تعطي وإن كثر لأن ذلك قليل من الدنيا والدنيا كلها قليلة وهذا هو المراد من قوله تعالى وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ( المدثر 6 ) في أحد التأويلات التاسع أن يكون من أحب أموالك إليك قال تعالى لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) العاشر أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير بل يكون الأمر بالعكس في نظرك فترى الفقير كأن الله تعالى أحال عليك رزقه الذي قبله بقوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) وترى نفسك تحت دين الفقير فهذه أوصاف عشرة إذا اجتمعت كانت الصدقة قرضاً حسناً وهذه الآية مفسرة في سورة البقرة
ثم إنه تعالى قال فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى ضمن على هذا القرض الحسن أمرين أحدهما المضاعفة على ما ذكر في سورة البقرة وبين أن مع المضاعفة له أجر كريم وفيه قولان الأول وهو قول أصحابنا أن المضاعفة إشارة إلى أنه تعالى يضم إلى قدر الثواب مثله من التفضيل والأجر الكريم عبارة عن الثواب فإن قيل مذهبكم أن الثواب أيضاً تفضل فإذا لم يحصل الامتياز لم يتم هذا التفسير الجواب أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن كل من صدر منه الفعل الفلاني فله قدر كذا من الثواب فذاك القدر هو الثواب فإذا ضم إليه مثله فذلك المثل هو الضعف والقول الثاني هو قول الجبائي من المعتزلة أن الأعواض تضم إلى الثواب فذلك هو المضاعفة وإنما وصف الأجر بكونه كريماً لأنه هو الذي جلب ذلك الضعف وبسببه حصلت تلك الزيادة فكان كريماً من هذا الوجه
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وابن عامر ( فيضعفه ) مشددة بغير ألف ثم إن ابن كثير قرأ بضم الفاء وابن(29/193)
عامر بفتح الفاء وقرأ عاصم ( فيضاعفه ) بالألف وفتح الفاء وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي فيضاعفه بالألف وضم الفاء قال أبو علي الفارسي يضاعف ويضعف بمعنى إنما الشأن في تعليل قراءة الرفع والنصب أما الرفع فوجهه ظاهر لأنه معطوف على يُقْرِضُ أو على الإنقطاع من الأول كأنه قيل فهو يضاعف وأما قراء النصب فوجهها أنه لما قال مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ فكأنه قال أيقرض الله أحد قرضاً حسناً ويكون قوله فَيُضَاعِفَهُ جواباً عن الاستفهام فحينئذ ينصب
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
ثم قال تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم وفيه مسائل
المسألة الأولى يَوْمَ تَرَى ظرف لقوله وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( الحديد 11 ) أو منصوب بأذكر تعظيماً لذلك اليوم
المسألة الثانية المراد من هذا اليوم هو يوم المحاسبة واختلفوا في هذا النور على وجوه أحدها قال قوم المراد نفس النور على ما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن كل مثاب فإنه يحصل له النور على قدر عمله وثوابه في العظم والصغر ) فعلى هذا مراتب الأنوار مختلفة فمنهم من يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء ومنهم من نوره مثل الجبل ومنهم من لا يضيء له نور إلا موضع قدميه وأدناهم نوراً من يكون نوره على إبهامه ينطفىء مرة ويتقد أخرى وهذا القول منقول عن ابن مسعود وقتادة وغيرهما وقال مجاهد ما من عبد إلا وينادي يوم القيامة يا فلان ها نورك ويا فلان لا نور لك نعوذ بالله منه واعلم أنا بينا في سورة النور أن النور الحقيقي هو الله تعالى وأن نور العلم الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نوراً من نور البصر وإذا كان كذلك ظهر أن معرفة الله هي النور في القيامة فمقادير الأنوار يوم القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا القول الثاني أن المراد من النور ما يكون سبباً للنجاة وإنما قال بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كماأن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم القول الثالث المراد بهذا النور الهداية إلى الجنة كما يقال ليس لهذا الأمر نور إذا لم يكن المقصود حاصلاً ويقال هذا الأمر له نور ورونق إذا كان المقصود حاصلاً
المسألة الثالثة قرأ سهل بن شعيب وَبِأَيْمَانِهِم بكسر الهمزة والمعنى يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم حصل ذلك السعي ونظيره قوله تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( الحج 10 ) أي ذلك كائن بذلك
ثم قال تعالى بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وفيه مسائل
المسألة الأولى حقيقة البشارة ذكرناها في تفسير قوله وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 25 يونس 2 ) ثم قالوا تقدير(29/194)
الآية وتقول لهم الملائكة بشراكم اليوم كما قال وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 )
المسألة الثانية دلت هذه الآية على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال يوم القيامة لأنه تعالى بين أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص
المسألة الثالثة احتج الكعبي على أن الفاسق ليس بمؤمن فقال لو كان مؤمناً لدخل تحت هذه البشارة ولو كان كذلك لقطع بأنه من أهل الجنة ولما لم يكن كذلك ثبت أنه ليس بمؤمن والجواب أن الفاسق قاطع بأنه من أهل الجنة لأنه إما أن لا يدخل النار أو إن دخلها لكنه سيخرج منها وسيدخل الجنة ويبقى فيها أبد الآباد فهو إذن قاطع بأنه من أهل الجنة فسقط هذا الاستدلال
المسألة الرابعة قوله ذالِكَ عائد إلى جميع ما تقدم وهو النور والبشرى بالجنات المخلدة
المسألة الخامسة قرىء ( ذلك الفوز ) بإسقاط كلمة هو
واعلم أنه تعالى لما شرح حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين فقال
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَة ُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ
قوله يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ لَّكُمْ نُوراً وفيه مسائل
المسألة الأولى يَوْمَ يَقُولُ بدل من يَوْمَ تَرَى ( الحديد 12 ) أو هو أيضاً منصوب باذكر تقديراً
المسألة الثانية قرأ حمزة وحده ( أنظرونا ) مكسورة الظاء والباقون ( أنظروا ) قال أبو علي الفارسي لفظ النظر يستعمل على ضروب أحدها أن تريد به نظرت إلى الشيء فيحذف الجار ويوصل الفعل كما أنشد أبو الحسن ظاهرات الجمال والحسن ينظرن
كما ينظر الأراك الظباء
والمعنى ينظرن إلى الأراك وثانيها أن تريد به تأملت وتدبرت ومنه قولك إذهب فانظر زيداً أيؤمن فهذا يراد به التأمل ومنه قوله تعالى انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ ( الأسراء 48 ) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ ( النساء 50 ) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( الإسراء 21 ) قال وقد يتعدى هذا بإلى كقوله أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( الغاشية 17 ) وهذا نص على التأمل وبين وجه الحكمة فيه وقد يتعدى بفي كقوله أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 185 ) وَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ ( الروم 8 ) وثالثها أن يراد بالنظر الرؤية كما في قوله ولما بدا حوران والآل دونه
نظرت فلم تنظر بعينك منظراً
والمعنى نظرت فلم تر بعينك منظراً تعرفه في الآل قال إلا أن هذا على سبيل المجاز لأنه دلت الدلائل على أن النظر عبارة عن تقلب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته فلما كانت الرؤية من توابع النظر ولوازمه غالباً أجرى على الرؤية لفظ النظر على سبيل إطلاق اسم السبب على المسبب قال ويجوز أن يكون قوله نظرت فلم تنظر كما يقال تكلمت وما تكلمت أي ما تكلمت بكلام مفيد فكذا هنا نظرت وما نظرت(29/195)
نظراً مفيداً ورابعها أن يكون النظر بمعنى الانتظار ومنه قوله تعالى إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ( الأحزاب 53 ) أي غير منتظرين إدراكه وبلوغه وعلى هذا الوجه يكون نظرت معناه انتظرت ومجيء فعلت وافتعلت بمعنى واحد كثير كقولهم شويت واشتويت وحقرت واحتقرت إذا عرفت هذا فقوله انظُرُونَا يحتمل وجهين الأول أنظرونا أي انتظرونا لأنه يسرع بالمؤمنين إلى الجنة كالبروق الخاطفة والمنافقون مشاة والثاني أنظرونا أي أنظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به وأما قراءة ( أنظرونا ) مكسورة الظاء فهي من النظرة والإمهال ومنه قوله تعالى أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( الحجر 36 ) وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بإنظار المعسر والمعنى أنه جعل اتئادهم في المشي إلى أن يلحقوا بهم إنظاراً لهم
واعلم أن أبا عبيدة والأخفش كانا يطعنان في حصة هذه القراءة وقد ظهر الآن وجه صحتها
المسألة الثالثة اعلم أن الاحتمالات في هذا الباب ثلاثة أحدها أن يكون الناس كلهم في الظلمات ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار والمنافقون يطلبونها منهم وثانيها أن تكون الناس كلهم في الأنوار ثم إن المؤمنين يكونون في الجنات فيمرون سريعاً والمنافقون يبقون وراءهم فيطلبون منهم الانتظار وثالثها أن يكون المؤمنون في النور والمنافقون في الظلمات ثم المنافقون يطلبون النور مع المؤمنين وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الاحتمالات قوم فإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند الموقف فالمراد من قوله انظُرُونَا انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم فقد أقبلوا عليهم ومتى أقبلوا عليهم وكانت أنوارهم من قدامهم استضاءوا بتلك الأنوار وإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند مسير المؤمنين إلى الجنة كان المراد من قوله انظُرُونَا يحتمل أن يكون هو الانتظار وأن يكون النظر إليهم
المسألة الرابعة القبس الشعلة من النار أو السراج والمنافقون طمعوا في شيء من أنوار المؤمنين أن يقتبسوه كاقتباس نيران الدنيا وهو منهم جهل لأن تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا فلما لم توجد تلك الأعمال في الدنيا امتنع حصول تلك الأنوار في الآخرة قال الحسن يعطى يوم القيامة كل أحد نوراً على قدر عمله ثم إنه يؤخذ من حر جهنم ومما فيه من الكلاليب والحسك ويلقى على الطريق فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء ثم على ذلك تغشاهم ظلمة فتطفىء نور المنافقين فهنالك يقول المنافقون للمؤمنين انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ كقبس النار
المسألة الخامسة ذكروا في المراد من قوله تعالى قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً وجوهاً أحدها أن المراد منه ارجعوا إلى دار الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هنالك فإن هذه الأنوار إنما تتولد من اكتساب المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة والتنزه عن الجهل والأخلاق الذميمة والمراد من ضرب السور هو امتناع العود إلى الدنيا وثانيها قال أبو أمامة الناس يكونون في ظلمة شديدة ثم المؤمنون يعطون الأنوار فإذا أسرع المؤمن في الذهاب قال المنافق انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ فيقال لهم ارْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً قال وهي خدعة خدع بها المنافقون كما قال يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروباً(29/196)
بينهم وبين المؤمنين وثالثها قال أبو مسلم المراد من قول المؤمنين ارْجِعُواْ منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه وراءك أوسع لك فعلى هذا القول المقصود من قوله ارْجِعُواْ أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة لا أنه أمر لهم بالرجوع
قوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَة ُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في السور فمنهم من قال المراد منه الحجاب والحيلولة أي المنافقون منعوا عن طلب المؤمنين وقال آخرون بل المراد حائط بين الجنة والنار وهو قول قتادة وقال مجاهد هو حجاب الأعراف
المسألة الثانية الباء في قوله بِسُورٍ صلة وهو للتأكيد والتقدير ضرب بينهم سور كذا قاله الأخفش ثم قال لَّهُ بَابٌ أي لذلك السور باب بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَة ُ أي في باطن ذلك السور الرحمة والمراد من الرحمة الجنة التي فيها المؤمنين وَظَاهِرُهُ يعني وخارج السور مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ أي من قبله يأتيهم العذاب والمعنى أن ما يلي المؤمنين ففيه الرحمة وما يلي الكافرين يأتيهم من قبله العذاب والحاصل أن بين الجنة والنار حائط وهو السور ولذلك السور باب فالمؤمنون يدخلون الجنة من باب ذلك السور والكافرون يبقون في العذاب والنار
ثم قال تعالى
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الاٌّ مَانِى ُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان الأول أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ في الدنيا والثاني أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ في العبادات والمساجد والصلوات والغزوات وهذا القول هو المتعين
المسألة الثانية البعد بين الجنة والنار كثير لأن الجنة في أعلى السموات والنار في الدرك الأسفل فهذا يدل على أن البعد الشديد لا يمنع من الإدراك ولا يمكن أن يقال إن الله عظم صوت الكفار بحيث يبلغ من أسفل السافلين إلى أعلى عليين لأن مثل هذا الصوت إنما يليق بالأشداء الأقوياء جداً والكفار موصوفون بالضعف وخفاء الصوت فعلمنا أن البعد لا يمنع من الإدراك على ما هو مذهبنا ثم حكى تعالى أن المؤمنين قالوا بلى كنتم معنا إلا أنكم فعلتم أشياء بسببها وقعتم في هذا العذاب أولها وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ أي بالكفر والمعاصي وكلها فتنة وثانيها قوله وَتَرَبَّصْتُمْ وفيه وجوه أحدها قال ابن(29/197)