المسألة الأولى ذكروا في تأويل هذا اللفظ وجوهاً الأول قال الفراء معناه مفتحة لهم أبوابها والعرب تجعل الألف واللام خلفاً من الإضافة تقول العرب مررت برجل حسن الوجه فالألف واللام في الوجه يدل من الإضافة والثاني قال الزجاج المعنى مفتحة لهم الأبواب منها الثالث قال صاحب ( الكشاف ) الاْبْوَابُ بدل من الضمير وتقديره مفتحة هي الأبواب كقولك ضرب زيد اليد والرجل وهو من بدل الاشتمال
المسألة الثانية قرىء جَنَّاتِ عَدْنٍ مفتحة بالرفع على تقدير أن يكون قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ مبتدأ و مُّفَتَّحَة ً خبره وكلاهما خبر مبتدأ محذوف أي هو جنات عدن مفتحة لهم
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى وصف من أحوال أهل الجنة في هذه الآية أشياء الأول أحوال مساكنهم فقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ يدل على أمرين أحدهما كونها جنات وبساتين والثاني كونها دائمة آمنة من الانقضاء
وفي قوله مُّفَتَّحَة ً لَّهُمُ الاْبْوَابُ وجوه الأول أن يكون المعنى أن الملائكة الموكلين بالجنان إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له أبوابها وحيوه بالسلام فيدخل كذلك محفوفاً بالملائكة على أعز حال وأجمل هيئة قال تعالى حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( الزمر 73 ) الثاني أن تلك الأبواب كلما أرادوا انفتاحها انفتحت لهم وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم الثالث المراد من هذا الفتح وصف تلك المساكن بالسعة ومسافرة العيون فيها ومشاهدة الأحوال اللذيذة الطيبة
ثم قال تعالى مُّتَّكِئِينَ فِيهَا يدعون فيها وفيه مباحث
البحث الأول أنه تعالى ذكر في هذه الآية كونهم متكئين في الجنة وذكر في سائر الآيات كيفية ذلك الاتكاء فقال في آية عَلَى الاْرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( يس 56 ) وقال في آية أخرى مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ ( الرحمن 76 )
البحث الثاني قوله وَأَنزَلْنَا فِيهَا حال قدمت على العامل فيها وهو قوله يَدْعُونَ فِيهَا والمعنى يدعون في الجنات متكئين فيها ثم قال بِفَاكِهَة ٍ كَثِيرَة ٍ وَشَرَابٍ والمعنى بألوان الفاكهة وألوان الشراب والتقدير بفاكهة كثيرة وشراب كثير والسبب في ذكر هذا المعنى أن ديار العرب حارة قليلة الفواكه والأشربة فرغبهم الله تعالى فيه
ولما بين تعالى أمر المسكن وأمر المأكول والمشروب ذكر عقيبه أمر المنكوح فقال وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ وقد سبق تفسيره في سورة والصافات وبالجملة فالمعنى كونهن قاصرات عن غيرهم مقصورات القلب على محبتهم وقوله أَتْرَابٌ أي على سن واحد ويحتمل كون الجواري أتراباً ويحتمل كونهن أتراباً للأزواج قال القفال والسبب في اعتبار هذه الصفة أنهن لما تشابهن في الصفة والسن والحلية كان الميل إليهن على السوية وذلك يقتضي عدم الغيرة
ثم قال تعالى هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ يعني أن الله تعالى وعد المتقين بالثواب الموصوف بهذه الصفة ثم إنه تعالى أخبر عن دوام الثواب فقال إِنَّ هَاذَا لَرِزْقُنَا مَالَهُ مِن نَّفَادٍ(26/191)
هَاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَأابٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الاٌّ شْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ
اعلم أنه تعالى لما وصف ثواب المتقين وصف بعده عقاب الطاغين ليكون الوعيد مذكوراً عقيب الوعد والترهيب عقيب الترغيب
واعلم أنه تعالى ذكر من أحوال النار أنواعاً فالأول مرجعهم ومآبهم فقال هَاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ ( ص 55 ) وهذا في مقابلة قوله هَاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ ( ص 49 ) فبين تعالى أن حال الطاغين مضاد لحال المتقين واختلفوا في المراد بالطاغين فأكثر المفسرين حملوه على الكفار وقال الجبائي إنه محمول على أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أو لم يكونوا كذلك واحتج الأولون بوجوه الأول أن قوله لَشَرَّ مَئَابٍ يقتضي أن يكون مآبهم شراً من مآب غيرهم وذلك لا يليق إلا بالكفار الثاني أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً وذلك لا يليق إلا بالكفار لأن الفاسق لا يتخذ المؤمن سخرياً الثالث أنه اسم ذم والاسم المطلق محمول على الكامل والكامل في الطغيان هو الكافر واحتج الجبائي على صحة قوله بقوله تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) وهذا يدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل في حق صاحب الكبيرة ولأن كل من تجاوز عن تكاليف الله تعالى وتعداها فقد طغى ذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس رضي الله عنهما المعنى أن الذين طغوا وكذبوا رسلي لهم شر مآب أي شر مرجع ومصير ثم قال جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا والمعنى أنه تعالى لما حكم بأن الطاغين لهم شر مآب فسره بقوله جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ثم قال فَبِئْسَ الْمِهَادُ وهو كقوله لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( الأعراف 41 ) شبه الله ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم
ثم قال تعالى هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى فيه وجهان الأول أنه على التقديم والتأخير والتقدير هذا حميم وغساق فليذوقوه الثاني أن يكون التقدير جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ثم يبتدىء فيقول حميم وغساق(26/192)
المسألة الثانية الغساق بالتخفيف والتشديد فيه وجوه الأول أنه الذي يغسق من صديد أهل النار يقال غسقت العين إذا سال دمعها وقال ابن عمر هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه الثاني قيل الحميم يحرق بحره والغساق يحرق ببرده وذكر الأزهري أن الغاسق البارد ولهذا قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار الثالث أن الغساق المنتن حكى الزجاج لو قطرت منه قطرة في المشرق لأنتنت أهل المغرب ولو قطرت منه قطرة في المغرب لأنتنت أهل المشرق الرابع قال كعب الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذات حمة من عقرب وحية
المسألة الثالثة قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم غساق بتشديد السين حيث كان والباقون بالتخفيف قال أبو علي الفارسي الاختيار التخفيف لأنه إذا شدد لم يخل من أن يكون اسماً أو صفة فإن كان اسماً فالأسماء لم تجيء على هذا الوزن إلا قليلاً وإن كان صفة فقد أقيم مقام الموصوف والأصل أن لا يجوز ذلك
ثم قال تعالى وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْواجٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمر وَأَخَّرَ بضم الألف على جمع أخرى أي أصناف أخر من العذاب وهو قراءة مجاهد والباقون آخر على الواحد أي عذاب آخر أما على قراءة الأولى فقوله وأخر أي ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق أي من مثله في الشدة والفظاعة أزواج أي أجناس وأما على القراءة الثانية فالتقدير وعذاب أو مذوق آخر وأزواج صفة لآخر لأنه يجوز أن يكون ضروباً أو صفة للثلاثة وهم حميم وغساق وآخر من شكله قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء من شكله بالكسر وهي لغة وأما الغنجفبالكسر لا غير
واعلم أنه تعالى لما وصف مسكن الطاغين ومأكولهم حكى أحوالهم الذين كانوا أحباء لهم في الدنيا أولاً ثم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا ثانياً أما الأول فهو قوله هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ واعلم أن هذا حكاية كلام رؤساء أهل النار يقوله بعضهم لبعض بدليل أن ما حكى بعد هذا من أقوال الأتباع وهو قوله قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا وقيل إن قوله هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم وقوله لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ كلام الرؤساء وقوله هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ أي هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال ومعنى اقتحم معكم النار أي دخل النار في صحبتكم والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها والقحمة الشدة
وقوله تعالى لاَ مَرْحَباً بِهِمْ دعاء منهم على أتباعهم يقول الرجل لمن يدعو له مرحباً أي أتيت رحباً في البلاد لا ضيقاً أو رحبت بلادك رحباً ثم يدخل عليه كلمة لا في دعاء السوء وقوله بِهِمُ بيان للمدعو عليهم أنهم صالوا النار تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم ونظير هذه الآية قوله تعالى كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( الأعراف 38 ) قالوا أي الأتباع بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا والضمير للعذاب أو لصليهم فإن قيل ما(26/193)
معنى تقديمهم العذاب لهم قلنا الذي أوجب التقديم هو عمل السوء قال تعالى ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ( آل عمران 181 182 ) إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل أنتم قدمتموه لنا فجعل الرؤساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدم والضمير في قوله قَدَّمْتُمُوهُ كناية عن الطغيان الذي دل عليه قوله وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ شَرُّ مَئَابٍ وقوله فَبِئْسَ الْقَرَارُ أي بئس المستقر والمسكن جهنم ثم قالت الأتباع رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً أي مضاعفاً ومعناه ذا ضعف ونظيره قوله تعالى رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا ( الأعراف 38 ) وكذلك قوله تعالى رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ( الأحزاب 67 68 ) فإن قيل كل مقدار يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفاً وإن كان زائداً عليه كان ظالماً وإنه لا يجوز قلنا المراد منه قوله عليه السلام ( ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) والمعنى أنه يكون أحد القسمين عذاب الضلال والثاني عذاب الإضلال والله أعلم
وههذنا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحباباً لهم في الدنيا وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا فهو قوله وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاْشْرَارِ يعني أن الكفار إذا نظروا إلى جوانب جهنم فيحنئذ يقولون مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاْشْرَارِ يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه بهم وسموهم من الأشرار إما بمعنى الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشراراً ثم قالوا أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي مّنَ الاْشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ بوصل ألف أَتَّخَذْنَاهُمْ والباقون بفتحها على الاستفهام قال أبو عبيد وبالوصل يقرأ لأن الاستفهام متقدم في قوله مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً ولأن المشركين لا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدنيا سخرياً لأنه تعالى قد أخبر عنهم بذلك في قوله فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى ( المؤمنون 110 ) فكيف يحسن أن يستفهموا عن شيء علموه أجاب الفراء عنه بأن قال هذا من الاستفهام الذي معناه التعجيب والتوبيخ ومثل هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم أما وجه قول من ألحق الهمزة للاستفهام أنه لا بد من المصير إليه ليعادل قوله أَتَّخَذْنَاهُمْ بأم في قوله أَمْ زَاغَتْ فِيهِمْ فإن قيل فما الجملة المعادلة لقوله أَمْ زَاغَتْ على القراءة الأولى قلنا إنها محذوفة والمعنى المقصودون أم زاغت عنهم الأبصار
المسألة الثانية قرأ نافع سِخْرِيّاً بضم السين والباقون بكسرها وقيل هما بمعنى واحد وقيل بالكسر هو الهزء وبالضم هو التذليل والتسخير
المسألة الثالثة اختلفوا في نظم الآية على قولين بناء على القراءتين المذكورتين أما القراءة على سبيل الإخبار فالتقدير ما لنا لا نراهم حاضرين لأجل أنهم لحقارتهم تركوا أو لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً وأما القراءة على سبيل الاستفهام فالتقدير لأجل أنا قد اتخذناهم سخرياً وما كانوا كذلك فلم يدخلوا النار أم لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه المناظرة قال إن ذلك الذي حكينا عنهم لحق لا بد وأن يتكلموا به ثم بين أن الذي حكيناه عنهم ما هو فقال تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وإنما سمى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول(26/194)
الرؤساء لاَ مَرْحَباً بِهِمْ وقول الأتباع بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ من باب الخصومة
قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِى َ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الاٌّ عْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَى إِلَى َّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
اعلم أنه تعالى لما حكى في أول السورة أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما دعا الناس إلى أنه لا إله إلا الله واحد وإلى أنه رسول مبين من عند الله وإلى أن القول بالقيامة حق فأولئك الكفار أظهروا السفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب واستهزؤا بقوله ثم إنه تعالى ذكر قصص الأنبياء لوجهين الأول ليصير ذلك حاملاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) على التأسي بالأنبياء عليهم السلام في الصبر على سفاهة القوم والثاني ليصير ذلك رادعاً للكفار على ازصرار على الكفر والسفاهة وداعياً إلى قبول الإيمان ولما تمم الله تعالى هذه البيانات عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أول السورة وهي تقدير التوحيد والنبوة والبعث فقال قل يا محمد إنما أنا منذر ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا الله الواحد القهار فإن الترتيب الصحيح أن تذكر شبهات الخصوم أولاً ويجاب عنها ثم نذكر عقيبها الدلائل الدالة على صحة المطلوب فكذا ههنا أجاب الله تعالى عن شبهتهم ونبه على فساد كلماتهم ثم ذكر عقيبه ما يدل على صحة هذه المطالب لأن إزالة ما لا ينبغي مقدمة على إثبات ما ينبغي وغسل اللوح من النقوش الفاسدة مقدم على كتب النقوش الصحيحة فيه ومن نظر في هذا الترتيب اعترف بأن الكلام من أول السورة إلى آخرها قد جاء على أحسن وجوه الترتيب والنظم
أما قوله قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ يعني أبلغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد وأحوال ثواب من أقربها وكما بدأ في أول السورة بأدلة التوحيد حيث حكى عنهم أنهم قالوا أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً ( ص 5 ) فكذلك بدأ ههنا بتقرير التوحيد فقال وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وفي هذه الكلمة إشارة إلى الدليل الدال على كونه منزهاً عن الشريك والنظير وبيانه أن الذي يجعل شريكاً له في الإلهية إما أن يكون موجوداً قادراً على الإطلاق على التصرف في العالم أو لا يكون كذلك بل يكون جماداً عاجزاً والأول باطل لأنه لو كان شريكه قادراً على الإطلاق لم يكن هو قادراً قاهراً لأن بتقدير أن يريد هو شيئاً ويريد شريكه ضد ذلك الشيء لم يكن حصول أحد الأمرين أولى من الآخر فيفضي إلى اندفاع كل واحد منهما بالآخر وحينئذ لا يكون قادراً قاهراً بل كان عاجزاً ضعيفاً والعاجز لا يصلح للإلهية فقوله لا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ إشارة إلى أن كونه قهاراً يدل على كونه واحداً وأما الثاني وهو أن يقال إن الذي جعل(26/195)
شريكاً له لا يقدر على شيء ألبتة مثل هذه الأوثان فهذا أيضاً فاسد لأن صريح العقل يحكم بأن عبادة الإله القادر القاهر أولى من عبادة الجماد الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً فقوله وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يدل على هذه الدلائل واعلم أن كونه سبحانه قهاراً مشعر بالترهيب والتخويف فلما ذكر ذلك أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب فقال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ فكونه رباً مشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود وكونه غفاراً مشعر بالترغيب وهذا الموجود هو الذي تجب عبادته لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى فضله وثوابه ونذكر طريقة أخرى في تفسير هذه الآيات فنقول إنه تعالى ذكر من صفاته في هذا الموضع خمسة الواحد والقهار والرب والعزيز والغفار أما كونه واحداً فهو الذي وقع الخلاف فيه بين أهل الحق وبين المشركين واستدل تعالى على كونه واحداً بكونه قهاراً وقد بينا وجه هذه الدلالة إلا أن كونه قهاراً وإن دل على إثبات الوحدانية إلا أنه يوجب الخوف الشديد فأردفه تعالى بذكر صفات ثلاثة دالة على الرحمة والفضل والكرم أولها كونه رباً للسموات والأرض وما بينهما وهذا إنما تتم معرفته بالنظر في آثار حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وذلك بحر لا ساحل له فإذا تأملت في آثار حكمته ورحمته في خلق هذه الأشياء عرفت حينئذ تربيته للكل وذلك يفيد الرجاء العظيم وثانيها كونه عزيزاً والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول هب أنه رب ومربي وكريم إلا أنه غير قادر على كل المقدورات فأجاب عنه بأنه عزيز أي قادر على كل الممكنات فهو يغلب الكل ولا يغلبه شيء وثالثها كونه غفاراً والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول هب أنه رب ومحسن ولكنه يكون كذلك في حق المطيعين المخلصين في العبادة فأجاب عنه بأن من بقي على الكفر سبعين سنة ثم تاب فإني أزيل اسمه عن ديوان المذنبين وأستر عليه بفضلي ورحمتي جميع ذنوبه وأوصله إلى درجات الأبرار واعلم أنه تعالى لما بين ذلك قال قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ وهذا النبأ العظيم يحتمل وجوهاً فيمكن أن يكون المراد أن القول بأن الإله واحد نبأ عظيم ويمكن أن يقال المراد أن القول بالنبوة نبأ عظيم ويمكن أن يقال المراد أن القول بإثبات الحشر والنشر والقيامة نبأ عظيم وذلك لأن هذه المطالب الثلاثة كانت مذكورة في أول السورة ولأجلها أنجز الكلام إلى كل ما سبق ذكره ويمكن أيضاً أن يكون المراد كون القرآن معجزاً لأن هذا أيضاً قد تقدم ذكره في قوله كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ ( ص 29 ) وهؤلاء الأقوام أعرضوا عنه على ما قال قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ واعلم أن قوله أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ترغيب في النظر والاستدلال ومنع من التقليد لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية فإن بتقدير أن يكون الإنسان فيها على الحق يفوز بأعظم أبواب السعادة وبتقدير أن يكون الإنسان فيها على الباطل وقع في أعظم أبوبا الشقاوة فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية وصريح العقل يوجب على الإنسان أن يأتي فيها بالاحتياط التام وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة
أما قوله تعالى مَا كَانَ لِى َ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الاْعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ فاعلم أنه تعالى رغب المكلفين في الاحتياط في هذه المسائل الأربعة وبالغ في ذلك الترغيب من وجوه الأول أن كل واحد منها نبأ عظيم والنبأ العظيم يجب الاحتياط فيه الثاني أن الملأ الأعلى اختصموا وأحسن ما قيل فيه أنه تعالى لما قال(26/196)
إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ ( البقرة 30 ) والمعنى أنهم قالوا أي فائدة في خلق البشر مع أنهم يشتغلون بقضاء الشهوة وهو المراد من قوله مَن يُفْسِدُ فِيهَا وبإمضاء الغضب وهو المراد من قوله وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ فقال الله سبحانه وتعالى إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وتقرير هذا الجواب والله أعلم أن يقال أن المخلوقات بحسب القسمة العقلية على أقسام أربعة أحدها الذين حصل لهم العقل والحكمة ولم تحصل لهم النفس والشهوة وهم الملائكة فقط ثانيها الذين حصل لهم النفس والشهوة ولم يحصل لهم العلم والحكمة وهي البهائم وثالثها الأشياء الخالية عن القسمين وهي الجمادات وبقي في التقسيم قسم رابع وهو الذي حصل فيه الأمران وهو الإنسان والمقصود من تخليق الإنسان ليس هو الجهل والتقليد والتكبر والتمرد فإن كل ذلك صفات البهائم والسباع بل المقصود من تخليقه ظهور العلم والحكمة والطاعة فقوله إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يعني أن هذا النوع من المخلوقات وإن حصلت فيه الشهوة الداعية إلى الفساد والغضب الحامل له على سفك الدماء لكن حصل فيه العقل الذي يدعوه إلى المعرفة والمحبة والطاعة والخدمة وإذا ثبت أنه تعالى إنما أجاب الملائكة بهذا الجواب وجب على الإنسان أن يسعى في تحصيل هذه الصفات وأن يجتهد في اكتسابها وأن يحترز عن طريقة الجهل والتقليد والإصرار والتكبر وإذا كان كذلك فكل من وقف على كيفية هذه الواقعة صار وقوفه عليها داعياً له إلى الجد والاجتهاد في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة زاجراً له عن أضدادها ومقابلاتها فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذا الكلام في هذا المقام فإن قيل الملائكة لا يجوز أن يقال إنهم اختصموا بسبب قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ( البقرة 30 ) فإن المخاصمة مع الله كفر قلنا لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة لجواز المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه ولما أمر الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول إِن يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ يعني أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلا بالوحي وإنما أوحى الله إليّ هذه القصة لأنذركم بها ولتصير هذه القصة حاملة لكم على الإخلاص في الطاعة والاحتراز عن الجهل والتقليد
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ(26/197)
اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر وذلك لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر والكفار إنما نازعوا محمداً عليه السلام بسبب الحسد والكبر فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجراً لهم عن هاتين الخصلتين المذمومتين والحاصل أنه تعالى رغب المكلفين في النظر والاستدلال ومنعهم عن الإصرار والتقليد وذكر في تقريره أموراً أربعة أولها أنه نبأ عظيم فيجب الاحتياط فيه والثاني أن قصة سؤال الملائكة عن الحكمة في تخليق البشر يدل على أن الحكمة الأصلية في تخليق آدم هو المعرفة والطاعة لا الجهل والتكبر الثالث أن إبليس إنما خاصم آدم عليه السلام لأجل الحسد والكبر فيجب على العاقل أن يحترز عنهما فهذا هو وجه النظم في هذه الآياع واعلم أن هذه القصة قد تقدم شرحها في سور كثيرة فلا فائدة في الإعادة إلا ما لا بد منه وفيها مسائل
المسألة الأولى في قوله إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ سؤالات
الأول أن هذا النظم إنما يصح لو أمكن خلق البشر لا من الطين كما إذا قيل أنا متخذ سواراً من ذهب فهذا إنما يستقيم لو أمكن اتخاذه من الفضة
الثاني ذكر ههنا أنه خلق البشر من طين وفي سائر الآيات ذكر أنه خلقه من سائر الأشياء كقوله تعالى في آدم إنه خلقه من تراب وكقوله مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ( الحجر 26 ) وكقوله خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( الأنبياء 37 )
الثالث أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أخبر الملائكة بأنه خلق بشراً من طين لم يقولوا شيئاً وفي الآية الأخرى وهي التي قال إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) بين أنهم أوردوا السؤال والجواب فبينهما تناقض والجواب عن الأول أن التقدير كأنه سبحانه وصف لهم أولاً أن البشر شخص جامع للقوة البهيمية والسبعية والشيطانية والملكية فلما قال إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ فكأنه قال ذلك الشخص المستجمع لتلك الصفات إنما أخلقه من الطين والجواب عن الثاني أن المادة البعيدة هو التراب وأقرب منه الطين وأقرب منه الحمأ المسنون وأقرب منه الصلصال فثبت أنه لا منافاة بين الكل والجواب عن الثالث أنه في الآية المذكورة في سورة البقرة بين لهم أنه يخلق في الأرض خليفة وبالآية المذكورة ههنا بين أن ذلك الخليفة بشر مخلوق من الطين
المسألة الثانية قال فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى وهذا يدل على أن تخليق البشر لا يتم إلا بأمرين التسوية أولاً ثم نفخ الروح ثانياً وهذا حق لأن الإنسان مركب من جسد ونفس(26/198)
أما الجسد فإنه إنما يتولد من المني والمني إنما يتولد من دم الطمث وهو إنما يتولد من الأخلاط الأربعة وهي إنما تتولد من الأركان الأربعة ولا بد في حصول هذه التسوية من رعاية مقدار مخصوص لكل واحد منها ومن رعاية كيفية امتزاجاتها وتركيباتها ومن رعاية المدة التي في مثلها حصل ذلك المزاج الذي لأجله يحصل الاستعداد لقبول النفس الناطقة
وأما النفس فإليها الإشارة بقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ولما أضاف الروح إلى نفسه دل على أنه جوهر شريف علوي قدسي وذهبت الحلولية إلى أن كلمة ( من ) تدل على التبعيض وهذا يوهم أن الروح جزء من أجزاء الله تعالى وهذا غاية الفساد لأن كل ما له جزء وكل فهو مركب وممكن الوجود لذاته ومحدث
وأما كيفية نفخ الروح فاعلم أن الأقرب أن جوهر النفس عبارة عن أجسام شفافة نورانية علوية العنصر قدسية الجوهر وهي تسري في البدن سريان الضوء في الهواء وسريان النار في الفحم فهذا القدر معلوم أما كيفية ذلك النفخ فمما لا يعلمه إلا الله تعالى
المسألة الثالثة الفاء في قوله فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ تدل على أنه كما تم نفخ الروح في الجسد توجه أمر الله عليهم بالسجود وأما أن المأمور بذلك السجود ملائكة الأرض أو دخل فيه ملائكة السموات مثل جبريل وميكائيل والروح الأعظم المذكور في قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً ( النبأ 38 ) ففيه مباحث عميقة وقال بعض الصوفية الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم هم القوى النباتية والحيوانية الحسية والحركية فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة وإبليس الذي لم يسجد هو القوة الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل والكلام فيه طويل وأما بقية المسائل وهي كيفية سجود الملائكة لآدم وأن ذلك هل يدل على كونه أفضل من الملائكة أم لا وأن إبليس هل كان من الملائكة أم لا وأنه هل كان كافراً أصلياً أم لا فكل ذلك تقدم في سورة البقرة وغيرها
المسألة الرابعة احتج من أثبت الأعضاء والجوارح لله تعالى بقوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ في إثبات يدين لله تعالى بأن قالوا ظاهر الآية يدل عليه فوجب المصير إليه والآيات الكثيرة واردة على وفق هذه الآية فوجب القطع به
واعلم أن الدلائل الدالة على نفي كونه تعالى جسماً مركباً من الأجزاء والأعضاء قد سبقت إلا أنا نذكر ههنا نكتاً جارياً مجرى الإلزامات الظاهرة فالأول أن من قال إنه مركب من الأعضاء والأجزاء فإما أن يثبت الأعضاء التي ورد ذكرها في القرآن ولا يزيد عليها وإما أن يزيد عليها فإن كان الأول لزمه إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح لأنه يلزمه إثبات وجه بحيث لا يوجد منه إلا مجرد رقعة الوجه لقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) ويلزمه أن يثبت في تلك الرقعة عيوناً كثيرة لقوله تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا ( القمر 14 ) وأن يثبت جنباً واحداً لقوله تعالى نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( الزمر 56 ) وأن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ( يس 71 ) وبتقدير أن يكون له يدان فإنه يجب أن يكون كلاهما على جانب واحد لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ) وأن يثبت له ساقاً واحداً لقوله تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ( القلم 42 ) فيكون الحاصل من هذه الصورة مجرد رقعة الوجه(26/199)
ويكون عليها عيون كثيرة وجنب واحد ويكون عليه أيد كثيرة وساق واحد ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور ولو كان هذا عبداً لم يرغب أحد في شرائه فكيف يقول العاقل إن رب العالمين موصوف بهذه الصورة
وأما القسم الثاني وهو أن لا يقتصر على الأعضاء المذكورة في القرآن بل يزيد وينقص على وفق التأويلات فحينئذ يبطل مذهبه في الحمل على مجرد الظواهر ولا بد له من قبول دلائل العقل
الحجة الثانية في إبطال قولهم إنهم إذا أثبتوا الأعضاء لله تعالى فإن أثبتوا له عضو الرجل فهو رجل وأن أثبتوا له عضو النساء فهو أنثى وإن نفوهما فهو خصي أو عنين وتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً
الحجة الثالثة أنه في ذاته سبحانه وتعالى إما أن يكون جسماً صلباً لا ينغمز ألبتة فيكون حجراً صلباً وإما أن يكون قابلاً للانغماز فيكون ليناً قابلاً للتفرق والتمزق وتعالى الله عن ذلك
الحجة الرابعة أنه إن كان بحيث لا يمكنه أن يتحرك عن مكانه كان كالزمن المعقد العاجز وإن كان بحيث يمكنه أن يتحرك عن مكانه كان محلاً للتغيرات فدخل تحت قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 )
الحجة الخامسة إن كان لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتحرك كان كالميت وإن كان يفعل هذه الأشياء كان إنساناً كثير التهمة محتاجاً إلى الأكل والشرب والوقاع وذلك باطل
الحجة السادسة أنهم يقولون إنه ينزل كل ليلة من العرش إلى السماء الدنيا فنقول لهم حين نزوله هل يبقى مدبراً للعرش ويبقى مدبراً للسماء الدنيا حين كان على العرش وحينئذ لا يبقى في النزول فائدة وإن لم يبق مدبراً للعرش فعند نزوله يصير معزولاً عن إلهية العرش والسموات
الحجة السابعة أنهم يقولون إنه تعالى أعظم من العرش وإن العرش لا نسبة لعظمته إلى عظمة الكرسي وعلى هذا الترتيب حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فإذا كان كذلك كانت السماء الدنيا بالنسبة إلى عظمة الله كالذرة بالنسبة إلى البحر فإذا نزل فإما أن يقال إن الإله يصير صغيراً بحيث تسعه السماء الدنيا وإما أن يقال إن السماء الدنيا تصير أعظم من العرش وكل ذلك باطل
الحجة الثامنة ثبت أن العالم كرة فإن كان فوق بالنسبة إلى قوم كانت تحت بالنسبة إلى قوم آخرين وذلك باطل وإن كان فوق بالنسبة إلى الكل فحينئذ يكون جسماً محيطاً بهذا العالم من كل الجوانب فيكون إله العالم على هذا القول فلكاً من الأفلاك
الحجة التاسعة لما كانت الأرض كرة وكانت السموات كرات فكل ساعة تفرض الساعات فإنها تكون ثلث الليل في حق أقوام معينين من سكان كرة العوارض فلو نزل من العرش في ثلث الليل وجب أن يبقى أبداً نازلاً عن العرش وأن لا يرجع إلى العرش ألبتة
الحجة العاشرة أنا إنما زيفنا إلهية الشمس والقمر لثلاثة أنواع من العيوب أولها كونه مؤلفاً من الأجزاء والأبعاض وثانيها كونه محدوداً متناهياً وثالثها كونه موصوفاً بالحركة والسكون والطلوع(26/200)
والغروب فإذا كان إله المشبهة مؤلفاً من الأعضاء والأجزاء كان مركباً فإذا كان العرش كان محدوداً متناهياً وإن كان ينزل من العرش ويرجع إليه كان موصوفاً بالحركة والسكون فهذه الصفات الثلاثة إن كانت منافية للألهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها وذلك يبطل قول المشبهة وإن لم تكن منافية للأهلية فحينئذ لا يقدر أحد على الطعن في إلهية الشمس والقمر
الحجة الحادية عشرة قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) ولفظ الأحد مبالغة في الوحدة وذلك ينافي كونه مركباً من الأجزاء والأبعاض
الحجة الثانية عشرة قوله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ( محمد 38 ) ولو كان مركباً من الأجزاء والأبعاض لكان محتاجاً إليها وذلك يمنع من كونه غنياً على الإطلاق فثبت بهذه الوجوه أن القول بإثبات الأعضاء والأجزاء لله محال ولما ثبت بالدلائل اليقينية وجوب تنزيه الله تعالى عن هذه الأعضاء فنقول ذكر العلماء في لفظ اليد وجوهاً الأول أن اليد عبارة عن القدرة تقول العرب ما لي بهذا الأمر من يد أي من قوة وطاقة قال تعالى أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ ( البقرة 237 ) الثاني اليد عبارة عن النعمة يقال أيادي فلان في حق فلان ظاهرة والمراد النعم والمراد باليدين النعم الظاهرة والباطنة أو نعم الدين والدنيا الثالث أن لفظ اليد قد يزاد للتأكيد كقول القائل لمن جنى باللسان هذا ما كسبت يداك وكقوله تعالى بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( الأعراف 57 )
ولقائل أن يقول حمل اليد على القدرة ههنا غير جائز ويدل عليه وجوه الأول أن ظاهر الآية يقتضي إثبات اليدين فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لزم إثبات قدرتين لله وهو باطل والثاني أن الآية تقتضي أن كون آدم مخلوقاً باليدين يوجب فضيلته وكونه مسجوداً للملائكة فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لكان آدم مخلوقاً بالقدرة لكن جميع الأشياء مخلوقة بقدرة الله تعالى فكما أن آدم عليه السلام مخلوق بيد الله تعالى فكذلك إبليس مخلوق بيد الله تعالى وعلى تقدير أن تكون عبارة عن القدرة لم تكن هذه العلة علة لكون آدم مسجوداً لإبليس أولى من أن يكون إبليس مسجوداً لآدم وحينئذٍ يختل نظم الآية ويبطل الثالث أنه جاء في الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( كلتا يديه يمنى ) ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق بالقدرة
وأما التأويل الثاني وهو حمل اليدين على النعمتين فهو أيضاً باطل لوجوه الأول أن نعم الله تعالى كثيرة كما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وظاهر الآية يدل على أن اليد لا تزيد على الإثنتين الثاني لو كانت اليد عبارة عن النعمة فنقول النعمة مخلوقة لله فحينئذٍ لا يكون آدم مخلوقاً لله تعالى بل يكون مخلوقاً لبعض المخلوقات وذلك بأن يكون سبباً لمزيد النقصان أولى من أن يكون سبباً لمزيد الكمال الثالث لو كانت اليد عبارة عن النعمة لكان قوله تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ ( الملك 1 ) معناه تبارك الذي بنعمته الملك ولكان قوله ( بيدك الخير ) معناه بنعمتك الخير ولكان قوله يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( المائدة 64 ) معناه نعمتان مبسوطتان ومعلوم أن كل ذلك فاسد
وأما التأويل الثالث وهو قوله إن لفظ اليد قد يذكر زيادة لأجل التأكيد فنقول لفظ اليد قد يستعمل في(26/201)
حق من يكون هذا العضو حاصلاً له وفي حق من لا يكون هذا العضو حاصلاً في حقه أما الأول فكقولهم في حق من جنى بلسانه هذا ما كسبت يداك والسبب في هذا أن محل القدرة هو اليد فطلق اسم اليد على القدرة وعلى هذا التقدير فيصير المراد من لفظ اليد القدرة وقد تقدم إبطال هذا الوجه وأما الثاني فكقوله بَيْنَ يَدَى ْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( سبأ 46 ) وقوله ( بين يدي الساعة ) إلا أنا نقول هذا المجاز بهذا اللفظ مذكور والمجاز لا يقاس عليه ولا يكون مطرداً فلا جرم لا يجوز أن يقال إن هذا المعنى إنما حصل بيد العذاب وبيد الساعة ونحن نسلم أن قوله لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( الحجرات 1 ) قد يجوز أن يراد به التأكيد والصلة أما المذكور في هذه الآية ليس هذا اللفظ بل قوله تعالى خَلَقْتُ بِيَدَى َّ وإن كان القياس في المجازات باطلاً فقد سقط كلامكم بالكلية فهذا منتهى البحث في هذا الباب
والذي تلخص عندي في هذا الباب أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيده إلا إذا كانت غاية عنايته مصروفة إلى ذلك العمل فإذا كان العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازاً عنه عند قيام الدلائل القاهرة فهذا ما لخصناه في هذا الباب والله أعلم
أما قوله تعالى أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ فالمعنى استكبرت الآن أم كنت أبداً من المتكبرين العالين فأجاب إبليس بقوله أَنَا خَيْرٌ مّنْ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ فالمعنى أني لو كنت مساوياً له في الشرف لكان يقبح أمري بسجودي له فكيف وأنا خير منه ثم بين كونه خيراً منه بأن أصله من النار والنار أشرف من الطين فصح أن أصله خير من أصل آدم ومن كان أصله خيراً من أصله فهو خير منه فهذه مقدمات ثلاثة
المقدمة الأولى أن إبليس مخلوق من النار يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ وقوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 )
المقدمة الثانية أن النار أفضل من الطين ويدل عليه وجوه الأول أن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعدها عنه فوجب كون النار أفضل من الأرض الثاني أن النار خليفة الشمس والقمر في إضاءة هذا العالم عند غيبتهما والشمس والقمر أشرف من الأرض فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض الثالث أن الكيفية الفاعلة الأصلية إما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت الرابع الأرض كثيفة والنار لطيفة واللطافة أشرف من الكثافة الخامس النار مشرقة والأرض مظلمة والنور خير من الظلمة السادس النار خفيفة تشبه الروح والأرض ثقيلة تشبه الجسد والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض ولذلك فإن الأطباء أطبقوا على أن العنصرين الثقيلين أعون على تركيب الأجساد وأن العنصرين الخفيفين أعون على تولد الأرواح السابع النار صاعدة والأرض هابطة والصاعد أفضل من الهابط الثامن أن أول بروج الفلك هو الحمل لأنه هو الذي يبدأ من نقطة الاستواء الشمالي ثم إن الحمل على طبيعة النار وأشرف أعضاء الحيوان والقلب والروح وهما على طبيعة النار وأخس أعضاء الحيوان هو العظم وهو بارد يابس أرضي التاسع أن الأجسام الأرضية كلما كانت أشد نورانية ومشابهة بالنار كانت أشرف وكلما كانت أكثر غبرة وكثافة وكدورة ومشابهة بالأرض كانت أخس مثاله الأجسام الشبيهة بالنار الذهب والياقوت(26/202)
والأحجار الصافية النورانية ومثاله أيضاً من الثياب الإبريسم وما يتخذ منه وأما أن كل ما كان أكثر أرضية وغبرة فهو أخس فالأمر ظاهر العاشر أن القوة الباصرة قوة في غاية الشرف والجلالة ولا يتم عملها إلا بالشعاع وهو جسم شبيه بالنار الحادي عشر أن أشرف أجسام العالم الجسماني هو الشمس ولا شك أنه شبيه بالنار في صورته وطبيعته وأثره الثاني عشر أن النضج والهضم والحياة لا تتم إلا بالحرارة ولولا قوة الحرارة لما تم المزاج وتولدت المركبات الثالث عشر أن أقوى العناصر الأربعة في قوة الفعل هو النار وأكملها في قوة الانفعال هو الأرض والفعل فضل من الانفعال فالنار أفضل من الأرض أما القائلون بتفضيل الأرض على النار فذكروا أيضاً وجوهاً الأول أن الأرض أمين مصلح فإذا أودعتها حبة ردتها إليك شجرة مثمرة والنار خائنة تفسد كل ما أسلمته إليها الثاني أن الحس البصري أثنى على النار فليستمع ما يقوله الحس اللمسي الثالث أن الأرض مستولية على النار فإنها تطفىء النار وأما النار فإنها لا تؤثر في الأرض الخالصة
وأما المقدمة الثالثة فهي أن من كان أصله خيراً من أصله فهو خير منه فاعلم أن هذه المقدمة كاذبة جداً وذلك لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين النزهة والأشجار المثمرة وهو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد وأيضاً فهب أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يصير معارضاً بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه إلا أن الذي لا يكون نسبياً قد يكون كثير العلم والزهد فيكون هو أفضل من ذلك النسيب بدرجات لا حد لها فالمقدمة الكاذبة في القياس الذي ذكره إبليس هو هذه المقدمة فإن قال قائل هب أن إبليس أخظأ في هذا القياس لكن كيف لزمه الكفر من تلك المخالفة وبيان هذا السؤال من وجوه الأول أن قوله اسْجُدُواْ أمر والأمر لا يقتضي الوجوب بل الندب ومخالفة الندب لا توجب العصيان فضلاً عن الكفر وأيضاً فالذين يقولون إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملاً للندب احتمالاً ظاهراً ومع قيام هذا الأحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلاً عن الكفر الثاني هب أنه للوجوب إلا أن إبليس ما كان من الملائكة فأمر الملائكة بسجود آدم لا يدخل فيه إبليس الثالث خب أنه يتناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فخصص نفسه عن عموم ذلك الأمر بالقياس الرابع هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأموراً به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر الجواب هب أن صيفة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على الوجوب وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك القياس ليتوسل به إلى القدح في أمر الله وتكليفه وذلك يوجب الكفر إذا عرفت هذا فنقول إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد قال تعالى أَخْرَجَ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم(26/203)
معللاً بذلك الوصف وههنا الحكم بكونه رجيماً ورد عقيب ما حكي عنه أنه خصص النص بالقياس فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم وقوله مِنْهَا أي من الجنة أو من السموات والرجيم المرجوم وفيه قولان
الأول أنه مجاز عن الطرد لأن الظاهر أن من طرد فقد يرمي بالحجارة وهو الرجم فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد فإن قالوا الطرد هو اللعن فلو حملنا قوله رَّجِيمٍ على الطرد لكان قوله بعد ذلك وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى تكراراً والجواب من وجهين الأول أنا نحمل الرجم على الطرد من الجنة أو من السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله والثاني أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدّينِ على أن ذلك الطرد يمتد إلى آخر القيامة فيكون هذا فائدة زائدة ولا يكون تكريراً
والقول الثاني في تفسير الرجيم أن نحمله على الحقيقة وهو كون الشياطين مركومين بالشهب والله أعلم فإن قيل كلمة إلى لإنتهاء الغاية فقوله إِلَى يَوْمِ الدّينِ يقتضي انقطاع تلك اللعنة عند مجيء يوم الدين أجاب صاحب ( الكشاف ) بأن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا جاء يوم القيامة جعل مع اللعنة أنواع من العذاب تصير اللعنة مع حضورها منسية
واعلم أن إبليس لما صار ملعوناً قال فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قيل إنما طلب الإنظار إلى يوم يبعثون لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا نظر إلى يوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء يوم البعث لا يموت أيضاً فحينئذ يتخلص من الموت فقال تعالى إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ومعناه إنك من المنظرين إلى يوم يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه فقال إبليس فَبِعِزَّتِكَ وهو قسم بعزة الله وسلطانه لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فههنا أضاف الإغواء إلى نفسه وهو على مذهب القدر وقال مرة أخرى رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى فأضاف الإغواء إلى الله على ما هو مذهب الجبر وهذا يدل على أنه متحير في هذه المسألة
وأما قوله إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ففيه فوائد
الفائدة الأولى قيل غرض إبليس من ذكره هذا لإستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء وادعى أنه يغوي الكل لكان يظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله الصالحين فكأن إبليس قال إنما ذكرت هذا الاستثناء لئلا يقع الكذب في هذا الكلام وعن هذا يقال إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس فكيف يليق بالمسلم الإقدام عليه فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أُلْقِى َ الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) قلنا إن إبليس لم يقل إني لم أقصد إغواء عباد الله الصالحين بل قال لأغوينهم وهو وإن كان يقصد الإغواء إلا أنه لا يغويهم
الفائدة الثانية هذه الآية تدل على أن إبليس لا يغوي عباد الله المخلصين وقال تعالى في صفة يوسف إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( يوسف 24 ) فنصل من مجموع هاتين الآيتين أن إبليس ما أغوي يوسف عليه السلام وذلك يدل على كذب الحشوية فيما ينسبون إلى يوسف عليه السلام من القبائح(26/204)
واعلم أن إبليس لما ذكر هذا الكلام قال الله تعالى فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة فَالْحَقُّ بالرفع وَالْحَقَّ بالنصب والباقون بالنصب فيهما أما الرفع فتقديره فالحق قسمي وأما النصب فعلى القسم أي فبالحق كقولك والله لأفعلن وأما قوله وَالْحَقَّ أَقُولُ انتصب قوله وَالْحَقَّ بقوله أَقُولُ
المسألة الثانية قوله مِنكَ أي من جنسك وهم الشياطين وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ من ذرية آدم فإن قيل قوله أَجْمَعِينَ تأكيد لماذا قلنا يحتمل أن يؤكد به الضمير في مِنْهُمْ أو الكاف في مِنكَ مع من تبعك ومعناه لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين لا أترك منهم أحداً
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة أن الكل بقضاء الله من وجوه الأول أنه تعالى قال في حق إبليس فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدّينِ فهذا إخبار من الله تعالى بأنه لا يؤمن فلو آمن لانقلب خبر الله الصدق كذباً وهو محال فكان صدور الإيمان منه محالاً مع أنه أمر به والثاني أنه قال فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فالله تعالى علم منه أنه يغويهم وسمع منه هذه الدعوى وكان قادراً على منعه عن ذلك والقادر على المنع إذا لم يمنع كان راضياً به فإن قالوا لعل ذلك المنع مفسد قلنا هذا قول فاسد لأن ذلك المنع يخلص إبليس عن الإضلال ويخلص بني آدم عن الضلال وهذا عين المصلحة الثالث أنه تعالى أخبر أنه يملأ جهنم من الكفرة فلو لم يكفروا لزم الكذب والجهل في حق الله تعالى الرابع أنه لو أراد أن لا يكفر الكافر لوجب أن يبقى الأنبياء والصالحين وأن يميت إبليس والشياطين وحيث قلب الأمر علمنا أنه فاسد الخامس أن تكليف أولئك الكفار بالإيمان يقتضي تكليفهم بالإيمان بهذه الآيات التي هي دالة على أنهم لا يؤمنون ألبتة وحينئذ يلزم أن يصيروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة وذلك تكليف بما لا يطاق والله أعلم
قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ
اعلم أن الله تعالى ختم هذه السورة بهذه الخاتمة الشريفة وذلك لأنه تعالى ذكر طرقاً كثيرة دالة على وجوب الاحتياط في طلب الدين ثم قال عند الختم هذا الذي أدعو الناس إليه يجب أن ينظر في حال الداعي وفي حال الدعوة ليظهر أنه حق أبو باطل أما الداعي وهو أنا فأنا لا أسألكم على هذه الدعوة أجراً ومالاً ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طعمه عن طلب المال ألبتة وكان من الظاهر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان بعيداً عن الدنيا عديم الرغبة فيها وأما كيفية الدعوة فقال وما أنا من المتكلفين والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً والذي يغلب على الظن أن المراد أن هذا الذي أدعوكم إليه دين ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات(26/205)
الكثيرة بل هو دين يشهد صريح العقل بصحته فإني أدعوكم إلى الإقرار بوجود الله أولاً ثم أعوكم ثانياً إلى تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق به يقوي ذلك قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء وأمثاله ثم أدعوكم ثالثاً إلى الإقرار بكونه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة ثم أدعوكم رابعاً إلى الإقرار بكونه منزهاً عن الشركاء والأضداد ثم أعوكم خامساً إلى الإمتناع عن عبادة هذه الأوثان التي هي جمادات خسيسة ولا منفعة في عبادتها ولا مضرة في الإعراض عنها ثم أدعوكم سابعاً إلى الإقرار بالبعث والقيامة لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ( النجم 31 ) ثم أدعوكم ثامناً إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة فهذه الأصول الثمانية هي الأصول القوية المعتبرة في دين الله تعالى ودين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبدائه العقول وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه الأصول الثمانية فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة التي أدعو الخلق إليها بل كان عقل سليم وطبع مستقيم فإنه يشهد بصحتها وجلالتها وبعدها عن الباطل والفساد وهو المراد من قوله إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ولما بين هذه المقدمات قال وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ والمعنى أنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد وأبيتم قبول هذه البيانات التي ذكرناها فستعلمون بعد حين أنكم كمنتم مصيبين في هذا الإعراض أو مخطئين وذكر مثل هذه الكلمة بعد تلك البيانات المتقدمة مما لا مزيد عليه في التخويف والترهيب والله أعلم(26/206)
سورة الزمر
سبعون وخمس آيات مكية
تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر الفراء والزجاج في رفع تَنزِيلَ وجهين أحدهما أن يكون قوله تَنزِيلَ مبتدأ وقوله مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ خبر الثاني أن يكون التقدير هذا تنزيل الكتاب فيضمر المبتدأ كقوله سورة أنزلناها ( النور 1 ) أي هذه سورة قال بعضهم الوجه الأول لوجوه الأول أن الإضمار خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة ولا ضرورة ههنا الثاني أنا إذا قلنا ( النور 1 ) أي هذه سورة قال بعضهم الوجه الأول لوجوه الأول أن الإضمار خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة ولا ضرورة ههنا الثاني أنا إذا قلنا تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ جملة تامة من المبتدأ والخبر أفاد قائدة شريفة وهي أن تنزيل الكتاب يكون من الله لا من غيره وهذا(26/207)
الحصر معنى معتبر أما إذا أضمرنا المبتدأ لم تحصل هذه الفائدة الثالث أنا إذا أضمرنا المبتدأ صار التقدير هذا تنزيل الكتاب من الله وحينئذ يلزمنا مجاز آخر لأن هذا إشارة إلى السورة والسورة ليست نفس التنزيل بل السورة منزلة فحينئذ يحتاج إلى أن نقول المراد من المصدر المفعول وهو مجاز تحملناه لا لضرورة
المسألة الثانية القائلون بخلق القرآن احتجوا بأن قالوا إنه تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلاً ومنزلاً وهذا الوصف لا يليق إلا بالمحدث المخلوق والجواب أنا نحمل هذه اللفظة على الصيغ والحروف
المسألة الثالثة الآيات الكثير تدل على وصف القرآن بكونه تنزيلاً وآيات أخر تدل على كونه منزلاً
أما الأول فقوله تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين ( الشعراء 192 ) وقال ( الشعراء 192 ) وقال تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( فصلت 42 ) وقال حم تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( فصلت 1 2 )
وأما الثاني فقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) وقال وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ ( الإسراء 105 ) وأنت تعلم أن كونه منزلاً أقرب إلى الحقيقة من كونه تنزيلاً فكونه منزلاً مجاز أيضاً لأنه إن كان المراد من القرآن الصفة القائمة بذات الله فهو لا يقبل الإنفصال والنزول وإن كان المراد منه الحروف والأصوات فهي أعراض لا تقبل الانتقال والنزول بل المراد من النزول نزول الملك الذي بلغها إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الرابعة قالت المعتزلة العزيز هو القادر الذي لا يغلب فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى قادراً على ما لا نهاية له والحكيم هو الذي يفعل لداعية الحكمة لا لداعية الشهوة وهذا إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات وأنه غني عن جميع الحاجات إذا ثبت هذا فنقول كونه تعالى عزيزاً حكيماً يدل على هذه الصفات الثلاثة العلم بجميع المعلومات والقدرة على كل الممكنات والإستغناء عن كل الحاجات فمن كان كذلك امتنع أن يفعل القبيح وأن يحكم بالقبيح وإذا كان كذلك فكل ما يفعله يكون حكمة وصواباً إذا ثبت هذا فنقول الإنتفاع بالقرآن يتوقف على أصلين أحدهما أن يعلم أن القرآن كلام الله والدليل عليه أنه ثبت بالمعجز كون الرسول صادقاً وثبت بالتواتر أنه كان يقول القرآن كلام الله فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن القرآن كلام الله والأصل الثاني أن الله أراد بهذه الألفاظ المعاني التي هي موضوعة لها أم بحسب اللغة أو بحسب القرينة العرفية أو الشرعية لأنه لو لم يرد بها ذلك لكان تلبيساً وذلك لا يليق بالحكيم فثبت بما ذكرنا أن الانتفاع بالقرآن لا يحصل إلا بعد تسليم هذين الأصلين وثبت أنه لا سبيل إلى إثبات هذين الأصلين إلا بإثبات كونه تعالى حكيماً وثبت أن لا سبيل إلى إثبات كونه حكيماً إلا بالبناء على كونه تعالى عزيزاً فلهذا السبب قال تنزيل الكتاب من الله العزيم الحكيم
أما قوله تعالى
أما قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ففيه سؤالان
السؤال الأول لفظ التنزيل يشعر بأنه تعالى أنزله عليه نجماً على سبيل التدريج ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله عليه دفعة واحدة فكيف الجمع بينهما والجواب إن صح الفرق بين التنزيل وبين الإنزال من الوجه الذي ذكرتم فطريق الجمع أن يقال المعنى إنا حكمنا حكماً كلياً جزماً بأن يوصل إليك هذا الكتاب وهذا هو الإنزال ثم أوصلناه نجماً إليك على وفق المصالح وهذا هو التنزيل(26/208)
السؤال الثاني ما المراد من قوله إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ والجواب فيه وجهان الأول المراد أنزلنا الكتاب إليك ملتبساً بالحق والصدق والصواب على معنى كل ما أودعناه فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق وصدق يجب العمل به والمصير إليه الثاني أن يكون المراد إنا أنزلنا إليك الكتاب بناء على دليل حق دل على أن التاب نازل من عند الله وذلك الدليل هو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته ولو لم يكن معجزاً لما عجزوا عن معارضته
ثم قال فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما بين في قوله إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق والصواب أردف ها بعض ما فيه من الحق والصدق وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص ويتبرأ عن عبادة غير الله تعالى بالكلية فأما اشتغاله بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فهو المراد من قوله تعالى فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً وأما براءته من عبادة غير الله تعالى فهو المراد بقوله أَلاَ لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ لأن قوله أَلاَ لِلَّهِ يفيد الحصر ومعنى الحصر أن يثبت الحكم في المذكور وينتفي عن غير المذكور واعلم أن العبادة مع الإخلاص لا تعرف حقيقة إلا إذا عرفنا أن العبادة ما هي وأن الإخلاص ما هو وأن الوجوه المنافية للإخلاص ما هي فهذه أمور ثلاثة لا بد من البحث عنها
أما العبادة فهي فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول ويؤتي به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب قبوله
وأما الإخلاص فهو أن يكون الداعي له إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد هذا الانقياد والإمتثال فإن حصل منه داع آخر فإما أن يكون جانب الداعي إلى الطاعة راجحاً على الجانب الآخر أو معادلاً له أو مرجوحاً وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط وأما إذا كان الداعي إلى طاعة الله راجحاً على الجانب الآخر فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أم لا وقد ذكرنا هذه المسألة مراراً ولفظ القرآن يدل على وجوب الإتيان به على سبيل الخلوص لأن قوله فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً صريح في أنه يجب الإتيان بالعبادة على سبيل الخلوص وتأكد هذا بقوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينة 5 ) وأما بيان الوجوه المنافية للإخلاص فهي الوجوه الداعية للشريك وهي أقسام أحدها أن يكون للرياء والسمعة فيه مدخل وثانيها أن يكون مقصودة من الإتيان بالطاعة الفوز بالجنة والخلاص من النار وثالثها أن يأتي بها ويعتقد أن لها تأثيراً في إيجاب الثواب أو دفع العقاب ورابعها وهو أن يخلص الطاعات عن الكبائر حتى تصير مقبولة وهذا القول إنما يعتبر على قول المعتزلة
المسألة الثانية من الناس من قال فاعبد الله مخلصاً له الدين المراد منه شهادة أن لا إله إلا الله واحتجوا بما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا إله إلا الله حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي ) وهذا قول من يقول لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر وأما الأكثرون فقالوا الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي وهذا الأولى لأن قوله المراد منه شهادة أن لا إله إلا الله واحتجوا بما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا إله إلا الله حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي ) وهذا قول من يقول لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر وأما الأكثرون فقالوا الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي وهذا الأولى لأن قوله فَاعْبُدِ اللَّهَ عام وروي أن امرأة الفرزدق لما قرب وفاتها وأصت أن يصلي الحسن البصري عليها فلما صلى عليها ودفنت قال للفرزدق يا أبا فراس ما الذي أعددت لهذا الأمر قال شهادة أن لا إله إلا الله فقال الحسن رضي الله عنه هذا العمود فأين الطنب(26/209)
فبين بهذا أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة قال القاضي فأما ما يروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لمعاذ وأبي الدرادء ( وإن زني وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء ) فإن صح فإنه يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة وإلا لم يجز قبول هذا الخبر لأنه مخالف للقرآن ولأنه يوجب أن لا يكون الإنسان مزجوراً عن الزنا والسرقة وأن لا يكون متعدياً بفعلهما لأنه مع شدة شهوته للقبيح يعلم أنه لا يضره مع تمسكه بالشهادتين فكأن ذلك إغراء بالقبيح لأنا نقول إن من اعتقد أن ضرره يزول بالتوبة فقد اعتقد أن فعل القبيح مضرة إلا أنه يزيل ذلك الضرر بفعل التوبة بخلاف قول من يقول إن فعل القبيح لا يضر مع التمسك بالشهادتين هذا تمام كلام القاضي فيقال له أما قولك إن القول بالمغفرة مخالف للقرآن فليس كذلك بل للقرآن يدل عليه قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وقال وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ( الرعد 6 ) أي حال ظلمهم كما يقال رأيت الأمير على أكله وشربه أي حال كونه آكلاً وشارباً وقال قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) وأما قوله إن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح فيقال له إن كان الأمر كذلك وجب أن يقبح غفرانه عقلاً وأيضاً فيلزم عليه أن لا يحصل الغفران بالتوبة لأنه إذا علم أنه إذا أذنب ثم تاب غفر الله له لم ينزجر وأما الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد لأنه إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضره ذلك الذنب ألبتة ثم نقول مذهبنا أنا نقطع بحصول العفو عن الكبائر في الجملة فأما في حق كل واحد من الناس فذلك مشكوك فيه لأنه تعالى قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء فقطع بحصول المغفرة في الجملة إلا أنه سبحانه وتعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد بل في حق من شاء وإذا كان كذلك كان الخوف حاصلاً فلا يكون الإغراء حاصلاً والله أعلم
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف ) قريء الدين بالرفع ثم قال وحق من رفعه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام لقوله تعالى وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ ( النساء 146 ) حتى يطابق قوله أَلاَ لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ والخالص واحد إلا أنه وصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر واعلم أنه تعالى لما بين أن رأس العبادات ورئيسها الإخلاص في التوحيد أردفه بذم طريقة المشركين فقال وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وتقدير الكلام والذين اتخذوا من دونه أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وعلى هذا التقدير فخبر الذين محذوف وهو قوله يقولون واعلم أن الضمير في قوله مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى عائد على الأشياء التي عبدت من دون الله وهي قسمان العقلاء وغير العقلاء أما العقلاء فهو أن قوماً عبدوا المسيح وعزيزاً والملائكة وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام إذا عرفت هذا فنقول الكلام الذي ذكره الكفار لائق بالعقلاء أما بغير العقلاء فلا يليق وبيانه من وجهين الأول أن الضمير في قوله مَا نَعْبُدُهُمْ ضمير للعقلاء فلا يليق بالأصنام الثاني أنه لا يبعد أن يعتقد أولئك الكفار أنها تقربه إلى الله وعلى هذا التقدير فمرادهم أن(26/210)
عبادتهم لها تقربهم إلى الله ويمكن أن يقال إن العاقل لا يبعد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صوراً لها
وحاصل الكلام لعباد الأصنام أن قالوا إن الإله الأعظم أجل من أن يعبده البشر اللائق بالبشر أن يشتغلوا بعبادة الأكابر من عباد الله مثل الكواكب ومثل الأرواح السماوية ثم إنها تشتغل بعبادة الإله الأكبر فهذا هو المراد من قولهم مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى
واعلم أن الله تعالى لما حكى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه الأول أنه اقتصر في الجواب على مجرد التهديد فقال إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ واعلم أن الرجل المبطل إذا ذكر مذهباً باطلاً وكان مصراً عليه فالطريق في علاجه أن يحتال بحيلة توجب زوال ذلك الإصرار عن قلبه فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يسمعه الدليل الدال على بطلانه فيكون هذا الطريق أقضى إلى المقصود والأطباء يقولون لا بد من تقديم المنضج على سقي المسهل فإن بتناول المنضج تصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال فإذا سقيته المسهل بعد ذلك حصل النقاء التام فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولاً يجري مجرى سقي المنضج أولاً وإسماع الدليل ثانياً يجري مجرى سقي المسهل ثانياً فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ والمراد أن من أصر على الكذب والكفر بقي محروماً عن الهداية والمراد بهذا الكذب وصفهم بهذه الأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وهم نحتوها وتصرفوا فيها والعلم الضروري حاصل بأن وصف هذه الأشياء بالإلهية كذب محض وأما الكفر فيحتمل أن يكون المراد منه الكفر الراجع إلى الإعتقاد والأمر ههنا كذلك فإن وصفهم لها بالإلهية كذب واعتقادهم فيها بالإلهية جهل وكفر ويحتمل أن يكون المراد كفران النعمة والسبب فيه أن العبدة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام وذلك المنعم هو الله سبحانه وتعالى وهذه الأوثان لا مدخل لها في ذلك الإنعام فالإشتغال بعبادة هذه الأوثان يوجب كفران نعمة المنعم الحق
ثم قال تعالى لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ والمراد من هذا الكلام إقامة الدلائل القاهرة على كونه منزهاً عن الولد وبيانه من وجوه الأول أنه لو اتخذ ولداً لما رضي إلا بأكمل الأولاد وهو الإبن فكيف نسبتم إليه البنت الثاني أنه سبحانه واحد حقيقي والواحد الحقيقي يمتنع أن يكون له ولد أما أنه واحد حقيقي فلأنه لو كان مركباً لاحتاج إلى كل واحد من أجزائه وجزؤه غيره فكان يحتاج إلى غيره والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته والممكن لذاته لا يكون واجب الوجود لذاته وأما أن الواحد لا يكون له ولد فلوجوه الأول أن الولد عبارة عن جزء من أجزاء الشيء ينفصل عنه ثم يحصل له صورة مساوية لصورة الوالد وهذا إنما يعقل في الشيء الذي ينفصل منه جزء والفرد المطلق لا يقال ذلك فيه الثاني شرط الولد أن يكون مماثلاً في تمام الماهية للوالد فتكون حقيقة ذلك الشيء حقيقة نوعية محمولة على شخصين وذلك محال لأن تعيين كل واحد منهما إن كان من لوازم تلك الماهية لزم أن لا(26/211)
يحصل من تلك الماهية إلا الشخص الواحد وإن لم يكن ذلك التعيين من لوازم تلك الماهية كان ذلك التعيين معلوماً بسبب منفصل فلا يكون إلهاً واجب الوجود لذاته فثبت أن كونه إلهاً واجب الوجود لذاته يوجب كونه واحداً في حقيقته وكونه واحداً في حقيقته يمنع من ثبوت الولد له فثبت أن كونه واحداً يمنع من ثبوت الولد الثالث أن الولد لا يحصل إلا من الزوج والزوجة والزوجان لا بد وأن يكونا من جنس واحد فلو كان له ولد لما كان واحداً بل كانت زوجته من جنسه وأما أن كونه قهاراً يمنع من ثبوت الولد له فلأن المحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيحتاج إلى ولد يقوم مقامه فالمحتاج إلى الولد هو الذي يكون مقهوراً بالموت أما الذي يكون قاهراً ولا يقهره غيره كان الولد في حقه محالاً فثبت أن قوله هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ألفاظ مشتملة على دلائل قاطعة في نفي الولد عن الله تعالى
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاًّجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الاٌّ نْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إله إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
اعلم أن الآية المتقدمة دلت على أنه تعالى بين كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً وقهاراً غالباً أي كامل القدرة فلما بني تلك المسألة على هذه الأصول ذكر عقيبها ما يدل على كمال القدرة وعلى كمال الاستغناء وأياً فإنه تعالى طعن في إليهة الأصنام فذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية واعلم أنا بينا في مواضع من هذا الكتاب أن الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات إليهته إما أن تكون فلكية أو عنصرية أما الفلكية فأقسام أحدها خلق السموات والأرض وهذا المعنى يدل على وجود الإله القادر من وجوه كثيرة شرحناها في تفسير قوله تعالى الْحَمْدُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 )(26/212)
والثاني اختلاف أحوال الليل والنهار وهو المراد ههنا من قوله يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وذلك لأن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك تارة وذلك هذا أخرى وذلك يدل على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره وهو الله سبحانه وتعالى والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص عن الآخر والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث ( نعوذ الله من الحور بعد الكور ) أي من الإدبار بعد الإقبال واعلم أنه سبحانه وتعالى عبر عن هذا المعنى بقوله يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وبقوله يَغْشَى وَهُوَ الَّذِى ( الأعراف 54 ) وبقوله يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ ( فاطر 13 ) وبقوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ( الفرقان 62 ) والثالث اعتبار أحوال الكواكب لا سيما الشمس والقمر فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما وقوله كل يجري لأجل مسمى الأجل المسمى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا ونظيره قوله تعالى الأجل المسمى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا ونظيره قوله تعالى وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( القيامة 9 ) والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون على حد واحد إلى يوم القيامة وعنده تطري السماء كطي السجل للكتب
ولما ذكر الله هذه الأنواع الثلاثة من الدلائل الفلكية قال أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ والمعنى أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإن دل على كونه عزيزاً أي كامل القدرة إلا أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكونه غفاراً يوجب كثرة الرحمة وكثرة الرحمة توجب الرجاء والرغبة ثم إنه تعالى أتبع ذكر الدلائل الفلكية بذكر الدلائل المأخوذة من هذا العالم الأسفل فبدأ بذكر الإنسان فقال خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ودلالة تكون الإنسان على الإله المختار قد سبق بيانها مراراً كثيرة فإن قيل كيف جاز أن يقول خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا والزوج مخلوق قبل خلقهم أجابوا عنه من وجوه الأول أن كلمة ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر أحد الكلامين عن الآخر كقول القائل بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس كان أعجب ويقول أيضاً قد أعطيتك اليوم شيئاً ثم الذي أعطيتك أمس أكثر الثاني أن يكون التقدير خلقكم من نفس خلقت وحدها ثم جعل منها زوجها الثالث أخرج الله تعالى ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعد ذلك حواء
واعلم أنه تعالى بما ذكر الاستدلال بخلقة الإنسان على وجود الصانع ذكر عقيبه الاستدلال بوجود الحيوان عليه فقال وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وقد بينا كيفية دلالة هذه الحيوانات على وجود الصانع في قوله وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء ( النحل 5 ) وفي تفسير قوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ وجوه الأول أن قضاء الله وتقديره وحكمه موصوف بالنزول من السماء لأجل أنه كتب في اللوح المحفوط كال كائن يكون الثاني أن شيئاً من الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء والتراب والماء ينزل من السماء فصار التقدير كأنه أنزلها الثالث أنه تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض وقوله ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ أي ذكر وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز والزوج اسم لكل واحد معه آخر فإذا انفرد فهو فرد منه قال تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( القيامة 39 )(26/213)
ثم قال تعالى يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ وفيه أبحاث
الأول قرأ حمزة بكسر الألف والميم والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم والباقون أمهاتكم بضم الألف وفتح الميم
الثاني أنه تعالى لما ذكر تخليق الناس من شخص واحد وهو آدم عليه السلام أردفه بتخليق الأنعام وإنما خصها بالذكر لأنها أشرف الحيوانات بعد الإنسان ثم ذكر عقيب ذكرهما حالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون أمهاتهم وقوله خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ المراد منه ما ذكره الله تعالى في قوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَة َ مُضْغَة ً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَة َ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ ( المؤمنون 12 14 ) وقوله فِى ظُلُمَاتِ ثَلَاثَة ً قيل الظلمات الثلاث البطن والرحم والمشيمة وقيل الصلب والرحم والبطن ووجه الاستدلال بهذه الحالات قد ذكرناه في قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء
واعلم أنه تعالى لما شرح هذه الدلائل ووصفها قال ذالِكَ اللَّهُ رَبُّكُمُ أي ذلكم الشيء الذي عرفتم عجائب أفعاله هو الله ربكم وفي هذه الآية دلالة على كونه سبحانه وتعالى منزهاً عن الأجزاء والأعضاء وعلى كونه منزهاً عن الجسمية والمكانية وذلك أنه تعالى عندما أراد أن يعرف عباده ذاته المخصوصة لم يذكر إلا كونه فاعلاً لهذه الأشياء ولو كان جسماً مركباً من الأعضاء لكان تعريفه بتلك الأجزاء والأعضاء تعريفاً للشيء بأجزاء حقيقته وأما كان ذلك القسم ممكناً لكان الاكتفاء بهذا القسم الثاني تقصيراً ونقصاً وذلك غير جائز فعلمنا أن الاكتفاء بهذا القسم إنما حسن لأن القسم الأول محال ممتنع الوجود وذلك يدل على كونه سبحانه وتعالى متعالياً عن الجسمية والأعضاء والأجزاء
ثم قال تعالى لَهُ الْمُلْكُ وهذا يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره ولما ثبت أنه لا ملك إلا له وجب القول بأنه لا إله إلا هو لأنه لو ثبت إله آخر فذلك الإله إما أن يكون له الملك أو لا يكون له الملك فإن كان له الملك فحينئذ يكون كل واحد منهما مالكاً قادراً ويجري بينهما التمانع كما ثبت في قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وذلك محال وإن لم يكن للثاني شيء من القدرة والملك فيكون ناقصاً ولا يصلح للإلهية فثبت أنه لما دل الدليل على أنه لا ملك إلا الله وجب أن يقال لا إله للعالمين ولا معبود للخلق أجمعين إلا الله الأحد الحق الصمد ثم اعلم أنه سبحانه لما بين بهذه الدلائل كمال قدرة الله سبحانه وحكمته ورحمته رتب عليه تزييف طريقة المشركين والضالين من وجوه الأول قوله فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يحتج به أصحابنا ويحتج به المعتزلة أما أصحابنا فوجه الاستدلال لهم بهذه الآية أنها صريحة في أنهم لم ينصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفها عنهم غيرهم وما ذاك الغير إلا الله وأيضاً فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل واحد يريد لنفسه تحصيل الحق والصواب فلما لم يحصل ذلك وإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه وأما المعتزلة فوجه الاستدلال لهم أن قوله فَأَنَّى تُصْرَفُونَ تعجب من هذا الانصراف ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى(26/214)
ثم قال تعالى إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ عَنكُمْ والمعنى أن الله تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة أو ليدفع عن نفسه مضرة وذلك لأنه تعالى غني على الإطلاق ويمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة وإنما قلنا إنه غني لوجوه الأول واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في جميع صفاته ومن كان كذلك كان غنياً على الإطلاق الثاني أنه لو كان محتاجاً لكانت تلك الحاجة إما قديمة وإما حادثة والأول باطل وإلا لزم أن يخلق في الأزل ما كان محتاجاً إليه وذلك محال لأن الخلق والأزل متناقض والثاني باطل لأن الحاجة نقصان والحكيم لا يدعوه الداعي إلى تحصيل النقصان لنفسه الثالث هب أنه يبقى الشك في أنه هل تصح الشهوة والنفرة والحاجة عليه أم لا أما من المعلوم بالضرورة أن الإله القادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة يمتنع أن ينتفع بصلاة زيد وصيام عمرو وأن يضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذاك فثبت بما ذكرنا أن جميع العالمين لو كفروا وأصروا على الجهل فإن الله غني عنهم
ثم قال تعالى بعده وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ يعني أنه وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفران إلا أنه لا يرضى بالكفر واحتج الجبائي بهذه الآية من وجهين الأول أن المجبرة يقولون إن الله تعالى خلق كفر العباد وإنه من جهة ما خلقه حق وصواب قال ولو كان الأمر كذلك لكان قد رضى الكفر من الوجه الذي خلقه وذلك ضد الآية الثاني لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الله وليس أيضاً برضاء الله تعالى وأجاب الأصحاب عن هذا الاستدلال من وجوه الأول أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين قال الله تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان 63 ) وقال عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 ) وقال إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) فعلى هذا التقدير قوله وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ولا يرضى للمؤمنين الكفر وذلك لا يضرنا الثاني أنا نقول الكفر بإرادة الله تعالى ولا نقول إنا برضا الله لأن الرضا عبارة عن المدح عليه والثناء بفعله قال الله تعالى لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ( الفتح 18 ) أي يمدحهم ويثنى عليهم الثالث كان الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول الرضا عبارة عن ترك اللوم والاعتراض وليس عبارة عن الإرادة والديل عليه قول ابن دريد
رضيت قسراً وعلى القسر رضامن كان ذا سخط على صرف القضا أثبت الرضا مع القسر وذلك يدل على ما قلناه والرابع هب أن الرضا هو الإرادة إلا أن قوله وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ عام فتخصيصه بالآيات الدالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر كقوله تعالى وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الإنسان 30 ) والله أعلم
ثم قال تعالى وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ والمراد أنه لما بين أنه لا يرضى الكفر بين أنه يرضى الشكر وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف القراء في هاء يَرْضَهُ على ثلاثة أوجه أحدها قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الهاء مختلسة غير متبعة وثانيها قرأ أبو عمرو وحمزة في بعض الروايات يرضه ساكنة الهاء للتخفيف وثالثها قرأ نافع في بعض الروايات ابن كثير وابن عامر والكسائي مضمومة الهاء(26/215)
مشبعة قال الواحدي رحمه الله من القراء من أشبع الهاء حتى ألحق بها واواً لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة ضربه وله فكما أن هذا مشبع عند الجميع كذلك يرضه ومنهم من حرك الهاء ولم يلحق الواو لأن الأصل يرضاه والألف المحذوفة للجزم ليس يلزم حذفها فكانت كالباقية ومع بقاء الألف لا يجوز إثبات الواو فكذا ههنا
المسألة الثانية الشكر حالة مركبة من قول واعتقاد وعمل أما القول فهو الإقرار بحصول النعمة وأما الاعتقاد فهو اعتقاد صدور النعمة من ذلك المنعم
ثم قال تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى قال الجبائي هذا يدل على أنه تعالى لا يعذب أحداً على فعل غيره فلو فعل الله كفرهم لما جاز أن يعذبهم عليه وأيضاً لا يجوز أن يعذب الأولاد بذنوب الآباء بخلاف ما يقول القوم واحتج أيضاً من أنكر وجوب ضرب الدية على العاقلة بهذه الآية
ثم قال تعالى ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ واعلم أنا ذكرنا كثيراً أن أهم المطالب للإنسان أن يعرف خالقه بقدر الإمكان وأن يعرف ما يضره وما ينفعه في هذه الحياة الدنيوية وأن يعرف أحواله بعد الموت ففي هذه الآية ذكر الدلائل الكثيرة من العالم الأعلى والعالم الأسفل على كمال قدرة الصانع وعلمه وحكمته ثم أتبعه بأن أمره بالشكر ونهاه ع ن الكفر ثم بين أحواله بعد الموت بقوله ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى المشبهة تمسكوا بلفظ إلى علم أن إله العالم في جهة وقد أجبنا عنه مراراً
المسألة الثانية زعم القوم أن هذه الأرواح كانت قبل الأجساد وتمسكوا بلفظ الرجوع الموجود في هذه الآية وفي سائر الآيات
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على إثبات البعث والقيامة
ثم قال فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهذا تهديد للعاصي وبشارة للمطيع وقوله تعالى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ كالعلة لما سبق يعني أنه يمكنه أن ينبئكم بأعمالكم لأنه عالم بجميع المعلومات فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )
وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَة ً مِّنْهُ نَسِى َ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاٌّ خِرَة َ وَيَرْجُواْ رَحْمَة َ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاٌّ لْبَابِ(26/216)
اعلم أن الله تعالى لما بين فساد القول بالشرك وبين أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد بين في هذه الآية أن طريقة هؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام متناقضة وذلك لأنهم إذا مسهم نوع من أنواع الضر لم يرجعوا في طلب دفعه إلا إلى الله وإذا زال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة الأصنام ومعلوم أنهم إنما رجعوا إلى الله تعالى عند حصول الضر لأنه هو القادر على إيصال الخير ودفع الضر وإذا عرفوا أن الأمر كذلك في بعض الأحوال كان الواجب عليهم أن يعترفوا به في كل الأحوال فثبت أن طريقتهم في هذا الباب متناقضة
أما قوله تعالى وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ فقيل المراد بالإنسان أقوام معينون مثل عتبة بن ربيعة وغيره وقيل المراد به الكافر الذي تقدم ذكره لأن الكلام يخرج على معهود تقدم
أما قوله ضُرٌّ فيدخل فيه جميع المكاره سواء كان في جسمه أو في ماله أو أهله وولده لأن اللفظ مطلق فلا معنى للتقييد خَشِى َ رَبَّهُ أي استجار بربه وناداه ولم يؤمل في كشف الضر سواء فلذلك قال مُنِيباً إِلَيْهِ أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك الضر لأن الإنابة هي الرجوع ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَة ً مّنْهُ أي أعطاه قال صاحب ( الكشاف ) وفي حقيقته وجهان أحدهما جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال إذا كان متعهداً له حسن القيام به ومنه ما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة ) والثاني جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر وفي المعنى قالت العرب إن الغنى طويل الذيل مياس
ثم قال تعالى نَسِى َ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه وما بمعنى من كقوله تعالى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( الليل 3 ) وقوله تعالى وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الكافرون 3 ) وقوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وقيل نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه والمراد من قوله نسي أن ترك دعاءه كأنه لم يفزع إلى ربه ولو أراد به النسيان الحقيقي لما ذمه عليه ويحتمل أن يكون المراد أنه نسي أن لا يفزع وأن لا إله سواه فعاد إلى اتخاذ الشركاء مع الله
ثم قال تعالى وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليضل بفتح الياء والباقون ليضل بضم الياء على معنى ليضل غيره
المسألة الثانية المراد أنه تعالى يعجب العقلاء من مناقضتهم عند هاتين الحالتين فعند الضر يعتقدون أنه لا مفزع إلى ما سواء وعند النعمة يعودون إلى اتخاذ آلهة معه ومعلوم أنه تعالى إذا كان إنما يفزع إليه في حال الضر لأجل أنه هو القادر على الخير والشر وهذا المعنى باق في حال الراحة والفراغ كان في تقرير حالهم في هذين الوقتين بما يوجب المناقضة وقلة العقل(26/217)
المسألة الثالثة معنى قوله لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ أنه لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه بل يدعو غيره إما بفعله أو قوله إلى أن يشاركه في ذلك فيزداد إثماً على إثمه واللام في قوله لِيُضِلَّ لام العاقبة كقوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) ولما ذكر الله تعالى عنهم هذا الفعل المتناقض هددهم فقال قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً وليس المراد منه الأمر بل الزجر وأن يعرفه قلة تمتعه في الدنيا ثم يكون مصيره إلى النار
ولما شرح الله تعالى صفات المشركين والضالين ثم تمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح أحوال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا الله ولا اعتماد لهم إلا على فضل الله فقال أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وحمزة مِن مخففة الميم والباقون بالتشديد أما التخفيف ففيه وجهان الأول أن الألف ألف الاستفهام داخلة على من والجواب محذوف على تقدير كمن ليس كذلك وقيل كالذي جعل لله أنداداً فاكتفى بما سبق ذكره والثاني أن يكون ألف نداء كأنه قيل يا من هو قانت من أهل الجنة وأما التشديد فقال الفراء الأصل أم من فأدغمت الميم في الميم وعلى هذا القول هي أم التي في قولك أزيد أفضل أم عمرو
المسألة الثانية القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة ومنه قوله ( أفضل الصلاة صلاة القنوت ) وهو القيام فيها ومنه القنوت في الصبح لأنه يدعو قائماً عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ وعن ابن عباس القنوت طاعة الله لقوله كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ( البقرة 116 ) أي مطيعون وعن قتادة أَمَّنْ هُوَ ساعات الليل أوله ووسطه وآخره وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار ويؤكده وجوه الأول أن عبادة الليل أستر عن العيون فتكون أبعد عن الرياء الثاني أن الظلمة تمنع من الإبصار ونوم الخلق يمنع من السماع فإذا صار القلب فارغاً عن الاشتغال بالأحوال الخارجية عاد إلى المطلوب الأصلي وهو معرفة الله وخدمته الثالث أن الليل وقت النوم فتركه يكون أشق فيكون الثواب أكثر الرابع قوله تعالى إِنَّ نَاشِئَة َ الَّيْلِ هِى َ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً ( المزمل 6 ) وقوله سَاجِداً حال وقرىء ساجد وقائم على أنه خبر عبد خبر الواو للجميع بين الصفتين
واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة فأولها أنه بدأ فيها بذكر العلم وختم فيها بذكر العلم أما العمل فكونه قانتاً ساجداً قائماً وأما العلم فقوله هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين فالعمل هو البداية والعلم والمكاشفة هو النهاية
الفائدة الثانية أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظباً عليه فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائماً بما يجب عليه من الطاعات وذلك يدل على أن العلم إنما يفيد إذا واظب عليه الإنسان وقوله سَاجِداً وَقَائِماً إشارة إلى أصناف الأعمال وقوله يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَّحْمَة ِ رَبّهِ إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة ينكشف له في الأول مقام القهر وهو قوله يَحْذَرُ الاْخِرَة َ ثم بعده مقام الرحمة وهو قوله مِن رَّحْمَة ِ رَبّهِ ثم يحصل أنواع المكاشفات وهو المراد بقوله هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ(26/218)
الفائدة الثالثة أنه قال في مقام الخوف يَحْذَرُ الاْخِرَة َ فما أضاف الحذر إلى نفسه وفي مقام الرجاء أضافه إلى نفسه وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأليق بحضرة الله تعالى
المسألة الثالثة قيل المراد من قوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ عثمان لأنه كان يحيي الليل في ركعة واحدة ويقرأ القرآن في ركعة واحدة والصحيح أن المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة فيدخل فيه عثمان وغيره لأن الآية غير مقتصرة عليه
المسألة الرابعة لا شبهة في أن في الكلام حذفاً والتقدير أمن هو قانت كغيره وإما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر وذكر بعدها قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ وتقدير الآية قل هل يستوي الذين يعلمون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل سجداً وقياماً والذين لا يعلمون وهم الذين وصفهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغة يشركون فإذا قدرنا هذا التقدير ظهر المراد وإنما وصف الله الكفار بأنهم لا يعلمون لأنهم وإن آتاهم الله العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم فلهذا السبب جعلهم كأنهم ليسوا أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم
وأما قوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فهو تنبيه عظيم على فضيلة العلم وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) قال صاحب ( الكشاف ) أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون وبالذين لا يعلمون الذين لا يأتون بهذا العمل كأنه جعل القانتين هم العلماء وهو تنبيه على أن من يعمل فهو غير عالم ثم قال وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة
ثم قال تعالى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ يعني هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضاً إلا أولوا الألباب قيل لبعض العلماء إنكم تقولون العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء فأجاب العالم بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه
قُلْ ياعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة ٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لاًّنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَالِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ فَاتَّقُونِ(26/219)
اعلم أنه تعالى لما بين نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم أتبعه بأن أمر رسوله بأن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام
النوع الأول قوله قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ والمراد أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى وهذا من أول الدلائل على أن الإيمان يبقى مع المعصية قال القاضي أمرهم بالتقوى ليكلا يحبطوا إيمانهم لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط فيقال له هذا بأن يدل على ضد قولك أولى لأنه لما أمر المؤمنين بالتقوى دل ذلك على أنه يبقى مؤمناً مع عدم التقوى وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان
واعلم أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالاتقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد فقال تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَة ٌ فقوله فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا يحتمل أن يكون صلة لقوله أَحْسَنُواْ أو لحسنة فعلى التقدير الأول معناه للذين أحسنوا في هذه الدنيا كلهم حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة والتنكير في قوله حَسَنَة ٌ للتعظيم يعني حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها وأما على التقدير الثاني فمعناه الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة والقائلون بهذا القول قالوا هذه الحسنة هي الصحة والعافية وأقول الأولى أن تحمل على الثلاثة المذكورة في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية ) ومن الناس من قال القول الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول أن التنكير في قوله حَسَنَة ٌ يدل على النهاية والجلالة والرفعة وذلك لا يليق بأحوال الدنيا فإنها خسيسة ومنقطعة وإنما يليق بأحوال الآخرة فإنها شريفة وآمنة من الانقضاء والانقراض والثاني أن ثواب المحسن بالتوحيد والأعمال الصالحة إنما يحصل في الآخرة قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وأيضاً فنعمة الدنيا من الصحة والأمن والكفاية حاصلة للكفار وأيضاً فحصولها للكافر أكثر وأتم من حصولها للمؤمن كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) وقال تعالى لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( الزخرف 33 ) الثالث أن قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَة ٌ يفيد الحصر بمعنى أنه يفيد أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا وهذا باطل أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر فكأن حمله على حسنة الآخرة أولى ثم قال الله تعالى وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة ٌ وفيه قولان الأول المراد أنه لا عذر ألبتة للمقصرين في الإحسان حتى إنهم إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفرة على الإحسان وصرف الهمم إليه قل لهم فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة فتحولوا من هذه البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالطاعات والعبادات واقتدوا بالأنبياء والصالحين(26/220)
في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم والمقصود منه الترغيب في الهجرة من مكة إلى المدينة والصبر على مفارقة الوطن ونظيره قوله تعالى قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَة ً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ( النساء 97 ) والقول الثاني قال أبو مسلم لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة وذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة ثم بين أن أرض الله أي جنته واسعة لقوله تعالى نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّة ِ حَيْثُ نَشَاء ( الزمر 74 ) وقوله تعالى وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 ) والقول الأول عندي أولى لأن قوله إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ لا يليق إلا بالأول وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى أما تحقيق الكلام في ماهية الصبر فقد ذكرناه في سورة البقرة والمراد ههنا بالصابرين الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم وعلى تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى
المسألة الثانية تسمية المنافع التي وعد الله بها على الصبر بالأجر توهم أن العمل على الثواب لأن الأجر هو المستحق إلا أنه قامت الدلائل القاهرة على أن العمل ليس عليه الثواب فوجب حمل لفظ الأجر على كونه أجراً بحسب الوعد لا بحسب الاستحقاق
المسألة الثالثة أنه تعالى وصف ذلك الأجر بأنه بغير حساب وفيه وجوه الأول قال الجبائي المعنى أنهم يعطون ما يستحقون ويزدادون تفضلاً فهو بغير حساب ولو لم يعطوا إلا المستحق لكان ذلك حساباً قال القاضي هذا ليس بصحيح لأن الله تعالى وصف الأجر بأنه بغير حساب ولو لم يعطوا إلا الأجر المستحق والأجر غير التفضل الثاني أن الثواب له صفات ثلاثة أحدها أنها تكون دائمة الأجر لهم وقوله بِغَيْرِ حِسَابٍ معناه بغير نهاية لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب وثانيها أنها تكون منافع كاملة في أنفسها وعقل المطيع ما كان يصل إلى كنه ذلك الثواب قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) وكل ما يشاهدونه من أنواع الثواب وجدوه أزيد مما تصوروه وتوقعوه وما لا يتوقعه الإنسان فقد يقال إنه ليس في حسابه فقوله بِغَيْرِ حِسَابٍ محمول على هذا المعنى والوجه الثالث في التأويل أن ثواب أهل البلاء لا يقدر بالميزان والمكيال روى صاحب ( الكشاف ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى أهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صباً ) قال الله تعالى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل
النوع الثاني من البيانات أمر الله رسوله أن يذكرها قوله تعالى قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينَ قال مقاتل إن كفار قريش قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فأنزل الله قل يا محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له(26/221)
الدين وأقول إن التكليف نوعان أحدهما الأمر بالاحتراز عما لا ينبغي والثاني الأمر بتحصيل ما ينبغي والمرتبة الأولى مقدمة على المرتبة الثانية بحسب الرتبة الواجبة اللازمة إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قدم الأمر بإزالة ما ينبغي فقال اتَّقُواْ رَبَّكُمُ لأن التقوى هي الاحتراز عما لا ينبغي ثم ذكر عقيبه الأمر بتحصيل ما ينبغي فقال إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينَ وهذا يشتمل على قيدين أحدهما الأمر بعبادة الله الثاني كون تلك العبادة خالصة عن شوائب الشرك الجلي وشوائب الشرك الخفي وإنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أن غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير وقوله تعالى وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ لا شبهة في أن المراد إني أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها وفي هذه الآية فائدتان
الفائدة الأولى كأنه يقول إني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعاً فيه وأكثرهم مداومة عليه
الفائدة الثانية أنه قال إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ والعبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح فقدم ذكر الجزء الأشرف وهو قوله مُخْلِصاً لَّهُ الدّينِ ثم ذكر عقيبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسر الإسلام في خبر جبريل عليه السلام بالأعمال الظاهرة وهو المراد بقوله في هذه الآية وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ وليس لقائل أن يقول ما الفائدة في تكرير لفظ أُمِرْتُ لأنا نقول ذكر لفظ أُمِرْتُ أولاً في عمل القلب وثانياً في عمل الجوارح ولا يكون هذا تكريراً
الفائدة الثالثة في قوله وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ التنبيه على كونه رسولاً من عند الله واجب الطاعة لأن أول المسلمين في شرائع الله لا يمكن أن يكون إلا رسول الله لأن أول من يعرف تلك الشرائع والتكاليف هو الرسول المبلغ ولما بين الله تعالى أمره بالإخلاص بالقلب وبالأعمال المخصوصة وكان الأمر يحتمل الوجوب ويحتمل الندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وفيه فوائد
الفائدة الأولى أن الله أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجري هذا الكلام على نفسه والمقصود منه المبالغة في زجر الغير عن المعاصي لأنه مع جلالة قدرة وشرف نبوته إذا وجب أن يكون خائفاً حذراً عن المعاصي فغيره بذلك أولى
الفائدة الثانية دلت الآية على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب بل الخوف من العقاب وهذا يطابق قولنا إن الله تعالى قد يعفو عن المذنب والكبيرة فيكون اللازم عند حصول المعصية هو الخوف من العقاب لا نفس حصول العقاب
الفائدة الثالثة دلت هذه الآية على أن ظاهر الأمر للوجوب وذلك لأنه قال في أول الآية إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ثم قال بعده قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فيكون معنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره وذلك يقتضي أن يكون تارك الأمر عاصياً والعاصي يترتب عليه الخوف من العقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك(26/222)
النوع الثالث من الأشياء التي أمر الله رسوله أن يذكرها قوله قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى فإن قيل ما معنى التكرير في قوله قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدّينَ وقوله قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى قلنا هذا ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإتيان بالعبادة والثاني إخبار بأنه أمر بأن لا يعبد أحداً غيره وذلك لأن قوله أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ لا يفيد الحصر وقوله تعالى قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ يفيد الحصر يعني الله أعبد ولا أعبد أحداً سواه والدليل عليه أنه لما قال بعد قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ قال بعده فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ ولا شبهة في أن قوله فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ ليس أمراً بل المراد منه الزجر كأنه يقول لما بلغ البيان في وجوب رعاية التوحيد إلى الغاية القصوى فبعد ذلك أنتم أعرف بأنفسكم ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ لوقوعها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه وخسروا أهليهم أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده ألبتة وقال ابن عباس إن لكل رجل منزلاً وأهلاً وخدماً في الجنة فإن أطاع أعطى ذلك وإن كان من أهل النار حرم ذلك فخسر نفسه وأهله ومنزله وورثه غيره من المسلمين والخاسر المغبون ولما شرح الله خسرانهم وصف ذلك الخسران بغاية الفظاعة فقال أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ كان التكرير لأجل التأكيد الثاني أنه تعالى ذكر في أول هذه الكلمة حرف ألا وهو للتنبيه وذكر التنبيه في هذا الموضع يدل على التعظيم كأنه قيل إنه بلغ في العظمة إلى حيث لا تصل عقولكم ليها فتنبهوا لها الثالث أن كلمة ( هو ) في قوله هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ تفيد الحصر كأنه قيل كل خسران فإنه يصير في مقابلته كلا خسران الرابع وصفه بكونه ( مبيناً ) يدل على التهويل وأقول قد بينا أن لفظ الآية يدل على كونه خسراناً مبيناً فلنبين فحسب المباحث العقلية كونه خسراناً مبيناً وأقول نفتقر إلى بيان أمرين إلى أن يكون خسراناً ثم كونه مبيناً أما الأول فتقريره أنه تعالى أعطى هذه الحياة وأعطى العقل وأعطى المكنة وكل ذلك رأس المال أما هذه الحياة فالمقصود منها أن يكتسب فيها الحياة الطيبة في الآخرة
وأما العقل فإنه عبارة عن العلوم البديهية وهذه العلوم هي رأس المال والنظر والفكر لا معنى له إلا ترتيب علوم ليتوصل بذلك الترتيب إلى تحصيل علوم كسبية فتلك العلوم البديهية المسماة بالعقل رأس المال وتركيبها على الوجوه المخصوصة يشبه تصرف التاجر في رأسه المال وتركيبها على الوجوه بالبيع والشراء وحصول العلم بالنتيجة يشبه حصول الربح وأيضاً حصول القدرة على الأعمال يشبه رأس المال واستعمال تلك القوة في تحصيل أعمال البر والخير يشبه تصرف التاجر في رأس المال وحصول أعمال الخير والبر يشبه الربح إذا ثبت هذا فنقول إن من أعطاه الله الحياة والعقل والتمكن ثم إنه لم يستفد منها لا معرفة الحق ولا عمل الخير ألبتة كان محروماً عن الربح بالكلية وإذا مات فقد ضاع رأس المال بالكلية فكان ذلك خسراناً فهذا بيان كونه خسراناً وأما الثاني وهو بيان كون ذلك الخسران مبيناً فهو أن من لم يربح الزيادة ولكنه مع ذلك سلم من الآفات والمضار فهذا كما لم يحصل له مزيد نفع لم يحصل له أيضاً مزيد ضرر أما هؤلاء الكفار فقد استعملوا عقولهم التي هي رأس مالهم في استخراج وجوه الشبهات وتقوية الجهالات والضلالات واستعملوا قواهم وقدرهم في أفعال الشر والباطل والفساد فهم قد جمعوا بين أمور في غاية الرداءة أولها أنهم أتعبوا أبدانهم وعقولهم طلباً في تلك العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة(26/223)
وثانيها أنهم عند الموت يضيع عنهم رأس المال من غير فائدة وثالثها أن تلك المتاعب الشديدة التي كانت موجودة في الدنيا في نصرة تلك الضلالات تصير أسباباً للعقوبة الشديدة والبلاء العظيم بعد الموت وعند الوقوف على هذه المعاني يظهر أنه لا يعقل خسران أقوى من خسرانهم ولا حرمان أعظم من حرمانهم ونعوذ بالله منه
ولما شرح الله تعالى أحوال حرمانهم عن الربح وبين كيفية خسرانهم بين أنهم لم يقتصروا على الحرمان والخسران بل ضموا إليه استحقاق العذاب العظيم والعقاب الشديد فقال لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( الشورى 40 ) الثاني أن الذي يكون تحته يكون ظلة لإنسان آخر تحته لأن النار دركات كما أن الجنة درجات والثالث أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة قال الحسن هم بين طبقتين من النار لا يدرون ما فوقهم أكثر مما تحتهم ونظير هذه الآية قوله تعالى عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَة ً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ( العنكبوت 55 ) وقوله تعالى لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( الأعراف 41 )
ثم قال تعالى ذالِكَ يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ أي ذلك الذي تقدم ذكره من وصف العذاب فقوله ذالِكَ مبتدأ وقوله يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ خبر وفي قوله يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ قولان الأول التقدير ذلك العذاب المعد للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين لأنا بينا أن لفظ العباد في القرآن مختص بأهل الإيمان وإنما كان تخويفاً للمؤمنين لأجل أنهم إذا سمعوا أن حال الكفار ما تقدم خافوا فأخلصوا في التوحيد والطاعة الوجه الثاني أن هذا الكلام في تقدير جواب عن سؤال لأنه يقال إنه تعالى غني عن العالمين منزه عن الشهوة والانتقام وداعية الإيذاء فكيف يليق به أن يعذب هؤلاء المساكين إلى هذا الحد العظيم وأجيب عنه بأن المقصود منه تخويف الكفار والضلال عن الكفر والضلال فإذا كان التكليف لا يتم إلا بالتخويف والتخويف لا يكمل الانتفاع به إلا بإدخال ذلك الشيء في الوجود وجب إدخال ذلك النوع م نالعذاب في الوجود تحصيلاً لذلك المطلوب الذي هو التكليف والوجه الأول عندي أقرب والدليل عليه أنه قال بعده قَلِيلاً وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ وقوله يا عباذ الأظهر منه أن المراد منه المؤمنون فكأنه قيل المقصود من شرح عذاب الكفار للمؤمنين تخويف المؤمنين فيا أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر والتقوى
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَائِكَ هُمْ أُوْلُو الاٌّ لْبَابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ لَاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّة ٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ(26/224)
اعلم أن الله تعالى لما ذكر وعيد عبدة الأصنام والأوثان ذكر وعد من اجتنب عبادتها واحترز عن الشرك ليكون الوعد مقروناً بالوعيد أبداً فيحصل كمال الترغيب والترهيب وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الطاغوت فعلوت من الطغيات كالملكوت والرحموت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين وفي هذا اللفظ أنواع من المبالغة أحدها التسمية بالمصدر كأن عين ذلك الشيء الطغيان وثانيها أن البناء بناء المبالغة فإن الرحموت الرحمة الواسعة والملكوت الملك المبسوط وثالثها ما ذكرنا من تقديم اللام على العين ومثل هذا إنما يصار إليه عند المبالغة
المسألة الثانية اختلفوا في أن المراد من الطاغوت ههنا الشيطانه أم الأوثان فقيل إنه الشيطان فإن قيل إنهم ما عبدوا الشيطان وإنما عبدوا الصنم قلنا الداعي إلى عبادة الصنم لما كان هو الشيطان كان الإقدام على عبادة الصنم عبادة للشيطان وقيل المراد بالطاغوت الصنم وسميت طواغيت على سبيل المجاز لأنه لا فعل لها والطغاة هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان عند مشاهدتها والقرب منها وصفت بهذه الصفة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب بحسب الظاهر وقيل كل ما يعبد ويطاع من دون الله فهو طاغوت ويقال في التواريخ إن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم كانوا مشبهة اعتقدوا في الإله أنه نور عظيم وفي الملائكة أنها أنوار مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل وصوراً على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على أعتقاد أنهم يعبدون الله والملائكة وأقول حاصل الكلام في قوله ياعِبَادِ فَاتَّقُونِ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أي أعرضوا عن عبودية كل ما سوى الله قوله تعالى وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ أي رجعوا بالكلية إلى الله ورأيت في السفر الخامس من التوراة أن الله تعالى قال لموسى يا موسى أجب إلهك بكل قلبك وأقول ما دام يبقى في القلب التفات إلى غير الله فهو ما أجاب إلهه بكل قلبه وإنما تحصل الإجابة بكل القلب إذا أعرض القلب عن كل ما سوى الله من باب الطاعات فكيف يعرض عنها مع أنه بالحس يشاهد الأسباب المفضية إلى المسببات في هذا العالم قلنا ليس المراد من إعراض القلب عنها أن يقضي عليها بالعدم فإن ذلك دخول في السفسطة وهو باطل بل المراد أن يعرف أن واجب الوجود لذاته واحد وأن كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكناً لذاته فإنه لا يوجد إلا بتكوين الواجب وإيجاده ثم إنه سبحانه وتعالى جعل تكوينه للأشياء على قسمين منها ما يكون بغير واسطة وهي عالم السموات والروحانيات ومنها ما يكون بواسطة وهو عالم العناصر والعالم الأسفل فإذا عرفت الأشياء على هذا الوجه عرفت أن الكل لله ومن الله وبالله وأنه لا مدبر إلا هو ولا مؤثر غيره وحينئذٍ ينقطع نظره عن هذه الممكنات ويبقى مشغول القلب بالمؤثر الأول والموجد الأول فإنه إن كان قد وضع الأسباب الروحانية والجسمانية بحيث يتأذى إلى هذا المطلوب فهذا الشيء يحصل وإن كان قد وضع بحيث لا يفضي إلى حصول هذا الشيء لم يحصل وبهذا الطريق ينقطع نظره عن الكل ولا يبقى في قلبه التفات إلى شيء إلا إلى الموجود(26/225)
الأول وقد اتفق أني كنت أنصح بعض الصبيان في حفظ العرض والمال فعارضني وقالا يجوز الاعتماد على الجد والجهد بل يجب الاعتماد على قضاء الله وقدره فقلت هذه كلمة حق سمعتها ولكنك ما عرفت معناها وذلك لأنه لا شبهة أن الكل من الله تعالى إلا أنه سبحانه دبر الأشياء على قسمين منها ما جعل حدوثه وحصوله معلقاً بأسباب معلومة ومنها ما يحدثه من غير واسطة هذه الأسباب
أما القسم الأول فهو حوادث هذا العالم الأسفل
وأما القسم الثاني فهو حوادث هذا العالم الأعلى وإذا ثبت هذا فنقول من طلب حوادث هذا العالم الأسفل لا من الأسباب التي عينها الله تعالى كان هذا الشخص منازعاً لله في حكمته مخالفاً في تدبيره فإن الله تعالى حكم بحدوث هذه الأشياء بناءً على تلك الأسباب المعينة المعلومة وأنت تريد تحصيلها لا من تلك الأسباب فهذا هو الكلام في تحقيق الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقوله تعالى وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ إشارة إلى الإعراض عن غير الله وقوله تعالى وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ إشارة إلى الإقبال بالكلية على عبادة الله ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها قوله تعالى لَهُمُ الْبُشْرَى واعلم أن هذه الكلمة تتعلق بجهات أحدها أن هذه البشارة متى تحصل فنقول إنها تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر وعند الوقوف في عرصة القيامة وعندما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير وعندما يدخل المؤمنون الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل البشارة بنوع من الخير والروح والرحة والريحان وثانيها أن هذه البشارة فبماذا تحصل فنقول إن هذه البشارة تحصل بزوال المكروهات وبحصول المرادات أما زوال المكروهات فقوله تعالى أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ( فصلت 30 ) والخوف إنما يكون من المستقبل والحزن إنما يكون بسبب الأحوال الماضية فقوله أَن لا تَخَافُواْ يعني لا تخافوا فيما تستقبلونه من أحوال القيامة ولا تحزنوا بسبب ما فاتكم من خيرات الدنيا ولما أزال الله عنهم هذه المكروهات بشرهم بحصول الخيرات والسعادات فقال وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ ( فصلت 30 ) وقال أيضاً في آية أخرى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( الحديد 12 ) وقال أيضاً وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( الزخرف 71 ) والثالث أن المبشر من هو فنقول يحتمل أن يكون هم الملائكة إما عند الموت فقوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( النحل 32 ) وإما بعد دخول الجنة فقوله الْمَلَائِكَة َ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) ويحتمل أن يكون هو الله سبحانه كما قال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( الأحزاب 44 )
واعلم أن قوله لَهُمُ الْبُشْرَى فيه أنواع من التأكيدات أحدها أنه يفيد الحصر فقوله لَهُمُ الْبُشْرَى أي لهم لا لغيرهم وهذا يفيد أنه لا بشارة لأحد إلا إذا اجتنب عبادة غير الله تعالى وأقبل بالكلية على الله تعالى وثانيها أن الألف واللام في لفظ البشرى مفيد للماهية فيفيد أن هذه الماهية بتمامها لهؤلاء ولم يبق منها نصيب لغيرهم وثالثها أن لا فرق بين الإخبار وبين البشارة فالبشارة هو الخبر الأول بحصول الخيرات إذا عرفت هذا فنقول كل ما سمعوه في الدنيا من أنواع الثواب والخير إذا سمعوه عند الموت أو في القبر فذاك لا يكون إلا إخباراً فثبت أن هذه البشارة لا تتحقق إلا إذا حصل الإخبار بحصول(26/226)
أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها وسمعوها في الدنيا نسأل الله تعالى الفوز بها قال تعالى فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ ( السجدة 17 ) ورابعها أن المخبر بقوله لَهُمُ الْبُشْرَى هو الله تعالى وهو أعظم العظماء وأكمل الموجودات والشرط المعتبر في حصول هذه البشارة شرط عظيم وهو الاجتناب عما سوى الله تعالى والإقبال بالكلية على الله والسلطان العظيم إذا ذكر شرطاً عظيماً ثم قال لمن أتى بذلك الشرط العظيم أبشر فهذه البشارة الصادرة من السلطان العظيم المرتبة على حصول ذلك الشرط العظيم تدل على أن الذي وقعت البشارة به قد بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يصل إلى شرحها العقول والأفكار فثبت أن قوله لَهُمُ الْبُشْرَى يدل على نهاية الكمال والسعادة من هذه الوجوه والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما قال لَهُمُ الْبُشْرَى وكان هذا المجمل أردفه بكلام يجري مجرى التفسير والشرح له فقال تعالى فَبَشّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وأراد بعباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم وهذا يدل على أن رأس السعادات ومركز الخيرات ومعدن الكرامات هو الإعراض عن غير الله تعالى والإقبال بالكلية على طاعة الله والمقصود من هذا اللفظ التنبيه على أن الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا هم الموصوفون بأنهم هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه فوضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على هذا الحرف ومنهم من قال إنه تعالى لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأولون وقصر السعادة عليهم يقتضي الحرمان للأكثرين وذلك لا يليق بالرحمة التامة لا جرم جعل الحكم أعم فقال كل من اختار الأحسن في كل باب كان في زمرة السعداء واعلم أن هذه الآية تدل على فوائد
الفائدة الأولى وجوب النظر والاستدلال وذلك لأنه تعالى بين أن الهداية والفلاح مرتبطان بما إذا سمع الإنسان أشياء كثيرة فإنه يختار منها ما هو الأحسن الأصوب ومن المعلوم أن تمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يحصل بالسماع لأن السماع صار قدراً مشتركاً بين الكل لأن قوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يدل على أن السماع قدر مشترك فيه فثبت أن تمييز الأحسن عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما يتأتى بحجة العقل وهذا يدل على أن الموجب لاستحقاق المدح والثناء متابعة حجة العقل وبناء الأمر على النظر والاستدلال
الفائدة الثانية أن الطريق إلى تصحيح المذاهب والأديان قسمان أحدهما إقامة الحجة والبينة على صحته على سبيل التحصيل وذلك أمر لا يمكن تحصيله إلا بالخوض في كل واحد من المسائل على التفصيل والثاني أنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها نعرض تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا فكل ما حكم أول العقل بأنه أفضل وأكمل كائن أولى بالقبول مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن إله العالم حي عالم قادر حليم حكيم رحيم أولى من إنكار ذلك فكان ذلك المذهب أولى والإقرار بأن الله تعالى لا يجري في ملكه وسلطانه إلا ما كان على وفق مشيئته أولى من القول بأن أكثر ما يجرى في سلطان الله على خلاف إرادته وأيضاً الإقرار بأن الله فرد أحد صمد منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعضاً مؤلفاً وأيضاً القول باستغنائه عن الزمان والمكان أولى من القول باحتياجه اليهما وأيضاً القول بأن الله رحيم كريم قد يعفو عن العقاب أولى من القول بأنه لا يعفو عنه ألبتة وكل هذه(26/227)
الأبواب تدخل تحت قوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ فهذا ما يتعلق باختيار الأحسن في أبواب الاعتقادات
وأما ما يتعلق بأبواب التكاليف فهو على قسمين منها ما يكون من أبواب العبادات ومنها ما يكون من أبواب المعاملات فأما العبادات فمثل قولنا الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر وتكون النية فيها مقارنة للتكبير ويقرأ فيها سورة الفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة ويقرأ فيها التشهد ويخرج منها بقوله السلام عليكم فلا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال وتوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة وأن يترك ما سواها وكذلك القول في جميع أبواب العبادات وأما المعاملات فكذلك مثل أنه تعالى شرع القصاص والدية والعفو ولكنه ندب إلى العفو فقال وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وعن ابن عباس أن المراد منه الرجل يجلس مع القوم ويسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما سمع ويترك ما سواه
واعلم أنه تعالى حكم على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الالْبَابِ وفي ذلك دقيقة عجيبة وهي أن حصول الهداية في العقل والروح أمر حادث ولا بد له من فاعل وقابل أما الفاعل فهو الله سبحانه وهو المراد من قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وأما القابل فإليه الإشارة بقوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ أُوْلُواْ الالْبَابِ فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه وإنما قلنا إن الفاعل لهذه الهداية هو الله وذلك لأن جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق والاعتقاد الباطل وإذا كان الشيء قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون ذلك القابل سبباً لرجحان أحد الطرفين ألا ترى أن الجسم لما كان قابلا للحركة والسكون على السوية امتنع أن تصير ذات الجسم سبباً لرجحان أحد الطرفين على الآخر فإن قالوا لا نقول إن ذات النفس والعقل يوجب هذا الرجحان بل نقول إنه يريد تحصيل أحد الطرفين فتصير تلك الإرادة سبباً لذلك الرجحان فنقول هذا باطل لأن ذات النفس كما أنها قابلة لهذه الإرادة فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادة لتلك الإرادة فيمتنع كون جوهر النفس سبباً لتلك الإرادة فثبت أن حصول الهداية لا بد لها من فاعل ومن قابل أما الفاعل فيمتنع أن يكون هو النفس بل الفاعل هو الله تعالى وأما القابل فهو جوهر النفس فلهذا السبب قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الالْبَابِ ثم قال أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في لفظ الآية سؤال وهو أنه يقال إنه قال أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ ولا يصح في الكلام العربي أن يدخل حرف الاستفهام على الإسم وعلى الخبر معاً فلا يقال أزيد أتقتله بل ههنا شيء آخر وهو أنه كما دخل حرف الاستفهام على الشرط وعلى الجزاء فكذلك دخل حرف الفاء عليهما معاً وهو قوله أَفَمَنْ حَقَّ أَفَأَنتَ تُنقِذُ ولأجل هذا السؤال اختلف النحويون وذكروا فيه وجوهاً الأول قال الكسائي الآية جملتنا والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تحميه أفأنت تنقذ من في النار الثاني قال صاحب ( الكشاف ) أصل الكلام أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه وهي جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه(26/228)
الخطاب والتقدير أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ووضع من في النار موضع الضمير والآية على هذا جملة واحدة الثالث لا يبعد أن يقال إن حرف الاستفهام إنما ورد ههنا لإفادة معنى الإنكار ولما كان استنكاره هذا المعنى كاملاً تاماً لا جرم ذكر هذا الحرف في الشرط وأعاده في الجزاء تنبيهاً على المبالغة التامة في ذلك الإنكار
المسألة الثانية احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال وذلك لأنه تعالى قال أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً وانقلاب علمه جهلاً وهو محال والوجه الثاني في الاستدلال بالآية أنه تعالى حكم بأن حقية كلمة العذاب توجب الإستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة عنه ولو كان ذلك ممكناً ولم تكن حقيقة كلمة العذاب مانعة منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنى
المسألة الثالثة احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يشفع لأهل الكبائر قال لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة تكون جارية مجرى إنقاذهم من النار وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والإستبعاد فيقال له لا نسلم أن أهل الكبائر قد حق عليهم العذاب وكيف يحق العذاب عليهم مع أن الله تعالى قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) ومع قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) والله أعلم
النوع الثاني من الأشياء التي وعدها الله هؤلاء الذين اجتنبوا وأنابوا قوله تعالى لَاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّة ٌ وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( الزمر 16 ) فإن قيل ما معنى قوله مَّبْنِيَّة ٌ قلنا لأن المنزل إذا بنى على منزل آخر تحته كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله مَّبْنِيَّة ٌ معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساو للمنزل الأسفل والحاصل أن المنزل الفوقاني والتحتاني حصل في كل واحد منهما فضيلة ومنقصة أما الفوقاني ففضيلته العلو والارتفاع ونقصانه الرخاوة والسخافة وأما التحتاني فبالضد منه أما منازل الجنة فإنها تكون مستجمعة لكل الفضائل وهي عالية مرتفعة وتكون في غاية القوة والشدة وقال حكماء الإسلام هذه الغرف المبنية بعضها فوق البعض مثاله من الأحوال النفسانية العلوم الكسبية فإن بعضها يكون مبنياً على البعض والنتائج الآخرة التي هي عبارة عن معرفة ذات الله وصفاته تكون في غاية القوة بل تكون في القوة والشدة كالعلوم الأصلية البديهية
ثم قال تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وذلك معلوم ثم ختم الكلام فقال وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ فقوله وَعَدَ اللَّهُ مصدر مؤكد لأن قوله لَهُمْ غُرَفٌ في معنى وعدهم الله ذلك وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد صرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد ألبتة مثل هذا التأكيد والتقوية وذلك يدل على أن جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف ما يقوله المعتزلة فإن قالوا أليس أنه قال في جانب الوعيد مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ قلنا قوله ما يبدل القول لدي ليس تصريحاً بجانب الوعيد بل هو كلام عام يتناول القسمين أعني الوعد والوعيد فثبت أن الترجيح الذي ذكرناه حق والله أعلم(26/229)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ
اعلم أنه تعالى لما وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة العظيمة الأول الألباب فيها وصف الدنيا بصفة توجب اشتداد النفرة عنها وذلك أنه تعالى بين أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل كل ما كان في الأرض فهو من السماء ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه فيسلكه ينابيع في الأرض أي فيدخله وينظمه ينابيع في الأرض عيوناً ومسالك ومجاري كالعروق في الأجسام يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك أو مختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم ثم يهيج وذلك لأنه إذا تم جفافه جاز له أن ينفصل عن منابته وإن لم تتفرق أجزاؤه فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق ثم يصير حطاماً يابساً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى يعني أن من شاهد هذه الأحوال في النبات علم أن أحوال الحيوان والإنسان كذلك وأنه وإن طال عمره فلا بد له من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء ثم تكون عاقبته الموت فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات تذكره حصول مثل هذه الأحوال في نفسه وفي حياته فحينئذ تعظم نفرته في الدنيا وطيباتها والحاصل أنه تعالى في الآيات المتقدمة ذكر ما يقوى الرغبة في الآخرة وذكر في هذه الآية ما يقوي النفرة عن الدنيا فشرح صفات القيامة يقوي الرغبة في طاعة الله وشرح صفات الدنيا يقوي النفرة عن الدنيا وإنما قدم الترغيب في الآخرة على التنفير عن الدنيا لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات والتنفير عن الدنيا مقصود بالعرض والمقصود بالذات مقدم على المقصود بالعرض فهذا تمام الكلام في تفسير الآية بقي ههنا ما يتعلق بالبحث عن الألفاظ قال الواحدي والينابيع جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع يقال نبع الماء ينبع وينبع وينبع ثلاث لغات ذكرها الكسائي والفراء وقوله يَنَابِيعَ نصب بحذف الخافض لأن التقدير فسلكه في ينابيع ثم يهيج أي يخضر والحطام ما يجف ويتفتت ويكسر من النبت
أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُو ءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْى َ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَة ِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(26/230)
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا بين بعد ذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونور القلوب فقال أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ
واعلم أنا بالغنا في سورة الأنعام في تفسير قوله فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الأنعام 125 ) في تفسير شرح الصدر وفي تفسير الهداية ولا بأس بإعادة كلام قليل ههنا فنقول إنه تعالى خلق جواهر النفوس مختلفة بالماهية فبعضها خيرة نورانية شريفة مائلة إلى الإلهيات عظيمة الرغبة في الاتصال بالروحانيات وبعضها نذلة كدرة خسيسة مائلة إلى الجسمانيات وفي هذا التفاوت أمر حاصل في جواهر النفوس البشرية والاستقراء يدل على أن الأمر كذلك إذا عرفت هذا فنقول المراد بشرح الصدر هو ذلك الاستعداد الشديد الموجود في فطرة النفس وإذا كان ذلك الاستعداد الشديد حاصلاً كفى خروج تلك الحالة من القوة إلى الفعل بأدنى سبب مثل الكبريت الذي يشتعل بأدنى نار أما إذا كانت النفس بعيدة عن قبول هذه الجلايا القدسية والأحوال الروحانية بل كانت مستغرقة في طلب الجسمانيات قليلة التأثر عن الأحوال المناسبة للالهيات فكانت قاسية كدرة ظلمانية وكلما كان إيراد الدلائل اليقينية والبراهين الباهرة عليها أكثر كانت قسوتها وظلمتها أقل إذا عرفت هذه القاعدة فنقول أما شرح الصدر فهو ما ذكرناه وأما النور فهو عبارة عن الهداية والمعرفة وما لم يحصل شرح الصدر أولا لم يحصل النور ثانياً وإذا كان الحاصل هو القوة النفسانية لم يحصل الانتفاع ألبتة بسماع الدلائل وربما صار سماع الدلائل سبباً لزيادة القسوة ولشدة النفرة فهذه أصول يقينية يجب أن تكون معلومة عند الإنسان حتى يمكنه الوقوف على معاني هذه الآيات أما استدلال أصحابنا في مسألة الجبر والقدر وكلام الخصوم عليه فقد تقدم هناك والله أعلم
المسألة الثانية من محذوف الخبر كما في قوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ( الزمر 9 ) والتقدير أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته والجواب متروك لأن الكلام المذكور دل عليه وهو قوله تعالى فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ(26/231)
المسألة الثالثة قوله فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ فيه سؤال وهو أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية وزيادة الإطمئنان كما قال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) فكيف جعله في هذه الآية سبباً لحصول قسوة القلب والجواب أن نقول إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة وكدورة وتقرير هذا الكلام بالأمثلة فإن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره وما ذاك إلا ما ذكرناه من اختلاف جواهر النفوس ومن اختلاف أحوال تلك النفوس ولما نزل قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً قال كل واحد منهم فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 12 14 ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اكتب فهكذا أنزلت ) فازداد عمر إيماناً على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفراً على كفر إذا عرفت هذا لم يبعد أيضاً أن يكون ذكر الله يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ويوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية إذا عرفت هذا فنقول إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورئيسها هو ذكر الله تعالى فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله تعالى سبباً لازدياد مرضها كان مرض تلك النفس مرضاً لا يرجى زواله ولا يتوقع علاجه وكانت في نهاية الشر والرداءة فلهذا المعنى قال تعالى فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وهذا كلام كامل محقق ولما بين تعالى ذلك أردفه بما يدل على أن القرآن سبب لحصول النور والشفاء والهداية وزيادة الاطمئنان والمقصود منه بيان أن القرآن لما كان موصوفاً بهذه الصفات ثم إنه في حق ذلك الإنسان صار سبباً لمزيد القسوة دل ذلك على أن جوهر تلك النفس قد بلغ في الرداءة والخساسة إلى أقصى الغايات فنقول إنه تعالى وصف القرآن بأنواع من صفات الكمال
الصفة الأولى قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وفيه مسائل
المسألة الأولى القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بكونه حديثاً في هذه الآيات وفي آيات أخرى منها قوله تعالى فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( الطور 34 ) ومنها قوله تعالى أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ ( الواقعة 81 ) والحديث لا بد وأن يكون حادثاً قالوا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه يصح أن يقال هذا حديث وليس بعتيق وهذا عتيق وليس بحادث فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحديث وسمي الحديث حديثاً لأنه مؤلف من الحروف والكلمات وتلك الحروف والكلمات تحدث حالا فحالا وساعة فساعة فهذا تمام تقرير هذا الوجه
أما الوجه الثاني في بيان استدلال القوم أن قالوا إنه تعالى وصفه بأنه نزله والمنزل يكون في محل تصرف الغير وما يكون كذلك فهو محدث وحادث
وأما الوجه الثالث في بيان استدلال القوم أن قالوا إن قوله أحسن الحديث يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أن قوله زيد أفضل الإخوة يقتضي أن يكون زيد مشاركاً لأولئك الأقوام في صفة(26/232)
الأخوة ويكون من جنسهم فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث ولما كان سائر الأحاديث حادثة وجب أيضاً أن يكون القرآن حادثاً
أما الوجه الرابع في الاستدلال أن قالوا إنه تعالى وصفه بكونه كتاباً والكتاب مشتق من الكتبة وهي الاجتماع وهذا يدل على أنه مجموع جامع ومحل تصرف متصرف وذلك يدل على كونه محدثاً والجواب أن نقول نحمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والأصوات والألفاظ والعبارات وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق والله أعلم
المسألة الثانية كون القرآن أحسن الحديث إما أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه أو بحسب معناه
القسم الأول أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه وذلك من وجهين الأول أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجزالة الثاني أن يكون بحسب النظم في الأسلوب وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر ولا من جنس الخطب ولا من جنس الرسائل بل هو نوع يخالف الكل مع أن كل ذي طبع سليم يستطيبه ويستلذه
القسم الثاني أن يكون كونه أحسن الحديث لأجل المعنى وفيه وجوه الأول أنه كتاب منزه عن التناقض كما قال تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المعجزات الوجه الثاني اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل الوجه الثالث أن العلوم الموجودة فيه كثيرة جداً
وضبط هذه العلوم أن نقول العلوم النافعة هي ما ذكره الله في كتابه في قوله وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ( البقرة 285 ) فهذا أحسن ضبط يمكن ذكره للعلوم النافعة
أما القسم الأول وهو الإيمان بالله فاعلم أنه يشتمل على خمسة أقسام معرفة الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء أما معرفة الذات فهي أن يعلم وجود الله وقدمه وبقاءه وأما معرفة الصفات فهي نوعان
أحدهما ما يجب تنزيهه عنه وهو كونه جوهراً ومركباً من الأعضاء والأجزاء وكونه مختصاً بحيز وجهة ويجب أن يعلم أن الألفاظ الدالة على التنزيه أربعة ليس ولم وما ولا وهذه الأربعة المذكورة مذكورة في كتاب الله تعالى لبيان التنزيه
أما كلمة ليس فقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) وأما كلمة لم فقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( الإخلاص 3 4 ) وأما كلمة ما فقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ( مريم 64 ) مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) وأما كلمة لا فقوله تعالى لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( الأنعام 14 ) وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ ( المؤمنون 88 ) وقوله في سبعة وثلاثين موضعاً من القرآن لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ ( محمد 19 )(26/233)
وأما النوع الثاني وهي الصفات التي يجب كونه موصوفاً بها من القرآن فأولها العلم بالله والعلم بكونه محدثاً خالقاً قال تعالى الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 ) وثانيها العلم بكونه قادراً قال تعالى في أول سورة القيامة بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّى َ بَنَانَهُ ( القيامة 4 ) وقال في آخر هذه السورة أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِى َ الْمَوْتَى ( القيامة 40 ) وثالثها العلم بكونه تعالى عالماً قال تعالى هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ( الحشر 22 ) ورابعها العلم بكونه عالماً بكل المعلومات قال تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وقوله تعالى اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ( الرعد 8 ) وخامسها العلم بكونه حياً قال تعالى هُوَ الْحَى ُّ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( غافر 65 ) وسادسها العلم بكونه مريداً قال الله تعالى فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الأنعام 125 ) وسابعها كونه سميعاً بصيراً قال تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( الشورى 11 ) وقال تعالى إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) ى وثامنها كونه متكلما قال تعالى وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ( لقمان 27 ) وتاسعها كونه أمراً قال تعالى لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( الروم 4 ) وعاشرها كونه رحماناً رحيماً مالكاً قال تعالى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 3 4 ) فهذا ما يتعلق بمعرفة الصفات التي يجب اتصافه بها
وأما القسم الثالث وهو الأفعال فاعلم أن الأفعال إما أرواح وإما أجسام أما الأرواح فلا سبيل للوقوف عليها إلا للقليل كما قال تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 ) وأما الأجسام فهي إما العالم الأعلى وإما العالم الأسفل أما العالم الأعلى فالبحث فيه من وجوه أحدها البحث عن أحوال السموات و ثانيها البحث عن أحوال الشمس والقمر كما قال تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاواتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ ( الأعراف 54 ) و ثالثها البحث عن أحوال الأضواء قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وقال تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ( يونس 5 ) و رابعها البحث عن أحوال الظلال قال الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ( الفرقان 45 ) و خامسها اختلاف الليل والنهار قال الله تعالى يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ ( الزمر 50 ) و سادسها منافع الكواكب قال تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( الأنعام 97 ) و سابعها صفات الجنة قال تعالى وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( الحديد 21 ) و ثامنها صفات النار قال تعالى لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ ( الحجر 44 ) و تاسعها صفة العرش قال تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ( غافر 7 ) و عاشرها صفة الكرسي قال تعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 255 ) و حادي عشرها صفة اللوح والقلم أما اللوح فقوله تعالى بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 21 22 ) وأما القلم فقوله تعالى ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( القلم 1 )
وأما شرح أحوال العالم الأسفل فأولها الأرض وقد وصفها بصفات كثيرة إحداها كونه مهداً قال تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً ( طه 53 ) و ثانيها كونه مهاداً قال تعالى أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ مِهَاداً(26/234)
( النبأ 6 ) و ثالثها كونه كفاتاً قال تعالى كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْواتاً ( المرسلات 24 25 ) و رابعها الذلول قال تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ ذَلُولاً ( الملك 15 ) و خامسها كونه بساطاً قال تعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ بِسَاطاً لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ( نوح 19 20 ) والكلام فيه طويل و ثانيها البحر قال تعالى وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا ( النحل 14 ) و ثالثها الهواء والرياح قال تعالى وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( الأعراف 57 ) وقال تعالى وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ ( الحجر 22 ) و رابعها الآثار العلوية كالرعد والبرق قال تعالى وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ ( الرعد 13 ) وقال تعالى فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ومن هذا الباب ذكر الصواعق والأمطار وتراكم السحاب و خامسها أحوال الأشجار والثمار وأنواعها وأصنافها و سادسها أحوال الحيوانات قال تعالى وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ ( البقرة 164 ) وقال وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ( النحل 5 ) و سابعها عجائب تكوين الإنسان في أول الخلقة قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) و ثامنها العجائب في سمعه وبصره ولسانه وعقله وفهمه و تاسعها تواريخ الأنبياء والملوك وأحوال الناس من أول خلق العالم إلى آخر قيام القيامة و عاشرها ذكر أحوال الناس عند الموت وبعد الموت وكيفية البعث والقيامة وشرح أحوال السعداء والأشقياء فقد أشرنا إلى عشرة أنواع من العلوم في عالم السموات وإلى عشرة أخرى في عالم العناصر والقرآن مشتمل على شرح هذه الأنواع من العلوم العالية الرفيعة
وأما القسم الرابع وهو شرح أحكام الله تعالى وتكاليفه فنقول هذه التكاليف إما أن تحصل في أعمال القلوب أو في أعمال الجوارح
أما القسم الأول فهو المسمى بعلم الأخلاق وبيان تمييز الأخلاق الفاضلة والأخلاق الفاسدة والقرآن يشتمل على كل ما لا بد منه في هذا الباب قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى ( النحل 90 ) وقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 )
وأما الثاني فهو التكاليف الحاصلة في أعمال الجوارح وهو المسمى بعلم الفقه والقرآن مشتمل على جملة أصول هذا العلم على أكمل الوجوه
وأما القسم الخامس وهو معرفة أسماء الله تعالى فهو مذكور في قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) فهذا كله يتعلق بمعرفة الله
وأما القسم الثاني من الأصول المعتبرة في الإيمان الإقرار بالملائكة كما قال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ ( البقرة 285 ) والقرآن يشتمل على شرح صفاتهم تارة على سبيل الإجمال وأخرى على طريق التفصيل أما بالإجمال فقوله وَمَلَئِكَتُهُ وأما بالتفصيل فمنها ما يدل على كونهم رسل الله قال تعالى جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) ومنها أنها مدبرات لهذا العالم قال تعالى فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً ( الذاريات 4 ) فَالْمُدَبّراتِ أَمْراً ( النازعات 5 ) وقال تعالى وَالصَّافَّاتِ صَفَّا ( الصافات 1 ) ومنها حملة العرش قال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) ومنها الحافون حول العرش قال وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ(26/235)
( الزمر 75 ) ومنها خزنة النار قال تعالى عَلَيْهَا مَلَئِكَة ٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ( التحريم 6 ) ومنها الكرام الكاتبون قال وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الانفطار 10 11 ) ومنها المعقبات قال تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ( الرعد 11 ) وقد يتصل بأحوال الملائكة أحوال الجن والشياطين
وأما القسم الثالث من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الكتب والقرآن يشتمل على شرح أحوال كتاب آدم عليه السلام قال تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ( البقرة 37 ) ومنها أحوال صحف إبراهيم عليه السلام قال تعالى وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة 124 ) ومنها أحوال التوراة والإنجيل والزبور
وأما القسم الرابع من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الرسل والله تعالى قد شرح أحوال البعض وأبهم أحوال الباقين قال مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ( غافر 78 )
القسم الخامس ما يتعلق بأحوال المكلفين وهي على نوعين الأول أن يقروا بوجوب هذه التكاليف عليهم وهو المراد من قوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا الثاني أن يعترفوا بصدور التقصير عنهم في تلك الأعمال ثم طلبوا المغفرة وهو المراد من قوله غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ثم لما كانت مقادير رؤية التقصير في مواقف العبودية بحسب المكاشفات في مطالعة عزة الربوبية أكثر كانت المكاشفات في تقصير العبودية أكثر وكان قوله غُفْرَانَكَ رَبَّنَا أكثر
القسم السادس معرفة المعاد والبعث والقيامة وهو المراد من قوله وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( البقرة 285 ) وهذا هو الإشارة إلى معرفة المطالب المهمة في طلب الدين والقرآن بحر لا نهاية له في تقرير هذه المطالب وتعريفها وشرحها ولا ترى في مشارق الأرض ومغاربها كتاباً يشتمل على جملة هذه العلوم كما يشتمل القرآن عليها ومن تأمل في هذا التفسير علم أنا لم نذكر من بحار فضائل القرآن إلا قطرة ولما كان الأمر على هذه الجملة لا جرم مدح الله عز وجل القرآن فقال تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( الزمر 23 ) والله أعلم
الصفة الثانية من صفات القرآن قوله تعالى كِتَاباً مُّتَشَابِهاً ( الزمر 23 ) أما الكتاب فقد فسرناه في قوله تعالى ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( البقرة 2 ) وأما كونه متشابهاً فاعلم أن هذه الآية تدل على أن القرآن كله متشابه وقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( آل عمران 7 ) يدل على كون البعض متشابهاً دون البعض وأما كونه كله متشابهاً كما في هذه الآية فقال ابن عباس معناه أنه يشبه بعضه بعضاً وأقول هذا التشابه يحصل في أمور أحدها أن الكاتب البليغ إذا كتب كتاباً طويلاً فإنه يكون بعض كلماته فصيحاً ويكون البعض غير فصيح والقرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه وثانيها أن الفصيح إذا كتب كتاباً في واقعة بألفاظ فصيحة فلو كتب كتاباً آخر في غير تلك الواقعة كان الغالب أن كلامه في الكتاب الثاني غير كلامه في الكتاب الأول والله تعالى حكى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن وكلها متساوية متشابهة في الفصاحة وثالثها أن كل ما فيه من الآيات والبيانات فإنه يقوي بعضها بعضاً ويؤكد بعضها بعضاً ورابعها أن هذه الأنواع الكثيرة من العلوم التي عددناها متشابهة متشاركة في أن المقصود منها بأسرها الدعوة إلى الدين وتقرير عظمة الله ولذلك فإنك لا ترى قصة من القصص إلا ويكون محصلها المقصود الذي ذكرناه فهذا هو المراد من كونه متشابهاً والله الهادي(26/236)
الصفة الثالثة من صفات القرآن كونه مَّثَانِيَ ( الزمر 23 ) وقد بالغنا في تفسير هذه اللفظة عند قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وبالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين مثل الأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمفصل وأحوال السموات والأرض والجنة والنار والظلمة والضوء واللوح والقلم والملائكة والشياطين والعرش والكرسي والوعد والوعيد والرجاء والخوف والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه
الصفة الرابعة من صفات القرآن قوله تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( الزمر 23 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى معنى تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ تأخذهم قشعريرة وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف قال المفسرون والمعنى أنهم عند سماع آيات الرحمة والإحسان يحصل لهم الفرح فتلين قلوبهم إلى ذكر الله وأقول إن المحققين من العارفين قالوا السائرون في مبدأ إجلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا ويجب علينا أن نذكر في هذا الباب مزيد شرح وتقرير فنقول الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة فهنا يقشعر جلده لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم مما يصعب تصوره فههنا تقشعر الجلود أما إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون فرداً أحداً وثبت أن كل متحيز فهو منقسم فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله وأيضاً إذا أراد أن يحيط عقله بمعنى الأزل فيتقدم في ذهنه بمقدار ألف ألف سنة ثم يتقدم أيضاً بحسب كل لحظة من لحظات تلك المدة ألف ألف سنة ولا يزال يحتال ويتقدم ويتخيل في الذهن فإذا بالغ وتوغل وظن أنه استحضر معنى الأزل قال العقل هذا ليس بشيء لأن كل ما استحضرته في فهو متناه والأزل هو الوجود المتقدم على هذه المدة المتناهية فههنا يتحير العقل ويقشعر الجلد وأما إذا ترك هذا الاعتبار وقال ههنا موجود والموجود إما واجب وإما ممكن فإن كان واجباً فهو دائماً منزه عن الأول والآخر وإن كان ممكناً فهو محتاج إلى الواجب فيكون أزلياً أبدياً فإذا اعتبر العقل فهم معنى الأزلية فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله فثبت أن المقامين المذكورين في الآية لا يجب قصرهما على سماع آية العذاب وآية الرحمة بل ذاك أول تلك المراتب وبعده مراتب لا حد لها ولا حصر في حصول تلك الحالتين المذكورتين
المسألة الثانية روى الواحدي في ( البسيط ) عن قتادة أنه قال القرآن دل على أن أولياء الله موصوفون بأنهم عند المكاشفات والمشاهدات تارة تقشعر جلودهم وأخرى تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وليس فيه أن عقولهم تزول وأن أعضاءهم تضطرب فدل هذا على أن تلك الأحوال لو حصلت لكانت من الشيطان وأقول ههنا بحث آخر وهو أن الشيخ أبا حامد الغزالي أورد مسألة في كتاب إحياء علوم الدين وهي أنا نرى كثيراً من الناس يظهر عليه الوجد الشديد التام عند سماع الأبيات المشتملة على شرح الوصل والهجر وعند سماع الآيات لا يظهر عليه شيء من هذه الأحوال ثم إنه سلم هذا المعنى وذكر العذر فيه من وجوه كثيرة وأنا أقول إني خلقت محروماً عن هذا المعنى فإني كلما تأملت في أسرار القرآن اقشعر(26/237)
جلدي وقف على شعري وحصلت في قلبي دهشة وروعة وكلما سمعت تلك الأشعار غلب الهزل علي وما وجدت ألبتة في نفسي منها أثراً وأظن أن المنهج القويم والصراط المستقيم هو هذا وبيانه من وجوه الأول أن تلك الأشعار كلمات مشتملة على وصل وهجر وبغض وحب تليق بالخلق وإثباته في حق الله تعالى كفر وأما الانتقال من تلك الأحوال إلى معان لائقة بجلال الله فلا يصل إليها إلا العلماء الراسخون في العلم وأما المعاني التي يشتمل عليها القرآن فهي أحوال لائقة بجلال الله فمن وقف عليها عظم الوله في قلبه فإن من كان عنده نور الإيمان وجب أن يعظم اضطرابه عند سماع قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) إلى آخر الآية والثاني وهو أني سمعت بعض المشايخ قال كما أن الكلام له أثر فكذلك صدور ذلك الكلام من القائل المعين له أثر لأن قوة نفس القائل تعين على نفاذ الكلام في الروح والقائل في القرآن هنا هو الله بواسطة جبريل بتبليغ الرسول المعصوم والقائل هناك شاعر كذاب مملوء من الشهوة وداعية الفجور والثالث أن مدار القرآن على الدعوة إلى الحق قال تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الشورى 52 53 ) وأما الشعر فمداره على الباطل قال تعالى وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ( الشعراء 224 226 ) فهذه الوجوه الثلاثة فروق ظاهرة وأما ما يتعلق بالوجدان من النفس فإن كل أحد إنما يخبر عما يجده من نفسه والذي وجدته من النفس والعقل ما ذكرته والله أعلم
المسألة الثالثة في بيان ما بقي من المشكلات في هذه الآية ونذكرها في معرض السؤال والجواب
السؤال الأول كيف تركيب لفظ القشعريرة الجواب قال صاحب ( الكشاف ) تركيبه من حروف التقشع وهو الأديم اليابس مضموماً إليها حرف رابع وهو الراء ليكون رباعياً ودالاً على معنى زائد يقال اقشعر جلده من الخوف وقف شعره وذلك مثل في شدة الخوف
السؤال الثاني كيف قال تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وما الوجه في تعديه بحرف إلى والجواب التقدير تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس بالإدراك
السؤال الثالث لم قال إلى ذكر الله ولم يقل إلى ذكر رحمة الله والجواب أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئاً غيره وأما من أحب الله لا لشيء سواه فهذا هو المحب المحق وهو الدرجة العالية فلهذا السبب لم يقل ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله بل قال إلى ذكر الله وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله تعالى فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الأنعام 125 ) وفي قوله أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وأيضاً قال لأمة موسى خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ( البقرة 40 ) وقال أيضاً لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( البقرة 152 )
السؤال الرابع لم قال في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب معاً والجواب لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض ومحل المكاشفات هو القلوب والأرواح والله أعلم
ثم إنه تعالى لما وصف القرآن بهذه الصفات قال ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(26/238)
فقوله ذالِكَ إشارة إلى الكتاب وهو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده وهو الذي شرح صدره أولاً لقبول هذه الهداية وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ أي من جعل قلبه قاسياً مظلماً بليد الفهم منافياً لقبول هذه الهداية فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ واستدلال أصحابنا بهذه الآية وسؤالات المعتزلة وجوابات أصحابنا عين ما تقدم في قوله فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الأنعام 125 )
أما قوله تعالى أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فاعلم أنه تعالى حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وبحكم في الآخرة أما حكمهم في الدنيا فهو الضلال التام كما قال وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( الرعد 33 ) وأما حكمهم في الآخرة فهو العذاب الشديد وهو المراد من قوله أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وتقريره أن أشرف الأعضاء هو الوجه لأنه محل الحسن والصباحة وهو أيضاً صومعة الحواس وإنما يتميز بعض الناس عن بعض بسبب الوجه وأثر السعادة والشقاوة لا يظهر إلا في الوجه قال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ( عبس 38 42 ) ويقال لمقدم القوم يا وجه العرب ويقال للطريق الدال على كنه حال الشيء وجه كذا هو كذا فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء هو الوجه فإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه وفداءً له وإذا عرفت هذا فنقول إذا كان القادر على الاتقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء للوجه لا جرم حسن جعل الاتقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتقاء ونظيره قول النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
أي لا عيب فيهم إلا هذا وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه وهذا ليس باتقاء فلا قدرة لهم على الاتقاء ألبتة ويقال أيضاً إن الذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه ولا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه إذا عرفت هذا فنقول جوابه محذوف وتقديره أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره وسوء العذاب شدته
ثم قال تعالى وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ولما بين الله تعالى كيفية عذاب القاسية قلوبهم في الآخرة بين أيضاً كيفية وقوعهم في العذاب في الدنيا فقال كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ وهذا تنبيه على حال هؤلاء لأن الفاء في قوله فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ تدل على أنهم إنما أتاهم العذاب بسبب التكذيب فإذا كان التكذيب حاصلاً ههنا لزم حصول العذاب استدلالاً بالعلة على المعلول وقوله مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أي من الجهة التي لا يحسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها ولما بين أنه أتاهم العذاب في الدنيا بين أيضاً أنه أتاهم الخزي وهو الذل والصغار والهوان والفائدة في ذكر هذا القيد أن العذاب التام هو أن يحصل فيه الألم مقروناً بالهوان والذل
ثم قال وَلَعَذَابُ الاْخِرَة ِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ يعني أن أولئك وإن نزل عليهم العذاب والخزي كما تقدم ذكره فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب فلما ذكر الله تعالى هذه الفوائد المتكاثرة والنفائس المتوافرة في هذه المطالب بين(26/239)
تعالى أنه بلغت هذه البيانات إلى حد الكمال والتمام فقال وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ والمقصود ظاهر وقالت المعتزلة دلت الآية على أن أفعال الله وأحكامه معللة ودلت أيضاً على أنه يريد الإيمان والمعرفة من الكل لأن قوله وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ مشعر بالتعليل وقوله في آخر الآية لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مشعر بالتعليل أيضاً ومشعر بأن المقصود من ضرب هذه الأمثال إرادة حصول التذكر والعلم ولما كانت هذه البيانات النافعة والبينات الباهرة موجودة في القرآن لا جرم وصف القرآن بالمدح والثناء فقال قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه الأول أن قوله وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يدل على أنه تعالى إنما ذكر هذه الأمثال ليحصل لهم التذكر والشيء الذي يؤتى به لغرض آخر يكون محدثاً فإن القديم هو الذي يكون موجوداً في الأزل وهذا يمتنع أن يقال إنه إنما أتى به لغرض كذا وكذا والثاني أنه وصفه بكونه عربياً وإنما كان عربياً لأن هذه الألفاظ إنما صارت دالة على هذه المعاني بوضع العرب وباصطلاحهم وما كان حصوله بسبب أوضاع العرب واصطلاحاتهم كان مخلوقاً محدثاً الثالث أنه وصفه بكونه قرآناً والقرآن عبارة عن القراءة والقراءة مصدر والمصدر هو المفعول المطلق فكان فعلاً ومفعولاً والجواب أنا نحمل كل هذه الوجوه على الحروف والأصوات وهي حادثة ومحدثة
المسألة الثانية قال الزجاج قوله عَرَبِيّاً منصوب على الحال والمعنى ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه ويجوز أن ينتصب على المدح
المسألة الثالثة أنه تعالى وصفه بصفات ثلاثة أولها كونه قرآناً والمراد كونه متلواً في المحاريب إلى قيام القيامة كما قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) وثانيها كونه عربياً والمراد أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 ) وثالثها كونه غَيْرَ ذِى عِوَجٍ والمراد براءته عن التناقض كما قال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً وأما قوله لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فالمعتزلة يتمسكون به في تعليل أحكام الله تعالى
وفيه بحث آخر وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وقال في هذه الآية لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ والسبب فيه أن التذكر متقدم على الاتقاء لأنه إذا تذكره وعرفه ووقف على فحواه وأحاط بمعناه حصل الاتقاء والاحتراز والله أعلم
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ(26/240)
اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح وعيد الكفار أردفه بذكر مثل ما يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم فقال ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى المتشاكسون المختلفون العسرون يقال شكس يشكس شكوساً وشكساً إذا عسر وهو رجل شكس أي عسر وتشاكس إذا تعاسر قال الليث التشاكس التنازع والاختلاف ويقال الليل والنهار متشاكسان أي أنهما متضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر وقوله فيه صلة شركاء كما تقول اشتركوا فيه
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو سالماً بالألف وكسر اللام يقال سلم فهو سالم والباقون سلماً بفتح السين واللام بغير الألف ويقال أيضاً بفتح السين وكسرها مع سكون العين أما من قرأ سالماً فهو اسم الفاعل تقدير مسلم فهو سالم وأما سائر القراءات فهي مصادر سلم والمعنى ذا سلامة وقوله لِرَجُلٍ أي ذا خلوص له من الشركة من قولهم سلمت له الضيعة وقرىء بالرفع على الابتداء أي وهناك رجل سالم لرجل
المسألة الثالثة تقدير الكلام اضرب لقومك مثلاً وقل لهم ما يقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع كل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحير في أمره فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون وإذا احتاج في مهم إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فهو يبقى متحيراً لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه وأيهم يعينه في حاجاته فهو بهذا السبب في عذاب دائم وتعب مقيم ورجل آخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه على مهماته فأي هذين العبدين أحسن حالاً وأحمد شأناً والمراد تمثيل حال من يثبت آلهة شتى فإن أولئك الآلهة تكون متنازعة متغالبة كما قال تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وقال وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( المؤمنون 91 ) فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً لا يدري أي هؤلاء الآلهة يعبد وعلى ربوبية أيهم يعتمد وممن يطلب رزقه وممن يلتمس رفقه فهمه شفاع وقلبه أوزاع أما من لم يثبت إلا إلهاً واحداً فهو قائم بما كلفه عارف بما أرضاه وما أسخطه فكان حال هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول وهذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك وتحسين التوحيد فإن قيل هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات فليس بينها منازعة ولا مشاكسة قلنا إن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة ثم إن القوم يثبتون بين هذه الكواكب منازعة ومشاكسة ألا ترى أنهم يقولون زحل هو النحس الأعظم والمشتري هو السعد الأعظم ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية وحينئذٍ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة وحينئذٍ يكون المثل مطابقاً ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزهاد الذين مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل لتصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله والقائلون بهذا القول تزعم كل طائفة منهم أن المحق هو(26/241)
ذلك الرجل الذي هو على دينه وأن من سواه مبطل وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال فثبت أن هذا المثال مطابق للمقصود
أما قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً فالتقدير هل يستويان صفة فقوله مَثَلاً نصب على التمييز والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالتاهما وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقرىء مثلين ثم قال الْحَمْدُ للَّهِ والمعنى أنه لما بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الحق ثبت أن الحمد له لا لغيره ثم قال بعده بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره وأن المستحق للعبادة هو الله لا غيره وقيل المراد أنه لما سبقت هذه الدلائل الظاهرة والبينات الباهرة قال الحمد لله على حصول هذه البيانات وظهور هذه البينات وإن كان أكثر الخلق لم يعرفوها ولم يقفوا عليها ولما تمم الله هذه البيانات قال إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضاً سيموتون ثم تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى والعادل الحق يحكم بينكم فيوصل إلى كل واحد ما هو حقه وحينئذٍ يتميز المحق من المبطل والصديق من الزنديق فهذا هو المقصود من الآية وقوله تعالى إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ أي إنك وإياهم وإن كنتم أحياء فإنك وإياهم في أعداد الموتى لأن كل ما هو آت آت ثم بين تعالى نوعاً آخر من قبائح أفعالهم وهو أنهم يكذبون ويضمون إليه أنهم يكذبون القائل المحق أما أنهم يكذبون فهو أنهم أثبتوا لله ولداً وشركاء وأما أنهم مصرون على تكذيب الصادقين فلأنهم يكذبون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بعد قيام الدلالة القاطعة على كونه صادقاً في ادعاء النبوة ثم أردفه بالوعيد فقال أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ ومن الناس من تمسك بهذه الآية في تكفير المخالف من أهل القبلة وذلك لأن المخالف في المسائل القطعية كلها يكون كاذباً في قوله ويكون مكذباً للمذهب الذي هو الحق فوجب دخوله تحت هذا الوعيد
وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ(26/242)
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكاذبين والمكذبين للصادقين ذكر عقيبه وعد الصادقين ووعد المصدقين ليكون الوعد مقروناً بالوعيد وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ تقديره والذي جاء بالصدق والذي صدق به وفيه قولان الأول أن المراد شخص واحد فالذي جاء بالصدق محمد والذي صدق به هو أبو بكر وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وجماعة من المفسرين رضي الله عنهم والثاني أن المراد منه كل من جاء بالصدق فالذي جاء بالصدق الأنبياء والذي صدق به الأتباع واحتج القائلون بهذا القول بأن الذي جاء بالصدق جماعة وإلا لم يجز أن يقال أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
المسألة الثانية أن الرسالة لا تتم إلا بأركان أربعة المرسل والمرسل والرسالة والمرسل إليه والمقصود من الإرسال إقدام المرسل إليه على القبول والتصديق فأول شخص أتى بالتصديق هو الذي يتم به الإرسال وسمعت بعض القاصين من الذي يروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( دعوا أبا بكر فإنه من تتمة النبوة )
واعلم أنا سواء قلنا المراد بالذي صدق به شخص معين أو قلنا المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة فإن أبا بكر داخل فيه )
أما على التقدير الأول فدخول أبي بكر فيه ظاهر وذلك لأن هذا يتناول أسبق الناس إلى التصديق وأجمعوا على أن الأسبق الأفضل إما أبو بكر وإما علي وحمل هذا اللفظ على أبي بكر أولى لأن علياً عليه السلام كان وقت البعثة صغيراً فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت ومعلوم أن إقدامه على التصديق لا يفيد مزيد قوة وشوكة أما أبو بكر فإنه كان رجلاً كبيراً في السن كبيراً في المنصب فإقدامه على التصديق يفيد مزيد قوة وشوكة في الإسلام فكان حمل هذا اللفظ إلى أبي بكر أولى
وأما على التقدير الثاني فهو أن يكون المراد كل من كان موصوفاً بهذه الصفة وعلى هذا التقدير يكون أبو بكر داخلاً فيه
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وصدق بالتخفيف أي صدق به الناس ولم يكذبهم يعني أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف وقيل صار صادقاً به أي بسببه لأن القرآن معجزة والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح فيصير المدعي للرسالة صادقاً بسبب تلك المعجزة وقرىء وصدق
واعلم أنه تعالى أثبت للذي جاء بالصدق وصدق به أحكاماً كثيرة
فالحكم الأول قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وتقريره أن التوحيد والشرك ضدان وكلما كان أحد الضدين أشرف وأكمل كان الضد الثاني أخس وأرذل ولما كان التوحيد أشرف الأسماء كان الشرك أخس الأشياء والآتي بأحد الضدين يكون تاركاً للضد الثاني فالآتي بالتوحيد الذي هو أفضل الأشياء يكون تاركاً للشرك الذي هو أخس الأشياء وأرذلها فلهذا المعنى وصف المصدقين بكونهم متقين
الحكم الثاني للمصدقين قوله تعالى لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وهذا(26/243)
الوعد يدخل فيه كل ما يرغب المكلف فيه فإن قيل لا شك أن الكمال محبوب لذاته مرغوب فيه لذاته وأهل الجنة لا شك أنهم عقلاء فإذا شاهدوا الدرجات العالية التي هي للأنبياء وأكابر الأولياء عرفوا أنها خيرات عالية ودرجات كاملة والعلم بالشيء من حيث إنه كمال وخير يوجب الميل إليه والرغبة فيه وإذا كان كذلك فهم يشاءون حصول تلك الدرجات لأنفسهم فوجب حصولها لهم بحكم هذه الآية وأيضاً فإن لم يحصل لهم ذلك المراد كانوا في الغصة ووحشة القلب وأجيب عنه بأن الله تعالى يزيل الحقد والحسد عن قلوب أهل الآخرة وذلك يقتضي أن أحوالهم في الآخرة بخلاف أحوالهم في الدنيا ومن الناس من تمسك بهذه الآية في أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة قالوا إن الذين يعتقدون أنهم يرون الله تعالى لا شك أنهم داخلون تحت قوله تعالى وَصَدَّقَ بِهِ لأنهم صدقوا الأنبياء عليهم السلام ثم إن ذلك الشخص يريد رؤية الله تعالى فوجب أن يحصل له ذلك لقوله تعالى لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ فإن قالوا لا نسلم أن أهل الجنة يشاءون ذلك قلنا هذا باطل لأن الرؤية أعظم وجوه التجلي وزوال الحجاب ولا شك أنها حالة مطلوبة لكل أحد نظراً إلى هذا الاعتبار بل لو ثبت بالدليل كون هذا المطلوب ممتنع الوجود لعينه فإنه يترك طلبه لا لأجل عدم المقتضى للطلب بل لقيام المانع وهو كونه ممتنعاً في نفسه فثبت أن هذه الشبهة قائمة والنص يقتضي حصول كل ما أرادوه وشاءوه فوجب حصولها
واعلم أن قوله عِندَ رَبّهِمْ لا يفيد العندية بمعنى الجهة والمكان بل بمعنى الصمدية والإخلاص كما في قوله تعالى عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) واعلم أن المعتزلة تمسكوا بقوله وَذالِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ على أن هذا الأجر مستحق لهم على إحسانهم في العبادة
الحكم الثالث قوله تعالى لِيُكَفّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ فقوله لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه وقوله لِيُكَفّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه فقيل المراد أنهم إذا صدقوا الأنبياء عليهم فيما أوتوا فإن الله يكفر عنهم أسوأ أعمالهم وهو الكفر السابق على ذلك الإيمان ويوصل إليهم أحسن أنواع الثواب وقال مقاتل يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوىء واعلم أن مقاتلاً كان شيخ المرجئة وهم الذين يقولون لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان كما لا ينفع شيء من الطاعات مع الكفر واحتج بهذه الآية فقال إنها تدل على أن من صدق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ولا جوز حمل هذا الأسوأ على الكفر السابق لأن الظاهر من الآية يدل على أن التكفير إنما حصل في حال ما وصفهم الله بالتقوى وهو التقوى من الشرك وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر التي يأتي بها بعد الإيمان فتكون هذه الآية تنصيصاً على أنه تعالى يكفر عنهم بعد إيمانهم أسوأ ما يأتون به وذلك هو الكبائر
الحكم الرابع أنه جرت العادة أن المبطلين يخوفون المحقين بالتخويفات الكثيرة فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وذكره بلفظ الاستفهام والمراد تقرير ذلك في النفوس والأمر كذلك لأنه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات غني عن كل الحاجات فهو تعالى عالم حاجات العباد وقادر على دفعها وإبدالها بالخيرات والراحات وهو ليس بخيلاً ولا محتاجاً(26/244)
حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء ذلك المراد وإذا ثبت هذا كان الظاهر أنه سبحانه يدفع الآفات ويزيل البليات ويوصل إليه كل المرادات فلهذا قال أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ولما ذكر الله المقدمة رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال وَيُخَوّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ يعني لما ثبت أن الله كاف عبده كان التخويف بغير الله عبثاً وباطلاً قرأ أكثر القراء عبده بلفظ الواحد وهو اختيار أبي عبيدة لأنه قال له وَيُخَوّفُونَكَ روي أن قريشاً قالت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقرأ جماعة عِبَادِهِ بلفظ الجميع قيل المراد بالعباد الأنبياء فإن نوحاً كفاه الغرق وإبراهيم النار ويونس بالإنجاء مما وقع له فهو تعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك وقيل أمم الأنبياء قصدوهم بالسوء لقوله تعالى وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّة ٍ بِرَسُولِهِمْ ( غافر 5 ) وكفاهم الله شر من عاداهم
واعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الوعيد والوعد والترهيب والترغيب ختم الكلام بخاتمة هي الفصل الحق فقال وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ يعني هذا الفضل لا ينفع والبينات إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق وقوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ تهديد للكفار
واعلم أن أصحابنا يتمسكون في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات بقوله وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ والمباحث فيه من الجانبين معلومة والمعتزلة يتمسكون على صحة مذهبهم في هاتين المسألتين بقوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ ولو كان الخالق للكفر فيهم هو الله لكان الانتقام والتهديد غير لائق به
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَة ٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِى َ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ ياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما أطنب في وعيد المشركين وفي وعد الموحدين عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريقة عبدة الأصنام وبنى هذا التزييف على أصلين
الأصل الأول هو أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم وهو المراد بقوله وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ واعلم أن من الناس من قال إن العلم بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه وفطرة العقل شاهدة بصحة هذا(26/245)
العلم فإن من تأمل في عجائب أحوال السموات والأرض وفي عجائب أحوال النبات والحيوان خاصة وفي عجائب بدن الإنسان وما فيه من أنواع الحكم الغريبة والمصالح العجيبة علم أنه لا بد من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم
والأصل الثاني أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَة ٍ هَلْ فثبت أنه لا بد من الإقرار بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم وثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وإذا كان الأمر كذلك كانت عبادة الله كافية وكان الاعتماد عليه كافياً وهو المراد من قوله قُلْ حَسْبِى َ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكّلُونَ فإذا ثبت هذا الأصل لم يلتفت العاقل إلى تخويف المشركين فكان المقصود من هذه الآية هو التنبيه على الجواب عما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله تعالى وَيُخَوّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وقرىء كَاشِفَاتُ ضُرّهِ و مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ( الزمر 38 ) بالتنوين على الأصل وبالإضافة للتخفيف فإن قيل كيف قوله كَاشِفَاتُ و مُمْسِكَاتُ على التأنيث بعد قوله وَيُخَوّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ قلنا المقصود التنبيه على كمال ضعفها فإن الأنوثة مظنة الضعف ولأنهم كانوا يصفونها بالتأنيث ويقولون اللات والعزى ومناة ولما أورد الله عليهم هذه الحجة التي لا دفع لها قال بعده على وجه التهديد قُلْ ياأَهْلَ قَوْمٌ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ أي أنتم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإني عامل أيضاً في تقرير ديني فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أن العذاب والخزي يصيبني أو يصيبكم والمقصود منه التخويف
إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَق فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ اللَّهُ يَتَوَفَّى الاٌّ نفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاٍّ خْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَة ُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
في الآية مسائل(26/246)
المسألة الأولى اعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ ( الكهف 6 ) وقال لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( الشعراء 3 ) وقال تعالى فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 ) فلما أطنب الله تعالى في هذه الآية في فساد مذاهب المشركين تارة بالدلائل والبينات وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد أردفه بكلام يزيل ذلك الخوف العظيم عن قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ الكامل الشريف لنفع الناس ولاهتدائهم به وجعلنا إنزاله مقروناً بالحق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله فمن اهتدى فنفعه يعود إليه ومن ضل فضير ضلاله يعود إليه وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ والمعنى أنك لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم وذلك لتسلية الرسول في إصرارهم على الكفر ثم بين تعالى أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى وذلك لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم وكما أن الحياة واليقظة وكذلك الموت والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله عز وجل وإيجاده فكذلك الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب فيصير التنبيه على هذه الدقيقة سبباً لزوال ذلك الحزن عن قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا وجه النظم في الآية وقيل نظم الآية أنه تعالى ذكر حجة أخرى في إثبات أنه الإله العالم ليدل على أنه بالعبادة أحق من هذه الأصنام
المسألة الثانية المقصود من الآية أنه تعالى يتوفى الأنفس عند الموت وعند النوم إلا أنه يمسك الأنفس التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى وهي النائمة إلى أجل مسمى أي إلى وقت ضربه لموتها فقوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا يعني أنه تعالى يتوفى الأنفس التي يتوفاها عند الموت يمسكها ولا يردها إلى البدن وقوله وَيُرْسِلُ الاْخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى يعني أن النفس التي يتوفاها عند النوم يردها إلى البدن عند اليقظة وتبقى هذه الحالة إلى أجل مسمى وذلك الأجل هو وقت الموت فهذا تفسير لفظ الآية وهي مطابقة للحقيقة ولكن لا بد فيه من مزيد بيان فنقول النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء وهو الحياة فنقول إنه في وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر هذا البدن وعن باطنه وذلك هو الموت وأما في وقت النوم فإنه ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن من بعض الوجوه ولا ينقطع ضوؤه عن باطن البدن فثبت أن الموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام كامل والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه وإذا ثبت هذا ظهر أن القادر العالم الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه أحدها أن يقع ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه وذلك اليقظة وثانيها أن يرتفع ضوء النفس عن ظاهر البدن من بعض الوجوه دون باطنه وذلك هو النوم وثالثها أن يرتفع ضوء النفس عن البدن بالكلية وهو الموت فثبت أن الموت والنوم يشتركان في كون كل واحد منهما توفياً للنفس ثم يمتاز أحدهما عن الآخر بخواص معينة في صفات معينة ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم وهو المراد من قوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويحتمل أن يكون المراد بهذا أن الدليل يدل على أن الواجب على العاقل أن يعبد إلهاً موصوفاً بهذه القدرة وبهذه الحكمة وأن لا يعبد الأوثان التي هي جمادات لا شعور لها ولا إدراك واعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالاً فقالوا نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها(26/247)
آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله فأجاب الله تعالى بأن قال أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ وتقرير الجواب أن هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لها والأول باطل لأن هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئاً ولا تعقل شيئاً فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها والثاني باطل لأن في يوم القيامة لا يملك أحد شيئاً ولا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله الذي يأذن في تلك الشفاعة فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره وهذا هو المراد من قوله تعالى قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَة ُ جَمِيعاً ثم بين أنه لا ملك لأحد غير الله بقوله لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ومنهم من تمسك في نفي الشفاعة مطلقاً بقوله تعالى قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَة ُ جَمِيعاً وهذا ضعيف لأنا نسلم أنه سبحانه ما لم يأذن في الشفاعة لم يقدر أحد على الشفاعة فإن قيل قوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا فيه سؤال لأن هذا يدل على أن المتوفى هو الله فقط وتأكد هذا بقوله الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وبقوله رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) وبقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) ثم إن الله تعالى قال في آية أخرى قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) وقال في آية ثالثة حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وجوابه أن المتوفى في الحقيقة هو الله إلا أنه تعالى فوض في عالم الأسباب كل نوع من أنواع الأعمال إلى ملك من الملائكة ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو رئيس وتحته أتباع وخدم فأضيف التوفي في هذه الآية إلى الله تعالى بالإضافة الحقيقية وفي الآية الثانية إلى ملك الموت لأنه هو الرئيس في هذا العمل وإلى سائر الملائكة لأنهم هم الأتباع لملك الموت والله أعلم
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرض عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُو ءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من الأعمال القبيحة للمشركين وهو أنك إذا ذكرت الله وحده تقول لا إله إلا الله(26/248)
وحده لا شريك له ظهرت آثار النفرة من وجوههم وقلوبهم وإذا ذكرت الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح والبشارة في قلوبهم وصدورهم وذلك يدل على الجهل والحماقة لأن ذكر الله رأس السعادات وعنوان الخيرات وأما ذكر الأصنام التي هي الجمادات الخسيسة فهو رأس الجهالات والحماقات فنفرتهم عن ذكر الله وحده واستبشارهم بذكر هذه الأصنام من أقوى الدلائل على الجهل الغليظ والحمق الشديد قال صاحب ( الكشاف ) وقد يقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى يظهر أثر ذلك السرور في بشرة وجهه ويتهلل والاشمئزاز أن يعظم غمه وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية ولما حكى عنهم هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بأمرين أحدهما أنه ذكر الدعاء العظيم فوصفه أولا بالقدرة التامة وهي قوله قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وثانياً بالعلم الكامل وهو قوله تعالى عالم الغيب والشهادة وإنما قدم فذكر القدرة على ذكر العلم لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً ولما ذكر هذا الدعاء قال أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم عند سماع الشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل ومع ذلك القوم قد أصروا عليه فلا يقدر أحد على إزالتهم عن هذا الاعتقاد الفاسد والمذهب الباطل إلا أنت عن أبي سلمة قال سألت عائشة بم كان يفتتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاته بالليل قالت ( كان يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك وانك لتهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم ذلك المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء أولها أن هؤلاء الكفار لو ملكوا كل ما في الأرض من الأموال وملكوا مثله معه لجعلوا الكل فدية لأنفسهم من ذلك العذاب الشديد وثانيها قوله تعالى وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ أي ظهرت لهم أنواع من العقاب لم تكن في حسابهم وكما أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال في صفة الثواب في الجنة ( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) فكذلك في العقاب حصل مثله وهو قوله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ و ثالثها قوله تعالى وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ ومعناه ظهرت لهم آثار تلك السيئات التي اكتسبوها أي ظهرت لهم أنواع من العقاب آثار تلك السيئات التي اكتسبوها ثم قال وَحَاقَ بِهِم من كل الجوانب جزاء ما كانوا يستهزئون به فنبه تعالى بهذه الوجوه على عظم عقابهم
فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَة ً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِى َ فِتْنَة ٌ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَاؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(26/249)
اعلم أن هذا حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة وذلك لأنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى ويرون أن دفع ذلك لا يكون إلا منه ثم إنه تعالى إذا خولهم النعمة وهي إما السعة في المال أو العافية في النفس زعم أنه إنما حصل ذلك بكسبه وبسبب جهده وجده فإن كان مالاً قال إنما حصل بكسبي وإن كان صحة قال إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني وهذا تناقض عظيم لأنه كان في حال العجز والحاجة أضاف الكل إلى الله وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح فبين تعالى قبح طريقتهم فيما هم عليه عند الشدة والرخاء بلفظة وجيزة فصيحة فقال بَلْ هِى َ فِتْنَة ٌ يعني النعمة التي خولها هذا الكافر فتنة لأن عند حصولها يجب الشكر وعند فواتها يجب الصبر ومن هذا حاله يوصف بأنه فتنة من حيث يختبر عنده حال من أوتي النعمة كما يقال فتنت الذهب بالنار إذا عرضته على النار لتعرف خلاصته
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ والمعنى ما قدمنا أن هذا التخويل إنما كان لأجل الاختبار وبقي في الآية أبحاث نذكرها في معرض السؤال والجواب
السؤال الأول ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء ههنا وعطف مثلها في أول السورة بالواو والجواب أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنهم يشمئزون من سماع التوحيد ويستبشرون بسماع ذكر الشركاء ثم ذكر بفاء التعقيب أنهم إذا وقعوا في الضر والبلاء والتجأوا إلى الله تعالى وحده كان الفعل الأول مناقضاً للفعل الثاني فذكر فاء التعقيب ليدل على أنهم واقعون في المناقضة الصريحة في الحال وأنه ليس بين الأول والثاني فاصل مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني فهذا هو الفائدة في ذكر فاء التعقيب ههنا فأما الآية الأولى فليس المقصود منها بيان وقوعهم في التناقض في الحال فلا جرم ذكر الله بحرف الواو لا بحرف الفاء
السؤال الثاني ما معنى التخويل الجواب التخويل هو التفضل يعني نحن نتفضل عليه وهو يظن أنه إنما وجده بالاستحقاق
السؤال الثالث ما المراد من قوله إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ الجواب يحتمل أن يكون المراد إنما أوتيته على علم الله بكوني مستحقاً لذلك ويحتمل أن يكون المراد إنما أوتيته على علمي بكوني مستحقاً له ويحتمل أن يكون المراد إنما أوتيته على علم لأجل ذلك العلم قدرت على اكتسابه مثل أن يكون مريضاً فيعالج نفسه فيقول إنما وجدت الصحة لعلمي بكيفية العلاج وإنما وجدت المال لعلمي بكيفية الكسب
السؤال الرابع النعمة مؤنثة والضمير في قوله أُوتِيتُهُ عائد على النعمة فضمير التذكير كيف عاد إلى المؤنث بل قال بعده بَلْ هِى َ فِتْنَة ٌ فجعل الضمير مؤنثاً فما السبب فيه والجواب أن التقدير حتى إذا خولناه شيئاً من النعمة فلفظ النعمة مؤنث ومعناه مذكر فلا جرم جاز الأمران
ثم قال تعالى قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فما أغنى عنهم الضمير في قالها راجح إلى قوله إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ(26/250)
عندي لأنها كلمة أو جملة من المقول وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ هم قارون وقومه حيث قال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عندي وقومه راضون به فكأنهم قالوها ويجوز أيضاً أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها
ثم قال تعالى فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أي ما أغنى عنهم ذلك الاعتقاد الباطل والقول الفاسد الذي اكتسبوه من عذاب الله شيئاً بل أصابهم سيئات ما كسبوا ولما بين في أولئك المتقدمين أنهم أصابهم سيئات ما كسبوا أي عذاب عقائدهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة قال وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي لا يعجزونني في الدنيا والآخرة
ثم قال تعالى أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ يعني أو لم يعلموا أن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارة ويقبض تارة أخرى وقوله وَيَقْدِرُ أي ويقتر ويضيق والدليل عليه أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه ولا بد له من سبب وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله لأنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق ونرى الجاهل المريض الضعيف في أعظم السعة وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأنجم والأفلاك لأن في الساعة التي ولد فيها ذلك الملك الكبير والسلطان القاهر قد ولد فيه أيضاً عالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان ويولد أيضاً في تلك الساعة عالم من النبات فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة علمنا أنه ليس المؤثر في السعادة والشقاوة هو الطالع ولما بطلت هذه الأقسام علمنا أن المؤثر فيه هو الله سبحانه وصح بهذا البرهان العقلي القاطع على صحة قوله تعالى أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ
قال الشاعر فلا السعد يقضي به المشترى
ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السما
ء وقاضي القضاة تعالى وجل(26/251)
بداية الجزء السابع والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(27/2)
قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَة ً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّة ً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله وإحسانه في حق العبيد وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر فقالوا إنا بينا في هذا الكتاب أن عرف القرآن جار بتخصيص العباد بالمؤمنين قال تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً الْفُرْقَانَ وَقَالَ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ(27/3)
( الإنسان 6 ) ولأن لفظ العباد مذكور في معرض التعظيم فوجب أن لا يقع إلا على المؤمنين إذا ثبت هذا ظهر أن قوله فِى عِبَادِى مختص بالمؤمنين ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله أما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد اللات والعزى وعبد المسيح فثبت أن قوله فِى عِبَادِى لا يليق إلا بالمؤمنين إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قال الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وهذا عام في حق جميع المسرفين
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وهذا يقتضي كونه غافراً لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين وذلك هو المقصود فإن قيل هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا لزم القطع بكون الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به فما هو مدلول هذه الآية لا تقولون به والذي تقولون به لا تدل عليه هذه الآية فسقط الاستدلال وأيضاً إنه تعالى قال عقيب هذه الآية وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ إلى قوله بَغْتَة ً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ولو كان المراد من أول الآية أنه تعالى غفر جميع الذنوب قطعاً لما أمر عقيبه بالتوبة ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون وأيضاً قال أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ولو كانت الذنوب كلها مغفورة فأي حاجة به إلى أن يقول ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وأيضاً فلو كان المراد ما يدل عليه ظاهر لفظ الآية لكان ذلك إغراء بالمعاصي وإطلاقاً في الإقدام عليها وذلك لا يليق بحكمة الله وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن يقال المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب ألبتة فإن من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله إذ لا أحد من العصاة المذنبين إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة فمعنى قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أي بالتوبة والإنابة والجواب قوله الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به قلنا بل نحن نقول به ونذهب إليه وذلك لأن صيغة يغفر صيغة المضارع وهي للاستقبال وعندنا أن الله تعالى يخرج من النار من قال لا إلاه إلا الله محمد رسول الله وعلى هذا التقدير فصاحب الكبيرة مغفور له قطعاً إما قبل الدخول في نار جهنم وإما بعد الدخول فيها فثبت أن ما يدل عليه ظاهر الآية فهو عين مذهبنا
أما قوله لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة فالجواب أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم فإنا لا نقطع بإزالة العقاب بالكلية بل نقول لعله يعفو مطلقاً ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك وبهذا الحرف يخرج الجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية تدل على الرحمة من وجوه الأول أنه سمى المذنب بالعبد والعبودية مفسرة بالحاجة والذلة والمسكنة واللائق بالرحيم الكريم إفاضة الخير والرحمة على المسكين المحتاج الثاني أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة فقال قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ وشرف الإضافة إليه يفيد الأمن من العذاب الثالث أنه تعالى قال أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ومعناه أن ضرر تلك الذنوب ما(27/4)
عاد إليه بل هو عائد إليهم فيكفيهم من تلك الذنوب عود مضارها إليهم ولا حاجة إلى إلحاق ضرر آخر بهم الرابع أنه قال لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ نهاهم عن القنوط فيكون هذا أمراً بالرجاء والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم الخامس أنه تعالى قال أولاً فِى عِبَادِى وكان الأليق أن يقول لا تقنطوا من رحمتي لكنه ترك هذا اللفظ وقال لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ لأن قولنا الله أعظم أسماء الله وأجلها فالرحمة المضافة إليه يجب أن تكون أعظم أنواع الرحمة والفضل السادس أنه لما قال لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ كان الواجب أن يقول إنه يغفر الذنوب جميعاً ولكنه لم يقل ذلك بل أعاد اسم الله وقرن به لفظة إن المفيدة لأعظم وجوه التأكيد وكل ذلك يدل على المبالغة في الوعد بالرحمن السابع أنه لو قال يَغْفِرُ الذُّنُوبَ لكان المقصود حاصلاً لكنه أردفه باللفظ الدال على التأكيد فقال جميعاً وهذا أيضاً من المؤكدات الثامن أنه وصف نفسه بكونه غفوراً ولفظ الغفور يفيد المبالغة التاسع أنه وصف نفسه بكونه رحيماً والرحمة تفيد فائدة على المغفرة فكان قوله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ إشارة إلى إزالة موجبات العقاب وقوله الرَّحِيمِ إشارة إلى تحصيل موجبات الرحمة والثواب العاشر أن قوله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يفيد الحصر ومعناه أنه لا غفور ولا رحيم إلا هو وذلك يفيد الكمال في وصفه سبحانه بالغفران والرحمة فهذه الوجوه العشرة مجموعة في هذه الآية وهي بأسرها دالة على كمال الرحمة والغفران ونسأل الله تعالى الفوز بها والنجاة من العقاب بفضله ورحمته
المسألة الثالثة ذكروا في سبب النزول وجوهاً قيل إنها نزلت في أهل مكة فإنهم قالوا يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له وقد عبدنا وقتلنا فكيف نسلم وقيل نزلت في وحشي قاتل حمزة لما أراد أن يسلم وخاف أن لا تقبل توبته فلما نزلت الآية أسلم فقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه له خاصة أم للمسلمين عامة فقال بل للمسلمين عامة وقيل نزلت في أناس أصابوا ذنوباً عظاماً في الجاهلية فلما جاء الإسلام أشفقوا لا يقبل الله توبتهم وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم فتنوا فافتتنوا وكان المسلمون يقولون فيهم لا يقبل الله منهم توبتهم فنزلت هذه الآيات فكتبها عمر وبعث بها إليهم فأسلموا وهاجروا واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزول هذه الآيات في هذه الوقائع لا يمنع من عمومها
المسألة الرابعة قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم فِى عِبَادِى بفتح الياء والباقون وعاصم في بعض الروايات بغير فتح وكلهم يقفون عليه بإثبات الياء لأنها ثابتة في المصحف إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء وقرأ أبو عمرو والكسائي تقنطوا بكسر النون والباقون بفتحها وهما لغتان قال صاحب ( الكشاف ) وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لِمَن يَشَاء
ثم قال تعالى ) وأنيبوا إلى ربكم قال صاحب ( الكشاف ) أي وتوبوا إليه وأسلموا له أي وأخصلوا له العمل وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه وأقول هذا الكلام ضعيف جداً لأن عندنا التوبة عن المعاصي واجبة فلم يلزم من ورود الأمر بها طعن في الوعد بالمغفرة فإن قالوا لو كان الوعد بالمغفرة حاصلاً قطعاً لما احتيج إلى التوبة لأن التوبة إنما تراد لإسقاط العقاب فإذا سقط العقاب بعفو الله عنه فلا حاجة إلى التوبة فنقول هذا ضعيف لأن(27/5)
مذهبنا أنه تعالى وإن كان يغفر الذنوب قطعاً ويعفو عنها قطعاً إلا أن هذا العفو والغفران يقع على وجهين تارة يقع ابتداء وتارة يعذب مدة في النار ثم يخرجه من النار ويعفو عنه ففائدة التوبة إزالة هذا العقاب فثبت أن الذي قاله صاحب ( الكشاف ) ضعيف ولا فائدة فيه
ثم قال وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ واعلم أنه تعالى لما وعد بالمغفرة أمر بعد هذا الوعد بأشياء فالأول أمر بالإنابة وهو قوله تعالى وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ والثاني أمر بمتابعة الأحسن وفي المراد بهذا الأحسن وجوه الأول أنه القرآن ومعناه واتبعوا القرآن والدليل عليه قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً ( الزمر 23 ) الثاني قال الحسن معناه والتزموا طاعة الله واجتنبوا معصية الله فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه ذكر القبيح ليجتنب عنه والأدون لئلا يرغب فيه والأحسن ليتقوى به ويتبع الثالث المراد بالأحسن الناسخ دون المنسوخ لأن الناسخ أحسن من المنسوخ لقوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( البقرة 106 ) ولأن الله تعالى لما نسخ حكماً وأثبت حكماً آخر كان اعتمادنا على المنسوخ
ثم قال مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَة ً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ والمراد منه التهديد والتخويف والمعنى أنه يفجأ العذاب وأنتم غافلون عنه واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بيّن تعالى أن بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الكلمات فالأول قوله تعالى أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَن تَقُولَ مفعول له أي كراهة أن تقول نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وأما تنكير لفظ النفس ففيه وجهان الأول يجوز أن تراد نفس ممتازة عن سائر النفوس لأجل اختصاصها بمزيد إضرار بما لا ينفي رغبتها في المعاصي والثاني يجوز أن يراد به الكثرة وذلك لأنه ثبت في علم أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب وصف يناسبه يفيد الظن بأن ذلك الحكم معلل بذلك الوصف فقوله يا حسرتا يدل على غاية الأسف ونهاية الحزن وأنه مذكور عقيب قوله تعالى نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ والتفريط في طاعة الله تعالى يناسب شدة الحسرة وهذا يقتضي حصول تلك الحسرة عند حصول هذا التفريط وذلك يفيد العموم بهذه الطريقة
المسألة الثانية القائلون بإثبات الأعضاء لله تعالى استدلوا على إثبات الجنب بهذه الآية واعلم أن دلائلنا على نفي الأعضاء قد كثرت فلا فائدة في الإعادة ونقول بتقدير أن يكون المراد من هذا الجنب عضواً مخصوصاً لله تعالى فإنه يمتنع وقوع التفريط فيه فثبت أنه لا بد من المصير إلى التأويل وللمفسرين فيه عبارات قال ابن عباس يريد ضيعت من ثواب الله وقال مقاتل ضيعت من ذكر الله وقال مجاهد في أمر الله وقال الحسن في طاعة الله وقال سعيد بن جبير في حق الله واعلم أن الإكثار من هذه العبارات لا يفيد شرح الصدور وشفاء الغليل فنقول الجنب سمي جنباً لأنه جانب من جوانب ذلك الشيء والشيء الذي يكون من لوازم الشيء وتوابعه يكون كأنه جند من جنوده وجانب من جوانبه فلما حصلت هذه المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازماً للشيء وتابعاً له لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر والطاعة قال الشاعر(27/6)
أما تتقين الله جنب وامق
له كبد حرا عليك تقطع المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء يا حسرتي على الأصل و يا حسرتاي على الجمع بين العوض والمعوض عنه
أما قوله تعالى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي أنه ما كان مكتفياً بذلك التقصير بل كان من المستهزئين بالدين قال قتادة لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها ومحل وَإِن كُنتُ نصب على الحالة كأنه قال فرطت في جنب الله وأنا ساخر أي فرطت في حال سخريتي
النوع الثاني من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن أهل العذاب أنهم يذكرونه بعد نزول العذاب عليهم قوله أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
النوع الثالث قوله أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّة ً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وحاصل الكلام أن هذا المقصر أتى بثلاثة أشياء أولها الحسرة على التفريط في الطاعة وثانيها التعلل بفقد الهداية وثالثها بتمني الرجعة ثم أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال بفقد الهداية باطل لأن الهداية كانت حاصرة والأعذار زائلة وهو المراد بقوله بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وههنا مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج بلى جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي لأن معنى قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى أنه ما هداني فلا جرم حسن ذكر لفظة بَلَى بعده
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله القراءة المشهورة واقعة على التذكير في قوله بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ لأن النفس تقع على الذكر والأنثى فخوطب بالذكر وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ على التأنيث قال أبو عبيد لو صح هذا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لكان حجة لا يجوز لأحد تركها ولكنه ليس بمسند لأن الربيع لم يدرك أم سلمة وأما وجه التأنيث فهو أنه ذكر النفس ولفظ النفس ورد في القرآن في أكثر الأمر على التأنيث بقوله سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى ( طه 96 ) و إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة ٌ بِالسُّوء ( يوسف 53 ) و يا أيتها النفس المطمئة ( الفجر 27 )
المسألة الثالثة قال القاضي هذه الآيات دالة على صحة القول بالقدر من وجوه الأول أنه لا يقال فلان أسرف على نفسه على وجه الذم إلا لما يكون من قبله وذلك يدل على أن أفعال العباد تحصل من قبلهم لا من قبل الله تعالى وثانيها أن طلب الغفران والرجاء في ذلك أو اليأس لا يحسن إلا إذا كان الفعل فعل العبد وثالثها إضافة الإنابة والإسلام إليه من قبل أن يأتيه العذاب وذلك لا يكون إلا مع تمكنه من محاولتهما مع نزول العذاب ومذهبهم أن الكافر لم يتمكن قط من ذلك ورابعها قوله تعالى الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وذلك لا يتم إلا بما هو المختار للاتباع وخامسها ذمه لهم على أنهم لا يشعرون بما يوجب العذاب وذلك لا يصح إلا مع التمكن من الفعل وسادسها قولهم نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ولا يتحسر المرء على أمر سبق منه إلا وكان يصح منه أن يفعله وسابعها قوله تعالى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ومن لا يقدر على الإيمان كما يقول القوم ولا يكون الإيمان من فعله لا يكون(27/7)
مفرطاً وثامنها ذمه لهم بأنهم من الساخرين وذلك لا يتم إلا أن تكون السخرية فعلهم وكان يصح منهم أن لا يفعلوه وتاسعها قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى أي مكنني لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وعلى هذا قولهم إذا لم يقدر على التقوى فكيف يصح ذلك منه وعاشرها قوله لَوْ أَنَّ لِى كَرَّة ً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وعلى قولهم لو رده الله أبداً كرة بعد كرة وليس فيه إلا قدرة الكفر لم يصح أن يكون محسناً والحادي عشر قوله تعالى موبخاً لهم بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ فبيّن تعالى أن الحجة عليهم لله لأن الحجة لهم على الله ولو أن الأمر كما قالوا لكان لهم أن يقولوا قد جاءتنا الآيات ولكنك خلقت فينا التكذيب بها ولم تقدرنا على التصديق بها والثاني عشر أنه تعالى وصفهم بالتكذيب والاستكبار والكفر على وجه الذم ولو لم تكن هذه الأشياء أفعالاً لهم لما صح الكلام والجواب عنه أن هذه الوجوه معارضة بما أن القرآن مملوء من أن الله تعالى يضل ويمنع ويصدر منه اللين والقسوة والاستدراج ولما كان هذا التفسير مملوءاً منه لم يكن إلى الإعادة حاجة
وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّو ءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
علم أن هذا نوع آخر من تقرير الوعيد والوعد أما الوعيد فقوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ وفيه بحثان أحدهما أن هذا التكذيب كيف هو والثاني أن هذا السواد كيف هو
البحث الأول عن حقيقة هذا التكذيب فنقول المشهور أن الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ومنهم من قال هذا القدر لا يكون كذباً بل الشرط في كونه كذباً أن يقصد الإتيان بخبر يخالف المخبر عنه إذا عرفت هذا الأصل فنذكر أقوال الناس في هذه الآية
قال الكعبي ويرد الجبر بأن هذه الآية وردت عقيب قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى ( الزمر 58 ) يعني أنه ما هداني بل أضلني فلما حكى الله عن الكفار ثم ذكر عقيبه تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ وجب أن يكون هذا عائداً إلى ذلك الكلام المتقدم ثم روي عن الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما بال أقوام يصلون ويقرأون القرآن يزعمون أن الله كتب الذنوب على العباد وهم كذبة على الله والله مسود وجوههم واعلم أن أصحابنا قالوا آخر الآية يدل على فساد هذا التأويل لأنه تعالى قال في آخر الآية واعلم أن أصحابنا قالوا آخر الآية يدل على فساد هذا التأويل لأنه تعالى قال في آخر الآية أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ وهذا يدل على أن أولئك الذين صارت وجوههم مسودة أقوام متكبرون والتكبر لا يليق بمن يقول أنا لا أقدر على الخلق والإعادة والإيجاد وإنما القادر عليه هو الله سبحانه وتعالى أما الذين يقولون إن الله يريد شيئاً وأنا أريد بضده فيحصل مرادي ولا يحصل مراد الله فالتكبر بهذا القائل أليق فثبت أن هذا التأويل الذي ذكروه فاسد ومن الناس من قال إن هذا الوعيد مختص باليهود والنصارى ومنهم من قال(27/8)
إنه مختص بمشركي العرب قال القاضي يجب حمل الآية على الكل من المشبهة والمجبرة وكذلك كل من وصف الله بما لا يليق به نفياً وإثباتاً فأضاف إليه ما يجب تنزيهه عنه أو نزهه عما يجب أن يضاف إليه فالكل منهم داخلون تحت هذه الآية لأنهم كذبوا على الله فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة أو اليهود والنصارى لا يجوز واعلم أنا لو أجرينا هذه الآية على عمومها كما ذكره القاضي لزمه تكفير الأمة لأنك لا ترى فرقة من فرق الأمة إلا وقد حصل بينهم اختلاف شديد في صفات الله تعالى ألا ترى أنه حصل الاختلاف بين أبي هاشم وأهل السنة في مسائل كثيرة من صفات الله تعالى ويلزم على قانون قول القاضي تكفير أحدهما فثبت أنه يجب أن يحمل الكذب المذكور في الآية على ما إذا قصد الإخبار عن الشيء مع أنه يعلم أنه كاذب فيما يقول ومثال هذا كفار قريش فإنهم كانوا يصفون تلك الأصنام بالإلاهية مع أنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنها جمادات وكانوا يقولون إن الله تعالى حرم البحيرة والسائية والوصيلة والحام مع أنهم كانوا ينكرون القول بأن الله حرم كذا وأباح كذا وكان قائله عالماً بأنه كذب وإذا كان كذلك فإلحاق مثل هذا الوعيد بهذا الجاهل الكذاب الضال المضل ( يكون ) مناسباً أما من لم يقصد إلا الحق والصدق لكنه أخطأ يبعد إلحاق هذا الوعيد به
البحث الثاني الكلام في كيفية السواد الحاصل في وجوههم والأقرب أنه سواد مخالف لسائر أنواع السواد وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله وأقول إن الجهل ظلمة والظلمة تتخيل كأنها يواد فسواد قلوبهم أوجب سواد وجوههم وتحت هذا الكلام أسرار عميقة من مباحث أحوال القيامة فلما ذكر الله هذا الوعيد أردفه بالوعد فقال وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ الآية قال القاضي المراد به من اتقى كل الكبائر إذ لا يوصف بالاتقاء المطلق إلا من كان هذا حاله فيقال له أمرك عجيب جداً فإنك قلت لما تقدم قوله تعالى لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( الزمر 57 ) وجب أن يحمل قوله ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة على الذين قالوا على الذين قالوا لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى فعلى هذا القانون لما تقدم قوله وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ
ثم قال تعالى بعده وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ وجب أن يكون المراد هم الذين اتقوا ذلك الكذب فهذا يقتضي أن كل من لم يتصف بذلك الكذب أنته يدخل تحت ذلك الوعد المذكور بقوله وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ وأن يكون قولك الَّذِينَ اتَّقَوْاْ المراد منه من اتقى كل الكبائر فاسداً فثبت أن التعصب يحمل الرجل العاقل على الكلمات المتناقضة بل الحق أن تقول المتقي هو الآتي باللاتقاء والآتي بالاتقاء في صورة واحدة آت بمسمى الاتقاء وبهذا الحرف قلنا الأمر المطلق لا يفيد التكرار ثم ذلك الاتقاء غير مذكور بعينه في هذه اللفظة فوجب حمله على الاتقاء عن الشيء الذي سبق ذكره وهذا هو الكذب على الله تعالى فثبت أن ظاهر الآية يقتضي أن من اتقى عن تلك الصفة وجب دخوله تحت هذا الوعد الكريم
ثم قال تعالى بِمَفَازَتِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بمفازاتهم على الجمع والباقون بمفازتهم على التوحيد وحكى الواحدي عن الفرّاء أنه قال كلاهما صواب إذ يقال في الكلام قد تبين أمر القوم(27/9)
وأمور القوم قال أبو علي الفارسي الإفراد للمصدر ووجه الجمع أن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها كقوله تعالى وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ( الأحزاب 10 ) ولا شك أن لكل متق نوعاً آخر عن المفازة
المسألة الثانية المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة فكأن المعنى أن النجاة في القياملاة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات فعبر عن الفوز بأوقاتها ومواضعها
ثم قال لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ والمراد أنه كالتفسير لتلك النجاة كأنه قيل كيف ينجيهم فقيل لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وهذه كلمة جامعة لأنه إذا لا يمسه السوء كان فارغ البال بحسب الحال عما وقع في قله بسبب فوات الماضي فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات ونسأل الله الفوز بهذه الدرجات بمنه وكرمه
المسألة الثالثة دلت الآية على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة وتأكد هذا بقوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 )
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَى ْءٍ وَهُوَ عَلَى كُل شَى ْءٍ وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوْحِى َ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ
واعلم أنه لما أطال الكلام في شرح الوعد والوعيد عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في سورة الأنعام أن أصحابنا تمسكوا بقوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 102 ) على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى وأطنبنا هناك في الأسئلة والأجوبة فلا فائدة ههنا في الإعادة إلا أن الكعبي ذمكر ههنا كلمات فنذكرها ونجيب عنها فقال إن الله تعالى مدح نفسه بقوله اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء وليس من المدح أن يخلق الكفر والقبائح فلا يصح أن يحتج المخالف به وأيضاً فلم يكن في صدر هذه الأمة خلاف في أعمال العباد بل كان الخلاف بينهم وبين المجوس والزنادقة في خلق الأمراض والسباع والهوام فأراد الله تعالى أن يبين أنها جمع من خلقه وأيضاً لفظة كُلٌّ قد لا توجب العموم لقوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء ( الأحقاف 25 ) وأيضاً لو كانت أعمال العباد من خلق الله لما ضافها إليهم بقوله كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ( البقرة 109 ) ولما صح قوله وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( آل عمران 78 ) ولما صح قوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ( ص 27 ) فهذا جملة ما ذكره الكعبي في تفسيره وقال الجبائي اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء سوى أفعال خلقه التي صح(27/10)
فيها الأمر والنهي واستحقوا بها الثواب والعقاب ولو كانت أفعالهم خلقاً لله تعالى ما جاز ذلك فيه كما لا يجوز مثله في ألوانهم وصورهم وقال أبو مسلم الخلق هو التقدير لا الإيجاد فإذا أخبر الله عن عباده أنهم يفعلون الفعل الفلاني فقد قدر ذلك الفعل فيصح أن يقال إنه تعالى خلقه وإن لم يكن موجداً له
واعلم أن الجواب عن هذه الوجوه قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة الأنعام فمن أراد الوقوف عليه فليطالع هذا الموضوع من هذا الكتاب والله أعلم
أما قوله تعالى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء وَكِيلٌ فالمعنى أن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير منازع ولا مشارك وهذا أيضاً يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن فعل العبد لو وقع بتخليق العبد لكان ذلك الفعل غير موكول إلى الله تعالى وكيلاً عليه وذلك ينافي عموم الآية
ثم قال تعالى لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمعنى أنه سبحانه مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية لأن حالفظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي بيده مقاليدها ومنه قولهم فلان ألقيت مقاليد الملك إليه وهي المفاتيح قال صاحب ( الكشاف ) ولا واحد لها من لفظها وقيل مقليد ومقاليد وقيل مقلاد ومقاليد مثل مفتاح ومفاتيح وقيل إقليد وأقاليد قال صاحب ( الكشاف ) والكلمة أصلها فارسية إلا أن القوم لما عربوها صارت عربية
واعلم أن الكلام في تفسير قوله لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قريب من الكلام في قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( الأنعام 59 ) وقد سبق الاستقصاء هناك قيل سأل عثمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن تفسير قوله لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فقال ( يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر سبحان الله وبحمده أستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت هو على كل شيء قدير ) هكذا نقله صاحب ( الكشاف )
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى صريح الآية يقتضي أنه لا خاسر إلا كافر وهذا يدل على أن كل من لم يكن كافراً فإنه لا بد وأن يحصل له حظ من رحمة الله
المسألة الثانية أورد صاحب ( الكشاف ) سؤالاً وهو أنه بم اتصل قوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وأجاب عنه بأنه اتصل بقوله تعالى وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ ( الزمر 61 ) أي ينجي الله المتقين بمفازتهم وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ واعترض ما بينهما أنه خالق للأشياء كلها وأن له مقاليد السموات والأرض وأقول هذا عندي ضعيف من وجهين الأول أن وقوع الفاصل الكبير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد الثاني أن قوله وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ جملة فعلية وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ جملة إسمية وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية لا يجوز بل الأقرب عندي أن يقال إنه لما وصف الله تعالى نفسه بالصفات الإلهية والجلالية وهو كونه خالقاً للأشياء كلها وكونه مالكاً لمقاليد(27/11)
السموات والأرض بأسرها قال بعده والذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة أولئك هم الخاسرون
ثم قال تعالى قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر تأمرونني بنونين ساكنة الياء وكذلك هي في مصاحف الشام قال الواحدي وهو الأصل وقرأ ابن كثير تأمروني بنون مشددة على إسكان الألألى وإدغامها في الثانية وقرأ نافع تأمروني بنون واحدة خفيفة على حذل إحدى النونين والباقون بنون واحدة مكسورة مشددة
المسألة الثانية أَفَغَيْرَ اللَّهِ منصوب بأعبد وتأمروني اعتراض ومعناه أفغير الله أعبد بأمركم وذلك حين قال له المشركون أسلم ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك وأقول نظير هذه الآية قوله تعالى قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 14 ) وقد ذكرنا في تلك الآية وجه الحكمة في تقديم الفعل
المسألة الثالثة إنما وصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقاً للأشياء وبكونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض وظاهر كون هذه الأصنام جمادات أنها لا تضر ولا تنفع ومن أعرض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات الشريفة المقدسة واشتغل بعبادة هذه الأجسام الخسيسة فقد بلغ في الجهل مبلغاً لا مزيد عليه فلهذا السبب قال أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ولا شك أن وصفهم بهذا الأمر لائق بهذا الموضع
ثم قال تعالى وَلَقَدْ أُوْحِى َ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ واعلم أن الكلام التام مع الدلائل القوية والجواب عن الشبهات في مسألة الإحباط قد ذكرناه في سورة البقرة فة نعيده قال صاحب ( الكشاف ) قرىء لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ على البناء للمفعول وقرىء بالياء والنون أي ليحبطن الله أو الشرك وفي الآية سؤالات
السؤال الأول كيف أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين والجواب تقدير الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أو أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت كما تقول كسانا حلة أي كل واحد منا
السؤال الثاني ما الفرق بين اللامين الجواب الأولى موطئة للقسم المحذوف والثانية لام الجواب
السؤال الثالث كيف صح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم والجواب أن قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ قضية شرطية والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزأيها ألا ترى أن قولك لو كانت الخمسة زوجاً لكاتنت منقسمة بمتساويين قضشية صادقة مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق قال الله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) ولم يلزم من هذا صدق القول بأن فيهما آلهة وبأنهما قد فسدتا
السؤال الرابع ما معنى قوله وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ والجواب كما أن طاعات الأنبياء والرسل إفضل من طاعات غيرهم فكذلك القبائح التي تصدر عنهم فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح لقوله تعالى إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ( الإسراء 75 ) فكان المعنى ضعف الشرك الحاصل منه وبتقدير حصوله منه يكون تأثيره في جانب غضب الله أقوى وأعظم(27/12)
واعلم أنه تعالى لما قدم هذه المقدمات ذكر ما هو المقصود فقال بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشَّاكِرِينَ والمقصود منه ما أمروه به من اوسلام ببعض آلهتهم كأنه قال إنكم تأمرونني بأن لا أعبد إلا غير الله لأن قوله قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ يفيد أنهم عينوا عليه عبادة غير الله فقال الله إنهم بئسما قالوا ولكن أنت على الضد مما قالوا فلا تعبد إلا الله وذلك لأن قوله بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ يفيد الحصر ثم قال وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ على ما هداك إلى أنه لا يجوز إلا عبادة الإله القادر عن الإطلاق العليم الحكيم وعلى ما أرشدك إلى أنه يجب الإعراض عن عبادة كل ما سوى الله
وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِى ءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِى َ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد شيئاً آخر سواه بين أنهم لو عرفوا الله حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له المعبودية فقال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج بعض الناس بهذه الآية على أن الخلق لا يعرفون حقيقة الله قالوا لأن قوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يفيد هذا المعنى إلا أنا ذكرنا أن هذا صفة حال الكفار فلا يلزم من وصف الكفار بأنهم ما قدروا الله حق قدرن وصف المؤمنين بذلك فسقط هذا الكلام
المسألة الثانية قوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يفيد هذا المعنى إلا أنا ذكرنا أن هذا صفة حال الكفار فلا يلزم من وصف الكفار بأنهم ما قدروا الله حق قدره وصف المؤمنين بذلك فسقط هذا الكلام
المسألة الثانية قوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق تعظيمه وهذه الآية مذكورة في سور ثلاث في سورة الأنعام وفي سورة الحج وفي هذه السورة
واعلم أنه تعالى لما بين أنهم ما عظموه تعظيماً لائقاً به أردفه بما يدل على كمال تظمته ونهاية جلالته فقال وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ قال القفال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كقول القائل وما قدرتني حق قدري وأنا الذي فعلت كذا وكذا أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت فوجب أن لا تحطني عن قدري ومنزلتي ونظيره قوله تعالى(27/13)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) أي كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه فكذا ههنا والمعنى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذ زعموا أن له شركاء وأنه لا يقدر على إحياء الموتى مع أن الأرض والسموات في قبضته وقدرته قال صاحب ( الكشاف ) الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز وكذلك ما روي أن يهودياً جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تعجباً مما قال قال صاحب ( الكشاف ) وإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك ولكن فهمه وقع أول كل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام ولا تكتنهها الأذهان هينة عليه قال ولا نرى باباً في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب فيقال له هل تسلم أن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة وأنه إنما يعدل عن الحقيقة إلى المجاز عند قيام الدلالة على أن حمله على حقيقته ممتنع فحينئذ يجب حمله على المجاز فإن أنكر هذا الأصل فحينئذ يخرج القرآن بالكلية عن أن يكون حجة فإن لكل أحد أن يقول المقصود من الآية الفلانية كذا وكذا فأنا أحمل الآية على ذلك المقصود ولا ألتفت إلى الظواهر مثاله من تمسك بالآيات الواردة في ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار قال المقصود بيان سعادات المطيعين وشقاوة المذنبين وأنا أحمل هذه الآيات على هذا المقصود ولا أثبت الأكل والشرب ولا سائر الأحوال الجسمانية ومن تمسك بالآيات الوردة في إثبات وجوب الصلاة فقال المقصود منه إيجاب تنوير القلب بذكر الله فأنا أكتفي بهذا القدر ولا أوجب هذه الأعمال المخصوصة وإذا عرفت الكلام في هذين المثالين فقس عليه سائر المسائل الأصولية والفروعية وحينئذ يخرج القرآن عن أن يكون حجة في المسائل الأصولية والفروعية وذلك باطل قطعاً وأما إن سلم أن اوصل في علم القرآن أن يعتقد أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته فإن قام دليل منفصل على أنه يتعذر حمله على حقيقته فحينئذ يتعين صرفه إلى مجازه فإن حصلت هناك مجازات لم يتعين صرفه إلى مجاز معين إلا إذا كان الدليل يوجب ذلك التعيين فنقول ههنا لفظ اليمين حقيقة في الجارحة المخصوصة ولا يمكنك أن تصرف ظاهر الكلام عن هذا المعنى إلا إذا أقمت الدلالة على أن حمل هذه الألفاظ على ظواهرها ممتنع فحينئذ يجب حملها على المجازات ثم تبين بالدليل أن المعنى الفلاني يصح جعله مجازاً عن تلك الحقيقة ثم تبين بالدليل أن هذا المجاز أولى من غيره وإذا ثبتت هذه المقدملات وترتيبها على هذا الوجه فهذا هو الطريق الصحيح الذي عليه تعويل أهل التحقيق فأنت ما أتيت في هذا الباب بطريقة جديدة وكلام غريب بل هو عين ما ذكره أهل التحقيق فثبت أن الفرح الذي أظهره من أنه اهتدى إلى الطريق الذي لم يعرفه غيره طريق فاسد دال على قلة وقوفه على المعاني ولنرجع إلى الطريق الحقيقي فنقول لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الأعضاء والجوارح إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى فوجب حمل هذه الأعضاء على وجوه المجاز فنقول إنه يقال فلان في قبضة فلان إذا كان تحت تدبيره وتسخيره قال تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 30 ) والمراد منه كونه مملوكاً له ويقال هذه الدار(27/14)
في يد فلان وفلان صاحب اليد والمراد من الكل القدرة والفقهاء يقولون في الشروط وقبض فلان كذا وصار في قبضته ولا يريدون إلا خلوص ملكه وإذا ثبت تعذر حمل هذه الألفاظ على حقائقها وجب حملها على مجازاتها صوناً لهذه النصوص عن التعطيل فهذا هو الكلام الحقيقي في هذا الباب ولنا كتاب مفرد في إثبات تنزيه الله تعالى عن الجسمية والمكان سميناه بتأسيس التقديس من أراد الإطناب في هذا الباب فليرجع إليه
المسألة الثالثة في تفسير ألفاظ الآية قوله والاْرْضِ المراد منه الأرضون السبع ويدل عليه وجوه الأول قوله جَمِيعاً فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع ونظيره قوله كُلُّ الطَّعَامِ ( آل عمران 93 ) وقوله تعالى أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء ( النور 31 ) وقوله تعالى وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ( ق 10 ) وقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( العصر 2 3 ) فإن هذه الألفاظ الملحة باللفظ المفرد تدل على أن المراد منه الجمع فكذا ههنا والثاني أنه قال بعده وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ فوجب أن يكون المراد بالأرض الأرضون الثالث أن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهذا مقتضى المبالغة وأما القبضة فهي المرة الواحدة من القبض قال تعالى فَقَبَضْتُ قَبْضَة ً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ( طه 96 ) والقبضة بالضم المقدار المقبوض بالكف ويقال أيضاً أعطني قبضة من كذا يريد معنى القبضة تسمية بالمصدر والمعنى والأرضون جميعاً قبضته أي ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة من قبضاته يعني أن الأرضين مع ما لها من العظمة والبسطة لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته أما إذا أُريد معنى القبضة فظاهر لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة فإن قيل ما وجه قراءة من قرأ قبضته بالنصب قلنا جعل القبضة ظرفاً وقوله مَطْوِيَّاتٌ من الطي الذي هو ضد النشر كما قال تعالى يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَى ّ السّجِلّ ( الأنبياء 104 ) وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه ثم قال صاحب الكشاف وقيل قبضته ملكه ويمينه قدرته وقيل مطويات بيمينه أي مفنيات بقسمه لأنه أقسم أن يقبضها ولما ذكر هذه الوجوه عاد إلى القول الأول بأنها وجه ركيكة وأن حمل هذا الكلام على محض التمثيل أولى وبالغ في تقرير هذا الكلام فأطنب وأقول إن حال هذا الرجل في إقدامه على تحسين طريقته وتقبيح طريقة القدماء عجيب جداً فإنه إن كان مذهبه أنه يجوز ترك الظاهر اللفظ والمصير إلى المجاز من غير دليل فهذا طعن في القرآن وإخراج له عن أن يكون حجة في شيء وإن كان مذهبه أن الأصل في الكلام الحقيقة وأنه لا يجوز الدول عنه إلا لدليل منفل فهذا هو الطريقة التي أطبق عليها جمهور المتقدمين فأين الكلام الذي يزعم أنه علمه وأين العلم الذي لم يعرفه غيره مع أنه وقع في التأويلات العسر والكلمات الركيكة فإن قالوا المراد أنه لما دل الدليل على أنه ليس المراد من لفظ القبضة واليمين هذه الأعضاء وجب علينا أن نكتفي بهذا القدر ولا نشتغل بتعيين المراد بل نفوض علمه إلى الله تعالى فنقول هذا هو طريق الموحدين الذين يقولون إنا نعلم ليس مراد الله من هذه الألفاظ هذه الأعضاء فأما تعيين المراد فإنا نفوض ذلك العلم إلى الله تعالى وهذا هو طريقة السلف المعرضين عن التأويلات فثبت أن هذه التأويلات التي أتى بها هذا الرجل ليس تحتها شيء من الفائدة أصلاً والله أعلم(27/15)
واعلم أنه تعالى لما بين عظمته من الوجه الذي تقدم قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يعني أن هذا القادر القاهر العظيم الذي حارت العقول والألباب في وصف عظمته تنزّه وتقدس عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية فإن قيل السؤال على هذا الكلام من وجوه الأول أن العرش أعظم من السموات السبع والأرضين السبع ثم إنه قال في صفة العرش وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) وإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم فكيف يجوز تقدير عظمة الله بكونه حاملاً للسموات والأرض
السؤال الثاني أن قوله وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ شرح حالة لا تحصل إلا في يوم القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم يكونون معترفين بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء الله تعالى فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم وإن كان هذا الخطاب مع المكذبين بالنبوّة وهم ينكرون قوله وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك
السؤال الثالث حاصل القول في القبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة وكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدرة الله فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة
الجواب عن الأول أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادراً على حفظ هذه الأجسام العظيمة ثم بعد تقرير عظمته بكونه قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش
الجواب عن الثاني أن المقصود أن الحق سبحانه هو المتولي لإبقاء السموات والأرضين على وجوه العمارة في هذا الوقت وهو المتولي بتخريبها وإفنائها في يوم القيامة فذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام وتنبيه أيضاً على كونه غنياً على الإصلاق فإنه يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض قبضة صغيرة ويريد إفناءها وذلك يدل على كمال الاستغناء
الجواب عن الثالث أنه إنما خصص تلك بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا فكذلك ظهر كمال قدرته عند خراب الدنيا والله أعلم
واعمل أنه تعالى لما قدر كمال عظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريقة أخرى تدل أيضاً على كمال قدرته وعظمته وذلك شرح مقدمات يوم القيامة لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم فقال وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ واختلفوا في الصعقة منهم من قال إنها غير الموت بدليل قوله تعالى في موسى عليه السلام وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ( الأعراف 143 ) مع أنه لم يمت فهذا هو النفخ الذي يورث الفزع الشديد وعلى هذا التقدير فالمراد من نفخ الصعقة ومن نفخ الفزع واحد وهو المذكور في سورة(27/16)
النمل في قوله وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( النمل 87 ) وعلى هذا القول فنفخ الصور ليس إلا مرتين
والقول الثاني أن الصعقة عبارة عن الموت والقائلون بهذا القول قالوا إنهم يموتون من الفزع وشدة الصوت وعلى هذا التقدير فالنفخة تحصل ثلاث مرات أولها نفخة الفزع وهي المذكورة في سورة النمل والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام وهما مذكورتان في هذه السورة
وأما قوله إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ففيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما عند نفخة الصعق يموت من في السموات ومن في الأرض إلا جبريل ويمكائيل وإسرافيل وملك الموت ثم يميت الله ميكائيل وإسرافيل ويبقي جبريل وملك الموت ثم يميت جبريل
والقول الثاني أنهم هم الشهداء لقوله تعالى بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش )
القول الثالث قال جابر هذا المستثنى هو موسى عليه السلام لأنه صعق مرة فلا يصعق ثانياً
القول الرابع أنهم الحور العين وسكن العرش والكرسي
والقول الخامس قال قتادة الله أعلم بأنهم من هم وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم ثم قال تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وفيه أبحاث
الأول لفظ القرآن دل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى لأن لفظ ثُمَّ يفيد التراخي قال الحسن رحمه الله القرآن دل على أن هذه النفخة الأولى وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن بينهما أربعين ) ولا أدري أربعون يوماً أو شهراً أو أربعون سنة أو أربعون ألف سنة
الثاني قوله أُخْرَى تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى وإنما حسن الحذف لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة
الثالث قوله فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يعني قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء في قوله فَإِذَا هُم تدل على التعقيب
الرابع قوله يُنظَرُونَ وفيه وجهان الأول ينظرون يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم والثاني ينظرون ماذا يفعل بهم ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والخمود في مكان لأجل استيلاء الحيرة والدهشة عليهم
ولما بين الله تعالى هاتين النفختين قال وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه الأرض المذكورة ليست هي هذه الأرض التي يقعد عليها الآن بدليل قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وبدليل قوله تعالى وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّة ً واحِدَة ً ( الحاقة 14 ) بل هي أرض أخرى يخلقها الله تعالى لمحفل يوم القيامة
المسألة الثانية قالت المجسمة إن الله تعالى نور محض فإذا حضر الله في تلك الأرض لأجل القضاء بين عباده أشرقت تلك الأرض بنور الله وأكدوا هذا بقوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 )
واعلم أن الجواب عن هذه الشبهة من وجوه الأول أنا بينا في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ(27/17)
أنه لا يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى نوراً بمعنى كونه من جنس هذه الأنوار المشاهدة وبينا أنه لما تعذر حمل الكلام على الحقيقة وجب حمل لفظ النور ههنا على العدل فنحتاج ههنا إلى بيان أن لفظ النور قد يستعمل في هذا المعنى ثم إلى بيان أن المراد من لفظ النور ههنا ليس إلا هذا المعنى أما بيان الإستعمال فهو أن الناس يقولون للملك العادل أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك كما يقولون أظلمت البلاد بجورك وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الظلم ظلمات يوم القيامة ) وأما بيان أن المراد من النور ههنا العدل فقط أنه قال وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ وَالشُّهَدَاء ومعلوم أن المجيء بالشهداء ليس إلا لإظهار العدل وأيضاً قال في آخر الآية بإثبات العدل وختمها بنفي الظلم والوجه الثاني في الجواب عن الشبهة المذكورة أن قوله تعالى وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا يدل على أنه يحصل هناك نور مضاف إلى الله تعالى ولا يلزم كون ذلك صفة ذات الله تعالى لأنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب فلما كان ذلك النور من خلق الله وشرفه بأن أضافه إلى نفسه كان ذلك النور نور الله كقوله بيت الله وناقة الله وهذا الجواب أقوى من الأول لأن في هذا الجواب لا يحتاج إلى ترك الحقيقة والذهات إلى المجاز والوجه الثالث أنه قد قال فلان رب هذه الأرض ورب هذه الدار ورب هذه الجارية ولا يبعد أن يكون رب هذه الأرض ملكاً من الملوك وعلى هذا التقدير فلا يمتنع كونه نوراً
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر في هذه الآية من أحوال ذلك اليوم أشياء أولها قوله وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وقد سبق الكلام فيه وثانيها قوله وَوُضِعَ الْكِتَابُ وفي المراد بالكتاب وجوه الأول أنه اللوح المحفوظ الذي يحصل فيه شرح أحوال عالم الدنيا إلى وقت قيام القيامة الثاني المراد كتب الأعمال كما قال تعالى في سورة سبحان وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ( الإسرار 13 ) وقال أيضاً في آية أخرى مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) وثالثها قوله وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ والمراد أن يكونوا شهداء على الناس قال تعالى كَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وقال تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ( المائدة 109 ) ورابعها قوله وَالشُّهَدَاء والمراد ما قاله في وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 ) أو أراد بالشهداء المؤمنين وقال مقاتل يعني الحفظة ويدل عليه قوله تعالى وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ق 21 ) وقيل أراد بالشهداء المستشهدين في سبيل الله ولما بين الله تعالى أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات بيّن تعالى أنه يوصل إلى كل أحد حقه وعبّر تعالى عن هذا المعنى بأربع عبارات أولها قوله تعالى وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ وثانيها قوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وثالثها قوله وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ أي وفيت كل نفس جزاء ما علمت ورابعها قوله وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ يعني أنه تعالى إذا لم يكن عالماً بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي بالحق لأجل عدم العلم أما إذا كان عالماً بمقادير أفعالهم وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ في ذلك الحكم فثبت أنه تعالى عبّر عن هذا المقصود بهذه العبارات المختلفة والمقصود المبالغة في تقرير أن كل مكلف فإنه يصل إلى حقه(27/18)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ بَلَى وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال فقال وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ( الزمر 70 ) بين بعده كيفية أحوال أهل العقاب ثم كيفية أحوال أهل الثواب وختم السورة
أما شرح أحوال أهل العقاب فهو المذكور في هذه الآية وهو قوله وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً قال ابن زيدان سوق الذين كفروا إلى جهنم يكون بالعنف والدفع والدليل عليه قوله تعالى يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ( الطور 13 ) أي يدفعون دفعاً نظيره قوله تعالى فَلِذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ ( الماعون 2 ) أي يدفعه ويدل عليه قوله تعالى وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ( مريم 86 )
وأما الزمر فهي الأفواج المتفرقة بعض في أثر بعض فبين الله تعالى أنهم يساقون إلى جهنم فإذا جاءوها فتحت أبوابها وهذا يدل على أن أبواب جهنم إنما تفتح عند وصول أولئك إليها فإذا دخلوا جهنم قال لهم خزنة جهنم أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ أي من جنسكم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِ رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا فإن قيل فلم أضيف اليوم إليهم قلنا أراد لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة واستعمال لفظ اليوم والأيام في أوقات الشدة مستفيض فعند هذا تقول الكفار بلى قد أتونا وتلوا علينا وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ وفي هذه الآية مسألتان
المسألة الأولى تقدير الكلام أنه حقت علينا كلمة العذاب ومن حقت عليه كلمة العذاب فكيف يمكنه الخلاص من العذاب وهذا صريح في أن السعيد لا ينقلب شقياً والشقي لا ينقلب سعيداً وكلمات المعتزلة في دفع هذا الكلام معلومة وأجوبتنا عنها أيضاً معلومة
المسألة الثانية دلت الآية على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع لأن الملائكة بينوا أنه ما بقي لهم علة ولا عذر بعد مجيء الأنبياء عليهم السلام ولو لم يكن مجيء الأنبياء شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدة ثم إن الملائكة إذا سمعوا منهم هذا الكلام قالوا فهم ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ قالت المعتزلة لو كان دخولهم النار لأجل أنه حقت عليهم كلمة العذاب لم يبق لقول الملائكة فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ فائدة بل هذا الكلام إنما يبقى مقيداً إذا قلنا إنهم إنما دخلوا النار لأنهم تكبروا على الأنبياء ولم يقبلوا قولهم ولم يلتفتوا إلى دلائلهم وذلك يدل على صحة قولنا والله أعلم بالصواب(27/19)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّة ِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّة ِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب في الآية المتقدمة شرح أحوال أهل الثواب في هذه الآية فقال وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّة ِ زُمَراً فإن قيل السوق في أهل النار للعذاب معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب والشقاوة لا بدّ وأن يساقوا إليه وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع الكرامة والراحة والسعادة فأي حاجة فيه إلى السوق
والجواب من وجوه الأول أن المحبة والصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) فإذا قيل لواحد منهم إذهب إلى الجنة فيقول لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب فحينئذٍ يجتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثاني أن الذين اتقوا ربهم قد عبدوا الله تعالى لا للجنة ولا للنار فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال الجمال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة فلا جرم يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثالث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أكثر أهل الجنة البله وعليون للأبرار ) فلهذا السبب يساقون إلى الجنة والرابع أن أهل الجنة وأهل النار يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذ سيق إلى الحبس والقيد والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على الملوك فشتان ما بين السوقين
ثم قال تعالى حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا الآية واعلم أن جملة هذا الكلام شرط واحد مركب من قيود القيد الأول هو مجيئهم إلى الجنة والقيد الثاني قوله تعالى وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا فإن قيل قال أهل النار فتحت أبوابها بغير الواو وقال ههنا بالواو فما الفرق قلنا الفرق أن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدماً على وصولهم إليها بدليل قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَة ً لَّهُمُ الاْبْوَابُ ( ص 50 ) فلذلك جيء بالواو كأنه قيل حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها القيد الثالث قوله وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ فبيّن تعالى أن خزنة(27/20)
الجنة يذكرون لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث فأولها قولهم سَلَامٌ عَلَيْكُمُ وهذا يدل على أنهم يبشرونهم بالسلامة من كل الآفات وثانيها قولهم طِبْتُمْ والمعنى طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا وثالها قولهم فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ والفاء في قوله فَادْخُلُوهَا يدل على كون ذلك الدخول معللاً بالطيب والطهارة قالت المعتزلة هذا يدل على أن أحداً لا يدخلها إلا إذا كان طاهراً عن كل المعاصي قلنا هذا شعيف لأنه تعالى يبدل سيئاتهم حسنات وحينئذٍ يصيرون طيبين طاهرين بفضل الله تعالى فإن قيل فهذا الذي تقدم ذكره هو الشرط فأين الجواب قلنا فيه وجهان الأول أن الجواب محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني أن الجواب هو قوله تعالى وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ والواو محذوف والصحيح هو الأول ثم أخبر الله تعالى بأن الملائكة إذا خاطبوا المتقين بهذه الكلمات قال المتقون عند ذلك الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ في قوله أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( فصلت 30 ) وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ والمراد بالأرض أرض الجنة وإنما عبر عنه بالإرث لوجوه الأول أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم عليه السلام لأنه تعالى قال دوكلا منها رغداً حيث شئتما ( البقرة 35 ) فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً لتسميتها بالإرث الثاني أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل هذا أورث كدا وهذا العمل أورث كدا فلما كانت طاعتهم قد أفادتهم الجنة لا جرم قالوا ( البقرة 35 ) فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً لتسميتها بالإرث الثاني أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل هذا أورث كدا وهذا العمل أورث كدا فلما كانت طاعتهم قد أفادتهم الجنة لا جرم قالوا وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنة الثالث أن الوارث يتصرف فيما يرثه كما يشاء من غي منازع ولا مدافع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة كيف شاءوا وأرادوا والمشابهة علة حسن المجاز فإن قيل ما معنى قوله حَيْثُ نَشَاء وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره قلنا يكون لكل أحد جنة لا يحتاج معها إلى جنة عيره قال حكماء الإسلام الجنات نوعان الجنات الجسمانية والجنات الروحانية فالجنات الجسمانية لا تحتمل المشاركة فيها أما الروحانيات فحصولها لواحد لا يمنع من حصولها للآخرين ولما بيّن الله تعالى صفة أهل الجنة قال فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ قال مقاتل ليس هذا من كلام أهل الجنة بل من كلام الله تعالى لأنه لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ولما قال تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ذكر عقيبه ثواب الملائكة فقال كما أن دار ثواب المتقين المؤمنين هي الجنة فكذلك دار ثواب الملائكة جوانب العرش وأطرافه فلهذا قال وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي محفين بالعرش قال الليث يقال حف القوم بسيدهم يحفون حفاً إذا طافوا به
إذا عرفت هذا فنقول بيّن تعالى أن دار ثوابهم هو جوانب العرش وأطرافه ثم قال يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وهذا مشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التحميد والتسبيح وحينئذٍ رجع حاصل الكلام إلى أن أعظم درجات الثواب استغراق قلوب العباد دي درجات التنزيه ومنازل التقديس
ثم قال وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ والمعنى أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة فلكل واحد منهم في درجات المرعفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه وهو المراد من قوله وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ أي الملائكة لما قضي بينهم بالحق قالوا الحمد لله ربّ العالمين على(27/21)
قضائه بيننا بالحق وههنا دقيقة أعلى مما سبق وهي أنه سبحانه لما قضى بينهم بالحق فهم ما حمدوه لأجل ذلك القضاء بل حمدوه بصفته الواجبة وهي كونه رباً للعالمين فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم وإنما حمد الإنعام وأما من حمد المنعم لا لأنه وصل إليه النعمة فههنا قد وصل إلى لجة بحر التوحيد هذا إذا قلنا إن قوله وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ شرح أحوال الملائكة في الثواب أما إذا قلنا إنه من بقية شرح ثواب المؤمنين فتقريره أن يقال إن المتقين لما قالوا الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّة ِ حَيْثُ نَشَاء فقد ظهر منهم أنهم في الجنة اشتغلوا بحمد الله وبذكره بالمدح والثناء فبيّن تعالى أنه كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد فكذلك حرفة الملائكة الذين هم حافون حول العرش الاشتغال بالتحميد والتسبيح ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة وحينئذ يظهر منه أن المؤمنين المتقين وأن الملائكة المقربين يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتسبيحه فكان ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بذلك التسبيح والتحميد
ثم قال وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ أي بين البشر ثم قال وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ والمعنى أنهم يقدمون التسبيح والمراد منه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بالإلهية
وأما قوله تعالى وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فالمراد وصفه بصفات الإلهية فالتسبيح عبارة عن الاعتراف بتنزيهه عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال وقوله وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ عبارة عن الإقرار بكونه موصوفاً بصفات الإلهية وهي صفات الإكرام ومجموعهما هو المذكور في قوله تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ( الرحمن 78 ) وهو الذي كانت الملائكة يذكرونه قبل خلق العالم وهو قولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) وفي قوله وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ دقيقة أخرى وهي أنه لم يبين أن ذلك القائل من هو والمقصود من هذا الإبهام التنبيه على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة الجلال والكبرياء ليس إلا أن يقولوا الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وتأكد هذا بقوله تعالى في صفة أهل الجنة دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 )(27/22)
سورة غافر
ثمانون وخمس آيات مكية
بِسمِ الَّلهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مَا يُجَادِلُ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلاَدِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالاٌّ حْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّة ٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي حم بكسر الحاء والباقون بفتح الحاء ونافع في بعض الروايات وابن عامر بين الفتح والكسر وهو أن لا يفتحها فتحاً شديداً قال صاحب ( الكشاف ) قرىء بفتح الميم وتسكينها ووجه الفتح التحريك لالتقاء الساكنين وإيثار أخف الحركات نحو أين وكيف أو النصب بإضمار إقرأ ومنع الصرف إما للتأنيث والتعريف من حيث إنها اسم للسورة وللتعريف وإنها على زنة أعجمي نحو قابيل وهابيل وأما السكون فلأنا بينا أن الأسماء المجردة تذكر موقوفة الأواخر(27/23)
المسألة الثانية الكلام المستقصى في هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة والأقرب ههنا أن يقال حم اسم للسورة فقوله حم مبتدأ وقوله تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ خبر والتقدير أن هذه السورة المسماة بحم تنزيل الكتاب فقوله تَنزِيلَ مصدر لكن المراد منه المنزل
وأما قوله مِنَ اللَّهِ فاعلم أنه لما ذكر أن حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ وجب بيان أن المنزل من هو فقال مِنَ اللَّهِ ثم بيّن أن الله تعالى موصوف بصفات الجلال وسمات العظمة ليصير ذلك حاملاً على التشمير عن ساق الجد عند الاستماع وزجره عن التهاون والتواني فيه فبين أن المنزل هو اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
واعلم أن الناس اختلفوا في أن العلم بالله ما هو فقال جمع عظيم أنه العلم بكونه قادراً وبعده العالم بكونه عالماً إذا عرفت هذا فنقول الْعَزِيزُ له تفسيران أحدهما الغالب فيكون معناه القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة والثاني الذي لا مثل له ولا يجوز أن يكون المراد بالعزيز هنا القادر لأن قوله تعالى اللَّهِ يدل على كونه قادراً فوجب حمل الْعَزِيزُ على المعنى الثاني وهو الذي لا يوجد له مثل وما كان كذلك وجب أن لا يكون جسماً والذي لا يكون جسماً يكون منزّهاً عن الشهوة والنفرة والذي يكون كذلك يكون منزّهاً عن الحاجة وأما الْعَلِيمُ فهو مبالغة في العلم والمبالغة التامة إنما تتحقق عند كونه تعالى عالماً بكل المعلومات فقوله مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ يرجع معناه إلى أن هذا الكتاب تنزيل من القادر المطلق الغني المطلق العالم المطلق ومن كان كذلك كان عالماً بوجوه المصالح والمفاسد وكان عالماً بكونه غنياً عن جر المصالح ودفع المفاسد ومن كان كذلك كان رحيماً جواداً وكانت أفعاله حكمة وصواباً منزّهة عن القبيح والباطل فكأن سبحانه إنما ذكر عقيب قوله تَنزِيلَ هذه الأسماء الثلاثة لكونها دالة على أن أفعاله سبحانه حكمة وصواب ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون هذا التنزيل حقاً وصواباً وقيل الفائدة في ذكر الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أمران أحدهما أنه بقدرته وعلمه أنزل القرآن على هذا الحد الذي يتضمن المصالح والإعجاز ولولا كونه عزيزاً عليماً لما صح ذلك والثاني أنه تكفل بحفظه وبعموم التكليف فيه وظهوره إلى حين انقطاع التكليف وذلك لا يتم إلا بكونه عزيزاً لا يغلب وبكونه عليماً لا يخفى عليه شيء ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد والترهيب والترغيب فقال غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فهذه ستة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله غَافِرِ الذَّنبِ قال الجبائي معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بتوبة أو طاعة أعظم منه ومراده منه أن فاعل المعصية إما أن يقال إنه كان قد أتى قبل ذلك بطاعة كان ثوابها أعظم من عقاب هذه المعصية أو ما كان الأمر كذلك فإن كان الأول كانت هذه المعصية صغيرة فيحبط عقابها وإن كان الثاني كانت هذه المعصية كبيرة فلا يزول عقابها إلا بالتوبة ومذهب أصحابنا أن الله تعالى قد يعفو عن الكبيرة بعد التوبة وهذه الآية تدل على ذكل وبيانه من وجوه الأول أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة من الأمور الواجبة على العبد وجميع الأنبياء والألياء والصالحين من أوساط الناس مشتركون في فعل الواجبات فلو حملنا كونه تعالى غافر الذنب على هذا المعنى لم يبقبينه وبين أقل الناس من زمرة المطيعين فرق في المعنى الموجب لهذا المدح وذلك باطل فثبت أنه يجب أن يكون المراد منه كونه غافر الكبائر قبل التوبة وهو المطلوب الثاني أن الغفران عبارة عن الستر ومعنى الستر إنما يعقل في الشيء الذي(27/24)
يكون باقياً موجوداً فيستر والصغيرة تحبط بسبب كثرة ثواب فاعلها فمعنى الغفر فيها غير معقول ولا يمكن حمل قوله غَافِرِ الذَّنبِ على الكبيرة بعد التوبة لأن معنى كونه قابلاً للتوب ليس إلا ذلك فلو كان المراد غافر الذنب هذا المعنى لزم التكرار وإنه باطل فثبت أن كونه غافر الذنب يفيد كونه غافراً للذنوب الكبائر قبل التوبة الثالث أن قوله غَافِرِ الذَّنبِ مذكور في معرض المدح العظيم فوجب حمله على ما يفيد أعظم أنواع المدح وذلك هو كونه غافراً للكبائر قبل التوبة وهو المطلوب
الصفة الثانية وَقَابِلِ التَّوْبِ وفيه بحثان
الأول في لفظ التوب قولان الأول أنه مصدر وهو قول أبي عبيدة والثاني أنه جماعة التوبة وهو قول الأخفش قال المبرد يجوز أن يكون مصدراً يقال تاب يتوب توباً وتوبة مثل قال يقول قولاً وقولة ويجوز أن يكون جمعاً لتوبة فيكون توبة وتوب مثل ثمرة وثمر إلا أن المصدر أقرب لأن على هذا التقدير يكون تأويله أنه يقبل هذا الفعل
الثاني مذهب أصحابنا أن قبول التوبة من المذنب يقع على سبيل التفضل وليس بواجب على الله وقالت المعتزلة إنه واجب على الله واحتج أصحابنا بأنه تعالى ذكر كونه قابلاً للتوب على سبيل المدح والثناء ولو كان ذلك من الواجبات لم يبق فيه من معنى المدح إلا القليل وهو القدر الذي يحصل لجميع الصالحين عند أداء الواجبات والاحتراز عن المحظورات
الصفة الثالثة قوله شَدِيدُ الْعِقَابِ وفيه مباحث
البحث الأول في هذه الآية سؤال وهو أن قوله شَدِيدُ الْعِقَابِ يصلح أن يكون نعتاً للنكرة ولا يصلح أن يكون نعتاً للمعرفة تقول مررت برجل شديد البطش ولا تقول مررت بعبد الله شديد البطش وقوله الله تسم علم فيكون معرفة فكيف يجوز وصفه بكونه شديد العقاب مع أنه لا يصلح إلا أن يجعل وصفاً لنكرة قالوا وهذا بخلاف قولنا غافر الذنب وقابل التوب لأنه ليس المراد منهما حدوث هذين الفعلين وأنه يغفر الذنب ويقبل التوبة الآن أو غداً وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش وأما شَدِيدُ الْعِقَابِ فمشكل لأنه في تقدير شديد عقابه فيكون نكرة فلا يصح جعله صفة للمعرفة وهذا تقرير السؤال وأجيب عنه بوجوه الأول أن هذه الصفة وإن كانت نكرة إلا أنها لما ذكرت مع سائر الصفات التي هي معارف حسن ذكرها كما في قوله وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ ( البروج 14 16 ) والثاني قال الزجاج إن خفض شَدِيدُ الْعِقَابِ على البدل لأن جعل النكرة بدلاً من المعرفة وبالعكس أمر جائز واعترضوا عليه بأن جعله وحده بدلاً من الصفات فيه نبوّة ظاهرة الثالث أنه لا نزاع في أن قوله غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ يحسن جعلهما صفة وإنما كان كذلك لأنهما مفيدان معنى الدوام والاستمرار فكذلك قوله شَدِيدُ الْعِقَابِ يفيد معنى الدوام والاستمرار لأن صفات الله تعالى منزّهة عن الحدوث والتجدد فكونه شَدِيدُ الْعِقَابِ معناه كونه بحيث يشتد عقابه وهذا المعنى حاصل أبداً وغير موصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن كذلك فهذا ما قيل في هذا الباب
البحث الثاني هذه الآية مشعرة بترجيح جانب الرحمة والفضل لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه(27/25)
بأنه شديد العقاب ذكر قبله أمرين كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب وهو كونه غافر الذنب وقابل التوب وذكر بعده ما يدل على حصول الرحمة العظيمة وهو قوله ذِى الطَّوْلِ فكونه شديد العقاب لما كان مسبوقاً بتينك الصفتين وملحوقاً بهذه الصفة دل ذلك على أن جانب الرحمة والكرم أرجح
البحث الثالث لقائل أن يقول ذكر الواو في قوله غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ولم يذكرها في قوله شَدِيدُ الْعِقَابِ فما الفرق قلنا إنه لو لم يذكر الواو في قوله غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ لاحتمل أن يقع في خاطر إنسان أنه لا معنى لكونه غافر الذنب إلاة كونه قابل التوب أما لما ذكر الواو زال هذا الاحتمال لأن عطف الشيء على نفسه محال أما كونه شديد العقاب فمعلوم أنه مغاير لكونه غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ فاستغنى به عن ذكر الواو
الصفة الرابعة ذُكِرَ الطَّوْلِ أي ذي التفضل يقال طال علينا طولاً أي تفضل علينا تفضلاً ومن كلامهم طل علي بفضلك ومنه قوله تعالى أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ ( الزمر 86 ) ومضى تفسيره عند قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً ( النساء 25 ) واعلم أنه لم يصف نفسه بكونه شَدِيدُ الْعِقَابِ لا بد وأن يكون المراد بكونه تعالى آتياً بالعقاب الشديد الذي لا يقبح منه إتيانه به بل لا يجوز وصفه تعالى بكونه آتياً لفعل القبيح وإذا ثبت هذا فنقول ذكر بعده كونه ذا الطول وهو كونه ذا الفضل فيجب أن يكون معناه كونه ذا الفضل بسبب أن يترك العقاب الذي له أن يفعله لأنه ذكر كونه ذا الطول ولم يبين أنه ذو الطول فيماذا فوجب صرفه إلى كونه ذا الطول في الأمر الذي سبق ذكره وهو فعل العقاب الحسن دفعاً للإجمال وهذا يدل على أنه تعالى قد يترك العقاب الذي حسن منه تعالى فعله وذلك يدل على أن العفو عن أصحاب الكبائر جائز وهو المطلوب
الصفة الخامسة التوحيد المطلق وهو قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ والمعنى أنه وصف نفسه بصفات ارحمة والفضل فلو كان معه إله آخر يشاركه ويساويه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة أما إذا كان واحداً وليس له شريك ولا شبيه كانت الحاجة إلى الإقرار بعبوديته شديدة فكان الترغيب والترهيب الكاملان يحصلان بسبب هذا التوحيد
الصفة السادسة قوله إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وهذه الصفة أيضاً مما يقوى الرغبة في الإقرار بعبوديته لأنه بتقدير أن يكون موصوفاً بصفات الفضل والكرم وكان واحداً لا شريك له إلا أن القول بالحشر والنشر إن كان باطلاً لم يكن الخوف الشديد حاصلاً من عصيانه أما لما كان القول بالحشر والقيامة حاصلاً كان الخوف أشد والحذر أكمل فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الالصفات واحتج أهل التشبيه بلفظة إلى وقالوا إنها تفيد انتهاء الغاية والجواب عنه مذكور في مواضع كثيرة من هذا الكتاب
واعلم أنه تعالى لما قرر أن القرآن كتاب أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أحوال من يجادل لغرض إبطاله وإخفاء أمره فقال مَا يُجَادِلُ فِى ءايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن الجدال نوعان جدال في تقرير الحق وجدال في تقرير الباطل أما الجدال في تقرير الحق فهو حرفة الأنبياء عليهم السلام قال تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النمل 125 ) وقال حكاية عن الكفار أنهم قالوا لنوح عليه السلام يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ( هود 32 )(27/26)
وأما الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية حيث قال مَا يُجَادِلُ فِى ءايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وقال مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( الزخرف 58 ) وقال وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن جدالاً في القرآن كفر ) فقوله إن جدالاً على لفظ التنكير يدل على التمييز بين جدال لأجل تقريره والذب عنه قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن جدالاً في القرآن كفر ) وقال ( لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر )
المسألة الثانية الجدال في آيات الله هو أن يقال مرة إنه سحر ومرة إنه شعر ومرة إنه قول الكهنة ومرة أساطير الأولين ومرة إنما يعلمه بشر وأشباه هذا مما كانوا يقولون من الشبهات الباطلة فذكر تعالى أنه لا يفعل هذا إلا الذين كفروا وأعرضوا عن الحق
ثم قال تعالى فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلاَدِ أي لا ينبغي أن تغتر بأني أمهلهم وأتركهم سالمين في أبدانهم وأمرالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون للتجارات وطلب المعاش فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم منهم كما فعلت بأشكالهم من الأمم الماضية وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن ولهم الأموال الكثيرة يتجرون فيها ويربحون ثم كشف عن هذا المعنى فقال كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالاْحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ فذكر من أولئك المكذبين قوم نوح والأحزاب من بعدهم أي الأمم المستمرة على الكفر كقوم عاد وثمود وغيرهم كما قال في سورة ص ( 12 13 ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاْوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لئَيْكَة ِ أُوْلَئِكَ الاْحْزَابُ وقوله وَهَمَّتْ كُلُّ أَمَلاً بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ أي وعزنت كل أمة من هؤلاء الأحزاب أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويعذبوه ويحبسوه وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ أي هؤلاء جادلوا رسلهم بالباطل أي بأيراد الشبهات لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ أي أن يزيلوا بسبب إيراد تلك الشبهات الحق والصدق فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ أي فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا فكيف كان عقابي إياهم أليس كان مهلكاً مستأصلاً مهيباً في الذكر والسماع فأنا أفعل بقومك كما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله ثم كشف عن هذا المعنى فقال وَكَذالِكَ حَقَّتْ كَلِمَة ُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ أي ومثل الذي حق على أولئك الأمم السالفة من العقاب حقت كلمتي أيضاً على هؤلاء الذين كفروا من قومك فهم على شرف نزول العقاب بهم قال صاحب ( الكشفا ) أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ في محل الرفع بدل من قوله وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن قضاء الله بالسعادة والشاقوة لازم لا يمكن تغييره فقالوا إنه تعالى أخبر أنه حقت كلمة العذاب عليهم وذلك يدل على أنهم لا قدرة لهم على الإيمان لأنهم لو تمكنوا منه لتمكنوا من إبطال هذه الكلمة الحقة ولتمكنوا من إبطال علم الله وحكمته ضرورة أن المتمكن من الشيء يجب كونه متمكناً من كل ما هو من لوازمه ولأنهم لو آمنوا لوجب عليهم أن يؤمنوا بهذه الآية فحينئذ كانوا قد آمنوا بأنهم لا يؤمنون أبداً وذلك تكليف ما لا يطاق وقرأ نافع وابن عامر حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبَّكَ على الجمع والباقون على الواحد(27/27)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْءٍ رَّحْمَة ً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين بيّن أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين كأنه تعالى يقول إن كان هؤلاء الأراذل يباالغون في العداوة فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزناً فإن حملة العرش والحافون من حول العرش معك ينصرونك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى حكى عن نوعين من فرق الملائكة هذه الحكاية
القسم الأول الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وقد حكى تعالى أن الذين يحملون العرش يوم القيامة ثمانية فيمكن أن يقال الذين يحملون في هذا الوقت هم أولئك الثمانية الذين يحملونه يوم القيامة ولا شك أن حملة العرش أشراف الملائكة وأكابرهم روى صاحب ( الكشاف ) أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤسهم قد خرقت العرش وهم خشوع ولا يرفعون طرفهم وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة فإن خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوضع ) قيل إنه طائر صغير وروي أن الله أمر جميع الملائكة أن يغدو ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة وقيل خلق الله العرش ممن جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام وقيل حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف وقد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا ويسبح بما لا يسبح به الآخر هذه الآثار نقلتها من ( الكشاف )
وأما القسم الثاني من الملائكة الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية فقوله تعالى وَمَنْ حَوْلَهُ والأظهر أن المراد منهم ما ذكره في قوله وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ( الزمر 75 )(27/28)
وأقول العقل يدل على أن حملة العرش والحافين حول العرش يجب أن يكونوا أفضل الملائكة وذلك لأن نسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأجساد إلى الأجساد فلما كان العرش أشرف الموجودات الجسمانية كانت الأرواح المتعلقة بتدبير العرش يجب أن تكون أفضل من الأرواح المدبرة للأجساد وأيضاً يشبه أن يكون هناك أرواح حاملة لجسم العرش ثم يتولد عن تلك الأرواح القاهرة المستعيلة لجسم العرش أرواح أُخر من جنسها وهي متعلقة بأطراف العرش وإليهم الإشارة بقوله وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ( الزمر 75 ) وبالجملة فقد ظهر بالبراهين اليقينية وبالمكاشفات الصادقة أنه لا نسبة لعالم الأجساد إلى عالم الأرواح فكل ما شاهدته بعين البصر في اختلاف مراتب عالم الأجساد فيجب أن تشاهده بعين بصيرتك في اختلاف مراتب عالم الأرواح
المسألة الثانية دلت هذه الآية على أنه سبحانه منزّه عن أن يكون في العرش وذلك لأنه تعالى قال في هذه الآية الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وقال في آية أخرى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) ولا شك أن حامل العرش يكون حاملاً لكل من في العرش فلو كان إلاه العالم في العرش لكان هؤلاء الملائكة حاملين لإلاه العالم فحينئذ يكونون حافظين لإلاه العالم والحافظ القادر أولى بالإلاهية والمحمول المحفوظ أولى بالعبودية فحينئذ ينقلب الإله عبداً والعبد إلاهاً وذلك فاسد فدل هذا على أن إلاه العرش والأجسام متعال عن العرش والأجسام
واعلم أنه تعالى حكى عن حملة العرش وعن الحافين بالعرش ثلاثة أشياء
النوع الأول قوله يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ونظيره قوله حكاية عن الملائكة وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ ( البقرة 30 ) وقوله تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ( الزمر 75 ) فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي والتحميد الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق فالتسبيح إشارة إلى الجلال والتحميد إشارة إلى الإكرام فقوله يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ قريب من قوله تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ( الرحمن 78 )
النوع الثاني مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة هو قوله تعالى وَيُؤْمِنُونَ بِهِ فإن قيل فأي فائدة في قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ فإن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا وقد سبق الإيمان بالله قلنا الفائدة فيه ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وقد أحسن فيه جداً فقال إن المقصود منه التنبه على أن الله تعالى لو كان حاضراً بالعرش لكان حملة العرش والحافون حول العرش يشاهدونه ويعاينونه ولما كان إيمانهم بوجود الله موجباً للمدح والثناء لأن الإقرار بوجود شيء حاضر مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح والثناء فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل الثناء والمدح والتعظيم علم أنهم آمنوا به بدليل أنهم ما شاهدوه حاضراً جالساً هناك ورحم الله صاحب ( الكشاف ) فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخراً وشرفاً
النوع الثالث مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة قوله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ اعلم أنه ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين التعظيم لأمر الله والشفقة عللى خلق الله ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدماً على الشفقة على خلق الله فقوله يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ مشعر بالتعظيم لأمر الله وقوله(27/29)
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ مشعر بالشفقة على خلق الله
ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى احتج كثير من العلماء بهذه الآية في إثبات أن الملك أفضل من البشر قالوا لأن هذه الآية تدل على أن الملائكة لما فرغوا من ذكر الله بالثناء والتقديس اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم وهم المؤمنون وهذا يدل على أنهم مستغنون على الاستغفار لأنفسهم إذ لو كانوا محتاجين إليه لقدموا الاستغفار لأنفسهم على الاستغفار لغيرهم بدليل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ابدأ بنفسك ) وأيضاً قال تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) فأمر محمداً أن يذكر أولاً الاستغفار لنفسه ثم بعده يذكر الاستغفار لغيره وحكى عن نوح عليه السلام أنه قال رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوالِدَى َّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِى َ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( نوح 28 ) وهذا يدل على أن كل من كان محتاجاً إلى الاستغفار فإنه يقدم الاستغفار لنفسه على الاستغفار لغيره فالملائكة لو كانوا محتاجين إلى الاستغفاار لكان اشتغالهم لأنفسهم مقدماً على اشتغالهم بالاستغفار لغيرهم ولما لم يذكر الله تعالى عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أن ذلك إنما كان لأنهم ما كانوا محتاجين إلى الاستغفار وأما الأنبياء عليهم السلام فقد كانوا محتاجين إلى استغفار بدليلل قوله تعالى لمحمد عليه السلام وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وإذا ثبت هذا فقد ظهر أن الملك أفضل من البشر والله أعلم
المسألة الثانية احتج الكعبي بهذه الآية على أن تأثير الشفاعة في حصول زيادة الثواب للمؤمنين لا في إسقاط العقاب عن المذنبين قال وذلك لأن الملائكة قالوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ قال وليس المراد فاغفر للذين تابوا من الكفر سواء كان مصراً عللى الفسق أو لم يكن كذلك لأن من هذا حاله لا يوصف بكونه متبعاً سبيل ربه ولا يطلق ذلك فيه وأيضاً إن الملائكة يقولون وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وهذا لا يليق بالفاسقين لأن خصومنا لا يقطعون على أن الله تعالى وعدهم الجنة وإنما يجوزون ذلك فثبت أن شفاعة الملائكة لا يتناول إلا أهل الطاعة فوجب أن تكون شفاعة الأنبياء كذلك ضرورة أنه لا قائل بالفرق والجواب أن نقول هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة المذنبين فنبين هذا ثم نجيب عما ذكره الكعبي أما بيان دلالة هذه الآية على ما قلناه فمن وجوه الأول قوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ والاستغفار طلب المغفرة والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العقاب أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفاراً الثاني قوله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ وهذا يدل على أنهم يستغفرون لكل أهل الإيمان فإذا دلنا على أن صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة الثالث قوله تعالى فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ طلب المغفرة للذين تابوا ولا يجوز أن يكون المراد إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة لأن ذلك واجب على الله عند الخصم وما كان فعله واجباً كان طلبه بالدعاء قبيحاً ولا يجوز أيضاً أن يكون المراد إسقاط عقوبة الصغائر لأن ذلك أيضاً واجب فلا يحسن طلبه بالدعاء ولا يجوز أن يكون المراد طلب زيادة منفعة على الثواب لأن ذلك لا يسمى مغفرة فثبت أنه لا يمكن حممل قوله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ إلا على إسقاط عقاب الكبيرة قبل التوبة وإذا ثبت هذا في حق الملائكة فكذلك في حق الأنبياء لانعقاد الإجماع على أنه لا فرق أما الذي يتمسك به الكعبي وهو أنهم طلبوا المغفرة للذين تابوا فنقول يجب أن(27/30)
يكون المراد منه الذين تابوا عن الكفر واتبعوا سبيل الإيمان وقوله إن التائب عن الكفر المصر على الفسق لا يسمى تائباً ولا متبعاً سبيل الله قلنا لا نسلم قوله بل يقال إنه تائب عن الكفر وتابع سبيل الله في الدين والشريعة وإذا ثبت أنه تائب عن الكفر ثبت أنه تائب ألا ترى أنه يكفي في صدق وصفه بكونه ضارباً وضاحكاً صدور الضرب والضحك عنه واحدة ولا يتوقف ذلك على صدور كل أنواع الضرب والضحك عنه فكذا ههنا
المسألة الثالثة قال أهل التحقيق إن هذه الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن ذلة سبقت وذلك لأنهم قالوا في أول تخلليق البشر أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ( البقرة 30 ) فلما سبق منهم هذا الكلام تداركوا في آخر الأمر بأن قالوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ وهذا كالتنبيه على أن من آذى غيره فالأولى أن يجبر ذلك الإيذاء بإيصال نفع عليه
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الملائكة أنهم يستغفرون للذين تابوا بيّن كيفية ذلك الاستغفار فحكى عنهم أنهم قالوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً وفيه مسائل
المسألة الأولى أن الدعاء في أكثر الأمور مذكور بلفط رَبَّنَا ويدل عليه أن الملائكة عند الدعاء قالوا رَبَّنَا بدليل هذه الآية وقال آدم عليه السلام رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) وقال نوح عليه السلام رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ ( هود 47 ) وقال أيضاً رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً ( نوح 5 ) وقال أيضاً رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوالِدَى َّ ( نوح 28 ) وقال عن إبراهيم عليه السلام رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى ( البقرة 260 ) وقال رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ( إبراهيم 41 ) وقال رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ ( البقرة 128 ) وقال عن يوسف رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ ( يوسف 101 ) وقال عن موسى عليه السلام رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( الأعراف 143 ) وقال في قصة الوكز رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى َّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ( القصص 16 17 ) وحكى تعالى عن داود فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ( ص 24 ) وعن سليمان أنه قال رَبّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً ( ص 35 ) وعن ذكريا أنه نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ( مريم 3 ) وعن عيسى عليه السلام أنه قال رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَة ً مّنَ السَّمَاء ( المائدة 114 ) وعن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله تعالى قال له وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ ( المؤمنون 97 ) وحكى عن المؤمنون أنهم قالوا رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) وأعادوا هذه اللفظة خمس مرات وحكى أيضاً عنهم أنهم قالوا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( البقرة 285 ) إلى آخر السورة
فثبت بما ذكرنا أن من أرضى الدعاء أن ينادي العبد ربه بقوله يا رب وتمام الإشكال فيه أن يقال لفظ الله أعظم من لفظ الرب فلم صار لفظ الرب مختصاً بوقت الدعاء والجواب كأن العبد يقول كنت في كتم العدم والمحض والنفي الصرف فأخرجتني إلى الوجود وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك في أن لا تخليني طرفة عين عن تربيتك وإحسانك وفضلك(27/31)
المسألة الثانية السنة في الدعاء يبدأ في بالثناء على الله تعالى ثم يذكر الدعاء عقيبه والدليل عليه هذه الآية فإن الملائكة لما عزموا على الدعاء والاستغفار للمؤمنين بدأوا بالثناء فقالوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً وأيضاً أن الخليل عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء ذكر الثناء أولاً فقال الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 78 82 ) فكل هذا ثناء على الله تعالى ثم بعده ذكر الدعاء فقال رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 )
واعلم أن العقل يدل أيضاً على رعاية هذا الترتيب وذلك ذكر الله بالثناء والتعظيم بالنسبة إلى جوهر الروح كالإكسير الأعظم بالنسبة إلى النحاس فكما أن ذرة من الإكسير إذا وقعت على عالم من النحاس انقلب الكل ذهباً إبريزاً فكذلك إذا وقعت ذرة من إكسير معرفة جلال الله تعالى على جوهر الروح النطقية انقلب من ننحوسة النحاسة إلى صفاء القدس وبقاء عالم الطهارة فثبت أن عند إشراق نور معرفة الله تعالى في جواهر الروح يصير الروح أقوى صفاء وأكمل إشراقاً ومتى صار كذلك كانت قوته أقوى وتأثيره أكمل فكان حصول الشيء المطلوب أقرب وأكمل وهذا هو السبب في تقديم الثناء على الله على الدعاء
المسألة الثالثة اعلم أن الملائكة وصفوا الله تعالى بثلاثة أنواع من الصفات الربوبية والرحمة والعلم أما الربوبية فهي إشارة إلى الإيجاد والإبداع وفيه لطيفة أخرى وهي أن قولهم رَبَّنَا إشارة إلى التربية والتربية عبارة عن إبقاء الشيء على أكل أحواله وأحسن صفاته وهذا يدل على أن هذه الممكنات كما أنها محتاجة حال حدوثها إلى إحداث الحق سبحانه وتعالى وإيجاده فكذلك إنها محتاجة حال بقائها إلى إبقاء الله وأما الرحمة فهي إشارة إلى أن جانب الخير والرحمة والإحسان راجح على جانب الضر وأنه تعالى إنما خلق الخلق للرحمة والخير لا للاضرار والشر فإن قيل قوله رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً فيه سؤال لأن العلم وسع كل شيء أما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء لأن المضرور حال وقوعه في الضر لا يكون ذلك الضرر رحمة وهذا السؤال أيضاً مذكور في قوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء ( الأعراف 156 ) قلنا كل وجود فقد ننال من رحمة الله تعالى نصيباً وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن أما الواجب فليس إلا الله سبحانه وتعالى وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده وذلك رحمة فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد وصل إليه نصيب ونصاب من رحمة الله فلهذا قال رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً وفي الآية دقيقة أخرى وهي أن الملائكة قدموا ذكر الرحمة على ذكر العلم فقالوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً وذلك لأن مطلوبهم إيصال الرحمة وأن يتجاوز عما عليه منهم من أنواع الذنوب فالمطلوب بالذات هو الرحمة والمطلوب بالعرض أن يتجاوز عما علمه منهم والمطلوب بالذات مقدم على(27/32)
المطلوب بالعرض ألا ترى أنه لما كان إبقاء الصحة مطلوباً بالذات وإزالة المرض مطلوباً بالعرض لا جرم لما ذكروا حد الطب قدموا فيه حفظ الصحة على إزالة المرض فقالوا الطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصلح ويزول عن الصحة لتحفظ الصحة حاصلة وتسترد زائلة فكذا ههنا المطلوب بالذات هو الرحمة وأما التجاوز عما علمه منهم من أنواع الذنوب فهو مطلوب بالعرض لأجل أن حصول الرحمة على سبيل الكمال لا يحصل إلا بالتجاوز عن الذنوب فلهذا السبب وقع ذكر الرحمة سابقاً على ذكر العلم
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على أن المقصود بالقصة الأولى في الخلق والتكوين إنما هو الرحمة والفضل والجود والكرم ودلت الدلائل اليقينية على أن كل ما دخل في الوجود من أنواع الخير والشر والسعادة والشقاوة فبقضاء الله وقدره والجمع بين هذين الأصلين في غاية اللصعوبة فعند هذا قالت الحكماء الخير مراد مرضي والشر مراد مكروه والخير مقضي به بالذات والشر مقضي به باللعرض وفيه غور عظيم
المسألة الخامسة قوله وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً يدل على كونه سبحانه عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات وأيضاً فلولا ذلك لم يكن في الدعاء والتضرع فائدة لأنه إذا جاز أن يخرج عن علمه بعض الأشياء فعلى هذا التقدير لا يعرف هذا الداعي أن الله سبحانه يعلمه ويعلم دعاءه وعلى هذا التقدير لا يبقى في الدعاء فائدة ألبتة
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم كيفية ثنائهم على الله تعالى حكى عنهم كيفية دعائهم وهو أنهم قالوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ واعلم أن الملائكة طلبوا بالدعاء من الله تعالى أشياء كثيرة للمؤمنين فالمطلوب الأول الغفران وقد سبق تفسيره في قوله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ فإن قيل لا معنى للغفران إلا إسقاط العذاب وعلى هذا التقدير فلا فرق بين قوله فاغفر لهم وبين قوله وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ قلنا دلالة لفظ المغفرة على إسقاط عذاب الجحيم دلالة حاصلة على الرمز والإشارة فلما ذكروا هذا الدعاء على سبيل الرمز والإشارة أردفوه بذكره على سبيل التصريح لأجل التأكيد والمبالغة واعلم أنهم لما طلبوا من الله إزالة العذاب عنهم أردفوه بأن طلبوا من الله إيصال الثواب إليهم فقالوا رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ فإن قيلل أنتم زعمتم أن هذه الشفاعة إنما حصلت للمذنبين وهذه الآية تبطل ذلك لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم في جنّات عدن قلنا لا نسلم أنه ما وعدهم بذلك لأنا بينا أن الدلائل الكثيرة في القرآن دلّت على أنه تعالى لا يخلد أهل لا إلاه إلا الله محمد رسول الله في النار وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة فكان هذا وعداً من الله تعالى لهم بأن يدخلهم في جنّات عدن إما من غير دخول النار وإما بعد أن يدخلهم النار قال تعالى وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ يعني وأدخل معهم في الجنة هؤلاء الطوائف الثلاث وهم الصالحون من الآباء والأزواج والذريا وذلك لأن الرجل إذا حضر معه في وضع عيشه وسروره أهله وعشيرته كان ابتهاجه أكمل قال الفرّاء والزجاج مِنْ صَالِحٌ نصب من مكانين فإن شئت رددته على الضمير في قوله وَأَدْخِلْهُمْ وإن شئت في وَعَدْتَّهُمْ والمراد من قوله وَمَنْ صَلَحَ أهل الإيمان ثم قالوا إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وإنما ذكروا في دعائهم هذين الوصفين لأنه للو لم يكن عزيزاً بل كان بحيث يغلب ويمنع لما(27/33)
صح وقوع المطلوب منه ولو لم يكن حكيماً لما حصل هذا المطلوب على وفق الحكمة والمصلحة ثم قالوا بعد ذلك وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ قال بعضهم المراد وقهم عذاب السيئات فإن قيل فعللى هذا التقدير لا فرق بين قوله وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ وبين ما تقدم من قوله وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ وحينئذ يلزم التكرار الخالي عن الفائدة وإنه لا يجوز قلنا بل التفاوت حاصل من وجهين الأول أن يكون قوله وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ دعاء مذكور للأصول وقوله وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ دعاءً مذكوراً للفروع الثاني أن يكون قوله وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ مقصوراً على إزالة الجحيم وقوله وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف القيامة وعذاب الحساب والسؤال
والقول الثاني في تفسير وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ هو أن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار بقولهم وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ وطلبوا إيصال ثواب الجنة إليهم بقولهم وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ثم طلبوا بعد ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا عن العقائد الفاسدة والأعمال الفاسدة وهو المراد بقولهم وَقِهِمُ السَّيّئَاتِ ثم قالوا وَمَن تَقِ السَّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ يعني ومن تق السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة ثم قالوا وَذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيماً وبأعمال حقيرة ملكاً لا تصل العقول إلى كنه جلالته
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِى َ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِى ِّ الْكَبِيرِ
اعلم أنه تعالى لما عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله وهم الذين ذكرهم الله في قوله مَا يُجَادِلُ فِى ءايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( غافر 4 ) بين أنهم في القيامة يتعرفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب الذي ينزل بهم ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف وفيها أيضاً تقديم وتأخير أما الحذف فتقديره لمقت الله إياكم وما التقديم والتأخير فهو أن التقدير أن يقال لمقت الله لكم حال ما تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم وفي تفسير مقتهم أنفسهم وجوه الأول أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا الثاني أن الاتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دعوهم إلى(27/34)
الكفر في الدنيا والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم كما أنه تعالى قال فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) والمراد قتل بعضهم بعضاً الثالث قال محمد بن كعب إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلَى قَوْلُهُ وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ( إبراهيم 22 ) ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم واعلم أنه لا نزاع أن مقتهم أنفسهم إنما يحصل في يوم القيامة أما مقت الله لهم ففيه وجهان الأول أنه حاصل في الآخرة والمعنى لمقت الله لكم في هذا الوقت أشد من مقتكم أنفسكم في هذا الوقت والثاني وعليه الأكثرون أن التقدير لمقت الله لكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم الآن ففي تفسير الألفاظ المذكورة في الآية أوجه الأول أن الذين ينادونهم ويذكرون لهم هذا الكلام هم خزنة جهنم الثاني المقت أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال فالمراد منه أبلغ الإنكار والزجر الثالث قال الفراء يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ معناه إنهم ينادون إن مقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان فتأتون بالكفر أكبر من مقتكم الآن أنفسكم
ثم إنه تعالى بيّن أن الكفار إذا خاطبوا بهذا الخطاب قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ إلى آخر الآية والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسداً باطلاً تمنوا الرجوع إلى الدنيا لكي يشتغلوا عند الرجوع إليها بالأعمال الصالحة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج أكثر العلماء بهذه الآية في إثبات عذاب القبر وتقرير الدليل أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين حيث قالوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ فأحد الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي يحصل عقيبها موتاً ثانياً وذلك يدل على حصول حياة في القبر فإن قيل قال كثير من المفسرين الموتة الأولى إشارة إلى الحالة الحاصلة عند كون الإنسان نطفة وعلقة والموتة الثانية إشارة إلى ما حصل في الدنيا فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك والذي يدل على أن الأمر ما ذكرناه قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ( البقرة 28 ) والمراد من قوله وَكُنتُمْ أَمْواتًا الحالة الحاصلة عند كونه نطفة وعلقة وتحقيق الكلام أن الإماتة تستعمل بمعنيين أحدهما إيجاد الشيء ميتاً والثاني تصيير الشيء ميتاً بعد أن كان حياً كقولك وسع الخياط ثوبي يحتمل أنه خاطه واسعاً ويحتمل أنه صيره واسعاً بعد أن كان ضيقاً فلم لا يجوز في هذه الآية أن يكون المراد بالإماتة خلقها مية ولا يكون المراد تصييرها ميتة بعد أن كانت حية
السؤال الثاني أن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة
السؤال الثالث أن هذه الآية تدل على المنع من حصول الحياة في القبر وبيانه أنه لو كان الأمر كذلك لكان قد حصلت الحياة ثلاث مرات أولها في الدنيا وثانيها في القبر وثالثها في القيامة والمذكور في الآية ليس إلا حياتين فقط فتكون إحداهما الحياة في الدنيا والحياة الثانية في القيامة والموت الحاصل بينهما هو الموت المشاهد في الدنيا(27/35)
السؤال الرابع أنه إن دلت هذه الآية على حصول الحياة في القبر فههنا ما يدل على عدمه وذلك بالمنقول والمعقول أما المنقول فمن وجوه الأول قوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَّحْمَة ِ رَبّهِ ( الزمر 9 ) فلم يذكر في هذه الآية إلا الحذر عن الآخرة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الحذر عنها حاصلاً ولو كان الأمر كذلك لذكره ولما لم يذكره علمنا أنه غير حاصل الثاني أنه تعالى حكى في سورة الصافات عن المؤمنين المحقين أنهم يقولون بعد دخولهم في الجنة أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاْولَى ( الصافات 58 59 ) ولا شك أن كلام أهل الجنة حق وصدق ولو حصلت لهم حياة في القبر لكانوا قد ماتوا موتتين وذلك على خلاف قوله أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاْولَى قالوا والاستدلال بهذه الآية أقوى من الاستدلال بالآية التي ذكرتموها لأنه الآية التي تمسكنا بها حكاية قول المؤمنين الذين دخلوا الجنة والآية التي تسمكتم بها حكاية قول الاكافرين الذين دخلوا النار
وأما المعقول فمن وجوه الأول وهو أن الذي افترسه السباع وأكلته لو أعيد حياً لكان إما أن يعاد حياً بمجموعة أو بأحاد أجزائه والأول باطل لأن الحس يدل على أنه لم يحصل له مجموع والثاني باطل لأنه لما أكلته السباع فلو جعلت تلك الأجزاء أحياء لحصلت أحياء في معدة السباع وفي أمعائها وذلك في غاية الاستبعاد الثاني أن الذي مات لو تركناه ظاهراً بحيث يراه كل واحد فإنهم يرونه باقياً على موته فلو جاوزنا مع هذه الحالة أنه يقال إنه صار حياً لكان هذا تشكيكاً في المحسوسات وإنه دخول في السفسطة ( والجواب ) قوله لم لا يجوز أن تكون الموتة الأولى وهي الموتة التي كانت حاصلة حال ما كان نطفة وعلقة فنقول هذا لا يجوز وبيانه أن المذكور في الآية أن الله أماتهم ولفظ الإماتة مشروط بسبق حصول الحياة إذ لو كان الموت حاصلاً قبل هذه الحالة امتنع كون هذا إماتة وإلا لزم تحصيل الحاصل وهو محال وهذا بخلاف قوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا لأن المذكور في هذه الآية أنهم كانوا أمواتاً وليس فيها أن الله أماتهم بخلاف الآية التي تحن في تفسيرها لأنهت تدل على أن الله تعالى أماتهم مرتين وقد بينا أن لفظ الإماتة لا يصدق إلا عند سبق الحياة فظهر الفرق
أما قوله ءن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة قلنا لما ذكروا ذلك لم يكذبهم الله تعالى إذ لو كانوا كاذبين لأظهر الله تكذيبهم ألا ترى أنهم لما كذبوا في قولهم وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنتُ مُشْرِكِينَ كذبهم الله في ذلك فقال انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ ( الأنعام 23 24 ) وأما قوله ظاهر الآية يمنع من إثبات حياة في القبرة إذ لو حصلت هذه الحياة لكان عدد الحياة ثلاث مرات لا مرتين فنقول ( الجواب ) عنه من وجوه الأول هو أن مقصودهم تعديل أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة الموتة الأولى والحياة في القبر والموتة الثانية والحياة في القيامة فهذه الأربعة أوقات البلاء والمحنة فأما الحياة في الدنيا فليست من أقسام أوقات البلاء والمحنة فلهذا السبب لم يذكروها الثاني لعلهم ذركوا الحياتين وهي الحياة في الدنيا والحياة في القيامة أما الحياة في القبر فأهملوا ذكرها لقلة وجودها وقصر مدتها الثالث لعلهم لما صاروا أحياء في القبول لم يموتوا بل بقوا أحياء إما في السعادة إما في لاشقاوة واتصل بها حياة القيامة فكانوا من جملة من أرادهم الله بالاستثناء في قوله فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) الرابع لو لم يثبت الحياة في القبر لزم أن لا يحصل الموت إلا مرة واحدة فكان إثبات الموت مرتين كذباً وهو على خلاف لفظ القرآن أما لو أثبتنا الحياة في القبر لزمنا إثبات الحياة ثلاث مرات والمذكور في القرآن(27/36)
مرتين أما المرة الثالثة فليس في اللفظ ما يدل على ثبوتها أو عدمها فثبت أن نفي حياة القبر يقتضي ترك ما دل اللفظ عليه فأما إثبات حياة القبر فإنه يقتضي إثبات شيء زائد على ما دل عليه اللفظ مع اللفظ لا إشعار فيه بثبوته ولا بعدمه فكان هذا أولى وأما ما ذكروه في المعارضة الأولى فنقول قوله يَحْذَرُ الاْخِرَة َ ( الزمر 9 ) تدخل فيه الحياة الآخرة سواء كانت في القبر أو في القيامة وأما المعارضة الثانية فجوابها أنا نرجح قولنا بالأحاديث الصحيحة الواردة في عذاب القبر
وأما الوجهان العقليان فمدفوعان لأنا إذا قلنا إن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو عبارة عن جسم نوراني سار في هذا البدن كانت الإشكالات التي ذكراتموها غير واردة في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أنا لما أثبتنا حياة القبر فيكون الحاصل في حق بعضهم أربعة أنواع من الحياة وثلاثة أنواع من الموت والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ( البقرة 243 ) فهؤلاء أربعة مراتب في الحياة حياتان في الدنيا وحياة في القبر وحياة رابعة في القيامة
المسألة الثالثة قوله اثْنَتَيْنِ نعت لمصدر محذوف والتقدير إماتتين اثنتين ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فإن قيل الفاء في قوله فَاعْتَرَفْنَا تقتضي أن تكون الإماتة مرتين والإحياء مرتين سبباً لهذا الاعتراف فبينوا هذه السببية قلنا لأنهم كانوا منكرين للبعث فلما شاهدوا الإحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن ذلك الإحياء وتلك الإماتة ثم قال فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ أي هل إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل أم اليأس وقع فلا خروج ولا سبيل إليه وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط واعلم أن الجواب الصريح عنه أن يقال لا أو نعم وهو تعالى لم يفعل ذلك بل ذكر كلاماً يدل على أنه لا سبيل لهم إلى الخروج فقال ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِى َ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ أي ذلكم الذي أنتم فيه وهو أن لا سبيل لكم إلى الخروج قط إنما وقع بسبب كفركم بتوحيد الله تعالى وإيمانكم الإشراك به فَالْحُكْمُ للَّهِ حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي وقوله الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ دلالة على الكبرياء والعظمة وعلى أن عقابه لا يكون إلا كذلك والمشبهة استدلوا بقوله تعالى الْعَلِى ُّ على العلو الأعلى في الجهة وبقوله الْكَبِيرُ على كبر الجثة والذات وكل ذلك باطل لأنا دللنا على أن الجسمية والمكان محالان في حق الله تعالى فوجب أن يكون المراد من الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ العلو والكبرياء بحسب القدرة والإلهية(27/37)
هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما يوجب التهديد الشديد في حق المشركين أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته ليصير ذلك دليلاً على أنه يجوز جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء لله تعالى في المعبودية فقال هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءايَاتِهِ واعلم أن أهم المهمات رعاية مصالح الأديان ومصالح الأبدان فهو سبحانه وتعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان فالآيات لحياة الأديان والأرزاق لحياة الأبدان وعند حصولهما يحصل الإنعام على أقوى الاعتبارات وأكمل الجهات
ثم قال وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ والمعنى أن الوقوف على دلائل توحيد الله تعالى كالأمر المركوز في العقل إلا أن القول بالشرك والاشتغال بعبادة غير الله يصير كالمانع من تجلي تلك الأنوار فإذا أعرض العبد عنها وأناب إلى الله تعالى زال الغطاء والوطاء فظهر الفوز التام ولما قرر هذا المعنى صرح بالمطلوب وهو الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقال فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ من الشرك ومن الإلتفات إلى غير الله وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ قرأ ابن كثير ينزل خفيفة والباقون بالتشديد
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَى ْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر من صفات كبريائه وإكرامه كونه مظهراً للآيات منزلاً للأرزاق ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ قال صاحب ( الكشاف ) ثلاثة أخبار لقوله هُوَ مرتبة على قوله الَّذِى يُرِيكُمُ ( غافر 13 ) أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً قرىء رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ بالنصب على المدح وأقول لا بد من تفسير هذه الصفات الثلاثة
الصفة الأولى قوله رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ واعلم أن الرفيع يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع أما إذا حملناه على الأول ففيه وجوه الوجه الأول أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء درجة معينة كما قال وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) وعين لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ( المجادلة 11 ) وعين لكل جسم درجة معينة فجعل بعضها سفلية عنصرية وبعضها فلكية كوكبية وبعضها من جواهر العرش والكرسي فجعل لبعضها درجة أعلى من درجة الثاني وأيضاً جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخلق والرزق والأجل فقال وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ( الأنعام 165 ) وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة وفي الآخرة آثار لظهور تلك السعادة والشقاء فإذا حملنا الرفيع على الرفع كان معناه ما ذكرناه وأما إذا حملناه على المرتفع فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال أما في الأصل الوجود فهو أرفع الموجودات(27/38)
لأنه واجب الوجود لذاته وما سواه ممكن ومحتاج إليه وأما في دوام الوجود فهو أرفع الموجودات لأنه واجب الوجود لذاته وهو الأزلي والأبدي والسرمدي الذي هو أول لكل ما سواه وليس له أول وآخر لكل ما سواه وليس له آخر أما في العلم فلأنه هو العالم بجميع الذوات والصفات والكليات والجزئيات كما قال وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وأما في القدرة فهو أعلى القادرين وأرفعهم لأنه في وجوده وجميع كمالات وجوده غني عن كل ما سواه وكل ما سواه فإنه محتاج في وجوده وفي جميع كمالات وجوده إليه وأما في الوحدانية فهو الواحد الذي يمتنع أن يحصل له ضد وند وشريك ونظير وأقول الحق سبحانه له صفتان أحدهما استغناؤه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه الثاني افتقار كل ما سواه إليه في وجوده وفي صفات وجوده فالرفيع إن فسرناه بالمرتفع كان معناه أنه أرفع الموجودات وأعلاها في جميع صفات الجلال والإكرام وإن فسرناه بالرافع كان معناه أن كل درجة وفضيلة ورحمة ومنقبة حصلت لشيء سواه فإنما حصلت بإيجاده وتكوينه وفضله ورحمته
الصفة الثانية قوله ذُو الْعَرْشِ ومعناه أنه مالك العرش ومدبره وخالقه واحتج بعض الأغمار من المشابهة بقوله رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ وحملوه على أن المراد بالدرجات السموات وبقوله ذُو الْعَرْشِ أنه موجود في العرش فوق سبع سموات وقد ى عظموا الفرية على الله تعالى فأنا بينا بالدلائل القاهرة العقلية أن كونه تعالى جسماً وفي جهة محال وأيضاً فظاهر اللفظ لا يدل على ما قالوه لأن قوله ذُو الْعَرْشِ لا يفيد إلا إضافته إلى العرش ويكفي في إضافته إليه بكونه مالكاً له ومخرجاً له من العدم إلى الوجود فأي ضرورة تدعونا إلى الذهاب إلى القول الباطل والمذهب الفاسد والفائدة في تخصيص العرش بالذكر هو أنه أعظم الأجسام والمقصود بيان كمال إلهيته ونفاذ قدرته فكل ما كان محل التصرف والتدبير أعظم كانت دلالته على كمال القدرة أقوى
الصفة الثانية قوله يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وفيه مباحث
البحث الأول اختلفوا في المراد بهذا الروح والصحيح أن المراد هو الوحي وقد أطنبنا في بيان أنه لم سمي الوحي بالروح في أول سورة النحل في تفسير قوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) وقال أيضاً أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الانعام 122 ) وحاصل الكلام فيه أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية فإذا كان الوحي سبباً لحصول هذه الأرواح سمي بالروح فإن الروح سبب لحصول الحياة والوحي سبب لحصول هذه الحياة الروحانية
واعلم أن هذه الآية مشتملة على أسرار عجيبة من علوم المكاشفات وذلك لأن كمال كبرياء الله تعالى لا تصل إليه العقول والأفهام فالطريق الكامل في تعريفه بقدر الطاقة البشرية أن يذكر ذلك الكلام على الوجه الكلي العقلي ثم يذكر عقيبه شيء من المحسوسات المؤكدة لذلك المعنى العقلي ليصير الحصر بهذا الطريق معاضداً للعقل فههنا أيضاً كذلك فقوله رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ إما أن يكون بمعنى كونه رافعاً للدرجات وهو إشارة إلى تأثير قدرة الله تعالى في إيجاد الممكنات على احتلاف درجاتها وتباين منازلها وصفاتها أو إلى كونه تعالى مرتفعاً في صفات الجلال ونعوت العزة عن كل الموجودات فهذا الكلام عقلي برهاني ثم إنه سبحانه بين هذا الكلام الكلي بمزيد تقرير وذلك لأن ما سوى الله تعالى إما جسمانيات وءما(27/39)
روحانيات فبين في هذه الآية أن كلا القسمين مسخر تحت تسخير الحق سبحانه وتعالى أما الجسمانيات فأعظمها العرش فقوله ذُو يدل على استيلائه على كلية عالم الأجسام ولما كان العرش من جنس المحسوسات كان هذا المحسوس مؤكداً لذلك العقول أعني قوله الْكَافِرُونَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ وأما الروحانيات فكلها مسخرة للحق سبحانه وإليه الإشارة بقوله يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ
واعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي والوحي إنما يتم بأركان أربعة فأولها المرسل وهو الله سبحانه وتعالى فلهذا أضاف إلقاء الوحي إلى نفسه فقال يُلْقِى الرُّوحَ والركن الثاني الإرسال والوحي وهو الذي سماه بالروح والركن الثالث أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة وهو المشار إليه في هذه الآية بقوله مِنْ أَمْرِهِ فالركن الروحاني يسمى أمراً قال تعالى وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا ( فصلت 12 ) وقال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) والركن الرابع الأنبياء الذين يلقي الله الوحي إليهم وهو المشار إليه بقوله عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والركن الخامس تعيين الغرض والمقصود الأصلي من إلقاء هذا الوحي إليهم وذلك هو أن الأنبياء عليهم السلام يصرفون الخلق من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ويحملونهم على الإعراض عن هذه الجسمانيات والإقبال على الروحانيات وإليه الإشارة بقوله لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ فهذا ترتيب عجيب يدل على هذه الإشارات العالية من علوم المكاشفات الإلهية
وبقي ههنا أن نبين أنه ما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق وكم الصفات التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة ليوم التلاق
أما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق ففيه وجوه
الأول أن الأرواح كانت متباينة عن الأجساد فإذا جاء يوم القيامة صارت الأرواح ملاقية للأجساد فكان ذلك اليوم يوم التلاق الثاني أن الخلائق يتلاقون فيه فيقف بعضهم على حال البعض الثالث أن أهل السماء ينزلون على أهل الأرض فيلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض قال تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ تَنزِيلاً ( الفرقان 25 ) الرابع أن كل أحد يصل إلى جزاء عمله في ذلك اليوم فكان ذلك من باب التلاق هو مأخوذ من قولهم فلان لقي عمله الخامس يمكن أن يكون ذلك مأخوذاً من قوله فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ ( الكهف 110 ) ومن قوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( الأحزاب 44 ) السادس يوم يلتقي فيه العابدون والمعبودون السابع يوم يلتقي فيه آدم عليه السلام وآخر ولده الثامن قال ميمون بن مهران يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم فربما ظلم الرجل رجلأْ وانفصل عنه ولو أراد أن يجده لم يقدر عليثه ولم يعرفه ففي يوم القيامة يحضران ويلقى بعضهم بعضاً قرأ ابن كثير عنه التلاقي والتنادي بإثبات الياء في الوصل والوقف وهادي وواقي بالياء في الوقف وبالتنوين في الوصل
وأما بين أن الله تعالى كم عدد من الصفات ووصف بها يوم القيامة في هذه الآية فنقول
الصفة الأولى كونن يوم التلاق وقد ذكرنا تفسيره
الصفة الثانية قوله يَوْمَ هُم بَارِزُونَ وفي تفسير هذا البروز وجوه الأول أنهم برزوا عن بواطن القبور الثاني بارزون أي ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء لأن الأرض بارزة قاع(27/40)
صفصف وليس عليهم أيضاً ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما جاء في الحديث ( يحشرون عراة حفاة غرلا ) الثالث أن يجعل كونهم بارزين كناية عن ظهور أعمالهم وانكشاف أسرارهم كما قال تعالى يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( الطارق 9 ) الرابع أن هذه النفوس الناطقة البشرية كأنها في الدنيا انغمست في ظلمات أعمال الأبدان فإذا جاء يوم القيامة أعرضت عن الاشتغال بتدبير الجسمانيات وتوجهت بالكلية إلى عالم القيامة ومجمع الروحانيات فكأنها برزت بعد أن كانت كامنة في الجسمانيات مستترة بها
الصفة الثالثة قوله لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَى ْء والمراد يوم لا يخفى على الله منهم شيء والمقصود منه الوعيد فإنه تعالى بيّن أنهم إذا برزوا من قبورهم واجتمعوا وتلاقوا فإن الله تعالى يعلم ما فعله كل واحد منهم فيجازي كلاً بحسبه إن خيراً فخير وإن شراً فشر فهم وإن لم يعلموا تفصيل ما فعلوه فالله تعالى عالم بذلك ونظيره قوله يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة ٌ ( الحاقة 18 ) وقال يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( الطارق 9 ) وقال إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ ( العاديات 9 10 ) وقال يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا ( الزلزلة 4 ) فإن قيل الله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء في جميع الأيام فما معنى تقييد هذا المعنى بذلك اليوم قلنا إنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمونه في الدينا قال تعالى وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ ( فصلت 22 ) وقال يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ ( النساء 108 ) وهو معنى قوله وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( إبراهيم 48 )
الصفة الرابعة قوله تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ والتقدير يوم ينادي فيه لمن الملك اليوم وهذا النداء في أي الأوقات يحصل فيه قولان
الأول قال المفسرون إذا هلك كل من السموات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ يعني يوم القيامة فلا يجيبه أحد فهو تعالى يجيب نفسه فيقول للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ قال أهل الأصول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى بيّن أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق ويوم البروز ويوم تجزى كل نفس بما كسبت والناس في ذلك الوقت أحياء فبطل قولهم إن الله تعالى إنما ينادي بهذا النداء حين هلك كل من في السموات والأرض والثاني أن الكلام لا بد فيه من فائدة لأن الكلام إما أن يذكر حال حضور الغير أو حال ما لا يحضر الغير والأول باطل ههنا لأن القوم قالوا إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل والثاني أيضاً باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأنه يحفظ به شيئاً كالذي يكرر على الدرس وذلك على الله محال أو لأجل أنه يحصل سرور بما يقوله وذلك أيضاً على الله محال أو لأجل أن يعبد الله بذلك الذكر وذلك أيضاً على الله محال فثبت أن قول من يقول إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل لا أصل له
والقول الثاني أن في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا لله نادى منادٍ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فيقول كل الحاضرين في محفل القيامة لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فالمؤمنون يقولون تلذذاً بهذا الكلام حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة والكفار يقولونه على الصغار والذلة على وجه التحسر والندامة على أن فاتهم هذا الذكر في الدنيا وقال القائلون بهذا القول إن صح القول الأول عن ابن عباس وغيره لم يمتنع أن يكون(27/41)
المراد أن هذا النداء يذكر بعد فناء البشر إلا أنه حضر هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء وأقول أيضاً على هذا القول لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى ولا يبعد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمعاً آخرين الكل ممكن وليس على التعيين دليل فإن قيل وما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذا النداء
فنقول الناس كانوا مغرورين في الدنيا بالأسباب الظاهرة وكان الشيخ الإمام الوالد عمر رضي الله عنه يقول لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب وفي يوم القيامة زالت الأسباب وانعزلت الأرباب ولم يبق ألبتة غير حكم مسبب الأسباب فلهذا اختص النداء بيوم القيامة واعلم أنه وإن كان ظاهر اللفظ يدل على اختصاص ذلك النداء بذلك اليوم إلا أن قوله للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ يفيد أن هذا النداء حاصل من جهة المعنى أبداً وذلك لأن قولنا الله اسم لواجب الوجود لذاته وواجب الوجود لذاته واحد وكل ما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ومعنى الإيجاد هو ترجيح جانب الوجود على جانب العدم وذلك الترجيح هو قهر للجانب المرجوح فثبت أن الإله القهار واحد أبداً ونداء لمن الملك اليوم إنما ظهر من كونه واحداً قهاراً فإذا كان كونه قهاراً باقياً من الأزل إلى الأبد لا جرم كان نداء لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ باقياً في جانب المعنى من الأزل إلى الأبد
الصفة الخامسة من صفات ذلك اليوم قوله الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
واعلم أنه سبحانه لما شرح صفات القهر في ذلك اليوم أردفه ببيان صفات العدل والفضل في ذلك اليوم فقال الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا الكلام اشتمل على أمور ثلاثة أولها إثبات الكسب للإنسان والثاني أن كسبه يوجب الجزاء والثالث أن ذلك الجزاء إنما يستوفى في ذلك اليوم فهذه الكلمة على اختصارها مشتملة على هذه الأصول الثلاثة في هذا الكتاب وهي أصول عظيمة الموقع في الدين وقد سبق تقرير هذه الأصول مراراً ولا بأس بذكر بعض النكت في تقرير هذه الأصول أما الأول فهو إثبات الكسب للإنسان وهو عبارة عن كون أعضائه سليمة صالحة للفعل والترك فما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع صدور الفعل والترك عنه فإذا انضاف إليه الداعي إلى الفعل أو الداعي إلى الترك وجب صدور ذكل الفعل أو الترك عنه وأما الثاني وهو بيان ترتب الجزاء عليه فاعلم أن الأفعال على قسمين منها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الجسمانية الحاصلة في عالم الدنيا ومنها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الروحانية التي لا يظهر كمالها إلا في عالم الآخرة وقد ثبت بالتجربة أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات الراسخة فمن غلب عليه القسم الأول استحكمت رحمته رغبته في الدنيا وفي الجسمانيات فعند الموت يحصل الفراق بينه وبين مطلوبه على أعظم الوجوه ويعظم عليه البلاء ومن غلب عليه القسم الثاني فعند الموت يفارق المبغوض ويتصل بالمحبوب فتعظم الآلاء والنعماء فهذا هو معنى الكسب ومعنى كون ذلك الكسب موجباً للجزاء فظهر بهذا أن كمال الجزاء لا يحصل إلا في يوم القيامة فهذا قانون كلي عقلي والشريعة الحقة أتت بما يقوي هذا القانون الكلي في تفاصيل الأعمال والأقوال والله أعلم
المسألة الثانية هذه الآية أصل عظيم في أصول الفقه وذلك لأنا نقول لو كان شيء من أنواع الضرر(27/42)
مشروعاً لكان إما أن يكون مشروعاً لكونه جزاء على شيء من الجنايات أو لا لكونه جزاء والقسمان باطلان فبطل القول بكونه مشروعاً أما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروهاً ليكون جزاء على شيء من الأعمال فلأن هذا النص يقتضي تأخير الإجزية إلى يوم القيامة فإثباته في الدنيا يكون على خلاف هذا النص وأما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروعاً للجزاء لقوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) ولقوله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) عدلنا عن هذه العمومات فيما إذا كانت المضار أجزية وفيما ورد نص في الإذن فيه كذبح الحيوانات فوجب أن يبقى على أصل الحرمة فيما عداه فثبت بما ذكرنا أن الأصل في المضار والآلام التحريم فإن وجدنا نصاً خاصاً يدل على الشرعية قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا فهو باق على أصل التحريم وهذا أصل كلي منتفع به في الشريعة والله علم
الصفة السادسة من صفات ذلك اليوم قوله لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ والمقصود أنه لما قال الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ أردفه بما يدل على أنه لا يقع في ذلك نوع من أنواع الظلم قال المحققون وقوع الظلم في الجزاء يقع على أربعة أقسام أحدها أن يستحق الرجل ثواباً فيمنع منه وثانيها أن يعطي بعض بعض حقه ولكنه لا يوصل إُى حقه بالتمام وثالثها أن يعذب من لا يستحق العذاب ورابعها أن يكون الرجل مستحقاً للعذاب فيعذب ويزداد على قدر حقه فقوله تعالى لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ يفيد نفي هذه الأقسام الأربعة قال القاضي هذه الآية قوية في إبطال قول المجبرة لأن على قولهم لا ظلم غالباً وشاهداً إلا من الله ولأنه تعالى إذا خلق فيه الكفر ثم عذبه عليه فهذا هو عين الظلم والجواب عنه معلوم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وذكر هذا الكلام في هذا الموضع لائق جداً لأنه تعالى لما بيّن أنه لا ظلم بين أنه سريع الحساب وذلك يدل على أنه يصل إليهم ما يستحقونه في الحال والله أعلم
وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاٌّ زِفَة ِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَآئِنَة َ الاٌّ عْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَى ْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة ً وَءَاثَاراً فِى الأرض فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِى ٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ(27/43)
اعلم أن المقصود من هذه الآية وصف يوم القيامة بأنواع أخرى من الصفات الهائلة المهيبة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير يوم الآزفة وجوهاً الأول أن يوم الآزفة هو يوم القيامة والآزفة فاعلة من أزف الأمر إذا دنا وحضر لقوله في صفة يوم القيامة أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَة ٌ ( النجم 57 58 ) وقال شاعر فأزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
والمقصود منه التنبيه على أن يوم القيامة قريب ونظيره قوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ ( القمر 1 ) قال الزجاج إنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها وما هو كائن فهو قريب
واعلم أن الآزفة نعت لمحذوف مؤنث على تقدير يوم القيامة الآزفة أو يوم المجازاة الآزفة قال القفال وأسماء القيامة تجري على التأنيث كالطامة والحاقة ونحوها يرجع معناها إلى الداهية والقول الثاني أن المراد بيوم الآزفة وقت الآزفة وهي مسارعتهم إلى دخول النار فإن عند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها من شدة الخوف والقول الثالث قال أبو مسلم يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل والذي يدل عليه أنه تعالى وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق و يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ثم قال بعده وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الاْزِفَة ِ فوجب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم وأيضاً هذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات بيوم الموت قال تعالى فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ( الواقعة 83 84 ) وقال كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِى َ ( القيامة 26 ) وأيضاً فوصف يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب وأيضاً الصفات المذكورة بعد قوله الآزفة لائقة بيوم حضور الموت لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب يعظم خوفه فكأن قلوبهم تبلغ حناجرهم من شدة الخوف ويبقوا كاظمين ساكتين عن ذكر ما في قلوبهم من شدة الخوف ولا يكون لهم حميم ولا شفيع يدفع ما بهم من أنواع الخوف والقلق
المسألة الثانية اختلفوا في أن المراد من قوله إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ كناية عن شدة الخوف أو هو محمول على ظاهره قيل المراد وصف ذلك اليوم بشدة الخوف والفزع ونظيره قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ( الأحزاب 10 ) وقال فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ( الواقعة 83 84 ) وقيل بل هو محمول على ظاهره قال الحسن القلوب انتزعت من الصدور بسبب شدة الخوف وبلغت القلوب الحناجر فلا تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروحوا ولكنها مقبوضة كالسجال كما قال فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الملك 27 ) وقوله كَاظِمِينَ أي مكروبين والكاظم الساكت حال امتلائه غماً وغيظاً فإن قيل بم انتصب كَاظِمِينَ قلنا أن يكون حال عن القلوب وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر وإنما جمع الكاظمة جمع السلامة لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء كما قال رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) وقال فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ(27/44)
( الشعراء 4 ) ويعضده قراءة من قرأ كاظمون وبالجملة فالمقصود من الآية تقرير أمرين أحدهما الخوف الشديد وهو المراد من قوله إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ والثاني العجز عن الكلام وهو المراد من قوله كَاظِمِينَ فإن الملهوف إذا قدر على الكلام حصلت له خفقة وسكون أما إذا لم يقدر على الكلام وبث الشكوى عظم قلقه وقوي خوفه
المسألة الثالثة احتج أكثر المعتزلة في نفي الشفاعة عن المذنبين بقوله تعالى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ قالوا نفى حصول شفيع لهم يطاع فوجب أن لا تحصل لهم هذا الشفيع أجاب أصحابنا عنه من وجوه الأول أنه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع وهذا لا يدل على نفي الشفيع ألا ترى أنك إذا قلت ما عندي كتاب يباع فهذا يقتضي نفي كتاب يباع ولا يقتضي نفي الكتاب وقالت العرب
ولا ترى الضب بها ينجحر
ولفط الطاعة يقتضي حصول المرتبة فهذا يدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله لأنه ليس في الوجود أحد أعلى حالاً من الله تعالى حتى يقال إن الله يطيعه الوجه الثاني في الجواب أن المراد من الظالمين ههنا الكفار والدليل عليه أن هذه الآية وردت في زجر الكفار الذين يجادلون في آيات الله فوجب أن يكون مختصاً بهم وعندنا أنه لا شفاعة في حق الكفار والثالث أن لفظ الظالمين إما أن يفيد الاستغراق وإما أن لا يفيد فإن أفاد الاستغراق كان المراد من الظالمين مجموعهم وجملتهم ويدخل في مجموع هذا الكلام الكفار وعندنا أنه ليس لهذا المجموع شفيع لأن بعض هذا المجموع هم الكفار وليس لهم شفيع فحينئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع وإن لم يفد الاستغراق كان المراد من الظالمين بعض من كان موصوفاً بهذه الصفة وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع وهم الكفار أجاب المستدلون عن السؤال الأول فقالوا يجب حمل كلام الله تعالى على محمل مفيد وكل أحد يعلم أنه ليس في الوجود شيء يطيعه الله لأن المطيع أدون حالاً من المطاع وليس في الوجود شيء أعلى مرتبة من الله تعالى حتى يقال إن الله يطيعه وإذا كان هذا المعنى معلوماً بالضرورة كان حمل الآية عليه إخراجاً لها عن الفائدة فوجب حمل الطاعة على الإجابة والذي يدل على ورود لفظ الطاعة بمعنى الإجابة قول الشاعر
رب من أنضجت غيظاً صدره
قد تمنى لي موتاً لم يطع أما السؤال الثاني فقد أجابوا عنه بأن لفظ الظالمين صيغة جمع دخل عليها حرف التعريف فيفيد العموم أقصى ما في الباب أن هذه الآية وردت لذم الكفار لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
أما السؤال الثالث فجوابه أن قوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ يفيد أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع يطاع فهذا تمام كلام القوم في تقرير ذلك الاستدلال
أجاب أصحابنا عن السؤال الأول فقالوا إن القوم كانوا يقولون في الأصنام إنها شفعاؤنا عند الله وكانوا يقولون إنها تشفع لنا عند الله من غير حاجة فيه إلى إذن الله ولهذا السبب رد الله تعالى عليهم ذلك بقوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) فهذا يدل على أن القوم اعتقدوا أنه يجب على الله إجابة الأصنام في تلك الشفاعة وهذا نوع طاعة فالله تعالى نفى تلك الطاعة بقوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ(27/45)
وأجابوا عن الكلام الثاني بأن قالوا الأصل في حرف التريف أن ينصرف إلى المعهود السابق فإذا دخل حرف التعريف على صيغة الجمع وكان هناك معهود سابق انصرف إليه وقد حصل في هذه الآية معهود سابق وهم الكفار الذين يجادلون في آيات الله فوجب أن ينصرف إليه وأجابوا عن الكلام الثالث بأن قالوا قوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يحتمل عموم السلب ويحتمل سلب العموم أما الأول فعلى تقدير أن يكون المعنى أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع وأما الثاني فعلى تقدير أن يكون المعنى أن مجموع الطالمين ليس لهم حميم ولا شفيع ولا يلزم من نفي الحكم عن المجموع نفيه عن كل واحد من آحاد ذلك المجموع والذي يؤكد ما ذكرناه قوله تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) فقوله إن الذين كفروا لا يؤمنون إن حملناه على أن كل واحد منهم محكوم عليه بأنه لا يؤمن لزم وقوع الخلف في كلام الله لأن كثيراً ممن كفر فقد آمن بعد ذلك أما لو حملناه على أن مجموع الذين كفروا لا يؤمنون سواء آمن بعضهم أو لم يؤمن صدق وتخلص عن الخلف فلا جرم حملنا هذه الآية على سلب العموم ولم نحملها على عموم السلب فكذا قوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يجب حمله على سلب العموم لا على عموم السلب وحينئذ استدلال المعتزلة بهذه الآية فهذا غاية الكلام في هذا الباب
المسألة الرابعة في بيان نظم الآية فنقول إنه تعالى ذكر في هذه الآية جميع الأسباب الموجبة للخوف فأولها أنه سمى ذلك اليوم يوم الآزفة أي يوم القرب من عذابه لمن ابتلي بالذنب العظيم لأنه إذا قرب زمان عقوبته كان في أقصى غايات الخوف حتى قيل إن تلك الغموم والهموم أعظم في الإيحاش من عين تلك العقوبة والثاني قوله إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ والمعنى أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن انقلع القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة والتصق بها وصار مانعاً من دخول النفس والثالث قوله كَاظِمِينَ والمعنى أنه لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يشرحوا ما عندهم من الحزن والخوف وذلك يوجب مزيد القلق والاضطراب الرابع قوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ فبين أنه ليس لهم قريب ينفعهم ولا شفيع يطاع فيهم فتقبل شفاعته والخامس قوله يَعْلَمُ خَائِنَة َ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ والمعنى أنه سبحانه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد كان خوف المذنب منه شديداً جداً قال صاحب ( الكشاف ) الخائنة صفة النظرة أو مصدر بمعنى الخائنة كالعافية المعاناة والمراد استراق النظر إلى ما لا يحلة كما يفعل أهل الريب والمراد بقوله وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ مضمرات القلوب والحاصل أن الأفعال قسمان أفعال الجوارح وأفعال القلوب أما أفعال الجوارح فأخفاها خائنة الأعين والله أعلم بها فكيف الحال في سائر الأعمال وأما أفعال القلوب فهي معلومة لله تعالى لقوله وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ فدل هذا على كونه تعالى عالماً بجميع أفعالهم السادس قوله تعالى وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقّ وهذا أيضاً يوجب عظم الخوف لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوالل وثبت منه أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل كان خوف المذنب منه في الغاية القصوى السابع أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام وقد بيّن الله تعالى أنه لا فائدة فيها ألبتة فقال وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَى ْء الثامن قوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ولا يسمع منهم ثناءهم على الله ويبصر خضوعهم وسجودهم لهم ولا يبصر خضوعهم(27/46)
وتواضعهم لله فهذه الأحوال الثمانية إذا اجتمعت في حق المذنب الذي عظم ذنبه كان بالغاً في التخويف إلى الحد الذي لا تعقل الزيادة عليه ثم إنه تعالى لما بالغ في تخويف الكفار بعذاب الآخرة أردفع ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ والمعنى أن العاقل من اعتبر بغيره فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من الكفار وأقوى آثاراً في الأرض منهم والمراد حصونهم وقصورهم وعساكرهم فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله بضروب الهلاك معجلاً حتى إن هؤلاء الحالضرين من الكفار يشاهدون تلك الآثار فحذرهم الله تعالى من مثل ذلك بهذا القول وبين بقوله وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ أنه لما نزل العذاب بهم عند أخذه تعالى لهم لم يجدوا من يعينهم ويخلصهم ثم بين أن ذلك نزل بهم لأجل أنهم كفروا وكذبوا الرسل فحذر قوم الرسوم من مثله وختم الكلام ب إِنَّهُ قَوِى ٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ مبالغة في التحذير والتخويف والله أعلم
وقرأ ابن عامر وحده كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مّنكُمْ بالكاف والباقون بالهاء أما وجه قراءة ابن عامر فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب كقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بعد قوله الحمدلله والولجه في حسن هذا الخطاب أنه في شأن أهل مكة فجعل الخطاب على لفظ المخاطب الحاضر لحضورهم وهذه الآية في المعنى كقوله قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ ( الأنعام 6 ) وأما قراءة الباقين على لفظ الغيبة فلأجل موافقة ما قبله من ألفاظ الغيبة
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَشرُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرض الْفَسَادَ وَقَالَ مُوسَى إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ
واعلم أنه تعالى لما سلى رسوله بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم سلاه أيضاً بذكر موسى عليه السلام وأنه مع قوة معجزاته بعثه إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوا وكابروه وقالوا هو ساحر كذاب
واعلم أن موسى عليه السلام لما جاءهم بتلك المعجزات الباهرة وبالنبوّة وهي المراد بقوله فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقّ مِنْ عِندِنَا حكى الله تعالى عنهم ما صدر عنهم من الجهالات فالأول أنهم وصفوه بكونه(27/47)
ساحراً كاذباً وهذا في غاية البعد لأن تلك المعجزات كانت قد بلغت في القوة والظهور إلى حيث يشهد كل ذي عقل سليم بأنه ليس من السحر ألبتة الثاني أنهم قالوا اقْتُلُواْ أَبْنَاء الَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَاءهُمْ والصحيح أن هذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه السلام لأن في ذلك الوقت أخبره المنجمون بولادة عدو له يظهر عليه فأمر بقتل الأولاد في ذلك الوقت وأما في هذا الوقت فموسى عليه السلام قد جاءه وأظهر المعجزات الظاهرة فعند هذا أمر بقتل أبناء الذين آمنوا معه لئلا ينشئوا على دين موسى فيقوى بهم وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات فلهذا السبب أمر بقتل الأبناء
ثم قال تعالى وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ ومعناه أن جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى ومكايدة من آمن معه يبطل لأن ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها النوع الثالث من قبائح أفعال أولئك الكفار مع موسى عليه السلام ما حكاه الله تعالى وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وهذا الكلام كالدلالة على أنهم كانوا يمنعونه من قتله وفيه احتمالان
والاحتمال الأول أنهم منعوه من قتله لوجوه الأول لعله كان فيهم من يعتقد بقلبه كون موسى صادقاً فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون من قتله الثاني قال الحسن أن أصحابه قالوا له لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا إنه كان محقاً وعجزوا عن جوابه فقتلوه الثالث لعلّهم كانوا يحتالون في منعه من قتله لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب أولئك الأقوام فإن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجي حتى يصيروا آمنين من شر ذلك الملك
والاحتمال الثاني أن أحداً ما منع فرعون من قتل موسى وأنه كان يريد أن يقتله إلا أنه كان خائفاً من أنه لو حاول قتله لظهرت معجزات قاهرة تمنعه عن قتله فيفتضح إلا أنه لوقاحته قال ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وغرضه منه أنه إنما امتنع عن قتله رعاية لقلوب أصحابه وغرضه منه إخفاء خوفه
أما قوله وَلْيَدْعُ رَبَّهُ فإنما ذكره على سبيل الاستهزاء يعني أني أقتله فليقل لربه حتى يخلصه مني
وأما قوله إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاْرْضِ الْفَسَادَ ففيه مسائل
المسألة الأولى فتح ابن كثير الياء من قوله ذَرُونِى وفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو الياء من إِنّى أَخَافُ وأيضاً قرأ نافع وابن عمرو وَإِن يَظْهَرُوا بالواو وبحذف أو يعني أنه يجمع بين تبديل الدين وبين إظهار المفاسد والذين قرأوا بصيغة أو فمعناه أنه لا بد من وقع أحد الأمرين وقرىء يظهر بضم الياء وكسر الهاء والفساد بالنصب على التعدية وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بلفظ أو يظهر بفتح الياء والهاء والفساد بالرفع أما وجه القراءة الأولى فهو أنه أسند الفعل إلى موسى في قوله يُبَدَّلُ فكذلك في يظهر ليكون الكلام على نسق واحد وأما وجه القراءة الثانية فهو أنه إذا بدل الدين فقد ظهر الفساد الحاصل بسبب ذلك التبديل
المسألة الثانية المقصود من هذا الكلام بيان السبب الموجب لقتله وهو أن وجوده يوجب إما فساد الدين أو فساد الدنيا أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو الذي كانوا عليه فلما كان(27/48)
موسى ساعياً في إفساده كان في اعتقادهم أنه ساع في إفساد الدين الحق وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سبباً لوقوع الخصومات وإثارة الفتن ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم لا جرم بدأ فرعون بذكر الدين فقال إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى يُحِبُّ الْفَسَادَ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذا الكلام حكى بعده ما ذكره موسى عليه السلام فحكى عنه أنه قال إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي عذت بإدغام الذال في التاء والباقون بالإظهار
المسألة الثانية المعنى أنه لم يأتِ في دفع شره إلا بأن استعاذ بالله واعتمد على فضل الله لا جرم صانه الله عن كل بلية وأوصله إلى كل أمنية وعلم أن هذه الكلمات التي ذكرها موسى عليه السلام تشتمل على فوائد
الفائدة الأولى أن لفظة إِنّى تدل على التأكيد فهذا يدلل على أن الطريق المؤكد المعتبر في دفع الشرور والآفات عن النفس الاعتماد على الله والتوكل على عصمة الله تعالى
الفائدة الثانية أنه قال إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ فكما أن عند القراءة يقول المسلم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن فكذلك عند توجه الآفات والمخافات من شياطين الإنس إذا قال المسلم أعوذ بالله فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات
الفائدة الثالثة قوله بِرَبّى وَرَبّكُمْ والمعنى كأن العبد يقول إن الله سبحانه هو الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني ومن الآفات وقاني وأعطاني نعماً لا حد لها ولا حصر فلما كان المولى ليس إلا الله وجب أن لا يرجع العاقل في دفع كل الآفات إلا إلى حفظ الله تعالى
الفائدة الرابعة أن قوله وَرَبّكُمْ فيه بعث لقوم موسى عليه السلام على أن يقتدوا به في الاستعاذة باالله والمعنى فيه أن الأرواح الطاهرة القوية إذا تطابقت على همة واحدة قوي ذلك التأثير جداً وذلك هو السبب الأصلي في أداء الصلوات في الجماعات
الفائدة الخامسة أنه لم يذكر فرعون في هذا الدعاء لأنه كان قد سبق له حق تربية على موسى من بعض الوجوه فترك التعيين رعاية لذلك الحق
الفائدة السادسة أن فرعون وإن كان أظهر ذلك الفعل إلا أنه لا فائدة في الدعاء على فرعون بعينه بل الأولى الاستعاذة بالله في دفع كل من كان موصوفاً بتلك الصفة حتى يدخل فيه كل من كان عدواً سواء كان مظهراً لتلك العداوة أو كان مخفياً لها
الفائدة السابعة أن الموجب للاقدام على إيذاء الناس أمران أحدهما كون الإنسان متكبراً قاسي القلب والثاني كونه منكراً للبعث والقيامة وذلك لأن التكبر القاسي قد يحمله طبعه على إيذاء الناس إلا أنه إذا كان مقراً بالعبث والحساب صار خوفه من الحساب مانعاً له من الجري على موجب تكبره فإذا لم يحصل عنده الإيمان بالعبث والقيامة كانت الطبيعة داعية له إلى الإيذاء والمانع وهو الخوف من السؤال(27/49)
والحساب زائلاً وإذا كان الخوف من السؤال والحساب زائلاً فلا جرم تحصل القسوة والإيذاء
الفائدة الثامنة أن فرعون لما قال ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى قال على سبيل الاستهزاء خَشِى َ رَبَّهُ فقال موسى ن الذي ذكرته يا فرعون بطريق الاستهزاء هو الدين المبين والحق المنير وأنا أدعو ربي وأطلب منه أن يدفع شرك عني وسترى أن ربي كيف يقهرك وكيف يسلطني عليك
واعلم أن من أحاط عقله بهذه الفوائد علم أنه لا طريق أصلح ولا أصوب في دفع كيد الأعداء وإبطال مكرهم إلا الاستعاذة بالله والرجوع إلى حفظ الله والله أعلم
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّى َ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله بيّن أنه تعالى قيض إنساناً أجنبياً غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه وبالغ في تسكين تلك الفتنة واجتهد في إزالة ذلك الشر
يقول منصف هذا الكتاب رحمه الله ولقد جربت في أحوال نفسي أنه كلما قصدني شرير بشر ولم أتعرض له وأكتفي بتفويض ذلك الأمر إلى الله فإنه سبحانه يقيض أقواماً لا أعرفهم ألبتة يبالغون في دفع ذلك الشر وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في ذلك الرجل الذي كان من آل فرعون فقيل إنه كان ابن عم لله وكان جارياً مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة وقيل كان قبطياً من آل فرعون وما كان من أقاربه وقيل إنه كان من بني إسرائيل والقول الأول أقرب لأن لفظ الآل يقع على القرابة والعشيرة قال تعالى إِلاَّ الَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ( القمر 34 ) وعن رسول الله أنه قال ( الصديقون ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين ومؤمن آل فرعون الذي قال أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّى َ اللَّهُ والثالث علي بن أبي طالب وهو أفضلهم ) وعن جعفر بن محمد أنه قال كان أبو بكر خيراً من مؤمن آل فرعون لأنه كان يكتم إيمانه وقال أبو بكر جهاراً أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّى َ اللَّهُ فكان ذلك سراً وهذا كان جهاراً
المسألة الثانية لفظ من في قوله مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يجوز أن يكون متعلقاً بقوله مُؤْمِنٍ أي كان ذلك المؤمن شخصاً من آل فرعون ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله يَكْتُمُ إِيمَانَهُ والتقدير رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون وقيل إن هذا الاحتمال غير جائز لأنه يقال كتمت من فلان كذا إنما يقال كتمته كذا قال تعالى وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ( النساء 42 )(27/50)
المسألة الثالثة رجل مؤمن الأكثرون قرأوا بضم الجيم وقرىء رجل بكسر الجيم كما يقال عضد في عضد
المسألة الرابعة قوله تعالى أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّى َ اللَّهُ استفهام على سبيل الإنكار وقد ذكر في هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الاستنكار وذلك لأنه ما زاد على أن قال رَبّى َ اللَّهُ وجاء بالبينات وذلك لا يوجب القتل ألبتة وقوله وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رَّبّكُمْ يحتمل وجهين الأول أن قوله رَبّى َ اللَّهُ إشارة إلى التوحيد وقوله وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ إشارة إلى الدلائل الدالة على التوحيد وهو قوله في سورة طه رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى وقوله في سورة اللشعراء رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ إلى آخر الآيات ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية في أن الإقدام على قتله غير جائز وهي حجة مذكورة على طريقة التقسيم فقال إن كان هذا الرجل كاذباً كان وبال كذبه عائداً علليه فاتركوه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم فثبت أن على كلا التقديرين كان الأولى إبقاؤه حياً
فإن قيل السؤال على هذا الدليل من وجهين الأول أن قوله وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ معناه أن ضرر كذبه مقصور عليه ولا يتعداه وهذا الكلام فاسد لوجوه أحدها أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذباً كان صضلالا كذبه مقصوراً عليه لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل فيغتر به جماعة منهم ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد الفاسد ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصومات الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذباً لم يمكن ضرر كذبه مقصوراً عليه بل كان متعدياً إلى الكل ولهذا السبب العلماء أجمعوا على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى زندقته يجب قتله وثانيها أنه إن كان الكلام حجة له فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة فوجب تمكن جميع الزنادقة والمبطلين من تقرير أديانهم الباطلة وثالثها أن الكفار الذين أنكروا نبوّة موسى عليه السلام وجب أن لا يجوز الإنكار عليهم لأنه يقال إن كان ذلك المنكر كاذباً في ذلك الإنكار فعليه كذبه وإن يك صادقاً انتفعتم بصدقه فثبت أن هذا الطريق يوجب تصويب ضده وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلاً
السؤال الثاني أنه كان من الواجب أن يقال وإن يك صادقاً يصبكم كل الذي يعدكم لأن الذي يصيب في بعض ما يعد دون البعض هم أصحاب الكهانة والنجوم أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقاً في كل ما يقول فكان قوله يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ غير لائق بهذا المقام والجواب عن الأسئلة الثلاثة بحرف واحد وهو أن تقدير الكلام أن يقال إنه لا حاجة بكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه عن إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذباً فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه وإن يك صادقاً انتفعتم به والحاصل أن المقصود من ذكر ذلك التقسيم بيان أنه لا حاجة إلى قتله بل يكفيكم أن تعرضوا عنه وأن تمنعوه عن إظهار دينه فبهذا الطريق ( تكون ) الأسئلة الثلاثة مدفوعة
وأما السؤال الثاني وهو قوله كان الأولى أن يقال يصبكم كل الذي يعدكم فالجواب عنه من وجوه الأول أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللجاج لأن المقصود منه إن كان كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه وإن كان صادقاً فلا أقل من أن يصل إليكم بعض ما يعدكم وإن كان المقصود من هذا(27/51)
الكلام ما ذكر صح ونظيره قولله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( سبأ 24 ) والوجه الثاني أنه عليه السلام كان يتوعدهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصابهم بعض الذي يعدهم به الوجه الثالث حُكي عن أبي عبيدة أنه قال ورود لفظ البعض بمعنى الكل جائز واحتج بقول لبيد
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يرتبط بعض النفوس حمامها والجمهور على أن هذا القول خطأ قالوا وأراد لبيد ببعض النفوس نفسه والله أعلم
ثم حكى الله تعالى عن هذا المؤمن حكاية ثالثة في أنه لا يجوز إيذاء موسى عليه السلام فقال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ وتقرير هذا الدليل أن يقال إن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بهذه المعجزات الباهرة ومن هداه الله إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذاباً فهذا يدل على أن موسى عليه السلام ليس من الكاذبين فكان قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ إشارة إلى علو شأن موسى عليه السلام على طريق الرمز والتعريض ويحتمل أيضاً أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمة على قتل موسى كذاب في إقدامه على ادعاء الإلاهية والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يبطله ويهدم أمره
ياقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الأرض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ ياقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الاٌّ حْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ وَياقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
اعلم أن مؤمن آل فرعون لما أقام أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على قتل موسى خوفهم في ذلك بعذاب الله فقال كَذَّابٌ ياقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الاْرْضِ يعني قد علوتم الناس وقهرتموهم فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه فإنه لا قبل لكم به وإنما قال يَنصُرُنَا و جَاءنَا لأنه كان يظهر من نفسه أنه منهم وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه ولما قال ذلك المؤمن هذا الكلام قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى أي لا أشير إليكم برأي سوى ما ذكرته أنه يجب قتله حسما(27/52)
لمادة الفتنة وَمَا أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ والصلاح ثم حكى تعالى أن ذلك المؤمن رد هذا الكلام على فرعون فقال إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاْحْزَابِ
وأعلم أنه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنه كان يكتم إيمانه والذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون ولهذا السبب حصل ههنا قولان الأول أن فرعون لما قال ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى ( غافر 26 ) لم يصرح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي ترك قتل موسى لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله والإتيان بالمعجزات القاهرة وهذا لا يوجب القتل والإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بأقبح الكلمات بل الأولى أن يؤخر قتله وأن يمنع من إظهار دينه لأن على هذا التقدير إن كان كاذباً كان وبال كذبه عائداً إليه وإن كان صادقاً حصل الانتفاع به من بعض الوجوه ثم أكد ذلك بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( غافر 28 ) يعني أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب فأوهم فرعون أنه أراد بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أنه يريد موسى وهو إنما كان يقصد به فرعون ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق
واعلم أنه تعالى حكى عن هذا المؤمن أنواعاً من الكلمات ذكرها لفرعون الأول قوله ءامَنَ ياقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاْحْزَابِ والتقدير مثل أيام الأحزاب إلا أنه لما أضاف اليوم إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد ثمود فحينئذٍ ظهر أن كل حزب كان له يوم معين في البلاء فاقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس ثم فسّر قوله إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاْحْزَابِ بقوله مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ودأب هؤلاء دونهم في عملهم من الكفار والتكذيب وسائر المعاصي فيكون ذلك دائباً ودائماً لا يفترون عنه ولا بد من حذف مضاف يريد مثل جزاء دأبهم والحاصل أنه خوفهم بهلاك معجل في الدنيا ثم خوفهم أيضاً بهلاك الآخرة وهو قوله وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ والمقصود منه التنبيه على عذاب الآخرة
والنوع الثاني من كلمات ذلك المؤمن قوله تعالى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ يعني أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلاً لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء فتلك الجملة قائمة ههنا فوجب حصول الحكم ههنا قالت المعتزلة وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ يدل على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضاً ويدل على أنه لا يريد ظلم أحد من العباد فلو خلق الكفر فيهم ثم عذبهم على ذلك الكفر لكان ظالماً وإذا ثبت أنه لا يريد الظلم ألبتة ثبت أنه غير خالق لأفعال العباد لأنه لو خلقها لأرادها وثبت أيضاً أنه قادر على الظلم إذ لو لم يقدر عليه لما حصل المدح بترك الظلم وهذا الاستدلال قد ذكرناه مراراً في هذا الكتاب مع الجواب فلا فائدة في الإعادة
النوع الثالث من كلمات هذا المؤمن قوله لّلْعِبَادِ وَياقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ وفيه مسائل
المسألة الأولى التنادي تفاعل من النداء يقال تنادي القوم أي نادى بعضهم بعضاً والأصل الياء وحذف الياء حسن في الفواصل وذكرنا ذلك في يَوْمَ التَّلاَقِ ( غافر 15 ) وأجمع المفسرون على أن يَوْمَ التَّنَادِ يوم(27/53)
القيامة وفي سبب تسمية ذلك اليوم بذلك الاسم وجوه الأول أن أهل النار ينادون أهل الجنة وأهل الجنة ينادون أهل النار كما ذكر الله عنهم في سورة الأعراف وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ ( الاعراف 50 ) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ ( الاعراف 44 ) الثاني قال الزجاج لا يبعد أن يكون السبب فيه قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ( الإسرار 71 ) الثالث أنه ينادي بعض الظالمين بعضاً بالويل والبثور فيقولون ويا ويلنا ( الأنبياء 14 ) الرابع ينادون إلى المحشر أي يدعون الخامس ينادي المؤمن هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( الحاقة 19 ) والكافر فَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ( الحاقة 25 ) السادس ينادى باللعنة على الظالمين السابع يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح وينادى يا أهل القيامة لا موت فيزداد أه لالجنة فرحاً على فرحهم وأهل النار حزناً على حزنهم الثامن قال ( أبو علي الفارسي التنادي مشتق من التناد من قولهم ند فلان إذا هرب وهو قراءة ابن عباس وفسرها فقال يندون كما تند الإبل ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ ( عبس 34 ) الآية وقوله تعالى بعد هذه الآية يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ لأنهم إذا سمعوا زفير النار يندون هاربين فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفاً فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه
المسألة الثانية انتصب قوله يَوْمَ التَّنَادِ لوجهين أحدهما الظرف للخوف كأنه خاف عليهم في ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب إن لم يؤمنوا والآخر أن يكون التقدير إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد وإذا كان كذلك كان انتصاب يوم انتصاب المعفول به لا انتصاب الظرف لأن إعرابه إعراب المضاف المحذوف ثم قال يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ وهو بدل من قوله يَوْمَ التَّنَادِ عن قتادة منصرفين عن موقف يوم الحساب إلى النار وعن مجاهد فارين عنالنار غير معجزين ثم أكد التهديد فقال مَا لَكُمْ مّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ
واعلم أن مؤمن آل فرعون لما قال وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( غافر 33 ) ذكر لهذا مثلاً وهو أن يوسف لما جاءهم بالبينات الباهرة فأصروا على الشك والشبهة ولم ينتفعوا بتلك الدلائل وهذا يدل على أن من أضله الله فما له من هاد وفي الآية مسائل(27/54)
المسألة الأولى قيل إن يوسف هذا هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام ونقل صاحب ( الكشاف ) يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نيفاً وعشرين سنة وقيل إن فرعون موسى هو فرعون يوسف بقي حياً إلى زمانه وقيل فرعون آخر والمقصود من الكل شيء واحد وهو أن يوف جاء قومه بالبينات وفي المراد بها قولان الأول أن المراد بالبينات قوله مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا ( يوسف 39 ) والثاني المراد بها المعجزات وهذا أولى ثم إنهم بقوا في نبوته شاكين مرتابين ولمي ينتفعوا ألبتة بتلك البينات فلما مات قالوا إنه لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً وءنما حكموا بهذا الحكم على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ور برهان بل إنما ذكروا ذلك ليكون ذلك أساساً لهم في تكذيب الأنبياء الذين يأتون بعد ذلك وليس في قولهم وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً لأجل تصديق رسالة يوسف وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها وإنما هو تكذيب لرسالة من هو بعده مضموماً إلى تكذيب رسالته ثم قال كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ أي مثل هذا الضلال يضل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه قال الكعبي هذه الآية حجة لأهل القدر لأنه تعالى بين كفرهم ثم بين أنه تعالى إنما أضلهم لكونهم مسرفين مرتابين فثبت أن العبد ما لم يضل عن الدين فإن الله تعالى لا يضله
ثم بيّن تعالى ما لأجله بقوا في ذلك الشك والإسراف فقال الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أي بغير حجة بل إما بناء على التقليد المجرد وإما بناء على شبهات خسيسة كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ والمقت هو أن يبلغ المرء في القوم مبلغاً عظيماً فيمقته الله ويبغضه ويظهر خزيه وتعسه
وفيه مسائل
المسألة الأولى في ذمة لهم بأنهم يجادلون بغير سلطان دلالة على أن الجدال بالاحجة حسن وحق وفيه إبطال للتقليد
المسألة الثانية قال القاضي مقت الله أياهم يدل على أن فعلهم ليس بخلق الله لأن كونه فاعلاً للفعل وماقتاً له محال
المسألة الثالثة الآية تدل على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه قد يمقت بعض عباده إلا أن ذلك صفة واجبة التأويل في حق الله كالغضب والحياء والتعجب والله أعلم ثم بيّن أن هذا المقت كما حصل عند الله فكذلك قد حصل عند الذين آمنوا
ثم قال كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وأبو عمرون وفتيبة عن الكسائي قَلْبٌ منوناً مُتَكَبّرٍ صفة للقلب والباقون بغير تنوين على إضافة القلب إلى المتكبر قال أبو عبيد الاختيار الإضافة لوجوه الأول أن عبد الله قرأ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ وهو شاهد لهذه القراءة الثاني أن وصف الإنسان بالتكبر والجبروت أولى من وصف القلب بهما وأما الذين قرأوا بالتنوين فقالوا إن الكبر قد أضيف إلى القلب في قوله إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ( غافر 56 ) وقال تعالى وَإِن كُنتُمْ عَلَى ( البقرة 283 ) وأيضاً فيمكن أن يكون ذلك على حذف المضاف أي على كل ذي قلب متكبر وأيضاً قال قوم الإنسان الحقيقي هو القلب وهذا البحث طويل وقد ذكرناه في تفسير(27/55)
قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الاشعراء 193 194 ) قالوا ومن أضاف فلا بد له من تقدير حذف والتقدير يطبع الله على قلب كل متكبر
المسألة الثانية الكلام في الطبع والرين والقسوة والغشاوة قد سبق في هذا الكتاب بالاستقصاء وأصحابنا يقولون قوله كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ يدل على أن الاكل من الله والمعزلة يقولون إن قوله وَكَذالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ يدل على أن هذا الطبع إنما حصل من الله لأنه كان في نفسه متكبراً جباراً وعند هذا تصير الآية حجة لكل واحد من هذين الفريقين من وجه وعليه من وجه رخر والاقول الذي يخرج عليه الوجهان ما ذهبنا إليه وهو أنه تعالى يخلق دواعي الكبر والرياسة في القلب فتصير تلك الدواعي مانعة من حصول ما يدعون إلى الطاعة والانقياد لأمر الله فيكون القول بالقضاء والقدر حياً ويكون تعليل الصد عن الدين بكونه متجبراً متكبراً باقياً فثبت أن هذا المذهب الذي اخترناه في القضاء والقدر هو الذي ينطبق لفظ القرآن من أوله إلى آخره عليه
المسألة الثالثة لا بد من بيان الفرق بين المتكبر والجبار قال مقابل مُتَكَبّرٍ عن قبول التوحيد جَبَّارٍ في غير حق وأقول كما السعادة في غير خق وأقول كمال السعادة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فعلى قول مقاتل التكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله والجبروت كالمضاد للشفقة على خلق الله والله أعلم
وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلِّى أَبْلُغُ الاٌّ سْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنِّى لاّظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُو ءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ
اعلم أنه تعالى لما وصف فرعون بكونه متكبراً جباراً بين أنه أبلغ في البلادة والحماقة إلى أن قصد الصعود إلى السموات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج الجمع الكثير من المشبها بهذه الآية في إثبات أن الله في السموات وقرروا ذلك من وجوه الأول أن فرعون كان من المنكرين لوجود الله وكل ما يذكره في صفات الله تعالى فذلك إنما يذكره لأجل أنه سمع أن موسى يصف الله بذلك فهو أيضاً يذكره كما سمعه فلولا أنه سمع موسى يصف الله بأنه موجود في السماء وإلا لما طلبه في السماء الوجه الثاني أنه قال وإني لأظنه كاذباً ولم يبين أنه كاذب فيماذا والمذكور السابق متعين لصرف الكلام إليه فكأن التقدير فأطلع إلى الإله الذي يزعم موسى أنه موجود في السماء ثم قال وَإِنّى لاَظُنُّهُ كَاذِباً أي وإني لأظن موسى كاذباً في إدعائه أن الإله موجود في السماء وذلك يدل على أن دين موسى هو أن الإله موجود في السماء الوجه الثالث العلم بأنه لو وجد إله لكان موجوداً في السماء علم يديهي متقرر في كل العقول ولذلك فإن الصبيان إذا تضرعوا إلى الله رفعوا(27/56)
وجوههم وأيديهم إلى السماء وإن فرعون مع نهاية كفره لما طلب الإله فقد طلبه في السماء وهذا يدل على أن العلم بأن الإله موجود في السماء علم متقرر في عقل الصديق والزنديق والملحد والموحد والعالم والجاهل
فهذا جملة استدلالات المشبهة بهذه الآية والجواب أن هؤلاء الجهال يكفيهم في كمال الخزي والضلال أن جعلوا قول فرعون اللعين حجة لهم على صحة دينهم وأما موسى عليه السلام فإنه لم يزد في تعريف إله العالم على ذكر صفة الخلاقية فقال في سورة طه رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( طه 50 ) وقال في سورة الشعراء رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ( الشعراء 26 28 ) فظهر أن تعريف ذات الله بكونه في السماء دين فرعون وتعريفه بالخلاقية والموجودية دين موسى فمن قال بالأول كان على دين فرعون ومن قال بالثاني كان على دين موسى ثم نقول لا نسلم أن كل ما يقوله فرعون في صفات الله تعالى فذلك قد سمعه من موسى عليه السلام بل لعله كان على دين المشبهة فكان يعتقد أن الإله لو كان موجوداً لكان حاصلاً في السماء فهو إنما ذكر هذا الاعتقاد من قبل نفسه لا لأجل أنه قد سمعه من موسى عليه السلام
وأما قوله وَإِنّى لاَظُنُّهُ كَاذِباً فنقول لعله لما سمع موسى عليه السلام قال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ظن أنه عنى أنه رب السموات كما يقال للواحد منا إنه رب الدار بمعنى كونه ساكناً فيه فلما غلب على ظنه ذلك حكى عنه وهذا ليس بمستبعد فإن فرعون كان بلغ في الجهل والحماقة إلى حيث لا يبعد نسبة هذا الخيال إليه فإن استبعد الخصم نسبة هذا الخيال إليه كان ذلك لائقاً بهم لأنهم لما كانوا على دين فرعون وجب عليهم تعظيمه وأما قوله إن فطرة فرعون شهدت بأن الإله لو كان موجوداً لكان في السماء قلنا نحن لا ننكر أن فطرة أكثر الناس تخيل إليهم صحة ذلك لا سيما من بلغ في الحماقة إلى درجة فرعون فثبت أن هذا الكلام ساقط
المسألة الثانية اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السماء أم لا أما الظاهريون من المفسرين فقد قطعوا بذلك وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء ذلك الصرح والذي عندي أنه بعيد والدليل عليه أن يقال فرعون لا يخلو إما أن يقال إنه كان من المجانين أو كان من العقلاء فإن قلنا إنه كان من المجانين لم يجز من الله تعالى إرسال الرسول إليه لأن العقل شرط في التكليف ولم يجز من الله أن يذكر حكاية كلام مجنون في القرآن وإما إن قلنا إنه كان من العقلاء فنقول إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالي ويعلم أيضاً ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر حال السماء بين أن ينظر إليه من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليه من أعلى الجبال وإذا كان هذا العلمان بديهيين امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء وإذا كان فساد هذا معلوماً بالضرورة امتنع إسناده إلى فرعون والذي عندي في تفسير هذه الآية أن فرعون كان من الدهرية وغرضه من ذكر هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال إنا لا نلاى شيئاً نحكم عليه بأنه إله العالم فلم يجز إثبات هذا الإله أما إنه لا نراه فلأنه لو كان موجوداً لكان في السماء ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السموات فكيف يمكننا أن نراه ثم إنه لأجل المبالغة في بيان أنه لا يمكنه صعود السموات قَالَ يَاءادَمُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله(27/57)
بطريق الحس ممتنعاً ونظيره قوله تعالى فَانٍ الْمُرْسَلِينَ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى ( الأنعام 35 ) وليس المراد منه أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) طلب نفقاً في الأرض أو وضع سلماً إلى السماء بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيبل لك إلى تحصيل ذلك المقصود فكذا ههنا غرض فرعون من قوله فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً يعني أن الاطلاع على إله موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق وكان هذا الطريق ممتنعاً فحينئذٍ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى فنقول هذا ما حصلته في هذا الباب
واعلم أن هذه الشبهة فاسدة لأن طرق العلم ثلاثة الحس والخبر والنظر ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحس انتفاء المطلوب وذلك لأن موسى عليه السلام كان قد بيّن لفرعون أن الطريق في معرفة الله تعالى إنما هو الحجة والدليل كما قال رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( الشعراء 26 28 ) إلا أن فرعون لخبثه ومكره تغافل عن ذلك الدليل وألقى إلى الجهال أنه لما كان لا طريق إلا الإحساس بهذا الإله وجب نفيه فهذا ما عندي في هذا الباب وبالله التوفيق والعصمة
المسألة الثالثة ذهب قوم إلى أنه تعالى خلق جواهر الأفلاك وحركاتها بحيث تكون هي الأسباب لحدوث الحوادث في هذا العالم الأسفل واحتجوا بقوله تعالى لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ومعلوم أنها ليست أسباباً إلا لحوادث هذا العالم قالوا ويؤكد هذا بقوله تعالى في سورة ص فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاْسْبَابُ ( ص 10 ) أما المفسرون فقد ذكروا في تفسير قوله تعالى لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ أن المراد بأسباب السموات طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب كالرشاد ونحوه
المسألة الرابعة قالت اليهود أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون أن هامان ما كان موجوداً ألبتة في زمان موسى وفرعون وإنما جاء بعدهما بزمان مديد ودهر داهر فالقول بأن هامان كان موجوداً في زمان فرعون خطأ في التاريخ وليس لقائل أن يقول إن وجود شخص يسمى بهامان بعد زمان فرعون لا يمنع من وجود شخص آخر يسمى بهذا الإسم في زمانه قالوا لأن هذا الشخص المسمى بهامان الذي كان موجوداً في زمان فرعون ما كان شخصاً خسيساً في حضرة فرعون بل كان كالوزير له ومثل هذا الشخص لا يكون مجهول الوصف والحلية فلو كان موجوداً لعرف حاله وحيث أطبق الباحثون عن أحوال فرعون وموسى أن الشخص المسمى بهامان ما كان موجوداً في زمان فرعون وإنما جاء بعده بأدوار علم أن غلط وقع في التواريخ قالوا ونظير هذا أنا نعرف في دين الإسلام أن أبا حنيفة إنما جاء بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلو أن قائلاً أدعى أن أبا حنيفة كان موجوداً في زمان محمد عليه السلام وزعم أنه شخص آخر سوى الأول وهو يسمى بأبي حنيفة فإن أصحاب التواريخ يقطعون بخطئه فكذا ههنا والجواب أن تواريخ موسى وفرعون قد طال العهد بها واضطربت الأحوال والأدوار فلم يبق على كلام أهل التواريخ اعتماد في هذا الباب فكان الأخذ بقول الله تعالى أولى بخلاف حال رسولنا مع أبي حنيفة فإن هذه التواريخ قريبة غير مضطربة بل هي مضبوطة فظهر الفرق بين البابين فهذا جملة ما يتعلق بالمباحث المعنوية في هذه الآية وبقي ما يتعلق بالمباحث اللفظية
قيل الصرح البناء الظاهر لا يخفى على الناظر وإن بعد اشتقوه من صرح الشيء إذ ظهر و أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ طرقها فإن قيل ما فائدة هذا التكرير لو قيل لعلي أبلغ الأسباب السموات كان(27/58)
كافياً أجاب صاحب ( الكشاف ) عنه فقال إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه فلما أراد تفخيم أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها وقوله فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى قرأ حفص عن عاصم فَأَطَّلِعَ بفتح العين والباقون بالرفع قال المبرد من رفع فقد عطفه على قوله أِلغ والتقدير لعلي أبلغ الأسباب ثم أطلع إلا أن حرف ثم أشد تراخياً من الفاء ومن نصب جعله جواباً والمعنى لعلي أبلغ الأسباب فمتى بلغتها أطلع والمعنى مختلف لأن الأول لعلي أطلع والثاني لعلي أبلغ وأنا ضامر أني متى بلغت فلا بد وأن أطلع
واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذه القصة قال بعدها كَاذِباً وَكَذالِكَ زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي وَصُدَّ بضم الصاد قال إبو عبيدة وبه يقرأ لأن ما قبله فعل مبني للمفعول به فجعل ما عطف عليه مثله والباقون وَصُدَّ بفتح الصاد على أنه منع الناس عن الإيمان قالوا ومن صده قوله لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ( الأعراف 124 ) ويؤيد هذه القراءة قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 167 ) وقوله هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الفتح 25 )
المسألة الثانية قوله تعالى زُيّنَ لا بد له من المزين فقالت المعتزلة إنه الشيطان فقيل لهم إن كان المزين لفرعون هو الشيطان فالمزين للشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم إثبات التسلسل في الشياطين أو الدور وهو محال ولما بطل ذلك وجب انتهاء الأسباب والمسببات في درجات الحاجات إلى واجب الوجود وأيضاً فقوله زُيّنَ يدل على أن الشيء إن لم يكن في اعتقاد الفاعل موصوفاً بأنه خير وزينة وحسن فإنه لا يقدم عليه إلا أن ذلك الاعتقاد إن كان صواباً فهو العلم وإن كان خطأ فهو الجهل ففاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان لأن العاقل لا يقصد تحصيل الجهل لنفسه ولأنه إنما يقصد تحصيل الجهل لنفسه إذا عرف كونه جهلاً ومتى عرف كونه جهلاً امتنع بقاؤه جاهلاً فثبت أن فاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان ولا يجوز أن يكون فاعله هو الشيطان لأن البحث الأول بعينه عائد فيه فلم يبق إلا أن يكون فاعله هو الله تعالى والله أعلم ويقوي ما قلناه أن صاحب ( الكشاف ) نقل أنه قرىء وَزَيَّنَ لَهُمُ سُوء عَمَلِهِ على البناء للفاعل والفعل لله عزّ وجلّ ويدل عليه قوله إِلَى إِلَاهِ مُوسَى
ثم قال تعالى وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ والتباب الهلاك والخسران ونظيره قوله تعالى وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ( هود 101 ) وقوله تعالى تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ( المسد 1 ) والله أعلم(27/59)
وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ ياقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ياقَوْمِ إِنَّمَا هَاذِهِ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الاٌّ خِرَة َ هِى َ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَة ً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَياقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواة ِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِى لاّكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة ٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاٌّ خِرَة ِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
اعلم أن هذا من بقية كلام الذي آمن من آل فرعون وقد كان يدعوهم إلى الإيمان بموسى والتمسك بطريقته واعلم أنه نادى في قومه ثلاث مرات في المرة الأولى دعاهم إلى قبول ذلك الدين على سبيل الإجمال وفي المرتين الباقيتين على سبيل التفصيل
أما الإجمال فهو قوله ءامَنَ ياقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ وليس المراد بقوله اتَّبِعُونِ طريقة التقليد لأنه قال بعده أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ والهدى هو الدلالة ومن بين الأدلة للغير يوصف بأنه هداه وسبيل الرشاد هو سبيل الثواب والخير وما يؤدي إليه لأن الرشاد نقيض الغي وفيه تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي
وأما التفصيل فهو أنه بين حقارة حال الدينا وكمال حال الآخرة أما حقارة الدنيا فهي قوله سَبِيلَ الرَّشَادِ ياقَوْمِ إِنَّمَا هَاذِهِ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا والمعنى أنه يستمتع بهذه الحياة الدنيا في أيام قليلة ثم تنقطع وتزول وأما الآخرة فهي دار القرار والبقاء والدوام وحاصل الكلام أن الآخرة باقية دائمة والدنيا منقضية منقرضة والدائم خير من المنقضي وقال بعض العارفين لو كانت الدينا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان والآخرة ذهب باق
واعلم أن الآخرة كما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب فيها دائم وإن الترغيب في النعيم الدائم والترهيب عن العذاب الدائم من أقوى وجوه الترغيب والترهيب ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة وأشار فيه إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب فقال مَنْ عَمِلَ سَيّئَة ً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا والمراد بالمثل ما يقابلها في الاستحقاق فإن قيل كيف يصح هذا الكلام مع أن كفر ساعة يوجب عقاب الأبد قلنا إن الكافر يعتقد في كفره كونه طاعة وإيماناً فلهذا السبب يكون الكافر على عزم أن يبقى مصراً على ذلك الاعتقاد أبداً فلا جرم كان عقابه مؤبداً بخلاف الفاسق فإنه يعتقد فيه كونه خيانة ومعصية فيكون على عزم(27/60)
أن لا يبقى مصراً عليه فلا جرم قلنا أن عقاب الفاسق منقطع أما الذي يقوله المعتزلة من أن عقابه مؤبد فهو باطل لأن مدة تلك المعصية منقطعة والعزم على الإتيان بها أيضاً ليس دائماً بل منقطعاً فمقابلته بعقاب دائم يكون على خلاف قوله مَنْ عَمِلَ سَيّئَة ً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا واعلم أن هذه الآية أصل كبير في علوم الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات فإآنها تقتضي أن يكون المثل مشروعاً وأن يكون الزائد على المثل غير مشروع ثم نقول ليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرة في أي الأمور فلو حملناه على رعاية المماثلة في شيء معين مع أن ذلك المعين غير مذكور في الآية صارت الآية مجملة ولو حملناه على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عاماً مخصوصاً وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال وبين التخصيص كان دفع الإجمال أولى فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا في مواضع التخصيص وإذا ثبت هذا فالأحكام الكثيرة في باب الجنايات على النفوس وعلى الأعضاء وعلى الأموال يمكن تفريعها على هذه الآية
ثم نقول إنه تعالى لما بيّن أن جزاء السيئة مقصور على المثل بين أن جزاء الحسنة غير مقصور على المثل بل هو خارج عن الحساب فقال وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ واحتج أصحابنا بهذه الآية فقالوا قوله وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فجرى مجرى أن يقال من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا فإنه يدخل فيه كل من أتى بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة فكذلك ههنا وجب أن يقال كل من عمل صالحاً واحداً من الصالحات فإنه يدخل الجنة ويرزق فيها بغير حساب والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الصالحات وبأحسن الطاعات فوجب أن يدخل الجنة والخصم يقول إنه يبقى مخلداً في النار أبد الآباد فكان ذلك على خلاف هذا النص الصريح قالت المعتزلة إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمناً وصاحب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن فلا يدخل في هذا الوعد والجواب أنا بينا في أول سورة البقرة في تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) أن صاحب الكبيرة مؤمن فسقط هذا الكلام واختلفوا في تفسير قوله يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ فمنهم من قال لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل بغير حساب وقال الآخرون لأنه تعالى يعطيهم ثواب أعمالهم ويضم إلى ذلك الثواب من أقسام التفضل ما يخرج عن الحساب وقوله بِغَيْرِ حِسَابٍ واقع في مقابلة إِلاَّ مِثْلَهَا يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير لئلا يزيد على الاستحقاق فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة وأقول هذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجح على جانب القهر والعقاب فإذا عارضنا عمومات الوعد بعمومات الوعيد وجب أن يكون الترجيح بجانب عمومات الوعد وذلك يهدم قواعد المعتزلة ثم استأنف ذلك المؤمن ونادى في المرة الثالثة وقال فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَياقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواة ِ يعني أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة وتدعونني إلى الكفر الذي يوجب النار فإن قيل لم كرر نداء قومه ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني قلنا أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ من سنة الغفلة وإظهار أن له بهذا(27/61)
المهم مزيد اهتمام وعلى أولئك الأقوام فرط شفقة وأما المجيء بالواو العاطفة فلأن الثاني يقرب من أن يكون عين الأول لأن الثاني بيان للأول والبيان عين المبين وأما الثالث فلأنه كلام مباين للأول والثاني فحسن إيراد الواو العاطفة فيه ولما ذكر هذا المؤمن أنه يدعوهم إلى النجاة وهم يدعونه إلى النار فسّر ذلك بأنهم يدعونه إلى الكفر بالله وإلى الشرك به أما الكفر بالله فلأن الأكثرين من قوم فرعون كانوا ينكرون وجود الإله ومنهم من كان يقر بوجود الله إلا أنه كان يثبت عبادة الأصنام وقوله تعالى وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ المراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكاً للإله ولما بيّن أنهم يدعونه إلى الكفر والشرك بيّن أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغفار فقوله الْعَزِيزُ إشارة إلى كونه كامل القدرة وفيه تنبيه على أن الإله هو الذي يكون كامل القدرة وأما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلهاً وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل القول بكونها آلهة وقوله الْغَفَّارُ إشارة إلى أنه لا يجب أن يكونوا آيسين من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مدة مديدة فإن إله العالم وإن كان عزيزاً لا يغلب قادراً لا يغالب لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة ثم قال ذلك المؤمن لاَ جَرَمَ والكلام في تفسير لا جرم مرّ في سورة هود في قوله لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الاْخْسَرُونَ ( هود 22 ) وقد أعاده صاحب ( الكشاف ) ههنا فقال لاَ جَرَمَ مساقه على مذهب البصريين أن يجعل ( لا ) رداً لما دعاه إليه قومه و جَرَمَ فعل بمعنى حق و إِنَّمَا مع ما في حيزه فاعله أي حق ووجب بطلان دعوته أو بمعنى كسب من قوله تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ( المائدة 2 ) أي كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ويجوز أن يقال إن لاَ جَرَمَ نظيره لا بد فعل من الجرم وهو القطع كما أن بد فعل من التبديد وهو التفريق وكما أن معنى لا بد أنك تفعل كذا أنه لا بد لك من فعله فكذلك لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ ( النحل 62 ) أي لا قطع لذلك بمعنى أنهم أبداً يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام أي لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقل حقاً وروي عن بعض العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء بزنة بد وفعل إخوان كرشد ورشد وكعدم وعدم هذا كله ألفاظ صاحب ( الكشاف )
ثم قال أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة ٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاْخِرَة ِ والمراد أن الأوثان التي تدعونني إلى عبادتها ليس لها دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وفي تفسير هذه الدعوة احتمالان
الأول أن المعنى ما تدعونني إلى عبادته ليس له دعوة إلى نفسه لأنه جمادات والجمادات لا تدعو أحداً إلى عبادة نفسها وقوله فِى الاْخِرَة ِ يعني أنه تعالى إذا قلبها حيواناً في الآخرة فإنها تتبرأ من هؤلاء العابدين
والاحتمال الثاني أن يكون قوله لَيْسَ لَهُ دَعْوَة ٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاْخِرَة ِ معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة فسميت استجابة الدعوة بالدعوة إطلاقاً لاسم أحد المتضايقين على الآخر كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) ثم قال وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ فبين أن هذه الأصنام لا فائدة فيها ألبتة ومع ذلك(27/62)
فإن مردنا إلى الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات الغني عن كل الحاجات الذي لا يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد فأي عاقل يجوز له عقله أن يشتغل بعبادة تلك الأشياء الباطلة وأن يعرض عن عبادة هذا الإله الذي لا بد وأن يكون مرده إليه وقوله وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ قال قتادة يعني المشركين وقال مجاهد السفاكين للدماء والصحيح أنهم أسرفوا في معصية الله بالكلمة والكيفية أما الكمية فالدوام وأما الكيفية فبالعود والإصرار ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذه البيانات ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وهذا كلام مبهم يوجب التخويف ويحتمل أن يكون المراد أن هذا الذكر يحصل في الدنيا وهو وقت الموت وأن يكون في القيامة وقت مشاهدة الأهوال وبالجملة فهو تحذير شديد ثم قال وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ وهذا كلام من هدد بأمر يخافه فكأنهم خوفوه بالقتل وهو أيضاً خوفهم بقوله فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ثم عول في ذفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على فضل الله تعالى فقال وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام فإن فرعون لما خوفه بالقتل رجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله حيث قال إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ( غافر 27 ) فتح نافع وأبو عمرو الياء من أَمْرِى والباقون بالإسكان
ثم قال إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ أي عالم بأحوالهم وبمقادير حاجاتهم وتمسك أضحابنا بقوله تعالى وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ على أن الكل من الله وقالوا إن المعتزلة الذين قالوا إن الخير والشر يحصل بقدرتهم قد فوضوا أمر أنفسهم إليهم وما فوضوها إلى الله والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية فقالوا إن قوله أفوض اعتراف بكونه فاعلاً مستقلاً بالفعل والمباحث المذكورة في قوله أعوذ بالله عائدة بتمامها في هذا الموضع وههنا آخر كلام مؤمن آل فرعون والله الهادي
فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِأالِ فِرْعَوْنَ سُو ءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَة ِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ(27/63)
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن ذلك الرجل لم يقصر في تقرير الدين الحق وفي الذب عنه فالله تعالى رد عنه كيد الكافرين وقصد القاصدين وقوله تعالى بِالْعِبَادِ فَوقَاهُ اللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ يدل على أنه لما صرّح بتقرير الحق فقد قصدوه بنوع من أنواع السوء قال مقاتل لما ذكر هذه الكلمات فصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه وقيل المراد بقوله فَوقَاهُ اللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ أنهم قصدوا إدخاله في الكفر وصرفه عن الإسلام فوقاه الله عن ذلك إلا أن الأول أولى لأن قوله بعد ذلك وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوء الْعَذَابِ لا يليق إلا بالوجه الأول وقوله تعالى وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ أي أحاط بهم سُوء الْعَذَابِ أي غرقوا في البحر وقيل بل المراد منه النار المذكورة في قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا قال الزجاج النَّارِ بدل من قوله سُوء الْعَذَابِ قال وجائز أيضاً أن تكون مرتفعة على إضمار تفسير سُوء الْعَذَابِ كأن قائلاً قال ما سوء العذاب فقيل النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا
قرأ حمزة حاق بكسر الحاء وكذلك في كل القرآن والباقون بالفتح أما قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ففيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات عذاب القبر قالوا الآية تقتضي عرض النار عليهم غدواً وعشياً وليس المراد منه يوم القيامة لأنه قال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وليس المراد منه أيضاً الدنيا لأن عرض النار عليهم غدواً وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت وقبل يوم القيامة وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء وإذ ثبت في حقهم ثبت في حق غيرهم لأنه لا قائل بالفرق فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض النصائح عليهم في الدنيا لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب وخوفوهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار ثم نقول في الآية ما يمنع من حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين الأول أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع وقوله يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً يقتضي أن لا يحصل ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر الثاني أن الغدوة والعشية إنما يحصلان في الدينا أما في القبر فلا وجود لهما فثبت بهذين الوجهين أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر والجواب عن السؤال الأول أن في الدنيا عرض عليهم كلمات تذكرهم أمر النار لا أنه يعرض عليهم نفس النار فعلى قولهم يصير معنى الآية الكلمات المذكرة لأمر النار كانت تعرض عليهم وذلك يفضي إلى ترك ظاهر اللفظ والعدول إلى المجاز أما قوله الآية تدل على حصول هذا العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز قلنا لم لا يجوز أن يكتفي في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين ثم عند قيام القيامة يلقى في النار فيدوم عذابه بعد ذلك وأيضاً لا يمتنع يأن يكون ذكر الغدوة والعشية كناية عن الدوام كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 62 ) أما قوله إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية قلنا لم لا يجوز أن يقال إن عند حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب والله أعلم(27/64)
المسألة الثانية قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا أي يقال لخزنة جهنم أدخلوهم في أشد العذاب والباقون أدخلوا على معنى أنه يقال لهؤلاء الكفار أدخلوا أشد العذاب والقراءة الأولى اختيار أبي عبيدة واحتج عليها بقوله تعالى يُعْرَضُونَ فهذا يفعل بهم فكذلك أَدْخِلُواْ وأما وجه القراءة الثانية فقوله ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ وههنا آخر الكلام في قصة مؤمن آل فرعون
واعلم أن الكلام في تلك القصة لما انجر إلى شرح أحوال النار لا جرم ذكر الله عقيبها قصة المناظرات التي تجري بين الرؤساء والأتباع من أهل النار فقال وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النَّارِ والمعنى اذكر يا محمد لقومك إذ يتحاجون أي يحاجج بعضهم بعضاً ثم شرح خصومتهم وذلك أن الضعفاء يقولون للرؤساء إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا في الدنيا قال صاحب ( الكشاف ) تبعاً كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع أي أتباع أو وصفاً بالمصدر فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النَّارِ أي فهل تقدرون على أن تدفعوا أيها الرؤساء عنا نصيباً من العذاب واعلم أن أولئك الأتباع يعلمون أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف وإنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل أولئك الرؤساء وإيلام قلوبهم لأنهم هم الذين سعوا في إيقاع هؤلاء الأتباع في أنواع الضلالات فعند هذا يقول الرؤساء إِنَّا كُلٌّ فِيهَا يعني أن كلنا واقعون في هذا العذاب فلو قدرت على إزالة العذاب عنك لدفعته عن نفسي ثم يقولون إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ يعني يوصل إلى كل أحد مقدار حقه من النعيم أو من العذاب ثم عند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزنة جهنم ويقولون لهم ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً مّنَ الْعَذَابِ فإن قيل لم لم يقل وقال الذين في النار لخزنتها بل قال وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَة ِ جَهَنَّمَ قلنا فيه وجهان الأول أن يكون المقصود من ذكر جهنم التهويل والتفظيع والثاني أن يكون جهنم اسماً لموضع هو أبعد النار قعراً من قولهم بئر جهنام أي بعيدة القعر وفيها أعظم أقسام الكفار عقوبة وخزنة ذلك الموضع تكون أعظم خزنة جهنم عند الله درجة فإذا عرف الكفار أن الأمر كذلك استغاثوا بهم فأولئك الملائكة يقولون لهم أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيّنَاتِ والمقصود أن قبل إرسال الرسل كان للقوم أن يقولوا إنه مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ( المائدة 19 ) أما بعد مجيء الرسل فلم يبق عذر ولا علة كما قال تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسراء 15 ) وهذه الآية تدل على أن الواجب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشرع ثم إن أولئك الملائكة يقولون للكفار ادعوا أنتم فإنا لا نجترىء على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين أحدهما كون المشفوع له مؤمناً والثاني حصول الإذن في الشفاعة ولم يوجد واحد من هذين الشرطين فإقدامنا على هذه الشفاعة ممتنع لكن ادعوا أنتم وليس قولهم فادعوا لرجاء المنفعة ولكن للدلالة على الخيبة فإن الملك المقرب إذا لم يسمع دعاؤه فكيف يسمع دعاء الكفار ثم يصرحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم فيقولون وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ فإن قيل إن الحاجة على الله محال وإذا كان كذلك امتنع أن يقال إنه تأذى من هؤلاء المجرمين بسبب جرمهم وإذا كان التأذي محالاً عليه كانت شهوة الانتقام ممتنعة في حقه إذا ثبت هذا فنقول إيصال هذه المضار العظيمة إلى أولئك الكفار إضرار لا منفعة فيه إلى الله تعالى ولا لأحد من العبيد فهو إضرار خال عن جميع الجهات المنتفعة فكيف يليق بالرحيم الكريم أن يبقى على ذلك الإيلام أبد الآباد ودهر الداهرين من غير أن يرحم حاجتهم ومن غير أن يسمع دعاءهم ومن غير أن يلتفت إلى تضرعهم(27/65)
وانكسارهم ولو أن أقصى الناس قلباً فعل مثل هذا التعذيب ببعض عبيده لدعاه كرمه ورحمته إلى العفو عنه مع أن هذا السيد في محل النفع والضرر والحاجة فأكرم الأكرمين كيف يليق به هذا الإضرار قلنا أفعال الله لا تعلل و لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) فلما جاء الحكم الحق به في الكتاب الحق وجب الإقرار به والله أعلم بالصواب
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاٌّ شْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَة ُ وَلَهُمْ سُو ءُ الدَّارِ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِى ِّ وَالا بْكَارِ
اعلم أن في كيفية النظم وجوهاً الأول أنه تعالى لما ذكر وقاية الله موسى صلوات الله عليه وذلك المؤمن من مكر فرعون بين في هذه الآية أنه ينصر رسله والذين آمنوا معه والثاني لما بين من قبل ما يقع بين أهل الناء من التخاصم وأنهم عند الفزع إلى خزنة جهنم يقولون أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيّنَاتِ ( غافر 50 ) أتبع ذلك بذكر الرسل وأنه ينصرهم في الدنيا والآخرة والثالث وهو الأقرب عندي أن الكلام في أول السورة إنما وقع من قوله مَا يُجَادِلُ فِى ءايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلاَدِ ( غافر 4 ) وامتد الكلام في الرد على أولئك المجادلين وعلى أن المحقين أبداً كانوا مشغولين بدفع كيد المبطلين وكل لذلك إنما ذكره الله تعالى تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتصبيراً له على تحمل أذى قومه
ولما بلغ الكلام في تقرير المطلوب إلى الغاية القصوى وعد تعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الآية أما في الدنيا فهو المراد بقوله وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ وأما في الآخرة فهو المراد بقوله وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ فحاصل الكلام أنه تعالى وعد بأنه ينصر الأنبياء والرسل وينصر الذين ينصرونهم نصرة يظهر أثرها في الدنيا وفي الآخرة
واعلم أن نصرة الله المحقين تحصل بوجوه أحدها النصرة بالحجة وقد سمى الله الحجة سلطاناً في غير موضع وهذه الصرة عامة للمحقين أجمع ونعم ما سمى الله هذه النصرة سلطاناً لأن السلطنة في الدنيا قد تبطل وقد تتبدل بالفقر والذلة والحاجة والفتور أما السلطنة الحاصلة بالحجة فإنها تبقى أبد الآباد ويمتنع تطرق الخلل والفتور إليها وثانيها أنهم منصورون بالمدح والتعظيم فإن الظلمة وإن قهروا شخصاً من المحقين إلا أنهم لا يقدرون على إسقاط مدحه عن ألسنة الناس وثالثها أنهم منصورون بسبب أن بواطنهم مملوءة من أنوار الحجة وقوة اليقين فإنهم إنما ينظرون إلى الظلمة والجهال كما تنظر ملائكة(27/66)
السماوات إلى أخس الأشياء ورابعها أن المبطلين وإن كان يتفق لهم أن يحصل لهم استيلاء على المحقين ففي الغالب أن ذلك لا يدوم بل يكشف للناس أن ذلك كان أمراً وقع على خلاف الواجب ونقيض الحق وخامسها أن المحق إن اتفق له أن وقع في نوع من أنواع المحذور فذلك يكون سبباً لمزيد ثوابه وتعظيم درجاته وسادسها أن الظلمة والمبطلين كما يموتون تموت آثارهم ولا يبقى لهم في الدنيا أثر ولا خبر وأما المحقون فإن آثارهم باقية على وجه الدهر والناس بهم يقتدون في أعمال البر والخير ولمنحهم يتركون فهذا كله أنواع نصرة الله للمحقين في الدينا وسابعها أنه تعالى قد ينتقم للأنبياء والأولياء بعد موتهم كما نصر يحيى بن زكريا فإنه لما قتل به سبعون ألفاً وأما نصرته تعالى إياهم في الآخرة فذلك بإعلاء درجاتهم في مراتب الثواب وكونهم مصاحبين لأنبياء الله كمال قال فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 )
واعلم أن في قوله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا إلى قوله وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ دقيقة معتبرة وهي أن السلطان العظيم إذا خص بعض خواصه بالإكرام العظيم والتشريف الكامل عند حضور الجمع العظيم من أهل المشرق والمغرب كان ذلك ألذ وأبهج فقوله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا إِلَى وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ المقصود منه هذه الدقيقة واختلفوا في المراد بالأشهاد والظاهر أن المراد كل من يشهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك ونبي ومؤمن ما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون بما شاهدوا وأما الأنبياء فقال تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وقال تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) قال المبرد يجوز أن يكون واحد الأشهاد شاهداً كأطيار وطائر وأصحاب وصاحب ويجوز أن يكون واحد الأشهاد شهيداً كأشراف وشريف وأيتام ويتيم
ثم قال تعالى يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَة ُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر لا تنفع بالتاء لتأنيث المعذرة والباقون بالياء كأنه أريد الاعتذار
واعلم أن المقصود أيضاً من هذا شرح تعظيم ثواب أهل الثواب وذلك لأنه تعالى بيّن أنه ينصرهم في يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون فحالهم في علو الدرجات في ذلك اليوم ما ذكرناه وأما حال أعدائهم فهو أنه حصلت لهم أمور ثلاثة أحدها أنه لا ينفعهم شيء من المعاذير ألبتة وثانيها أن لَهُمُ اللَّعْنَة ُ وهذا يفيد الحصر يعني اللعنة مقصورة عليهم وهي الإهانة والإذلال وثالثها سوء الداء وهو العقاب الشديد فهذا اليوم إذا كان الأعداء واقعين في هذه المراتب الثلاثة من الوحشة والبلية ثم إنه خص الأنبياء والأولياء بأنواع التشريفات الواقعة في الجمع الأعظم فهنا يظهر أن سرور المؤمن كم يكون وأن غموم الكافرين إلى أين تبلغ فإن قيل قوله يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ يدل على أنهم يذكرون الأعذار إلا أن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف الجمع بين هذا وبين قوله وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( المرسلات 36 ) قلنا قوله لاَّ تَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ لا يدل على أنهم ذكروا الأعذار بل ليس فيه إلا أنه ليس عندهم عذر مقبول نافع وهذا القدر لا يدل على أنهم ذكروه أم لا وأيضاً فيقال يوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في وقت آخر ولما بين الله تعالى أنه ينصر الأنبياء والمؤمنين في الدنيا والآخرة ذكر نوعاً من أنواع تلك(27/67)
النصرة في الدنيا فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى ويجوز أن يكون المراد من الهدى ما آتاه الله من العلوم الكثيرة النافعة في الدنيا والآخرة ويجوز أن يكون المراد تلك الدلائل القاهرة التي أوردها على فرعون وأتباعه وكادهم بها ويجوز أن يكون المراد هو النبوّة التي هي أعظم المناصب الإنسانية ويجوز أن يكون المراد إنزال التوراة عليه
ثم قال تعالى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لاِوْلِى الاْلْبَابِ يجوز أن يكون المراد منه أنه تعالى لما أنزل التوراة على موسى بقي ذلك العلم فيهم وتوارثوه خلفاً عن سلف ويجوز أن يكون المراد سائر الكتب التي أنزلها الله عليهم وهي كتب أنبياء بني إسرائيل التوراة والزبور والإنجيل والفرق بين الهدى والذكرى وأن الهدى ما يكون دليلاً على الشيء وليس من شرطه أن يذكر شيئاً آخر كان معلوماً ثم صار منسياً وأما الذكرى فهي الذي يكون كذلك فكتب أنبياء الله مشتملة على هذين القسمين بعضها دلائل في أنفسها وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلاهية المتقدمة ولما بيّن أن الله تعالى ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال موسى وخاطب بعد ذلك محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقال فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فالله ناصرك كنا نصرهم ومنجز وعده في حقك كما كان كذلك في حقهم ثم أمره بأن يقبل على طاعة الله النافعة في الدنيا والآخرة فإن من كان لله كان الله له
واعلم أن مجامع الطاعات محصورة في قسمين التوبة عما لا ينبغي والاشتغال بما ينبغي والأول مقدم على الثاني بحسب الرتبة الذاتية فوجب أن يكون مقدماً عليه في الذكر أما التوبة عما لا ينبغي فهو قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ والطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون به ونحن نحمله على التوبة عن ترك الأولى والأفضل أو على ما كان قد صدر عنهم قبل النبوة وقيل أيضاً المقصود منه محض التعبد كما في قوله رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ( آل عمران 194 ) فإن إيتاء ذلك الشيء واجب ثم إنه أمرنا بطلبه وكقوله رَبّ احْكُم بِالْحَقّ ( الأنبياء 112 ) من أنا نعلم أنه لا يحكم إلا بالحق وقيل إضافة المصدر إلى الفاعل والمفعول فقوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ من باب إضافة المصدر إلى المفعول أي واستغفر لذنب أمتك في حقك وأما الاشتغال بما ينبغي فهو قوله وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِى ّ وَالاْبْكَارِ والتسبيح عبارة عن تنزيه الله عن كل ما لا يليق به والعشي والإبكار قيل صلاة العصر وصلاة الفجر وقيل الإبكار عبارة عن أو النهار إلى النصف والعشي عبارة عن النصف إلى آخر النهار فيدخل فيه كل الأوقات وقيل المراد طرفا النهار كما قال وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ ( هود 114 ) وبالجملة فالمراد منه الأمر بالمواظبة على ذكر الله وأن لا يفتر اللسان عنه وأن لا يغفل القلب عنه حتى يصير الإنسان بهذا السبب داخلاً في زمرة الملائكة كما قال في وصفهم يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ( الأنبياء 20 ) والله أعلم(27/68)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِى ءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَة َ لاّتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنا بينا أن الكلام في أول هذه السورة إنما ابتدىء رداً على الذين يجادلون في آيات الله واتصل البعض بالبعض وامتد على الترتيب الذي لخصناه والنسق الذي كشفنا عنه إلى هذا الموضع ثم إنه تعالى نبّه في هذه الآية على الداعية التي تحمل أولئك الكفار على تلك المجادلة فقال إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ إنما يحملهم على هذا الجدال الباطل كبر في صدرهم فذلك الكبر هو الذي يحملهم على هذا الجدال الباطل ولذك الكبر هو أنهم لو سلموا نبوتك لزمهم أن يكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك لأن النبوّة تحتها كل ملك ورياسة وفي صدورهم كبر لا يرضون أن يكونوا في خدمتك فهذا هو الذي يحملهم على هذه المجادلات الباطلة والمخاصمات الفاسدة
ثم قال تعالى مَّا هُم بِبَالِغِيهِ يعني أنهم يريدون أن يكونوا تحت يدك ولا يصلون إلى هذا المراد بل لا بدّ وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك ثم قال فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي فالتجىء إليه من كيد من يجادلك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بما يقولون أو تقول البَصِيرُ بما تعمل ويعملون فهو يجعلك نافذ الحكمم عليهم ويصونك عن مكرهم وكيدهم
واعلم أنه تعالى لما وصف جدالهم في آيات الله بأنه بغير سلطان ولا حجة ذكر لهذا مثالاً فقال لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ والقادر على الأكبر قادر على الأصغر لا محالة وتقرير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره على ثلاثة أقسام أحدها أن يقال لما قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد وثانيها أن يقال لما قدر على الشيء قدر على مثله فهذا استدلال حق لما ثبت في العقول أن حكم الشيء حكم مثله وثالثها أن يقال لما قدر على الأقوى الأكملل فبأن يقدر على الأقل الأرذل كان أولى وهذا الاستدلال في غاية الصحة والقوة ولا يرتاب فيه عاقل ألبتة ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السماوات والأرض هو الله سبحانه وتعالى ويعلمون بالضرورة أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السماوات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولاً فهذا برهان جلي في إفادة هذا المطلوب ثم إن هذا البرهان على قوته صار بحيث لا يعرفه أكثر الناس والمراد منهم الذين ينكرون الحشر والنشر فظهر بهذا المثال أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا حجة بل بمجرد الحسد والجهل والكبر والتعصب ولما بيّن(27/69)
الله تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون وأن الجدال المقرون بالحجة والبرهان كيف يكون نبّه تعالى على الفرق بين البابين بذكر المثال فقال وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ يعني وما يستوي المستدل والجاهل المقلد ثم قال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِىء فالمراد بالأول التفاوت بين العالم والجاهل والمراد بالثاني التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال الفاسدة الباطلة ثم قال قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ يعني أنهم وإن كان يعلمون أن العلم خير من الجهل وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنه قليلاً ما تتذكرون في النوع المعين من الاعتقاد أنه علم أو جهل والنوع المعين من العمل أنه عمل صالح أو فاسد فإن الحسد يعمي قلوبهم فيعتقدون في الجهل والتقليد أنه محض المعرفة وفي الحسد والحقد والكبر أنه محض الطاعة فهذا هو المراد من قوله قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ قرأ عاصم وحمزة والكسائي تَتَذَكَّرُونَ بالتاء على الخطاب أي قل لهم قليلاً ما تتذكرون والباقون بالياء على الغيبة
ولما قرر الديل الدال على إمكان وجود يوم القيامة أردفه بأن أخبر عن وقوعها ودخولها في الوجود فقال إِنَّ السَّاعَة َ لاَتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة
وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَى ْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِأايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
اعلم أنه تعاللى لما بيّن أن القوم بالقيامة حق وصدق وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ واختلف الناس في المراد بقوله ادْعُونِى فقيل إنه الأمر بالدعاء وقيم إنه الأمر بالعبادة بدليل أنه قال بعده الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى ولولا أن الأمر بالدعاء أمر بمطلق اللعبادة لما بقي لقوله إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى معنى وأيضاً الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً(27/70)
( النساء 117 ) وأجيب عنه بأن الدعاء هو اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة فكأنه قيل إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية وأجيب عن قوله إن الدعاء بمعنى اللعبادة كثير في القرآن بأن ترك الظاهرة لا يصار إليه إلا بدليل منفصل فإن قيل كيف قال ادْعُونِى اسَتُجِيبَ لَكُمْ وقد يدعى كثيراً فلا يستجاب أجاب الكعبي عنه بأن قال الدعاء إنما يصح على شرط ومن دعا كذلك استجيب له وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة ثم سأل نفسه فقال فما هو أصلح يفعله بلا دعاء فما الفائدة في الدعاءا وأجاب عنه من وجهين الأول أن فيه الفزع والانقطاع إلى الله والثاني أن هذا أيضاً وارد على الكل لأنه إن علم أنه يفعله فلا بدّ وأن يفعله فلا فائدة في الدعاء وإن علم أنه لا يفعله فإنه ألبتة لا يفعله فلا فائدة في الدعاء وكل ما يقولونه ههنا فهو جوابنا هذا تمام ما ذكره وعندي فيه وجه آخر وهو أنه قال ادْعُونِى اسَتُجِيبَ لَكُمْ فكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأقاربه وأصدقائه وجده واجتهاده فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان أما بالقلب فإنه معولل في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله فهذا الإنسان ما دعا ربه في وقت أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله فالظاهر أنه تحصل الاستجابة إذا عرفت هذا ففيه بشارة كاملة وهي أن انقطاع القلب بالكلية عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى فعلى القانون الذي ذكرناه وجب أن يكون الدعاء في ذلك الوقت مقبولاً عند الله ونرجو من فضل الله وإحسانه أن يوفقنا للدعاء المقرون بالإخلاص والتضرع في ذلك الوقت واعلم أن الكلام السمتقصى في الدعاء قد سبق ذكره في سورة البقرة
ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أي صاغرين وهذا إحسان عظيم من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء فإن قيل روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال حكاية عن رب العزة أنه قال مِنْ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِى ّ وَالاْبْكَارِ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَخَلْقُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِىء قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَة َ لاَتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ واعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين الأول كأنه تعالى قال إني أنعمت عليك قبل طلبك لهذه النعم الجليلة العظيمة ومن أنعم قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال والثاني أنه تعالى لما أمر بالدعاء فكأنه قيل الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القادر وقد ذكر الله تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته واعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته إما فلكية وإما عنصرية أما الفلكيات فأقسام كثيرة أحدها تعاقب الليل والنهار و ( لما ) كان أكثر مصالح العالم مربوطاً بهما فذكرهما الله تعالى في هذا المقام وبيّن أن الحكمة في خلق الليل حصول الراحة بسبب النوم والسكون والحكمة في خلق النهار إبصار الأشياء ليحصل مكنة التصرف فيها على الوجه الأنفع أما أن السكون في وقت النوم سبب للراحة فبيانه من وجهين الأول أن الحركات توجب الإعياء من حيث إن الحركة توجب السخونة والجفاف وذلك يوجب التألم والثاني أن الإحساس بالأشياء إنما يمكن بإيصال(27/71)
الأرواح الجسمانية إلى ظاهر الحس ثم إن تلك الأرواح تتحلل بسبب كثرة الحركات فتضعف الحواس والإحساسات وإذا نام الإنسان عادت الأرواح الحساسة في باطن البدن وركزت وقويت وتخلصت عن الإعياء وأيضاً الليل بارد رطب فبرودته ورطوبته يتداركان ما حصل في النهار من الحر والجفاف بسبب ما حدث من كثرة الحركات فهذه هي المنافع المعلومة من قوله تعالى اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وأما قوله وَالنَّهَارَ مُبْصِراً فاعلم أن الإنسان مدني بالطبع ومعناه أنه ما لم يحصل مدينة تامة لم تنتظم مهمات الإنسان في مأكوله ومشروبه وملبسه ومنكحه وتلك المهمات لا تحصل إلا بأعمال كثيرة وتلك الأعمال تصرفات في أمور وهذه التصرفات لا تكمل إلا بالضوء والنور حتى يميز الإنسان بسبب ذلك النور بين ما يوافقه وبين ما لا يوافقه فهذا هو الحكمة في قوله وَالنَّهَارَ مُبْصِراً فإن قيل كان الواجب بحسب رعاية النظم أن يقال هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو فجعل لكم الليل ساكناً ولكنه لم يقل كذلك بل قالل في الليل لتسكنوا فيه وقال في النهار مبصراً فما الفائدة فيه وأيضاً فما الحكمة في تقديم ذكر الليل على ذكر النهار مع أن النهار أشرف من الليل قلنا أما الجواب عن الأول فهو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدمية فهو غير مقصود بالذات أما اليقظة فأمور وجودية وهي مقصودة بالذات وقد بيّن الشيخ عبد القاهر النحوي في ( دلائل الإعجاز ) أن دلالة صيغة الاسم على التمام والكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليهما فهذا هو السبب في هذا الفرق والله أعلم وأما الجواب عن الثاني فهو أن الظلمة طبيعة عدمية والنور طبيعة وجودية والعدم في المحدثات مقدم على الوجود ولهذا السبب قال في أول سورة الأنعام وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 )
واعلم أنه تعالى لما ذكر ما في الليل والنهار من المصالح والحكم البالغة قال إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ والمراد أن فضل الله على الخلق كثيراً جداً ولكنهم لا يشكرونه وأعلم أن ترك الشكر لوجوه أحدها أن يعتقد الرجل أن هذه النعم ليست من الله تعالى مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها وواجبة الدوران لذواتها فحينئذٍ هذا الرجل لا يعتقد أن هذه النعم من الله وثانيها أن الرجل وءن اعتقد أن كل العالم حصل بتخليق الله وتكونيه إلا أن هذه النعم العظيمة أعني نعمة تعاقب الليل والنهار لما دامت واستمرت نسيها الإنسان فإذا ابتلي الإنسان بفقدان شيء منها عرف قدرها مثل أن يتفق لبعض الناس والعياذ بالله أن يحبسه بعض الظلمة في آبار عميقة مظلمة مدة مديدة فحينئذٍ يعرف ذلك الإنسان قدر نعمة الهواء الصافي وقدر نعمة الضوء ورأيت بعض الملوك كان يمعذب بعض خدمه بأن أمر أقواماً حتى ينمعونه عن الإستناد إلى الجدار وعن النوم فعظم وقع هذا التعذيب وثالثها أن الرجل وإن كان عارفاً بمواقع هذه النعم إلا أنه يكون حريصاً على الدنيا محباً للمال والجاه فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كفران هذه النعم العظيمة ولما كان أكثر الخلق هالكين في أحد هذه الأودية الثلاثة التي ذكرناها لا جرم قال تعالى وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ونظيره قوله تعالى وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وقول إبليس وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( لأعراف 17 ) ولما بيّن الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر الرحيم الحكيم قال ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلّ شَى ْء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ قال صاحب ( الكشاف ) ذلكم المعلوم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل(27/72)
شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثاني له فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ والمراد فأنى تصرفون ولم تعدلون عن هذه الدلائل وتكذبون بها ثم قال تعالى وَكَذالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ذ يعني أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة لطلب الحق وخوف العاقبة أفكر كما أفكوا
اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَى ُّ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَآءَنِى الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّى وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
اعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته ءما أن تكون من دلائل الآفاق أو من باب دلائل الأنفس أما دلائل الآفاق فالمراد كل ما هو غير الإنسان من كل هذا العالم وهي أقسام كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أقسام منها أحوال الليل والنهار وقد سبق ذكره وثانيها الأرض والسماء وهو المراد من قوله اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء قال ابن عباس في قوله قَرَاراً أي منزلاً في حال الحياة وبعد الموت وَالسَّمَاء بِنَاء كالقبة المضروبة على الأرض وقيل مسك الأرض بلا عمد حتى أمكن التصرف عليها وَالسَّمَاء بِنَاء أي قائمئاً ثابتاً وإلا لوقعت علينا وأما دلائل الأنفس فالمراد منها دلالة أحوال بدن الإنسان ودلالة أحوال نفسه على وجود الصانع القادر الحكيم والمذكور منها في هذه الآية قسمان أحدها ما هو حاصل مشاهد حال كما حاله والثاني ما كان حاصلاً في ابتداء خلقته وتكوينه
أما القسم الأول فأنواع كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أنواع ثلاثة أولها حدوث صورته وهو المراد من قوله وَصَوَّرَكُمْ وثانيها حسن صورته وهو المراد من قوله فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وثالثها أنه رزقه من الطيبات وهو المراد من قوله وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ وقد أطنبنا في تفسير هذه الأشياء في هذا الكتاب مراراً لا سيما في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسرار 70 ) ولما ذكر الله تعالى هذه(27/73)
الدلائل الخمسة اثنين من دلائل الآفاق وثلاثة من دلائل الأنفس قال ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وتفسير بتارك إما الدوام والثبات وإما كثرة الخيرات ثم قال هُوَ الْحَى ُّ لاَ إله إِلاَّ هُوَ وهذا يفيد الحصر وأن لا حي إلا هو فوجب أن يحمل ذلك على الحي الذي يمتنع أن يموت امتناعاً ذاتياً وحينئذٍ لا حي إلا هو فكأنه أجرى الشيء الذي يجوز زواله مجرى المعدوم
واعلم أن الحي عبارة عن الدارك الفعال والدارك إشارة إلى العلم التام والفعال إشارة إلى القدرة الكاملة ولما نبه على هاتين الصفتين من صفات الجلال نبه على الصفة الثالثة وهي الوحدانية بقوله لا إله إلا هو ولما وصفه بهذه الصفات أمر العباد بشيئين أحدها بالدعاء والثاني بالإخلاص فيه فقال فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ثم قال دالحمد لله رب العالمين فيجوز أن يكون المراد قول فيجوز أن يكون المراد قول الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ويجوز أن يكون المراد أنه لما كان موصوفاً بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له الحمد لله رب العالمين ولماب يّن صفات الجلال والعظمة قال قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فأورد ذلك على المشركين بألين قول ليصرفهم عن عبادة الأوثان وبيّن أن وجه النهي في ذلك ما جاءه من البينات وتلك البينات أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة على ما تقدم ذكره وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليف إلا به وأن جعل الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء له في المعبودية مستنكر في بديهة العقل
ولما بيّن أنه أمر بعبادة الله تعالى فقال وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وإنما ذكر هذه الأحكام في حق نفسه لأنهم كانوا يعتقدون فيه أنه في غاية العقل وكمال الجوهر ومن المعلوم بالضرورة أن كل أحد فإنه لا يريد لنفسه ألا الأفضل الأكمل فإذا ذكر أن مصلحته لا تتم إلا بالإعراض عن غير الله ولإقبال بالكلية على طاعة الله ظهر به أن هذا الطريق أكمل من كل ما سواه ثم قال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ
واعلم أنا قد ذكرنا أن الدلائل على قسمين دلائل الآفاق والأنفس أما دلائل الآفاق فكثيرة والمذكور منها في هذه لآية أربعة الليل والنهار والأرض والسماء وأما دلائل الأنفس فقد ذكرنا أنها على قسمين أحدها الأحوال الحاضرة حال كمال الصحة وهي أقسام كثيرة والمذكور ههنا منها ثلاثة أنواع الصورة وحسن الصورة ورزق الطيبات
وأما القسم الثاني وهو كيفية تكون هذا البدن من ابتداء كونه نطفة وجنيناً إلى آخر الشيخوخة والموت فهو المذكور في هذه الآية فقال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ فقيل المراد آدم وعندي لا حاجة إليه لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث والمني مخلوق من الدم فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما تيولد من الأغذية والأغذية إما حيوانية وإما نباتية والحال في تكون ذلك الحيوان كالحال في تكون الإنسان فالأغذية بأسرها منتهية إلى النباتية والنبت إنما يكون من التراب يصير نطفة ثم علقة بعد كونه علقة مراتب كثيرة إلى أن ينفصل من بطن الأم فالله تعالى ترك ذكرها ههنا لأجل أنه تعالى ذكرها في سائر الأبيات
واعلم أنه تعالى رتب عمر الإنسان على ثلاث مراتب أولها كونه طفلاً وثانيها أن يبلغ أشده وثالثها الشيخوخة وهذا ترتيب صحيح مطابق للعقل وذلك لأن الإنسان في أول عمره يكون في التزايد والنشوء(27/74)
والنماء وهو المسمى بالطفولية والمرتبة الثانية أن يبلغ إلى كمال النشوء وإلى أشد السن من غير أن يكون قد حصل فيه نوع من أنواع الضعف والنقص وهذه المرتبة هي المراد من قوله ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وإذا عرفت هذا التقسيم عرفت أن مراتب العمر بحسب هذا التفسيم لا تزيد على هذه الثلاثة قال صاحب الكشاف ) قوله لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ متعلق بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا
ثم قال وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ أي من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطاً
ثم قال وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى ومعناه يفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت وقيل يوم القيامة
ثم قال وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل
هُوَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر انتقال الإنسان من كونه تراباً إلى كونه نطفة ثم إلى كونه علقة ثم إلى كونه طفلاً ثم إلى بلوغ الأشد ثم إلى الشيخوخة واستدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر قال بعده هُوَ الَّذِى لاَ إله يعني كما أن الأتنقال من صفة إلى صفة أخرى من الصفات التي تقدم ذكرها يدل على الإله القادر فكذلك الانتقال من الحياة إلى الموت وبالعكس يدل على الإله القادر وقوله فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيه وجوه الأول معناه أنه لما نقل هذه الأجسام من بعض هذه الصفات إلى صفة أخرى لم يتعب في ذلك التصرف ولم يحتج إلى آلة وأداة فعبّر عن نفاذ قدرته في الكائنات والمحدثات من غير معارض ولا مدافع بما إذا قال دكن فيكون الوجه الثاني أنه عبّر عن الإحياء والإماتة بقول الوجه الثاني أنه عبّر عن الإحياء والإماتة بقول كُنْ فَيَكُونُ فكأنه قيل الإنتقال من كونه تراباً إلى كونه نطفة ثم إلى كونه علقة انتقالات تحصل على التدرج قليلاً قليلاً وأما صيرورة الحياة فهي إنما تحصل لتعليق جوهر الروح النطقية به وذلك يحدث دفعة واحدة فلهذا السبب وقع التعبير عنه بقوله كُنْ فَيَكُونُ الوجه الثالث أن من الناس من يقول إن تكون الإنسان إنما ينعقد من المني والدم في الرحم في مدة معينة وبحسب انتقالاته من حالات إلى حالات فكأنه قيل إنه يتنع أن يكون كل إنسان عن إنسان آخر لأن التسلسل محال ووقوع الحادث في الأزل محال فلا بد من الاعتراف بإنسان هو أول الناس فحينئذٍ يكون حدوث ذلك الإنسان لا بواسطة المني والدم بل بإيجاد الله تعالى ابتداء فعبّر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله كُنْ فَيَكُونُ(27/75)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاٌّ غْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذم الذين يجادلون في آيات الله فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ وهذا ذم لهم على أن جادلوا في آيات الله ودفعها والتكذيب بها فعجب تعالى منهم بقوله أَنَّى يُصْرَفُونَ كما يقول الرجل لمن لا يبين أنى يذهب بك تعجباً من غفلته ثم بيّن أنهم هم الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ أي بالقرآن وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا من سائر الكتب فإن قيل سوف للاستقبال وإذ للماضي فقوله فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ مثل قولك سوف أصوم أمس قلنا المراد من قوله إِذْ هو إذاً لأن الأمور المستقبلة لما كان في أخبا رالله تعالى متيقنة مقطوعاً بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد والمعنى على الاستقبال هذا لفظ صاحب ( الكشاف )
ثم إنه تعالى وصف كيفية عقابهم فقال إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ والمعنى أنه يكون في أعناقهم الأغلال والسلاسل ثم يسحبون بتلك السلاسل في الحميم أي في الماء المسخن بنار جهنم ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ والسجر في اللغة الإيقاد في التور ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم ويقرب منه قوله تعالى نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة ُ الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَة ِ ( الهمزة 6 7 ) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فيقولون ضَلُّواْ عَنَّا أي غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم ثم قالوا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً أي تبيّن أنهم لو لم يكونوا شيئاً وما كنا نعبد بعبادتهم شيئاً كما تقول حسبت أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء إذا جربته فلم تجد عنده خيراً ويجوز أيضاً أن يقال ءنهم كذبوا وأنكروا أنهم عبدوا غير الله كما أخبر الله تعالى عنهم في سورة الأنعام أنهم قالوا وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ثم قال تعالى كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ قال القاضي معناه أنه يضلهم عن طريق الجنة إذ لا يجوز أن يقال يضلهم عن الحجة إذ قد هداهم في الدنيا إليها وقال صاحب ( الكشاف ) كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى أنهم لو طلبوا الآلهة أو طلبتم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر ثم قال ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الاْرْضِ أي ذلكم الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بغير الحق وهو الشرك وعبادة الأصنام ادْخُلُواْ أَبْوابَ جَهَنَّمَ السبعة المقسومة لكم قال الله تعالى لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ ( الحجر 44 ) خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ(27/76)
والمراد منه ما قال في الآية المتقدمة في صفة هؤلاء المجادلين إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ( غافر 56 )
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِى َ بِأايَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِى َ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما تكلم من أول السورة إلى هذا لاموضع في تزييف طريقة المجادلين في آيات الله أمر في هذه الآية رسوله بأي يصبر على إيذائهم وإيحاشهم بتلك المجادلات ثم قال إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وعنى به ما وعد به الرسول من نصرته ومن إنزال العذاب على أعدائه ثم قال فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ يعني أولئك الكفار من أنواع العذاب مثل القتل يوم بدر فذلك هو المطلوب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل إنزال العذاب عليهم فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام ونظيره قوله تعالى فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ( الزخرف 41 42 )
ثم قال تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقُصُّ عَلَيْكَ والمعنى أنه قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنت كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين وليس فيهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات إلا وقد جادله قومه فيها وكذبوه فيها وجرى عليهم من الهم ما يقارب ما جرى عليك فصبروا وكانوا أبداً يقترحون على الأنبياء إظهار لمعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل العناد والتعنت ثم إن الله تعالى لم علم أن لصلاح في إظهار ما أظهره وإلا لم يظهره ولم يكن ذلك قادحاً في نبوتهم فكذلك الحال في اقترح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحاً لا جرم ما أظهرناها وهذا هو المراد من قوله وَمَا كَانَ وَاقٍ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا ثم قال فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِى َ بِالْحَقّ وهذا وعيد ورد عقيب اقتراح الآيات وَأَمَرُّ اللَّهِ القيامة والمبطلون هم المعاندون لذين يجادلون في آيات الله ويقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت
اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّ نْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَة ً فِى صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَأَى َّ ءَايَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ(27/77)
اعلم أنه تعالى لما أطنب في تقرير الوعيد عاد إلى ذكر ما يدل على وجود الإله الحكيم الرحيم وإلى كذر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد قال الزجاج الإبل خاصة وقال القاضي هي الأزواج الثمانية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أنه لم أدخل لام الغرض على قوله ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ ولم يدخل على البواقي فما السبب فيه الجواب قال صاحب ( الكشاف ) الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجباً أو مندوباً فهذان القسمان أغراض دينية فلا جرم أدخل عليهما حرف التعليل وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المابحات فلا جرم ما أدخل عليه حرف التعليل نظيره قوله تعالى وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً ( النحل 8 ) فأدخل التعليل على الركوت ولم يدخله على الزنية
السؤال الثاني قوله تعالى وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ معناه تحملون في البر والبحر إذا عرفت هذا فنقول لم لم يقل وفي الفلك كما قال قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ( هود 40 ) والجواب أن كلمة على للاستعلاء فالشيء الذي يوضع في الفلك كما يصح أن يقال وضع فيه يصح أن يقال وضع عليه ولما صح الوجهان كانت لفظة أولى حتى يتم المراد في قوله وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ولما ذكر الله هذه الدلائل الكثير قال وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ فَأَى َّ ءايَاتِ يعني أن هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة فقوله وَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ فَأَى َّ ءايَاتِ تنبيه على أنه ليس في شيء من الدلائل التي تقدم ذكرها ما يمكن إنكاره قل صاحب ( الكشاف ) قوله فَأَى ُّ آيَاتِ اللَّهِ جاء على اللغة المستفيضة وقولك فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحوحمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه والله أعلم
أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّة ً وَءَاثَاراً فِى الأرض فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّة َ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(27/78)
اعلم أنه تعالى راعى ترتيبا ) لطيفاً في آخر هذه السورة وذلك أنه ذكر فصلاً في دلائل الإلهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة ثم أردفه بفضل التهديد والوعيد وهذا الفصل الذي وقع عليه ختم هذه السورة هو الفصل المشتمل على الوعيد والمقصود أن هؤلاء الكفار لذين يجادلون في آيات الله وحصل الكبر العظيم في صدورهم بهذا والسبب في ذلك كله طلب الرياسة والتقدم على الغير في المال والجاه فمن ترك الانقياد للحق لأجل طلب هذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا فبين تعالى أن هذه الطريقة فاسدة لأن الدنيا فانية ذاهبة واحتج عليه بقوله تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يعني لو ساروا في أطراف الأرض لعرفوا أن عاقبة المتكبرين المتمردين ليست إلا الهلاك والبوار مع أنهم كانوا أكثر عددً ومالاً وجاهاً من هؤلاء المتأخرين فلما لم يستفيدوا من تلك المكنة العظيمة والدولة القاهرة إلا الخيبة والخسار والحسرة والبوار فكيف يكون حال هؤلاء الفقراء المساكين أما بيان أنهم كانوا أكثر من هؤلاء عدداً فإنما يعرف في الأخبار وأما أنهم كانوا أشد قوة وآثاراً في الأرض فلأنه قد بقيت آثارهم بحصون عظيمة بعدهم مثل الأهرام الموجودة بمصر ومثل هذه البلاد العظيمة التي بناها الملوك المتقدمون ومثل ما حكى الله عنهم من أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً
ثم قال تعالى فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ما في قوله فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ نافية أو مضمنة معنى الاستفهام ومحلها النصب وما في قوله مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع يعني أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم
ثم بيّن تعالى أن أولئك الكفار لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات فرحوا بما عندهم من العلم واعلم أن الضمير في قوله فَرِحُواْ يحتمل أن يكون عائداً إلى الكفار وأن يكون عائداً إلى الرسل أما إذا قلنا إنه عائد إلى الكفار فذلك العلم الذي فرحوا به أي علم كان وفيه وجوه الأول أن يكون المراد الأشياء التي كانوا يسمونها بالعلم وهي الشبهات التي حكاها الله عنهم في القرآن كقولهم وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ( الجاثية 24 ) وقولهم لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ى َابَاؤُنَا ( الأنعام 148 ) وقولهم مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ ( يعس 78 ) وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً ( الكهف 36 ) وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء كما قال كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( المؤمنون 53 ) الثاني يجوز أن يكون المراد علوم الفلاسفة فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علومهم وعن سقراط أنه سمع بمجيء بعض الأنبياء فقيل له لو هاجرت فقال نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا الثالث يجوز أن يكون المراد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاْخِرَة ِ هُمْ غَافِلُونَ ( الروم 7 ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ ( النجم 30 ) فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات وهي معرفة الله تعالى ومعرفة العماد وتطهير النفس عن الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزؤا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به أما إذا قلنا الضمير عائد إلى الأنبياء ففيه وجهان الأول أن يجعل الفرح للرسل ومعناه أن الرسل لما رأوا من قومهم جهلاً كاملاً وإعراضاً عن الحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم الثاني أن يكون المراد فرحوا بما عند الرسل(27/79)
من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به كأنه قال استهزؤا بالبينات وبما جاؤا به من علم الوحي فرحين ويدل عليه قوله تعالى وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ
ثم قال تعالى فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ البأس شدة العذاب ومنه قوله تعالى بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( الأعراف 165 ) فإن قيل أي فرق بين قوله فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ وبين ما لو قيل فلم ينفعهم إيمانهم قلنا هو مثل كان في نحو قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) والمعنى فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم فإن قيل اذكروا ضابطاً في الوقت الذي لا ينفع الإتيان بالإيمان فيه قلنا إنه الوقت الذي يعاين فيه نزول ملائكة الرحمة والعذاب لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان فذلك الإيمان لا ينفع إنما ينفع مع القدرة على خلافه حتى يكون المرء مختاراً أما إذا عاينوا علامات الآخرة فلا
ثم قال تعالى سُنَّة َ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ والمعنى أن عدم قبول الإيمان حالل اليأس سنة الله مطردة في كل الأمم
ثن قال وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ فقوله هُنَالِكَ مستعار للزمان أي وخسروا وقت رؤية البأس والله الهادي للصواب(27/80)
سورة فصلت ( السجدة )
خمسون وأربع آيات مكيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
اعلم أن في أول هذه السورة احتمالات أحدها وهو الأقوى أن يقال حام اسم للسورة وهو في موضع المبتدأ وتنزيل خبره وثانيها قال الأخفش تنزيل رفع بالابتداء وكتاب خبره وثالثها قال الزجاج تنزيل رفع بالابتداء وخبره كتاب فصلت آياته ووجهه أن قوله تَنزِيلَ تخصص بالصفة وهو قوله مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فجاز وقوعه مبتدأ(27/81)
واعلم أنه تعالى حكم على السورة المسماة بحام بأشياء أولها كونه تنزيلاً والمراد المنزّل والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور يقال هذا بناء الأمير أي مبنيه وهذا الدرهم ضرب السلطان أي مضروبه والمراد من كونها منزلاً أن الله تعالى كتبها في اللوم المحفوظ وأم جبريل عليه السلام بأن يحفظ تلك الكلمات ثم ينزل بها على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويبلغها إليه فلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل عليه السلام سمي لذلك تنزيلاً وثانيها كون التنزيل من الرحمن الرحيم وذلك يدل على كون التنزيل نعمة عظيمة من الله تعالى لأن الفعل المقرون بالصفة لا بد وأن يكون مناسباً لتلك الصفة فكونه تعالى رحماناً رحيماً صفتان دالتان على كمال الرحمة فالتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين لا بد وأن يكون دالاً على أعظم وجوه النعمة والأمر في نفسه كذلك لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى والزمنى والمحتاجين والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية وعلى كل ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية فكان أعظم النعم عند الله تعالى على أهل هذا اللعالم إنزال القرآن عليهم وثالثها كونه كتاباً وقد بينا أن هذا الاسم مشتق من الجمع وإنما سمي كتاباً لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين ورابعها قوله فُصّلَتْ ءايَاتُهُ والمراد أنه فرقت آياته وجعلت تفاصيل في معان مختلفة فبعضها في وصف ذات الله تعالى وشرح صفات التنزيه والتقديس وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته وعجائب أحوال خلقه السماوات والأرض والكواكب وتعاقب الليل والنهار وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلوب ونحو الجوارح وبعضها في الوعد والوعيد والثواب والعقاب درجات أهل الجنة ودرجات أهل النار وبعضها في المواعظ والنصائح وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن وخامسها قوله قُرْءاناً والوجه في تسميته قرآناً قد سبق وقوله تعالى قُرْءاناً نصب على الاختصاص والمدح أي أُريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت وقيل هو نصب على الحال وسادسها قوله عَرَبِيّاً والمعنى أن هذا القرآن إنما نزل بلغة العرب وتأكد هذا بقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ( إبراهيم 4 ) وسابعها قوله تعالى لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ والمعنى إنا جعلناه عربياً لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب فجعلناه بلغة العرب ليفهموا منه المراد فإن قيل قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ متعلق بماذا قلنا يجوز أن يتعلق بقوله تَنزِيلَ أو بقوله فُصّلَتْ أي تنزيل من الله لأجلهم أو فصلت آياته لأجلهم والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده أي قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب لئلا يفرق بين الصلات والصفات وثامنها وتاسعها قوله بَشِيراً وَنَذِيراً يعني بشيراً للمطيعين بالثواب ونذيراً للمجرمين بالعقاب والحق أن القرآن بشارة ونذارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملاً في هذه الصفة كما يقال شعر شاعر وكلام قائل
الصفة العاشرة كونهم معرضين عنه لا يسمعون ولا يلتفتون إليه فهذه هي الصفات العشرة التي وصف الله القرآن بها ويتفرع عليها مسائل
المسألة الأولى القائلون بخلق القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول أنه وصف القرآن بكونه تنزيلاً ومنزلاً والمنزل والتنزيل مشعر بالتصيرر من حال فوجب أن يكون مخلوقاً الثاني أن التنزيل مصدر والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين الثالث المراد بالكتاب إما الكتاب وهو المصدر الذي هو(27/82)
المفعول المطلق أو المكتوب الذي هو المفعول الرابع أن قوله فُصّلَتْ يدل على أن متصرفاً يتصرف فيه بالتفصيل والتمييز وذلك لا يليق بالقديم الخامس أنه إنما سمي قرآناً لأنه قرن بعض أجزائه بالبعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل السادس وصفه عربيباً وإنما صحت هذه النسبة لأجل أن هذه الألفاظ إنما دخلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب واصطلاحاتهم وما جعل بجعل جاعل وفعل فاعل فلا بدّ وأن يكون محدثاً ومخلوقاً الجواب أن كل هذه الوجوه التي ذكرتموها عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي عندنا محدثة مخلوقة إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر سوى هذه الألفاظ والله أعلم
المسألة الثانية ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه يجب على المكلف تنزيل ألفاظ القرآن على المعاني التي هي موضوعة لها بحسب اللغة العربية فأما حملها على معان أُخر لا بهذا الطريق فهذا باطل قطعاً وذلك مثل الوجوه التي يذكرها أهل الباطن مثل أنهم تارة يحملون الحروف على حساب الجمل وتارة يحملون كل حرف على شيء آخر وللصوفية طرق كثيرة في الباب ويسمونها علم المكاشفة والذي يدلل على فساد تلك الوجوه بأسرها قوله تعالى قُرْءاناً عَرَبِيّاً وإنما سماه عربياً لكونه دالاً على هذه المعاني المخصوصة بوضع العرب وباصطلاحاتهم وذلك يدل على أن دلالة هذه الألفاظ لم تحصل إلا على تلك المعاني المخصوصة وأن ما سواه فهو باطل
المسألة الثالثة ذهب قم إلى أنه حصلل في القرآن من سائر اللغات كقوله إِسْتَبْرَقٍ ( الكهف 31 ) و سِجّيلٍ ( هود 82 ) فإنهما فارسيان وقوله مشكاة ( النور 35 ) فإنها من لغة الحبشة وقوله قسطاس ( الإسراء 35 ) فإنه من لغة الروم والذي يدل على فساد هذا المذهب قوله يَتَذَكَّرُونَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً وقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ( إبراهيم 4 )
المسألة الرابعة قالت المعتزلة لفظ الإيمان والكفر واللصلاة والزكاة والصوم والحج ألفاظ شرعية لا لغوية والمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية الأصلية إلى مسميات أخرى وعندنا أن هذا باطل وليس للشرع تصرف في هذه الألفاظ عن مسمياتها إلا من وجه واحد وهو أنه خصص هذه الأسماء بنوع واحد من أنواع مسمياتها مثلاً الإيمان عبارة عن التصديق فخصصه الشرع بنوع معين من التصديق والصلاة عبارة عن الدعاء فخصصه الشرع بنوع معين من الدعاء كذا القول في البواقي ودليلنا على صحة مذهبنا قوله تعالى قُرْءاناً عَرَبِيّاً وقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ
المسألة الخامسة إنما وصف الله القرآن بكونه عَرَبِيّاً في معرض المدح والتعظيم وهذا المطلوب لا يتم إلا إذا ثبت أن لغة العرب أفضل اللغات
واعلم أن هذا المقصود إنما يتم إذا ضبطنا أقسام فضائل اللغات بضابط معلوم ثم بينا أن تلك الأقسام حاصلة فيه لا في غيره فنقول لا شك أن الكلام مركب من الكلمات المفردة وهي مركبة من الحروف فالكلمة لها مادة وهي الحروف ولها صورة وهي تلك الهيئة المعينة الحاصلة عند التركيب فهذه الفضيلة إنما تحصل إما بحسب مادتها أو بحسب صورتها أما التي بحسب مادتها فهي آحاد الحروف واعلم أن(27/83)
الحروف على قسمين بعضها بينة المخارج ظاهرة المقاطع وبعضهاا خفية المخارج مشتبهة المقاطع وحروف العرب بأسرها ظاهرة المخارج بينة المقاطع ولا يشتبه شيء منها بالآخر وأما الحروف المستعملة في سائر اللغات فليست كذلك بل قد يحصل فيها حرف يشتبه بعضها بالبعض وذلك يخل بكمال الفصاحة وأيضاً الحركات المستعملة في سائر لغة العرب حركات ظاهرة جلية وهي النصب والرفع والجر وكل واحد من هذه الثلاثة فإنه يمتاز عن غيره امتيازاً ظاهراً جلياً وأما الإشمام والروم فيقل حصولهما في لغات العرب وذلك أيضاً من جنس ما يوجب الفصاحة وأما الكلمات الحاصلة بحسب التركيب فهي أنواع
أحدها أن الحروف على قسمين متقاربة المخرج ومتباعدة المخرج وأيضاً الحروف على قسمين منها صلبة ومنها رخوة فيحصل من هذا التقسيم أقسام أربعة الصلبة المتقاربة واالرخوة المتقاربة والصلبة المتباعدة والرخوة المتباعدة فإذا توالى في الكلمة حرفان صلبان متقاربان صعب اللفظ بها لأن بسبب تقارب المخرج يصير التلفظ بها جارياً مجرى ما إذا كان الإنسان مقيداً ثم يمشي وبسبب صلابة تلك الحروف تتوارد الأعمال الشاقة القوية على الموضع الواحد من المخرج وتوالي الأعمال الشاقة يوجب الشضعف والإعياء ومثل هذا التركيب في اللغة العربية قليل وثانيها أن جنس بعض الحروف ألذ وأطيب في السمع وكل كلمة يحصل فيها حرف من هذا الجنس كان سماعها أطيب وثالثها الوزن فنقول الكلمة إما أن تكون ثنائية أو ثلاثية أو رباعية وأعدلها هو الثلاثي لأن الصوت إنما يتولد بسبب الحركة والحركة لا بد لها من مبدأ ووسط ومنتهى فهذه ثلاث مراتب فالكلمة لا بد وأن يحصل فيها هذه المراتب الثلاثة حتى تكون تامة أما الثانائية فهي ناقصة وأما الرباعية فهي زائدة والغائب في كلام العرب الثلاثيات فثبت بما ذكرنا ضبط فصائل اللغات والاستقراء يدل على أن لغة العرب موصوفة بها وأما سائر اللغات فليست كذلك والله أعلم
المسألة السادسة قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني إنما جعلناه عَرَبِيّاً لأجل أن يعلموا المراد منه والقائلون بأن أفعال الله معللة بالمصالح والحكم تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنها تدل على أنه إنما جعله عَرَبِيّاً لهذه الحكمة فهذا يدل على أن تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه جائز
المسألة السابعة قال قوم القرآن كله غير معلوم بل فيه ما يعلم وفيه ما لا يعلم وقال المتكلمون لا يجوز أن يحصل فيه شيء غير معلوم والدليل عليه قوله تعالى كِتَابٌ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ قُرْءاناً يعني إنما جعلناه عربياً ليصير معلوماً والقوم بأنه غير معلوم يقدح فيه
المسألة الثامنة قوله تعالى فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ يدل على أن الهادي من هداه الله وأن الضال من أضله الله وتقريره أن الصفات التسعة المذكورة للقرآن توجب قوة الاهتمام بمعرفته وبالوقوف على معانيه لأنا بينا أن كونه نازلاً من عند الإله الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع وأجل المطالب وكونه قُرْءاناً عَرَبِيّاً مفصلاً يدل على أنه في غاية الكشف والبيان وكونه بَشِيراً وَنَذِيراً يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات لأن سعي الإنسان في معرفة ما يوصله إلى الثواب أو إلى العقاب من أهم المهمات وقد حصلت هذه الموجبات اللثلاثة في تأكيد الرغبة في فهم القرآن وفي شدة الميل إلى الإحاطة به ثم مع ذلك فقد أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ونبذوه وراء ظهورهم وذلك يدل على(27/84)
أنه لا مهدي إلا من هذاه الله ولا ضال إلا من أضله الله
واعلم أنه تعالى لما وصف القرآن بأنهم عرضوا عنه ولا يسمعونه بيّن أنهم صرحوا بهذه النفرة والمباعدة وذكروا ثلاثة أشياء أحدها أنهم قالوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وأكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء والكنان هو الذي يجعل فيه السهام وثانيها قولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أي صمم وثقل من استماع قولك وثالثها قولهم وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ والحجاب هو الذي يمنع من الرؤية والفائدة في كلمة مِنْ في قوله وَمِن بَيْنِنَا أنه لو قيل وبيننا وبينك حجاب لكان المعنى أن حجاباً حصل وسط الجهتين وأما بزيادة لفظ مِنْ كأن المعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك فالمسافة الحاصلة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب وما بقي جزء منها فارغاً عن هذا الحجاب فكانت هذه اللفظة دالة على قوة هذا الحجاب هكذا ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو في غاية الحسن
واعلم أنه إنما وقع الاقتصار على هذه الأعضاء الثلاثة وذلك لأن القلب محل المعرفة وسلطان البدن والسمع والبصر هما الآلتان المعينتان لتحصيل المعارف فلما بيّن أن هذه الثلاثة محجوبة كان ذلك أقصى ما يمكن في هذا الباب
واعلم أنه إذا تأكدت النفرة عن الشيء صارت تلك النفرة في القلب فإذا سمع منه كلاماً لم يفهم معناه كما ينبغي وإذا رآه لم تصر تلك الرؤية سبباً للوقوف على دقائق أحوالك ذلك المرئي وذلك المدرك والشاعر هو النفس وشدة نفرة النفس عن الشيء تمنعها من التدبر والوقوف على دقائق ذلك الشيء فإذا كان الأمر كذلك كان قولهم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ استعارات كاملة في إفادة المعنى المراد فإن قيل إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم وذكر أيضاً ما يقرب منه في معرض الذم فقال وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ( البقرة 88 )
ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معرض التقرير والإثبات في سورة الأنعام فقال وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً ( الأنعام 25 ) فكيف الجمع بينهما قلنا إنه لم يقل ههنا أنهم كذبوا في ذلك إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا إنا إذا كنا كذلك لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا وهذا الثاني باطل أما الأول فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه
واعلم أنهم لما وصفوا أنفسهم بهذه الصفات الثلاثة قالوا فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ والمراد فاعمل على دينك إننا عاملون على ديننا ويجوز أن يكون المراد فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك والحاصل عندنا أن القوم ما كذبوا في قولهم قُلُوبُنَا فِى ءامِنَة ً مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ بل إنما أتوا بالكفر والكلام الباطل في قولهم فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ
ولما حكى الله عنهم هذه الشبهة أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجيب عن هذه الشبهة بقوله قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ وبيان هذا الجواب كأنه يقول إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبراً وقهراً فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلا بمجرد أن الله عزّ وجلّ أوحى إليّ وما أوحى إليكم فأنا أبلغ هذا النحي إليكم ثم بعد ذلك إن شرفكم الله بالتوحيد والتوفيق قبلتموه وإن خذلكم بالحرمان رددتموه وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي ثم بيّن أن خلاصة ذلك الوحي ترجع إلى أمرين العلم والعمل أما العلم فالرأس(27/85)
والرئيس فيه معرفة التوحيد ذلك لأن الحق هو أن الله واحد وهو المراد من قوله أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ وإذا كان الحق في نفس الأمر ذلك وجب علينا أن نعترف به وهو المراد من قوله فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ ونظيره قوله اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( الفاتحة 6 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( فصلت 30 ) وقوله تعالى وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ( الأنعام 153 ) وفي قوله تعالى فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وجهان الأول فاستقيموا متوجهين إليه الثاني أن يكون قوله فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ معناه فاستقيموا له لأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض
واعلم أن الكليف له ركنان أحدهما الاعتقاد والرأس والرئيس فيه اعتقاد التوحيد فلما أمر بذلك انتقل إلى وظيفة العمل والرأس والرئيس فيه الاستغفار فلهذا السبب قال وَاسْتَغْفِرُوهُ فإن قيل المقصود من الاستغفار والتوبة إزالة ما لا ينبغي وذلك مقدم على فعل ما ينبغي فلم عكس هذا الترتيب ههنا وقدم ما ينبغي على إزالة ما ينبغي قلنا ليس المراد من هذا الاستغفار الاستغفار عن الكفر بل المراد منه أن يعمل ثم يستغفر بعده لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل الذي أتى به كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ) ولما رغب الله تعالى في الخير والطاعة أمر بالتحذير عما لا ينبغي فقال وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى وجه النظم في هذه الآية من وجوه الأول أن العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادات مربوطة بأمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وذلك لأن الموجودات إما الخالق وإما الخلق فأما الخالق فكمال السعادة في المعاملة معه أن يقر بكونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة ثم يأتي بأفعال دالة على كونه في نهاية العظمة في اعتقادنا وهذا هو المراد من التعظيم لأمر الله وأما الخلق فكمال السعادة في المعاملة معهم أن يسعى في دفع الشر عنهم وفي إيصال الخير إليهم وذلك هو المراد من الشفقة على خلق الله فثبت أن أعظم الطاعات التعظيم لأمر الله وأفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بكونه واحداً وإذا كان التوحيد أعلى المراتب وأشرفها كان ضده وهو الشرك أخس المراتب وأرذلها ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق هو إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال لأنه ضد الشفقة على خلق الله إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفاً بصفات ثلاثة أولها أن يكون مشركاً وهو ضد التوحيد وإليه الإشارة بقوله وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ وثانيها كونه ممتنعاً من الزكاة وهو ضد الشفقة على خلق الله وإليه الإشارة بقوله الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وثالثها كونه منكراً للقيامة مستغرقاً في طلب الدنيا ولذاتها وإليه الإشارة بقوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام الأمس واليوم والغد أما معرفة أنه كيف كانت أحوال الأمس في الأزل فهو بمعرفة الله تعالى الأزلي الخالق لهذا العالم وأما معرفة أنه كيف ينبغي وقوع الأحوال في اليوم الحاضر فهو بالإحسان إلى أهل العالم بقدر الطاقة وأما معرفة الأحوال في اليوم المستقبل فهو الإقرار بالبعث والقيامة وإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال فلهذا حكم الله عليه بالويل فقال وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وهذا ترتيب في غاية الحسن والله أعلم الوجه الثاني في تقرير كيفية النظم أن يقال المراد بقوله لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ أي لا يزكون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم لا إله إلا الله وهو مأخوذ من قوله تعالى وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(27/86)
( الشمس 7 ) الثالث قال الفرّاء إن قريشاً كانت تطعم الحاج فحرموا ذلك على من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الثانية احتج أصحابنا في إثبات أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام بهذه الآية فقالوا إنه تعالى ألحق الوعيد الشديد بناء على أمرين أحدهما كونه مشركاً والثاني أنه لا يؤتي الزكاة فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الأمرين تأثير في حصول ذلك الوعيد وذلك يدل على أن لعدم إيتاء الزكاة من المشرك تأثيراً عظيماً في زيادة الوعيد وذلك هو المطلوب
المسألة الثالثة احتج بعضهم على أن الامتناع من إيتاء الزكاة يوجب الكفر فقال إنه تعالى لما ذكر هذه الصفة ذكر قبلها ما يوجب الكفر وهو قوله فَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ وذكر أيضاً بعدها ما يوجب الكفر وهو قوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ فلو لم يكن عدم إيتاء الزكاة كفراً لكان ذكره فيما بين الصفتين الموجبتين للكفر قبيحاً لأن الكلام إنما يكون فصيحاً إذا كانت المناسبة مرعية بين أجزائه ثم أكذوا ذلك بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حكم بكفر مانعي الزكاة والجواب لما ثبت بالدليل أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان وهما حاصلان عند عدم إيتام الزكاة فلم يلزم حصول الكفر بسبب عدنم إيتاء الزكاة والله أعلم
ثم إنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أردفه بوعد المؤمنين فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع من قولك مننت الحبل أي قطتعه ومنه قولهم قد منه السفر أي قطعه وقيل لا يمن عليهم لأنه تعالى لما سماه أجراً فإذاً الأجر لا يوجب المنّة وقيل نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون
قُلْ أَءِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِى َ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاٌّ رْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الآية الأولى أن يقول إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ ( الكهف 110 ) فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ( فصلت 6 )(27/87)
أردفه بما يدل على أنه لا يجوز إثبات الشركة بينه تعالى وبين هذه الأصنام في الإلهية والمعبودية وذلك بأن بيّن كمال قدرته وحكته في خلق السموات والأرض في مدة قليلة فمن هذا صفته كيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإلهية والمعبودية فهذا تقرير النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير أينكم لتكفرون بهمزة وياء بعدها خفيفة ساكنة بلا مد وأما نافع في رواية قالون وأبو عمرو فعلى هذه الصورة إلا أنهما يمدان والباقون همزتين بلا مد
المسألة الثانية قوله تعالى أَئِنَّكُمْ استفهام بمعنى الإنكار وقد ذكر عنخم شيئين منكرين أحدهما الكفر بالله وهو قوله لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وثانيهما إثبات الشركاء والأنداد له ويجب أن يكون الكفر المذكور أولاً مغايراً لإثبات الأنداد له ضرورة أن عطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير والأظهر أن المراد من كفرهم وجوه الأول قولهم إن الله تعالى لا يقدر على حشر الموتى فلما نازعوا في ثبوت هذه القدرة فقد كفروا بالله الثاني أنهم كانوا ينازعون في صحة التكليف وفي بعثة الأنبياء وكل ذلك قدح في اصفات المعتبرة في الإلهية وهو كفر بالله الثالث أنهم كانوا يضيفون إليه الأولاد وذلك أيضاً قدح في الإلهية وهو يوجب الكفر بالله فالحاصل أنهم كفروا بالله لأجل قولهم بهذه الأشياء وأثبتوا الأنداد أيضاً لله لأجل قولهم بإلهية تلك الأصنام واحتج تعالى على فساد قولهم بالتأثير فقال كيف يجوز الكفر بالله وكيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أنداداً لله تعالى مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة كيف يعقل الكفر به وإنكار قدرته على الحشر والنشر وكيف يعقل إنكار قدرته على التكليف وعلى بعثة الأنبياء وكيف يعقل جعل هذه الأصنام الخسيسة أنداداً له في المعبودية والإلهية فإن قيل من استدل بشيء على إثبات شيء فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلماً عند الخصم حتى يصح الاستدلال به وكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أمر لا ينكن إثباته بالعقل المحض وإنما يمكن إثباته بالسمع ووحي الأنبياء والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوّة فلا يعقل تقرير هذه المقدمة عليهم وإذا امتنع تقرير هذه المقدمة عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم قلنا إثبات كون السموات والأرض مخلوقة بطريق العمل ممكن فإذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم وحينئذ يقال للكافرين فكيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة وبين الصنم الذي هو جماد لا يضر ولا ينفع في المعبودية والإلهية بقي أن يقال فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أثر فنقول هذا أيضاً له أثر في هذا الباب وذلك لأن أول التوراة مشتمل على هذا المعنى فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب فكفار مكة كانوا يعتقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم والحقائق والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني واعتقدوا في كونها حقة وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يحسن أن يقال لهم أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكاً له في المعبودية والإلهية فظهر بما قررنا أن هذا الاستدلال قوي حسن(27/88)
وأما قوله تعالى ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ أي ذلك الموجود الذي علمت من صفته وقدرته أنه خلق الأرض في يومين هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم فكيف أثبتم له أنداداً من الخشب والحجر ثم إنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقاً للأرض في يومين أخبر أنه أتى بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك فالأول قوله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا والمراد منها الجبال وقد تقدم تفسير كونها رَوَاسِى َ في سورة النحل فإن قيل ما الفائدة في قوله مّن فَوْقِهَا ولم لم يقتصر على قوله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ كقوله تعالى وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ ( المرسلات 27 ) وَجَعَلْنَا فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ ( الرعد 3 ) قلنا لأنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ولكنه تعالى قال خلقت هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال أثقال على أثقال وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله سبحانه وتعالى والنوع الثاني مما أخبر الله تعالى في هذه الآية قوله وَبَارَكَ فِيهَا والبركة كثرة الخير والخيرات الحاصلة من الأرض أكثر مما يحيط به الشرح والبيان وقد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الخيرات والنوع الثالث قوله تعالى وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا وفيه أقوال الأول أن المعنى وقد فيها أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم قال محمد بن كعب قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان والقول الثاني قال مجاهد وقدر فيها أقواتها من المطر وعلى هذا القول فالأقوات للأرض لا للسكان والمعنى أن الله تعالى قدر لكل أرض حظها من المطر والقول الثالث أن المراد من إضافة الأقوات إلى الأرض كونها متولدة من تلك الأرض وحادثة فيها لأن النحويين قالوا يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى فقوله وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال ورأيت من كان يقول صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحرف والصنائع بركة لأن الله تعالى وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعيناً ولما ذكر الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التدبير قال بعده فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ وههنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى ذكر أنه خلق الأرض في يومين وذكر أنه أصلح هذه الأنواع الثلاثة في أربعة أيام أُخر وذكر أنه خلق السموات في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام لكنه ذكر في سائر الآيات أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام فلزم التناقض واعلم أن العلماء أجابوا عنه بأن قالوا المراد من قوله وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ مع اليومين الأولين وهذا كقول القائل سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوماً يريد كلا المسافتين ويقول الرجل للرجل أعطيتك ألفاً في شهر وألوفاً في شهرين فيدخل الألف في الألوف والشهر في الشهرين
السؤال الثاني أنه ملا ذكر أنه خلق الأرض في يومين فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وأبعد عن الغلط فلم ترك هذا التصريح وذكر ذلك الكلام المجمل(27/89)
والجواب أن قوله فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ فيه فائدة على ما إذا قال خلقت هذه الثلاثة في يومين وذلك لأنه لو قال خلقت هذه الأشياء في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء ثم قاتل بعده فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ دل ذلك على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان
السؤال الثالث كيف القراءات في قوله سَوَآء والجواب قال صاحب ( الكشاف ) قرىء سَوَآء بالحركات الثلاثلا الجر على الوصف والنصب على المصدر استوت سواء والرفع على هي سواء
السؤال الرابع ما المراد من كون تلك الأيام الأربعة سواء فنقول إن الأيام قد تكون متساوية المقادير كالأيام الموجودة في أماكن خط الاستواء وقد تكون مختلفة كالأيام الموجودة في سائر الأماكن فبيّن تعالى أن تلك الأيام الأربعة متساوية غير مختلفة
السؤال الخامس بم يتعلق قوله لّلسَّائِلِينَ الجواب فيه وجهان الأول أن الزجاج قال قوله فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ أي في تتمة أربعة أيام إذا عرفت هذا فالتقدير وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا في تتمة أربعة أيام لأجل السائلين أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها والثاني أنه متعلق بمحذوف والتقدير كأنه قيل هذا الحصر والبيان لأجل من سأل كم خلقت الأرض وما فيها ولما شرح الله تعالى كيفية تخليق الأرض وما فيها أتبعه بكيفية تخليق السموات فقال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ وفيه مباحث
البحث الأول قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهاً لا يلتفت معه إلى عمل آخر وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه ومنه قوله تعالى فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ ( فصلت 6 ) والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صرف يصرفه ذلك
البحث الثاني ذكر صاحب ( الأثر ) أنه كان عرش الله على الماء قبل خلق السموات والأرض فأحدث الله في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان أما الزبد فيبقى على وجه الماء فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات
واعلم أن هذه القصة غير موجودة في القرآن فإن دل عليه دليل صحيح قبل وإلا فلا وهذه القصة مذكورة في أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة وفيه أنه تعالى خلق السماء من أجزاء مظلمة وهذا هو المعقول لأنا قد دللنا في المعقولات على أن الظلمة ليست كيفية وجودية بدليل أنه لو جلس إنسان في ضوء السراج وإنسان آخر في الظلمة فإن الذي جلس في الضوء لا يرى مكان الجالس في الظلمة ويرى ذلك الهواء مظلماً وأما الذي جلس في الظلمة فإنه يرى ذلك الذي كان جالساً في الضوء ويرى ذلك الهواء مضيئاً ولو كانت الظلمة صفة قائمة بالهواء لما اختلفت الأحوال بحسب اختلاف أحوال الناظرين فثبت أن الظلمة عبارة عن عدم النور ثم لما ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمساً وقمراً وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة فثبت أن تلك الأجزاء حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السموات والشمس(27/90)
والقمر كانت مظلمة فصح تسميتها بالدخان لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان والله أعلم بحقيقة الحال
البحث الثالث قوله ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض وقوله تعالى وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ( النازعات 30 ) مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض واختلف العلماء في هذه المسألة والجواب المشهور أن يقال إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولاً ثم خلق بعدها السماء ثم بعد خلق السماء دحا الأرض وبهذا الطريق يزول التناقض واعلم أن هذا الجواب مشكل عندي من وجوه الأول أنه تعالى بيّن أنه خلق الأرض في يومين ثم إنه في اليوم الثلث فِيهَا رَوَاسِى َ رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة لأن خلق الجبال فيها لا يمكن إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة منبسطة وقوله تعالى وَبَارَكَ فِيهَا مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها وذلك لا يمكن إلا بعد صيرورتها منبسطة ثم إنه تعالى قال بعد ذلك ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة وحينئذ يعود السؤال المذكور الثاني أنه قد دلّت الدلائل الهندسية على أن الأرض كرة فهي في أول حدوثها إن قلنا إنها كانت كرة والآن بقيت كرة أيضاً فهي منذ خلقت كانت مدحوة وإن قلنا إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال إنها كانت مدحوة قبل ذلك ثم أزيل عنها هذه الصفة وذلك باطل الثالث أن الأرض جسم في غاية العظم والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحواً فيكون القول بأنها ما كانت مدحوة ثم صارت مدحوة قول باطل والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت في موضع الصخرة ببيت المقدس فهو كلام مشكل لأنه إن كانت المراد أنها على عظمها خلقت في ذلك الموضع فهذا قول بتداخل الأجسام الكثيفة وهو محال وإن كان المراد منه أنه خلق أولاً أجزاء صغيرة في ذلك الموضع ثم خلق بقية أحزائها وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولاً فهذا يكون اعترافاً بأن تخليق الأرض وقع متأخراً عن تخليق السماء الرابع أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين آخرين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام فإذا حصل دحو الأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل الخامس أنه لا نزاع أن قوله تعالى بعد هذه الآية ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً كناية عن إيجاد السماء والأرض فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يقتضي إيجاد الموجود وأنه محال باطل
فهذا تمام البحث عن هذا الجواب المشهور ونقل الواحدي في ( البسيط ) عن مقاتل أنه قال خلق الله السموات قبل الأرض وتأويل قوله ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان وقال لها قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان لما قال تعالى قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ( يوسف 77 ) معناه إن يكن سرق وقال تعالى وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا ( الأعراف 4 ) والمعنى فكان قد جاءها هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثُمَّ تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم والجمع بينهما يفيد(27/91)
التناقض وذلك دليل على أنه لم يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إنما حصل قبل وجودهما وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله ئتيا على الأمر والتكليف فوجب حمله على ما ذكرناه بقي على لفظ الآية سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في قوله تعالى دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً الجواب المقصود منه إظهار كمال القدرة والتقدير ائتي شئتما ذلك أو أبيتما كما يقول الجبار لمن تحت يده لتفعلن هذا شئت أو لم تشأ ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو مكرهين قَالَتَا أَتَيْنَا على الطوع لا على الكره وقيل إنه تعالى ذكر السماء والأرض ثم ذكر الطوع والكر فوجب أن يتصرف الطوع إلى السماء والكره إلى الأرض بتخصيص السماء بالطوع لوجوه أحدها أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف تشبه حيواناً مطيعاً لله تعالى بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال تارة تكون في السكون وأخرى في الحركات المضطربة وثانيها أن الموجود في السماء ليس لها إلا الطاعة قال تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 50 ) وأما أهل الأرض فليس الأمر في حقهم كذلك وثالثها السماء موصوفة بكمال الحال في جميع الأمور قالوا إنها أفضل الألوان وهي المستنيرة وأشكالها أفضل الأشكال وهي المستديرة ومكانها أفضل الأمكنة وهو الجو العالي وأجرامها أفضل الأجرام وهي الكواكب المتلألئة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة واختلاف الأحوال وتغير الذوات والصفات فلا جرم وقع التعبير عن تكون السماء بالطوع وعن تكون الأرض بالكره وإذا كان مدار خلق الأرض على الكره كان أهلها موصوفين أبداً بما ويجب الكره والكرب والقهر والقسر
السؤال الثاني ما المراد من قوله ائْتِيَا ومن قوله ءاتَيْنَا الجواب المراد ائتيا إلى الوجود والحصول وهو كقوله كُنْ فَيَكُونُ ( البقرة 117 ) وقيل المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف أي بأرض مدحوة قراراً ومهاداً وأي بسماء مقبية سقفاً لهم ومعنى الإتيان الحصول والوقوع على وفق المراد كما تقول أتى عمله مرضياً وجاء مقبولاً ويجوز أيضاً أن يكون المعنى لتأتي كل واحدة منكم صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة والتدبير من كون الأرض قراراً للسماء وكون السماء سقفاً للأرض
السؤال الثالث هلا قيل طائعين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سموات وأرضون الجواب لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصن بالطوع والكره قيل طائعين في موضع طائعات نحو قوله سَاجِدِينَ ( الأعراف 120 ) ومنهم من استدل به على كون السموات أحياء وقال الأرض في جوف السموات أقل من الذرة الصغيرة في جوف الجبل الكبير فلهذا السبب صارت اللفظة الدالة العقل والحياة غالبة إلا أن هذا القول باطل لإجماع المتكلمين على فساده
ثم قال تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وقضاء الشيء إنما هو إتمامه والفراغ منه والضمير في قوله فَقَضَاهُنَّ يجوز أن يرجع إلى السماء على المعنى كما قال طَائِعِينَ ونحوه أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ ( الحاقة 7 ) ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بسبع سموات والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال والثاني على التمييز(27/92)
ذكر أهل الأثر أنه تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفزع في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة فإن قيل اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بسبب طلوع الشمس وغروبها وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم قلنا معناه إنه مضى من المدة ما لوم حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدراف بيوم
ثم قال تعالى وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا قال مقاتل أمر في كل سماء بما أراد وقال قتادة خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وقال السدي خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد قال والله في كل سماء بيت يحج إليه ويطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل الكعبة ولو وقعت منه حصاة ما وقعت إلا على الكعبة والأقرب أن يقال قد ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب والله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص فمن الملائكة من هو في القيام في أول خلق العالم إلى قيام القيامة ومنهم ركوع لا ينتصبون ومنهم سجود لا يرفعون وإذا كان ذلك الأمر مختصاً بأهل ذلك السماء كان ذلك الأمر مختصاً بتلك السماء وقوله تعالى وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا أي وكان قد خص كل سماء بالأمر المضاف إليها كقوله وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا ( الأعرف 4 ) والمعنى فكان قد جاءها هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وكان قد أوحى وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثم تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم فالجمع بينهما تفيد التناقض ونظيره قول القائل ضربت اليوم زيداً ثم ضربت عمراً بالأمس فكما أن هذا باطل فكذا ما ذكرتموه وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه والمختار عند أي يقال خلق السموات مقدم على خلق الأرض بقي أن يقال كيف تأويل هذه الآية فنقول الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل هو عبارة عن التقدير والتقدير حق الله تعالى هو حكمه بأنه سيوجده وقضاؤه بذلك وإذا ثبت هذا فنقول قوله خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ معناه أنه قضى بحدوثه في يومين وقضاء الله بأنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء ولا يزم منه تقدم إحداث الأرض على إحدث السماء وحينئذٍ يزول السؤال فهذا ما وصلت إليه في هذه الموضع المشكل
ثم قال تعالى فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ
واعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإتيان فأطاعا وامتثلا وعند هذا حصل في الآية قولان
القول الأول أن تجري هذه الآية على ظاهرنا فنقول إن الله تعالى أمرهما بالإتيان فأطاعاه قال القائلون بهذا القول وهذا غير مستبعد ألا ترى أنه تعالى أمر الجبال أن تنطق مع داود عليه السلام فقال فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ(27/93)
( سبأ 10 ) والله تعالى تجلى للجبل قال فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ( الأعراف 143 ) والله تعالى أنطق الأيدي والأرجل فقال يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النور 24 ) وإذ كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله في ذات السماء والأرض حياة وعقلاً وفهماً ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما ويتأكد هذا الاحتمال بوجوه الأول أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا إذا منع منه مانع وههنا لا مانع فوجب إجراؤه على ظاهره الثاني أنه تعالى أخبر عنهما فقال قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ وهذا الجمع جمع ما يعقل ويعلم الثالث قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ( الأحزاب 72 ) وهذا يدل على كونها عارفة بالله مخصوصة بتوجيه تكاليف الله عليها والإشكال عليه أن يقال المراد من قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً الإتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة إذ لو كانت موجودة لصار حاصل هذا الأمر أن يقال يا موجود كن موجوداً وذلك لا يجوز فثبت أنها حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة ولا عارفة للخطاب فلم يجز توجيه الأمر عليها فإن قال قائل روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال قال سبحانه للسموات أطلعي شمسك وقمرك ونجومك وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك وكان الله تعالى أودع فيهما هذه الأشياء ثم أمرهما بإبرازها وإظهارها فنقول فعلى هذا التقدير لا يكون المراد من قوله أَتَيْنَا طَائِعِينَ حدوثهما في داتهما بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهرا ما كان مودعاً فيهما إلا أن هذا الكلام باطل لأنه تعالى قال فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ والفاء للتعقيب وذلك يدل على أن حدوث المسوات إنما حصل بعد قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً فهذا جملة ما يمكن ذكره في هذا البحث
القول الثاني أنقوله تعالى قَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ليس المراد منه توجيه الأمر والتكليف على السموات والأرض بل المراد منه أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما وكانتا في ذلك المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الأمير المطاع ونظيره قول القائل قال الجدار للوتد لم تشقني قال الوتد أسألمن يدقني فإن الحجر الذي ورائي ما خلاني ورائي
واعلم أن هذا عدول عن الظاهر وإنما جاز العدول عن الظاهر إذ قام دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إنما حصل قبل وجودهما وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً على الأمر والتكليف فوجب حمله على ما ذكرنا
واعلم أن إثبات الأمر والتكليف فيهما مشروط بحصول المأمور فيهما وهذا يدل على أنه تعالى أسكن هذه السموات والملائكة أو أنه تعالى أمرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء وليس في الآية ما يدل على أنه إنما خلق الملائكة مع السموات أو أنه تعالى خلقهم قبل السموات ثمإنه تعالى أسكنهم فيها وأيضاً ليس في الآية بيان الشرائع التي أمر الملائكة بها وهذه الأسرار لا تليق بعقول البشر بل هي أعلى من مصاعد أفهمامهم ومرامي أوهامهم ثم قال وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وهي النيرات التي خلقها في السموات وخص كل واحد بضوء معين وسر معين وطبيعة معينة لايعرفها إلا الله ثم قال وَحِفْظاً يعني وحفظناها حفظا يعني من الشياطين الذين يسرتقون السمع فأعد لكل شيطان نجماً يرميه به ولا يخطئه(27/94)
فمنها ما يحرق ومنها ما يقتل ومنها ما يجعله مخبلاً وعن ابن عباس أن اليهود سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن خلق السموات والأرض فقال ( خلق الله تعالى الأرض في يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال والشجر في يومين وخلق في يوم الخميس السماء وخلق في يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة ثم خلق آدم عليه السلام وأسكنه الجنة ثم قالت اليهود ثم ماذا يا محمد قال ثم استوى على العرش قالوا ثم استراح فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فنزل قوله تعلاى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( ق 38 )
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه التفاصيل قال ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ والعزيز إشارة إلى كمال القدرة والعليم إشارة إلى كمال العلم وما أحسن هذه الخاتمة لأن تلك الأعمال لا تمكن إلا بقدرة كاملة وعلم محيط
فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَة ً مِّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لاّنزَلَ مَلَائِكَة ً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة ً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة ً وَكَانُواْ بِأايَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْى ِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَة ِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَة ُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ
اعلم أن الكلام إنما ابتدىء من قوله أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ( فصلت 6 ) واحتج عليه بقوله قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ ( فصلت 9 ) وحاصله أن الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة كيف يجوز الكفر به وكيف يجوز جعل هذه الأجسام الخسيسة شركاء له في الإلهية ولما تمم تلك الحجة قال فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَة ً مّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ وبيان ذلك لأن وظيفة الحجة قد تمت على أكمل الوجوه فإن بقوا مصرين على الجهل لم يبق حينئذٍ علاج في حقهم إلا إنزال لعذاب عليهم فلهذا السبب قال فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ بمعنى أن أعرضوا عن قبول هذه الحجة القاهرة التي ذكرناها(27/95)
وأصروا على الجهل والتقليد فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ والإنذار هو التخويف قال المبرد والصاعقة الثائرة المهلكة لأي شيء كان وقرىء صَاعِقَة ً مّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ قال صاحب ( الكشاف ) وهي المرة من الصعق
ثم قال إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وفيه وجهان الأول المعنى أن الرسل المبعوثين إليهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم وأتوا بجميع وجوه الحيل فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض كما جكى الله تعالى عن الشيطان قوله ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ( الأعراف 17 ) يعني لآتينهم من كل جهة ولأعملن فيهم كل حيلة ويقول الرجل استدرت بفلان من كل جانب فلم تؤثر حيلتي فيه
السؤال الثاني المعنى أن الرسل جاءتهم من قبلهم ومن بعدهم فإن قيل الرسل الذين جاؤا من قبلهم ومن بعدهم كيف يمكن وصفهم بأنهم جاؤهم قلنا قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل وبهذا التقدير فكأن جميع الرسل قد جاؤهم
ثم قال أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ يعني أن الرسل الذي جاؤهم من بين أيديهم ومن خلفهم أمروهم بالتوحيد ونفي الشرك قال صاحب ( الكشاف ) أنفي قوله أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه لا تعبدوا أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا إلا الله
ثم حكى الله تعالى عن أولئك الكفار أنهم قالوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ مَلَائِكَة ً يعني أنهم كذبوا أولئك الرسل وقالوا الدليل على كونهم كاذبي أنه تعالى لو شاء إرسال الرسالة إلى البشر لجعل رسله من زرمة الملائكة لأن إرسال الملائكة إلى الخلق أفضى إلى المقصود من البعثة والرسالة ولما ذكروا هذه الشبهة قالوا فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ معناه فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فأنتم لستم برسل وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم وهو المراد من قوله فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهات في سورة الأنعام وقوله أُرْسِلْتُمْ بِهِ ليس بإقرار منهم بكون أولئك الأبياء رسلاً وإنما ذكروه حكاية لكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والسحر والكهانة فكلمه ثم أتانا بيان عن أمره فقال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علماً وما يخفى علي فأتاه فقال يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله لم تشتم ألهتنا وتضللنا فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك للواء فكنت رئيسنا وإن تكن بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن أي بنات من شئت من قريش وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ساكت فلما فزع قال بسم الله الرحمن الرحيم ( حم تنزيل من الرحمن الرحيم إلى قوله إلى قوله صَاعِقَة ً مّثْلَ صَاعِقَة ِ عَادٍ وَثَمُودَ فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلم احتبس عنهم قالوا لا نرى عتبة إلا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً ثم قال والله لقد كلمته فأجابني بشيء ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم ولقد علمت أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن(27/96)
ينزل بكم العذاب
واعلم أنه تعالى لما بيّن كفر قوم عاد وثمود على الإجمال بيّن خاصية كل واحدة من هاتين الطائفتين فقال فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وهذا الاستكبار فيه وجهان الأول إظهارالنخوة والكبر وعدم الالتفات إلى الغير والثاني الاستعلاء على الغير واستخدامهم ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو أنهم قالو مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة ً وكانوا مخصوصين بكبر الأجسام وشدة القوة ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنه لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم فقال أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة ً يعني أنهم وإن كانوا أقوى من غيرهم فالله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة فإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل فهذه المعاملة توجب عليهم كونهم منقادين لله تعالى خاضعين لأوامره ونواهيه
واحتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات القدرة ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة ً يدل على إثبات القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّة ِ الْمَتِينُ ( الذريات 58 ) فإن قيل صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما مع الآخر نسبة لكن قدرة العبد متناهية وقدرة الله لا نهاية لها والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي فما معنى قوله إن الله أشد منهم قوة قلنا هذا ورد على قانون قولنا الله أكبر
ثم قال وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ والمعنى أنهم كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوا كما يجحد المودع الوديعة
واعلم أن نظم الكلام أن يقال أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون وقوله وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة ً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة ً واعتراض وقع في البين لتقرير السبب الداعي لهم إلى الاستكبار
واعلم أنا ذكرنا أن مجامع الخصال الحميدة الإحسان إلى الخلق والتعظيم للخالق فقوله اسْتَكْبَرُواْ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ مضاد للإحسان إلى الخلق وقوله وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ مضاد للتعظيم للخالق وإذا كان الأمر كذلك فهم قد بلغوا في الصفات المذمومة الموجبة للهلاك والإبطال إلى الغاية القصوى فلهذا المعنى سلّط الله العذاب عليهم فقال فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً وفي الصرصر قولان أحدهما أنها العاصفة التي تصرصر أن تصوت في هبوبها وفي علة هذه التسمية وجوه قيل إن الرياح عند اشتداد هبوبها يسمع منها صوت يشبه صوت الصرصر فسميت هذه الرياح بهذا الاسم وقيل هو من صرير الباب وقيل من الصرة والصيحة ومنه قوله تعالى فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة ٍ ( الذاريات 29 ) والقول الثاني أنها الباردة التي تحرق ببردها كما تحرق النار بحرها وأصلها من الصر وهو البرد قال تعالى كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ( آل عمران 117 ) وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الرياح ثمان أربع منها عذاب العاصف والصرصر والعقيم والسموم وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ) وعن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خاتمي والمقصود أنه مع قلته أهلك الكل وذلك يدل على كمال قدرته
وأما قوله فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ففيه مسائل(27/97)
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو نَّحِسَاتٍ بسكون الحاء والباقون بكسر الحاء قال صاحب ( الكشاف ) يقال نحس نحساً نقيض سعد سعداً فهو نحس وأما نحس فهو إما مخفف نحس أو صفة على فعل أو نصف بمصدر
المسألة الثانية استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه االآية على أن بعض الأيام قد يكون نحساً وبعضها قد يكون سعداً وقالوا هذه الآية صريحة في هذا المعنى أجاب المتكلمون بأن قالوا أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ أي ذوات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه ويتصرف وأيضاً قالوا معنى كون هذه الأيام نحسات أن الله أهلكهم فيها أجاب المستدل االأول بأن النحسات في وضع اللغة هي المشؤمات لأن السعد يقابله السعد والكدر يقابله الصافي وأجاب عن السؤال الثاني أن الله تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات فوجب أن يكون كون تلك الأيام نحسة مغايراً لذلك العذاب الذي وقع فيها
ثم قال تعالى عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْى ِ فِى الْحَيَواة َ الدُّنْيَا أي عذاب الهواان والذل والسبب فيه أنهم استكبروا فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الخزي والهوان والذل إليهم
ثم قال تعالى وَلَعَذَابُ الاْخِرَة ِ أَخْزَى أي أشد إهانة وخزياً وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ أي أنهم يقعون في الخزي الشديد ومع ذلك فلا يكون لهم ناصر يدفع ذلك الخزي عنهم
ولما ذكر الله قصة عاد أتبعه بقصة ثمود فقال وَأَمَّا ثَمُودُ قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ثَمُودُ بالرفع والنصب منوناً وغير منون والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء وقرىء بضم الثاء وقوله فَهَدَيْنَاهُمْ أي دللناهم على طريق الخير والشر فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد
واعلم أن صاحب ( الكشاف ) ذكر في تفسير الهدى في قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية وهذه الآية تبطل قوله لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإقضاء إلى البغية لم يحصل فثبت أن قيد مفضياً إلى البغية غير معتبر في اسم الهدى
وقد ثبت في هذه الآية سؤال يشعر بذلك إلا أنه لم يذكر جواباً شافياً فتركناه قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن الله تعالى قد ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد لأن قوله وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ يدل على أنه تعالى قد نصب لهم الدلائل وقوله فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى فهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد وأقول بل هذه الآية من أدل الدلائل على أنهما إنما يحصلان من الله لا من العبد وبيانه من وجهين الأول أنهم إنما صدر عنهم ذلك العمى لأنهم أحبوا تحصيله فلما وقع في قلبهم هذه المحبة دون محبة ضده فإن حصل ذلك الترجيح لا لمرجح فهو باطل وإن كان المرجح هو العبد عاد الطلب وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب الثاني أنه تعالى قال فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمى وجهلاً بل ما لم يظن في ذلك العمى والجهل كونه تبصرة وعلماً لا يرغب فيه فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لا بد وأن يكون مسبوقاً بجهل آخر فإن كان ذلك(27/98)
الجهل الثاني باختياره أيضاً لزم التسلسل وهو محال فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب ولما وصف الله كفرهم قال فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَة ُ الْعَذَابِ الْهُونِ و صَاعِقَة ُ الْعَذَابِ أي داهية العذاب و الْهُونِ الهوان وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يريد من شركهم وتكذيبهم صالحاً وعقرهم الناقة وشرع صاحب ( الكشاف ) ههنا في سفاهة عظيمة والأولى أن لا يلتفت إليه أنه وإن كان قد سعى صعياً حسناً فيما يتعلق بالألفاظ إلا أن المسكين كان بعيداً من المعاني
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ يعني وكانوا يتقون الأعمال التي كان يأتي بها قوم عاد وثمود فإن قيل كيف يجوز للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينذر قومه مثل صااعقة عاد وثمود مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقد صرّح الله تعالى بذلك في قوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ( الأنفال 33 ) وجاء في الأحاديث الصحيحة أن اللهلله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع من الآفات قلنا إنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة جوزوا حدوث ما يكون من جنس ذلك وإن كان أقل درجة مهم وهذا القدر يكفي في التخويف
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَى ْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ
واعلم أنه تعالى لما بيّن كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه بكيفية عقوبتهم في الآخرة ليحصل منه تمام الاعتبار في الزجر والتحذير وقرأ نافع نَحْشُرُ بالنون أَعْدَاء بالنصب أضاف الحشر إلى نفسه والتقدير يحشر الله عزّ وجلّ أعداءه الكفار من الأولين والآخرين وحجته أنه معطوف على قوله وَنَجَّيْنَا ( فصلت 18 ) فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ ويقويه قوله وَيَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ ( مريم 85 ) وَحَشَرْنَاهُمْ ( الكهف 47 ) وأما الباقون(27/99)
فقرؤا على فعل ما لم يسم فاعله لأن قصة ثمود قد تمت وقوله وَيَوْمَ يُحْشَرُ ابتداء كلام آخر وأيضاً الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله احْشُرُواْ ( اللصفات 22 ) وهم الملائكة وأيضاً أن هذه القراءة موافقة لقوله فَهُمْ يُوزَعُونَ ( فصلت 19 ) وأيضاً فتقدير القراءة الأولى أن الله تعالى قال وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال ويوم نحشر أعداءنا إلى النار
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أعداء الله يحشرون إلى النار قال فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم والمقصود بيان أنهم إذا اجتمعوا سألوا عن أعمالهم
ثم قال حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم وفيه مسائل
المسألة الأولى التقدير حتى إذا جاؤنا شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وعلى هذا التقدير فكلمة مَا صلة وقيل فيها فائدة زائدة وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله أثم إذا ما وقع آمنتم به ( يونس 51 ) أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به
المسألة الثانية روي أن العبد يقول يوم القيامة يا رب العزة ألست قد وعدتين أن لا تظلمني فيقول الله تعالى فإن لك ذلك فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه باالأعمال التي صدرت منه فذلك قوله أثم إذا ما وقع آمنتم به ( يونس 51 ) أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به
المسألة الثانية روي أن العبد يقول يوم القيامة يا رب العزة ألست قد وعدتين أن لا تظلمني فيقول الله تعالى فإن لك ذلك فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه باالأعمال التي صدرت منه فذلك قوله ( يونس 51 ) أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به
المسألة الثانية روي أن العبد يقول يوم القيامة يا رب العزة ألست قد وعدتين أن لا تظلمني فيقول الله تعالى فإن لك ذلك فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه باالأعمال التي صدرت منه فذلك قوله شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم واختلف الناس في كيفية الشهادة وفيه ثلاثة أقوال أحدها أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه والثاني أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني كما خلق الكلام في الشجرة والثالث أن يظهر تلك الأعضاء أحوالاً تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه واعلم أن هذه المسألة صعبة على المعتزلة أما القول الأول فهو صعب على مذهبهم لأن البنية عندهم شرط لحصول العقل والقدرة فاللسان مع كونه لساناً يمتنع أن يكون محلاً للعلم والعقل فإن غير الله تعالى تلك البنية والصورة خرج عن كونه لساناً وجلداً وظاهر الآية يدل على إضافة تلك الشهادة إلى السمع والبصر والجولد فإن قلنا إن الله تعالى ما غير بنية هذه الأعضاء فحينئذ يمتنع عليها كونها ناطقة فاهمة وأما القول الثاني وهو أن يقالل إن الله تعالى خلق هذه الأصوات والحروف في هذه الأعضاء وهذا أيضاً باطل على أصول المعتزلة لأن مذهبهم أن المتكلم هو الذي فعل الكلام لا ما كان موصوفاً بالكلام فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق الكلام في الشجرة وكان المتكلم بذلك الكلام هو الله تعالى لا الشجرة فههنا لو قلنا إن الله خلق الأصوات والحروف في تلك الأعضاء لزم أن يكون الشاهد هو الله تعالى لا تلك ولزم أن يكون المتكلم بذلك الكلام هو الله لا تلك الأعضاء وظاهر القراآن يدل على أن تلك الشهادة شهادة صدرت من تلك الأعضاء لا من الله تعالى لأنه تعالى قال شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم وأيضاً أنهم قالوا لتلك الأعضاء لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا فقالت الأعضاء أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَى ْء وكل هذه الآياات دالة على أن المتكلم بتلك الكلمات هي تلك الأعضاء وأن تلك الكلمات ليست كلام الله تعالى فهذا توجيه الإشكال على هذين القولين وأما القول الثالث وهو تفسير هذه الشهادة بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء دالة على صدور تلك الأعمال منهم فهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والأصل عدمه فهذا(27/100)
منتهى الكلام في هذا البحث أما على مذهب أصحابنا فهذا الإشكال غير لازم لأن عندنا البنية ليست شرطاً للحياة ولا للعلم ولا للقدرة فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البنية ليست شرطاً للحياة ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة والله أعلم
المسألة الثالثة ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سبباً وفائدة وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد فالله تعالى ذكر ههنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم لأن الذوق دالخل في اللمس من بعض الوجوه لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام فكان هذا داخلاً فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي إذا عرفت هذا فنقول نقل عن ابن عباس أنه قال المراد من شهادة الجلود شهادة االفروج قال وهذا من باب الكنايات كما قال وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا ( البقرة 235 ) وأراد النكاح وقال أَوْ جَاء مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ ( النساء 43 ) والمراد قضاء الحاجة وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه ) وعلى هذا التقدير فتكون هذه الآية وعيداً شديداً في الإتيان بالزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ونهاية الأمر فيها إنما تحصل بالفخذ
ثم حكى الله تعالى أنهم يقولون لتلك الأعضاء لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَى ْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حالما كنتم في الدنيا ثم على خلقكم وإنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء
ثم قال تعالى وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ والمعنى إثبات أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة إلا أن استتارهم ما كان لأجل خوفهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة ولكن ذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يقدمون عليها على سبيل الخفية والاستتار عن ابن مسعود قال كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر عللى ثقفيان وقرشي فقال أحدهم أترون الله يسمع ما تقولون فقال الرجلان إذا سمعنا أصواتنا سمع وإلا لم يسمع فذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ
ثم قال تعالى وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ وهذا نص صريح في أن من ظن بالله تعالى أنه يخرج شيء من المعلومات عن علمه فإنه يكون من الهالكين الخاسرين قال أهل التحقيق الظن قسمان ظن حسن بالله تعالى وظن فاسد أما الظن الحسن فهو أن يظن به الرحمة والفضل قال ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن الله عزّ وجلّ ( أنا عند ظن عبدي بي ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) والظن القبيح فاسد وهو أن يظن بالله أنه يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال وقال قتادة الظن نوعان ظن منج وظن مرد فالمنح قوله إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ( الحاقة 20 ) وقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ(27/101)
( البقرة 46 ) وأما الظن المردي فهو قوله وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ قال صاحب ( الكشاف ) تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ رفع بالابتداء وظنكم و بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ خبران ويجوز أن يكون ظنكم بدلاً من ذلاكم وأرداكم الخبر
ثم قال فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ يعني إن أمسكوا عن الاستغالثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أي مقاماً لهم وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ أي لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها ونظيره قوله تعالى أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ( إبراهيم 21 ) وقرىء وإن يستعتبوا فما هم من الممعتبين أي أن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون أي لا سبيل لهم إلى ذلك
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِأاياتِنَا يَجْحَدُون وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الاٌّ سْفَلِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر فقال وَقَضَيْنَا لَهُمْ قُرَنَاء وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الصحاح ) يقال قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع وهما قيضان كما يقال بيعان وقيض الله فلاناً أي جاءه به وأتى به له ومنه قوله تعالى وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر فقالوا إنه تعالى ذكر أنه قيض لهم أولئك القرناء وكان عالماً بأنه متى قيض لهم أولئك القرناء فإن يزينوا الباطل لهم وكل من فعل فعلاً وعلم أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر لا محالة فإن فاعل ذلك الفعل لا بد وأن يكون مريداً لذلك الأثر فثبت أنه تعالى لما قيض لهم قرناء فقد أراد منهم ذلك الكفر أجاب الجبائي عنه بأن قال لو أراد المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين إذ الفاعل لما أراده منه غيره يجب أن يكون مطيعاً له وبأن قوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(27/102)
( الذاريات 56 ) يدل على أنه لم يرد منهم إلا العبادة فثبت بهذا أنه تعالى لم يرد منهم المعاصي وأما هذه الآية فنقول إنه تعالى لم يقل وقيضنا لهم قرناء ليزينوا لهم وإنما قال فَزَيَّنُواْ لَهُم فهو تعالى قيض القرناء لهم بمعنى أنه تعالى أخرج كل أحد إلى آخر من جنسه فقيض أحد الزوجين للآخر والغني للفقير والفقير للغني ثم بيّن تعالى أن بعضهم يزين المعاصي للبعض
واعلم أن وجه استدلال أصحابنا ما ذكرناه وهو أن من فعل فعلاً وعلم قطعاً أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر فاعل ذلك الفعل يكون مريداً لذلك الأثر فههنا الله تعالى قيض أولئك القرناء لهم وعلم أنه متى قيض أولئك القرناء لهم فإنهم يقعون في ذلك الكفر والضلال وما ذكره الجبائي لا يدفع ذلك وقلوه ولو أراد الله منهم المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين لله قلنا لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعاً له لوجب أن يكون الله مطيعاً لعباده إذا فعل ما أرادوه معلوم أنه باطل وأيضاً فهذا إلزام لفظي لأنه يقال إن أردت بالطاعة أنه فعل ما أراد فهذا إلزام للشيء على نفسه وأن أردت غيره فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه أنه هل يصح أم لا
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وذكر الزجاج فيه وجهين الأول زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنّة ولا نار وما خلفهم من أمر الدنيا فزينوا أن الدنيا قديمة وأنه لا فاعل ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك الثاني زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها وما خلفهم وما يزعمون أنهم يعلمونه وعبّر ابن زيد عنه فقال زينوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة وما بقي من أعمالهم الخسيسة
ثم قال تعالى وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْمَ فِيهَا أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ فقوله في أمم في محل النصب على الحال من الضمير في عليهم والتقدير حق عليهم القول حال كونهم كائنين في جملة أُمَمٌ من المتقدمين إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ واحتج أصحابنا أيضاً بأنه تعالى أخبر بأن هؤلاء حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فلو لم يكونوا كفاراً لانقلب هذا القول الحق باطلاً وهذا العلم جهلاً وهذا الخبر الصدق كذباً وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال فثبت أن صدور الإيمان عنهم وعدم صدور الكفر عنهم محال
واعلم أن الكلام في أول السورة ابتدىء من قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ إلى قوله فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ( فصلت 5 ) فأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة بوجوه من الأجوبة واتصل الكلام بعضه بالبعض إلى هذا الموضع ثم إنه حكى عنهم شبهة أخرى فقال وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَالْغَوْاْ فِيهِ بفتح الغين وضمها يقال لغى يلغي ويلغو واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته
واعلم أن القوم علموا أن القرآن كلام كالم في المعنى وفي اللفظ وأن كل من سمعه وقف على جزالة ألفاظه وأْاط عقله بمعانيه وقضى عقله بأنه كلام حق واجد القبول فدبروا تدببيراً في منع الناس عن استماعه فقال بعضهم لبعض لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ إذا قرىء وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة والكلمات الباطلة حتى تخلطوا على القارىء وتشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته كاانت قريش يوصي بذلك بعضهم بعضاً والمراد افعلوا عند تلاوة القرآن ما يكون لغواً وباطلاً(27/103)
لتخرجوا قراءة القرآن عن أن تصير مفهومة للناس فبهذا الطريق تغلبون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا جهل منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلون بالغو والباطل من العمل والله تعالى ينصر محمداً بفضله ولما ذكر الله تعالى ذلك هددهم بالعذاب الشديد فقال فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب الشديد فإذا كان القليل منه عذاباً شديداً فكيف يكون حال الكثير منه ثم قال وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ واختلفوا فيه فقال الأكثرون المراد جزاء سوء أعمالهم وقال الحسن بل المراد أنه لا يجازيهم على محاسن أعمالهم لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت تلك الأعمال الحسنة عنهم ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة الباطلة فلا جرم لم يتحصلوا إلا على جزاء السيئات
ثم قال تعالى ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ والمعنى أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ بين أن ذلك الأسوأ الذي جعل جزاء أعداء الله هو النار
ثم قال تعالى لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ أي لهم في جملة النار دار السيئات معينة وهي دار العذاب المخلد لهم جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ أي جزاء بما كانوا يلغون في القراءة وإنما مساه جحوداً لأنهم لما علموا أن القررن بالغ إلى حد الإهجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً إلا أنهم جحدوا للحسد
واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السوء بين أن الكفار عند الوقوع في العذاب الشديد يقولون رَبَّنَا أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنّ وَالإِنسِ والسبب في ذكر هذين القسمين أن الشيطان على ضربين جني وإنسي قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ ( الانعام 112 ) وقال الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ ( الناس 5 ) وقيل هما إبليس وقابيل لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل
وقرىء أَرِنَا بسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخذ فخذ وقيل معناه أعطنا الذين أضلانا وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فالمعنى بصرنيه وإذا قلته بالسكون فهو استعطاء معناه أعطني ثوبك
ثم قال تعالى نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا قال مقاتل يكونان أسفل منا في النار لِيَكُونَا مِنَ الاْسْفَلِينَ قال الزجاج ليكونا في الدرك الأسفل من النار وكان بعض تلامذتي ممن يميل إلى الحكمة يقول المراد باللذين يضلان الشهوة والغضب وإليهما الإشارة في قصة الملائكة بقوله أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ( البقرة 30 ) ثم قال والمراد بقوله نَجْعَلُهَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا يعني يا ربنا أعنا حتى نجعل الشهوة والغضب تحت أقدام جوهر النفس القدسية والمراد بكونهما تحت أقدمه كونهما مسخرين للنفس القدسية مطيعين لها وأن لا يكونا مسؤولين عليها قاهرين لها(27/104)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَة ُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّ خِرَة ِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ
أعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بهذا الوعد الشريف وهذا ترتيب لطيف مدار كل القرآن عليه وقد ذكرنا مراراً أن الكمالات على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية وأشرف المراتب النفسانية وأوسطها البدنية وأدونها الخارجية وذكرنا أن الكمالات النفسانية محصورة في نوعين العلم اليقيني والعمل الصالح فإن أهل التحقيق قالوا كما الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله وإليه الإشارة بقوله إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ورأس الأعمال الصالحة ورئيسها أن يكون الإنسان مستقيماً في الوسط غير مائل إلى طرفي الإفراض والتفريط كما قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) وقال أيضاً اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وإليه الإشارة في هذه الآية بقوله ثُمَّ اسْتَقَامُواْ وسمعت أن القارىء قرأ في مجلس العبادي هذه الآية فقال العبادي والقيامة في القيامة بقدر الاستقامة إذا عرفت هذا فنقول قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ليس المراد منه القول باللسان فقط لأن ذلك لا يفيد الاستقامة فلما ذكر عقيب ذلك القول الاستقامة علمنا أن ذلك القول كان مقروناً باليقين التام والمعرفة الحقيقية إذ عرفت هذا فنقول في الاستقامة قولان أحدهما أن المراد منه الاستقامة في الدين والتوحيد والمعرفة الثاني أن المراد منه الاستقامة في الأعمال الصالحة أما على القول الأول ففيه عبارات قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم استقاموا أي لم يتلفتوا إلى إله غيره قال ابن عباس في بعض الروايات هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وقعفي أنواع شديدة من البلاء والمحنة ولم يتغير ألبتة عن دينه فكان هو الذي قال رَبُّنَا اللَّهُ وبقي مستقيماً عليه لم يتغير بسبب من الأسباب وأقول يمكن فيه وجوه أخرى وذلك أن من أقر بأن لهذا العالم إلهاً بقيت له مقامات أخرى فأولها أن لا يتوغل في جانب الاثبات إلى حيث ينتهي إلى التشبيه بل يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل وأيضاً يجب أن يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين الجبر والقدر وكذا في الرجاء والقنوط يجب أن يكون على الخط المتسقيم فهذا هو المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ وأما على القول الثاني وهو أن نحمل الاستقامة على الإتيان بالأعمال الصالحة فهذا قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين قالوا وهذا أولى حتى يكون قوله إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ متناولاً للقول والاعتقاد ويكون قوله ثُمَّ اسْتَقَامُواْ متناولاً للأعمال الصالحة
ثم قال تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَة َ قيل عند الموت وقيل في مواقف ثلاثة عند الموت وفي القبر وعند البعث إلى القيامة أَلاَّ تَخَافُواْ أن بمعنى أي أو بمخففة من الثقيلة وأصله بأنه لا تخافوا والهاء ضمير(27/105)
لشأن واعلم أن الغاية القصوى في رعاية المصالح دفع المضار وجلب المنافع ومعلوم أن دفع المضرة أولى بالرعاية من جبل المصحلة والمضرة إما أن تكون حاصلة في المستقبل أو في الحال أو في الماضي وههنا دقيقة عقلية وهي أن المتسقبل مقدم على الحاضر والحاضر مقدم على الماضي فإن الشيء الذي لم يوجد ويتوقع حدوثه يكون مستقبلاً فإذا وجد يصير حاضراً فإذا عدم وفني بعد ذلك يصير ماضياً وأيضاً المستقبل في كل ساعة يصير أقرب حصولاً والماضي في كل حالة أبعد حصولاً ولهذا قال الشاعر
فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس وإذا ثبت هذا فالمضار التي يتوقع حصولها في المستقبل أولى بالدفع من المضار الماضية وأيضاً الخوف عبارة عن تألم القلب بسبب توقع حصول مضرة في المستقبل والغم عبارة عن تألم القلب بسبب قوة نفع كان موجوداً في الماضي وإذا كان كذلك فدفع الخوف أولى من دفع الحزن الحاصل بسبب الغم إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم في أول الأمر يخبرون بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية ثم بعد الفراغ منه يبشرون بحصول المنافع وهو قوله تعالى وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ فإن قيل البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع فأما إذا أخبر الرجل بحصول منفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كانالإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارة والمؤمن قد يسمع بشارات الخير فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة فما السبب في تسمية هذا الخبر بالبشارة قلنا المؤمن يسمع أن من كان مؤمناً تقياً كان له الجنة أما من لم يسمع ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا الكلام من الملائكة كان هذا إخباراً بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الأول بذلك فكان ذلك بشارة
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث لا يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد بل يكون آمن القلب ساكن الصدر لأن قوله أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ يفيد نفي الخوف والحزن على الإطلاق
ثم إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم قالوا للمؤمنين نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال وَقَضَيْنَا لَهُمْ قُرَنَاء ( فصلت 25 ) ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين أن الملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية بالإلهامات والمكاشفات اليقينية والمقامات الحقيقية كما أن للشياطين تأثيرات في الأوراح بإلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إليها وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطبية الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات فهم يقولون كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدينا فهي تكون باقية في الآخرة فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة وهي كالشعلة بالنسبة إلى المشي والقطرة بالنسبة إلى البحر والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات ) فإذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية فقد زال الغطاء والوطاء فيتصل الأثر بالمؤثر والقطرة بالبحر والشعلة(27/106)
بالشمس فهذا هو المراد من قوله نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَواة ِ وَفِي الاْخِرَة ِ ثم قال وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ قال ابن عباس وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ أي ما تتمنون كقوله تعالى لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ( يس 57 ) فإن قيل فعلى هذا التفسير لا يبقى فرق بين قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وبين قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ قلنا الأقرب عندي أن قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ إشارة إلى الجنة الجسمانية وقوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( يونس 10 )
ثم قال نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ والنزل رزق النزيل وهو الضيف وانتصابه على الحال قال العارفون دلّت هذه الآية على أن كل هذه الأشياء المذكورة جارية مجرى النزل والكريم إذ أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفسية بعدها وتلك الخلع النفسية ليست إلا السعادات الحاصلة عند الرؤية والتجلي والكشف التام نسأل الله تعالى أن يجعلنا لها أهلاً بفضله وكرمه إنه قريب مجيب
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَة ُ وَلاَ السَّيِّئَة ُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى أنا ذكرنا أن الكلام من أول هذه السورة إنما ابتدىء حيث قالوا للرسول قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ ( فصلت 5 ) ومرادهم ألا نقبل قولك ولا نلتفت إلى دليلك ثم ذكروا طريقة أخرى في السفاهة فقالوا لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ( فصلت 26 ) وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية والبيانات الكافية في دفع هذه الشبهات وإزالة هذه الضلالات ثم إنه سبحانه وتعالى بيّن أن القوم وإن أتوا بهذه الكلمات الفاسدة إلا أنه يجب عليك تتابع المواظبة على التبليغ والدعوة فإن الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات وعبّر عن هذا المعنى فقال وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فهذا وجه شريف حسن في نظم آيات هذه السورة وفيه وجه آخر وهو أن مراتب(27/107)
السعادات اثنان التام وفوق التام أما التام فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملاً في ذاته فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بعدها بتكميل الناقصين وهو فوق التام إذا عرفت هذا فنقول إن قوله إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( فصلت 30 ) إشارة إلى المرتبة الأولى وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية وهي الاشتغال بتكميل الناقصين وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق وهو المراد من قوله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ فهذا أيضاً وجه حسن في نظم هذه الآيات
واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية ونصاباً وافياً من العلوم الإلهية الكشفية عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن
المسألة الثانية من الناس من قال المراد من قوله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومنهم من قال هم المؤذنون ولكن الحق المقطوع به أن كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق فهو داخل فيه والدعوة إلى الله مراتب
فالمرتبة الأولى دعوة الأنبياء عليهم السلام راجحة على دعوة غيرهم من وجوه أحدها أنهم جمعوا بين الدعوة بالحجة أولاً ثم الدعوة بالسيف ثانياً وقلما اتفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين وثانيها أنهم هم المبتدئون بهذه الدعوة وأما العلماء فإنهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء والشارع في إحداث الأمر الشريف على طريق الابتداء أفضل وثالثها أن نفوسهم أققوى قوة وأرواحهم أصفى جورهاً فكانت تأثيراتها في إحياء القلوب الميتة وإشراق الأرواح الكدرة أكمل فكانت دعوتهم أفضل ورابعها أن النفوس على ثلاثة أقسام ناقصة وكاملة لا تقوى على تكميل الناقصين وكاملة تقوى على تكميل الناقصين فالقسم الأول العوام والقسم الثاني هم الأولياء والقسم الثالث هم الأنبياء ولهذا السبب قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( علماء أمتي كأنبياء إسرائيل ) وإذا عرفت هذا فنقول إن نفس الأنبياء حصلت لها ميزتان الكمال في الذات والتكميل للغير فكانت قوتهم على الدعوة أقوى وكانت ادرجاتهم أفضل وأكمل إذا عرفت هذا فنقول الأنبياء عليهم السلام لهم صفتان العلم والقدرة أما العلماء فهم نواب الأنبياء في العلم وأما الملوك فهم نواب الأنبياء في القدرة والعلم يوجب الإستيلاء على الأرواح والقدرة توجب الاستيلاء على الأجساد فالعلماء خلفاء الأنبياء في عالم الأوراح والملوك خلفاء الأنبياء في عالم الأجساد وإذا عرفت هذا ظهر أن أكمل الدرجات في الدعوة إلى الله بعد الأنبياء درجة العلماء ثم العلماء على ثلاثة أقسام العلماء بالله والعلماء بصفات الله والعلماء بأحكام الله أما العلماء بالله فهم الحكماء الذين قال الله تعالى في حقهم يُؤْتِى الْحِكْمَة َ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 229 ) وأما العلماء بصفات الله تعالى فهم أصحاب الأصول وأما العلماء بأحكام الله فهم الفقهاء ولكل واحد من هذه المقامات ثلاث درجات لا ينهاية لها فلهذا السبب كان للدعوة إلى الله درجت لا نهاية لها وأما الملوك فهم أيضاً يدعون إلى دين الله بالسيف وذلك بوجهين إما بتحصيله عند عدمه مثل المحاربة مع الكفار وإما بإيقاعه عند وجوده وذلك مثل قولنا المرتد يقتل وأما المؤذنون فهم يدخلون في هذا الباب دخولاً ضعيفاً أما دخولهم فيه فلأن ذكر كلمات الأذان دعوة إلى الصلاة فكان ذلك داخلاً تحت الدعاء إلى الله وأما كون(27/108)
هذه المرتبة ضعيفة فلأن الظاهر من حال المؤذن أنه لا يحيط بمعاني تلك الكلمات وبتقدير أن يكون محيطاً بها إلا أنه لا يريد بذكرها تلك المعاني الشريفة فهذا هو الكلام في مراتب الدعوة إلى الله
المسألة الثالثة قوله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ يدل على أن الدعوة إلى الله أحسن من كل ما سوها إذا عرفت هذا فنقول كل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الله أحسن الأعمال بمتقضى هذه الآية وكل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب ثم ينتج أن الدعوة إلى الله واجبة ثم نقول الأذان دعوة إلى الله والدعوة إليه واجبة فينتج لأذان واجب واعلم أن الأكثرين من الفقهاء زعموا أن الأذان غير واجب وزعموا أن الأذان غير داخل في هذه الآية والدليل القاطع عليه أن لدعوة المرادة بهذه الآية يجب أن تكون أحسن الأقوال وثبت أن الأذان ليس أحسن الأقوال لأن الدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى بالدلائل اليقينية أحسن من الأذان ينتج من الشكل الثاني أن الداخل تحت هذه الآية ليس هو لأذان
المسألة الرابعة اختلف الناس في أن الأولى أن يقول الرجل أنا المسلم أو الأولى أن يقول أنا مسلم إن شاء الله فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فإن التقدير ومن أحسن قولاً ممن قال إني من المسلمين فحكم بأن هذا القول أحسن الأقوال ولو كان قولنا إن شاء الله معتبراً في كونه أحسن الأقوال لبطل ما دل عليه ظاهر هذه الآية
المسألة الخامسة الآية تدل على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة أولها الدعوة إلى الله وثانيها العمل الصالح وثالثها أن يكون من المسلمين أما الدعوة إلى الله فقد شرحناها وهي عبارة عن الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية والبراهين القطعية
وأما قوله وَعَمِلَ صَالِحَاً فاعلم أن العمل الصالح إما أن يكون عمل القلوب وهو المعرفة أو عمل الجوارح وهو سائر الطاعات
وأما قوله وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فهو أن ينضم إلى عمل القلب وعمل الجوارح الإقرار باللسان فيكون هذا الرجل موصوفاً بخصال أربعة أحدها الإقرار باللسان والثاني الأعمال الصالحة بالجوارح والثالث الاعتقاد الحق بالقلب والرابع الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله ولا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس وأفضلهم وكمال الدرجة في هذه المرات بالأربعة ليس إلا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَة ُ وَلاَ السَّيّئَة ُ وعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدىء من أن الله حكى عنهم أنهم قالوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ( فصلت 5 ) فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة وعدم التأثر بدلائل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه وذكر الوجوه الكثيرة وأردافها بالوعد والوعيد ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم لا تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ( فصلت 26 ) وأجاب عنها أيضاً بالوجوه الكثيرة ثم إنه تعالى بعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في أن لا يترك الدعوة إلى الله فابتدأ أولاً بأن قال إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى وهي أن الدعوة إلى الله من أعظم الدرجات فصار(27/109)
الكلام من أول السورة إلى هذا الموضع واقعاً على أحسن وجوه الترتيب ثم كأن سأل فقال إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به فعند هذا ذكر الله ما يصلح لأن يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَة ُ وَلاَ السَّيّئَة ُ والمراد بالحسنة دعوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الدين الحق والصبر على جهالة الكفار وترك الانتقام وترك الالتفات إليهم والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وما ذكروه في قولهم لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ فكأنه قال يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة ولا تستوي الحسنة ولا السيئة بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجباً للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة وهم بالضد من ذلك فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة
ثم قال ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة
ثم قال فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ يعني إذا قابلت إسائتهم بالإحسان وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضة إلى المودة ولما أرشد الله تعالى إلى هذا الطريق النافع في الدين والدنيا والآخرة عظمة فقال وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ قال الزجاج أي وما يلقى هذه الفعلة إلا الذين صبروا على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام
ثم قال وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ من الفضائل النفسانية والدرجة العالية في القوة الروحانية فإن الاشتغال بالانتقام والدفع لا يحصل إلا بعد تأثر النفس وتأثر النفس من الواردات الخارجية لا يحصل إلا عند ضعف النفس فأما إذا كانت النفس قوية الجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية وإذا لم تتأثر منها لم تضعف ولم تتأذ ولم تشتغل بالانتقام فثبت أن هذه السيرة التي شرحناها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من قوة النفس وصفاء الجوهر وطهارة الذات ويحتمل أن يكون المراد وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة فعلى هذا الوجه قوله وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ مدح بفعل الصبر وقوله وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ وعد بأعظم الحظ من الثواب
ولما ذكر هذا الطريق الكامل في دفع الغضب والانتقام وفي ترك الخصومة ذكر عقيبه طريقاً آخر عظيم النفع أيضاً في هذا الباب فقال وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وهذه الآية مع ما فيها من الفوائد الجليلة مفسرة في آخر سورة الأعراف على الاستقصاء قال صاحب ( الكشاف ) النزغ والنسغ بمعنى واحد وهو شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي وجعل النزغ نازغاً كما قيل جد جده أو أُريد وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر وبالجملة فالمقصود من الآية وإن صرفك الشيطان عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره وامض على شأنك ولا تطعه والله أعلم(27/110)
وَمِنْ ءَايَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأمُونَ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَة ً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْى ِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوا هو الدعوة إلى الله تعالى أردفه بذكر الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته تنبيهاً على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته فهذه تنبيهات شريفة مستفادة من تناسق هذه الآيات فكان العلم بهذه اللطائف أحسن علوم القرآن وقد عرفت أن الدلائل الدالة على هذه المطالب العالية هي العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض فبدأ ههنا بذكر الفلكيات وهي الليل والنهار وإنما قدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيهاً على أن الظلمة عدم والنور وجود والعدم سابق على الوجود فهذا كالتنبيه على حدوث هذه الأشياء وأما دلالة الشمس والقمر والأفلاك وسائر الكواكب على وجود الصانع فقد شرحناها في هذا الكتاب مراراً لا سيما في تفسير قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الفاتحة 2 ) وفي تفسير قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 )
ولما بيّن أن الشمس والقمر محدثان وهما دليلان على وجود الإله القادر قال لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله والسجدة عبارة عن نهاية التعظيم فهي لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات فقال لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ لأنهما عبدان مخلوقان وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الخالق القادر الحكيم والضمير في قوله خَلَقَهُنَّ لليل والنهار والقمر لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث يقال للأقلام بريتها وبريتهن ولما قال مّنْ ءايَاتِهِ كن في معنى الإناث فقال خَلَقَهُنَّ وإنما قال إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لأن ناساً كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق الأشياء فإن قيل إذا كان لا بد في الصلاة من قبلة معينة فلو جعلنا الشمس قبلة معينة عند السجود كان ذلك أولى قلنا الشمس جوهر مشرق عظيم الرفعة عالي الدرجة فلو أذن الشرع في جعلها قبلة في الصلوات فعند اعتياد السجود إلى جانب الشمس ربما غلب على الأوهام أن ذلك السجود للشمس لا لله(27/111)
فلأجل الخوف من هذا المحذور نهى الشارع الحكيم عن جعل الشمس قبلة للسجود بخلاف الحجر المعني فإنه ليس فيه ما يوهم الإلهية فكان المقصود من القبلة حاصلاً والمحذور المذكور زائلاً فكان هذا أولى واعلم أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن موضع السجود هو قوله تَعْبُدُونَ لأجل أن قوله وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ متصل به وعند أبي حنيفة هو قوله وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ لأن الكلام إنما يتم عنده
ثم إنه تعالى لما أمر بالسجود قال بعده فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ وفيه سؤالات
السؤال الأول إن الذين يسجدون للشمس والقمر يقولون نحن أقل وأذل من أن يحصل لنا أهلية عبودية الله تعالى ولكنا عبيد للشمس وهما عبدان لله وإذا كان قول هؤلاء هكذا فكيف يليق أن يقال إنهم استكبروا عن السجود لله والجواب ليس المراد من لفظ الاستكبار ما ذكرتم بل المراد فإن استكبروا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر
السؤال الثاني أن المشبهة تمسكوا بقوله فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ في إثبات المكان والجهة لله تعالى والجواب أنه يقال عند الملك من الجند كذا وكذا ولا يراد به قرب المكان فكذا ههنا ويدل عليه قوله ( أنا عند ظن عبدي بي وأنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) ويقال عند الشافعي رضي الله عنه إن المسلم لا يقتل بالذمي
السؤال الثالث هل تدل هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر الجواب نعم لأنه إنما يستدل بحال الأعلى على حال الأدون فيقال هؤلاء الأقوام إن استكبروا عن طاعة فلان فالأكابر يخدمونه ويعترفون بتقدمه فثبت أن هذا النوع من الاستدلال إنما يحسن بحال الأعلى على حال الأدون
السؤال الرابع قال ههنا في صفة الملائكة يَسْبَحُونَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فهذا يدل على أنهم مواظبون على التسبيح لا ينفكون عنه لحظة واحدة واشتغالهم بهذا العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال ككونهم ينزلون إلى الأرض كما قال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وقال وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( الحجر 51 ) وقوله تعالى عَلَيْهَا مَلَئِكَة ٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ( التحريم 6 ) الجواب إن الذين ذكرهم الله تعالى ههنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة وهم الأشراف الأكابر منهم لأنه تعالى وصفهنم بكونهم عنده والمراد من هذه العندية كمال الشرف والمنقبة وهذا لا ينافي كون طائفة أخرى من الملائكة مشتغلين بسائر الأعمال فإن قالوا هب أن الأمر كذلك إلا أنهم لا بد وأن يتنفسوا فاشتغلهم بذلك التنفس يصدهم عن تلك الحالة من التسبيح قلنا كما أن التنفس سبب لصلاح حال الحياة بالنسبة إلى البشر فذكر الله تعالى سبب لصلاح حالهم في حياتهم ولا يجب على العاقل المنصف أن يقيس أحوال الملائكة في صفاء جوهرها وإشراق ذواتها واستغراقها في معارج معارف الله بأحوال البشر فإن بين الحالتين بعد المشرقين
ثم قال تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَاشِعَة ً
واعلم أنه تعالى لما ذكر الآيات الأربع الفلكية وهي الليل والنهار والشمس والقمر أتبعها بذكر آية(27/112)
أرضية فقال وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَاشِعَة ً والخشوع التذلل والتصاغر واستعير هذا اللفظ لحال الأرض حال خلوها عن المطر والنبات فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أي تحركت بالنبات وربت انتفخت لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات ثم قال إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا فَانظُرْ إِلَى يعني أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها وقد ذكرنا تقرير هذا الدليل مراراً لا حصر لها ثم قال إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وهذا هو الدليل الأصلي وتقريره إن عودة التأليف والتركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته وعود الحياة والعقل والقدرة إلى تلك الاْجزاء بعد اجتماعها أيضاً أمر ممكن لذاته والله تعالى قادر على الممكنات فوجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب والتأليف والحياة والقدرة والعقل والفهم إلى تلك الأجزاء وهذا يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه ألبتة والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِناً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الدعوة إلى دين الله تعالى أعظم المناصب وأشرف المراتب ثم بيّن أن الدعوة إلى دين الله تعالى إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات ويحاول إلقاء الشبهات فيها فقال إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءايَاتِنَا يقال ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق فالملحد هو المنحرف ثم بحكم العرف اختص بالمنحرف عن الحق إلى الباطل وقوله لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا تهديد كما إذا قال الملك المهيب إن الذين ينازعونن في ملكي أعرفهم فإنه يكون ذلك تهديداً ثم قال أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ مِن إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى وهذا استفهام بمعنى التقرير والغرض التنبيه على أن الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار والذين يؤمنون بآياتنا يأتون آمنين يوم القيامة ثم قال اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وهذا أيضاً تهديد ثالث ونظيره ما يقوله الملك المهيب عند الغضب الشديد إذا أخذ يعاتب بعض عبيده ثم يقول لهم اعملوا ما شئتم فإه هذا مما يدل على الوعيد الشديد
ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وهذا أيضاً تهديد وفي جوابه وجهان أحدهما أنه محذوف كسائر الأجوبة المحذوفة في القرآن على تقدير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يجازون بكفرهم أو ما أشبه والثاني أن جوابه قوله أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ والأول أصوب(27/113)
ولما بالغ في تهديد الذين يلحدون في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن فقال وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ والعزيز له معنيان أحدهما الغالب القاهر والثاني الذي لا يوجد نظيره أما كون القرآن عزيزاً بمعنى كونه غالباً فالأمر كذلك لأنه بقورة حجته غلب على كل ما سواه وأما كونه غزيزاً بمعنى عديم النظير فالأمر كذلك لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته ثم قال لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ وفيه وجوه الأول لا تكذبه الكتب المتقدملاة كالتوراة والإنجيل والزبور ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه الثاني ما حكم القرآن بكونه حقاً لا يصير باطلاً وما حكم بكونه باطلاً لا يصير حقاً الثالث معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه والدليل عليه قوله وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) فعل هذا الباطل هو الزيادة والنقصان الرابع يحتمل أن يكون المراد أنه لا يوجد في المستقبل كتاب ينكن جعله معارضاً وله ولم يوجد فيما تقدم كتاب يصلح جعله معارضاً له الخامس قال صاحب ( الكشاف ) هذا تمثيل والمقصود أن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات حتى يتصل إليه
واعلم أن لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه لأن النسخ إبطال فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وإنه على خلاف هذه الآية
ثم قال تعالى تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي حكيم في جميع أحواله وأفعاله حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه ولهذا السبب جعل الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الفاتحة 2 ) فاتحة كلامه وأخبر أن خاتمة كلام أهل الجنة وهو قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الزمر 75 )
مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة َ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ ءَاعْجَمِى ٌّ وَعَرَبِى ٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَائِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِى َ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ
واعلم أنه تعالى لما هدد الملحدين في آيات الله ثم بيّن شرف آيات الله وعلو درجة كتاب الله رجع إلى أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يصبر على أذى قومه وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة من(27/114)
أنهم قَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ إلى قوله فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ( فصلت 5 ) فقال مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ وفيه وجهان الأول وهو الأقرب أن المراد ما تقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب الممزّلة وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ للمحقين وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ للمبطلين ففوض هذا الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به وهو التبليغ والدعوة إلى الله تعالى الثاني أن يكون المراد ما قال الله لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه تعالى أمرك وأمر كل الأنبياء بالصبر على سفاهة الأقوام فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته وقد ظهر من كلامنا في تفسير هذه السورة أن المقصود من هذه السورة هو ذكر الأجوبة عن قولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّا عَامِلُونَ فتارة ينبه على فساد هذه الطريقة وتارة يذكر الوعد والوعيد لمن لم يؤمن بهذا القرآن ولم يعرض عنه وامتد الكلام إلى هذا الموضع من أول السورة على الترتيب الحسن والنظم الكامل ثم إنه تعالى ذكر جواباً آخر عن قولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ فقال وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ ءاعْجَمِى ٌّ وَعَرَبِى ٌّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم أأعجمي بهمزتين على الاستفهام والباقون بهمزة واحدة ومدة على أصلهم في أمثاله كقوله ءأَنذَرْتَهُمْ ( البقرة 6 ) ونحوها على الاستفهام وروي عن ابن عباس بهمزة واحدة وأما القراءة بهمزتين فالهمزة الأولى همزة إنكار والمراد أنكروا وقالوا قرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي وأما القراءة بغير همزة الاستفهام فالمراد الإخبار بأن القرآن أعجمي والمرسل إليه عربي
المسألة الثانية نقلوا في سبب نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت قالوا لو نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية وعندي أن أمثال هذه الكلمات فيها حيف عظيم على القرآن لأنه يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذا الطعن ادعاء كونه كتاباً منتظماً فضلاً عن ادعاء كونه معجزاً بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد على ما حكى الله تعلاى عنهم من قولهم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وهذا الكلام أيضاً متعلق به وجواب له والتقدير أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب ويصح لهم أن يقولوا قُلُوبُنَا فِى ءامِنَة ً مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ أي من هذا الكلام وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه أما لما أنزلنا هذا الكتاب بلغة العرب وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها وفي آذانكم وقر منها فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جواباً عن ذلك الكلام بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيب جداً
ثم قال تعالى قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
واعلم أن هذا متعلق بقولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ إلى آخر الآية كأنه تعالى يقول(27/115)
إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم فلا يمكنكم أن تقولوا إن قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا بهذه اللغة فبقي أن يقال إن كل من آتاه الله طبعاً مائلاً إلى الحق وقلباً مائلاً إلى الصدق وهمة تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين فإن هذا القرآن يكون في حقه هدى ً شفاء أما كونه هدى ً فلأنه دليل على الخيرات ويرشد إلى كل السعادات وأما كونه شفاء فإنه إذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى فذلمك الهدى شفاء له من مرض الكفر والجهل وأما من كان غارقاً في بحر الخذلان وتائهاً في مفاوز الحرمان ومشغوفاً بمتابعة الشيطان كان هذا القرآن في آذانه وقراً كما قال وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى ( فصلت 5 ) وكان القرآن عليهم عمى كما قال وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 ) أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ بسبب ذلك الحجاب الذي حال بين الانتفاع ببيان القرآن وكل من أنصف ولم يتعسف علم أنا إذا فسرنا هذه الآية على الوجه الذي ذكرناه صارت هذه السورة من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً مسوقاً نحو غرض واحد فيكون هذا التفسير أولى مما ذكروه وقرأ الجمهور وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى على المصدر وقرأ ابن عباس عم على النعت قال أبو عبيد والأول هو الوجه كقوله هُدًى وَشِفَاء وكذلك عَمًى وهو مصدر مثلها ولو كان المذكور أنه هاد وشاف لكان الكسر في عَمًى أجود فيكون نعتاً مثلهما وقوله تعالى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ قال ابن عباس يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء وقيل من دعي من مكان بعيد لم يسمع وإن سمع لم يفهم فكذا حال هؤلاء
ثم قال تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وأقول أيضاً إن هذا متعلق بما قبله كأنه قيل إنا لما آتينا موسى الكتاب اختلفوا فيه فقبله بعضهم ورده الآخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحابك ورده الآخرون وهم الذين يقولون قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ
ثم قال تعالى وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ يعني في تأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة كما قال بَلِ السَّاعَة ُ مَوْعِدُهُمْ ( القمر 46 ) لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع بمن كذب وإنهم لفي شك من صدقك وكتابك مريب فلا ينبغي أن تستعظم استيحاشك من قولهم قُلُوبُنَا فِى ءامِنَة ً مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ
ثم قال مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا يعني خفف على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنا فنفع إيمانهم يعود عليهم وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم والله سبحانه يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ(27/116)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَة ِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِى قَالُوا ءَاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ لاَّ يَسْأمُ الا نْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَة ً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَاذَا لِى وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَة َ قَآئِمَة ً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الاٌّ فَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٌ أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَة ٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ مُّحِيطُ
واعلم أنه تعالى لما هدد الكفار في هذه الآية المتقدمة بقوله مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ( فصلت 46 ) ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه في يوم القيامة وكأن سائلاً قال ومتى يكون ذلك اليوم فقال تعالى إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَة ِ وهذه الكلمة تفيد الحصر أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله وكما أن هذا العلم ليس إلا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله سبحانه وتعالى ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين أحدهما قوله وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَراتٍ مّنْ أَكْمَامِهَا والثاني قوله وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ قال أبو عبيدة أكمامه أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم وكمة قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم من ثمرات بالألف على الجمع والباقون من ثمرة بغير ألف على الواحد
واعلم أن نظير هذه الآية قوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ ( القمان 34 ) إلى آخر لآية فإن قيل أليس أن المنجمين قد يتعرفون من طالع سنة العالم أحوالاً كثيرة من أحوال العالم وكذلك قد يتعرفون من طوالع الناس أشياء من أحوالهم وههنا شيء آخر يسمى علم الرمل وهو كثير الإصابة وأيضاً علم التعبير بالاتفاق قد يدل على أحوال المغيبات فكيف الجمع بين هذه العلوم المشاهدة وبين هذه الآية قلنا إن أصحاب هذه العلوم لا يمكنهم القطع والجزم في شيء من المطالب ألبتة وإنما الغاية القصوى ادعاء ظن ضعيف والمذكور في هذه الآية أن علمها ليس إلا عند الله والعلم هو الجزم واليقين وبهذ لطريق زالت المنافاة والله أعلم ثم إنه تعالى لما ذكر القيامة أردفه بشيء من أحوال يوم القيامة وهذا االذي ذكره ههنا شديد التعلق أيضا ً(27/117)
بما وقع الابتداء به في أول السورة وذلك لأن أول السورة يدل على أن شدة نفورهم عن استماع القرآن إنما حصلت من أجل أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعوهم إلى التوحيد وإلى البراءة عن الأصنام والأوثان بدليل أنه قال في أول السورة قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ ( فصلت 6 ) فذكر في خاتمة السورة وعيد القائلين بالشركاء ولأنداد فقال وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى أي بحسب زعمكم واعتقادكم قَالُواْ قال ابن عباس أسمعناك كقوله تعالى انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ ( الانشقاق 2 ) بمعنى سمعت وقال الكلبي أعلمناك وهذا بعيد لأن أهل القيامة يعلمون الله ويعلمون أنه يعلم الأشياء علماً واجباً فالأعلام في حقه محال
ثم قال مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ وفيه وجوه الأول ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكاً فالمقصود أنهم في ذلك اليوم بترءون من إثبات الشريك لله تعالى الثاني ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم لا يبصرونها في ساعة التوبيخ الثالث أن قوله مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ كلام الأصنام فإن الله يحييها ثم إنها تقولم ما منا من أحد يشهد بصحة ما أضافوا إلينا من الشركة وعلى هذا التقدير فمعنى أنها لا تنفعهم فكأنهم ضلوا عنهم
ثم قال وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ وهذا ابتداء كلام من الله تعالى يقول إن الكفار ظهوا أولاً ثم أيقنوا أنه لا محيص لهم عن النار والعذاب ومنهم من قال إنهم ظنوا أولاً أنه لا محيص لهم عن النار ثم أيقنوا ذلك بعده وهذا بعيد لأن أهل النار يعلمون أن عقابهم دائم ولما بيّن الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنهم بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله في الدنيا تبرءوا عن تلك الشركاء في الآخرة بين أن الإنسان في جميع الأوقات متبدل الأحوال متغير المنهج فإن أحس بخير وقدرة انتفخ وتعظم وإن أحس ببلاء ومحنة ذبل كما قيل في المثل إن هذا كالقرلى إن رأى خيراً تدلى وإن رأى شراً تولى فقال لاَّ يَسْئَمُ الاْنْسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ مبالغة من وجهين أحدهما من طريق بناء فعول والثاني من طريق التكرير واليأس من صفة القلب والقنوط أن يظهر آثار ليأس في الوجه والأحوال الظاهرة
ثم بيّن تعالى أن هذا الذي صار آيساً قانطاً لو عاودته النعمة والدولة وهو المراد من قوله وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَة ً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ فإن هذا الرجل يأتي بثلاثة أنواع من الأقاويل الفاسدة والمذاهب الباطلة الموجبة للكفر والبعد عن الله تعالى فأولها أنه لا بد وأن يقول هذا لي وفيه وجهان الأول معناه أن هذا حقي وصل إلي لأني اسوجبته بما حصل عندي من أنواع الفضائل وأعمال البر والقربة من الله ولا يعلم المسكين أن أحداً لا يستحق على الله شيئاً وذلك لأنه إن كان ذلك الشخص عارياً عن الفضائل فهذا الكلام ظاهر الفساد وإن كان موصوفاً بشيء من الفضائل والصفات الحميدة فهي بأسرها إنما حصلت له بفضل الله وإحساتنه وإذ تفضل الله بشيء على بعض عبيده امتنع أن يصير تفضله عليه بتلك العطية سبباً لأن يستحق على الله شيئاً آخر فثبت بهذا فساد قوله إنما حصلت هذه الخيرات بسبب استحقاقي والوجه(27/118)
الثاني أن هذا لي أي لا يزول عني ويبقى علي وعلى أولادي وذريتي
والنوع الثاني من كلماتهم الفاسدة أن يقول وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً يعني أنه يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النفرة عن الآخرة فإذا آل الأمر إلى أحوال الدنيا نيقول إنها لي وإذا آل الاْمر إلى الآخرة يقول وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً
والنوع الثالث من كلماتهم الفاسدة أن يقول وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى يعني أن الغالب على الظن أن القول بالبعث والقيامة باطل وبتقدير أن يكون حقاً فإن لي عنده للحسنى وهذه الكلمة تدل على جزمهم بوصولهم إلى الثواب من وجوه الأول أن كلمة إن تفيد التأكيد الثاني أن تقديم كلمة لي تدل على هذا التأكيد الثالث قوله عِندَهُ يدل على أن تكل الخيرات حاضرة مهيئة عنده كما تقول لي عند فلان كذا من الدنانير فإن هذا يفيد كونها حاضرة عنده فلو قلت إن لي عند فلان كذا من الدنانير لا يفيد ذلك والرابع اللام في قوله لَلْحُسْنَى تفيد التأكيد الخامس للحسنى يفيد الكمال في الحسنى
ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال فَلَنُنَبّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ أي نظهر لهم ) أن الأمر على ضد ما اعتقدون وعلى عكس ما تصوروه كما قال تعالى وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( الفرقان 23 ) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ في مقابلة قولهم إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى
ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد ووقعه في الآفات حكى أفعاله أيضاً فقال وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وَنَأَى بِجَانِبِهِ أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الاتبهال والتضرع وقد استعير العرض لكثرة الدماء ودوامه وهو من صفات الأجرام ويستعار به الطول أيضاً كما استعير الغلظ لشدة العذاب
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد العظيم على الشرك وبين أن المشركين يرجعون عن القول بالشرك في يوم القيامة ويظهرون من أنفسهم الذلة والخضوع بسبب استيلاء الخوف عليهم وبين أن الإنسان جبل على التبدل فإن وجد لنفسه قوة بالغ في التكبر والتعظم وإن أحسّ بالفتور والضعف بالغ في إظهار الذلة والمسكنة ذكر عقيبة كلاماً آخر يوجب على هؤلاء الكفار أن لا يبالغوا في إظهار النفرة من قبول التوحيد وأن لا يفرطوا في إظهار العداوة مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ وتقرير هذا الكلام أنكم كلم مسعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت 5 ) ثم من المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلاً علماً بديهياً وليس العلم بفساد القول بالتوحيد والنبوة علماً بديهياً فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً وأن كيون فاسداً بتقدير أن يكون صحيحاً كان إصراركم على دفعه من أعظم موجبات العقاب فهذا الطريق يوجب عليكم أن تتركو هذه الثغرة وأن ترجعوا إلى النظرة والاستدلال فإن دل الدليل على صحته قبلتموه وإن دل على فساده تركتموه فأما قبل الدليل فالإصار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل وقوله مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ موضوع موضع منكم بياناً بحالهم وصفاتهم ولما ذكر هذه الوجوه الكثيرة في تقرير التوحيد والنبوة وأجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ(27/119)
قال الواحدي واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض وكذلك آفاق السماء ونواحيها وأطرافها وفي تفسير قوله سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ قولان الأول أن المراد بآيات الآفاق الآيات الفلكية والكوكبية وآيت الليل والنهار وآيات الأضواء والإضلال والظلمات وآيات عالم العناصر الأربعة وآيات المواليد الثلاثة وقد أكثر الله منها في القرآن وقوله وَفِى أَنفُسِهِمْ المراد منها الدلائل المأخوذة منن كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة كما قال تعالى وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ( الذاريات 21 ) يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم ويحصل فيها الجزم والقطع بوجود الإله القادر الحكيم العلمي المنزّه عن المثل والضد فإن قيل هذا الوجه ضعيف لأن قوله تعالى سَنُرِيهِمْ يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد كان الله أطلعهم عليها قبل ذلك فثبت أنه تعذر حمل هذا اللفظ على هذا الوجه قلنا ءن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زماناً فزماناً ومثاله كل أحد رأى بعينه بينة الإنسان وشاهدها إلا أن العجائب التي أبدعها الله في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها والذي وقف على شيء منها فكلما ازداد وقوفاً على تلك العجائب والغرائب فصح بهذا الطريق قوله سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ والقول الثاني أن المراد بآيات الآفاق فتح البلاد المحيطة بمكة وبآيات أنفسهم فتح مكة والقائلون بهذا القول رجّحوه على القول الأول لأجل أن قوله سَنُرِيهِمْ يليق بهذا الوجه ولا يليق بالأول إلا أنا أجبنا عنه بأن قوله سَنُرِيهِمْ لائق بالوجه الأول كما قررناه فإن قيل حمل الآية على هذا الوجه بعيد لأن أقصى ما في الباب أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) استولى على بعض البلاد المحيطة بمكة ثم استولى على مكة إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقاً فإنا نرى أن الكفار قد يحصل لهم استيلاء على بلاد الإسلام وعلى ملوكهم وذلك لا يدل على كونهم محقين ولهذا السبب قلنا ءن حمل الآية على الوجه الأول أولى ثم نقول إن أردنا تصحيح هذا الوجه قلنا إنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على تلك البلاد على كونه محقاً في ادعاء النبوة بل نستدل به من حيث إنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخبر عن مكة أنه يستولي عليها ويقهر أهلها ويصير أصحابه قاهرين للأعداء فهذا إخبار عن الغيب وقد وقع مخبره مطابقاً لخبره فيكون هذا إخباراً صدقاً عن الغيب والإخبار عن الغيب معجزة فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقاً
ثم قال أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ وقوله بِرَبّكَ في موضع الرفع على أنه فاعل يَكُفَّ وأنه على كل شيء شهيد بد منه وتقديره أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ومعنى كونه تعالى شهيداً على الأشياء أنه خلق الدلائل عليها وقد اسقصينا ذلك في تفسير قوله بد منه وتقديره أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ومعنى كونه تعالى شهيداً على الأشياء أنه خلق الدلائل عليها وقد اسقصينا ذلك في تفسير قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 ) والمعنى ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله تعالى وقررها في هذه السورة وفي كل سور القرآن الدالة على التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة
ثم ختم السورة بقوله أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَة ٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ أي إن القوم في كش عظيم وشبهة شديدة من البعث والقيامة وقرىء فِى مِرْيَة ٍ بالضم(27/120)
ثم قال أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطُ أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به إن حيزاً فخير وإن شراً فشر فإن قيل قوله أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطُ يقتضي أن تكون علومه متناهية قلنا قوله بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطُ يقتضي أن يكون علمه محيطاً بكل شيء من الأشياء فهذا يقتضي كون كل واحد منها متناهياً لا كون مجموعها متناهياً والله أعلم بالصواب(27/121)
سورة الشورى
خمسون وثلاث آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
حم ع س ق كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَهُوَ الْعَلِى ُّ العَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَة ُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرض أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح معلوم إلا أن في هذا الموضع سؤالان زائدان الأول أن يقال إن هذه السور السبعة مصدرة بقوله حم فما السبب في اختصاص هذه السورة بمزيد عسق الثاني أنهم اجمعوا على أنه لا يفصل بين كهيعص ( مريم 1 ( وههنا يفصل بين حم وبين عسق فما السبب فيه
اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيف وفتح باب المجازفات مما لا سبيل إليه فالأولى أن يفوض علمها إلى الله وقرأ ابن عباس وابن مسعود حم عسق
أما قوله تعالى كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ فالكاف معناه الثل وذا للإشارة إلى شيء سبق ذكره فيكون المعنى مثل حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك وعند هذا حصل قولان(27/122)
الأول نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال ( لا نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عشق ) وهذا عندي بعيد
الثاني أن يكون المعنى مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى الذين من قبلك وهذه المماثة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في التوجه إلى الآخرة والذي يؤكد هذا أنا بينا في سورة سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) أو أولها في تقرير التوحيد وأوسطها في تقرير النبوة وآخرها في تقرير المعاد ولما تمم الكلام في تقرير هذه المطالب الثلاثة قال إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى ( الأعلى 18 19 ) يعني أن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه المطالب الثلاثة فكذلك ههنا يعني مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى كل من قبلك من الأنبياء والمراد بهذه المماثلة الدعوة إلى هذه المطالب العالية والمباحث المقدسة الإلهية قال صاحب ( الكشاف ) ولم يقل أوحي إليك ولكن قال يُوحِى إِلَيْكَ على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادته وقرأ ابن كثير كَذَلِكَ يُوحِى بفتح الحاء على ما لم يسم فاعله وهي إحدى الروايتين عن أبي عمرو وعن بعضهم نُوحِى بالنون وقرأ الباقون يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ بكسر الحاء فإن قيل فعلى القراءة الأولى ما رافع اسم الله تعالى قلنا ما دل عليه بوحي كأن قائلاً قال من الموحي فقيل الله ونظيره قراءة السلمي وَكَذالِكَ زُيّنَ كَثِيرٍ مّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ( الأنعام 137 ) على البناء للمفعول ورفع شركاؤهم فإن قيل فما رافعه فيمن قرأ نُوحِى بالنون قلنا يرفع بالابتداء والعزيز وما بعده أخبار أو العَزِيزُ الحَكِيمُ صفتان والظرف خبره ولما ذلك أن هذا الكتاب حصل بالوحي بين أن الموحي من هو فقال إنه هو العزيز الحكيم وقد بينا في أول سورة حم المؤمن أن كونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على ما لا نهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات عنياً عن جميع الحاجات فيحصل لنا من كونه عزيزاً حكيماً كونه قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات ومن كان كذلك كانت أفعاله وأقواله حكمة وصواباً وكانت مبرأة عن العيب والعبث قال مصنف الكتاب قلت في قصيدة
الحمد لله دي الآلاء والنعم
والفضل والجود والإحسان والكرممنزّه الفعل عن عيب وعن عبث
مقدس الملك عن عزل وعن عدم والصفة الثالثة قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وهذا يدل على مطلوبين في غاية الجلال أحدهما كونه موصوفاً بقدرة كاملة نافذة في جميع أجزاء السموات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام والتكوين والإبطال والثاني أنه لما بيّن بقوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أن كل ما في السموات وما في الأرض فهو ملكه وملكله وجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في السموات وفي الأرض وإلا لزم كونه ملكاً لنفسه وإذا ثبت أنه ليس في شيء من لمسوات امتنع كونه أيضاً في العرش لأن كل ما سماك فهو سماء فإذا كان العرش موجوداً فوق السموات كان في الحقيقة سماء فوجب أن يكون كل ما كان حاصلاً في العرش ملكاً لله وملكاً له وفجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في العرش وإن قالوا إنه تعالى قال لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وكلمة ما لا تتناول من يعقل قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول ى ن(27/123)
لفظة ما واردة في حق الله تعالى قال تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالاْرْضِ وَمَا طَحَاهَا ( الشمس 5 6 ) وقال لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الكافرون 2 3 ) والثاني أن صيغة من وردت في مثل هذه السورة قال تعالى إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 93 ) وكلمة من لا شك أنها واردة في حق الله تعالى فدلّت هذه الآية على أن كل من في المسوات والأرض فهو عبد الله فلو كان الله موجوداً في السموات والأرض وفي العرش لكان هو من جملة من في المسوات فوجب أن يكون عبد الله ولما ثبت بهذه الآية أن كل من كان موجوداً في السموات والعرش فهو عبد لله وجب فيمن تقدست كبرياؤه عن تهمة العبودية أن يكون منزّهاً عن الكون في المكان والجهة والعرش والكرسي
والصفة الرابعة والخامسة قوله تعالى وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ ولا يجوز أن يكون المراد بكونه علياً العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده ولا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثة وكبر الجسم لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفاً من الأجزاء والأبعاض وذلك ضد قوله اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) فوجب أن يكون المراد من العلي المتعالي عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات ومن العظيم العظمة بالقدرة والقهر بالاستعلاء وكمال الإلاهية
ثم قال تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر تَكَادُ بالتاء يَتَفَطَّرْنَ بالياء والنون وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة تَكَادُ بالتاء يَتَفَطَّرْنَ بالياء والتاء وقرأ نافع والكسائي يَكَادُ بالياء يَتَفَطَّرْنَ أيضاً بالتاء قال صاحب ( الكشاف ) وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة تتفطرن بالتاءين مع النون ونظيرها حرف نادر روي في نوادر ابن الإعرابي الإبل تتشمسن
المسألة الثانية في فائدة قوله يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وجوه الأول روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ قال والمعنى أنها تكاد تتفطر من ثقل الله عليها
واعلم أن هذا القول سخيف ويجب القطع ببراءة ابن عباس عنه ويدل على فساده وجوه الأول أن قوله مِن فَوْقِهِنَّ لا يفهم منه ممن فوقهن وثانيها هب أنه يحمل على ذلك لكن لم قلتم إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الله عليها ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الملائكة عليها كما جاء في الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أطلت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد ) وثالثها لم لا يجوز أن يكون المراد تكاد السماوات تنشق وتنفطر من هيبة من هو فوقها فوقية بالإلاهية والقهر والقدرة فثبت بهذه الوجوه أن القول الذي ذكروه في غاية الفساد والركاكة والوجه الثاني في تأويل الآية ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن كلمة الكفر إنما جاءت من الذين تحت السماوات وكان القياس أن يقال يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ولكنه بولغ في ذلك فقلب فجعلت مؤثرة في جهة الفوق كأنه قيل يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن ودع الجهة التي تحتهن ونظيره في المبالغة قوله تعالى يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ( الحج 19 20 ) فجعلل مؤثراً في أجزائه الباطنة الوجه الثالث في تأويل الآية أن يقال مِن فَوْقِهِنَّ أي من فوق الأرضين لأنه تعالى قال قبل هذه الآية لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ثم قال تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ(27/124)
أي من فوق الأرضين والوجه الرابع في التأويل أن يقال معنى مِن فَوْقِهِنَّ أي من الجهة التي حصلت هذه السماوات فيها وتلك الجهة هي فوق فقوله مِن فَوْقِهِنَّ أي من الجهة الفوقانية التي هن فيها
المسألة الثالثة ااختلفوا في أن هذه الهيئة لم حصلت وفيه قولان الأول أنه تعالى لما بيّن أن الموحي لهذا الكتاب هو الله العزيز الحكيم بيّن وصف جلاله وكبريائه فقال تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ أي من هيبته وجلالته والقول الثاني أن السبب في إثباتهم الولد لله لقوله تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ( مريم 90 ) وههنا السبب فيه إثباتهم الشركاء لله لقوله بعد هذه الآية وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء والصحيح هو الأول ثم قال وَالْمَلَائِكَة ُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ
واعلم أن مخلوقات الله تعالى نوعان عالم الجسمانيات وأعظمها السماوات وعالم الروحانيات وأعظمها الملائكة والله تعالى يقرر كمال عظمته لأجل نفاذ قدرته وهيبته في الجسمانيات ثم يردفه بنفاذ قدرته واستيلاء هيبته على الروحانيات والدليل عليه أنه تعالى قال في سورة عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ( النبأ 1 ) لما أراد تقرير العظمة والكبرياء بدأ بذكر الجسمانيات فقال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً ( النبأ 37 ) ثم انتقل إلى ذكر عالم الروحانيات فقاال يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ( النبأ 38 ) فكذلك القول في هذه الآية بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات فقال تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ثم انتقل إلى ذكر الروحانيات فقال وَالْمَلَائِكَة ُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ فهذا ترتيب شريف وبيان باهر
واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثر لا يقبل الأثر وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الأقسام ومتأثر لا يؤثر وهو القابل وهو الجسم وهو أخس الأقسام وموجود يقبل الأثر من القسم الأول ويؤثر في القسم الثاني وهو الجواهر الروحانيات المقدسة وهو المرتبة المتوسطة إذا عرفت هذا فنقول الجواهر الروحانية لها تعلقان تعلق بعالم الجلال والكبرياء وهو تعلق القبول فإن الجلايا القدسية والأضواء الصمدية إذا أشرقت على الجواهر الروحانية استضاءت جواهرها وأشرقت ماهياتها ثم إن الجواهر الروحانية إذا استفادت تلك القوى الروحانية قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيات وإذا كان كذلك فلها وجهان وجه إلى جانب الكبرياء وحضرة الجلال ووجه إلى عالم الأجسام والوجه الأول أشرف من الثاني إذا عرفت هذا فنقول
قوله تعالى يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الجلال والكبرياء وقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ إشاارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام فما أحسن هذه اللطائف وما أشرفها وما أشد تأثيرها في جذب الأرواح من حضيض الخلق إلى أوج معرفة الحق إذا عرفت هذا فنقول أما الجهة الأولى وهي الجهة العلوية المقدسة فقد اشتملت على أمرين أحدهما التسبيح وثانيهما التحميد لأن قوله يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ يفيد هذين الأمرين والتسبيح مقدم على التحميد لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مفيضاً لكل الخيرات وكونه منزّهاً في ذاته عما لا ينبغي مقدم بالرتبة على كونه فياضاً للخيرات والسعادات لأن وجود الشيء مقدم على إيجاد(27/125)
غيره وحصوله في نفسه مقدم على تأثيره في حصول غيره فلهذا السبب كان التسبيح مقدماً على التحميد ولهذا قال يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ
وأما الجهة الثانية وهي الجهة التي لتلك الأرواح إلى عالم الجسمانيات فالإشارة إليها بقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ والمراد منه تأثيراتها في نظم أحوال هذا العالم وحصول الطريق الأصوب الأصلح فيها فهذه ملامح من المباحث العالية الإلاهية مدرجة في هذه الآيات المقدسة ولنرجع إلى ما يليق بعلم التفسير فإن قيل كيف يصح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار وقد قال تعالى أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَة ِ فكيف يكونون لاعنين ومستغفرين لهم قلنا الجواب عنه من وجوه
الأول أن قوله لِمَن فِى الاْرْضِ لا يفيد العموم لأنه يصح أن يقال إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان قوله لِمَن فِى الاْرْضِ صريحاً في العموم لما صح ذلك التقسيم الثاني هب أن هذا النص يفيد العموم إلا أنه تعالى حكى عن الملائكة في سورة حام المؤمن فقال وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر 7 ) الثالث يجوز أن يكون المراد من الاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ إلى أن قال إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( فاطر 41 ) الرابع يجوز أن يقال إنهم ستغفرون لكل من في الأرض أما في حق الكفار فبواسطة طلب الإيمان لهم وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم فإنا نقول اللّهم اهد الكافرين وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر وهذا في الحقيقة استغفار
واعلم أن قوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم ولو كانوا مصرين على المعصية لكان استغفارهم لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض وحيث لم يذكر الله عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرءون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم السلام لهم ذنوب والذي لا ذنب له ألبتة أفضل ممن له ذنب وأيضاً فقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء لأن الأنبياء في جملة من في الأرض وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم السلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم
ولما حكى الله تعالى عن الملائكة التسبيح والتحميد والاستغفار قال أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة للحق سبحانه وتعالى وبيانه ممن وجوه الأول أن إقدام الملائكة على طلب المغفرة للبشر من الله تعالى إنما كان لأن الله تعالى خلق في قلوبهم داعية لطلب تلك المغفرة ولولا أن الله تعالى خلق في قلوبهم تلك الدواعي وإلا لما أقدموا على ذلك الطلب وإذا كان كذلك كان الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله سبحانه وتعالى الثاني أن الملائكة قالوا في أول الأمر أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) ثم في آخر الأمر صاروا يستغفرون لمن في الأرض وأما رحمة الحق وإحسانه فقد كان موجوداً في الأولى والآخر فثبت أن الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله تعالى الثالث(27/126)
أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستغفرون لمن في الأرض ولم يحك عنهم أنهم يطلبون الرحمة لمن في الأرض فقال أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يعني أنه يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة الكاملة التامة
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء أي جعلوا له شركاء وأنداداً اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء وهو محاسبهم عليها لا رقيب عليهم إلا هو وحده وما أنت يا محمد بمفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان إنما أنت منذر فحسب
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَلَاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِى ٍّ وَلاَ نَصِيرٍ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِى ُّ وَهُوَ يُحْى ِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَى ْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الاٌّ نْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَلِيدُ السَّمَاوَاتِ والأرض يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
واعلم أن كلمة ( ذلك ) للإشارة إلى شيء سبق ذكره فقوله وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء هاهنا قد سبق ذكره وليس هاهنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( الشورى 6 ) يعني كما أوحينا إليك أنك لست حفيظاً عليهم ولست وكيلاً عليهم فكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتكون نذيراً لهم وقوله تعالى لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى أي لتنذر أهل أم القرى لأن البلد لا تعقل وهو كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) وأم القرى أصل القرى وهيب مكة وسميت بهذا الاسم إجلالاً للها لأن فيها البيت ومقام إبراهيم والعرب تسمي أصل كل شيء أمة حتى يقال هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان ومن حولها من أهل البدو والحضر وأهل المدر والإنذار التخويف فإن قيل فظاهر اللفظ يقتضي أن الله تعالى إنما أوحي إليه لينذر أهل مكة وأهل القرى المحيطة بمكة وهذا يقتضي أن يكون رسولاً إليهم فقط وأن لا يكون رسولاً إلى كل العالمين الجواب أن(27/127)
التخصيص بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما سواه فهذه الآية تدل على كونه رسولاً إلى هؤلاء خاصة وقوله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ ( سبأ 28 ) يدل على كونه رسولاً إلى كل العالمين أيضاً لما ثبت كونه رسولاً إلى أهل مكة وجب كونه صادقاً ثم ءنه نقل إلينا بالتواتر كان يدعى أنه رسول إلى كل العالمين والصادق إذاا أخبر عن شيء وجب تصديقه فيه فثبت أنه رسول إلى كل العالمين
ثم قال تعالى وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ الأصل أن يقال أنذرت فلاناً بكذا فكان الواجب أن يقال لتننذر أم القرى بيوم الجمع وأيضاً فيه إضمار والتقدير لتنذر أهل أم القرى بعذاب يوم الجمع وفي تسميته بيوم الجمع وجوه الأول أن الخلائق يجمعون فيه قال تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ( التغابن 9 ) فيجتمع فيه أهل السماوات من أهل الأرض الثاني أنه يجمع بين الأرواح والأجساد الثالث يجمع بين كل عامل وعمله الرابع يجمع بين الظالم والمظلوم وقوله لاَ رَيْبَ فِيهِ صفة ليوم الجمع الذي لا ريب فيه وقوله فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ تقديره ليوم الجمع الذي من صفته يكون القوم فيه فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير فإن قيل قوله يَوْمَ الْجَمْعِ يقتضي كون القوم مجتمعين وقوله فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ يقتضي كونهم متفرقين والجمع بين الصفتين محال قلنا إنهم يجتمعون أولاً ثم يصيرون فريقين
ثم قال وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً والمراد تقرير قوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( الشورى 6 ) أي لا يكن في قدرتك أن تحملهم على الإيمان فلو شاء الله ذلك لفعله لأنه أقدر منك ولكنه جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً فقوله يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ يدل على أنه تعالى هو الذي أدخلهم في الإيمان والطاعة وقوله وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مّن وَلِى ّ وَلاَ نَصِيرٍ يعني أنه تعالى ما أدخلهم في رحمته وهذا يدل على أن الأولين إنما دخلوا في رحمته لأنه كان لهم ولي ونصير أدخلهم في تلك الرحمة وهؤلاء ما كان لهم ولي ولا نصير يدخلهم في رحمته
ثم قال تعالى أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء والمعنى أنه تعالى حكى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ثم قال بعده لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لست علليهم رقيباً ولا حافظاً ولا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان شاءوا أم أبوا فإن هذا المعنى لو كان واجباً لفعله الله لأنه أقدر منك ثم إنه أعاد بعده ذلك الكلام على سبيل الاستنكار فإن قوله أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء استفهام على سبيل الإنكار
ثم قال تعالى فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِى ُّ والفاء في قوله فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِى ُّ جواب شرط مقدر كأنه قال إن أرادوا أولياء بحق الله هو الولي بالحق لا ولي سواه لأنه يحيى الموتى وهو على كل شيءً قدير فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء
ثم قال وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَى ْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه النظم أنه تعالى كما منع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحمل الكفار على الإيمان قهراً فكذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في الخصومات والمنازعات فقال وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَى ْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وهو إثابة المحقين فيه ومعاقبة المبطلين وقيل وما اختلفتم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولا تؤثر حكومة غيره على حكومته وقيل وما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور التي لا تصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى عمله كحقيقة الروح فقولوا الله أعلم به قال تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى(27/128)
( الإسراء 85 )
المسألة الثانية تقدير الآية كأنه قال قل يا محمد وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَى ْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ والدليل عليه قوله تعالى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
المسألة الثالثة احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا قوله تعالى وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَى ْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ إما أن يكون المراد فحكمه مستفاد من نص الله عليه أو المراد فحكمه مستفاد من القياس على ما نص الله عليه والثاني باطل لأنه يقتضي كون كل الأحكام مثبتة بالقياس بأنه باطل فيعتبر الأول فوجب كون كل الأحكام مثبتة بالنص وذلك ينفي العمل القياس ولقائل أن يقوم لم لا يجوز أن يكون المراد فحكمه يعرف من بيان الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس أجيب عنه بأن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف والرجوع إلى القياس يقوي حكم الاختلاف ولا يوضحه فوجب أن يكون الواجب هو الرجوع إلى نصوص الله تعالى
ثم قال تعالى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبّى أي ذالكم الحاكم بينكم هو ربي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في دفع كيد الأعداء وفي طلب كل خير وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي وإليه أرجع في كل المهمات وقوله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً
ثم قال فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قرىء بالرفع والجر فالرفع على أنه خبر ذلاكم أو خبر مبتدأ محذوف والجر على تقدير أن يكون الكلام هكذا وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله فاطر السماوات والأرض وقوله ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبّى اعتراض وقع بين الصفة والموصوف جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ من جنسكم من الناس أَزْواجاً وَمِنَ الاْنْعَامِ أَزْواجاً أي خلق من الأنعام أزواجاً ومعناه وخلق أيضاً للأنعام من أنفسها أزواجاً يَذْرَؤُكُمْ أي يكثركم يقال ذرأ الله الخلق أي كثرهم وقوله فِيهِ أي في هذا التدبير وهو اللتزويج وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل والضمير في يَذْرَؤُكُمْ يرجع إلى المخاطبين إلى أنه غلب فيه جانب الناس من وجهين الأول أنه غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء الثاني أنه غلب فيه جانب المخاطبين على الغائبين فإن قيل ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير ولم لم يقل يذرؤكم به قلنا جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهذا التكثير ألا ترى أنه يقال للحيوان في خلق الأزواج تكثير كما قال تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ ( البقرة 179 )
ثم قال تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وهذه الآية فيها مسائل
المسألة الأولى احتج علماء التوحيد قديماً وحديثاً بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسماً مركباً من الأعضاء والأجزاء وحاصلاً في المكان والجهة وقالوا لو كان جسماً لكان مثلاً لسائر الأجسام فيلزم حصول الأمثال والأشباه له وذلك باطل بصريح قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر فيقال إما أن يكون المراد لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء في ماهيات الذات أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء والثاني باطل لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله تعالى يوسف بذلك وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين مع أن الله تعالى يوصف بذلك فثبت أن المراد بالمماثلة(27/129)
المساواة في حقيقة الذات فيكون المعنى أن شيئاً من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية فول كان الله تعالى جسماً لكان كونه جسماً ذاتاً لا صفة فإذا كان ساشر الأجسام مساوية له في الجسمية أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتاً والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسماً
واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه ( بالتوحيد ) وهو في الحقيقة كتاب الشرك واعترض عليها وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات لأن كان رجلاً مضطرب الكلام قليل الفهم ناقص العقل فقال ( نحن نثبت لله وجهاً ونقول إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء ونقول إن لبني آدم وجوهاً كتب الله عليها الهلاك والفناء ونفى عنها الجلال والإكرام غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً لكان قد شبّه وحوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب ثم قال ولا شك أنه اعتقاد الجهمية لأنه لو قيل له وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه )
وذكر في فصل آخر من هذا الكتاب ( أن القرآن دل على وقوع التسوية بين ذات الله تعالى وبين خلقه في صفات كثيرة ولم يلزم منها أن يكون القائل مشبهاً فكذا ههنا ) ونحن نعد الصور التي ذكرها على الاستقصاء فالأول أنه تعالى قال في هذه الآية وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقال في حق الإنسان فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( الإنسان 2 ) الثاني قال وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ( التوبة 105 ) وقال في حق المخلوقين أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِى جَوّ السَّمَآء ( النحل 79 ) الثالث قال وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ( هود 37 ) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ ( الطور 48 ) وقال في حق المخلوقين الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ( المائدة 83 ) الرابع قال لإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) وقال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( المائدة 64 ) وقال في حق المخلوقين ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ( آل عمران 182 ) ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( الحج 10 ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) الخامس قال تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) وقال في الذين يركبون الدواب لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ( الزخرف 13 ) وقال في سفينة نوح وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ّ ( هود 44 ) السادس سمى نفسه عزيزاً فقال الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ ( الحشر 23 ) ثم ذكر هذا الاسم في حق المخلوقين بقوله قَالُواْ يأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ( يوسف 78 ) قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ( يوسف 88 ) السابع سمى نفسه بالملك وسمى بعض عبيده أيضاً بالملك فقال وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ ( يوسف 50 ) وسمى نفسه بالعظيم ثم أوقع هذا الاسم على المخلوق فقال رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( التوبة 129 ) وسمى نفسه بالجبار المتكبر وأوقع هذا الاسم على المخلوق فقال كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ ( غافر 35 ) ثم طول في ضرب الأمثلة من هذا الجنس وقال ومن وقف على الأمثلة التي ذكرناها أمكنه الإكثار منها فهذا ما أورده هذا الرجل في هذا الكتاب(27/130)
وأقول هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية فنقول المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته وتحقيق الكلام فيه مسبوق بمقدمة أخرى فنقول المعتبر في كل شيء إما تمام ماهيته وإما جزء من أجزاء ماهيته وإما أمر خارج عن ماهيته ولكنه من لوازم تلك الماهية وأما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به وذلك معلوم بالبديهة فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة ثم صارت في غاية السواد والحلاوة فالذات باقية والصفات مختلفة والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة وأيضاً نرى الشعر قد كان في غاية السواد ثم صار في غاية البياض فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غير المتبدل فظهر بما ذكرنا أن الذوات مغايرة للصفات إذا عرفت هذا فنقول اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات البتة لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكناً ثم يصير متحركاً ثم يسكن بعد ذلك فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد والصفات متعاقبة متزايلة فثبت بهذا أن اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات إذا عرفت هذا فنقول الأجسام منها تألف وجه الكلب والقرد مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس وإنما حصل الاختلاف إنما وقع بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار ولقد صدقوا فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون وسائر الصفات فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية فثبت أن الكلام الذي أورده إنما ذكره لأجل أنه كان من العوام وما كان يعرف أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها لا الأعراض والصفات القائمة بها بقي ههنا أن يقال فما الدليل على أن الأجسام كلها متماثلة فنقول لنا ها هنا مقامان
المقام الأول أن نقول هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود وإن كانت ممنوعة فنقول فلم لا يجوز أن يقال إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي ويكون ذلك الجسم مخالفاً لماهية سائر الأجسام فكان هو قديماً أزلياً واجب الوجود وسائر الأجسام محدثة مخلوقة ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه فإن قالوا هذا بالطل لأن القرآن دلّ على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة فيقال هذا من باب الحماقة المفرطة لأن صحة القرآن وصحة نبوّة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل يفهم ما يتكلم به
والمقام الثاني أن علماء الأصلو أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات والقيقة وإذا ثبت هذا طهر أنه لو كان إله العالم جمساً لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح على سائر الأجسام فيلزم كونه محدثاً مخلوقاً قابلاً للعدم والفناء قابلاً للتفرق والتمزق وأما النقل فقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل وعند هذا يظهر أنا لا نقول بأنه متى حصل الاستواء في(27/131)
الصفة لزم حصول الاستواء في تمام الحقيقة إلا أنا نقول لما ثبت أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية فلو كانت ذاته جسماً لكن ذلك الجسم مساوياً لسائر الأجسام في تمام الماهية وحينئذ يلزم أن يكون كل جسم مثلاً له لما بينا أن المعتبر في حصول المماثلة اعتبار الحقائق من حيث هي هي لا اعتبار الصفات القائمة بها فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن حجة أهل التوحيد في غاية القوة وأن هذه الكلمات التي أوردها هذا الإنسان إنما أوردها لأنه كان بعيداً عن معرفة الحقائق فجرى على منهج كلمات العوام فاغتر بتلك الكلمات التي ذكرها ونسأل الله تعالى حسن الخاتمة
المسألة الثانية في ظاهر هذه الآية إشكال فإنه يقال المقصود منها نفي المثل عن الله تعالى وظاهرها يوجب إثبات المثل لله فإنه يقتضي نفي المثل عن مثله لا عنه وذلك يوجب إثبات المثل لله تعالى وأجاب الغعماء عنه بأن قالوا إن العرب تقول مثلك لا يبخل أي أنت لا تبخل فنوفا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عنه ويقول الرجل هذا الكلام لا يقال لمثلي أي لا يقال لي قال الشاعر
( ومثلي كمثل جذوع النخيل )
والمراد منه المبالغة فإنه إذا كان ذلك الحكم منتفياً عمن كان مشابهاً بسبب كونه مشابهاً له فلأن يكون منتفياً عنه كان ذلك أولى ونظيره قولهم سلام على المجلس العالي والمقصود أن سلام الله إذا كتن واقعالً على مجلسه وموضعه فلأن يكون واقعاً عليه كان ذلك أولى فكذا ههنا قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء والمعنى ليس كهو شيء على سبيل المبالغة من الوجه الذي ذكرناه وعلى هذا التقدير فلم يكن هذا الفظ ساقطاً عديم الأثر بل كان مفيداً للمبالغة من الوجه الذي ذكرناه وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسنم الشيء قال لأن كل شيء فإنه يكون مثلاً لمثل نفسه فقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء معناه ليس نثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو مسمى بالسم الشيء وعندي فيه طريقة أخرى وهي أن المقصود من ذكر الجمع بين حرفي التشبيه الدليل الدال على كونه منزّهاً عن المثل وتقريره أن يقال لو كان له مثل لكن هو مثل نفسه وهذا محال فإثبات المثل له محال أما بيان أنه لو كان له مثل لكان هو مثل نفسه فالأمر فيه ظاهر وأما بيان أن هذا محال فلأنه لو كان مثل مثل نفسه لكان مساوياً لمثله في تلك الماهية ومبايناً له في نفسه وما به المشاركة غير ما به المباينة فتكون ذات كل واحد منهما مركباً وكل مركب ممكن فثبت أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان هو في نفسه واجب الوجود إذا عرفت هذا فقوله ليس مثله مثله شيء إشارة إلى أنه لو صدق عليه أنه مثل مثل نفسه لما كان هو شيئاً بناءً على ما بينا أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان واجب الوجود فهذا ما يحتمله اللفظ
المسألة الثالثة هذه الآية دالة على نفي المثل وقوله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى ( الروم 27 ) يقتضي إثبات المثل فلا بد من الفرق بينهما فنقول المثل هو الذي يكون مساوياً للشيء في تمام الماهية والمثل هو الذي يكون مساوياً له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية وإن كان مخالفاً في تمام الماهية
المسألة الرابعة قوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يدل على كونه تعالى سامعاً للمسموعات مبصراً للمرئيات فإن قيل يمتنع إجراء هذا اللفظ على طاهره وذلك لأنه إذا حصل قرع أو قلع انقلب الهواء من بين ذينك الجسمين انقلاباً يعنف فيتموج الهواء بسبب ذلك ويتأدى ذلك التموج إلى سطح الصماخ فهذا هو(27/132)
السماع وأما الإبصار فهو عبارة عن تأثر الحدقة بصورة المرئي فثبت أن السمع والبصر عبارة عن تأثر الحاسة وذلك على الله محال فثبت أن إطلاق السمع والبصر على علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات غير جائز والجواب الدليل على أن السماع مغاير لتأثر الحاسة أنا إذا سمعنا الصوت علمنا أنه من أي الجوانب جاء فعلمنا أنا أدركنا الصوت حيث وجد ذلك الصوت في نفسه وهذا يدل على أن إدراك الصوت حالة مغايرة لتأثير الصماخ عن تتموج ذلك الهواء وأما الرؤية فالدليل على أنها حالة مغايرة لتأثر الحدقة فذلك لأن نقطة الناظر جسم صغير فيستحيل انطباع الصورة العظيمة فيه فنقول الصورة المنطبعة صغيرة والصورة المرئية في نفس العالم عظيمة وهذا يدل على أن الرؤية مغايرة لنفس ذلك الانطباع وإذا ثبت هذا فنقول لا يلزم من امتناع التأثر في حق الله امتناع السمع والبصر في حقه فإن قالوا هب أن السمع والبصر حالتان مغايرتان لتأثر الحاسة إلا أن حصولهما مشروط بحصول ذلك التأثر فلما كان حصول ذلك التأثر في حق الله تعالى ممتنعاً كان حصول السمع والبصر في حق الله ممتنعاً فنقول ظاهر قوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يدل على كونه سميعاً بصيراً فلم يجز لنا أن نعدل عن هذا الظاهر إلا إذا قام الدليل على أن الحاسة المسماة بالسمع والبصر مشروطة بحصول التأثر والتأثر في حق الله تعالى ممتنع فكان حصول الحاسة المسماة بالسمع والبصر ممتنعاً وأنتم المدعون لهذا الاشتراط فعليكم الدلالة على حصوله وإنما نحن متمسكون بظاهر اللفظ إلى أن تذكروا ما يوجب العدول عنه فإن قال قائل قوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يفيد الحصر فما معنى هذا الحصر مع أن العباد أيضاً موصوفون بكونهم سميعين بصيرين فنقول السميع والبصير لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال والكمال في كل الصفات ليس إلا لله فهذا هو المراد من هذا الحصر
أما قوله تعالى لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فاعلم أن المراد من الآية أنه تعالى فاطر السموات والأرض والأصنام ليست كذلك وأيضاً فهو خالق أنفسنا وأزواجنا وخالق أولادنا منا ومن أزواجنا والأصنام ليست كذلك وأيضاً فله مقاليد السموات والأرض والأصنام ليست كذلك والمقصود من الكل بيان القادر المنعم الكريم الرحيم فكيف يجوز جعل الأصنام التي هي جمادات مساوية له في المعبودية فقوله لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يريد مفاتيح الرزق من السموات والأرض فمقاليد السموات الأمطار ومقاليد الأرض النبات وذكرنا تفسير المقاليد في سورة الزمر عند قوله يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ ( الزمر 52 ) لأن مفاتيح الأرزاق بيده إِنَّهُ بِكُلّ شَى ْء من البسط والتقدير عَلِيمٌ(27/133)
شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِى َ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لاًّعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّة َ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَة ٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَى السَّاعَة ِ لَفِى ضَلَالَ بَعِيدٍ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ
اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( الشورى 3 ) ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والمعنى شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحاً ومحمداً وآبراهيم وموسى وعيسى هذا هو المقصود من لفظ الآية وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة إلا أنه بقي في لفظ الآية إشكالات أحدها أنه قال في أول الآية مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وفي آخرها وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وفي الوسط وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فما الفائدة في هذا التفاوت وثانيها أنه ذكر نوحاً عليه السلام على سبيل الغيبة فقال مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً والقسمين الباقيين على سبيل التكلم فقال وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وثالثها أنه يصير تقدير الآية شرع الله لكم من الدين الذي أوحينا إليك فقوله شَرَعَ لَكُم خطاب الغيبة وقوله وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ خطاب الحضور فهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد وهو مشكل فهذه المضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها وبالجملة فالمقصود من الآية أنه يقال شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته وأقول يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام وذلك لأنها مختلفة متفاوتة قال تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً ( المائدة 48 )(27/134)
فيجب أن يكون المراد منه الأمور التي لا تختلف باختلاف الشرائع وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان يوجب الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والسعي في مكارم الأخلاق والاحتراز عن رذائل الأحوال ويجوز عندي أن يكون المراد من قوله وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ أي لا تتفرقوا بالآلهة الكثيرة كما قال يوسف عليه السلام مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا ( يوسف 39 ) وقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ ( الأنبياء 25 ) واحتج بعضهم بقوله شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أول الأمر كان مبعوثاً بشريعة نوح عليه السلام والجواب ما ذكرناه أنه عطف عليه سائر الأنبياء وذلك يدل على أن المراد هو الأخذ بالشريعة المتفق عليها بين الكل ومحل ءانٍ يَوْمِ الدّينِ إما نصب بدل من مفعول شَرَعَ والمعطوفين عليه وإما رفع على الاستئناف كأنه قيل ما ذاك المشروع فقيل هو إقامة الدين كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عظم عليهم وشق عليهم مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من إقامة دين الله تعالى على سبيل الاتفاق والإجماع بدليل أن الكفار قالوا أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) وههنا مسائل
المسألة الأولى احتج نفاة القياس بهذه الآية قالوا إنه تعالى أخبر أن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحث لا يفضي إلى الاختلاف والتنازع والله تعالى ذكر في معرض المنّة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة ومعلوم أن فتح باب القياس يفضي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة فإن الحس شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على الأخذ بالقياس تفرقوا تفرقاً لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى آخر القيامة فوجب أن يكون ذلك محرماً ممنوعاً عنه
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن هذه الشرائع قسمين منها ما يمتنع دخول النسخ والتغيير فيه بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان كالقول بحسن اصدق والعدل والإحسان والقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان ودلت هذه الآية على أن سعي الشرع في تقرير النوع الأول أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني لأن المواظبة على القسم الأول مهمة في اكتساب الأحوال المفيدة لحصول السعادة في الدار الآخرة
المسألة الثالثة قوله تعالى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ مشعر بأن حصول الموافقة أمر مطلوب في الشرع والعقل وبيان منفعته من وجوه الأول أن للنفوس تأثيرات وإذا تطابقت النفوس وتوافقت على واحد قوي التأثير الثاني أنها إذا توافقت صار كل واحد منها معيناً للآخر في ذلك المقصود المعين وكثرة الأعوان توجب حصول المقصود أما إذا تخالفت تنازعت وتجادلت فضعفت فلا يحصل المقصود الثالث أن حصول التنازع ضد مصلحة العالم لأن ذلك يفضي إلى الهرج والمرج والقتل والنهب فلهذا السبب أمر الله تعالى في هذه الآية بإقامة الدين على وجه لا يفضي إلى التفرق وقال في آية أخرى وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ ( الأنفال 46 )
ثم قال تعالى اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وفيه وجهان الأول أنه تعالى لما أرشضد أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى التمسك بالدين المتفق عليه بيّن أنه تعالى إنما أرشدهم إلى هذا الخير لأنه اجتباهم واصطفاهم وخصهم بمزيد الرحمة والكرامة الثاني أنه إنما كبّر عليهم هذا الدعاء من الرسل لما فيه من(27/135)
الانقياد لهم تكبراً وأنفة فبيّن تعالى أنه يخص من يشاء بالرسالة ويلزم الانقياد لهم ولا يعتبر الحسب والنسب والغنى بل الكل سواء في أنه يلزمهم اتباع الرسل الذين اجتباهم الله تعالى واشتقاق لفظ الاجتباء يدل على الضم والجمع فمنه جبى الخراج واجتباه وجبى الماء في الحوض فقوله اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ أي يضمه إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة وقوله مَن يَشَآء كقوله تعالى يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء ( العنكبوت 21 )
ثم قال وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وهو كما روي في الخبر ( من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) أي من أقبل إليّ بطاعته أقبلت إليه بهدايتي وإرشادي بأن أشرح له صدره وأسهل أمره
واعلم أنه تعالى لما بيّن أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كان لقائل أن يقول فلماذا نجدهم متفرقين فأجاب الله تعالى عنهم بقوله وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبعية على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب ودعا الناس إليه وقبح ما سواه طلباً للذكر والرياسة فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف ثم أخب تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل إلا أنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى أي وقتاً معلوماً إما لمحض المشيئة كما هو قولنا أو لأنه علم أن الصلاح تحقيقه به كما عند المعتزلة وهو معنى قوله وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِى َ بِيْنَهُمْ والأجل المسمى قد يكون في الدنيا وقد يكون في القيامة واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة من هم فقال الأكثرون هم اليهود والنصارى والدليل قوله تعالى في آل عمران وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ( آل عمران 19 ) وقال في سورة لم يكن وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ ( البينة 4 ) ولأن قوله إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ لائق بأهل الكتاب وقال آخرون إنهم هم العرب وهذاباطل للوجوه المذكورة لأن قوله تعالى بعد هذه الآية وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لا يليق بالعرب لأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لَفِى شَكّ مّنْهُ من كتابهم مُرِيبٍ لا يؤمنون به حق الإيمان
ثم قال تعالى فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ يعني فلأجل ذلك التفرق ولأجل مات حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية واستقم عليهاوعلى الدعوة إليها كما أمرك الله ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ أي بأي كتاب صح أن الله أنزله يعني لإيمان بجميع الكتب المنزلة لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ونظيره قوله نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ إلى قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( النساء 151 ) ثم قال وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي قل القفال معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه لكني أسوي بينكم وبين نفسي وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله
ثم قال اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّة َ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(27/136)
والمعنى أن إله الكل واحد وكل واحد مخصوص بعمل نفسه فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه فإن الله يجمع بين الكل في يوم القيامة ويجازيه على عمله والمقصود منه المتاركة واشتغال كل أحد بمهم نفسه فإن قيل كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء قلنا هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق على صحته بين كل الأنبياء ودخل فيه التوحيد وترك عبادة الأصنام والإقرار بنبوة الأنبياء وبحصة البعث والقيامة فلما لم يقبلوا هذا الدين فحينئذٍ فات الشرط فلا جرم فات المشروط
وأعلم أنه ليس المراد من قوله لاَ حُجَّة َ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ تحريم ما يجري مجرى محاجتهم ويدل عليه وجوه الأول أن هذا الكلام مذكور فيمعرض المحاجة فلو كان المقصود من هذه الآية تحريم المحاجة لزم كونها محرمة لنفسها وهو متناقض والثاني أنه لولا الأدلة لما توجه التكليف الثالث أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما تركوا تصديقه بغياً وعناداً فبيّن تعالى أنه قد حصل الاستغناء عن محاجتهم لأنهم عرفوا بالحجة صدقه فلا حاجة معهم إلى المحاجة ألبتة ومما يقوي قولنا أنه لا يجوز تحريم المحاجة قوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 ) وقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ ( النحل 125 ) وقوله لا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) وقوله قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ( هود 32 ) وقوله وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ( الأنعام 83 )
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى اللَّهِ أي يخاصمون في دينه مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ أي من بعد ما استجاب الناس لذلك الدين حُجَّتُهُمْ دَاحِضَة ٌ أي باطلة وتلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا ألستم تقولن إن الأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فنبوّة موسى وحقية التوراة معلومة بالاتفاق ونبوة محمد ليست متفقاً عليها فإذا بنيتم كلامكم في هذه الآية على أن الأخذ بالمتفق أولى وجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى فبيّن تعالى أن هذه الحجة داحضة أي باطلة فاسدة وذلك لأن اليهود أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام لأجد ظهور المعجزات على وقف قوله وههنا ظهرت المعجزات على وفق قول محمد عليه السلام واليهود شاهدوا تلك المعجزات فإن كان ظهور المعجزة يدل على الصدق فههنا يجب الإعتراف بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنبوته وأما الإقرار بنبوة موسى والإصرار على إنكار نبوة محمد مع استوائهما في ظهور المعجزة يكون متناقضاً ولما قرر الله هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة فقال اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والبينات وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم وأنهم لا يعلمون أن القيامة متى تفاجئهم ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجد ويجتهد في النظر والاستدلال ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد ولما كان الرسول يهددهم بنزول القيامة وأكثر في ذلك وأنهم ما رأوا منه أثراً قالوا على سبيل السخرية فمتى تقوم القيامة وليتها قامت حتى يظهر لنا أن الحق ما نحن عليه أو الذي عليه محمد وأصحابه فلدفع هذه الشبهة قال تعالى يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والمعنى ظهر وإنما يشفقون ويخافون لعلمهمأن عندها تمتنع التوبة وأما منكر البعث فلأن لا يحصل له هذا الخوف(27/137)
ثم قال أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَى السَّاعَة ِ لَفِى ضَلَالَ بَعِيدٍ والممارة الملاجة قال الزجاج الذين تدخلهم المرية والشك في وقوع الساعة فيمارون فيها ويجحدون لَفِى ضَلَالَ بَعِيدٍ لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى وهذا من أمحل المحالات فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالاً بعيداً
ثم قال اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ أي كثير الإحسان بهم وإنما حسن ذكر هذا الكلام ههنا لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة فكان ذلك من لطف الله بعباده وأيضاً المتفرقون استوجبوا العذاب الشديد ثم إنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضاً من لطف ا لله تعالى فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم ودفع أعظم المضار عنهم لا جرم حسن ذكره ههنا ثم قال يَرْزُقُ مَن يَشَاء يعني أن أصل الإحسان والبر عام في حق كل العباد وذلك هو الإحسان بالحياة والعقل والفهم وإعطاء ما لا بد منه من الرزق ودفع أكثر الآفات والبليات عنهم فأما مراتب العطية والبهجة فمتفاوتة مختلفة
ثم قال دهو القوي أي القادر على كل ما يشاء أي القادر على كل ما يشاء الْعَزِيزُ الذي لا يغالب ولا يدافع
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاٌّ خِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِن نَّصِيبٍ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَة ُ الْفَصْلِ لَقُضِى َ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَة ً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(27/138)
اعلم أنه تعالى لما بيّن كون لطيفاً بعبداه كثير الإحسان إليهم بيّن أنه لا بد لهم من أن يسعوا في طلب الخيرات وفي الاحتراز عن القبائح فقال مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ قال صاحب ( الكشاف ) إنه تعالى سمى ما يعمله العامل مما يطلب به القائدة حرثاً على سبيل المجاز وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أظهر الفرق في هذه الآية بين من أراد الآخرة وبين من أراد الدنيا من وجوه الأول أنه قدم مريد حرث الآخرة في الذكر على مريد حرث الدنيا وذلك يدل على التفضيل لأنه وصفه بكونه آخرة ثم قدمه في الذكر تنبيهاً على قوله ( نحن لآخرون السابقون ) الثاني أنه قال في مريد حرث الآخرة نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وقال في مريد حرث الدينا نُؤْتِهِ مِنْهَا وكلمة من للتبعيض فالمعنى أنه يعطيه بعض ما يطلبه ولا يؤتين كله وقال في سورة بني إسرائيل عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ( الإسرار 18 ) وأقوال البرهان العقلي مساعد على البابين وذلك لأن كل من عمل للآخرة وواظب على ذلك العمل فكثرة الأعمال سبب لحصول الملكات فكل من كانت مواظبته على تلك الأعمال أكثر كان ميل قلبه إلى طلب الآخرة أكثر وكلما كان الأمر كذلك كان الابتهاج أعظم والسعادات أكثر وذلك هو المراد بقوله نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وأما طالب الدنيا فكلما كانت مواظبته على أعمال ذلك الطلب أكثر كانت رغبته في الفوز بالدنيا أكثر وميله إليها أشد وإذا كان الميل أبداً في التزايد وكان حصول المطلوب باقياً على حالة واحدة كان الحرمان لازماً لامحالة الثالث أنه تعالى قال في طالب حرث الآخرة نُرَدُّ لَهُ فِى حَرْثِهِ ذ ولم يذكر أنه تعالى يعطيه الدنيا أم لا بل بقي الكلام ساكتاً عنه نفياً وإثباتاً وأما طالب حرث الدنيا فإنه تعالى بيّن أنه لا يعطيه شيئاً من نصيب الآخرة على التنصيص وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول الآخرة أصل والدنيا تبع فواجد الأصل يكون واجداً للتبع بقدر الحاجة إلا أنه لم يذكر ذلك تنبيهاً على أن الدنيا أخس من أن يقرن ذكرها بذكر الآخرة والرابع أنه تعالى بيّن أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه وبيّنأن طالب الدنيا يعطي بعض مطلوبه من الدنيا وأما افي الآخرة فإنه لا يحصل له نصيب ألبتة فبيّن بالكلام الأول أن طالب الآخرة يكون حاله أبداً في الترقي والتزايد وبيّن بالكلام الثاني أن طالب الدني يكون حاله في المقام الأول في النقصان وفي المقام الثاني في البطلان التامالخامس أن الآخرة نسيئة والدنيا نقد والنسيئة مرجوجة بالنسبة إلى النقد لأنالناس يقولون النقد خير من النسيئة فبيّن تعالى أن هذه القضية انعكست بالنسبة إلى أحوال الآخرة والدنيا فالآخرة وإن كانت نقداً إلا أنها متوجهة للزيادة والدوام فكانت أفضل وأكمل والدنيا وإن كانت نقداً إلا أنها متوجهة إلى النقصان ثم إلى البطلان فكانت أخس وأرذل فهذا يدل على أن حال الآخرة لا يناسب حال الدنيا ألبتة وأنه ليس في الدنيا من أحوال الآخرة إلا مجرد الاسم كما هو مروي عن ابن عباس السادس الآية دالة على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة بل لا بد في البابين من الحرث والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاق في البذر ثم التسقية والتنمية والحصد ثم التنقية فلما سمى الله كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق ثم بيّن تعالى أن مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وإن مصير الدنيا(27/139)
إلى النقصان ثم الفناء فكأنه قيل إذا كان لا بد في القسمين جميعاً من تحمل متاعب الحراثة والتسمية والتنمية والحصد والتنقية فلأن تصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في التزايد والبقاء أولى من صرفها إلى ما يكون في النقصان والانقضاء والفناء
المسألة الثانية في تفسير قوله نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ قولان الأول المعنى أنا نزيد في توقيفه وإعانته وتسهيل سبل الخيرات والطاعات عليه وقال مقاتل نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ بتضعيف الثواب قال تعالى لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ ( فاطر 30 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من أصبح وهمه الدنيا شئت لله تعالى عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلى ما كتب له ومن أصبح همه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة عن أنفها ) أو لفظً يقرب من أن يكون هذا معناه
المسألة الثالثة ظاهر اللفظ يدل على أن من صلّى لأجل طلب الثواب أو لأجل دفع العقاب فإنه تصح صلاته وأجمعوا على أنها لا تصح والجواب أنه تعالى قال مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ والحرث لا يتأتى إلا بإلقاء البذر الصحيح في الأرض والبذر الصحيح لجميع الخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله تعالى
المسألة الرابعة قال أصحابنا إذا توضأ بغير نية لم يصح قالوا لأن هذا الإنسان ما أراد حرث الآخرة لأن الكلام فيما إذا كان غافلاً عن ذكر الله وعن الآخرة فوجب أن لا يحصل له نصيب فيما يتعلق بالآخرة والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة فوجب أن لا يحصل في الوضوء العاري عن النية
وأعلم أن الله تعالى لما بيّن القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الآخرة والدنيا أردفه بالتنبيه على ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ومعنى الهمزة في أم التقرير والتقريع و شُرَكَاؤُهُمْ شياطينهم الذين زينوا الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا لأنهم يعلمون غيرها وقيل شُرَكَاؤُهُمْ أوثانهم وإنما أضيفت إليهم لأنهم هم الذين اتخذوها شركاء الله ولما كان سبباً لضلالتهم جعلت شارعة لدين الضلالة كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) وقوله شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ يعني أن تكل الشرائع بأسرها على ضدين لله ثم قال وَلَوْلاَ كَلِمَة ُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأخير الجزاء أو يقال ولولا الوعد بأن الفصل أن يكون يوم القيمة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الكافرين والمؤمنين أو بين المشركين وشركائهم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وقرأ بعضهم وأن بفتح الهمزة في أن عطفاً له على كلمة الفصل يعني وَلَوْلاَ كَلِمَة ُ الْفَصْلِ وأن تقريره تعذيب الظالمين في الآخرة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب الأول فهو قوله تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ خائفين خوفاً شديداً مِمَّا كَسَبُواْ من السيئات وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ يريد أن وباله واقع بهم سواء أشفقوا أو لم يشفقو أما الثاني فهو أحوال أهل الثواب وهو قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لأن روضة الجنة أطيب بقعة فيها وفي الآية تنبيه على أن الفساق من أهل الصلاة كلهم في الجنة إلا أنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بروضات الجنات وهي البقاع الشريفة من الجنة فالبقاع التي دون تلك الروضات لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كان دون أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم قال لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ(27/140)
وهذا يدل على أن كل الأشياء حاضرة عنده مهيأة ثم قال تعالى في تعظيم هذه الدرجة ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وأصحابنا استدلوا بهذه الآية على أن الثواب غير واجب على الله وإنما يحصل بطريق الفضل من الله تعالى قال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ فهذا يدل على أن روضات الجنات ووجدان كل ما يريدونه إنما كان جزاءً على الإيمان والأعمال الصالحات
ثم قال تعالى ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وهذا تصريح بأن الجزاء المرتب على العمل إنما حصل بطريق الفضل لا بطريق الاستحقاق
ثم قال ذَلِكَ الَّذِى يُبَشّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قال صاحب ( الكشاف ) قرىء يبشر من بشره ويبشر من أبشره ويبشر من بشره
واعلم أن هذه الآيات دالة على تعظيم حال الثواب من وجوه الأول أن الله سبحانه رتب على الإيمان وعمل الصاحات روضات الجنات والسلطان الذي هو أعظم الموجودات وأكرمهم إذا رتب على أعمال شاقة جزاء دل ذلك على أن ذلك الجزاء قد بلغ إلى حيث لا يعلم كنهه إلا الله تعالى الثاني أنه تعالى قال لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ وقوله لَهُم مَّا يَشَاءونَ يدخل في باب غير المتناهي لأنه لا درجة إلا والإنسان يريد ما هو أعلى منهاالثالث أنه تعالى قال ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ والذي يحكم بكبره من له الكبرياء والعظمة على الإطلاق كان في غاية الكبر الرابع أنه تعالى أعاد البشارة على سبيل التعظيم فقال الَّذِينَ يُبَشّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ وذلك يدل أيضاً على غاية العظمة نسأل الله الفوز بها والوصول إليها
واعمل أنه تعالى لما أوحى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هذا الكتاب الشريف العالي وأودع فيه الثلاثة أقسام الدلائل وأصناف التكاليف ورتب على الطاعة الثواب وعلى المعصية العقاب بين أني لا أطلب منكم بسبب هذا التبليغ نفعاً عاجلاً ومطلوباً حاضراً لئلا يتخيل جاهل أن مقصود محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من هذا التبليغ المال والجاه فقال قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر الناس في هذه الآية ثلاثة أقوال
الأول قال الشعبي أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى بن عباس نسأله عن ذلك فكتب ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان واسط النسب من قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده فقال الله قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ على ما أدعوكم إليه أَجْراً إِلاَّ أن تودوني لقرابتي منكم والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي
والقول الثاني روى الكلبي عن بن عباس رضي الله عنهما قال إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم المدينة كانت تعروه نوائب وحقوق وليس في يده سعة فقال الأنصار إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا ثم أتوه به فرده عليهم فنزل قوله تعلى قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أي على الإيمان إلا أنتودوا أقاربي فحثهم على مودة أقاربه(27/141)
القول الثالث ما ذكره الحسن فقال إلا أن تودوا إلى الله فيما يقربكم إليه من التودد إليه بالعمل الصالح فالقربى على القول الأول القرابة التي هي بمعنى الرحم وعلى الثاني القرابة التي هي بمعنى الأقارب وعلى الثالث هي فعلى من القرب والتقريب فإن قيل الآية مشكلة ذلك لأن طلب الأجر على تبليغ الوحي لايجوز ويدل عليه وجوه
الأول أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء عليهم السلام أنهم صرّحوا بنفي طلب الأجرة فذكر في قصة نوح عليه السلام وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 109 ) وكذا في قصة هود وصالح وفي قصة لوط وشعيب عليهم السلام ورسولنا أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فكان بأن لا يطلب الأجر على النوبة والرسالة أولى الثاني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) صرح بنفي طلب الأجر في سائر الآيات فقال قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ( سبأ 47 ) وقال قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ ( ص 86 ) الثالث العقل يدل عليه وذلك لأن ذلك التبليغ كان واجباً عليه قال تعالى بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( المائدة 67 ) وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء الرابع أن النبوة أفضل من الحكمة وقد قال تعالى في صفة الحكمة وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) وقال في صفة الدنيا قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( النساء 77 ) فكيف يحسن في العقل مقابلة أشرف الأشياء بأخس الأشياء الخامس أن طلب الأجر كان يوجب التهمة وذلك ينافي القطع بصحة النبوة فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يطلب أجراً ألبتة على التبليغ والرسالة وظاهر هذه الآية يقتضي أنه طلب أجراً على التبليغ والرسالة وهو المودة في القربى هذا تقرير السؤال والجواب عنه أنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ والرسالة بقي قوله إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى نقول الجواب عنه من وجهين الأول أن هذا من باب قوله
ولا عيب غير أن سيوفهم
بها من قراع الدارعين فلول المعنى أنا لا أطلب منكم إلا هذا وهذا في الحقيقة ليس أجراً لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب قال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضاً ) والآيات والأخبار في هذا الباب كثيرة وإذا كان حصول المودة بين جمهور المسلمين واجباً فحصولها في حق أشرف المسلمين وأكابرهم أولى وقوله تعلى قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى تقديره والمودة في القربى ليست أجراً فرجع الحاصل إلى أنه لا أجر ألبتة الوجه الثاني في الجواب أن هذا استثناء منقطع وتم الكلام عند قوله قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
ثم قال إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى أي لكن أذكركم قرابتي منكم وكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر
المسألة الثالثة نقل صاحب ( الكشاف ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من مات على حب آل محمد مات شهيداً ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنّة ثم منكر ونكير ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنّة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة ألا ومن مات على حب آل محمد(27/142)
جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة ) هذا هو الذي رواه صاحب ( الكشاف ) وأنا أقول آل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هم الذين يؤول أمرهم إليه فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل ولا شك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشد التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل وأيضاً اختلف الناس في الآل فقيل هم الأقارب وقيل هم أمته فإن حملناه على القرابة فهم الآل وإن حملناه على الأمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل فثبت أن على جميع التقديرات هم الآل وأما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل فمختلف فيه وروى صاحب ( الكشاف ) أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم فقال علي وفاطمة وابناهما فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ويدل عليه وجوه الأول قوله تعالى إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى ووجه الاستدلال به ما سبق الثاني لا شك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحب فاطمة عليها السلام قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ) وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يحب علياً والحسن والحسين وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله لقوله وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( الأعراف 158 ) ولقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ( النور 63 ) ولقوله قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ( آل عمران 31 ) ولقوله سبحانه لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ ( الأحزاب 21 ) الثالث أن الدعاء للآل منصب عظيم ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله اللّهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وارحم محمداً وآل محمد وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل فكل ذلك يدل على أن حب آل محمد واجب وقال الشافعي رضي الله عنه
يا راكباً قف بالمحصب من منى
واهتف بساكن خيفها والناهضسحراً إذا فاض الحجيج إلى منى
فيضاً كما نظم الفرات الفائضإن كان رفضاً حب آل محمد
فليشهد الثقلان أنى رافضي المسألة الثانية قوله إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى فيه منصب عظيم للصحابة لأنه تعالى قال وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 10 ) فكل من أطاع الله كان مقرباً عند الله تعالى فدخل تحت قوله إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى والحاصل أن هذه الآية تدل على وجوب حب آل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحب أصحابه وهذا المنصب لا يسلم إلا على وقل أصحابنا أهل السنّة والجماعة الذين جمعوا بين حب العترة والصحابة وسمعت بعض المذكرين قال إنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات وراكب البحر يحتاج إلى أمرين أحدهما السفينة الخالية عن العيوب والثقب والثاني الكواتكب الظاهرة الطالعة النيرة فإذا ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجاء السلامة غالباً فكذلك ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة فرجوا من الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدينا والآخرة(27/143)
ولنرجع إلى التفسير أورد صاحب ( الكشاف ) على نفسه سؤالاً فقال هلا قيل إلا مودة القربى أو إلا مودة للقربى وما معنى قوله إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى وأجاب عنه بأن قال جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقوله لي في آل فلان مودة ولي فيهم هوى وحب شديد تريد أحبهم وخم مكان حبي ومحله
ثم قال تعالى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَة ً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً قيل نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه والظاهر العموم في أي حسنة كانت إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودة في القربى ذل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودة
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ والشكور في حق الله تعالى مجاز والمعنى أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي أن يزيد عليه أنواعاً كثيرة من التفضيل
وقال تعالى أَمْ يَقُولُونَ فَتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا واعلم أن الكلام في أول السورة إنما اتبدىء في تقرير أن هذا الكتاب إنما حصل بوحي الله وهو قوله تعالى كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( الشورى 3 ) واتصل الكلام في تقرير هذا المعنى وتعلق البعض بالبعض حتى وصل إلى ههنا ثم حكى ههنا شبهة القوم وهي قولهم إن هذا ليس وحياً من الله تعالى فقال أَمْ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا قال صاحب ( الكشاف ) أم منقطعة ومعنى الهمزة نفس التوبيخ كأنه قيل أيقع في قلوبهم ويجري في ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الافتراء على الله الذي هو أقبح أنواع الفرية وأفحشها ثم أجاب عنه بأن قال فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وفيه وجوه الأول قال مجاهد يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إن مفتر كذاب والثاني يعني بهذا الكلام أنه إن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى يفتري عليه الكذب فإن لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل هذه الحالة والمقصود من ذكر هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد ومثاله أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة فيقول الأمين لعلّ الله خذلني لعلّ الله أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب لنفسه وإنما يريد استبعاد صدور الخيانة عنه
ثم قال تعالى وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ أي ومن عادة الله إبطال الباطل وتقرير الحق فلو كان محمد مبطلاً كذاباً لفضحه الله ولكشف عن باطله ولما أيده بالقوة والنصرة ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس من الكاذبين المفترين على الله ويجوز أن يكون هذا وعداً من الله لرسوله بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والفرية والتكذيب ويثبت الحق الذي كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عليه
ثم قال إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم فيجري الأمر على حسب ذلك وعن قتادة يختم على قلبك ينسيك القرآن ويقطع عنك الوحي بمعنى لو افترى على الله الكذب لفعل الله به ذلك
واعلم أنه تعالى لما قال أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ثم برأ رسوله مما أضافوه إليه من هذا وكان من المعلوم أنهم قد استحقوا بهذه الفرية عقاباً عظيماً لا جرم ندبهم الله على التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء وإن عظمت إساءته فقال وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ وفي هذه الآية مسائل(27/144)
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) يقال قبلت منه الشيء وقبلته عنه فمعنى قبلته منه أخذته منه وجعلته مبدأ قبلو ومنشأه ومعنى قبلته عنه أخذته وأثبته عنه وقد سبق البحث المستقصى عن حقيقة التوبة في سورة البقرة وأقل ما لا بد منه الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل وروى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال اللّهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له علي عليه السلام يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين فتوبتك تحتاج إلى توبة فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة فقال اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته
المسألة الثانية قالت المعتزلة يجب على الله تعالى عقلاً قبول التوبة وقال أصحابنا لا يجب على الله شيء وكل ما يفعله فإنما يفعله بالكرم والفضل واحتجوا على صحة مذهبهم بهذه الآية فقالوا إنه تعالى تمدح بقبول التوبة ولو كان ذلك القبول واجباً لما حصل التمدح العظيم ألا ترى أن من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلماً ولا يقتلهم غضباً كان ذلك مدحاً قليلاً أما إذا قال إني أحسن إليهم مع أن ذلك لا يجب عليَّ كان ذلك مدحاً وثناءً
المسألة الثالثة قوله تعالى وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ إما أن يكون المراد منه أن يعفو عن الكبائر بعد الإتيان بالتوبة أو المراد منه أنه يعفو عن الصغائر أو المراد منته أنه يعفو عن الكبائر قبل التوبة والأول باطل وإلا لصار قوله وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ عين قوله وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ والتكرار خلاف الأصل والثاني أيضاً باطل لأن ذلك واجب وأداء الواجب لا يتمدح به فبقي القسم الثالث فيكون المعنى أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة وتارة يعفو ابتداء من غير توبة
ثم قال وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء على المخاطبة والباقون بالياء على المغايبة والمعنى أنه تعالى يعلمه فيثيبه على حسناته ويعاقبه على سيئاته
ثم قال وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ وفيه قولان أحدهما الذين آمنوا وعملوا الصالحات رفع على أنه فاعل تقديره ويجيب المؤمنون الله فيما دعاهم إليه والثاني محله نصب والفاعل مضمر وهو الله وتقديره ويستجيب الله للمؤمنين إلا أنه حذف اللام كما حذف في قوله وَإِذَا كَالُوهُمْ ( المطففين 3 ) وهذا الثاني أولى لأن الخبر فيما قبل وبعد عن الله لأن ما قبل الآية قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ وما بعدها قوله وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ فيزيد عطف على ويستجيب وعلى الأول ويجيب العبد ويزيد الله من فضله
أما من قال إن الفعل للذين آمنوا ففيه وجهان أحدهما ويجيب المؤمنون ربهم فيما دعاهم إليه والثاني يطيعونه فيما أمرهم به والاستجابة الطاعة
وأما من قال إن الفعل لله فقد اختلفوا فقيل يجيب الله دعاء المؤمنين ويزيدهم ما طلبوه من فضله فإن قالوا تخصيص المؤمنين بإجابة الدعاء هل يدل على أنه تعالى لا يجيب دعاء اكفار قلنا قال بعضهم لا يجوز لأن إجابة الدعاء تعظيم وذلك لا يليق بالكفار وقيل يجوز على بعض الوجوه وفائدة التخصيص أن(27/145)
إجابة دعاء المؤمنين تكون على سلبيل التشريف وإجابة دعاء الكافرين تكون على سبيل الاستدراج ثم قال وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ أي يزيدهم على ما طلبوه بالدعاء وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والمقصود التهديد
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الأرض وَلَاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِى ُّ الْحَمِيدُ وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّة ٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى إنه يجيب دعاء المؤمنين ورد عليه سؤال وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبلية وفقر ثم يدعو فلا يشاهد أثر الإجابة فكيف الحال فيه مع ما تقدم من قوله وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُواْ فأجاب تعالى عنه بقوله وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ أي ولأقدموا على المعاصي ولما كان ذلك محذوراً وجب أن يعطيهم ما طلبوه قال الجبائي هذه الآية تدل على بطلان قول المجبرة من وجهين الأول أن حاصل الكلام أنه تعالى لَوْ بَسَطَ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ والبغي في الأرض غير مراد فإرادة بسط الرزق غير حاصلة فهذا الكلام إنما يتم إذا قلنا إنه تعالى يريد البغي في الأرض وذلك يوجب فساد قول المجبرة الثاني أنه تعالى بيّن أنه إنما لم يرد بسط الرزق لأنه يفضي إلى المفسدة فلما بيّن تعالى أنه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريداً للمفسدة كان أولى أجاب أصحابنا بأن الميل الشديد إلى البغي والقسوة والقهر صفة حدثت بعد أن لم تكن فلا بد لها من فاعل وفاعل هذه الأحوال إما العبد أو الله والأول باطل لأنه إنما يفعل هذه الأشياء لو مال طبعه إليها فيعود السؤال في أنه من المحدث لذلك الميل الثاني ويلزم التسلسل وأيضاً فالميل الشديد إلى الظلم ولاقسوة عيوب ونقصانات والعاقل لا يرضى بتحصيل موجبات النقصان لنفسه ولما بطل هذا ثبت أن محدث هذا الميل والرغبة هو الله تعالى ثم أورد الجبائي في ( تفسيره ) على نفسه سؤالاً قال فإن قيل أليس قد بسط الله الرزق لبعض عباده مع أنه بغى وأجاب عنه بأن الذي عنده الرزق وبغى كان المعلوم من حاله أنه يبغي على كل حال سواء أعطى ذلك الرزق أو لم يعط وأقول هذا الجواب فاسد ويدل عليه القرآن(27/146)
والعقل أما القرآن فقوله تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) حكم مطلقاً بأن حصول الغنى سبب لحصول الطغيان وأما العقل فهو أن النفس إذا كانت مائلة إلى الشر لكنها كانت فاقدة للآلات والأدوات كان الشر أقل وإذا كانت واجدة لها كان الشر أكثر فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان
المسألة الثانية في بيان الوجه الذي لأجله كان التوسع موجباً للطغيان ذكروا فيه وجوهاً الأول أن الله تعالى لو سوى في الرزق بين الكل لامتنع كون البعض خادماً للبعض ولو صار الأمر كذلك لخرب العالم وتعطلت المصالح الثاني أن هذه الآية مختصة بالعرب فإنه كلما اتسع رزقهم ووجدوا من المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم أقدموا على النهب والغارة الثالث أن الإنسان متكبر بالطبع فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه انكسر فعاد إلى الطاعة والتواضع
المسألة الثالثة قال خباب بن الأرث فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها وقيل نزلت في أهل الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى
ثم قال تعالى وَلَاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء قرأ ابن كثير وأبو عمرو يُنَزّلٍ خفيفة والباقون بالتشديد ثم نقول بِقَدَرٍ بتقدير يقال قدره قدراً وقدراً إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ يعني أنه عالم بأحوال الناس وبطباعهم وبعواقب أمورهم فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم ولما بيّن تعالى أنه لا يعطيهم ما زاد على قدر حاجتهم لأجل أنه علم أن تلك الزيادة تضرهم في دينهم بين أنهم إذا احتاجوا إلى الرزق فإنه لا يمنعهم منه فقال وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ قرأ نافع وابن عامر وعاصم يُنَزّلٍ مشددة والباقون مخففة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء قَنَطُواْ بفتح النون وكسرها وإنزال الغيث بعد القنوط أدعى إلى الشكر لأن الفرح بحصول النعمة بعد البلية أتم فكان إقدام صاحبه على الشكر أكثر وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب وعن عمر رضي الله عنه أنه قيل له ( اشتد القحط وقنط الناس فقال إذن مطروا ) أراد هذه الآية ويجوز أن يريد رحمته الواسعة في كل شيء كأنه قيل ينزل الرحمة التي هي الغيث وينشر سائر أنواع الرحمة وَهُوَ الْوَلِى ُّ الوالي الذي يتولى عباده بإحسانه و الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ المحمود على ما يوصل للخلق من أقسام الرحمة ثم ذكر آية أخرى تدل على إلهيته فقال وَمِنْ ءايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّة ٍ فنقول أما دلالة خلق السموات والأرض على وجود الإله الحكيم فقد ذكرناها وكذلك دلالة وجود الحيوانات على وجود الإله الحكيم فإن قيل كيف يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة قلنا فيه وجوه الأول أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة وإن كان فاعله واحداً منهم يقال بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله واحد منهم ومنه قوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( الرحمن 22 ) الثاني أن الدبيب هو الحركة والملائكة لهم حركة الثالث لا يبعد أن يقال إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون مشي الأناسي على الأرض
ثم قال تعالى وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ قال صاحب ( الكشاف ) إذا تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي قال تعالى وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( الليل 1 ) ومنه إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ والمقصود أنه تعالى خلقها متفرقة لا لعجز ولكن لمصلحة فلهذا قال وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ يعني الجمع للحشر(27/147)
والمحاسبة وإنما قال عَلَى جَمْعِهِمْ ولم يقل على جمعها لأجل أن المقصود من هذا الجمع المحاسبة فكأنه تعالى قال وهو على جمع العقلاء إذا يشاء قدير واحتج الجبائي بقوله إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ على أن مشيئته تعالى محدثة بأن قال إن كلمة إِذَا تفيد ظرف الزمان وكلمة يَشَاء صيغة المستقبل فلو كانت مشيئته تعالى قديمة لم يكن لتخصيصها بذلك الوقت المعين من المستقبل فائدة ولما دل قوله إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ على هذا التخصيص علمنا أن مشيئته تعالى محدثة والجواب أن هاتين الكلمتين كما دخلتا على المشيئة أي مشيئة الله فقد دخلتا أيضاً على لفظ القدير فلزم على هذا أن يكون كونه قادراً صفة محدثة ولما كان هذا باطلاً فكذا القول فيما ذكره والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر بِمَا كَسَبَتْ بغير فاء وكذلك هي في مصاحف الشام والمدينة والباقون بالفاء وكذلك هي في مصاحفهم وتقدير الأول أن ما مبتدأ بمعنى الذي وبما كسبت خبره والمعنى والذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم وتقدير الثاني تضمين كلمة ما معنى الشرطية
المسألة الثانية المراد بهذه الصمائب الأحوال المكروهة نحو الآلام والأسقام القحط والغرق والصواعق وأشباهها واختلفوا في نحو الآلام أنها هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا منهم من أنكر ذلك لوجوه الأولى قوله تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غافر 17 ) بيّن تعالى أن الجزاء إنما يحصل في يوم القيامة وقال تعالى في سورة الفاتحة مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 ) أي يوم الجزاء وأطبقوا على أن المراد منه يوم القيامة والثاني أن مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق وما يكون كذلك امتنع جعله من باب العقوبة على الذنوب بل الاستقراء يدل على أن حصول هذه المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) الثالث أن الدنيا دار التكليف فلو جعل الجزاء فيها لكانت الدينا دار التكليف ودار الجزاء معاً وهو محال وأما القائلون بأن هذه المصائب قد تكون أجزية على الذنوب المتقدنمة فقد تمسكوا أيضاً بما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن قال ( لا يصيب ابن آدم خدش عود ولا غيره إلا بذنب أو لفظ ) هذا معناه وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى بعد هذه الآية أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا ( الشورى 34 ) وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك كان بسبب كسبهم وأجاب الأولون عن التمسك بهذه الآية فقالوا إن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء ويحمل قوله فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم وكذا الجواب عن بقية الدلائل والله أعلم
المسألة الثالثة احتج أهل التناسخ بهذه الآية وكذلك الذين يقولون إن الأطفال البهائم لا تتألم فقالوا دلّت الآية على أن حصول المصائب لا يكون إلا لسابقة الجرم ثم إن أهل التناسخ قالوا لكن هذه المصائب حاصلة للأطفال والبهائم فوجب أن يكون قد حصل لها ذنوب في الزمان السابق وأما القائلون بأن الأطفال والبهائم ليس لها ألم قالوا قد ثبت أن هذه الأطفال والبهائم ما كانت موجودة فيبدن آخر لفساد القول بالتناسخ فوجب القطع بأنها لا تتألم إذ الألم مصيبة والجواب أن قوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ(27/148)
خطاب مع من يفهم ويعقل فلا يدخل فيه البهائم والأطفال ولم يقل تعالى إن جميع ما يصيب الحيوان من المكاره فإنه بسبب ذنب سابق والله أعلم
المسألة الرابعة قوله فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ يقتضي إضافة الكسب إلى اليد قال والكسب لا يكون باليد بل بالقدرة القائمة باليد وإذا كان المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة وكان هذا المجاز مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تعالى عن الأعضاء والأجزاء والله أعلم
ثم قال تعالى وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ومعناه أنه تعالى قد يترك الكثير من هذه التشديدات بفضله ورحمته وعن الحسن قال دخلنا على عمران بن حصين في الوجع الشديد فقيل له إنا لنغتم لك من بعض ما نرى فقال لا تفعلوا فوالله إن أحبه إلى الله أحبه إلي وقرأ وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فهذا بما كسبت يداي وسيأتيني عفو ربي وقد روى أبو سخلة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية وقال ( ما عفى الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة ) رواه الواحدي في ( البسيط ) وقال إذا كان كذلك فهذه أرجى آية في كتاب الله لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين صنف كفره عنهم بالمصائب في الدنيا وصنف عفا عنه في الدنيا وهو كريم لا يرجع في عفوه وهذه سنّة الله مع المؤمنين وأما الكافر فلأنه لا يعجل عليه عقوبة ذنبه حتى يوافي ربه يوم القيامة
ثم قال تعالى وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ يقول ما أنتم معشر المشركين بمعجزين في الأرض أي لا تعجزونني حيثما كنتم فلا تسبقونني بسبب هربكم في الأرض وَمَا لَكُم مّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ والمراد بهم من يعبد الأصنام بين أنه لا فائدة فيها ألبتة والنصير هو الله تعالى فلا جرم هو الذي تحسن عبادته
وَمِنْ ءَايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاٌّ عْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَى ْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلواة َ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْى ُ هُمْ يَنتَصِرُونَ(27/149)
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وأبو عمرو الجواري بياء في الوصل والوقف فإثبات الياء في الأصل وحذفها للتخفيف
المسألة الثانية الجواري يعني السفن الجواري فحذف الموصوف لعدم الالتباس
المسألة الثالثة اعمل أٌّ ه تعالى ذكر من آياته أيضاً هذه السفن العظيمة التي تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح واعلم أن المقصود من ذكره أمران أحدهما أن يستدل به على وجود القادر الحكيم والثاني أن يعرف ما فيه من النعم العظيمة لله تعالى على العباد أما الوجه الأول فقد اتفقوا على أن المراد بالأعلام الجبال قالت الخنساء في مرثية أخيها
وإن صخراً لتأتم لهداة به
كأنه علم في رأسه نار ونقل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي إلى هذا البيت قال ( قاتلها الله ما رضيت بتشبيهها له بالجبل حتى جعلت على رأسه ناراً ) إذا عرفت هذا فنقول هذه السفن العظيمة التي تكون كالجبال تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح على أسرع الوجوه وعند سكون هذه الرياح تقف وقد بينا بالدليل في سورة النحل أن محرك الرياح ومسكنها هو الله تعالى إذ لا يقدر أحد على تحريكها من البشر ولا على تسكينها وذلك يدل على وجود الإله القادر وأيضاً أن السفينة تكون في غاية الثقل ثم إنها معثقلها بقيت على وجه الماء وهو أيضاً دلالة أخرى وأما الوجه الثاني وهو معرفة ما فيها من المنافع فهو أنه تعالى خص كل جانب من جوانب الأرض بنوع آخر من الأمتعة وإذا نقل متاع هذا الجانب إلى ذلك الجانب في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة في التجارة فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفينة
ثم قال تعالى كَالاْعْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ قرأ أبو عمرو والجمهور بهمزة إِن يَشَأْ لأن سكون الهمزة علامة للجزم وعن ورش عن نافع بلا همزة وقرأ نافع وحده يُسْكِنِ الرّيَاحِ على الجمع والباقون الرّيحَ على الواحد قال صاحب ( الكشاف ) قرىء يظللن بفتح اللام وكسرها من ظل يظل ويظل وقوله تعالى فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ أي رواتب أي لا تجري على ظهره أي على ظهر البحر إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ على بلاء الله شَكُورٍ لنعمائه والمقصود التنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يكون غافلاً عن دلائل معرفة الله ألبتة لأنه لا بد وأن يكون إما في البلاء وإما في الآلاء فإن كان في البلاء كان من الصابرين وإن كان من النعماء كان من الشاكرين وعلى هذا التقدير فإنه لا يكون ألبتة من الغافلين
ثم قال تعالى أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا يعني أو يهلكهن يقال أوبقه أي أهلكه ويقال للمجرم أوبقته ذنوبه أي أهلكته والمعنى أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين إما أن يسكن الريح(27/150)
فتركد الجواري على متن البحر وتقف وإما أن يرسل الرياح عاصفة فيها فيهلكن بسبب الإغراق وعلى هذا التقدير فقوله أَوْ يُوبِقْهُنَّ معطوف على قوله يُسْكِنِ لأن التقدير إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها وقوله وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ معناه إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً عن طريق العفو عنهم فإن قيل فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوماً مثله قلنا معناه إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم وأما من قرأ ويعفو فقد استأنف الكلام
ثم قال كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءايَاتِنَا مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ قرأ نافع وابن عامر يعلم بالرفع على الاستئناف وقرأ الباقون بالنصب فالقراءة بالرفع على الاستئناف وأما بالنصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون في آياتنا والعطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه قوله تعالى وَلِنَجْعَلَهُ ءايَة ً لّلْنَّاسِ ( مريم 21 ) وقوله تعالى وَخُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( الجاثية 22 ) قال صاحب ( الكشاف ) ومن قرأ على جزم وَيَعْلَمَ فكأنه قال أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور هلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ أي ينازعون على وجه التكذيب أن لا مخلص لهم إذا وقفت السفن وءذا عصفت الرياح فيصير ذلك سبباً لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله
واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتفسير عن الدنيا وتحقير شأنها لأن الذي يمنع من قبول الدليل إنما هو الرغبة في الدنيا بسبب الرياسة وطلب الجاه فإذا صغرت الدنيا في عين الرجل لم يلتفت إليها فحينئذ ينتفع بذكر الدلائل فقال فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَى ْء فَمَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وسماه متاعاً تنبيهاً على قلته وحقارته ولأن الحس شاهد بأن كل ما يتعلق بالدنيا فإنه يكون سريع الانقراض والانقضاء
ثم قال تعالى وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى والمعنى أن مطالب الدنيا خسيسة منقرضة ونبه على خساستها بتسميتها بالممتاع ونبّه على انقراضها بأن جعلها من الدنيا وأما الآخرة فإنها خير وأبقى وصريح العقل يقتضي ترجيح الخير الباقي على الخسيس الفاني ثم بيّن أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات
الصفة الأولى أن يكون من المؤمنين بدليل قوله تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ
الصفة الثانية أن يكون من المتوكلين على فضل الله بدليل قوله تعالى وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فأما من زعم أن الطاعة توجب الثواب فهو متكل على عمل نفسه لا على الله فلا يدخل تحت الآية
الصفة الثالثة أن يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش عن ابن عباس كبير الإثم هو الشرك نقله صاحب ( الكشاف ) وهو عندي بعيد لأن شرط الإيمان مذكور أولاً وهو يغني عن عدم الشرك وقيل المراد بكبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية وبقوله وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ما يتعلق بالقوة الغضبية وإنما خص الغضب بلفظ الغفران لأن الغضب على طبع النار واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة فلهذا السبب خصّه بهذا اللفظ والله أعلم
الصفة الرابعة قوله تعالى وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ والمراد منه تمام الانقياد فإن قالوا أليس أنه لما(27/151)
جعل الإيمان شرطاً فيه فقد دخل في الإيمان إجابة الله قلنا الأقرب عندي أن يحمل هذا على الرضاء بقضاء الله من صميم القلب وأن لا يكون في قلبه منازعة في أمر من الأمور ولما ذكر هذا الشرط قال وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ والمراد منه إقامة الصلوات الواجبة لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب
وأما قوله تعالى وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ فقيل كان إذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم أي لا ينفردون برأي بل ما لم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه وعن الحسن ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ومعنى قوله وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ أي ذو شورى
الصفة الخامسة قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْى ُ هُمْ يَنتَصِرُونَ والمعنى أن يقتصروا في الانتصار على ما يجعله الله لهم ولا يتعدونه وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء فإن قيل هذه الآية مشكلة لوجهين الأول أنه لما ذكر قبله وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ فكيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو قوله وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْى ُ هُمْ يَنتَصِرُونَ الثاني وهو أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن قال تعالى وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) وقال وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) وقال وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ ( النحل 126 ) فهذه الآيات تناقض مدلول هذه الآية والجواب أن العفو على قسمين أحدهما أن يكون العفو سبباً لتسكين الفتنة وجناية الجاني ورجوعه عن جنايته والثاني أن يصير العفو سبباً لمزيد جراءة الجاني ولقوة غيظه وغضبه والآيات في العفو محمولة على القسم الأول وهذه الآية محمولة على القسم الثاني وحينئذ يزول التناقض والله أعلم ألا ترى أن العفو عن المصر يكون كالإغراء له ولغيره فلو أن رجلاً وجد عبده فجر بجاريته وهو مصر فلو عفا عنه كان مذموماً وروي أن زينب أقبلت على عائشة فشتمتها فنهاها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عنها فلم تنته فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( دونك فانتصري ) وأيضاً إنه تعالى لم يرغب في الانتصار بل بيّن أنه مشروع فقط ثم بيّن بعده أن شرعه مشروط برعاية المماثلة ثم بيّن أن العفو أولى بقوله فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فزال السؤال والله أعلم(27/152)
وَجَزَآءُ سَيِّئَة ٍ سَيِّئَة ٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَائِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاٍّ مُورِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِى ٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِى ٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ
اعلم أنه تعالى لما قال وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْى ُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ( الشورى 39 ) أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل فإن النقصان حيف والزيادة ظلم والتساوي هو العدل وبه قامت السماوات والأرض فلهذا السبب قال وَجَزَاء سَيّئَة ٍ مِثْلِهَا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول جزاء السيئة مشروع مأذون فيه فكيف سمي بالسيئة أجاب صاحب ( الكشاف ) عنه كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة لأنها تسوء من تنزل به قال تعالى وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ ( النساء 78 ) يريد ما يسوءهم من المصائب والبلايا وأجاب غيره بأنه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر على سبيل المجاز أطلق اسم أحدهما على الآخر والحق ما ذكره صاحب ( الكشاف )
والمسألة الثانية هذه الآية أصل كبير في علم الفقه فإن مقتضاها أن تقابل كل جناية بمثلها وذلك لأن الإهدار يوجب فتح باب الشر والعدوان لأن في طبع كل أحد الظلم والبغي والعدوان فإذا لم يزجر عنه أقدم عليه ولم يتركه وأما الزيادة على قدر الذنب فهو ظلم والشرع منزّه عنه فلم يبق إلا أن يقابل بالمثل ثم تأكد هذا النص بنصوص أُخر كقوله تعالى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ( النحل 126 ) وقوله تعالى مَنْ عَمِلَ سَيّئَة ً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ( غافر 40 ) وقوله عزّ وجلّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة وقوله تعالى وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ( المائدة 45 ) وقوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ ( البقرة 179 ) فهذه النصوص بأسرها تقتضي مقابلة الشيء بمثله ثم هاهنا دقيقة وهي أنه إذا لم يمكن استيفاء الحق إلا باستيفاء الزيادة فههنا وقع التعارض بين إلحاق زيادة الضرر بالجاني وبين منع المجني عليه من استيفاء حقه فأيهما أولى فههنا محل اجتهاد المجتهدين ويختلف ذلك باختلاف الصور وتفرع على هذا الأصل بعض المسائل تنبيهاً على الباقي
المثال الأول احتج الشافعي رضي الله عنه على أن المسلم لا يقتل بالذمي وأن الحر لا يقتل بالعبد بأن قال المماثلة شرط لجريان اللقصاص وهي مفقودة في هاتين المسألتين فوجب أن لا يجري القصاص(27/153)
بينهما أما بيان أن المماثلة شرط لجريان القصاص فهي النصوص المذكورة وكيفية الاستدلال بها أن نقول إما أن نحمل المماثلة المذكورة في هذه النصوص على المماثلة في كل الأمور إلا ما خصّه الدليل أو نحملها على المماثلة في أمر معين والثاني مرجوح لأن ذلك الأمر المعين غير مذكور الآية فلو حملنا الآية عليها لزم الإجمال ولو حملنا النص على القسم الأول لزم تحمل التخصيص ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص فثبت أن الآية تقتضي رعاية المماثلة في كل الأمور إلا ما خصّه دليل العقل ودليل نقلي منفصل وإذا ثبت هذا فنقول رعاية المماثلة في قتل المسلم بالذمي وقي قتل الحر بالعبد لا تمكن لأن الإسلام اعتبره الشرع في إيجاب القتل لتحصيله عند عدمه كما في حق الكافر الأصلي ولإبقائه عند وجوده كما في حق المرتد وأيضاً الحرية صفة اعتبرها الشرع في حق القضاء والإمامة والشهادة فثبت أن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة ههنا فوجب المنع من القصاص
المثال الثاني احتج الشافعي رضي الله عنه في أن الأيدي تقطع باليد الواحد فقال لا شك أنه إذا صدر كل القطع أو بعضه عن كل أولئك القاطعين أو عن بعضهم فوجب أن يشرع في حق أولئك القاطعين مثله لهذه النصوص وكل من قال يشرع القطع إما كله أو بعضه في حق كلهم أو بعضهم قال بإيجابه على الكل بقي أن يقال فيلزم منه استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع منه إلا أنا نقول لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجني عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى
المثال الثالث شريك الأب شرع في حقه القصاص والدليل عليه أنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ( المائدة 45 ) وإذا ثبت هذا ثبت تمام القصاص لأنه لا قائل بالفرق
المثال الرابع قال الشافعي رضي الله تعالى عنه من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه والدليل عليه هذه النصوص الدالة على مقابلة كل شيء بمماثله
المثال الخامس شهود القصااص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه فوجب أن يصير دمهم مهدراً لقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا
المثال السادس قال الشافعي رضي الله عنه المكره يجب عليه القود لأنه صدر عنه القتل ظلماً فوجب أن يجب عليه مثله أما أنه صدر عنه القتل فالحس يدل عليه وأما أنه قتل ظلماً فلأن المسلمين أجمعوا على أنه مكلف من قبل الله تعالى بأن لا يقتل وأجمعوا على أنه يستحق به الإثم العظيم والعقاب الشديد وإذا ثبت هذا فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا
المثال السابع قال الشافعي رضي الله عنه القتل بالمثقل يوجب القود والدليل عليه أن الجاني أبطل حياته فوجب أن يتمكن ولي المقتول من إبطال حياة القاتل لقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا
المثال الثامن الحر لا يقتل بالعبد قصاصاً ونحن وإن ذكرنا هذه المسألة في المثال الأول إلا أنا نذكر ههنا وجهاً آخر من البيان فنقول إن القاتل أتلف على مالك العبد شيئاً يساوي عشرة دنانير مثلاً فوجب عليه أداء عشرة دنانير لقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا وإذا وجب الضمان وجب أن لا يجب القصاص لأنه لا قائل بالفرق(27/154)
المثال التاسع منافع الغضب مضمونة عند الشافعي رضي الله عنه والدليل عليه أن الغاضب فوت على المالك منافع تقابل في العرب بدينار فوجب أن يفوت على الغاضب مثله من المال لقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ وكل من أوجب تفويت هذا القدر على الغاضب قال بأنه يجب أداؤه إلى المغصوب منه
المثال العاشر الحر لا يقتل بالعبد قصاصاً لأنه لو قتل بالعبد هو مساوياً للعبد في المعاني الموجبة للقصاص لقوله الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيّئَة ً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ( غافر 40 ) ولسائر النصوص التي تلوناها ثم إن عبده يقتل قصاصاً بعبد نفسه فيجب أن يكون عبد غيره مساوياً لعبد نفسه في المعاني الموجبة للقصاص لعين هذه النصوص التي ذكرناها فعلى هذا التقدير يكون عبد نفسه مساوياً لعبد غيره في المعاني الموجبة للقصاص فكان عبد نفسه مثلاً لمثل نفسه ومثل المثل مثل فوجب كون عبد نفسه مثلاً لنفسه في المعاني الموجبة للقصاص ولو قتل الحر بعبد غيره لقتل بعبد نفسه بالبيان الذي ذكرناه ولا يقتل بعبد نفسه فوجب أن لا يقتل بعبد غيره فقد ذكرنا هذه الأمثلة العشرة في التفريع على هذه الآية ومن أخذت الفطانة بيده سهل عليه تفريع كثير من مسائل الشريعة على هذا الأصل والله أعلم ثم ههنا بحث وهو أن أبا حنيفة رضي الله عنه قال في قطع الأيدي لا شك أنه صدر كل القطع أو بعضه عن كلهم أو عن بعضهم إلا أنه لا يمكن استيفاء ذلك الحق إلا باستيفاء الزيادة لأن تفويت عشرة من الأيدي أزيد من تفويت يد واحدة فوجب أن يبقى على أصل الحرمة فقال الشافعي رضي الله عنه لو كان تفويت عشرة من الأيدي من الأويدي في مقابلة يد واحدة حراماً لكان تفويت عشرة من النفوس في مقابلة نفس واحدة حراماً لأن تفويث النفس يشتمل على تفويث اليد فتفويت عشرة من النفوس في مقابلة النفس الواحدة يوجب تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة فلو كان تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة حراماً لكان تفويت عشرة من النفوس لأجل النفس الواحدة مشتملاً على الحرام وكل ما اشتمل على الحرام فهو حرام فكان يجب أن يحرم قتل النفوس العشرة في مقابلة النفس الواحدة وحيث أجمعنا على أنه لا يحرم علمنا أن ما ذكرتم من استيفاء الزيادة غير ممنوع منه شراً والله أعلم
المسألة الثالثة قد بينا أن قوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا يتقضي وجوب رعاية المماثلة مطلقاً في كل الأحوال إلا فيما خصه الدليل والفقهاء أدخلوا التخصيص فيه في صور كثيرة فتارة بناء على نص آخر أخس منه وأخرى بناء على القياس ولا شك أن من اعدى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بهذا النص في جميع المطالب قال مجاهد والسدي إذا قال له أخزاه الله فليقل له أخزاه الله أما إذا قذفه قذفاً يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله به
ثم قال تعالى فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء كما قال تعالى فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ ( فصلت 34 ) ( فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وهو وعد مبهم لا يقاس أمره في التعظيم
ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وفيه قولان الأول أن المقصود منه التنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له استيفاء الزيادة من الظالم لأن الظالم فيما وراء ظلمه معصوم والانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز التسوية والتعدي خصوصاً في حال الحرب والتهاب الحمية فربما صار المظلوم عند الإقدام على استيفاء القصاص ظالماً وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم قال(27/155)
فيقوم خلق فقال لهم ما أجركم على الله فيقولون نحن الذين عفونا عمن ظلمنا فيقال لهم ادخلوا الجنة بإذن الله تعالى ) الثاني أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم أخبر أنه مع ذلك لا يحبه تنبيهاً على أنه إذ كان لا يحبه ومع ذلك فإنه يندب على عفوه فالمؤمن الذي هو حبيب الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو عنه
ثم قال تعالى وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي ظالم الظالم إياه وهذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول فَأُوْلَئِكَ يعني المنتصرين مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ كعقوبة ومؤاخذة لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار واحتج الشافعي رضي الله تعالى عنه بهذه الآية في بيان أن سراية القود مهدرة فقال الشرع إما أن يقال إنه أذن له في القطع مطلقاً أو بشرط عدم السريان وهذا الثاني باطل لأن الأصل في القطع الحرمة فإذا كان تجويزه معلقاً بشرط عدم السريان وكان هذا الشرط مجهولاً وجبأن يبقى ذلك القطع على أصل الحرمة لأن الأصل فيها هو الحرمة والحل إنما يحصل معلقاً على شرط مجهول فوجب أن يبقى ذبك أصل الحرمة وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الشرع أذن له في القطع كيف كان سواء سرى أو لم يسر وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون ذلك السريان مضموناً لأنه قد انتصر من بعد ظلمه فوجب أن لا يحصل لأحد عليه سبيل
ثم قال إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدأون بالظلم وَيَبْغُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ثم قال تعالى وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ يعني أن عزمه على ترك الانتصار لمن عزم الأمور الجيدة وحذف الراجع لأنه مفهوم كما حذف من قولهم السمن منوان بدرهم ويحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن فكان المسبوب يكظم ويعرقة فيمسح العرق ثم قام وتلا هذه الآية فقال الحسن عقلها والله وفهمها لما ضيعها الجاهلون
ثم قال تعالى وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِى ّ مّن بَعْدِهِ أي فليس له من ناصر يتولاه من بعد خذلانه أي من بعد إضلاه الله أياه وهذا صريح في جواز الإضلال من الله تعالى وفي أن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله تعالى قال القاضي المراد من يضلل الله عن الجنة فما له من ولي من بعده ينصره والجواب أن تتقيد الإضلال بهذه الصورة المعينة خلاف الدليل وأيضاً فاللهتعالى ما أضله عن الجنة على قولكم بل هوأضل نفسه عن الجنة
ثم قال تعالى وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ والمراد أنهم يطلبون لرجوع إلى الدنيا لعظم ما يشاهدون من العذاب ثم ذكر حالهم عند عرض النار عليهم فقال وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلّ أي حال كونهم خاشعين حقيرين مهانين بسبب ما لحقهم من الذل ثم قال يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِى ّ أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة كما ترى الذي يتيقن أن يقتل فإنه ينظر إلى السيف كأنه لا يقدر على أن يفتح أجفانه عليه ويملأ عينيه منه كما يفعل في نظره إلى الحبوبات فإن قيل أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار إنهم يحشرون عمياً فكيف قال ههنا إنهم ينظرون من طرف خفي قلنا لعلهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يجعلون عميا أو لعل هذا في قوم وذلك(27/156)
في قوم آخرين ولما وصف الله تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال وَقَالَ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ قال صاحب ( الكشاف ) يَوْمُ الْقِيَامَة ِ إما أن يتعلق بخسروا أو يكون قول المؤمنين واقعاً في الدنيا وإما أن يتعلق بقال أي يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة
ثم قال أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ أي دائم قال القاضي وهذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب أن لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكفر قال تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( البقرة 254 ) والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال بعده هذه الآية وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مّن اللَّهِ والمعنى أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لأجل أن تشفع لهم عند الله تعالى ما أتوا بتلك الشفاعة ومعلوم أن هذا لا يليق إلا بالكفار ثم قال وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ وذلك يدل على أن المضل والهادي هو الله تعالى على ما هو قولنا ومذهبنا والله أعلم
اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود فقال اسْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ وقوله مِنَ اللَّهِ يجوز أن يكون صلة لقوله لاَّ مَرَدَّ لَهُ يعني لا يرده الله بعد ما حكم به ويجوز أن يكون صلة لقوله يَأْتِى َ أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده واختلفوا في المراد بذلك اليوم فقيل يوم ورود الموت وقيل يوم القيامة لأنه وصف ذلك اليوم بأنه لا مرد له وهذا الوصف موجود في كلا اليومين ويحتمل أن يكون معنى قوله لاَّ مَرَدَّ لَهُ أنه لا يقبل التقديم والتأخير أو أن يكون معناه أن لا مرد فيه إلى حال التكليف حتى يحصل فيه التلافي
ثم قال تعالى في وصف ذلك اليوم مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ ينفع في التخلص من العذاب وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ ممن ينكر ذلك حتى يتغير حالكم بسبب ذلك المنكر ويجوز أن يكون المراد من النكير الإنكار أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما افترفتموه من الأعمال فَإِنْ أَعْرَضُواْ أي هؤلاء الذين أمرتهم بالاستجابة أي لم(27/157)
يقبلوا هذا الأمر فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً بأن تحفظ أعمالهم وتحصيها إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ وذلك تسلية من الله تعالى ثم أنه تعالى بيّن السبب في إصرارهم على مذاهبهم الباطلة وذلك أنهم وجدوا في الدنيا سعادة وكرامة الفوز بمطالب الدنيا يفيد الغرور والفجور والتكبر وعدم الانقياد للحق فقال وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً فَرِحَ بِهَا ونعم الله في الدنيا وإن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى السعادات المعدة في الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سماها ذوقاً فبيّن تعالى أن الإنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير الذي حصل في الدنيا فإنه يفرح بها ويعظم غروره بسببها ويقع في العجب والكبر ويظن أنه فاز بكل المنى ووصل إلى أقاصي السعادات وهذه طريقة من يضعف اعتقاده في سعادات الآخرة وهذه الطريقة مخالفة لطريقة المؤمن الذي لا يعد نعم الدنيا إلا كالوصلة إلى نعم الآخرة ثم بيّن أنه متى أصبتهم سيئة أي شيء يسوءهم في لحال كالمرض والفقر وغيرهما فإنه يظهر منه الكفر وهو معنى قوله فَإِنَّ الإنسَانَ والكفور الذي يكون مبالغاً في الكفران ولم يقل فإنه كفور ليبين أن طبيعة الإنسان تقتضي هذه الحالة إلا إذا أدبها الرجل بالآداب التي أرشد الله إليها ولما ذكر الله إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع ذلك بقوله للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمقصود منه أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه بل إذا علم أن الكل ملك الله ومله وأنه إنما حصل ذلك القدر تحت يده لأن الله أنعم عليه به فحينئذٍ يصير ذلك حاملاً له على مزيد الطاعة والخدمة وأما إذا اعتقد أن تلك النعم إنما تحصل بسبب عقله وجده واجتهاده بقي مغروراً بنفسه معرضاً عن طاعة الله تعالى ثم ذكر من أقسام تصرف الله في العالم أنه يخص البعض بالأولاد والإناث والبعض بالذكور والبعض بهما والبعض بأن يجعله محروماً من الكل وهو المراد من قوله وجيعل من يشاء عميقاً
واعلم أن أهل الطبائع يقولوه السبب في حدوث الولد صلاح حال النطفة والرحم وسبب الذكورة استيلاء الحرارة وسبب الأنوثة استيلاء البرودة وقد ذكرنا هذا الفصل بالاستقصاء التام في سورة النحل وأبطلناه بالدلائل اليقينية وظهر أن ذكل من الله تعالى لا أنه من الطبائع والأنجم والأفلاك وفي الآسة سؤالات
السؤال الأول أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور فقال وَالاْرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ثم في الآية الثانية قدم الذكور على الاناث فقال أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً فما السبب في هذا التقديم والتأخير
السؤال الثاني أنه ذكر الإناث على سبيل التنكير فقال يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وذلك الذكور بلفظ التعريف فقال وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ فما السبب في هذا الفرق
السؤال الثالث لم قال في إعطاء الإناث وحدهن وفي إعطاء الذكور وحدهم بلفظ الهبة فقال يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ وقال في إعطاء الصنفين معاً أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً
والسؤال الرابع لما كان حصول الولد هبة من الله فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأي حاجة في عدم حصوله إلى أن يقول وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء
السؤال الخامس هل المراد من هذا الحكم جمع معينون أو المراد الحكم على الإنسان المطلق(27/158)
والجواب عن السؤال الأول من وجوه الأول أن الكريم يسعى في أن يقع الختم على الخير والراحة والسرور والبهجة فإذا وهب الولد الأنثى أولاً ثم أعطاه الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح وهذا غاية الكرم أما إذا أعطى الولد أولاً ثم أعطى الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم فذكر تعالى هبة الولد الأنثى أولاً وثانياً هبة الولد الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون ذلك أليق بالكرم الوجه الثاني أنه إذا أعطى الولد الأنثى أولاً علم أنه لا اعتراض له على الله تعالى فيرضى بذلك فإذا أعطاه الولد الذكر بعد ذلك علم أن هذه الزيادة فضل من الله تعالى وإحسان إليه فزيداد شكره وطاعته ويعلم أن ذلك إنما حصل بمحض الفضل والكرم والوجه الثالث قال بعض المذكرين الأنثى ضعيفة ناقصة عاجزة فقدم ذكرها تنبيهاً على أنه كلما كان العجز والحاجة أتم كانت عناية الله به أكثر الوجه الرابع كأنه يقال أيتها المرأة الضعيفة العاجزة إن أباك وأمك يكرهان وجودك فإن كانا قد كرها وجودك فأنا قدمتك في الذكر لتعلمي أن المحسن المكرم هو الله تعالى فإذا علمت المرأة ذلك زادت في الطاعة والخدمة والبعد عن موجبات الطعن والذم فهذه المعاني هي التي لأجلها وقع ذكر الإناث مقدماً على ذكر الذكور وإنما قدم ذكر الذكور بعد ذلك على ذكر الإناث لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى والأفضل الأكمل مقدم على الأخس الأرذل والحاصل أن النظر إلى كونه ذكراً أو أنثى يقتضي تقديم ذكر الذكر على ذكر الأنثى أما العوارض الخارجية التي ذكرناها فقد أوجبت تقديم ذكر الأنثى على ذكر الذكر فلما حصل المقتضي للتقديم والتأخير في البابين لا جرم قدم هذا مرة وقدم ذلك مرة أخرى والله أعلم
وأما السؤال الثاني وهو قوله لم عبر عن الإناث بلفظ التنكير وعن الذكور بلفظ التعريف فجوابه أن المقصود منه التنبيه على كون الذكر أفضل من الأنثى
وأما السؤال الثالث وهو قوله لم قال تعالى في إعطاء الصنفين الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً فجوابه أن كل شيئين يقرن أحدهما بالآخر فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له زوج والكناية في يُزَوّجُهُمْ عائدة على الإناث والذكور التي في الآية الأولى والمعنى يقرن الإناث والذكور فيجعلهم أزواجاً
وأما السؤال الرابع فجوابه أن العقيم هو الذي لا يولد له يقال رجل عقيم لا يلد وامرأة عقيم لا تلد وأصل العقم القطع ومنه قيل الملك عقيم لأنه يقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق
وأما السؤال الخامس فجوابه قال ابن عباس يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً يريد لوطاً وشعيباً عليهم السلام لم يكن لهما إلا النبات وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ يريد إبراهيم عليه السلام لم يكن له إلا الذكور أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً يريد محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان له من البنين أربعة القاسم ولطاهر وعبد الله وإبراهيم ومن البنات أربعة زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً يريد عيسى ويحيى وقال الأكثرون من المفسرين هذ الحكم عام في حق كل الناس لأن المقصود بيان قدرة الله في تكوين الأشياء كيف شاء وأراد فلم يكن للتخصيص معنى والله أعلم ثم ختم الآية بقوله إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ قال ابن عباس عليم بما خلق قدير على ما يشاء أن يخلقه والله أعلم(27/159)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى َ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِى ٌّ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاٍّ مُورُ
اعلم أنه تعالى لما بيّن كمال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ وما صح لأحد من البشر أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إلا على أحد ثلاثة أوجه إما على الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام كما أوحى الله إلى أم موسى وإبراهيم عليه السلام في ذبح ولده وعن نجاهد أوحى الله تعالى الزبور إلى داود عليه السلام في صدره وإما على أن يسمعه كلامه من غير واسطة مبلغ وهذا أيضاً وحي بدليل أنه تعالى أسمع موسى كلامه من غير واسطة مع أنه سماه وحياً قوله تعالى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) وإما على أن يرسل إليه رسولاً من الملائكة فيبلغ ذلك الملك الذي الوحي إلى الرسول البشري فطريق الحصر أن يقال وصول الوحي من الله إلى البشر إما أن يكون من غير واسطة مبلغ أو يكون بواسطة مبلغ وإذا كان الأول هو أن يصل إليه وحي الله لا بواسطة شخص آخر فههنا إما أن يقال إنه لم يسمع عين كلام الله أو يسمعه أما الأول وهو أنه وصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر وما سمع عين كلام لله فهو المراد بقوله إِلاَّ وَحْياً وأم الثاني وهو أنه وصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر ولكنه مسع عين كلام الله فهو المراد من قوله أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ وأما الثالث وهو أنه وصل إليه لوحي بواسطة شخص آخر فهو المراد بقوله أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى َ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء
واعلم أن كل واحد من هذه الأ ) قسام الثلاثة وحي إلا أنه تعالى خصص القسم الأول باسم الوحي لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام فهو يقع دفعة فكن تخصيص لفظ الوحي به أولى فهذا هو الكلام في تمييز هذه الأقسام بعضها عن بعض
المسألة الثانية القائلون بأن الله في مكان احتجوا بقوله أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ وذلك لأن التقدير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد ثلاثة أوجه أحدها أن يكون الله من وراء حجاب وإنما يصحب ذلك لو كان مختصاً بمكان معين وجهة معينة والجواب أن ظاهر اللفظ وإن أوهم ما ذكرتم إلا أنه دلت الدلائل العقلية والنقلية على أنه تعالى يمتنع حصوله في المكان والجهة فوجب حمل هذا اللفظ على التأويل والمعنى أن الرجل سمع كلاماً مع أنه لا يرى ذلك المتكلم كان ذلك شبيهاً بما إذا تكلم من وراء حجاب والمشابهة سبب لجواز المجاز(27/160)
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يرى وذلك لأنه تعالى حصر أقسام وحيه في هذه الثلاثة ولو صحت رؤية الله تعالى لصح من الله تعالى أنه يتكلم مع العبد حال ما يراه العبد فحينئذٍ يكون ذلك قسماً رابعاً زائداً على هذه الأقسام الثلاثة والله تعالى نفى القسم الرابع بقوله وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إلا على هذه الأوجه الثلاثة الجواب نزيد في اللفظ قيداً فيكون التقدير وما كان لبشر أن يكلمه الله في الدنيا إلا على أحد هذه الأقسام الثلاثة وحينئذٍ لا يلزم ما ذكرتموه وزيادة هذا القيد وإن كانت على خلاف الظاهر لكنه يجب المصير إليها للتوفيق بين هذه الآيات وبين الآيات الدالة على حصول الرؤية في يوم القيامة والله أعلم
المسألة الرابعة أجمعت الأمة على أن الله تعالى متكلم ومن سوى الأشعري وأتباعه أطبقوا على أن كلام الله هو هذه الحروف المسموعة والأصوات المؤلفة وأما الأشعري وأتباعه فإنهم زعموا أن كلام الله تعالى صفة قديمة يعبر عنها بهذه الحروف والأصوات
أما الفريق الأول وهم الذين قالوا كلام الله تعالى هو هذه الحروف والكلمات فهم فريقان أحدهما الحنابلة الذين قالوا بقدم هذه الحروف وهؤلاء أخس من أن يذكروا في زمرة العقلاء واتفق أني قلت يوماً لبعضهم لو تكلم الله بهذه الحروف إما أن يتكلم بها دفعة واحدة أو على التعاقب والتوالي والأول باطل لأن التكلم بجملة هذه الحروف دفعة واحدة لا يفيد هذا النظم المركب على هذ التعاقب والتوالي فوجب أن لا يكون هذا النظم المركب من هذه الحروف المتوالية كلام الله تعالى والثاني باطل لأنه تعالى لو تكلم بها على التوالي والتعاقب كانت محدثة ولما سمع ذلك لرجل هذا الكلام قال لواجب علينا أن نقر ونمر يعني نقر بأن القرآن قديم ونمر على هذا الكلام على وفق ما سمعناه فتعجبت من سلامة قلب ذلك القائل وأما العقلاء من الناس فقد أطبقوا على أن هذه الحروف والأصوات كائنة بعد أن لم تكن حاصلة بعد أن كانت معدومة ثم اختلفت عباراتهم في أنها هل هي مخلوقة أو لا يقال ذلك بل يقال إنها حادثة أو يعبر عنها بعبارة أخرى واختلفوا أيضاً في أن هذه الحروف هل هي قائمة بذات الله تعالى أو يخلقها في جسم آخر فالأول هو قول الكرامية والثاني قول المعتزلة وأما الأشعرية الذين زعموا أن كلام الله صفة قديمة تدل عليها هذه الألفاظ والعبارات فقد اتفقوا على أن قوله أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ هو أن الملك والرسول يسمع ذلك الكلام المنزّه عن الحرف والصوت من وراء حجاب قالوا وكما لا يبعد أن ترى ذات الله مع أنه ليس بجسم ولا في حيز فأي بعد في أن يسمع كلام الله مع أنه لا يكون حرفاً ولا صوتاً وزعم أبو منصور الماتريدي السمرقندي أن تلك الصفة القائمة يمتنع كونها مسموعة وإنما المسموع حروف وأصوات يخلقها الله تعالى في الشجرة وهذا القول قريب من قول المعتزلة والله أعلم
المسألة الخامسة قال القاضي هذه الآية تدل على حدوث كلام الله تعالى من وجوه الأول أن قوله تعالى أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ يدل عليه لأن كلمة أن مع المضرع تفيد الاستقبال الثاني أنه وصف الكلام بأنه وحي لأن لفظ الوحي يفيد أنه وقع على أسرع الوجوه الثالث أن قوله أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى َ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء يقتضي أن يكون الكلام الذي يبلغه الملك إلى الرسول البشر مثل الكلام الذي سمعه من الله والذي يبلغه إلى الرسول البشري حادث فلما كان الكلام الذي سمعه من الله مماثلاً لهذا الذي بلغه إلى الرسول(27/161)
البشري وهذا الذي بلغه إلى الرسول البشري حادث ومثل الحادث حادث وجب أن يقال إن الكلام الذي سمعه من الله حادث الرابع أن قوله أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى َ يقتضي كون الوحي حاصلاً بعد الإرسال وما كان حصوله متأخراً عن حصول غيره كان حادثاً والجواب أنا نصرف جملة هذه الوجوه التي ذكرتموها إلى الحروف والأصوات ونعترف بأنها حادثة كائنة بعد أن لم تكن وبديهة العقل شاهدة بأن الأمر كذلك فأي حاجة إلى إثبات هذا المطلوب الذي علمت صحته ببديهة العقل وبظواهر القرآن والله أعلم
المسألة السادسة ثبت أن الوحي من الله تعالى إما أن لا يكون بواسطة شخص آخر ويمتنع أن يكون كل وحي حاصلاً بواسطة شخص آخر وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور هما محالان فلا بد من الاعتراف بحصول وحي يحصل لا بواسطة شخص آخر ثم ههنا أبحاث
البحث الأول أن الشخص الأول الذي سمع وحي الله لا بواسطة شخص آخر كيف يعرف أن الكلام الذي سمعه كلام الله فإن قلنا إنه سمع تلك الصفة القديمة المنزّنة عن كونها حرفاً وصوتاً لم يبعد أنه إذا سمعها علم بالضرورة كونها كلام الله تعالى ولم يبعد أن يقال إنه يحتاج بعد ذلك إلى دليل زائد أما إن قلنا إن المسموع هو الحرف والصوت امتنع أن يقطع بكونه كلاماً لله تعالى إلا إذا ظهرت دلالة على أن ذلك المسموع هو كلام الله تعالى
البحث الثاني أن الرسول إذاسمعه من الملك كيف يعرف أن ذلك المبلغ ملك معصوم لا شيطان مضل والحق أنه لا يمكنه القطع بذلك إلا بناء على معجزة تدل على أن ذلك المبلغ ملك معصوم لا شيطان خبيث وعلى هذا التقدير فالوحي من الله تعالى لا يتم إلا بثلاث مراتب في ظهور المعجزات
المرتبة الأولى أن الملك إذا سمع ذلك الكلام من الله تعالى فلا بد له من معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى
المرتبة الثانية أن ذلك الملك إذا وصل إلى الرسول لا بد له أيضاً من معجزة
المرتبة الثالثة أن ذلك الرسول إذا أوصله إلى الأمة فلا بد له أيضاً من معجزة فثبت أن التكليف لا يتوجه على الخلق إلا بعد وقوع ثلاث مراتب في المعجزات
البحث الثالث أنه لا شك أن ملكاً من الملائكة قد سمع الوحي من الله تعالى ابتداء فذلك الملك هو جبريل ويقال لعل جبريل سمعه من ملك آخر فالكل محتمل ولو بألف واسطة ولو يوج ما يدل على القطع بواحد من هذه الوجوه
البحث الرابع هل في البشر من سمع وحي الله تعالى من غير واسطة المشهور أن موسى عليه السلام سمع كلام الله من غير واسطة بدليل قوله تعالى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) وقيل إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) سمعه أيضاً لقوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 )
البحث الخامس أن الملائكة يقدرون على أن يظهروا أنفسهم على أشكال مختلفة فبتقدير أن يراه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في كل مرة وجب أن يحتاج إلى المعجزة ليعرف أن هذا الذي رآه في هذه المرة عين ما رآه في المرة الأولى وإن كان لا يرى شخصه كانت الحاجة إلى المعجزة أقوى لاحتمال أنه حصل الاشتباه في(27/162)
الصوت إلا أن الإشكال في أن الحاجة إلى إظهار المعجزة في كل مرة لم يقل به أحد
المسألة السابعة دلّت المناظرات المذكورة في القرآن بين الله تعالى وبين إبليس على أنه تعالى كان يتكلم مع إبليس من غير واسطة فذلك هل يسمى وحياً من الله تعالى إلى إبليس أو لا الأظهر منعه ولا بد في هذا الموضع من بحث غامض كامل
المسألة الثامنة قرأ نافع أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً برفع اللام فيوحي بسكون الياء ومحله رفع على تقدير وهو يرسل فيوحي والباقون بالنصب على تأويل المصدر كأنه قيل ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً إو إسماعاً لكلامه من وراء حجاب أو يرسل لكن فيه إشكال لأن قوله وحياً أو إسماعاً اسم وقوله أَوْ يُرْسِلَ فعل وعطف الفعل على الاسم قبيح فأجيب عنه بأن التقدير وما كان لبشر أن يكلمه إلا أن يوحي إليه وحياً أو يسمع إسماعاً من وراء حجاب أو يرسل رسولاً
المسألة التاسعة الصحيح عند أهل الحق أن عندما يبلغ الملك الوحي إلى الرسول لا يقدر الشيطان على إلقاء الباطل في أثناء ذلك الوحي وقال بعضهم يجوز ذلك لقوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى الشفاعة ترتجى وكان صديقنا الملك سام بن محمد رحمه الله وكان أفضل من لقيته من أرباب السلطنة يقول هذا الكلام بعد الدلائل القوية القاهرة باطل من وجهين آخرين الأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بصورتيا ) فإذا لم يقدر الشيطان على أن يتمثل في المنام بصورة الرسول فكيف قدر على التشبه بجبريل حال اشتغال تبليغ وحي الله تعالى والثاني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما سلك عمر فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً آخر ) فإذا لم يقدر الشيطان أن يحضر مع عمر في فج واحد فكيف يقدر على أن يحضر مع جبريل في موقف تبليغ وحي الله تعالى
المسألة العاشرة قوله تعالى فيوحي بإذنه ما يشاء يعني فويحي ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله وهذا يقتضي أن الحسن لا يحسن لوجه عائد عليه وأن القبيح لا يقبح لوجه عائد إليه بل لله أن يأمر بما يشاء من غير تخصيص وأن ينهى عما يشاء من غير تخصيص إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله مَا يَشَاء والله أعلم
ثم قال تعالى في آخر الآية إِنَّهُ عَلِى ٌّ حَكِيمٌ يعني أنه علي عن صفات المخلوقين حكيم يجري أفعاله على موجب الحكمة فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام وأخرى بإسماع الكلام وثالثاً بتوسيط الملائكة الكرام ولما بيّن الله تعالى كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم السلام قال وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا والمراد به القرآن وسماه روحاً لأنه يفيد الحياة من موت الجهل أو الكفر
ثم قال تعالى مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ واختلف العلماء في هذه الآية مع الإجماع على أنه لا يجوز أن يقال الرسل كانوا قبل الوحي على الكفر وذكروا في الجواب وجوهاً الأول مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ أي القرآن وَلاَ الإِيمَانُ أي الصلاة لقوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 )(27/163)
أي صلاتكم الثاني أن يحمل هذا على حذف المضاف أي ما كنت تدري ما الكتاب ومن أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن الثالث ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان حين كنت طفلاً في المهد الرابع الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به وإنه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل إنه كان عارفاً بالله تعالى وذلك لا ينافي ما ذكرناه الخامس صفات الله تعالى على قسمين منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقل ومنها ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوّة
ثم قال تعالى وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا واختلفوا في الضمير في قوله وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ منهم من قال إنه راجع إلى القرآن دون الإيمان لأنه هو الذي يعرف به الأحكام فلا جرم شبه بالنور الذي يهتدي به ومنهم من قال إنه راجع إليهما معاً وحسن ذلك لأن معناهما واحد كقوله تعالى وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ( الجمعة 11 )
ثم قال نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وهذا يدل على أنه تعالى بعد أن جعل القرآن نفسه في نفسه هدى ً كما قال هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) فإنه قد يهدي به البعض دون البعض وهذه الهداية ليست إلا عبارة عن الدعوة وإيضاح الأدلة لأنه تعالى قال في صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وهو يفيد العموم بالنسبة إلى الكل وقوله نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا يفيد الخصوص فثبت أن الهداية بمعنى الدعوة عامة والهداية في قوله نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا خاصة والهداية الخاصة غير الهداية العامة فوجب أن يكون المراد من قوله نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا أمراً مغايراً لإظهار الدلائل ولإزالة الأعذار ولا يجوز أيضاً أن يكون عبارة عن الهداية إلى طريق الجنّة لأنه تعالى قال وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا أي جعلنا القرآن نوراً نهدي به من نشاء وهذا لا يليق إلا بالهداية التي تحصل في الدينا وأيضاً فالهذاية إلى الجنّة عندكم في حق البعض واجب وفي حق الآخرين محظور وعلى التقديرين فلا يبقى لقوله مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا فائدة فثبت أن المراد أنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ولا اعتراض عليه فيه
ثم قال تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ فبيّن تعالى أنه كما أن القرآن يهدي فكذلك الرسول يهدي وبيّن أنه يهدي إلى صراط مستقيم وبيّن أن ذلك الصراط هو صِراطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ نبّه بذلك على أن الذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض والغرض منه إبطال قول من يعبد غير الله
ثم قال أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاْمُورُ وذلك كالوعيد والزجر فبيّن أن أمر من لا يقبل هذه التكاليف يرجع إلى الله تعالى أي إلى حيث لا حاكم سواه فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب(27/164)
سورة الزخرف
وهي تسع وثمانون آية مكية
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاٌّ وَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِى ٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أن قوله حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ يحتمل وجهين الأول أن يكون التقدير هذه حام والكتاب المبين فيكون القسم واقعاً على أن هذه السورة هي سورة حام ويكتن قوله إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً ابتداء لكلام رخر الثاني أن يكون التقدير هذه حام
ثم قال وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً فيكون المقسم عليه هو قوله إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً وفي المراد بالكتاب قولان أحدهما أن المراد به القرآن وعلى هذا التقدير فقد أقسم بالقرآن أنه جعله عربياً الثاني أن المراد بالكتاب الكتابة والخط وأقسم بالكتابة لكثرة ما فيثا من المنافع فإن العلوم إنما تكاملت بسبب الخط فإن المتقدم إذا استنبط علماً وأثبته في كتاب وجاء المتأخر ووقف عليه أمكنه أن يزيد في استنباط الفوائد فبهذا الطريق تكاثرت الفوائد وانتهت إلى الغايات العظيمة وفي وصف الكتاب بكونه مبيناً من وجوه الألأل أنه المبين للذين أنزل إليهم لأنه بلغتهم ولسانهم والثاني المبين هو الذي(27/165)
أبان طريق الهدى من طريق الضلالة وأبان كل باب عما سواه وجعلها مفصلة ملخصة
واعلم أن وصفه بكونه مبيناً نجاز لأن المبين هو الله تعالى وسمي القرآن بذلك توسعاً من حيث إنه حصل البيان عنده
أما قوله إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول أن الآية تدل على أن القرآن مجعول والمجعول هو المصنوع المخلوق فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد أنه سماه عربياً قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول أنه لو كان المراد بالجعل هذا لوجب أن من سماه عجمياً أن يصير عجمياً وإن كان بلغة العرب ومعلوم أنه باطل الثاني أنه لو صرف الجعل إلى التسمية لزم كون التسمية مجعولة والتسمية أيضاً كلام الله وذلك يوجب أنه فعل بعض كلامه وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل الثاني أنه وصفه بكونه قرآناً وهو إنما سمي قرآناً لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض وما كان كذلك كان مصنوعاً معمولاً الثالث أنه وصفه بكونه عربياً وهو إنما كان عربياً لأن هذه الألفاظ إنما اختصت بمسمياتهم بوضع العرب واصطلاحاتهم وذلك يدل على كونه معمولاً ومجعولاً والرابع أن القسم بغير الله لا يجوز على ما هو معلوم فكان التقدير حام ورب الكتاب المبين وتأكد هذا أيضاً بما روي أنه عليه السلام كان يقول يا رب طه وياس ويا رب القرآن العظيم والجواب أن هذا الذي ذكرتموه حق وذلك لأنكم إنما استدللتم بهذه الوجوه على كون هذه الحروف المتوالية والكلمات المتعاقبة محدثة مخلوقة وذلك معلوم بالضرورة ومن ينازعكم فيه بل كان كلامكم يرجع حاصله إلى إقامة الدليل على ما عرف ثبوته بالضرورة
المسألة الثانية كلمة لعلّ للتمني والترجي وهو لا يليق بمن كان عالماً بعواقب الأمور فكان المراد منها هاهنا كي أي أنزلناه قرآناً عربياً لكي تعقلوا معناه وتحيطوا بفحواه قالت المعتزلة فصار حاصل الكلام إنا أنزلناه قرآناً عربياً لأجل أن تحيطوا بمعناه وهذا يفيد أميرين أحدهما أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض والدواعي والثاني أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليهتدي به الناس وذلك يدل على أنه تعالى أراد من الكل الهداية والمعرفة خلاف قول من يقول إنه تعالى أراد من البعض الكفر والإعراض واعلم أن هذا النوع من استدلالات المعتزلة مشهور وأجوبتنا عنه مشهورة فلا فائدة في الإعادة والله أعلم
المسألة الثالثة قوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يدل على أن القرآن معلوم وليس فيه شيء مبهم مجهول خلافاً لمن يقول بعضه معلوم وبعضه مجهول
ثم قال تعالى وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي أُمُّ الْكِتَابِ بكسر الألف والباقون بالضم
المسألة الثانية الضمير في قوله وَأَنَّهُ عائد إلى الكتاب الذي تقدم ذكره في أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا واختلفوا في المراد بأم الكتاب على قولين فالقول الأول إنه اللوح المحفوظ لقوله بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 22 )(27/166)
واعلم أن على هذا التقدير فالصفات المذكورة ههنا كلها صفات اللوح المحفوظ
الصفة الأولى أنه أم الكتاب والسبب فيه أن أصل كل شيء أمه والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ ثم نقل إلى سماء الدنيا ثم أنزل حالاً بحسب المصلحة عن ابن عباس رضي الله عنه ( إن أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق ) فالكتاب عنده فإن قيل وما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علاّم الغيوب ويستحيل عليه السهو والنسيان قلنا إنه تعالى لما أثبت في ذلك أحكام حوادث المخلوقات ثم إن الملائكة يشاهدون أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافقة ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمة الله وعلمه
الصفة الثانية من صفات اللوح المحفوظ قوله لَدَيْنَا هكذا ذكره ابن عباس و ( إنما خصه الله تعالى بهذا التشريف لكونه كتاباً جامعاً لأحوال جميع المحدثات فكأنه الكتاب المشتمل على جميع ما يقع في ملك الله وملكوته فلا جرم حصل له هذا التشريف قال الواحدي ويحتمل أن يكون هذا صفة القرآن والتقدير إنه لدينا في أم الكتاب
الصفة الثالثة كونه علياً والمعنى كونه عالياً عن وجوه الفساد والبطلان وقيل المراد كونه عالياً على جميع الكتب بسبب كونه معجزاً باقياً على وجه الدهر
الصفة الرابعة كونه حكيماً أي محكماً في أبواب البلاغة والفصاحة وقيل حكيم أي ذو حكمة بالغة وقيل إن هذه الصفات كلها صفات القرآن على ما ذكرناه والقول الثاني في تفسير أم الكتاب أنه الآيات المحكمة لقوله تعالى هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ مِنْ أُمَّة ٍ الْكِتَابِ ( آل عمران 7 ) ومعناه أن سورة حام واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم
ثم قال تعالى أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحمزة والكسائي إِن كُنتُمْ بكسر الألف تقديره ءن كنتم مسرفين لا نضرب عنكم الذكر صفحاً وقيل ( إن ) بمعنى إذ كقوله تعالى وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( البقرة 278 ) وبالجملة فالجزاء مقدم على الشرط وقرأ الباقون بفتح الألف على التعليل أي لأن كنتم مسرفين
المسألة الثانية قال الفرّاء والزجاج يقول ضربت عنه وأضربت عنه أي تركته وأمسكت عنه وقوله صَفْحاً أي إعراضاً والأصل فيه أنك توليت بصفحة عنقك وعلى هذا فقوله أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحاً تقديره أفنضرب عنكم إضرابنا أو تقديره أفنصفح عنكم صفحاً واختلفوا في معنى الذكر فقيل معناه أفنرد عنكم ذكر عذاب الله وقيل أفنرد عنكم النصائح والمواعظ وقيل أفنرد عنكم القرآن وهذا استفهام رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة إذا عرفت هذا فنقول هذا الكلام يحتمل وجهين الأول الرحمة يعني أن لا نترككم مع سوء اختياركم بل نذكركم ونعظكم إلى أن ترجعوا إلى الطريق الحق الثاني المبالغة في التغليظ يعني أتظنون أن تتركوا مع ما(27/167)
تريدون كلا بل نلزمكم العمل وندعوكم إلى الدين ونؤاخذكم متى أخللتم بالواجب وأقدمتم على القبيح
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) الفاء في قوله أَفَنَضْرِبُ للعطف على محذوف تقديره أنهملكم فنضرب عنكم الذكر
ثم قال تعالى وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الاْوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِى ّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ والمعنى أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب إقدامهم على التكذيب والاستهزاء لأن المصيبة إذا عمت خفت
ثم قال تعالى فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً يعني أن أولئك المتقدمين الذين أرسل الله إليهم الرسل كانوا أشد بطشاً من قريش يعني أكثر عدداً وجلداً ثم قال وَمَضَى مَثَلُ الاْوَّلِينَ والمعنى أن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم فقد ضربنا لهم مثلهم كما قال وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاْمْثَالَ ( الفرقان 39 ) وكقوله وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ إلى قوله وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامْثَالَ ( إبراهيم 45 ) والله أعلم
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِى خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالاٌّ نْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَة َ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ
اعلم أنه قد تقدم ذكر المسرفين وهم المشركون وتقدم أيضاً ذكر الأنبياء فقوله ولئن سألتهم يحتمل أن يرجع إلى الأنبياء ويحتمل أن يرجع إلى الكفار إلا أن الأقرب رجوعه إلى الكفار فبيّن تعال أنهم مقرون بأن خالق السماوات والأرض وما بينهما هو الله العزيز الحكيم والمقصود أنهم مع كونهم مقرين بهذا المعنى يعبدون معه غيره وينكرون قدرته على البعث وقد تقدم الإخبار عنهم ثم إنه تعالى ابتدأ دالاً على نفسه بذكر مصنوعاته فقال الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً ولو كان هذا من(27/168)
جملة كلام الكفار ولوجب أن يقولوا الذي جعل لنا الأرض مهداً ولأن قوله في أثناء الكلام فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً لا يتعلق إلا بكلام الله ونظيره من كلام الناس يأن يسمع الرجل رجلاً يقول الذي بنى هذا المسجد فلان العالم فيقول السامع لهذا الكلام الزاهد الكريم كأن ذلك السامع يقول أنا أعرفه بصفات حميدة فوق ما تعرفه فأزيد في وصفه فيكون النعتان جميعاً من رجلين لرجل واحد إذا عرفت كيفية النظم في الآية فنقول إنها تدل على أنواع من صفات الله تعالى
الصفة الأولى كونه خالقاً للسموات والأرض والمتكلمون بينوا أن أول العمل بالله العلم بكونه محدثاً للعالم فاعلاً له فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر كونه خالقاً وهذاإنما يتم إذا فسرنا الخلق بالإحداث والإبداع
الصفة الثانية العزيز وهو الغالب وما لأجله يحصل المكنة من الغلبة هو القدرة وكان العزيز إشارة إلى كمال القدرة
الصفة الثالثة العليم وهو إشارة إلى كمال العلم واعلم أن كمال العلم والقدرة إذا حصل كان الموصوف به قادراً على خلق جميع الممكنات فلهذا المعنى أثبت تعالى كونه موصوفاً بهاتين الصفتين ثم فرع عليه سائر التفاصيل
الصفة الرابعة قوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن كون الأرض مهداً إنما حصل لأجل كونها واقفة ساكنة ولأجل كونها موصوفة بصفات مخصوصة باعتبارها يمكن الانتفاع بها في الزراعة وبناء الأبنية في كونها ساترة لعيوب الأحياء والأموات ولما كان المهد موضع الراحة للصبي جعل الأرض مهداً لكثرة ما فيها من الراحات
الصفة الخامسة قوهل وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً والمقصود أن انتفاع الناس إنما يكمل إذا قدر كل أحد أن يذهب من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم ولولا أن الله تعالى هيأ تلك السبل ووضع عليها علامات مخصوصة وإلا لما حصل هذا الانتفاع
ثم قال تعالى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني المقصود من وضع السبل أن يحصل لكم المكنة من الاهتداء والثاني المعنى لتهتدوا إلى الحق في الدين
الصفة السادسة قوله تعالى وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً وههنا مباحث أحدها أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن الماء ينزل من السماء فهل الأمر كذلك أو يقال إنه ينزل من السحاب وسمي نازلاً من السماء لأن كل ماسماك فهو سماء وهذا البحث قد مرّ ذكره بالاستقصاء وثانيها قوله بِقَدَرٍ أي إنما ينزل من السماء بقدر ما يحتاج إليه أهل تلك البقعة من غير زيادة ولا نقصان لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم بل يقدر حتى يكون معاشاً لكم ولأنعامكم وثالثها قوله فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً أي خالية من النبات فأحييناها وهو الإنشار
ثم قال كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ يعني أن هذا الدليل كما يدل على قدرة الله وحكمته فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة ووجه التشبيه أنه يجعلهم أحياء بعد الإماتة كهذه الأرض التي أنشرت بعد ما كانت(27/169)
ميتة وقال بعضهم بل وجه التشبيه أن يعيدهم ويخرجهم من الأرض بماء كالمني كما تنبت الأرض بماء المطر وهذا الوجه ضعيف لأنه ليس في ظاهر اللفظ إلا إثبات الإعادة فقط دون هذه الزيادة
الصفة السابعة قوله تعالى وَالَّذِى خَلَقَ الازْواجَ كُلَّهَا قال ابن عباس الأزاج الضروب والأنواع كالحلو الحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى وقال بعض المحققين كل ما سوى الله فهو زوج كالفوق والتحت واليمين واليسار والقدام والخلف والماضي والمستقبل والذوات والصفات والصيف والشتاء والربيع والخريف وكونها أزواجاً يدل على كونها ممكنة الوجود في ذواتها مخدثة مسبوقة بعدم فأما الحق سبحانه فهو الفرد المنزّه عن الشد والند والمقابل والمعاضد فلهذا قال سبحانه وَالَّذِى خَلَقَ الاسْمَاء كُلَّهَا أي كل ما هو زوج فهو مخلوق فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزّه عن الزوجية وأقول أيضاً العلماء بعلم الحساب بينوا أن الفرد أفضل من الزوج من وجوه الأول أن أقل الأزواج هو الإثنان وهو لا يوجد إلا عند حصول وحدتين فالزوج يحتاج إلى الفرد وهو الوحدة غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج الثاني أن الزوج يقبل القسمة بقسمين متساويين والفرد هو الذي لا يقل القسمة وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة ومقاومة فكان الفرد أفضل من الزوج الثالث أن العدد الفرد لا بد وأن يكون أحد قسميه زوجاً والثاني فرداً فالعدد الفرد حصل فيه الزوج والفرد معاً وأما العدد الزوج فلا بد وأن يكون كل واحد من قسميه وزجاً والمشتمل على القسمين أفضل من الذي لا يكون كذلك الرابع أن الزوجية عبارة عن كون كل واحد من قسميه معادلاً للقسم الآخر في الذات والصفات والمقدار وإذا كان كل ما حصل له من الكمال فمثله حاصل لغيره لم يكن هو كاملاً على الإطلاق أما الفرد فالفردية كائنة له خاصة لا لغيره ولا لمثله فكماله حاصلاً له لا لغيره فكان أفضل الخامس أن الزوج لا بد وأن يكون كل واحد من قسميه مشاركاً للقسم الآخر في بعض الأمور ومغايراً له في أمور أخرى وما به المشاركة غير ما به المخالفة فكل زوجين فهما ممكنا الوجود لذاتيهما وكل ممكن فهو محتاج فثبت أن الزوجية منشأ الفقر والحاجة وأما الفردانية فهي منشأ الاستغناء والاستقلال لأن العدد محتاج إلى كل واحد من تلك الوحدات وأما كل واحد من تلك الوحدات فإنه غني عن ذلك العدد فثبت أن الأزواج ممكنات ومحدثات ومخلوقات وأن الفرد هو القائم بذاته المستقبل بنفسه الغين عن كل ما سواه فلهذا قال سبحانه وَالَّذِى خَلَقَ الازْواجَ كُلَّهَا
الصفة الثامنة قوله وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالاْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ وذلك لأن السفر إما سفر البحر أو البر أما سفر البحر فالحامل هو السفينة وأما سفر البر فالحامل هو الأنعام وههنا سؤالان
السؤال الأول لم لم يقل على ظهورها أجابوا عنه من وجوه الأول قال أبو عبيدة التذكير لقوله ما والتقدير ما تركبون الثاني قال الفرّاء أضاف الظهور إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزل الجيش والجند ولذلك ذكر وجمع الظهور الثالث أن هذا التأنيث ليس تأنيثاً حقيقياً فجاز أن يختلف اللفظ فيه كما يقال عندي من النساء من يوافقك
السؤال الثاني يقال ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك وقد ذكر الجنسين فكيف قال تركبون والجواب غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المعتدي بواسطة
ثم قال تعالى ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَة َ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ومعنى ذكر نعمة الله أن يذكروها في(27/170)
قلوبهم وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق وجه البحر وخلق الرياح وخلق جرم السفينة على وجه يتمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء وأراد فإذا تذكروا أن خلق البحر وخلق الرياح وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصريفات الإنسان ولتحريكاته ليس من تدبير ذلك الإنسان وإنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير عرف أن ذلك نعمة عظيمة من الله تعالى فيحمله ذلك على الانقياد والطاعة له تعالى وعلى الاشتغال بالشكر لنعمه التي لا نهاية لها
ثم قال تعالى وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
واعلم أنه تعالى عين ذكراً معيناً لركوب السفينة وهو قوله بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ( هود 41 ) وذكراً آخر لركوب الأنعام وهو قوله سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وذكر عند دخول المنازل ذكراً آخر وهو قوله رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ( المؤمنون 29 ) وتحقيق القول فيه أن الدابة التي يركبها الإنسان لا بد وأن تكون أكثر قوة من الإنسان بكثير وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان ولكنه سبحانه خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر وفي خلقها الباطن يحصل منها هذا الانتفاع أما خلقها الظاهر فلأنها تمشي على أربع قوائم فكان ظاهرها كالموضع الذي يحسن استقرار الإنسان عليه وأما خلقها الباطن فلأنها مع قوتها الشديدة قد خلقها الله سبحانه بحث تصير منقادة للإنسان ومسخّرة له فإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب وغاص بعقله في بحار هذه الأسرار عظم تعجبه من تلك القدرة القاهرة والحكمة غير المتناهية فلا بد وأن يقول سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال أبو عبيدة فلان مقرن لفلان أي ضابط له قال الواحدي وكان اشتقاقه من قولك ضرب له قرناً ومعن أنا قرن لفلان أي مثاله في الشدة فكان المعنى أنه ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نضبطها فسبحان من سخرها لنا بعلمه وحكمته وكمال قدرته روى صاحب ( الكشفا ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا وضع رجليه في الركاب قال ( بسم الله فإذا استوى على الدابة قال الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا إلى قوله لمنقلبون ) وروى القاضي في ( تفسيره ) عن أبي مخلد أن الحسن بن علي عليهما السلام رأى رجلاً ركب دابة فقال سبحان الذي من علينا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس ثم تقول سبحان الذي سخر لنا هذا وروي أيضاً عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه كان إذا سافر وركب راحلته كبر ثلاثاً ثم يقول سبحان الذي سخّر لنا هذا ثم قال اللّهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللّهم هون علينا السفر واطوِ عنا بعد الأرض اللّهم أنت الصاحب في السفر والخليفة على الأهل اللّهم أصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا ) وكان إذا رجع إلى أهله يقول ( آيبون تائبون لربنا حامدون ) قال صاحب ( الكشاف ) دلّت هذه الآية على خلاف قول المجبرة من وجوه الأول أنه تعالى قال لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَة َ رَبّكُمْ فذكره بلام كي وهذا يدل على أنه تعالى أراد منا هذا الفعل وهذايدل على بطلان قولهم أنه تعالى أراد الكفر منه وأراد الإصرار على الإنكار الثاني أن قوله لِتَسْتَوُواْ يدل على أن فعله معلل بالأغراض الثالث أنه تعالى بيّن أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر على العبد فلو كان فعل القبد فعلاً لله تعالى لكان معنى الآية إني(27/171)
خلقت هذه الحيوانات لأجل أن أخلق سبحان الله في لسان العبد وهذا بالطل لأنه تعالى قارد على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوسايط
واعلم أن الكلام على هذه الوجوه معلوم فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى وَإِنَّا إِلَى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ واعلم أن وجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن ركوب الفلك في خطر الهلاك فإنه كثيراً ما تنكسر السفينة ويهلك الإنسان وراكب الدابة أيضاً كذلك لأن الدابة قد يتفق لها اتفاقات توجب هلاك الراكب وإذا كان كذلك فركوب الفلك والدابة يوجب تعريض النفس للهلاك فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت وأن يقطع أنه هالك لا محالة وأنه منقلب إلى الله تعالى وغير منقلب من قضائه وقدره حتى لو اتفق له ذلك المحذور كان قد وطن نفسه على الموت
وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَة ِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( الزخرف 9 ) بين أنهم مع إقرارهم بذلك جعلوا له من عباده جزءاً والمقصود منه التنبيه على قلة عقولهم وسخافة عقولهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية أبي بكر جُزْء بضم الزاي والهمزة في كل القرآن وهما لغتان وأما حمزة فإذا وقف عليه قال جزا بفتح الزاي بلا همزة
المسألة الثانية في المراد من قوله وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا قولان الأول وهو المشهور أن المراد أنهم أثبتوا له ولداً وتقرير الكلام أن ولد الرجل جزء منه قال عليه السلام ( فاطمة بضعة مني ) ولأن المعقول من الوابد أن ينفصل عنه جزء من أجزائه ثم يتربى ذلك الجزء ويتولد منه شخص مثل ذلك اوصل وإذا كان كذلك فولد الرجل جزء منه وبعض منه فقوله وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا معنى جعلوا حكموا وأثبتوا وقالوا به والمعنى أنهم أثبتوا له جزءاً وذلك الجزء هو عبد من عباده
واعلم أنه لو قال وجعلوا لعباده منه جزءاً أفاد ذلك أنهم أثبتوا أنه حصل جزء من أجزائه في بعض(27/172)
عباده وذلك هو الولد فكذا قوله وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا معناه وأثبتوا له جزءاً وذلك الجزء هو عبد من عباده والحاصل أنهم أثبتوا لله ولداً وذكروا في تقرير هذا القول وجوهاً أُخر فقالوا الجزء هو الأنثى في لغة العرب واحتجوا في إثبات هذه اللغة ببيتين فالأول قوله
إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب
قد تجزىء الحرة المذكاة أحياناً وقوله
زوجتها من بنات الأوس مجزئة
للعوسج اللدن في أبياتها غزل وزعم الزجاج والأزهري وصاحب ( الكشاف ) أن هذه اللغة فاسدة وأن هذه الأبيات مصنوعة والقول الثاني في تفسير الآية أن المراد من قوله وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا إثبات الشركاء لله وذلك لأنهم لما أثبتوا الشركاء لله تعالى فقد زعموا أن كل العباد ليس لله بل بعضها لله وبعضها لغير الله فهم ما جعلوا لله من عباده كلهم بل جعلوا له منهم بعضاً وجزءاً منهم قالوا والذي يدل على أن هذا القول أولى من الأول أنا إذا حملنا هذه الآية على إنكار الشريك لله وحملنا الآية التي بعدها إلى إنكار الولد لله كانت الآية جامعة للرد على جميع المبطلين
ثم قال تعالى أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ
واعلم أنه تعهالى رتب هذه المناظرة على أحسن الوجوه وذلك لأنه تعالى بيّن أن إثبات الولد لله محال وبتقدير أن يثبت الولد فجعله بنتاً أيضاً محال أما بيان أن إثبات الولد لله محال فلأن الولد لا بد وأن يكون جزءاً من الوالد وما كان له جزء كان مركباً وكل مركب ممكن وأيضاً ما كان كذلك فإنه يقبل الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق وما كان كذلك فهو عبد محدث فلا يكون إلهاً قديماً أزلياً
وأما المقام الثاني وهو أن بتقدير ثبوت الولد فإنه يمتنع كونه بنتاً وذلك أن الابن أفضل من البنت فلو قلنا إنه اتخذ لنفسه البنات وأعطى البنين لعباده لزم أن يكون حال العبد أكمل وأفضل من حال الله وذلك مدفوع في بديهة العقل يقال أصفيت فلاناً بكذا أي آثرته به إيثاراً حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون له فيه مشارك وهو كقوله أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ ( الإسراء 40 ) ثم بيّن نقصان البنات من وجوه الأول قوله وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ والمعنى أن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد كيف يجوز للعاقل إثباته لله تعالى وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنيناليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا وقوله ظِلّ أي صار كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء مسود مسواد والتقدير وهو مسود فتقع هذه الجملة موقع الخبر والثاني قوله أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَة ِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ(27/173)
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ينشؤ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على ما لم يسم فاعله أي يربى والباقون ينشأ بضم الياء وسكون النون وفتح الشين قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء يناشأ قال ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء المغالاة بمعنى الإغلاء
المسألة الثانية المراد من قوله أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَة ِ التنبيه على نقصانها وهو أن الذي يربى في الحلية يكون ناقص الذات لأنه لولا نقصان في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية ثم بيّن نقصان حالها بطريق آخر وهو قوله وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ يعني أنها إذا احتاجت المخاصمة والمنازعة عجزت وكانت غير مبين وذلك لضعف لسانها وقلة عقلها وبلادة طبعها ويقال قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بما كان حجة عليها فهذه الوجوه دالة على كمال نقصها فكيف يجوز إضافتهن بالولدية إليها
المسألة الثالثة دلت الآية على أن التحلي مباح للنساء وأنه حرام للرجال لأنه تعالى جعل ذلك من المعايب وموجبات النقصان وإقدام الرجل عليه يكون إلقاء لنفسه في الذل وذلك حرام لقوله عليه السلام ( ليس للمؤمن أن يذل نفسه ) وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة الله والتزين بزينة التقوى قال الشافعي فتدرعت يوماً للقنوع حصينة
أصون بها عرضي أوجعلها ذخراً
فولم أحذر الدهر الخئون وإنما
قصاراه أن يرمي بي الموت والفقرا
ففأعددت للموت الإله وعفوه
وأعددت للفقر التجلد والصبرا
ثم قال تعالى وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد بقوله جَعَلُواْ أي حكموا به ثم قال أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ وهذا استفهام على سبيل الإنكار يعني أنهم لم يشهدوا خلقهم وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بالدلائل العقلية وأما الدلائل النقلية فكلها مفرعة على إثبات النبوّة وهؤلاء الكفار منكرون للنبوة فلا سبيل لهم إلى إثبات هذا المطلوب بالدلائل النقلية فثبت أنهم ذكروا هذه الدعوى من غير أن عرفوه لا بضرورة ولا بدليل ثم إنه تعالى هددهم فقال سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر وأن التقليد يوجب الذم العظيم والعقاب الشديد قال أهل التحقيق هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه أولها إثبات الولد لله تعالى وثانيها أن ذلك الولد بنت وثالثها الحكم على الملائكة بالأنوثة
المسألة الثانية قرأ نافع وابن كثير وابن عامر ( عند الرحمن ) بالنون وهو اختيار أبي حاتم واحتج عليه بوجوه الأول أنه يوافق قوله إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ( الأعراف 206 ) وقوله وَمَنْ عِندَهُ ( الأنبياء 19 ) والثاني أن كل الخلق عباده فلا مدح لهم فيه والثالث أن التقدير أن الملائكة يكونون عند الرحمن لا عند هؤلاء الكفار فكيف عرفوا كونهم إناثاً وأما الباقون فقرأوا عباد جمع عبد وقيل جمع عابد كقائم وقيام وصائم وصيام ونائم ونيام وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد قال لأنه تعالى رد عليهم قولهم إنهم بنات الله وأخبر أنهم عبيد ويؤيد هذه القراءة قوله بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( الأنبياء 26 )(27/174)
المسألة الثالثة قرأ نافع وحده آأشهدوا بهمزة ومدة بعدها خفيفة لينة وضمة أي ( أ ) أحضروا خلقهم وعن نافع غير ممدود على ما لم يسم فاعله والباقون أشهدوا بفتح الألف من ( أ ) شهدوا أي أحضروا
المسألة الرابعة احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية فقال أما قراءة ( عند ) بالنون فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة ولفظة قَرْنٍ هُمْ توجب الحصر والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم فوجب كونهم أفضل من غيرهم رعاية للفظ الدال على الحصر وأما من قرأ ( عباد ) جمع العبد فقد ذكرنا أن لفظ العباد مخصوص في القرآن بالمؤمنين فقوله هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ يفيد حصر العبودية فيهم فإذا كان اللفظ الدال على العبودية دالاً على الفضل والشرف كان اللفظ الدال على حصر العبودية دالاً على حصر الفضل والمنقبة والشرف فيهم وذلك يوجب كونهم أفضل من غيرهم والله أعلم
وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذِّبِينَ
اعلم أنه تعالى حكى نوعاً آخر من كفرهم وشبهاتهم وهو أنهم قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم وفيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في أن كفر الكافر يقع بإرادة الله من وجهين الأول أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ وهذا صريح قول المجبرة ثم إنه تعالى أبطله بقوله مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ فثبت أنه حكى مذهب المجبرة ثم أردفه بالإبطال والإفساد فثبت أن هذا المذهب باطل ونظيره قوله تعالى في سورة الأنعام سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا إلى قوله قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ(27/175)
( الأنعام 148 ) والوجه الثاني أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنواع كفرهم فأولها قوله وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا ( الزخرف 15 ) وثانيها قوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وثالثها قوله تعالى وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ فلما حكى هذه الأقاويل الثلاثة بعضها على إثر بعض وثبت أن القولين الأولين كفر محض فكذلك هذا القول الثالث يجب أن يكون كفراً واعلم أن الواحدي أجاب في ( البسيط ) عنه من وجهين الأول ما ذكره الزجاج وهو أن قوله تعالى مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ عائد إلى قولهم الملائكة إناث وإلى قولهم الملائكة بنات الله والثاني أنهم أرادوا بقولهم لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ أنه أمرنا بذلك وأنه رضي بذلك وأقرنا عليه فأنكر ذلك عليهم فهذا ما ذكره الواحدي في الجواب وعندي هذان الوجهان ضعيفان أما الأول فلأنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين وبين وجه بطلانهما ثم حكى بعده مذهباً ثالثاً في مسألة أجنبية عن المسألتين الأوليين ثم حكم بالبطلان والوعيد فصرف هذا الإبطال عن هذا الذي ذكره عقيبه إلى كلام متقدم أجنبي عنه في غاية البعد وأما الوجه الثاني فهو أيضاً ضعيف لأن قوله لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ليس فيه بيان متعلق بتلك المشيئة والإجمال خلاف الدليل فوجب أن يكون التقدير لو شاء الله ألاة نعبدهم ما عبدناهم وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فهذا يدل على أنه لم توجد مشيئة الله لعدم عبادتهم وهذا عين مذهب المجبرة فالإبطال والإفساد يرجع إلى هذا المعنى ومن الناس من أجاب عن هذا الاستدلال بأن قال إنهم إنما ذكروا ذلك الكلام على سبيل الاستهزاء والسخرية فلهذا السبب استوجبوا الطعن والذم وأجاب صاحب ( الكشاف ) عنه من وجهين الأول أنه ليس في اللفظ ما يدل على أنهم قالوا مستهزئين وادعاء ما لا دليل عليه باطل الثاني أنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء وهي أنهم جعلوا له من عباده جزءاً وأنهم جعلوا الملائكة إناثاً وأنهم قالوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ فلو قلنا بأنه إنما جاء الذم على القول الثالث لأنهم ذكروه على طريق الجد وجب أن يكون الحال في حكاية القولين الأولين كذلك فلزم أنهم لو نطقوا بتلك الأشياء على سبيل الجد أن يكونوا محقين ومعلوم أنه كفر وأما القول بأن الطعن في القولين الأولين إنما توجه على نفس ذلك القول وفي القول الثالث لا على نفسه بل على سبيل الاستهزاء فهذايوجب تشويش النظم وأنه لا يجوز في كلام الله
واعلم أن الجواب الحق عندي عن هذا الكلام ما ذكرناه في سورة الأنعام وهو أن القوم إنما ذكروا هذا الكلام لأنهم استدلوا بمشيئة الله تعالى للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان فاعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما متطابقين وعندنا أن هذا باطل فالقوم لم يستحقوا الذم بمجرد قولهم إن الله يريد الكفر من الكافر بل لأجل أنهم قالوا لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان وإذا صرفنا الذم والطعن إلى هذا المقام سقط استدلال المعتزلة بهذه الآية وتمام التقرير مذكور في سورة الأنعام والله أعلم
المسألة الثانية أنه تعالى لما حكى عنهم ذلك المذهب الباطل قال مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ وتقريره كأنه قيل إن القوم يقولون لما أراد الله الكفر من الكافر وخلق فيه ما أوجب ذلك الكفدر وجب أن يقبح منه أن يأمره بالإيمان لأن مثل هذا التكليف قبيح في الشاهد فيكون قبيحاً في الغائب فقال تعالى مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ما لهم بصحة هذا القياس من علم وذلك لأن أفعال الواحد منا وأحكامه(27/176)
مبنية على رعاية المصالح والمفاسد لأجل أن كل ما سوى الله فإنه ينتفع بحصول المصالح ويستضر بحصول المفاسد فلا جرم أن صريح طبعه وعقله يحمله على بناء أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح أما الله سبحانه وتعالى فإنه لا ينفعه شيء ولا يضره شيء فكيف يمكن القطع بأنه تعالى يبني أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح مع ظهور هذا الفارق العظيم فقوله تعالى مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ما لهم بصحة قياس الغائب على الشاهد في هذا الباب علم
ثم قال إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ أي كما لم يثبت لهم صحة ذلك القياس فقد ثبت بالبرهان القاطع كونهم كذابين خراصين في ذلك القياس لأن قياس المنزّه عن النفع والضر من كل الوجوه على المحتاج المنتفع المتضرر قياس باطل في بديهة العقل
ثم قال أَمْ ءاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يعني أن القول الباطل الذي حكاه الله تعالى عنهم عرفوا صحته بالعقل أو بالنقل أما إثباته بالعقل فهو باطل لقوله مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ وأما إثباته بالنقل فهو أيضاً بالطل لقوله أَمْ ءاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ والضمير في قوله مِن قَبْلِهِ للقرآن أو للرسول والمعنى أنهم ( هل ) وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزّل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يعولوا عليه وأن يتمسكوا به والمقصود منه ذكره في معرض الإنكار ولما ثبت أنه لم يدل عليه لا دليل عقلي ولا دليل نقلي وجب أن يكون القول به باطلاً
ثم قال تعالى بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ والمقصود أنه تعالى لما بيّن أن تمسك الجهال بطريقة التقليد أمر كان حاصلاً من قديم الدهر فقال وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرىء عَلَى أُمَّة ٍ بالكسر وكلتاهما من الأم وهو القصد فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد كالرحلة للمرحول إليه والإمة الحالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد
المسألة الثانية لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد وذلك لأنه تعالى بيّن أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه لا بطريق عقلي ولا بدليل نقلي ثم بيّن أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف وإنم ذكر تعالى هذه المعاني في معرض الذم والتهجين وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل ومما يدل عليه أيضاً من حيث العقل أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق وذلك لأنه كم حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة فلو كان التقليد طريقاً إلى الحق لوجب كون الشيء ونقيضه حقاً ومعلوم أن ذلك باطل
المسألة الثالثة أنه تعالى بيّن أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا وحب الكسل والبطالة وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال لقوله وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق وإذاعرفت هذا علمت أن رأسي جميع الآفات حب الدينا واللذات(27/177)
الجسمانية ورأس جميع الخيرات هو حب الله والدار الآخرة فلهذا قال عليه السلام ( حب الدنيا رأس كل خطيئة )
ثم قال تعالى لرسوله قَالَ أُوْحِى لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَاءكُمْ أي بدين أهدى من دين آبائكم فعند هذات حكى الله عنهم أنهم قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما هو أهدى فَإِنَّمَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وإن كان أهدى مما كنا عليه فعند هذا لم يبق لهم عذر ولا علة فلهذا قال تعالى فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ والمراد منه تهديد الكفار والله أعلم
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَة ً بَاقِيَة ً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَاؤُلاَءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار داع يدعوهم إلى تلك الأقاويل الباطلة إلا تقليد الآباء والأسلاف ثم بيّن أنه طريق باطل ومنهج فاسد وأن الرجوع إلى الدليل أولى من الاعتماد على التقليد أردفه بهذه الآية والمقصود منها ذكر وجه آخر يدل على فساد القول بالتقليد وتقريره من وجهين الأول أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تبرأ عن دين آبائه بناء على الدليل فنقول إما أن يكون تقليد الآباء في الأديان محرماً أو جائزاً فإن كان محرماً فقد بطل القول بالتقليد وإن كان جائزاً فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عليه السلام وذلك لأنهم ليس لهم فخر ولا شرف إلا بأنهم من أولاده وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول إنه ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء وإذا كان كذلك وجب تقليده في ترك تقليد الآباء ووجب تقليدعه في ترجيح الدليل على التقليد وإذا ثبت هذا فنقول فقد ظهر أن القول بوجوب التقليد يوجب المنع من التقليد وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً فوجب أن يكون القول بالتقليد باطلاً فهذا طريق رقيق في إبطال التقليد وهو المراد بهذه الآية
الوجه الثاني في بيان أن ترك التقليد والرجوع إلى متابعة الدليل أولى في الدنيا وفي الدين أنه تعالى بيّن أن إبراهيم عليه السلام لما عدل عن طريقة أبيه إلى متابعة الدليل لا جرم جعل الله دينه ومذهله باقياً في عقبه إلى يوم القيامة وأما أديان آبائه فقد اندرست وبطلت فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة وأن التقليد والإصرار ينقطع أثره ولا يبقى منه في الدينا خير ولا أير فثبت من هذين الوجهين أن متابعة الدليل وترك التقليد أولى فهذا بيان المقصود الأصلي من هذه الآية ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية(27/178)
أما قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ فقال الكسائي والفرّاء والمبرد والزجاج بَرَاء مصدر لا يثنى وا يجمع مثل عدل ورضا وتقول العرب أنا البراء منك والخلاء منك ونحن الراء منك والخلاء ولا يقولون البراآن ولا البرؤن لأن المعنى ذوا البراء وذوو البراء فإن قلت برىء وخلى ثنيت وجمعت
ثم استثنى خالقه من البراءة فقال إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى والمعنى أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله عزّ وجلّ ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن فيكون المعنى لكن الذي فطرني فإنه سيهدين أي سيرشدني لدينه ويوفقني لطاعته
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في آية أخرى أنه قال الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) وحكى عنه ههنا أنه قال سَيَهْدِينِ فأجمع بينهما وقدر كأنه قال فهو يهدين وسيهدين فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال وَجَعَلَهَا أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ جارياً مجرى لا إله وقوله إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى جارياً مجرى قوله إلا الله فكان مجموع قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى جارياً مجرى قوله لا إله إلا الله ثم بيّن تعالى أن إبراهيم جعل هذه الكلمة باقية في عقبه أي في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم وقيل وجعلها الله وقرىء كلمة على التخفيف وفي عقيبه
ثم قال تعالى بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء وَءابَاءهُمْ يعني أهل مكة وهم عقب إبراهيم بالمد في العمر والنعمة فاغتروا بالمهلة واشتغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وهو القرآن وَرَسُولٌ مُّبِينٌ بين الرسالة وأوضحها بما معه من الآيات والبينات فكذبوا به وسموه ساحراً وما جاء به سحراً وكفروا به ووجه النظم أنهم لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة اغتروا بطول الإمهال وإمتاع الله إياهم بنعيم الدينا فأعرضوا عن الحق قال صاحب ( الكشاف ) إن قيل ما وجه قراءة من قرأ متعت بفتح التاء قلنا كأن الله سبحانه اعترض على ذاته في قوله وَجَعَلَهَا كَلِمَة ً بَاقِيَة ً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فقال بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد وأراد بذلك المبالغة في تعييرهم لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر والثبات على التوحيد لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً فمثاله أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ثم يقبل على نفسه فيقول أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك إليه وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعل نفسه
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة َ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَة ُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(27/179)
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من كفرياتهم التي حكاها الله تعالى عنهم في هذه السورة وهؤلاء المساكين قالوا منصب رسالة الله منصب شريف فلا يليق إلا برجل شريف وقد صدقوا في ذلك إلا أنهم ضموا إليه مقدمة فاسدة وهي أن الرجل الشريف هو الذي يكون كثير المال والجاه ومحمد ليس كذلك فلا تليق رسالة الله به وإنما يليق هذا المنصب برجل عظيم الجاه كثير المال في إحدى القريتين وهي مكة والطائف قال المفسرون والذي بمكة هو الوليد بن المغيرة والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي ثم أبطل الله تعالى هذه الشبهة من وجهين الأول قوله أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبّكَ وتقرير هذا الجواب من وجوه أحدها أنا أوقعنا التفاوت في مناصب الدنيا ولم يقدر أحد من الخلق على تغييره فالتفاوت الذي أوقعناه في مناصب الدين والنبوّة بأن لا يقدروا على التصريف فيه كان أولى وثانيها أن يكون المراد أن اختصاص ذلك الغنى بذلك المال الكثير إنما كان لأجل حكمنا وفضلنا وإحساننا إليه فكيف يليق بالعقل أن نجلع إحساننا إليه بكثرة المال حجة علينا في أن نحسن إليه أيضاً بالنبوّة وثالثها إنا لما أوقعنا التفاوت في الإحسان بمناصب الدينا لا لسبب سابق فلم لا يجوز أيضاً أن نوقع التفاوت في الإحسان بمناصب الدين والنبوّة لا لسبب سابق فهذا تقرير الجواب ونرجع إلى تفسير الألفاظ فنقول الهمزة في قوله أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبّكَ للإنكار الدال على التجهيل والتعجب من إعراضهم وتحكمهم أن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوة ثم ضرب لهذا مثالاً فقال نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنا أوقعنا هذا التفاوت بين العباد في القوة والضعف والعلم والجهل والحذاقة والبلاهة والشهرة والخمول وإنما فعلنا ذلك لأنا لو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحداً ولم يصر أحد منهم مسخراً لغيره وحينئذ يفضي ذلك إلى خراب العالم وفساد نظام الدينا ثم إن أحداً من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا ولا على الخروج عن قضائنا فإن عجزوا عن الإعراض عن حكمنا في أحوال الدنيا مع قلتها ودناءتها فكيف يمكنهم الاعتراض على حكمنا وقضائنا في تخصيص العباد بمنصب النبوة والرسالة
المسألة الثانية قوله تعالى نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ يقتضي أن تكون كل أقسام معايشهم إنتما تحصل بحكم الله وتقديره وهذا يقتضي أن يكون الرزق الحرام والحلال كله من الله تعالى والوجه الثاني في الجواب ما هو المراد من قوله وَرَحْمَة ُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ وتقريره أن الله تعالى إذا خص بعض عبيده بنوع فضله ورحمته في الدين فهذه الرحمة خير من الأموال التي يجمعها لأن الدينا على شرف الانقضاء والانقراض وفضل الله ورحمته تبقى أبد الآباد(27/180)
وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً وَاحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّة ٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى أجاب عن الشبهة التي ذكروها بناء على تفضيل الغني على الفقير بوجه ثالث وهو أنه تعالى بيّن أن منافع الدينا وطيباتها حقيرة خسيسة عند الله وبين حقارتها بقوله وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً والمعنى لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للتنعم أحدها أن يكون سقفهم من فضة وثانيها معارج أيضاً من فضة عليها يظهرون وثالثها أن نجعل لبيوتهم أبواباً من فضة وسرراً أيضاً من فضة عليها يتكئون
ثم قال وَزُخْرُفاً وله تفسيران أحدها أنه الذهب والثاني أنه الزينة بدليل قوله تعالى حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ( يونس 24 ) فعلى التقدير الأول يكون المعنى ونجعل بهم مع ذلك ذهباً كثيراً وعلى الثاني أنا نعطيهم زينة عظيمة في كل باب ثم بيّن تعالى أن كل ذلك متاع الحياة الدينا وإنما سماه متاعاً لأن الإنسان يستمتع به قليلاً ثم ينقضي في الحال وأما الآخرة فهي باقية دائمة وهي عند الله تعهالى وفي حكمه للمتقين عن حب الدينا المقبلين على حب المولى وحاصل الجواب أن أولئك الجهال ظنوا أن الرجل الغني أولى بمنصظب الرسالة من محمد بسبب فقره فبيّن تعالى أن المال والجاه حقيران عند الله وأنهما شرف الزوال فحصولهما لا يفيد حصول الشرف والله أعلم
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو سَقْفاً بفتح السين وسكون القاف على لفظ الواحد لإرادة الجنس كما في قوله فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ( النحل 26 ) والباقون سقفاً على الجمع واختلفوا فقيل هو جمع سقف كرهن ورهن قال أبو عبيد ولا ثالث لهما وقيل السقف جمع سقوف كرهن ورهون وزبر وزبور فهو جمع الجمع
المسألة الثالثة قوله لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ فقوله لِبُيُوتِهِمْ بدل اشتمال من قوله لِمَن يَكْفُرُ قال صاحب ( الكشاف ) قرىء معارج ومعاريج والمعارج كمع معرج أو اسم جمع لمعراج وهي المصاعد إلى المساكن العالية كالدرج والسلالم عليها يظهرون أي على تلك المعارج يطهرون وفي نصب(27/181)
قوله وَزُخْرُفاً قولان قيل لجعلنا لبيوتهم سقفاً من فضة ولجعلنا لهم زخرفاً وقيل من فضة وزخرف فلما حذف الخافض انتصب وأما قوله وَإِن كُلُّ ذَلِكَ وَأَبْقَى قَالُواْ لَن قرأ عاصم وحمزة لَّمّاً بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وأما قراءة حمزة بالتشديد فإنه جعل لما في معنى إلا وحكى سيبويه نشدتك بالله لما فعلت بمعنى إلا فعلت ويقوي هذه القراءة أن في حرف أبي وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا وهذايدل على أن لما بمعنى إلا وأما القراءة بالتخفيف فقال الواحدي لفظة ما لغو والتقدير لمتاع الحياة الدنيا قال أبو الحسن الوجه التخفيف لأن لما بمعنى إلا لا تعرف وحكي عن الكسائي أنه قال لا أعرف وجه التثقيل
المسألة الرابعة قالت المعتزلة دلت الآية على أنه تعالى إنما لم يعط الناس نعم الدنيا لأجل أنه لو فعل بهم ذلك لدعاهم ذلك إلى الكفر فهو تعالى لم يفعل بهم ذلك لأجل أن يدعوهم إلى الكفر وهذا يدل على أحكام أحدها أنه إذا لم يفعل بهم ما يدعوهم إلى الكفر فلأن لا يخلق فيهم الكفر أولى وثانيها أنه ثبت أن فعل اللطلفل قائم مقام إزاحة العذر والعلة فلما بيّن تعالى أنه لم يفعل ذلك إزاحة للعذر والعلة عنهم دل ذلك على أنه يجب أن يفعل بهم كل ما كان لطفاً داعياً لهم إلى الإيمان فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أنه يجب على الله تعالى فعل اللطف وثالثها أنه ثبت بهذه الآية أن الله تعالى إنما يفعل ما يفعله ويترك ما يتركه لأجل حكمة ومصلحة وذلك يدل على تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله بالمصالح والعلل فإن قيل لما بيّن تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سبباً لاجتماع الناس على الإسلام قلنا لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا وهذا الإيمان إيمان المنافقين فكان الأصوب أن يضيق الأمر على المسلمين حتى أن كل من دخل الإسلام فإنما يدخل فيه لمتابعة الدليل ولطلب رضوان الله تعالى فحينئذ يعظم ثوابه لهذا السبب
ثم قال تعالى وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ والمراد منه التنبيه على آفات الدنيا وذلك أن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله ومن صار كذلك صار من جلساء الشياطين الضالين المضلين فهذا وجه تعلق هذا الكلام بما قبله قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَمَن يَعْشُ بضم الشين وفتحها والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل عشي وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشى ونظيره عرج لمن به الآفة وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج قال الحطيئة
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
أي تنظر إليه نظر العشي لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء وقرىء يعشو على أن من موصولة غير مضنة معنى الشرط وحق هذا القارىء أن يرفع نُقَيّضْ ومعنى القراءة بالفتح ومن يعم عن ذكر الرحمن وهو القرآن كقوله صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ ( البقرة 18 ) وأما القراءة بالضم فمعناها ومن يتعام عن ذكره أي يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتعامى كقوله تعالى وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ( النمل 14 ) و نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً قال مقاتل نضم إليه شيطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ
ثم قال وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعني وإن الشياطين ليصدونهم عن سبيل الهدى والحق وذكر(27/182)
الكناية عن الإنسان والشياطين بلفظ الجمع لأن قوله وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً يفيد الجمع وإن كان اللفظ على الواحد وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ يعني الشياطين يصدون الكفار عن السبيل واتلكفار يحسبون أنهم مهتدون ثم عاد إلى لفظ الواحد فقال حَتَّى إِذَا جَاءنَا يعني الكافر وقرىء ( جاءانا ) يعني الكافر وشيطانه روي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حيث يقول قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ والمراد يا ليت حصل بيني وبينك بعد على أعظم الوجوه واختلفوا في تفسير قوله بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ وذكروا فيه وجوهاً الأول قال الأكثرون المراد بعد المشرق والمغرب ومن عادة العرب تسمية الشيئين المتقابلين باسم أحدهما قال الفرزدق
لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر ويقولون للكوفة والبصرة البصرتان وللغداة والعصر العصران ولأبي بكر وعمر العمران وللماء والتمر الأسودان الثاني أن أهل النجوم يقولون الحركة التي تكون من المشرق إلى المغرب هي حركة الفلك الأعظم والحركة التي من المغرب إلى المشرق هي حركة الكواكب الثابتة وحركة الأفلاك الممثلة التي للسيارات سوى القمر وإذاكان كذلك فالمشرق والمغرب كل واحد منهما مشرق بالنسبة إلى شيء آخر فثبت أن إطلاق لفظ المشرق على كل واحد من الجهتين حقيقة الثالث قالوا يحمل ذلك على مشرق الصيف ومشرق الشتاء وبينهما بعد عظيم وهذا بعيد عندي لأن المقصود من قوله قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ المبالغة في حصول البعد وهذه المبالغة إنما تحصل عن ذكر بعد لا يمكن وجود بعد آخر أزيد منه والبعد بين مشرق الصيف ومشرق الشتاء ليس كذلك فيبعد حمل اللفظ عليه الرابع وهو أن الحس يدل على أن الحركة اليومية إنما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى المغرب وأما القمر فإنه يظهر في أول الشهر في جانب المغرب ثم لا يزال يتقدم إلى جانب المشرق وذلك يدل على أن مشرق حركة القمر هو المغرب وإذا ثبت هذا فالجانب المسمى بالمشرق هو مشرق الشمس ولكنه مغرب القمر وأما الجانب المسمى بالمغرب فإنه مشرق القمر ولكنه مغرب الشمس وبهذا التقدير يصح تسمية المشرق والمغرب بالمشرقين ولعل هذا الوجه أقرب إلى مطابقة اللفظ ورعاية المقصود من سائر الوجوه والله أعلم
ثم قال تعالى فَبِئْسَ الْقَرِينُ أي الكافر يقول لذلك الشيطان يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين أنت فهذا ما يتعلق بتفسير الألفاظ والمقصود من هذا الكلام تحقير الدنيا وبيان ما في المال والجاه من المضار العظيمة وذلك لأن كثرة المال والجاه تجعل الإنسان كالأعشى عن مطالعة ذكر الله تعالى ومن صار كذلك صار جليساً للشيطان ومن صار كذلك ضل عن سبيل الهدى والحق وبقي جليس الشيطان في الدنيا وفي القيامة ومجالسة الشيطان حالة توجب الضرر الشديد في القيامة بحيث يقول الكافر يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين أنت فثبت بما ذكرنا أن كثرة المال والجاه توجب كمال النقصان والحرمان في الدين والدنيا وإذا ظهر هذا فقد ظهر أن الذين قالوا لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) قالوا كلاماً فاسداً وشبهة باطلة(27/183)
ثم قال تعالى وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ فقوله إِنَّكُمْ في محل الرفع على الفاعلية يعني ولن ينفعكم اليوم كونكم مشتركين في العذاب والسبب فيه أن الناس يقولون المصيبة إذا عمت طابت وقالت الخنساء في هذا المعنى
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسيولا يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي فبيّن تعالى أن حصول الشركة في ذلك العذاب لا يفيد التخفيف كما كان يفيده في الدنيا والسبب فيه وجوه الأول أن ذلك العذاب شديد فاشتغال كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر فلا جرم الشركة لا تفيد الخفة الثاني أن قوماً إذا اشتركوا في العذاب أعان كل واحد منهم صاحبه بما قدر عليه فيحصل بسببه بعض التخفيف وهذا المعنى متعذر في القيامة الثالث أن جلوس الإنسان مع قرينه يفيده أنواعاً كثيرة من السلوة فبيّن تعالى أن الشيطان وإن كان قريناً إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة وخفة العقنبة وفي كتاب ابن مجاهد عن ابن عامر قرأ إِذَا ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ بكسر الألف وقرأ الباقون أنكم بفتح الألف والله أعلم
أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْى َ وَمَن كَانَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِى َ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَة ً يُعْبَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم في هذه الآية بالصمم والعمى وما أحسن هذا الترتيب وذلك لأن الإنسان في أول اشتغاله بطلب الدينا يكون كمن حصل بعينه رمد ضعيف ثم كلما كان اشتغاله بتلك الأعمال أكثركان ميله إلى الجسمانيات أشد وإعراضه عن الروحانيات أكمل لما ثبت في علوم العقل أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة فينتقل الإنسان من الرمد إلى أن يصير أعشى فإذا واظب على تلك الحالة أياماً أخرى انتقل من كونه أعشى إلى كونه أعمى فهذا ترتيب حسن موافق لما ثبت بالبراهين اليقينية روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يجتهد في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا تصميماً على الكفر وتمادياً في الغي فقال تعالى أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْى َ يعني أنهم بلغوا في النفرة عنك وعن دينك إلى حيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالأصم وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالأعمى ثم بيّن(27/184)
تعالى أن صممهم وعماهم إنما كان بسبب كونهم في ضلال مبين
ولما بيّن تعالى أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم قال فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ يريد حصول الموت قبل نزول النقمة بهم فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ بعدك أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل فإنا مقتدرون على ذلك واعلم أن هذا الكلام يفيد كمال التسلية للرسول عليه السلام لأنه تعالى بيّن أنهم لا تؤثر فيهم دعوته واليأس إحدى الراحتين ثم بيّن أنه لا بد وأن ينتقم لأجله متهم إما حال حياته أو بعد وفاته وذلك أيضاً يوجب التسلية فبعد هذا أمره أن يستمسك بما أمره تعالى فقال فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِى َ إِلَيْكَ بأن تعتقد أنه حق وبأن تعمل بموجبه فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضال في الدين
ولما بيّن تأثير التمسك بهذا الدين فيمنافع الدين بيّن أيضاً تأثيره في منافع الدنيا فقال وَأَنَّهُ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ أي إنه يوجب الشرف العظيم لك ولقولنك حيث يقال إن هذا الكتاب العظيم أنزله الله على رجل من قوم هؤلاء واعلم أن هذه الآية تدل على أن الإنسان لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن الذكر الجميل أمراً مرغوباً فيه لما منَّ الله به على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ولما طلبه إبراهيم عليه السلام حيث قال وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) ولأن الذكر الجميل قائم مقام الحياة الشريفة بل الذكر أفضل من الحياة لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في مسكن ذلك الحي أما أثر الذكر الجميل فإنه يحصل في كل مكان وفي كل زمان
ثم قال تعالى وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ وفيه وجوه الأول قال الكلبي تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل الثاني قال مقاتل المراد أن من كذب به يسأل لم كذبه فيسأل سؤال توبيخ الثالث تسألون هل عملتم بما دل عليه من التكاليف واعلم أن السبب الأقوى في إنكار الكفار لرسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولبغضهم له أنه كان ينكر عبادة الأصنام فبيّن تعالى أن إنكار عبادة الأصنام ليس من خواص دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بل كل الأنبياء والرسل كانوا مطبقين على إنكاره فقال وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءالِهَة ً يُعْبَدُونَ وفيه أقوال الأول معناه واسأل مؤمني أهل الكتاب أي أهل التوراة والإنجيل فإنهم سيخبرونك أنه لم يرد في دين أحد من الأنبياء عبادة الأصنام وإذا كان هذا الأمر متفقاً عليه بين كل الأنبياء والرسل وجب أن لا يجعلوه سبباً لبغض محمد ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني قال عطاء عن ابن عباس ( لما أسرى به ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المسجد الأقصى بعث الله له آدم وجميع المرسلين من ولده فأذن جبريل ثم أقام فقال يا محمد تقدم فصل بهم فلما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الصلاة قال له جبريل عليه السلام واسأل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية فقال ( صلى الله عليه وسلم ) لا أسأل لأني لست شاكاً فيه )
والقول الثلث أن ذكر السؤال في موضع لا يمكن السؤال فيه يكون المراد منه النظر والاستدلال كقول من قال سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فإنها إن لم تجبك جواباً أجابتك اعتباراً فههنا سؤال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الأنبياء الذين كانوا قبله ممتنع فكان المراد منه انظر في هذه المسألة بعقلك وتدبر فيها بفهمك والله أعلم(27/185)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاًّيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُم بِأايَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَة ٍ إِلاَّ هِى َ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُواْ ياأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ ياقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الاٌّ نْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِى َ عَلَيْهِ أَسْوِرَة ٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَة ُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلاٌّ خِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من إعادة قصة موسى عليه السلام وفرعون في هذا المقام تقرير الكلام الذي تقدم وذلك لأن كفار قريش طعنوا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب كونه فقيراً عديم المال والجاه فبيّن الله تعالى أن موسى عليه السلام بعد أن أورد المعجزات القاهرة الباهرة التي لا يشك في صحتها عاقل أورد فرعون عليه هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال إني غني كثير المال والجاه ألا ترون أنه حصل لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي وأما موسى فإنه فقير مهين وليس له بيان ولسان والرجل الفقير كيفليكون رسولاً من عند الله إلى الملك الكبير الغني فثبت أن هذه الشبهة التي ذكرها كفارمكة وهي قولهن لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) وقد أوردها بعينها فرعون على موسى ثم إنا انتقمنا منهم فأغرقناهم والمقظصود من إيراد هذه القصة تقرير أمرين أحدهما أن الكفار والجهال أبداً يحتجون على الأنبياء بهذه الشبهة الركيكة فلا يبالي بها ولا يلتفت إليها والثاني أن فرعون على غاية كمال حاله في الدنيا صار مقهوراً باطلاً فيكون الأمر في حق أعدائك هكذا فثبت أنه ليس المقصود من إعادة هذه القصة عين هذه القصة بل المقصود تقرير الجواب عن الشبهة المذكورة وعلى هذا(27/186)
فلا يكون هذا تقريراً للقصة ألبتة وهذا من نفائس الأبحاث والله أعلم
المسألة الثانية في تفسير الألفاظ ذكر تعالى أنه أرسل موسى بآياته وهي المعجزات التي كانت مع موسى عليه السلام إلى فرعون وملائه أي قومه فقال موسى إني رسول ربّ العالمين فلما جاءهم بتلك الآيات إذا هم منها يضحكون قيل إنه لما ألقى عصاه صار ثعباناً ثم أخذ فعاد عصاً كما كان ضحكوا ولم عرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا فإن قيل كيف جاز أن يجاب عن لما بإذا الذي يفيد المفاجأة قلنا لأن فعل المفاجأة معها مقدر كأنه قيل فلما جاءهم بآياتنا فاجأوا وقت ضحكهم
ثم قال وَمَا نُرِيِهِم مّنْ ءايَة ٍ إِلاَّ هِى َ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا فإن قيل ظاهر اللفظ يقتضي كون كل واحد منها أفضل من التالي وذلك محال قلنا إذا أُريد المبالغة في كون كل من تلك الأشياء بالغاً إلى أقصى الدرجات في الفضيلة فقد يذكر هذا الكلام بمعنى أنه لا يبعد في أناس ينظرون إليها أن يقول هذا إن هذا أفضل من الثاني وأن يقول الثاني لا بل الثاني أفضل وأن يقول الثالث أفضل وحينئذ يصير كل واحد من تلك الأشياء مقولاً فيه إنه أفضل من غيره
ثم قال تعالى وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عن الكفر إلى الإيمان قالت المعتزلة هذا يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل وأنه إنما أظهر تلك المعجزات القاهرة لإرادة أن يرجعوا من الكفر إلى الإيمان قال المفسرون ومعنى قوله وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ أي بالأشياء التي سلطها عليها كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس
ثم قال تعالى وَقَالُواْ يأَيُّهَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فإن قيل كيف سموه بالساحر مع قولهم إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ قلنا فيه وجوه الأول أنهم كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لأنهم كانوا يستعظمون السحر وكما يقال في زماننا في العامل العجيب الكامل إنه أتى بالسحر الثاني وَقَالُواْ يأَيُّهَ السَّاحِرُ في زعم الناس ومتعارف قوم فرعون كقوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر 6 ) أي نزل عليه الذكر في اعتقاده وزعمه الثالث أن قولهم إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ وقد كانوا عازمين على خلافه ألا ترى إلى قوله فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فتسميتهم إياه بالسحر لا ينافي قولهم إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ثم بيّن تعالى أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا ذلك العهد
ولما حكى الله تعالى معاملة فرعون مع موسى حكى أيضاً معاملة فرعون معه فقال وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ والمعنى أنه أظهر هذا القول فقال قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى يعني الأنهار التي فصلوها من النيل ومعظمها أربعة نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس قيل كانت تجري تحت قصره وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله وقوة جاهه على فضيلة نفسه
ثم قال أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ وعنى بكونه مهيناً كونه فقيراً ضعيف الحال وبقوله وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ حبسة كانت في لسانه واختفلوا في معنى أم ههنا فقال أبو عبيدة مجازها بل أنا خير وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله أَفلاَ تُبْصِرُونَ ثم ابتدأ فقال أَمْ أَنَا خَيْرٌ بمعنى بل أنا خير وقال الباقون أم هذه متصلة لأن المعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وصع قوله أَنَا خَيْرٌ موضع تبصرون لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء وقال آخرون إن تمام الكلام عند قوله أَمْ وقوله(27/187)
أَنَا خَيْرٌ ابتداء الكلام والتقدير أفلا تبصرون لكنه اكتفى فيه بذكر أم كما تقول لغيرك أتأكل أم أي أتأكل أم لا تأكل تقتصر على ذكر كلمة أم إيثاراً للاختصار فكذا ههنا فإن قيل أليس أن موسى عليه السلام سأل الله تعالى أن يزيل الرتة عن لسانه بقوله وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي ( طه 27 ) فأعطاه الله تعالى ذلك بقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 36 ) فكيف عابه فرعون بتلك الرتة والجواب عنه من وجهين الأول أن فرعون أراد بقوله وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام والثاني أنه عابه بما كان عليه أولاً وذلك أن موسى كان عند فرعون زماناً طويلاً وفي لسانه حبسة فنسبه فرعون إلى ما عهده عليه من الرتة لأنه لم يعلم أن الله تعالى أزال ذلك العيب عنه
ثم قال فَلَوْلاَ أُلْقِى َ عَلَيْهِ أَسْوِرَة ٌ مّن ذَهَبٍ والمراد أن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة واختلف القراء في أسورة فبعضهم قرأ وآخرون أساورة فأسورة جمع سوار لأدنى العدد كقولك حمار وأحمرة وغراب وأغربة ومن قرأ أساورة فذاك لأن أساوير جمع أسوار وهو السوار فأساورة تكون الهاء عوضاً عن الياء نحو بطريق وبطارقة وزنديق وزنادقة وفرزين وفرازنة فتكون أساورة جمع أسوار وحاصل الكلام يرجع إلى حرف واحد وهو أن فرعون كان يقول أنا أكثر مالاً وجاهاً فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولاً من الله لأن منصب النبوة يقتضي المخدومية والأخس لا يكون مخدوماً للأشرف ثم المقدمة الفاسدة هي قوله من كان أكثر مالاً وجاهاً فهو أفضل وهي عين المقدمة التي تمسك بها كفار قريش في قولهم لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) ثم قال أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَئِكَة ُ مُقْتَرِنِينَ يجوز أن يكون المراد مقرنين به من قولك قرنته به فاقترن وأن يكون من قولهم اقترنوا بمعنى تقارنوا قال الزجاج معناه يمشون معه فيدلون على صحة نبوته
ثم قال تعالى فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ أي طلب منهم الخفة في الإتيان بما كان يأمرهم به فأطاعوه إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ حيث أطاعوا ذلك الجاهل الفاسق فَلَمَّا ءاسَفُونَا أغضبونا حكي أن ابن جريج غضب في شيء فقيل له أتغضب يا أبا خالد فقال قد غضب الذي خلق الأحلام إن الله يقول فَلَمَّا ءاسَفُونَا أي أغضبونا
ثم قال تعالى انتَقَمْنَا مِنْهُمْ واعلم أن ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى محال وذكر لفظ الانتقام وكل واحد منهما من المتشابهات التي يجب أن يصار فيها إلى التأويل ومعنى الغضب في حق الله إرادة العقاب ومعنى الانتقام إرادة العقاب لجرم سابق
ثم قال تعالى فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً السلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو قرض فهو سلف والسلف أيضاً من تقدم من آبائك وأقاربك واحدهم سالف ومنه قول طفيل يرثي قومه
مضواً سلفاً قصد السبيل عليهم
وصرف المنايا بالرجال تقلب فعلى هذا قال الفراء والزجاج يقول جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون أي جعلناهم سلفاً لكفار أمة محمد عليه السلام وأكثر القراء قرأوا بالفتح وهو جمع سالف كما ذكرناه وقرأ حمزة والكسائي سَلَفاً(27/188)
بالضم وهو جمع سلف قال الليث يقال سلف بضم اللام يسلف سلوفاً فهو سلف أي متقدم وقوله وَمَثَلاً لّلاْخِرِينَ يريد عظة لمن بقي بعدهم وآية وتبرة قال أبو علي الفارسي المثل واحد يراد به الجمع ومن ثم عطف على سلف والدليل على وقوعه على أكثر من واحد قوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْء وَمَن رَّزَقْنَاهُ ( النحل 75 ) فأدخل تحت المثل شيئين والله أعلم
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَة ً فِى الأرض يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَة ِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر أنواعاً كثيرة من كفرياتهم في هذه السورة وأجاب عنها بالوجوه الكثيرة فأولها قوله تعالى وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا ( الزخرف 15 ) وثانيها قوله تعالى وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وثالثها قوله وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ( الزخرف 20 ) ورابعها قوله وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) وخامسها هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها ولفظ الآية لا يدل إلا على أنه لما ضرب ابن مريم مثلاً أخذ القوم يضجون ويرفعون أصواتهم فأما أن ذلك المثل كيف كان وفي أي شيء كان فاللفظ لا يدل عليه والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً كلها محتملة فالأول أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة الثاني روي أنه لما نزل قوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) قال عبد الله بن الزبعري هذا خاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل لجميع الأمم ) فقال خصمتك ورب الكعبة ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيراً وعلى أمه وقد علمت أن النصارى يعبدونهما واليهود يعبدون عزيراً والملائكة يعبدون فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم فسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفرح القوم وضحكوا وضجوا فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) ونزلت هذه الآية أيضاً والمعنى ولما ضرب عبدالله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً وجادل رسول الله بعبادة النصارى إياه(27/189)
إذا قومك قريش منه أي من هذا المثل يصدون أي يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحاً وجدلاً وضحكاً بسبب ما رأوا من إسكات رسول الله فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج وقالوا أآلهتنا أهون الوجه الثالث في التأويل وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إلهاً لأنفسهم قال كفار مكة إن محمداً يريد أن يجعل لنا إلهاً كما جعل النصارى المسيح إلهاً لأنفسهم ثم عند هذا قالوا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا يعني أآلهتنا خير أم محمد وذكروا ذلك لأجل أنهم قالوا إن محمداً يدعونا إلى عبادة نفسه وآباؤنا زعموا أنه يجب عبادة هذه الأصنام وإذا كان لا بد من أحد هذين الأمرين فعبادة هذه الأصنام أولى لأن آباءنا وأسلافنا كانوا متطابقين عليه وأما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فكان الاشتغال بعبادة الأصنام أولى ثم إنه تعالى بيّن أنا لم نقل إن الاشتغال بعبادة المسيح طريق حسن بل هو كلام باطل فإن عيسى ليس إلا عبداً أنعمنا عليه فإذا كان الأمر كذلك فقد زالت شبهتهم في قولهم إن محمداً يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه فهذه الوجوه الثلاثة مما يحتمل كل واحد منها لفظ الآية
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم يصدون بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام والباقون بكسر الصاد وهي قراءة ابن عباس واختلفوا فقال الكسائي هما بمعنى نحو يعرشون ويعرشون ويعكفون ومنهم من فرق أما القراءة بالضم فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه وأما بالكسر فمعناه يضجون
المسألة الثالثة قرأ عاصم وحمزة والكسائي أآلهتنا استفهاماً بهمزتين الثانية مطولة والباقون استفهاماً بهمزة ومدة
ثم قال تعالى مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ مبالغون في الخصومة وذلك لأن قوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يتناول الملائكة وعيسى وبيانه من وجوه الأول أن كلمة ما لا تتناول العقلاء ألبتة والثاني أن كلمة ما ليست صريحة في الاستغراق بدليل أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض عليه فيقال إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو إنكم وبعض ما تبعدون من دون الله الثالث أن قوله إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو وبعض ما تعبدون خطاب مشافهة فلعله ما كان فيهم أحد يعبد المسيح والملائكة الرابع أن قوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هب أنه عام إلا أن النصوص الدالة على تعظيم الملائكة وعيسى أخص منه والخاص مقدم على العام
المسألة الرابعة القائلون بذم الجدل تمسكوا بهذه الآية إلا أنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى مَا يُجَادِلُ فِى ءايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( غافر 4 ) أن الآيات الكثيرة دالة على أن الجدل موجب للمدح والثناء وطريق التوفيق أن تصرف تلك الآيات إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق وأن تصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل
ثم قال تعالى إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ يعني ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه حيث جعلناه آية بأن خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ(27/190)
لولدنا منك يا رجال مَلَئِكَة ٌ ضَلَلْنَا فِى الاْرْضِ كما يخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ولتعرفوا أن دخول التوليد والتولد في الملائكة أمر ممكن وذات الله متعالية عن ذلك وَأَنَّهُ أي عيسى لَعِلْمٌ لّلسَّاعَة ِ شرط من أشراطها تعلم به فسمي الشرط الدال على الشيء علماً لحصول العلم به وقرأ ابن عباس لَعِلْمٌ وهو العلامة وقرىء للعلم وقرأ أبي لذكر وفي الحديث ( أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق وبيده حربة وبها يقتل الدجال فيأتي ببيت المقدس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به ) فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا من المرية وهو الشك وَاتَّبِعُونِ واتبعوا هداي وشرعي هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ أي هذا الذي أدعوكم إليه صراط مستقيم وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ قد بانت عداواته لكم لأجل أنه هو الذي أخرج أباكم من الجنّة ونزع عنه لباس النور
وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَة ِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاٌّ حْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أنه تعالى ذكر أنه لما جاء عيسى بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَة ِ وهي معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وَلابَيّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ يعني أن قوم موسى كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف واتفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبين لهم الحق في تلك المسائل الخلافية وبالجملة فالحكمة معناها أصول الدين لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ معناه فروع الدين فإن قيل لم لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه قلنا لأن الناس قد يختلفون في أشياء لا حاجة بهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانها ولما بين الأصول والفروع قال فَاتَّقُواْ اللَّهَ في الكفر به والإعراض عن دينه وَأَطِيعُونِ فيما أبلغه إليكم من التكاليف إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ والمعنى ظاهر فَاخْتَلَفَ الاْحْزَابُ أي الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم الملكانية واليعقوبية والنسطورية وقيل اليهود والنصارى فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ وهو وعيد بيوم الأحزاب فإن قيل قوله مِن بَيْنِهِمْ الضمير فيه إلى من يرجع قلنا إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَة ِ وهم قومه
ثم قال هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً فقوله أن تأتيهم بدل من الساعة والمعنى هل ينظرون(27/191)
إلا إتيان الساعة فإن قالوا قوله بَغْتَة ً يفيد عين ما يفيده قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فما الفائدة فيه قلنا يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه
الاٌّ خِلاَءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاٌّ نْفُسُ وَتَلَذُّ الاٌّ عْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ كَثِيرَة ٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً ( الزخرف 66 ) ذكر عقيبه بعض ما يتعلق بأحوال القيامة فأولها الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ والمعنى الاْخِلاء في الدنيا يَوْمَئِذٍ يعني في الآخرة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني أن الخلة إذا كانت على المعصية والكفر صارت عداوة يوم القيامة إِلاَّ الْمُتَّقِينَ يعني الموحدين الذين يخالل بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى فإن خلتهم لا تصير عداوة وللحكماء في تفسير هذه الآية طريق حسن قالوا إن المحبة أمر لا يحصل إلا عند اعتقاد حصول خير أو دفع ضرر فمتى حصل هذا الاعتقاد حصلت المحبة لا محالة ومتى حصل اعتقاد أنه يوجب ضرراً حصل البغض والنفرة إذا عرفت هذا فنقول تلك الخيرات التي كان اعتقاد حصولها يوجب حصول المحبة إما أن تكون قابلة للتغير والتبدل أو لا تكون كذلك فإن كان الواقع هو القسم الأول وجب أن تبدل تلك المحبة بالنفرة لأن تلك المحبة إنما حصلت لاعتقاد حصول الخير والراحة فإذا زال ذلك الاعتقاد وحصل عقيبه اعتقاد أن الحاصل هو الضرر والألم وجب أن تتبدل تلك المحبة بالبغضة لأن تبدل العلة يوجب تبدل المعلول أما إذا كانت الخيرات الموجبة للمحبة خيرات باقية أبدية غير قابلة للتبدل والتغير كانت تلك المحبة أيضاً محبة باقية آمنة من التغير إذا عرفت هذا الأصل فنقول الذين حصلت بينهم محبة ومودة في الدنيا إن كانت تلك المحبة لأجل طلب الدينا وطيباتها ولذاتها فهذه المطالب لا تبقى في القيامة بل يصير طلب الدنيا سبباً لحصول الآلام والآفات في يوم القيامة فلا جرم تنقلب هذه المحبة الدنيوية بغضة ونفرة في القيامة أما إن كان الموجب لحصول المحبة في الدنيا الاشتراك في محبة الله وفي خدمته وطاعته فهذا السبب غير قابل للنسخ والتغير فلا جرم كانت هذه المحبة باقية في القيامة بل كأنها تصير أقوى وأصفى وأكمل وأفضل مما كانت في الدنيا فهذا هو التفسير المطابق لقوله(27/192)
تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ تَحْزَنُونَ وقد ذكرنا مراراً أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين فقوله فَبَشّرْ عِبَادِ كلام الله تعالى فكأن الحق يخاطبهم بنفسه ويقول لهم الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ وفيه أنواع كثيرة مما يوجب الفرح أولها أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة وثانيها أنه تعالى وصفهم بالعبودية وهذا تشريف عظيم بدليل أنه لما أراد أن يشرف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج قال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( الإسراء 1 ) وثالثها قوله لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فأزال عنهم الخوف في يوم القيامة بالكلية وهذا من أعظم النعم ورابعها قوله وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ فنفى عنهم الحزن بسبب فوت الدنيا الماضية
ثم قال تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ قيل الَّذِينَ كَفَرُواْ مبتدأ وخبره مضمر والتقدير يقال لهم أدخلوا الجنة ويحتمل أن يكون المعنى أعني الذين آمنوا قال مقاتل إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى منادٍ الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم فيقال الَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ فتنكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم الحكم الثالث من وقائع القيامة أنه تعالى إذا أمن المؤمنين من الخوف والحزن وجب أن يمر حسابهم على أسهل الوجوه وعلى أحسنها ثم يقال لهم ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ أَنتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ والحبرة المبالغة في الإكرام فيما وصف بالجميل يعني يكرمون إكراماً على سبيل المبالغة وهذا مما سبق تفسيره في سورة الروم
ثم قال يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ قال الفراء الكوب المستدير الرأس الذي لا أذن له فقوله يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ إشارة إلى المطعوم وقوله وَأَكْوابٍ إشارة إلى المشروب ثم إنه تعالى ترك التفصيل وذكر بياناً كلياً فقال وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
ثم قال وَتِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وقد ذكرنا في وراثة الجنة وجهين في قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ( المؤمنون 10 11 ) ولما ذكر الطعام والشراب فيما تقدم ذكر ههنا حال الفاكهة فقال لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ
واعلم أنه تعالى بعث محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إلى العرب أولاً ثم إلى العالمين ثانياً والعرب كانوا في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة فلهذا السبب تفضل الله تعالى عليهم بهذه المعاني مرة بعد أخرى تكميلاً لرغبتهم وتقوية لدواعيهم(27/193)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج القاضي على القطع بوعيد الفسق بقوله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ولفظ المجرم يتناول الكافر والفاسق فوجب كون الكل في عذاب جهنم وقوله خَالِدُونَ يدل على الخلود وقوله أيضاً لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ يدل على الخلود والدوام أيضاً والجواب أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على أن المراد من لفظ المجرمين ههنا الكفار أما ما قبل هذه الآية فلأنه قال عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَاتِنَا ( الزخرف 68 69 ) فهذا يدل على أن كل من آمن بآيات الله وكانوا مسلمين فإنهم يدخلون تحت قوله الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله تعالى وبآياته وأسلم فوجب أن يكون داخلاً تحت ذلك الوعد ووجب أن يكون خارجاً عن هذا الوعيد وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ والمراد بالحق ههنا إما الإسلام وإما القرآن والرجل المسلم لا يكره الإسلام ولا القرآن فثبت أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على أن المراد من المجرمين الكفار والله أعلم
المسألة الثانية أنه تعالى وصف عذاب جهنم في حق المجرمين بصفات ثلاثة أحدهما الخلود وقد ذكرنا في مواضع كثيرة أنه عبارة عن طول المكث ولا يفيد الدوام وثانيها قوله لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي لا يخفف ولا ينقص من قولهم فترت عنه الحمى إذا سكنت ونقص حرها وثالثها قوله وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ والمبلس اليائس الساكت سكوت يائس من فرج عن الضحاك يجعل المجرم في تابوت من نار ثم يقفل عليه فيبقى فيه خالداً لا يرى قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء وَهُمْ فِيهَا أي وهم في النار
المسألة الثالثة احتج القاضي بقوله تعالى وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ فقال إن كان خلق فيهم الكفر ليدخلهم النار فما الذي نفه بقوله وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وما الذي نسبه إليهم مما نفاه عن نفسه أو ليس لو أثبتناه ظلماً لهم كان لا يزيد على ما يقوله القوم فإن قالوا ذلك الفعل لم يقع بقدرة الله عزّ وجل فقط بل إنما وقع بقدرة الله مع قدرة العبد معاً فلم يكن ذلك ظلماً من الله قلنا عندكم أن القدرة على الظلم موجبة للظلم وخالق تلك القدرة هو الله تعالى فكأنه لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج عن أن يكون ظالماً لهم وذلك محال لأن من يكون ظالماً في فعل فإذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون بذلك أحق فيقال للقاضي قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعينة لأحد الطرفين فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إن وقع لا لمرجع لزم نفي الصانع وإن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم الأول فيه ولا بد وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها الله في العبد وإن كانت متعينة لأحد الطرفين فحينئذٍ يلزمك ما أوردته علينا(27/194)
واعلم أنه ليس الرجل من يرى وجه الاستدلال فيذكره إنما الرجل الذي ينظر فيما قبل الكلام وفيما بعده فإن رآه وارداً على مذهبه بعينه لم يذكره والله أعلم
المسألة الرابعة قرأ ابن مسعود مّن مَّالِ بحذف الكاف للترخيم فقيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَّالِ فقال ما أشغل أهل النار عن هذا الترخيما واجيب عنه بأنه إنما حسن هذا الترخيم لأنه يدل على أنهم بلغوا في الضعف والنحافة إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلا بعضها
المسألة الخامسة اختلفوا في أن قولنم وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ على أي وجه طلبوا فقال بعضهم على التمني وقال آخرون على وجه الاستغاثة وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم عن ذلك العقاب وقيل لا يبعد أن يقال إنهم لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا تلك المسألة فذكروه على وجه الطلب ثم إنه تعالى بيّن أن مالكاً يقول لهم إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ وليس في القرآن متى أجابهم هل أجابهم في الحال أو بمدة طويلة فلا يمتنع أن تؤخر الإجابة استخفافاً بهم وزيادة في غمهم فعن عبد الله بن عمر بعد أربعين سنة وعن غيره بعد مائة سنة وعن ابن عباس بعد ألف سنة والله أعلم بذلك المقدار
ثم بيّن تعالى أن مالكاً لما أجابهم بقوله إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ذكر بعده ما هو كالعلة لذلك الجواب فقال لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ والمراد نفرتهم عن محمد وعن القرآن وشدة بغضهم لقبول الدين الحق فإن قيل كيف قال وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ بعد ما وصفهم بالإبلاس قلنا تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم روي أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون ادعوا مالكاً فيدعون وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ولما ذكر الله تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفساد باطنهم في الدنيا فقال أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ والمعنى أم أبرموا أي مشركون مكة أمراً من كيدهم ومكرهم برسول الله فإنا مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ ( الطور 42 ) قال مقاتل نزلت في تدبيرهم في المكر به في دار الندوة وهو ما ذكره الله تعالى في قوله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الأنفال 30 ) وقد ذكرنا القصة
ثم قال أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم بَلَى نسمعها ونطلع عليها وَرُسُلُنَا يريد الحفظة يَكْتُبُونَ عليهم تلك الأحوال وعن يحيى بن معاذ من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من علامات النفاق(27/195)
قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ والأرض رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمآءِ إِلَاهٌ وَفِى الأرض إِلَاهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وَقِيلِهِ يارَبِّ إِنَّ هَاؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وَلَدَ بضم الواو وإسكان اللام والباقون بفتحها فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ قرأ نافع فَإِنَّا بفتحة طويلة على النون والباقون بلا تطويل
المسألة الثانية اعلم أن الناس ظنوا أن قوله قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لو أجريناه على ظاهره فإنه يقتضي وقوع الشك في إثبات ولد لله تعالى وذلك محال فلا جرم افتقروا إلى تأويل الآية وعندي أنه ليس الأمر كذلك وليس في ظاهر اللفظ ما يوجب العدول عن الظاهر وتقريره أن قوله إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ قضية شرطية والقضية الشرطية مركبة من قضيتين خبريتين أدخل على إحداهما حرف الشرط وعلى الأخرى حرف الجزاء فحصل بمجموعها قضية واحدة ومثاله هذه الآية فإن قوله إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ قضية مركبة من قضيتين إحداهما قوله قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ والثانية قوله فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدُونَ ثم أدخل حرف الشرط وهو لفظة إن على لقضية الأولى وحرف الجزاء وهو الفاء على القضية الثانية فحصل من مجموعها قضية الأولى واحدة وهو القضية الشرطية إذ عرفت هذا فنقول القضية الشرطية لا تفيد إلا كون الشرط مستلزماً للجزاء وليس فيه إشعار بكون الشرط حقاً أو باطلاً أو بكون الجزاء حقاً أو باطلاً بل نقول القضية الشرطية الحقة قد تكون مركبة من قضيتين حقيتين أو من قضيتين باطلتين أو من شرط باطل وجزاء حق أو من شرط حق وجزاتء باطل فأما القسم الرابع وهو أن تكون القضية الشرطية الحقة مركبة من شرط حق وجزاء باطل فهذا محال
ولنبين أمثال هذه الأقسام الأربعة فإذا قلنا إن كان الإنسان حيواناً فالإنسان جسم فهذه شرطية حقة وهي مركبة من قضيتين حقيتين إحداهما قولنا الإنسان حيوان والثانية قولنا الإنسان(27/196)
جسم وإذا قلنا إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين فهذه شرطية حقة لكنها مركبة من قولنا لخمسة زوج ومن قولنا لخمسة منقسمة بمتساويين وهما باطلان وكونهم باطلين لا يمنع من أن كيون استلزام أحدهما للآخر حقاً وقد ذكرنا أن القضية الشرطية لا تفيد إلا مجرد الاستلزام وإذا قلنا إن كان الإنسان حجراً فهو جسم فهذ جسم فهذا أيضاً حق لكنها مركبة من شرط باطل وهو قولنا الإنسان حجر ومن جزء حق وهو قولنا الإنسان جسم وإنما جاز هذالأن الباطل قد يكون بحيث يلزم من فرض وقوعه وقوع حق فإنا فرضنا كون لإنسان حجراً وجب كونه جسماً فهذا شرط باطل يستلزم جزءاً حقاً
وأما القسم الرابع وهو تركيب قضية شرطية حقة من شرط حق وجزاء باطل فهذا محال لأن هذا التركيب يلزم منه كون الحق مستلزماً للباطل وذلك محال بخلاف القسم الثالث فإنه يلزم منه كون الباطل مستلزماً للحق وذلك ليس بمحال إذا عرفت هذا الأصل فلنرجع إلى الآية فنقول قوله إِن كَانَ الرَّحْمَنُ وَلَداً فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ قضية شرطية حقة من شرط باطل ومن جزاء باطل لأن قولنا كان للرحمن ولد باطل وقولنا أنا أول العابدين لذلك الولد باطل أيضاً إلا أنا بينا أن كون كل واحد منهما باطلاً لا يمنع من أن يكون استلزام أحدهما للآخر حقاً كما ضربنا من المثال في قولنا إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين فثبت أن هذا لكلام لا امتناع في إجرائه على ظاهره ويكون المراد منه أنه إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لذلك الولد فإن لسلطان إذا كان له ولد فكما يجب على عبده أن يخدمه فكذلك يجب عليه أن يخدم ولده وقد بينا أن هذا التركيب لا يدل على الاعتراف بإثبات ولد أم لا
ومما يقرب من هذا الباب قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فهذا الكلام قضية شرطية والشرط هو قولنا فِيهِمَا الِهَة ٌ والجزاء هو قولنا فسدتا فالشرط في نفسه باطل والجزاء أيضاً باطل لأن الحق أنه ليس فيهما آلهة وكلمة لو تفيد الشيء باتنفاء غيره لأنهما ما فسدتا ثم مع كون الشرط باطلاً وكون الجزاء باطلاً كان استلزام ذلك الشرط لهذا الجزء حقاً فكذا ههنا فإن قالوا الفرق أن هننا ذكر الله تعالى هذه الشرطية بصيغة لو فقال يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره وأما في لآية التي نحن في تفسيرها إنما ذكر الله تعالى كلمة إن وهذه الكلمة لا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره بل هذه الكلمة تفيد الشك في أنه هل حصل الشرط أم لا وحصول هذا الشك للرسول غير ممكن قلنا القرف الذي ذكرتم صحيح إلا أن مقصودنا بيان أنه لا يلزم من كون الشرطية صادقة كون جزءيها صادقتين أو كذبتين على ما قررناه أما قوله إن لفظة أن تفيد حصول الشرط هل حصل أم لا قلنا هذا ممنوع فإن حرف ءن حرف الشرط وحرف الشرط لا يفيد كون الشرط مستلزماً للجزار وأما بيان أن ذلك الشرط معلوم الوقوع أو مشكوك الوقوع فاللفظ لا دلالة فيه عليه البتة فظهر من المباحث التي لخصناها أن الكلام ههنا ممكن الإجراء على ظاهره من جميع الوجوه وأنه لا حاجة فيه ألبتة إلى التأويل والمعنى أنه تعالى قال قُلْ يا محمد إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لذلك الولد وأنا أول الخادمين له والمقصود من هذا الكلام بيان أنى لا أنكر ولده لأجل العناد والمنازعة فإن بتقدير أن يقوم الدليل على ثبوت هذا الولد كنت مقراً به معترفاً بوجوب خدمته إلا أنه لم يوجد هذا الولد ولم يقم الدليل على ثبوته ألبتة فكيف أقول به بل الدليل القاطع قائم على عدمه فكيف أقول به وكيف أعترف بوجوده وهذا الكلام ظاهر كامل لا حاجة به ألبتة إلى التأويل والعدول عن الظاهر فهذا ما عندي في هذ الموضع ونقل عن السدي من المفسرين أنه كان يقول حمل هذه الآية على ظاهرها ممكن ولا حاجة إلى لتأويل والتقرير الذي ذكرناه يدل على أن الذي قاله هو الحق أما القائلون بأنه لا بد من التأويل فقد ذكروا وجوهاً الأول قال الواحدي كثرت الوجوه في تفسير هذه الآية والأقوى أن يقال المعنى إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ في زعمكم فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ أي الموحدين لله(27/197)
المكذبين لوقلكم بإضافة الولد إليه ولقائل أن يقول إما أن يكون تقدير الكلام إن يثبت للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول المنكرين له أو يكون التقدير إن يثبت لكم ادعاء أن للرحمن ولداً فأنا أول المنكرين له والأول باطل لأن ثبوت الشيء في نفسه لا يقتضي كون الرسول منكراً له لأن قوله إن كان الشيء إثباتاً في نفسه فأنا أول المنكرين يقتضي إصراره على الكذب والجهل وذلك لا يليق بالرسول والثاني أيضاً باطل لأنهم سواء أثبتوا لله ولداً أو لم يثبتوه له فالرسول منكر لذلك الولد فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكراً لذلك الولد فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد
الوجه الثاني قالوا معناه إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتدت أنفته فهو عبد وعابد وقرأ بعضهم ( عبدين )
واعلم أن السؤال المذكور قائم ههنا لأنه إن كان المراد إن كان للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول الآنفين من الإقرار به فهذا يقتضي الإصرار على الجهل والكذب وإن كن المرد إن كان للرحمن ولد في زعمكم واعتقادكم فأنا أول الآنفين فهذا التعليق فاسد لأن هذه الأنفة حاصلة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل وإذا كان الأمر كذلك لم يكن هذا التعليق جائزاً
والوجه الثالث قال بعضهم إن كلمة إن ههنا هي النفية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له
واعلم أن التزام هذه الوجوه البعيدة إنما يكون للضرورة وقد بينا أنه لا ضرورة ألبتة فلم يجز المصير إليها والله أعلم
ثم قال سبحانه وتعالى سُبْحَانَ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ والمعنى أن إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته وكل ما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزأ بوجه من الوجوه والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء من أجزائه فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله وهذا إنما يعقل فيما تكون ذاته قابلة للتجزىء والتبعيض وإذا كان ذلك محالاً في حق إله العالم امتنع إثبات الولد له ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ والمقصود منه التهديد يعني قد ذكرت الحجة القاطعة على فساد ما ذكروا وهم لم يلتفتوا إليها لأجل كونهم مستغرقين في طلب المال والجاه والرياسة فاتركهم في ذلك الباطل واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الذي وعدوا فيه بما وعدوا والمقصود منه التهديد
ثم قال تعالى وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْضِ إِلَاهٌ وفي أبحاث
البحث الأول قال أبو علي نظرت فيما يرتفع به إله فوجدت ارتفاعه يصح بأن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير وهو الذي في السماء هو إله
والبحث الثاني هذه الآية من أدل الدلائل على أنه تعالى غير مستقر في المساء لأنه تعالى بيّن بهذه الآية أن نسبته إلى السماء بالإلهية كنسبته إلى الأرض فلما كان إلهاً للأرض مع أنه غير مستقر فيها فكذلك يجب أن يكون إلهاً للسماء مع أنه لا يكون مستقراً فيها فإن قيل وأي تعلق لهذا الكلام بنفي الولد عن الله(27/198)
تعالى قلنا تعلقه به أنه تعالى خلق عيسى بمحض كن فيكون من غير واسطة النطفة والأب فكأنه قيل إن هذا القدر لا يوجب كون عيسى ولداً لله سبحانه لأن هذا المعنى حاصل في تخليق السموات والأرض وما بينهما من انتفاء حصول الولدية هناك
ثم قال تعالى وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وقد ذركنا في سورة الأنعام أن كون تعالى حكيماً عليماً ينافي حصول الولد له
ثم قال وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ واعلم أن قوله تبارك إما أن يكون مشتقاً من الثبات والبقاء وإما أن يكون مشتقاً من كثرة الخير وعلى التقديرين فكل واحد من هذين الوجهين ينافي كون عيسى عليه السلام ولداً لله تعالى لأنه إن كان المراد منه الثبات والبقاء فعيس عليه السلام لم يكن واجب البقاء والدوام لأنه حدث بعد أن لم يكن ثم عند النصارى أنه قتل ومات ومن كان كذلك لم يكن بينه وبين الباقي الدائم الأزلي مجانسة ومشابهة فامتنع كونه ولداً له وإن كان المراد بالبركة كثرة الخيرات مثل كونه خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فعيسى لم يكن كذلك بل كان محتاجاً إلى الطعام وعند النصارى أنه كان خائفاً من اليهود وبالآخرة أخذوه وقتلوه فالذي هذا صفته كيف يكون ولدً لمن كان خالقاً للسموات والأرض وما بينهماا
وأما قوله وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ فالمقصود منه أنه لما شرح كمال قدرته فكذلك شرح كمال علمه والمقصود التنبيه على أن من كان كاملاً في الذات والعلم والقدرة على الحد الذي شرحناه امتنع أن يكون ولده في العجز وعدم الوقوف على أحوال العالم بالحد الذي وصفه النصارى
ولما أطنب الله تعالى في نفي الولد أردفه ببيان نفي الشركاء فقال وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ ذكر المفسرون في هذه الآية قولين أحدهما أن الذين يدعون من دونه الملائكة وعيسى وعزيز والمعنى أن الملائكة وعيس وعزيزاً لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق روي أن النصر بن الحرث ونفراً معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد فأنزل الله هذه الآية يقول لا يقدر هؤلاء أن يشفعوا لأحد ثم استثنى فقال الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ والمعنى على هذا القول هؤلاء لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق فأضمر اللام أو يقال التقدير إلا شفاعة من شهد بلحق فحذف المضاف وهذ على لغة من يعدي الشفاعة بغير لام فيقول شفعت فلاناً بمعنى شفعت له كما تقول كلمته وكلمت له ونصحته ونصحت له والقول الثاني ى ن الذين يدعون من دونه كل معبود من دون الله وقوله إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ الملائكة وعيسى وعزيز والمعنى أن الأشياء التي عبدها الكفار لا يملكون الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم الملائكة وعيسى وعزيز فإن لهم شفاعة عند الله ومنزلة ومعنى من شهد بالحق من شهد أنه لا إله إلا الله
ثم قال تعالى وَهُمْ يَعْلَمُونَ وهذا القيد يدل على أن الشهادة باللسان فقط لا تفيد ألبتة واحتج القائلون بأن إيمان المقلد لا ينفع ألبتة فقالوا بيّن الله تعالى أن الشهادة لا تنفع إلا إذا حصل معها العلم والعلم عبارة عن اليقين الذي لو شكك صاحبه فيه لم يتشكك وهذا لم يحصل إلا عند الدليل فثبت أن إيمان المقلد لا ينفع ألبتة(27/199)
ثم قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ظن قوم أن هذه الآية وأمثالها في القرآن تدل على أن القوم مضطرون إلى الاعتراف بوجود الإله للعالم قال الجبائي وهذا لا يصح لأن قوم فرعون قالوا لا إله لهم غيره وقوم إبراهيم قالوا وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ ( إبراهيم 9 ) فيقال لهم لا نسلم أن قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله والدليل على قولنا قوله تعالى وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً ( النمل 14 ) وقال موسى لفرعون لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بَصَائِرَ ( الإسراء 102 ) فالقراءة بفتح التاء في علمت تدل على أن فرعون كان عارفاً بالله وأما قوم إبراهيم حيث قالوا وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ فهو مصروف إلى إثبات القيامة وإثبات التكاليف وإثبات النبوة
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى ذكر هذا الكلام في أول هذه السورة وفي آخرها والمقصود التنبيه على أنهم لما اعتقدوا أن خالق العالم وخالق الحيوانات هو الله تعالى فكيف أقدموا مع هذا الاعتقاد على عبادة أجسام خسيسة وأصنام خبيثة لا تضر ولا تنفع بل هي جمادات محضة
وأما قوله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ معناه لم تكذبون على الله فتقولون إن الله أمرنا بعبادة الأصنام وقد احتج بعض أصحابنا به على أن إفكهم ليس منهم بل من غيرهم بقوله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وأجاب القاضي بأن من يضل في فهم الكلام أو في الطريق يقال له أين يذهب بك والمراد أين تذهب وأجاب الأصحاب بأن قول القائل أين يذهب بك ظاهره يدل على أن ذاهباً آخر ذهب به فصرف الكلام عن حقيقته خلاف الأصل الظاهر وأيضاً فإن الذي ذهب به هو الذي خلق تلك الداعية في قلبه وقد ثبت بالبرهان الباهر أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى
ثم قال تعالى وَقِيلِهِ يارَبّ رَبّ إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ وفيه مباحث
الأول قرأ الأكثرون وَقِيلِهِ بفتح اللام وقرأ عاصم وحمزة بكسر اللام قال الواحدي وقرأ أناس من غير السبعة بالرفع أما الذين قرؤا بالنصب فذكر الإخفش والفراء فيه قولين أحدهما أنه نصب على المصدر بتقدير وقال قيله وشكا شكواه إلى ربه يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فانتصب قيله بإضمار قال والثاني أنه عطف على ما تقدم من قوله أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم وَقِيلِهِ ( الزخرف 80 ) وذكر الزجاج فيه وجهاً ثالثاً فقال إنه نصب على موضع الساعة لأن قوله وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ معناه أنه علم الساعة والتقدير علم الساعة وقيله ونظيره قولك عجبت من ضرب زيد وعمراً وأما القراءة يبالجر فقال الأخفش والفراء والزجاج إنه معطوف على الساعة أي عنده علم الساعة وعلم قيله يا رب قال المبرد العطف على المنصوب حسن وإن تباعد المعطوف من المعطوف عليه لأنه يجوز أن يفصل بين المنصوب وعامله والمجرور يجوز ذلك فيه على قبح وأما القراءة بالرفع ففيها وجهان الأول أن يكون وَقِيلِهِ مبتدأ وخبره ما بعده والثاني أن يكون معطوفاً على علم الساعة على تقدير حذف المضاف معناه وعنده علم الساعة وعلم قيله قال صاحب ( الكشاف ) هذه الوجوه ليست قوية في المعنى لا سيما وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضاً ثم ذكر وجهاً آخر وزعم أنه أقوى مما سبق وهو أن يكون النصب والجر على إضمار حرف القسم وحذفه والرفع على قولهم أيمن الله وأمانة الله ويمين الله يكون قوله إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ جواب القسم كأنه قيل(27/200)
وأقسم بقيله يا رب أو وقيله يا رب قسمي وأقوله هذا الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) متكلف أيضاً وههنا إضمار امتلأ القرآن منه وهو إضمار اذكر والتقدير واذكر قيله يا رب وأما القراءة بالجر فالتقدير واذكر وقت قيله يا رب وإذا وجب التزام الإضمار فلأن يضمر شيئاً جرت العادة في القرآن بالتزام إضمار أولى من غيره وعن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله وَقِيلِهِ يارَبّ رَبّ المراد وقيل يا رب والهاء زيادة
البحث الثاني القيل مصدر كالقول ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نهى عن قيل وقال ) قال الليث تقول العرب كثر فيه القيل والقال وروى شمر عن أبي زيد يقال ما أحسن قيلك وقولك وقالك ومقالتك خمسة أوجه
البحث الثالث الضمير في قيله لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
البحث الرابع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما ضجر منهم وعرف إصرارهم أخبر عنهم أنهم قوم لا يؤمنون وهو قريب مما حكى الله عن نوح أنه قال رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً ( نوح 21 )
ثم إنه تعالى قال له فَاصْفَحْ عَنْهُمْ فأمره بأن يصفح عنهم وفي ضمنه منعه من أن يدعو عليهم بالعذاب والصفح هو الإعراض
ثم قال وَقُلْ سَلَامٌ قال سيبويه إنما معناه المتاركة ونظيره قول إبراهيم لأبيه سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وكقوله سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( القصص 55 )
قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ والمقصود منه التهديد وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر تعلمون بالتاء على الخطاب والباقون بالياء كناية عن قوم لا يؤمنون
المسألة الثانية احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر وأقول إن صظح هذا الاستدلال فهذا يوجب الاقتصار على نجرد قوله سلام وأن يقال للمؤمن سلام عليكم والمقصود التنبيه على التحية التي تذكر للمسلم والكافر
المسألة الثالثة قال ابن عباس قوله تعالى فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ منسوخ بآية السيف وعندي أن التزام النسخ في أمثال هذه المواضع مشكل لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ وأيضاً فمثله يمين الفور مشهورة عند الفقهاء وهي دالة على أن اللفظ قد يتقيد بحسب قرينة العرف وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ والله أعلم بالصواب(27/201)
سورة الدخان
خمسون وتسع آيات مكية
إلا قوله إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ يُحْى ِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ وجوه من الاحتمالات أولها أن يكون التقدير هذه حام والكتاب المبين كقولك هذا زيد والله وثانيها أن يكون الكلام قد تمّ عند قوله حم ثم يقال وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ وثالثها أن يكون التقدير وحام والكتاب المبين إنا أنزلناه فيكون ذلك في التقدير قسمين على شيء واحد
المسألة الثانية قالوا هذا يدل على حدوث القرآن لوجوه الأول أن قوله حم تقديره هذه حام يعني هذاشيء مؤلف من هذه الحروف والمؤلفد من الحروف المتعاقبة محدث الثاني أنه ثبت أن الحلف لا يصح بهذه الأشياء بل بإلاه هذه الأشياء فيكون التقدير ورب حام ورب الكتاب المبين وكل من كان مربوباً فهو محدث الثالث أنه وصفه بكونه كتاباً والكتاب مشتق من الجمع فمعناه أنه مجموع والمجموع محل تصرف(27/202)
الغير وما كان كذلك فهو محدث الرابع قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ والمنزل محل تصرف الغير وما كان كذلك فهو محدث وقد ذكرنا مراراً أن جميع هذه الدلائل تدل على أن الشيء المركب من الحروف المتعاقبة والأصوات المتوالية محدث والعلم بذلك ضروري بديهي لا ينازع فيه إلا من كان عديم العقل وكان غير عارف بمعنى القديم والمحدث وإذا كان كذلك فكيف ينازع في صحة هذه الدلائل إنما الذي ثبت قدمه شيء آخر سوى ما تركب من هذه الحروف والأصوات
المسألة الثالثة يجوز أن يكون المراد بالكتاب ههنا الكتب المتقدمة التي أنزلها الله على أنبيائه كما قال تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ( الحديد 25 ) ويجوز أن يكون المراد اللوح المحفوظ كما قال يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( الرعد 39 ) وقال وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا ( الزخرف 4 ) ويجوز أن يكون المراد به القرآن وبهذا التقدير فقد أقسم بالقرآن على أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم رجل له حاجة إليه أستشفع بك إليك وأقسم بحقك عليك
المسألة الرابعة الْمُبِينُ هو المشتمل على بيان ما بالناس حاجة إليه في دينهم ودنياهم فوصفه بكونه مبيناً وإن كانت حقيقة الإبانة لله تعالى لأجل أن الإبانة حصلت به كما قال تعالى وَأَنَّ هَاذَا إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يَقُصُّ عَلَى ( النمل 76 ) وقال في آية أخرى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) وقال أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ( الروم 35 ) فوصفه بالتكلم إذ كان غاية في الإبانة فكأنه ذو لسان ينطق والمعنى فيه المبالغة في وصفه بهذا المعنى
المسألة الخامسة اختلفوا في هذه الليلة المباركة فقال الأكثرون إنها ليلة القدر وقال عكرمة وطائفة آخرون إنها ليلة البراءة وهي ليلة النصف من شعبان أما الأولون فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه أولها أنه تعالى قال إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) وهاهنا قال إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ فوجب أن تكون هذه الليلة المباركة هي تلك المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض وثانيها أنه تعالى قال شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( البقرة 185 ) فبيّن أن إنزال القرآن إنما وقع في شهر رمضان وقال هاهنا إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ فوجب بأن تكون هذه الليلة واقعة في شهر رمضان وكل من قال إن هذه الليلة المباركة واقعة في شهر رمضان قال إنها ليلة القدر فثبت أنها ليلة القدر وثالثها أنه تعالى قال في صفة ليلة القدر تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِى َ ( القدر 4 5 ) وقال أيضاً ههنا فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وهذا مناسب لقوله تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا وههنا قال أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا وقال في تلك الآية بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ وقال ههنا رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ وقال في تلك الآية سَلَامٌ هِى َ وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى ورابعها نقل محمد بن جرير الطبري في ( تفسيره ) عن قتادة أنه قال نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان والتوراة لست ليال منه والزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت منه والإنجيل لثمان عشرة ليلة مضت منه والقرآن لأربع وعشرين ليلة مضت من رمضان والليلة المباركة هي ليلة القدر وخامسها أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب ذلك الزمان لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة عالية لها قدر عظيم ومرتبة رفيعة ومعلوم أن(27/203)
منصب الدين أعلى وأعظم من منصب الدينا وأعلى الأشياء وأشرفها منصباً في الدين هو القرآن لأجل أن به ثبتت نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل في سائر كتب الله المنزّلة كما قال في صفته وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ( المائدة 48 ) وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً وأعلى ذكراً وأعظم منصباً منه فلو كان نزوله إنما وقع في ليلة أخرى سوى ليلة القدر لكانت ليلة القدر هي هذه الثانية لا الأولى وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة وأما القائلون بأن المراد من الليلة المباركة المذكورة في هذه الآية هي ليلة النصف من شعبان فما رأيت لهم فيه دليلاً يعول عليه وإنما قنعوا فيه بأن نقلوه عن بعض الناس فإن صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه كلام فلا مزيد عليه وإلا فالحق هو الأول ثم إن هؤلاء القائلين بهذا القول زعموا أن ليلة النصف من شعبان لها أربعة أسماء الليلة المباركة وليلة البراءة وليلة الصك وليلة الرحمة وقيل إنما سميت بليلة البراءة وليلة الصك لأن البندار إذا استوفى الخلاج من أهله كتب لهم البراءة كذلك الله عزّ وجلّ يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة وقيل هذه الليلة مختصة بخمس خصال الأول تفريق كل أمر حكيم فيها قال تعالى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ والثانية فضيلة العبادة فيها قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من صلّى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان ) الخصلة الثالثة نزول الرحمة قال عليه السلام ( إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب ) والخصلة الرابعة حصول المغفرة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو مشاحن أو مدمن خمر أو عاق للوالدين أو مصر على الزنا ) والخصلة الخامسة أنه تعالى أعطى رسوله في هذه الليلة تمام الشفاعة وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطي الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطي الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطي الجميع إلا من شرد على الله شراد البعير هذا الفصل نقلته من ( الكشاف ) فإن قيل لا شك أن الزمان عبارة عن المدة الممتدة التي تقديرها حركات الأفلاك والكواكب وأنه في ذاته أمر متشابه الأجزاء فيمتنع كون بعضها أفضل من بعض والمكان عبارة عن الفضاء الممتد والخلاء الخالي فيمتنع كون بعض أجزائه أشرف من البعض وإذا كان كذلك كان تخصيص بعض أجزائه بمزيد الشرف دون الباقي ترجيحاً لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وإنه محال قلنا القول بإثبات حدوث العالم وإثبات أن فاعله فاعل مختار بناء على هذا الحرف وهو أنه لا يبعد من الفاعل المختار تخصيص وقت معين بإحداث العالم فيه دون ما قبله وما بعده فإن بطل هذا الأصل فقد بطل حدوث العالم وبطل الفاعل المختار وحينئذ لا يكون الخوض في تفسير القرآن فائدة وإن صح هذا الأصل فقد زال ما ذكرتم من السؤال فهذا هو الجواب لالمعتمد والناس قالوا لا يبعد ( أن يخص الله تعالى بعض الأوقات بمزيد تشريف حتى يصير ذلك داعياً للمكلف إلى الإقدام على الطاعات في ذلك الوقت ولهذا السبب بيّن أنه تعالى أخفاه في الأوقات وماعيته لأنه لم يكن معيناً جوز المكلف في كل وقت معين أن يكون هو ذلك الوقت الشريف فيصير ذلك حاملاً له على المواظبة على الطاعات في كل الأوقات وإذا وقعت على هذا الحرف ظهر عندك أن الزمان والمكان إنما فازا بالتشريفات الزائدة تبعاً لشرف الإنسان فهو الأصل وكل ما سواه فهو تبع له والله أعلم(27/204)
المسألة السادسة روي أن عطية الحروري سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الشهور فقال ابن عباس رضي الله عنهما يا ابن الأسود لو هلكت أنا ووقع هذا في نفسك ولم تجد جوابه هلكت نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور وهو في السماء الدنيا ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالا والله أعلم
المسألة السابعة في بيان نظم هذه الآيات اعلم أن المقصود منها تعظيم القرآن من ثلاثة أوجه أحدها بيان تعظيم القرآن بحسب ذاته الثاني بيان تعظيمه بسبب شرف الوقت الذي نزل فيه الثالث بيان تعظيمه بحسب شرف منزلته أما بيان تعظيمه بحسب ذاته فمن ثلاثة أوجه أحدها أنه تعالى أقسم به وذلك يدل على شرفه وثانيها أنه تعالى أقسم به على كونه نازلاً في ليلة مباركة وقد ذكرنا أن القسم بالشيء على حالة من أحوال نفسه يدل على كونه في غاية الشرف وثالثها أنه تعالى وصفه بكونه مبيناً وذلك يدل أيضاً على شرفه في ذاته
وأما النوع الثاني وهو بيان شرفه لأجل شرف الوقت الذي أنزل فيه فهو قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ وهذا تنبيه على أن نزوله في ليلة مباركة يقتضي شرفه وجلالته ثم نقول إن قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ يقتضي أمرين أحدها أنه تعالى أنزله والثاني كون تلك الليلة مباركة فذكر تعالى عقيب هذه الكلمة ما يجرى مجرى البيان لكل واحد منهما أما بيان أنه تعالى لم أنزله فهو قوله إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ يعني الحكمة في إنزال هذه السورة أن إنذار الخلق لا يتم إلا به وأما بيان أن هذه الليلة ليلة مباركة فهو أمران أحدهما أنه تعالى يفرق فيها كل أمر حكيم والثاني أن ذلك الأمر الحكيم مخصوصاً بشرف أنه إنما يطهر من عنده وإليه الإشارة بقوله أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا
وأما النوع الثالث فهو بيان شرف القرآن لشرف منزله وذلك هو قوله إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ فبيّن أن ذلك الإنذار والإرسال إنما حصل من الله تعالى ثم بيّن أن ذلك الإرسال إنما كان لأجل تكميل الرحمة وهو قوله رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ وكان الواجب أن يقال رحمة منا إلا أنه وضع الظاهر موضع المضمر إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين ثم بيّن أن تلك الرحمة وقعت على وفق حاجات المحتاجين لأنه تعالى يسمع تضرعاتهم ويعلم أنواع حاجاتهم فلهذا قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فهذا ما خطر بالبال في كيفية تعلق بعض هذه الآيات ببعض
المسألة الثامنة في تفسير مفردات هذه الألفاظ أما قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ فقد قيل فيه إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في هذه الليلة ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف وقيل يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدينا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت(27/205)
أما قوله تعالى فِيهَا يُفْرَقُ أي في تلك الليلة المباركة يفرق أي يفصل ويبين من قوله فرقت الشيء أفرقه فرقاً وفرقاناً قال صاحب ( الشكاف ) وقرىء يفرق بالتشديد ويفرق على إسناد الفعل إلى الفاعل ونصل كل والفارق هو الله عز وجل وقرأ زيد بن علي نفرق بالنون
أما قوله كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فالحكيم معناه ذو الحكمة وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى فما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة وهذا من الإسناد بالمجازي لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجاز ثم قال أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا وفي انتصاب قوله أمْراً وجهان الأول أنه نصب على الاختصاص وذلك أنه تعالى بيّن شرف تلك الأقضية والأحكام بسبب أن وصفها بكونها حكيمة ثم زاد في بين شرفها بأن قال أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا كائناً من لدنا وكما اقتضه علمنا وتدبيرنا والثاني أنه نصب على الحال وفيه ثلاثة أوجه الأول أن يكون حال من أحد الضميرين في أَنزَلْنَاهُ إما من ضمير الفاعل أي إنا أنزلناه آمرين أمراً أو من ضمير المفعول أي إنا أنزلناه في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن يفعل والثالث ما حكاه أبوعلي الفارسي عن أبي الحسن زحمهما الله أنه حمل قوله أمْراً على الحال وذو الحال قوله كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وهو نكراً
ثم قال إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يعني أنا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين يعني الأنبياء
ثم قال رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ أي للرحمة فهي نصب على أن يكون مفعولاً له
ثم قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يعني أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين إما أن يذكروا بألسنتهم حاجاتهم وإما أن لا يذكروها فهو تعالى يسمع كلامهم فيعرف حاجاتهم وإن لم يذكروها فهي تعالى عالم بها فثبت أن كونه سمعيعاً عليماً يقتضي أن ينزل رحمته عليهم
ثم قال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ وفيه مسائل
المسألة لأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الباء من رب عطفاً على قوله رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ والباقون بالرفع عطفاً على قوله هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
المسألة الثانية المقصود من هذه الآية أن المنزل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة
المسألة الثالثة الفائدة في قوله إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ من وجوه الأول قال أبو مسلم معناه إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه فاعرفوا أن الأمر كما قلنا كقولهم فلان منجد منهم أي يريد نجداً وتهامة والثاني قال صاحب ( الكشاف ) كانوا يقرون بأن للسموت والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب سبحانه وتعالى ثم قيل إن هذا هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ومعترفون يأنه رب السموات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم ويقين كما تقول هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه إن بلغك حديثه وسمعت قصته ثم إنه تعالى رد أن يكونوا موقنين بقوله بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ وأن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ولا عن جد وحقيقة بل قول مخلوط بهزء ولعب والله أعلم(27/206)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَة َ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ
اعلم أن المراد بقوله فَارْتَقِبْ انتظر ويقال ذلك في المكروه والمعنى انتظر يا محمد عذابهم فحذف مفعول الارتقاب لدلالة ما ذكر بعده عليه وهو قوله هَاذَا عَذْبٌ أَلِيمٌ ويجوز أيضاً أن يكون يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء مفعول الارتقاب وقوله بِدُخَانٍ فيه قولان
الأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا على قومه بمكة لما كذبوه فقال ( اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف ) فارتفع المطر وأجدبت الأرض وأصابت قريشاً شدة المجاعة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الرويات ومقاتل مجاهد واختيار الفراء والمزجاج وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه وكان ينكر أن يكنن الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخاناً فالحاصل أن هذا الدخان هو الصلمة التي في أبصارهم من شدة الجوع وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان بهذه الحالة وجيهن الأول أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع المطر ويرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة الغبراء الثاني أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان فيقول كان بيننا أمر ارتفع له دخان والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان
والقول الثاني في الدخان أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة قالو فإذا حصلت هذه الحالة حصل لأهل الإيمان منه حالة تشبه الزكام وحصل لأهل الكفر حالة يصير لأجلها رأسه كرأس الحنيذ وهذا القول هو المنقول عن علي بن أبي طلب عليه السلام وهو قول مشهور لابن عباس واحتج القائلون بهذا القول بوجوه الأول أن قوله يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء بِدُخَانٍ يقتضي وجود دخان تأتي به السماء وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل وإنه لا يجوز الثاني أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم ومثل هذا لا يوصف بكونها دخاناً مبيناً والثالث أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس وهذا إنما يصدق إذا وصل(27/207)
ذلك الدخان إليهم واتصل بهم والحال التي ذكرتموها لا توصف بأنها تغشي الناس إلا على سبيل المجاز وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل الرابع روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم عليهما السلام ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان فتلا رسلو الله ( صلى الله عليه وسلم ) الآية وقال دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره ) رواه صاحب ( الشكاف ) وروى القاضي عن الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( باكروا بالأعمال ستاً وذلك منه طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة ) أما القائلون بالقول الأول فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع والقوم لم يذكروا ذلك الدليل فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً فإن قالوا الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ وهذ إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى إليه أبو سيفان وناشده بالله والرحم وأوعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك لأن عند صهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ ولم يصح أيضاً أن يقال لهم إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ والجواب لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة في أنه لا يوجب انقطاع التكليف فتحدث هذه الحالة ثم إن الناس يخافون جداً فيتضرعون فإاذ زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق وإذ كان هذا محتملاً فقد سقط ما قالوه والله اعلم
ولنرجع إلى التفسير فنقول قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ أي ظاهر الحال لا يشك أحد في أنه دخان يغشي الناس أي يشملهم وهو في محل الجر صفة لقوله بِدُخَانٍ وفي قوله وَهَاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ قولان الأول أنه منصوب لمحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب على الحال أي قائلين ذلك الثاني قال الجرجاني صاحب ( النظم ) هذا إشارة إليه وإخبار عن دنوه واقترابه كما يقال هذا العدو فاستقبله والغرض منه التنبيه على القرب
ثم قال رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ فإن قلنا التقدير يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب فالمعنى ظاهر وإن لم يضمر القول هناك أضمرناه ههنا والعذاب على القول الأول هو القحط الشديد وعلى القول الثاني الدخان المهلك إِنَّا مْؤْمِنُونَ أي بمحمد وبالقرآن والمراد منه الوعيد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب
ثم قال تعالى أَنَّى لَهُمُ الذّكْرَى يعني كيف يتذكرون وكيف يتعظون بهذه الحالة وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على رسول الله من لمعجزات القاهرة والبينات الباهرة ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ(27/208)
ولم يلتفتوا إليه وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ وذلك لأن كفار مكة كان لهم في ظهور القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام قولان منهم من كان يقول إن محمداً يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس لقوله إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِى ٌّ ( النحل 103 ) وكقوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ ( الفرقان 4 ) ومنهم من كان يقول إنه مجنون والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي
ثم قال تعالى إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ أي كما يكشف العذاب عنكم تعودون في الاحال إلى ما كنتم عليه من الشرك والمقصود التنبيه على أنهم لا يوفون بعهدهم وأنهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر والتقليد لمذاهب الأسلاف
ثم قال تعالى يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَة َ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء نبطش بضم الطاء وقرأ الحسن نبطش بضم النون كأنه تعالى يأمر الملائكة بأن يبطشوا بهم والبطش الأخذ بشدة وأكثر ما يكون بوقع الضرب المتابع ثم صار بحيث يستعمل في إيصال الآلام المتتابعة وفي المراد بهذا اليوم قولان
القول الأول أنه يوم بدر وهو قول ابن سمعود وابن عباس ومجاهد ومقاتل وأبي لعالية رضي الله تعلى عنهم قالوا إن كفار مكة لما أزال الله تعالى عنهم القحط والجوع عادوا إلى لتكذيب فانتقم الله منهم يوم بدر
والقول الثاني أنه يوم القيامة روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال قال ابن معسود البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة وهذا لقول أصح لأن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة لقوله تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غفر 17 ) ولأن هذه البطشة لما وصفت بكونها كبرى على الإطلاق وجب أن تكون أعظم أنواع البطش وذلك ليس إلا في القيامة ولفظ الانتقام في حق الله تعالى من المتشابهات كالغضب والحياء ولتعجب والمعنى معلوم والله أعلم
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَى َّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ إِنِّى ءَاتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فَاعْتَزِلُونِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَاؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَة ٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ(27/209)
اعلم أنه تعالى لما بين أن كفار مكة مصرون على كفرهم بين أن كثيراً من المتقدمين أيضاً كانوا كذلك فبين حصول هذه الصفة في أكثر قوم فرعون قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَلَقَدْ فَتَنَّا بالتشديد للتأكيد قال ابن عباس ابتلينا وقال لازجاج بلونا والمعنى عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ وهو موسى واختلفوا في معنى الكريم ههنا فقال الكلبي كريم على ربه يعني أنه استحق على ربه أنواعاً كثيرة من الإكرام وقال مقاتل حسن الخلق وقال الفراء يقل فلان كريم قومه لأنه قال ما بعث رسول ألا من أشراف قومه وكرامهم
ثم قال أَنْ أَدُّواْ إِلَى عَبْداً اللَّهِ وفي أن قولان الأول أنها أن المفسرة وذلك لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله الثاني أنها المخففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدواء وعبدا الله مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول أدوهم إلى وأرسلوهم معي وهو كقوله فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ ( طه 47 ) ويجوز أيضاً أن يكون نداء لهم والتقدير أدوا إلى عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان وقبول دعوتي وأتباع سبيلي وعلل ذلك بأنه رَسُولٌ أَمِينٌ قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته وأن لا تعلوا أن هذه مثل الأول في وجيهيها أي لا تتكبروا على الله بإهانة وحيه ورسلوه وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى بحجة بينة يعترف بصحتها كل عاقل وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ قيل المراد أن تقتلون وقيل أَن تَرْجُمُونِ بالقول فتقولوا ساحر كذاب وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة فاللام في لي لام الأجل فَاعْتَزِلُونِ أي اخلوا سبيلي لا لي ولا علي
قل مصنف الكتاب رحمه الله تعالى إن المعتزلة يتصلفون ويقولون إن لفظ الاعتزال أينما جاء في القرآن كان المراد منه الاعتزال عن الباطل لا عن الحق فاتقف حضوري في بعض المحافل وذكر بعضهم هذا الكلام فأوردت عليه هذه الآية وقلت المراد الاعتزال في هذه الآية الاعتزال عن دين موسى عليه السلام وطريقته وذلك لا شك أنه اعتزال عن الحق فانقطع الرجل
ثم قال تعالى فَدَعَا رَبَّهُ الفاء في فدع تدل على أنه متصل بمحذوف قبله التأويل أنهم كفروا ولم يؤمنوا فدعا موسى ربه بأن هؤلاء قوم مجرمون فإن قالوا الكفر أعظم حال من الجرم فما السبب في أن جعل صفة الكفار كونهم مجرمين حل ما أراد المبالغة في ذمهم قلت لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون مجرماً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه فيكون أخس الناس قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ( إن هؤلاء ) بالكسر على إضمار القول أي فدعا ربه فقال إن هؤلاء قوم مجرمون
ثم قال فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً قرأ بن كثير ونافع فَأَسْرِ موصولة بالألف والباقون مقطوعة لألف سرى وأسرى لغتان أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون أي يتبعكم فرعون وقومه ذلك سبباً(27/210)
لهلاكهم وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً وفي الرهو قولان أحدهما أنه الساكن يقال عيش راه إذا كان خافضاً وادعاً وافعل ذلك سهواً رهواً أي ساكناً بغير تشدد أراد موسى عليه السلام لما جاوز لبحر أن يضربه بعصاه فينطبق كما كان فأمره الله تعالى بأن يرتكه ساكناً على هيئته قاراً على حاله في انفلاق الماء وبقاء الطريق يبساً حتى تدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم والثاني أن لرهو هو الفرجة الواسعة والمعنى ذا رهو أي ذا فرجة يعني الطريق الذي أظهره الله فيما بين لبحر أنهم جند مفرقون يعني اترك الطريق كما كان يدخلوا فيغرقوا وإنما أخبره الله تعالى بذلك حتى يبقى فارغ القلب عن شرهم وإيذائهم
ثم قال تعالى كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ دلت هذه الآية على أنه تعالى أغرقهم ثم قال بعد غرقهم هذا الكلام وبيّن تعالى أنهم تركوا هذه لأشياء الخمسة وهي الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم والمراد بالمقام الكريم ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة وقيل المنابر التي كانوا يمدحون فرعون عليها وَنَعْمَة ٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ قال علماء اللغة نعمة العيش بفتح النون حسنه ونضارته ونعمة الله إحسانه وعطاؤه قال صاحب ( الكشاف ) النعمة بالفتح من لتنعم وبالكسر من االإنعام وقرىء فاكهين وفكهين كذلك الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وأورثناها أو في موضع الرفع على تقدير أن الأمر كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءاخَرِينَ ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء وهم بنو إسرائيل كانوا مستعبدين في أيديهم فأهلكهم الله على أيديهم وأورثهم ملكهم وديارهم
ثم قال تعالى فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالاْرْضُ وفيه وجوه الأول قال الواحدي في ( البسيط ) روى أنس بن مالك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل فيه عمله فإذا مات فقداه وبكيا عليه ) وتلا هذه الآية قال وذلك لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً فتبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب ولا عمل صالح فتبكي عليهم وهذا قول أكثر المفسرين
القول الثاني التقدير فم بكت عليهم أهل السماء وأهل الأرض فحذف المضاف والمعنى ما بكت عليهم الملائكة ولا المؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين
والقول الثالث أن عادة النس جرت بأن يقولوا في هلاك الرجل العظيم الشأن إنه أظلمت له الدنيا وكسفت الشمس والقمر لأجله وبكت الريح والسماء والأرض ويريدون المبالغة في تعظيم تلك المصيبة لا نفس هذا الكذب ونقل صاحب ( الكشاف ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض )
وقال جرير
الشمس طالعة ليس بكاسفة
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وفيه ما يشبه السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم وكانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض فما كانوا في هذا الحد بل كانوا دون ذلك وهذا إنما يذكر على سبيل التهكم(27/211)
ثم قال وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ أي لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك وتقصير
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَءَاتَيْنَاهُم مِّنَ الاٌّ يَاتِ مَا فِيهِ بَلَؤٌ اْ مُّبِينٌ إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِى َ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاٍّ وْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فَأْتُواْ بِأابَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
علم أنه تعالى لما بيّن كيفية إهلاك فرعون وقومه بيّن كيفية إحسانه إلى موسى وقومه واعلم أن دفع الضرر مقدم على إيصال النفع فبدأ تعالى ببيان دفع الضرر عنهم فقال وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والإتعاب في الأعمال الشاقة
ثم قال مِن فِرْعَوْنَ وفيه وجهان الأول أن يكون التقدير من العذاب المهين الصادر من فرعون الثاني أن يكون فرعون بدلاً من لعذاب المهين كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء مِنْ عَذَابِ الْمُهِينِ وعلى هذه القراءة ( فالمهين ) هو فرعون لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين وفي قراءة ابن عباس مِن فِرْعَوْنَ وهو بمعنى الاستفهام وقوله إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ جوابه كأن التقدير أن يقال هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته ثم عرف حاله بقوله إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ أي كان عالي الدرجة في طبقة المفسرين ويجوز أن يكون المراد فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً لقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ ( القصص 4 ) وكان أيضاً مسرفاً ومن إسرافه أنه على حقارته وخسته ادعى الإلهية ولما بيّن الله تعالى أنه كيف دفع الضرر عن بني إسرائيل وبيّن أنه كيف أوصل إليهم الخيرات فقال وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وفيه بحثان
البحث الأول أن قوله عَلَى عِلْمٍ في موضع الحال ثم فيه وجهان أحدهما أي عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم والثاني أن يكون المعنى مع علمنا بأنهم قد يزيغون ويصدر عنهم الفرطات في بعض الأحوال
البحث الثاني ظاهر قوله وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ يقتضي كونهم أفضل من كل(27/212)
العالمين فقيل المراد على عالمي زمانهم وقيل هذا عام دخله التخصيص كقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( آل عمران 110 )
ثم قال تعالى وَءاتَيْنَاهُم مِنَ الاْيَاتِ مثل فلق البحر وتظليل الغعمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من الآيت القاهرة لتي ما أظهر الله مثلها على أحد سواهم وَءاتَيْنَاهُم مِنَ أي نعمة ظاهرة لأنه تعالى لما كان يبلو بالمحنة فقد يبلو أيضاً بالنعمة اختباراً ظاهراً ليتميز لصديق عن الزنديق وههنا آخر الكلام في قصة موسى عليه السلام ثم رجع إلى ذكر كفار مكة وذلك لأن الكلام فيهم حيث قال بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ أي بل هم في شك من البعث والقيامة ثم بيّن كيفية إصرارهم على كفرهم ثم بيّن أن قوم فرعون كانوا في الإصرار على الكفر على هذه القصة ثم بيّن كيف أهلكهم وكيف أنعم على بني إسرائيل ثم رجع إلى الحديث الأول وهو كون كفار مكة منكرين للبعث فقال إِنَّ هَؤُلاَء لَيَقُولُونَ إِنْ هِى َ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاْوْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فإن قيل القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية فكان من حقهم أن يقولوا إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين قلنا إنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تعقبها حياة كما أنكم حال كونكم نطفاً كنتم أمواتاً وقد تعقبها حياة وذلك قوله وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ هِى َ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاْوْلَى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقيب الحياة لها إلا الموتة الأولى خاصة فلا فرق إذاً بين هذا الكلام وبين قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا هذا ما ذكره صاحب ( الكشاف ) ويمكن أن يذكر فيه وجه آخر فيقال قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ سِيَرتَهَا الاْولَى يعني أنه لا يأتينا شيء من الأحوال إلا الموتة الأولى نهذا الكلام يدل على أنهم لا تأتيهم الحياة الثانية ألبتة ثم صرحوا بهذا المزمور فقالوا وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ فلا حاجة إلى التكلف الذي ذكره صاحب ( الكشاف )
ثم قال تعالى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ يقال نشر الله الموتى وأنشرهم إذا بعثهم ثم إن الكفار احتجوا على نفي الحشر والنشر بأن قالوا إن كان البعث والنشور ممكنً معقولاً فجعلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بأن نسألوا ربكم ذلك حتى يصير ذلك دليلاً عندنا على صدق دعواكم في النبوة والبعث في القيامة قيل طلبوا من الرسول لله أن يدعو الله حتى ينشر قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي صحة البعث ولما حكى عنهم ذلك قال أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ والمعنى أن كفار مكة لم يذكروا في نفي الحشر والنشر شبهة حتى يحتاج إلى الجواب عنها ولكنهم أصروا على الجهل والتقليد في ذلك الإنكار فلهذا السبب اقتصر لله تعالى على الوعيد فقال إن سائر الكفار كانوا أقوى من هؤلاء ثم إن الله تعالى أهلكهم فكذلك يهلك هؤلاء فقوله تعالى صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ استفهام على سبيل الإنكار قال أبو عبيدة ملوك اليمن كان كل واحد منهم يسمى تبعاً لأن أهل الدنيا كانوا يتبعونه وموضع تبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظم من ملوك العرب قالت عائشة كان تبع رجلاً صالحاً وقال كعب ذم الله قومه ولم يذمه قال الكلبي هو أبو كرب أسعد وعن(27/213)
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم ما أدري أكان تبع نبياً أو غير نبي ) فإن قيل ما معنى قوله أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ مع أنه لا خير في الفريقين قلنا معناه أهم خير في القوة والشوكة كقوله أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ ( القمر 43 ) بعد ذكر آل فرعون ثم إنه تعالى ذكر الدليل القاطع على القول بالبعث والقيامة فقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ولو لم يحصل البعث لكان هذا الخلق لعباً وعبثاً وقد مرّ تقرير هذه لطريقة بالاستقصاء في أول سورة يونس وفي آخر سورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حيث قال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون 115 ) وفي سورة ص حيث قال دوما خلقنا السماء والأرض وما بينهم باطلاً ( ص 27 )
ثم قال ( ص 27 )
ثم قال مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ والمراد أهل مكة وأما استدلال المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر والفسق ولا يريدهما فهو مع جوابه معلوم والله أعلم
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاٌّ ثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْى ِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَاذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ
اعلم أن المقصود من قوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ( الدخان 38 ) إثبات القول بالبعث والقيامة فلا جرم ذكر عقيبه قوله إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ وفي تسمية يوم القيامة بيوم الفصل وجوه الأول قال الحسن يفصل الله فيه بين أهل الجنة وأهل النار الثاني يفصل في الحكم والقضاء بين عباده الثالث أنه في حق المؤمنين يوم الفصل بمعنى أنه يفصل بينه وبين كل ما يكرهه وفي حق الكفار بمعنى أنه يفصل بينه وبين كل ما يريده الرابع أنه يظهر حال كل أحد كما هو فلا يبقى في حاله ريبة ولا شبهة فتنفصل الخيالات والشبهات وتبقى الحقائق والبينات قال ابن عباس رضي الله عنهما المعنى أن يوم يفصل الرحمن بين عبداه ميقاتهم أجمعين البر والفاخر ثم وصف ذلك اليوم فقال أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً يريد قريب عن قريب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ أي ليس لهم ناصر والمعنى أن الذي يتوقع منه النصرة إما القريب في الدين أو في النسب أو المعتق وكل هؤلاء يسمون بالمولى فلما لم تحصل النصرة منهم فبأن لا تحصل ممن سواهم أولى وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا إلى قوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( البقرة 123 ) قال الواحدي والمراد بقوله مَوْلًى عَن مَّوْلًى الكفار ألا(27/214)
ترى أنه ذكر المؤمن فقال إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المؤمن فإنه تشفع له الأنبياء والملائكة
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على أن القول بالقيامة حق ثم أردفه بوصف ذلك اليوم ذكر عقيبه وعيد الكفار ثم بعده وعد الأبرار أما وعيد الكفار فهو قوله إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرىء إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ بكسر الشين ثم قال وفيها ثلاث لغات شجرة بفتح الشين وكسرها وشيرة بالياء وشبرة بالباء
المسألة الثانية لبحث عن اشتقاق لفظ الزقوم قد تقدم في سورة والصافات فلا فائدة في الإعدة
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية تدل على حصول هذا الوعيد الشديد للأثيم والأثيم هو الذي صدر عنه الإثم فيكون هذا الوعيد حاصلاً للفساق والجواب أنا بينا في أصول الفقه أن اللفظ المفرد الذي دخل عليه حرف التعريف الأصل فيه أن ينصرف إلى المذكور السابق ولا يفيد المعموم وههنا المذكور السابق هو الكافر فينصرف إليه
المسألة الرابعة مذهب أبي حنيفة أن قرأة القرآن بالمعنى جائز واحتج عليه بأنه نقل أن ابن مسعود كان يقرىء رجلاً هذه الآية فكان يقول طعام اللئيم فقال قل طعام الفاجر وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بيناه في أصول الفقه
ثم قال كَالْمُهْلِ قرىء بضم الميم وفتحها وسبق تفسيره في سورة الكهف وقد شبه الله تعالى هذا الطعام بالمهل وهو دردى الزيت وعكر القطران ومذاب النحاس وسائر الفلزات وتمّ الكلام ههنا هم أخبر عن غليانه في بطون الكفار فقال يَغْلِى فِى الْبُطُونِ وقرىء بالتاء فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الشجرة ومن قرأ بالياء حمله على الطعام في قوله طَعَامُ الاْثِيمِ لأن الطعام هو ( ثمر ) الشجرة في المعنى واختار أبو عبيد الياء لأن الاسم المذكور يعني المهل هو الذي بل الفعل فصار التذكير به أولى واعلم أنه لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل لأن المهل مشبه به وإنما يغلي ما يشبه بالمهل كغلي الحميم والماء إذا اشتد غليانه فهو حميم
ثم قال خُذُوهُ أي خذوا الأثيم فَاعْتِلُوهُ قرىء بكسر التاء قال الليث العتل أن تأخذ بمنكث الرجل فتعتله أي تجره إليك وتذهب به إلى حبس أو منحة وأخذ فلان بزمان النقة يعتلها وذلك إذا قبض على أصل الزمام عند الرأس وقادها قوداً عنيفاً وقال ابن السكيت عتلته إلى السجن وأعتلته إذا دعته دفعاً عنيفاً هذا قول جميع أهل اللغة في العتل وذكروا في اللغتين ضم التاء وكسرها وهما صيحيان مثل يعكفون ويكعفون ويعرضون ويعرشون
قوله تعالى إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ أي إلى وسط الجحيم ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ وكان الأصل أن يقال ثم صبوا من فوق رأسه الحميم أو يصب من فوق رؤوسهم الحميم إلا أن هذه الاستعارة أكمل في المبالغة كأنه يقول صبوا عليه عذاب ذلك الحميم ونظيره قوله تعالى رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ( البقرة 25 ) و ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) وذكروا فيه وجوهاً الأول أنه يخاطب بذلك على(27/215)
سبيل الاستهزاء والمراد إنك أنت بالضد منه والثاني أن أبا جهل قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً والثالث أنك كنت تعتز لا بالله فانظر ما وقعت فيه وقرىء أنك بمعنى لأنك
ثم قال إِنَّ هَاذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي أن هذا العذاب ما كنتم به تمترون أي تشكون ولمراد منه ما ذكره في أول السورة حيث قال بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ ( الدخان 9 )
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَة ٍ ءَامِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاٍّ ولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في لآيات المتقدمة ذكر الوعد في هذه الآيات فقال إِنَّ الْمُتَّقِينَ قال أصحابنا كل من اتقى الشرك فقد صدق عليه اسم المتقي فوجب أن يدخل الفاسق في هذا الوعد
واعلم أنه تعالى ذكر من أسباب تنعمهم أربعة أشياء أولها مساكنهم فقال فِى مَقَامٍ أَمِينٍ
واعلم أن المسكين إنما يطيب بشرطين أحدهما أن يكون آمناً عن جميع ما يخاف ويحذر وهو المراد من قوله فِى مَقَامٍ أَمِينٍ قرأ الجمهور في مقام بفتح الميم وقرأ نافع وابن عامر بضم الميم قال صاحب ( الكشاف ) المقام بفتح الميم هو موضع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي جعل مستعملاً في المعنى العام وبالضم هو موضع الإقامة والأمين من قولك أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنه يخون صاحبه والشرط الثاني لطيب المكان أن يكون قد حصل فيه أسباب النزهة وهي الجنات والعيون فلما ذكر تعالى هذين الشرطين في مساكن أهل الجنة فقد وصفها بما لا يقبل الزيادة
والقسم الثاني من تنعماتهم الملبوسات فقال يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ قيل السندس ما رقّ من الديباج والإستبرق ما غلظ منه وهو تعريب استبرك فإن قالوا كيف جاز ورود الأعجمي في القرآن قلنا لما عرب فقد صار عربياً(27/216)
والقسم الثالث فهو جلوسهم على صفة التقابل والغرض منه استئناس البعض بالبعض فإن قاوا الجلوس على هذا الوجه موحش لأنه يكون كل واحد منهم مطلعاً على ما يفعله الآخر وأيضاً فالذي يقل ثوابه إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه يتنغص عيشه قلنا أحوال الآخرة بخلاف أحوال الدنيا
والقسم الرابع أزواجهم فقال كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ الكاف فيه وجهان أن تكون مرفوعة والتقدير الأمر كذلك أو منصوبة والتقدير آتيناهم مثل ذلك قال أبو عبيدة جعلناهم أزواجاً كما يزوج البعل بالبعل أي جلعناهم اثنين اثنين واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزويج أم لا قال يونس قوله وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم بهن فليس من عقد التزويج والعرب لا تقول تزوجت بها وإنما تقول تزوجتها قال الواحدي رحمه لله والتنزيل يدل على ما قال يونس وذلك قوله فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ( الأحزاب 37 ) ولو كان المراد تزوجت بها زوجناك بها وأيضاً فقول القائل زوجته به معناه أنه كان فرداً فزوجته بآخر كما يقال شفعته بآخر وأما الحور فقال الواحدي أصل الحور بياض والتحوير التبييض وقد ذكرنا ذلك في تفسير الحوارين وعين حوراء إذا اشتد بياض بياضها واشتد سواد سوادها ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون حور عينهيا بياضاً في لون الجسد والدليل على أن المراد بالحور في هذه الآية البيض قراءة ابن مسعود بعيس عين والعيس البيض وأما العين فجمع عيناء وهي التي تكون عظيمة العينين في النساء فقال الجبائي رجل أعين إذا كان ضخم العين واسعها والأنثى عيناء والجمع عين ثم اختلفوا في هؤلاء الحور العين فقال الحسن هن عجائزكم الدرد ينشئهن الله خلقاً آخر وقال أبو هريرة إنهن ليسوا من نساء الدنيا
والنوع الخامس من تنعمات أهل الجنة المأكول فقال يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَة ٍ ءامِنِينَ قالوا إنهم يأكلون جميع أنواع الفاكهة لأجل أنهم آمنون من التخم والأمراض
ولما وصف الله تعالى أنواع ما هم فيه من الخيرات والراحات بين أن حياتهم دائمة فقال لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى وفيه سؤالان
السؤال الأول أنهم ما ذاقوا الموتة الأولى في الجنة فكيف حسن هذا الاستثناء وأجيب عنه من وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) أريد أن يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل إن كانت الموتة الأولى يمكن ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها الثاني أن إلا بمعنى لكن والتقدير لا يذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها والثالث أن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله تعالى وبطاعته ومحبته وإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان الذي فاز بهذه السعادة فهو في الدنيا في الجنة وفي الآخرة أيضاً في الجنة وإذا كان لأمر كذلك فقد وقعت الموتة الأولى حين كان الإنسان في لجنة الحقيقية التي هي جنة المعرفة بالله ولمحبة فذكر هذا الاستثناء كالتنبيه على قولنا إن الجنة الحقيقية هي حصول هذه الحالة لا الدار التي هي دار الأكل والشرب ولهذا السبب قال عليه السلام ( أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ) والرابع أن من جرب شيئاً ووقف عليه صح أن يقال إنه ذاقه وإذا صح أن يسمى العلم بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضاً بالذوق فقوله لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى يعني إلا الذوق(27/217)
الحاصل بسبب تذكر الموتة الأولى
السؤال الثاني أليس أن أهل النار أيضاً لا يموتون فلم بشر أهل الجنة بهذا مع أهل النار يشاركونهم فيه والجواب أن البشارة ما وقعت بدوام الحياة مع سابقة حصول تلك الخيرات والسعادات فظهر الفرق
ثم قال تعالى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ قرىء ووقاهم بالتشديد فإن قالوا مقتضى الدليل أن يكون ذكر الوقاية عن عذاب الجحيم متقدمً على ذكر الفوز بالجنة لأن الذي وقى عن عذاب الجحيم قد يفوز وقد لا يفوز فإذا ذكر بعده أنه قاز بالجنة حصلت الفائدة أما الذي فاز بخيرات الجنة فقد تخلص عن عقاب الله لا محالة فلم يكن ذكر الفوم عن عذاب جهنم بعد الفوز بثواب الجنة مفيداً قلنا التقدير كأنه تعالى قال ووقاهم في أول الأمر عن عذاب الجحيم
ثم قال الْجَحِيمِ فَضْلاً مّن رَّبّكَ يعني كل ما وصل إليه المتقون من الخلاص عن النار والفوز بالجنة فإنما يحصل بتفضل الله واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الثواب يحصل تفضلاً من الله تعالى لا بطريق الاستحقاق لأنه تعالى لما عدد أقسام ثواب المتقين بين أنها بأسرها إنما حصلت على سبيل الفضل والإحسان من الله تعالى قال القاضي أكثر ههذ الأشياء وإن كانوا قد استحقوه بعملهم فهو بفضل الله لأنه تعالى تفضل بالتكليف وغرضه منه أن يصيرهم إلى هذه المنزلة فهو كمن أعطى غيره مالاً ليصل به إلى ملك ضيعة فإنه يقال في تلك الضيعة إنها من فضله قلنا مذهبك أن هذا الثواب حق لازم على الله وإنه تعالى لو أخل به لصار سفيهاً ولخرج به عن الإلهية فكيف يمكن وصف مثل هذا الشيء بأنه فضل من الله تعالى
ثم قال تعالى ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن التفضيل أعلى درجة من الثواب المستحق فإنه تعالى وصفه بكونه فضلاً من الله ثم وصف الفضل من الله بكونه فوزاً عظيماً ويدل عليه أيضاً أن الملك العظيم إذا أعطى الأجير أجرته ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى حالاً من إعطاء تلك الأجرة ولما بين الله تعالى الدلائل وشرح الوعد والوعيد قال فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ والمعنى أنه تعالى وصف القرآن في أول هذه السورة بكونه كتاباً مبيناً أي كثير البيان والفائدة وذكر في خاتمتها ما يؤكد ذلك فقال إن ذلك الكتاب المبين الكثير الفائدة إنما يسرناه بلسانك أي إنما أنزلنا عربياً بلغتك لعلّهم يتذكرون قال القاضي وهذا يدل على أنه أراد من الكل الإيمان والمعرفة وأنه ما أراد من أحد الكفر وأجاب أصحابنا أن الضمير في قوله لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عائد إلى أقوام مخصوصين فنحن نحمل ذلك على المؤمنين
ثم قال فَارْتَقِبْ أي فانتظر ما يحل بهم إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ ما يحل بك متربصون بك الدوائر والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى تم تفسير هذه السورة ليلة الثلاثاء في نصف الليل الثاني عشر من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة يا دائم المعروف يا قديم الإحسان شهد لك إشراق العرش وضوء الكرسي ومعارج السموات وأنوار الثوابت والسيارات على منابرها المتوغلة في العلو الأعلى ومعارجها المقدسة عن غبار عالم الكون والفساد بأن الأول الحق الأزلي لا يناسبه شيء من علائق العقول وشوائب(27/218)
الخواطر ومناسبات المحدثات فالقمر بسبب محوه مقر بالنقصان والشمس بشهادة المعارج بتغيراتها معترفة بالحاجة إلى تدبير الرحمن والطبائع مقهورة تحت القدرة القاهرة فالله في غيبيات المعارج العالية والمتغيرات شاهدة بعدم تغيره والمتعاقبات ناطقة بدوام سرمديته وكل ما نوجه عليه أنه مضى وسيأتي فهو خالقه وأعلى منه فبجوده الوجود وإيجاد وبإعدامه الفناء والفساد وكل ما سواه فهو تائه في جبروته نائر عند طلوع نور ملكوته وليس عند عقول الخلق إلا أنه بخلاف كل الخلق له العز والجلال والقدرة والكمال والجود والإفضال ربنا ورب مبادينا إياك نروم ولك نصلي ونصوم وعليك المعول وأنت المبدأ الأول سبحانك سبحانك(27/219)
الجاثية
ثلاثون وسبع آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض لاّيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّة ٍ ءَايَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ءّايَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَى ِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله دحم تنزيل الكتاب وجوهاً الأول أن يكون وجوهاً الأول أن يكون حم مبتدأ و تَنزِيلُ الْكِتَابِ خبره وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف مضاف والتقدير تنزيل حم تنزيل الكتاب و مِنَ اللَّهِ صلة للتنزيل الثاني أن يكون قوله حم في تقدير هذه حم ثم نقول تَنزِيلُ الْكِتَابِ واقع من الله العزيز الحكيم الثالث أن يكون حم قسماً أُمُّ الْكِتَابِ نعتاً له وجواب القسم إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ والتقدير وحم الذي هو تنزيل الكتاب أن الأمر كذا وكذا
المسألة الثانية قوله العَزِيزُ الحَكِيمُ يجوز جعلهما صفة للكتاب ويجوز جعلهما صفة لله تعالى إلا أن هذا الثاني أولى ويدل عليه وجوه الأول أنا إذا جعلناهما صفة لله تعالى كان ذلك حقيقة وإذا جعلناهما صفة للكتاب كان ذلك مجازاً والحقيقة أولى من المجاز الثاني أن زيادة القرب توجب(27/220)
الرجحان الثالث أنا إذا جعلنا العزيز الحكيم صفة لله كان ذلك إشارة إلى الدليل الدال على أن الفرآن حق لأن كونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على كل الممكنات وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات ويحصل لنا من مجموع كونه تعالى عزيزاً حكيماً كونه قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات وكل ما كان كذلك امتنع منه صدور العبث والباطل وإذا كان كذلك كان ظهور المعجز دليلاً على الصدق فثبت أنا إذا جعلنا كونه عزيزاً حكيماً صفتين لله تعالى يحصل منه هذه الفائدة وأما إذا جعلناهما صفتين للكتاب لم يحصل منه هذه الفائدة فكان الأول أولى والله أعلم
ثم قال تعالى إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ وفيه مباحث
البحث الأول أن قوله إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَيَاتٍ يجوز إجراؤه على ظاهره لأنه حصل في ذوات السموات والأرض أحوال دالة على وجود الله تعالى مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها وأيضاً الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار موجودة في السموات والأرض وهي آيات ويجوز أن يكون المعنى إن في خلق السموات والأرض كما صرّح به في سورة البقرة في قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 164 ) وهو يدل على وجود القادر المختار في تفسير قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 )
البحث الثاني قد ذكرنا الوجوه الكثيرة في دلالة السموات والأرض على وجود الإله القادر المختار في تفسير قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ولا بأس بإعادة بعضها فنقول إنها تدل على وجود الإله من وجوه الأول أنها أجسام لا تخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فهذه الأجسام حادثة وكل حادث فله محدث الثاني أنها مركبة من الأجزاء وتلك الأجزاء متماثلة لما بينا أن الأجسام متماثلة وتلك الأجزاء وقع بعضها في العمق دون السطح وبعضها في السطح دون العمق فيكون وقوع كل جزء في الموضع الذي وقع فيه من الجائزات وكل جائز فلا بد له من مرجح ومخصص الثالث أن الأفلاك والعناصر مع تماثلها في تمام الماهية الجسمية اختص كل واحد منها بصفة معينة كالحرارة والبرودة واللطافة والكثافة الفلكية والعنصرية فيكون ذلك أمراً جائزاً ولا بد لها من مرجح الرابع أن أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مثل كمودة زحل وبياض المشتري وحمرة المريخ والضوء الباهر للشمس ودرية الزهرة وصفرة عطارد ومحو القمر وأيضاً فبعضها سعيدة وبعضها نحسة وبعضها نهاري ذكر وبعضها ليلي أنثى وقد بينا أن الأجسام في ذواتها متماثلة فوجب أن يكون اختلاف الصفات لأجل أن الإله القادر المختار خصص كل واحد منها بصفته المعينة الخامس أن كل فلك فإنه مختص بالحركة إلى جهة معينة ومختص بمقدار واحد من السرعة والبطء وكل ذكل أيضاً من الجائزات فلا بد من الفاعل المختار السادس أن كل فلك مختص بشيء معين وكل ذلك أيضاً من الجائزات فلا بد من الفاعل المختار وتمام الوجوه مذكور في تفسير تلك الآيات
البحث الثالث قوله لاَيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ يقتضي كون هذه الآيات مختصة بالمؤمنين وقالت المعتزلة إنها آيات للمؤمن والكافر إلا أنه ملا انتفع(27/221)
بها المؤمن دون الكافر أضيف كونها آيات إلى المؤمنين ونظيره قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) فإنه هدى ً لكل الناس كما قال تعالى هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة 185 ) إلا أنه لما انتفع بها المؤمن خاصة لا جرم قيل هُدًى لّلْمُتَّقِينَ فكذا ههنا وقال الأصحاب الدليل والآية هو الذي يترتب على معرفته حصول العلم وذلك العلم إنما يحصل بخلق الله تعالى لا بإيجاب ذلك الدليل والله تعالى إنما خلق ذلك العلم للمؤمن لا للكافر فكان ذلك آية دليلاً في حق المؤمن لا في حق الكافر والله أعلم
ثم قال تعالى وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّة ٍ ءايَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وفيه مباحث
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) قوله وَمَا يَبُثُّ عطف على الخلق المضاف لا على الضمير المضاف إليه لأن المضاف ضمير متصل مجرور والعطف عليه مستقبح فلا يقال مررت بك وزيد ولهذا طعنا في قراءة حمزة تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) بالجر في قوله وَالاْرْحَامَ وكذلك إن الذيثن استقبحوا هذا العطف فلا يقولون مررت بك أنت وزيد
البحث الثاني قرأ حمزة الكسائي ءايَاتُ بكسر التاء وكذلك الذي بعده وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ ءايَاتٌ والباقون بالرفع فيهما أما الرفع فمن وجهين ذكرهما المبرد والزجاج وأبو علي أحدهما العطف على موضع إن وما عملت فيه لأن موضعهما رفع بالابتداء فيحمل الرفع فيه على الموضع كما تقول إن زيداً منطلق وعمر و أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ( التوبة 3 ) لأن معنى قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِىء أن يقول الله برىء من المشركين ورسوله والوجه الثاني أن يكون قوله وَفِى خَلْقِكُمْ مستأنفاً ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة أخرى كما تقول إن زيداً منطلق وعمرو كاتب جعلت قولك وعمرو كاتب كلاماً آخر كما تقول زيد في الدار وأخرج غداً إلى بلد كذا فإنما حدثت بحديثين ووصلت أحدهما بالآخر بالواو وهذا الوجه هو اختيار أبي الحسن والفراء وأما وجه القراءة بالنصب فهو بالعطف على قوله إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ على معنى وإن في خلقكم لآيات ويقولون هذه القراءة إنها في قراءة أُبي وعبد الله لاَيَاتٍ ودخول اللام يدل على أن الكلام محمول على إن
البحث الثالث قوله وَفِى خَلْقِكُمْ معناه خلق الإنسان وقوله وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّة ٍ إشارة إلى خلق سائر الحيوانات ووجه دلالتها على وجود الإله القادر المختار أن الأجسام متساوية فاختصاص كل واحد من الأعضاء بكونه المعين وصفته المعينة وشكله المعين لا بد وأن يكون بتخصيص القادر المختار ويدخل في هذا الباب انتقاله من سن إلى سن آخر ومن حال إلى حال آخر والاستقصاء في هذا الباب قد تقدم
ثم قال تعالى وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وهذا الاختلاف يقع على وجوه أحدها تبدل النهار بالليل وبالضد منه وثانيها أنه تارة يزداد طول النهار على طول الليل وتارة بالعكس وبمقدار ما يزداد في النهار الصيفي يزداد في الليل الشتوي وثالثها اختلاف مطالع الشمس في أيام السنة
ثم قال تعالى وَمَا أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مَّن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وهو يدل على القول بالفاعل المختار من وجوه أحدها إنشاء السحاب وإنزال المطر منه وثانيها تولد النبات من تلك الحبة الواقعة في الأرض وثالثها تولد الأنواع المختلفة وهي ساق الشجرة وأغصانها وأوراقها وثمارها ثم تلك الثمرة منها ما يكون القشر محيطاً باللب كالجوز واللوز ومنها ما يكون اللب محيطاً بالقشر كالمشمش والخوخ ومنها ما يكون خالياً من القشر كالتين فتولد أقسام النبات على كثرة أصنافها وتباين أقسامها يدل على صحة القول بالفاعل المختار الحكيم الرحيم(27/222)
ثم قال وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وهي تنقسم إلى إقسام كثيرة بحسب تقسيمات مختلفة فمنها المشرقية والمغربية والشمالية والجنوبية ومنها الحارة والباردة ومنها الرياح النافعة والرياح الضارة ولما ذكر الله تعالى هذه الأنواع الكثيرة من الدلائل قال إنها آيات لقوم يعقلون
واعلم أن الله تعالى جمع هذه الدلائل في سورة البقرة فقال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا ( البقرة 164 ) فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل والتفاوت بين الموضعين من وجوه الأول أنه تعالى قال في سورة البقرة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقال ههنا إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ والصحيح عند أصحابنا أن الخلق عين المخلوق وقد ذكر لفظ الخلق في سورة البقرة ولم يذكره في هذه السورة تنبيهاً على أنه لا يتفاوت بين أن يقال السموات وبين أن يقال خلق السموات فيكون هذا دليلاً على أن الخلق عين المخلوق الثاني أنه ذكر هناك ثمانية أنواع من الدلائل وذكر ههنا ستة أنواع وأهمل منها الفلك والسحاب والسبب أن مدار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة فذكر الرياح الذي هو كالسبب يغني عن ذكرهما والتفاوت الثالث أنه جمع الكل وذكر لها مقطعاً واحداً وههنا رتبها على ثلاثة مقاطع والغرض التنبيه على أنه لا بد من إفرادكلواحد منها بنظر تام شاف الرابع أنه تعالى ذكر في هذا الموضوع ثلاثة مقاطع أولها يؤمنون وثانيها يوقنون وثالثها يعقلون وأظن أن سبب هذا الترتيب أنه قيل إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين بل أنتم من طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل وإن منتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل واعلم أن كثيراً من الفقهاء يقولون إنه ليس في القرآن العلوم التي يبحث عنها المتكلمون بل ليس فيه إلا ما يتعلق بالأحكام والفقه وذلك غفلة عظيمة لأنه ليس في القرآن سورة طويلة منفردة بذكر الأحكام وفيه سور كثيرة خصوصاً المكيات ليس فيها إلا ذكر دلائل التوحيد والنبوّة والبعث والقيامة وكل ذلك من علوم الأصوليين ومن تأمل علم أنه ليس في يد علماء الأصول إلا تفصيل ما اشتمل القرآن عليه على سبيل الإجمال
ثم قال تعالى تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ والمراد من قوله بِالْحَقّ هو أن صحتها معلومة بالدلائل العقلية وذلك لأن العلم بأنها حقة صحيحة إما أن يكون مستفاداً من النقل أو العقل والأول باطل لأن صحة الدلائل النقلية موقوفة على سبق العلم بإثبات الإله العالم القادر الحكيم وبإثبات النبوّة وكيفية دلالة المعجزات على صحتها فلو أثبتنا هذه الأصول بالدلائل النقلية لزم الدور وهو باطل ولما بطل هذا ثبت أن العلم بحقيقة هذه الدلائل لا يمكن تحصيله إلا بمحض العقل وإذا كان كذلك كان قوله تِلْكَ ءايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ ومن أعظم الدلائل على الترغيب في علم الأصول وتقرير المباحث العقلية
ثم قال تعالى تَلْكَ ءايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ يعني أن لم ينتفع بهذه الآيات فلا شيء بعده يجوز أن ينتفع به وأبطل بهذا قول من يزعم أن التقليد كاف وبين أنه يجب على المكلف التأمل في دلائل دين الله وقوله يُؤْمِنُونَ قرىء بالياء والتاء واختار أبو عبيدة الياء لأن قبله غيبة وهو قوله لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(27/223)
و لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإن قيل إن في أول الكلام خطاباً وهو قوله وَفِى خَلْقِكُمْ قلنا الغيبة التي ذكرنا أقرب إلى الحرف المختلف فيه والأقرب أولى ووجه قول من قرأ على الخطاب أن قل فيه مقدر أي قل لهم فبأي حديث بعد ذلك تؤمنون
وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بيّن الآيات للكفار وبين أنهم بأي حديث يؤمنون إذا لم يؤمنوا بها مع ظهورها أتبعه بوعيد عظيم لهم فقال وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الأفاك الكذب والأثيم المبالغ في اقتراف الآثام واعلم ن هذا الأثيم له مقامان
المقام الأول أن يبقى مصراً على الإنكار والاستكبار فقال تعالى يَسْمَعُ ءايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ أي يقيم على كفره إقاملاة بقوة وشدة مستكراً عن الإيمان بالآيات معجباً بما عنده قيل نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن والآية عامة في كل من كان موصوفاً بالصفة المذكورة فإن قالوا ما معنى ثم في قوله عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً قلنا نظيره قوله تعالى الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إلى قوله ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( الأنعام 1 ) ومعناه أنه تعالى لما كان خالقاً للسموات والأرض كان من المستبعد أن يقابل بالإنكار والإعراض
ثم قال تعالى كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا الأصل كأنه لم يسمعها ضمير الشأن ومحل الجملة النصب على الحال أي يصير مثل غير السامع
المقام الثاني أن ينتقل من مقام الإصرار والاستكبار إلى مقام الاستهزاء فقال وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءايَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً وكان من حق الكلام أن يقال اتخذه خزواً أي اتخذ ذلك الشيء هزواً إلا أنه تعالى قال اتَّخَذَهَا للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد(27/224)
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ أولئك إشارة إلى كل أفاك أثيم لشموله جميع الأفاكين ثم وصف كيفية ذلك العذاب المهين فقال مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ أي من قدامهم جهنم قال صاحب ( الكشاف ) الوراء اسم للجهة التي توارى بها الشخص من خلف أو قدام ثم بيّن أن ما ملكوه في الدنيا لا ينفعهم فقال وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً
ثم بيّن أن أصنامهم لا تنفعهم فقال وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء
ثم قال وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ فإن قالوا إنه قال قبل هذه الآية لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ فما الفائدة في قوله بعده وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ قلنا كون العذاب مهيناً يدل على حصول الإهانة مع العذاب وكونه تظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في كونه ضرراً
ثم قال هَاذَا هُدًى أي كامل في كونه هدى ً وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ والرجز أشد العذاب بدلالة قوله تعالى فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء ( القرة 59 ) وقوله لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ ( الأعراف 134 ) وقرىء أَلِيمٌ بالجر والرفع أما الجر فتقديره لهم عذاب من عذاب أليم وإذاكان عذابهم من عذاب أليم كان عذابهم أليماً ومن رفع كان المعنى له عذاب أليم ويكون المراد من الرجز الرجس الذي هو النجاسة ومعنى النجاسة فيه قوله وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ ( إبراهيم 16 ) وكأن المعنى لهم عذاب من تجرع رجس أو شرب رجس فتكون من تبييناً للعذاب
اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِى َ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِى َ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى ذكر الاستدلال بكيفية جريان الفلك على وجه البحر وذلك لا يحصل إلا بسبب تسخير ثلاثة أشياء أحدها الرياح التي تجري على وفق المراد ثانيها خلق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها الفلك ثالثها خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغوص فيه
وهذه الأحوال الثلاثة لا يقدر عليها واحد من البشر فلا بد من موجد قادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى وقوله وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ معناه إما بسبب التجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان أو لأجل استخراج اللحم الطري(27/225)
ثم قال تعالى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ والمعنى لولا أن الله تعالى أوقف أجرام السموات والأرض في مقارها وأحيازه لم حصل الانتفاع لأن بتقدير كون الأرض هابطة أو صاعدة لم يحصل الانتفاع بها وبتقدير كون الأرض من الذهب والفضة أو الحديد لم يحصل الانتفاع وكل ذلك قد بيناه فإن قيل ما معنى مِنْهُ في قوله جَمِيعاً مّنْهُ قلنا معناه أنها وقعة موقع الحال والمعنى أنه سخّر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه تعالى مكونها وموجودها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه قال صاحب ( الكشاف ) قرأ سلمة بن محارب منه على أن يكون منه فعل سخر على الإسناد المجازي أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذلك منه أو هو منه
واعلم أنه تعالى لم علم عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة أتبع ذلك بتعليم الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة بقوله قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ والمراد بالذين لا يرجون أيام الله الكفار واختلفوا في سبب نزول الآية قال ابن عباس قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يعني عمر يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ يعني عبد لله بن أُبي وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها المريسيع فأرسل عبد الله غلامة ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حبسك قال غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحد يستقي حتى ملأ قرب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقرب أبي بكر وملأ لمولاه فقال عبد الله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله هذه الآية وقال مقاتل شتم رجل من كفار قريش عمر بمكة فهم أن يبطش به فأمر الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية
وروى ميمون بن مهران أن فنحاص اليهودي لما أنزل قوله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) قال احتاج رب محمد فسمع بذلك عمر فاشتمل على سيفه وخرج في طلبه فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في طلبه حتى رده وقوله لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ قال ابن عباس لا يرجون ثواب الله ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عقاب الأمم الخالية وذكرنا تفسير أيام الله عند قوله وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ( إبراهيم 5 ) وأكثر المفسرين يقولون إنه منسوخ وإنما قالوا ذلك لأنه يدخل تحت الغفران أو لا يقتلوا فما أمر الله بهذه المقاتلة كان نسخاً والأقرب أن يقل إنه محمول على ترك المنازعة في المحقرات على التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية والأفعال الموحشة
ثم قال تعالى لِيَجْزِى َ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أي لكي يجازي بالمغفرة قوماً يعملون الخير قإن قيل ما الفائدة في التنكير في قوله بَعْدَهَا قَوْماً مع أن المراد بهم هم المؤمنون المذكورون في قوله قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ قلنا التنكير يدل على تعظيم شأنهم كأنه قيل ليجزي قوماً وأي قوم من شأنهم الصفح عن السيئات والتجاوز عن المؤذيات وتحمل الوحشة وتجرع المكروه وقال آخرون معنى الآية قل للمؤمنين يتجاوزوا عن الكفار ليجزي الله الكفار بما كانوا يكسبون من الإثم كأنه قيل لهم لا تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن ثم ذكر الحكم العام فقال مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا مثل ضربه للكفار الذين كانوا يقدمون على إيذاء الرسول والمؤمنين وعلى ما لا يحل فبيّن تعالى أن العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله والعمل الردىء يعود بالضرر على فاعله وأنه تعالى أمر بهذا ونهى عن ذلك لحظ العبد لا لنفع يرجع إليه وهذ ترغيب منه في العمل الصالح وزجر عن العمل الباطل(27/226)
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ وَءاتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الاٌّ مْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَة ٍ مِّنَ الاٌّ مْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِى ُّ الْمُتَّقِينَ هَاذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
اعلم أنه تعالى بيّن أنه أنعم بنعم كثيرة على بني إسرائيل مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبيل البغي والحسد والمقصود أن يبين أن طريقة قومه كطريقة من تقدم
واعلم أن النعم على قسمين نعم الدين ونعم الدنيا ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا فلهذا بدأ الله تعالى بذكر نعم الدين فقل وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ والأقرب أن كل واحد من هذه الثلاثة يجب أن يكنن مغايراً لصاحبه أما الكتاب فهو التوراة وأما الحكم ففيه وجوه يجوز أن يكون المراد العلم والحكمة ويجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات ويجوز أن يكون المراد معرفة أحكام الله تعالى وهو علم الفقه وأما النبوة فمعلومة وأما نعم الدنيا فهي المراد من قوله تعالى وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ وذلك لأنه تعالى وسع عليهم في الدنيا فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ثم أنزل عليهم المن والسلوى ولما بيّن تعالى أنه أعطاهم من نعم الدين ونعم الدنيا نصيباً وافراً قال وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ يعني أنهم كانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن سواهم في وقتهم فلهذا المعنى قال المفسرون المراد وفضلناهم عن عالمي زمانهم
ثم قال تعالى وَءاتَيْنَاهُم بَيّنَاتٍ مّنَ الاْمْرِ وفيه وجوه الأول أنه آتاهم بينات من الأمر أي أدلة على أمور الدنيا الثاني قال ابن عباس يعني بيّن لهم من أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ويكون أنصاره أهل يثرب الثالث المراد وَءاتَيْنَاهُم بَيّنَاتٍ أي معجزات قاهرة على صحة نبوتهم والمراد(27/227)
معجزات موسى عليه السلام
ثم قال تعالى فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وهذا مفسر في سورة حم عسق ( الشورى 1 2 ) والمقصود من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة لأن حصول العم يوجب ارتفاع الخلاف وههنا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم وإنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم ثم ههنا احتمالات يريد أنهم علموا ثم عاندوا ويجوز أن يريد بالعلم الدلالة التي توصل إلى العلم والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق لكنهم على وجه الحسد والعناد اختلفوا وأظهروا النزاع
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ والمرد أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها فإنه سيرى في الآخرة ما يسؤوه وذلك كالزجر لهم ولما بيّن تعالى أنهم أعرضوا عن الحق لأجل البغي والسحد أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يعدل عن تلك الطريقة وأن يتمسك بالحق وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق وتقرير الصدق فقال تعالى ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَة ٍ مّنَ الاْمْرِ أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والبينات ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال وأديانهم المبنية على الأهواء والجهل قال الكلبي إن رؤساء قريش قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بمكة ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن فأنزل الله تعالى هذه الآية
ثم قال تعالى إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة فصرت مستحقاً للعذاب فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك ثم بيّن تعالى أن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وفي الآخرة ولا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب وأما المتقون لامهتدون فالله وليهم وناصرهم وهم موالوه وما أبين الفرق بين الولايتين ولما بيّن الله تعالى هذه البيانات الباقية النافعة قال هَاذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وقد فسرناه في آخر سورة الأعراف والمعنى هذا القرآن بصائر للناس جعل ما فيه من البيانات الشافية والبينات الكافية بمنزلة البصائر في القلوب كما جعل في سائر الآيات روحاً وحياة وهو هدى من الضلالة ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن ولم بيّن لله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم بيّن الفرق بينهما من وجه آخر فقال مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا وفيه مباحث
البحث الأول أَمْ كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً والتقدير ههنا أفيعلم المشركون هذا أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين
البحث الثاني الاجتراح الاكتساب ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله أي كاسبهم قال تعالى وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ( الأنعام 60 )
البحث الثالث قال الكلبي نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وفي ثلاثة من المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا للمؤمنين وا ما أنتم على شيء ولو كان ما(27/228)
تقولون حقاً لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما أنا أفضل حالاً منكم في الدنيا فأنكر الله عليهم هذا الكلام وبيّن أنه لا يمكن أن يكون حال لمؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ومنازل السعادات
واعلم أن لفظ حَسِبَ يستدعي مفعولين أحدهما الضمير المذكور في قوله أَن نَّجْعَلَهُمْ والثاني الكاف في قوله كَالَّذِينَ ءامَنُواْ والمعنى أحسب هؤلاء المجترحين أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا ونظيره قوله تعالى أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ( السجدة 18 ) وقوله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَة ُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ ( غافر 51 52 ) وقوله تعالى أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( القلم 35 36 ) وقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )
ثم قال تعلى سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم صواء بالنصب والباقون بالرفع واختيار أبي عبيد النصب أما وجه القراءة بالرفع فهو أن قوله سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله أَمْ نَجْعَلُ وهو الكاف في قوله كَالَّذِينَ ءامَنُواْ ونظيره قوله ظننت زيداً أبوه منطلق وأما وجه القراءة بالنصب فقال صاحب ( الكشاف ) أجرى سواء مجرى مستوياً فارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية وكان مفرداً غير جملة ومن قرأ وَمَمَاتُهُمْ بالنصب جعل مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ظرفين كمقدم الحاج وخفوق النجم أي سواء في محياهم وفي مماتهم قال أبو علي من نصب سواء جعل المحيا والممات بدلاً من الضمير المنصوب في نجعلهم فيصير التقدير أن نجعله ( محياهم ومماتهم سواء قال ويجوز أن نجعله حالاً ويكون المفعول الثاني هو الكاف في قوله كَالَّذِينَ
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ قال مجاهد عن ابن عباس يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدينا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه والكافر بالضد منه كما ذكره في قوله وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وعند القرب إلى الموت فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ ( النمل 32 ) وحال الكافر ما ذكره في قوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النحل 28 ) وأما في القيامة فقال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ ( عبس 38 41 ) فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين والوجه الثاني في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات والوجه الثالث في التأويل أن قوله سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ مستأنف على معنى أن نحيا المسيئين ومماتهم سواء فكذلك محيا المسحنين ومماتهم أي كل يموت على حسب ما عاش عليه ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال سَاء مَا يَحْكُمُونَ وهو ظاهر(27/229)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَة ً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَقَالُواْ مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِأابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم إنه تعالى لما أفتى بأن المؤمن لا يساوي الكافر في درجات السعادات أتبعه بالدلالة الظاهرة على صحة هذه الفتوى فقال وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ ولو لم يوجد البحث لما كان ذلك بالحق بل كان بالباطل لأنه تعالى لما خلق الظالم وسلّطه على المظلوم الضعيف ثم لا ينتقم للمظلوم من الظالم كان ظالماً ولو كان ظالماً لبطل أنه خلق السموات والأرض بالحق وتمام تقرير هذه الدلائل مذكور في أول سورة يونس قال القاضي هذه الآية تدل على أن في مقدور الله ما لو حصل لكان ظلماً وذلك لا يصح إلا على مذهب المجبرة الذين يقولون لو فعل كحل شيء أراده لم يكن ظلماً وعلى قول من يقول إنه لا يوصف بالقدرة على الظلم وأجاب الأصحاب عنه بأن المراد فعل ما لو فعله غيره لكان ظلماً كما أن المراد من الابتلاء والاختبار فعل ما لو فعله غيره لكان ابتلاءً واختباراً وقوله تعالى ولتجزي فيه وجهان الأول أنه معطوف على قوله ءادَمَ بِالْحَقّ فيكون التقدير وخلق الله السموات والأرض لأجل إظهار الحق ولتجزى كل نفس الثاني أن يكون العطف على محذوف والتقدير وخلق الله السموات والأرض بالحق ليدل بهما على قدرته ولتجزى كل نفس والمعنى أن المقصود من خلق هذا العلم إظهار العدل والرحمة وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين وبين المبطلين ثم عاد تعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طوائفهم فقال أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ يعني تركوا متابعة الهدى وأقبلوا على متابعة الهوى فكانوا يعبدون الهوى كما يعبد الرجل إلهه وقرىء إِلَاهَهُ هَوَاهُ كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه وذهب خلفه فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحداً منها(27/230)
ثم قال تعالى وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ يعني على علم بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح ونظيره في جانب التعظيم قوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وتحقيق الكلام فيه أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة فمنها مشرقة نورانية علوية إلهية ومنها كدرة ظلمانية سفلية عظيمة الميل إلى الشهوات الجسمانية فهو تعالى يقابل كلاً منهم بحسب ما يليق بجوهره وماهيته وهو المراد من قوله وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ في حق المردودين وبقوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ في حق المقبولين
ثم قال وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَة ً فقوله وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ هو المذكور في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إلى قوله لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) وقوله وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَة ً هو المراد من قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة ٌ ( البقرة 7 ) وكل ذلك قد مرّ تفسيره في سورة البقرة باللاستقصاء والتفاوت بين الآيتين أنه في هذه الآية قدم ذكر السمع على القلب وفي سورة البقرة قدم القلب على السمع والفرق أن الإنسان قد يسمع كلاماً فيقع في قلبه منه أثر مثل أن جماعة من الكفار كانوا يلقون إلى الناس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه وأما كفار مكة فهم كانوا يبغضونه بقلوبهم بسبب الحسد الشديد فكانوا يستمعون إليه ولو سمعوا كلامه ما فهموا منه شيئاً نافعاً ففي الصورة الأولى كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس وفي الصورة الثانية كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن فلما اختلف القسمان لا جرم أرشد الله تعالى إلى كلا هذين القسمين بهذين الترتيبين اللذين نبهنا عليهما ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام قال فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد أن أضله الله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أيها الناس قال الواحدي وليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة لأن الله تعالى صرّح بمنعه إياهم عن الهدى حين أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره وأقول هذه المناظرة قد سبقت بالاستقصاء في أول سورة البقرة
واعلم أنه تعالى حكى عنهم بعد ذلك شبهتهم في إنكار القيامة وفي إنكار الإله القادر أما شبهتهم في إنكار القيامة فهي قوله تعالى وَقَالُواْ مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا فإن قالوا الحياة مقدمة على الموت في الدينا فمنكرو القيامة كان يجب أن يقولوا نحيا ونموت فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة قلنا فيه وجوه الأول المراد بقوله نَمُوتُ حال كونهم نطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات وبقوله نحيا ما حصل بعد ذلك في الدينا الثاني نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا الثالث يموت بعض ويحيا بعض الرابع وهو الذي خطر بالبال عند كتابة هذا الموضع أنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال وَقَالُواْ مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ثم قال بعده نَمُوتُ وَنَحْيَا يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ومنها ما لم يطرأ الموت عليها وذلك في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد وأما شبهتهم في إنكار الإله الفاعل المختار فهو قولهم وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله وبين إنكار البعث والقيامة(27/231)
ثم قال تعالى دوما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة فالذي قالوه يحتمل وضده أيضاً يحتمل وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقاً وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقاً فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموة به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبيّنة قول باطل فاسد وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى
ثم قال تعالى والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة فالذي قالوه يحتمل وضده أيضاً يحتمل وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقاً وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقاً فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموة به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبيّنة قول باطل فاسد وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى
ثم قال تعالى وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِئَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء حجتهم بالنصب والرفع على تقديم خبر كان وتأخيره
المسألة الثانية سمى قولهم حجة لوجوه الأول أنه في زعمهم حجة الثاني أن يكون المراد من كان حجتهم هذا فليس ألبتة حجة كقوله
تحية بينهم ضرب وجيع
( أي ليس بينهم تحية لمنافاة الضرب للتحية ) الثالث أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها
المسألة الثالثة أن حجتهم على إنكار البعث أن قالوا لو صح ذلك فائتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهودوا لنا بصحة البعث
واعلم أن هذه الشبهة ضعيفة جداً لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال وجب أن يكون ممتنع الحصول فإن حصول كل واحد منا كان معدوماً من الأزل إلى الوقت الذي حصلنا فيه ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع الحصول لكان عدم حصولنا كذلك وذلك باطل بالاتفاق
ثم قال تعالى قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ فإن قيل هذا الكلام مذكور لأجل جواب من يقول مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ فهذا القائل كان منكراً لوجود الإله ولوجود يوم القيامة فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وهل هذا إلا إثبات للشيء بنفسه وهو باطل قلنا إنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الفاعل الحكيم في القرآن مراراً وأطواراً فقوله ها هنا قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ إشارة إلى تلك الدلائل التي بيّنها وأوضحها مرارً وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله بقول الإله بل المقصود منه التنبيه على ما الدليل الحق القاطع في نفس الأمر
ولما ثبت أن الإحياء من الله تعالى وثبت أن الإعادا مثل الإحياء الأول وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله ثبت أنه تعالى قادر على الإعادة وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها وثبت أن القادر الحكيم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقة
وأما قوله تعالى ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فهو إشارة إلى ما تقدم ذكره في الآية المتقدمة وهو أن كونه تعال عادلاً خالقاً بالحق منزّهاً عن الجور والظلم يقتضي صحة البعث والقيامة(27/232)
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أي لكن أكثر الناس لا يعلمون دلالة حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم ولا يعلمون أيضاً أنه تعالى لما كان قادراً على الإيجاد ابتداءً وجب أن يكون قادراً على الإعادة ثانياً
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعة ُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّة ٍ جَاثِيَة ً كُلُّ أمَّة ٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
واعلم أنه تعالى لما احتج بكونه قادراً على الإحياء في المرة الأولى وعلى كونه قادراً على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة عمم الدليل فقال وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي لله القدرة على جميع الممكنات سواء كانت من السموات أو من الأرض وإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كل الممكنات وثبت أن حصول الحياة في هذه الذات ممكن إذ لو لم يكن ممكناً لما حصل في المرة الأولى فيلزم من هاتين المقدمتين كونه تعالى قادراً على الإحياء في المرة الثانية
ولما بيّن تعالى إمكان القول بالحشر والنشر بهذين الطريقين ذكر تفاصيل أحوال القيامة فأولها قوله تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعة ُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وفيه أبحاث
البحث الأول عامل النصب في يوم تقوم يخسر ويومئذ بدل من يوم تقوم
البحث الثاني قد ذكرنا في مواضع من هذا الكتاب أن الحياة والعقل والصحة كأنها رأس المال والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح والكفار قد أتعبوا أنفسهم في هذه التصرفات وما وجدوا منها إلا الحرمان والخذلان فكان ذلك في الحقيقة نهاية الخسران وثانيها قوله تعالى وَتَرَى كُلَّ أُمَّة ٍ جَاثِيَة ً قال الليث الجثو الجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم قال الزجاج ومثله جذا يجذو قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء جاذية قال أهل اللغة والجذو أشد استيفازاً من الجثو لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه وعن ابن عباس جاثية مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها
ثم قال تعالى كُلُّ أمَّة ٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا على الابتداء وكل أمة على الإبدال من كل أمة وقوله إِلَى كِتَابِهَا أي إلى صحائف أعمالها فاكتفى باسم الجسني كقوله تعالى وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ(27/233)
( الكهف 49 ) والظاهر أنه يدخل فيه المؤمنون والكافرون لقوله تعالى بعد ذلك فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ
ثم قال تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فإن قيل الجثو على الركبة إنما يليق بالخائف والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة قلنا إن المحق الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقاً
ثم قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ والتقدير يقال لهم اليوم تجزون فإن قيل كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله تعالى قلنا لا منافاة بين الأمرين لأنه كتابهم بمعنى أنه الكتاب المشتمل على أعمالهم وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه يَنطِقُ عَلَيْكُم أي يشهد عليكم بما عملتم من غير زيادة ولا نقصان إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ الملائكة مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ أي نستكتبهم أعمالكم
ثم بيّن أحوال المطيعين فقال فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر بعد وصفهم بالإيمان كونهم عاملين للصالحات فوجب أن يكون عمل الصالحات مغايراً للإيمان زائداً عليه
المسألة الثانية قالت المعتزلة علق الدخول في رحمة الله على كونه آتياً بالإيمان والأعمال الصالحة والمعلق على مجموع أمرين يكون عدماً عند عدم أحدهما فعند عدم الأعمال الصالحة وجب أن لا يحصل الفوز بالجنة وجوابنا أن تعليق الحكم على الوصف لا يدل على عدم الحكم عند عدم الوصف
المسألة الثالثة سمى الثواب رحمة والرحمة إنما تصح تسميتها بهذا الاسم إذا لم تكن واجبة فوجب أن لا يكون الثواب واجباً على الله تعالى
ثم قال تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر الله المؤمنين والكافرين ولم يذكر قسماً ثالثاً وهذا يدل على أن مذهب المعتزلة إثبات المنزلتين باطل
المسألة الثانية أنه تعالى علل أن استحقاق العقوبة بأن آياته تليت عليهم فاستكبروا عن قبولها وهذا يدل على استحقاق العقوبة لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع وذلك يدل على أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع خلافاً لما يقوله المعتزلة من أن بعض الواجبات قد يجب بالعقل
المسألة الثالثة جواب أَمَّا محذوف والتقدير وأما الذين كفروا فيقال لهم أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم عن قبول الحق وكنتم قوماً مجرمين فإن قالوا كيف يحسن وصف الكافر بكونه مجرماً في معرض الطعن فيه والذم له قلنا معناه أنهم مع كونهم كفاراً ما كانوا عدولاً في أديان أنفسهم بل كانوا فساقاً في ذلك الدين والله أعلم(27/234)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَة ُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَة ُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأرض رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرىء والساعة رفعاً ونصباً قال الزجاج من نصب عطف على الوعد ومن رفع فعلى معنى وقيل الساعة لا ريب فيها قال الأخفش الرفع أجود في المعنى وأكثر في كلام العرب إذا جاء بعد خبر إن لأنه كلام مستقل بنفسه بعد مجيء الكلام الأول بتمامه
المسألة الثانية حكى الله تعالى عن الكفار أنهم إذا قيل إن وعد الله بالثواب والعقاب حق وإن الساعة آتية لا ريب فيها قالوا ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين
أقول الأغلب على الظن أن القوم كانوا في هذه المسألة على قولين منهم من كان قاطعاً بنفي البعث والقيامة وهم الذين ذكرهم الله في الآية المتقدمة بقوله وَقَالُواْ مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( الجاثية 24 ) ومنهم من كان شاكاً متحيراً فيه لأنهم لكثرة ما سمعوه من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحبته صاروا شاكين فيه وهم الذين أرادهم الله بهذه الآية والذي يدل عليه أنه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين ثم أتبعه بحكاية قول هؤلاء فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول
ثم قال تعالى وَبَدَا لَهُمْ أي في الآخرة سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وقد كانوا من قبل يعدونها حسنات فصار ذلك أول خسرانهم وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ وهذا كالدليل على أن هذه الفرقة لما قالوا ءانٍ تَظُنُّ إِلاَّ ظَنّا إنما ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية وعلى هذا الوجه فهذا الفريق شر من الفريق الأول لأن الأولين كانوا منكرين وما كانوا مستهزئين وهذا الفريق ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء
ثم قال تعالى وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا وفي تفسير هذا النسيان وجهان الأول نترككم في العذاب كما تركتم الطاعة التي هي الزاد ليوم المعاد الثاني نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم ولم تلتفتوا إليه بل جعلتموه كالشيء الذي يطرح نسياً(27/235)
منسياً فجمع الله تعالى عليهم من وجوه العذاب الشديد ثلاثة أشياء فأولها قطع رحمة الله تعالى عنهم بالكلية وثانيها أنه يصير مأواهم النار وثالثها الاستغراق في حب الدنيا والإعراض بالكلية عن الآخرة وهو المراد من قوله تعالى وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا
ثم قال تعالى فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا قرأ حمزة والكسائي يُخْرِجُونَ بفتح الياء والباقون بضمها وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه ولما تم الكلام في هذه المباحث الشريفة الروحانية ختم السورة بتحميد الله تعالى فقال فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَرَبّ الاْرْضِ رَبّ الْعَالَمِينَ أي فاحمدوا الله الذي هو خالق السموات والأرض بل خالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات فإنت هذه الربوبية توجب الحمد والثناء على كل أحد من المخلوقين والمربوبين
ثم قال تعالى وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا مشعر بأمرين أحدهما أن التكبير لا بد وأن يكون بعد التحميد والإشارة إلى أن الحامدين إذا حمدوه وجب أن يقرفوا أنه أعلى وأكبر من أن يكون الحمد الذي ذكروه لائقاً بإنعامه بل هو أكبر من حمد الحامدين وأياديه أعلى وأجل من شكر الشاكرين والثاني أن هذا الكبرياء له لا لغيره لأن واجب الوجود لذاته ليس إلا هو
ثم قال تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يعني أنه لكمال قدرته يقدر على خلق أي شيء أراد ولكمال حكمته يخص كل نوع من مخلوقاته بآثار الحكمة والرحمة والفضل والكرم وقوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يفيد الحصر فهذا يفيد أن الكامل في القدرة وفي الحكمة وفي الرحمة ليس إلا هو وذلك يدل على أنه لا إله للخلق إلا هو ولا محسن ولا متفضل إلا هو(27/236)
بداية الجزء الثامن والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(28/2)
27
سورة الأحقاف
وهي ثلاثون وخمس آيات مكية وقيل أربع وثلاثون اية
حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَآ أَوْ أَثَارَة ٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن نظم أول هذه السورة كنظم أول سورة الجاثية وقد ذكرنا ما فيه
وأما قوله مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ فهذا يدل على إثبات الإله بهذا العالم ويدل على أن ذلك الإله يجب أن يكون عادلاً رحيماً بعباده ناظراً لهم محسناً إليهم ويدل على أن القيامة حق
أما المطلب الأول وهو إثبات الإله بهذا العالم وذلك لأن الخلق عبارة عن التقدير وآثار التقدير ظاهرة في السماوات والأرض من الوجوه العشرة المذكورة في سورة الأنعام وقد بينا أن تلك الوجوه تدل على وجود الإله القادر المختار(28/3)
وأما المطلب الثاني وهو إثبات أن إله العالم عادل رحيم فيدل عليه قوله تعالى إِلاَّ بِالْحَقّ لأن قوله إِلاَّ بِالْحَقّ معناه إلا لأجل الفضل والرحمة والإحسان وأن الإله يجب أن يكون فضله زائداً وأن يكون إحسانه راجحاً وأن يكون وصول المنافع منه إلى المحتاجين أكثر من وصول المضار إليهم قال الجبائي هذا يدل على أن كل ما بين السماوات والأرض من القبائح فهو ليس من خلقه بل هو من أفعال عباده وإلا لزم أن يكون خالقاً لكل باطل وذلك ينافي قوله مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 39 ) أجاب أصحابنا وقالوا خلق الباطل غير والخلق بالباطل غير فنحن نقول إنه هو الذي خلق الباطل إلا أنه خلق ذلك الباطل بالحق لأن ذلك تصرف من الله تعالى في ملك نفسه وتصرف المالك في ملك نفسه يكون بالحق لا بالباطل قالوا والذي يقرر ما ذكرناه أن قوله تعالى مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا يدل على كونه تعالى خالقاً لكل أعمال العباد لأن أعمال العباد من جملة ما بين السماوات والأرض فوجب كونها مخلوقة لله تعالى ووقوع التعارض في الآية الواحدة محال فلم يبق إلا أن يكون المراد ما ذكرناه فإن قالوا أفعال العباد أعراض والأعراض لا توصف بأنها حاصلة بين السماوات والأرض فنقول فعلى هذا التقدير سقط ما ذكرتموه من الاستدلال والله أعلم
وأما المطلب الثالث فهو دلالة الآية على صحة القول بالبعث والقيامة وتقريره أنه لو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين وذلك يمنع من القول بأنه تعالى خلق السماوات والأرض وما بينها لابالحق
وأما قوله تعالى وَأَجَلٌ مُّسَمًّى فالمراد أنه ما خلق هذه الأشياء إلا بالحق وإلا لأجل مسمى وهذا يدل على أن إلاه العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلداً سرمداً بل إنما خلقه ليكون داراً للعمل ثم إنه سبحانه يفنيه ثم يعيده فيقع الجزاء في الدار الآخرة فعلى هذا الأجل المسمى هو الوقت الذي عينه الله تعالى لإفناء الدنيا
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ والمراد أن مع نصب الله تعالى هذه الدلائل ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب ومع مواظبة الرسل على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار بقي هؤلاء الكفار معرضين عن هذه الدلائل غير ملتفتين إليها وهذا يدل على وجوب النظر والاستدلال وعلى أن الإعراض عن الدليل مذموم في الدين والدنيا
واعلم أنه تعالى لما قرر هذا الأصل الدال على إثبات الإله وعلى إثبات كونه عادلاً رحيماً وعلى إثبات البعث والقيامة بنى عليه التفاريع
فالفرع الأول الرد على عبدة الأصنام فقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وهي الأصنام أَرُونِى َ أي أخبروني مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ والمراد أن هذه الأصنام هل يعقل أن يضاف إليها خلق جزء من أجزاء هذا العالم فإن لم يصح ذلك فهل يجوز أن يقال إنها أعانت إلاه العالم في خلق جزء من أجزاء هذا العالم ولما كان صريح العقل حاكماً بأنه لا يجوز إسناد خلق جزء من أجزاء هذا(28/4)
العالم إليها وإن كان ذلك الجزء أقل الأجزاء ولا يجوز أيضاً إسناد الإعانة إليها في أقل الأفعال وأذلها فحينئذ صح أن الخالق الحقيقي لهذا العالم هو الله سبحانه وأن المنعم الحقيقي بجميع أقسام النعم هو الله سبحانه والعبادة عبارة عن الإتيان بأكمل وجوه التعظيم وذلك لا يليق إلا بمن صدر عنه أكمل وجوه الإنعام فلما كان الخالق الحق والمنعم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى وجب أن لا يجوز الإتيان بالعبادة والعبودية إلا له ولأجله بقي أن يقال إنا لا نعبدها لأنها تستحق هذه العبادة بل إنما نعبدها لأجل أن الإله الخالق المنعم أمرنا بعبادتها فعند هذا ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذا السؤال فقال ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَاذَا أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ وتقرير هذا الجواب أن ورود هذا الأمر لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي والرسالة فنقول هذا الوحي الدال على الأمر بعبادة هذه الأوثان إما أن يكون على محمد أو في سائر الكتب الإلاهية المنزلة على سائر الأنبياء وإن لم يوجد ذلك في الكتب الإلاهية لكنه من تقابل العلوم المنقولة عنهم والكل باطل أما إثبات ذلك بالوحي إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهو معلوم البطلان وأما إثباته بسبب اشتمال الكتب الإلاهية المنزلة على الأنبياء المتقدمين عليه فهو أيضاً باطل لأنه علم بالتواتر الضروري إطباق جميع الكتب الإلاهية على المنع من عبادة الأصنام وهذا هو المراد من قوله تعالى ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَاذَا وأما إثبات ذلك بالعلوم المنقولة عن الأنبياء سوى ما جاء في الكتب فهذا أيضاً باطل لأن العلم الضروري حاصل بأن أحداً من الأنبياء ما دعا إلى عبادة الأصنام وهذا هو المراد من قوله أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ ولما بطل الكل ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل وقول فاسد وبقي في قوله تعالى أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ نوعان من البحث
النوع الأول البحث اللغوي قال أبو عبيدة والفراء والزجاج أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ أي بقية وقال المبرد أَثَارَة ٍ ما يؤثر من علم أي بقية وقال المبرد أَثَارَة ٍ تؤثر مِنْ عِلْمٍ كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار يقال جاء في الأثر كذا وكذا قال الواحدي وكلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال الأول البقية واشتقاقها من أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار الثاني من الأثر الذي هو الرواية والثالث هو الأثر بمعنى العلامة قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء أَثَارَة ٍ أي من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم وقرىء أَثَارَة ٍ بالحركات الثلاث مع سكون الثاء فالإثرة بالكسر بمعنى الأثر وأما الإثر فالمرأة من مصدر أثر الحديث إذا رواه وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر كالخطبة اسم لما يخطب به وهاهنا قول آخر في تفسير قوله تعالى أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال أَوْ أَثَارَة ٍ مّنْ عِلْمٍ هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه ) وعلى هذا الوجه فمعنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم والله تعالى أعلم(28/5)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
اعلم أنه تعالى بيّن فيما سبق أن القول بعبادة الأصنام قول باطل من حيث إنها لا قدرة لها ألبتة على الخلق والفعل والإيجاد والإعدام والنفع والضر فأردفه بدليل آخر يدل على بطلان ذلك المذهب وهي أنها جمادات فلا تسمع دعاء الداعين ولا تعم حاجات المحتاجين وبالجملة فالدليل الأول كان إشارة إلى نفي العلم من كل الوجوه وإذا انتفى العلم والقدرة من كل الوجوه لم تبق عبادة معلومة ببديهة العقل فقوله وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ استفهام على سبيل الإنكار والمعنى أنه لا أمراً أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يدعوا من دون الله الأصنام فيتخذها آلهة ويعبدها وهي إذا دعيت لا تسمع ولا تصح منها الإجابة لا في الحال ولا بعد ذلك اليوم إلى يوم القيامة وإنما جعل ذلك غاية لأن يوم القيامة قد قيل إنه تعالى يحييها وتقع بينها وبين من يعبدها مخاطبة فلذلك جعله تعالى حداً وإذا قامت القيامة وحشر الناس فهذه الأصنام تعادي هؤلاء العابدين واختلفوا فيه فالأكثرون على أنه تعالى يحيي هذه الأصنام يوم القيامة وهي تظهر عداوة هؤلاء العابدين وتتبرأ منهم وقال بعضهم بل المراد عبدة الملائكة وعيسى فإنهم في يوم القيامة يظهرون عداوة هؤلاء العابدين فإن قيل ما المراد بقوله تعالى وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وكيف يعقل وصف الأصنام وهي جمادات بالغفلة وأيضاً كيف جاز وصف الأصنام بما لا يليق إلا بالعقلاء وهي لفظة من وقوله هُمْ غَافِلُونَ قلنا إنهم لما عبدوها ونزلوها منزلة من يضر وينفع صح أن يقال فيها إنها بمنزلة الغافل الذي لا يسمع ولا يجيب وهذا هو الجواب أيضاً عن قوله إن لفظة من ولفظة هُمْ كيف يليق بها وأيضاً يجوز أن يريد كل معبود من دون الله من الملائكة وعيسى وعزير والأصنام إلا أنه غلب غير الأوثان على الأوثان
واعلم أنه تعالى لما تكلم في تقرير التوحيد ونفي الأضداد والأنداد تكلم في النبوة وبيّن أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كلما عرض عليهم نوعاً من أنواع المعجزات زعموا أنه سحر فقال وإذا تتلى عليهم الآيات البينة وعرضت عليهم المعجزات الظاهرة سموها بالسحر ولما بيّن أنهم يسمون المعجزة بالسحر بيّن أنهم متى سمعوا القرآن قالوا إن محمداً افتراه واختلقه من عند نفسه ومعنى الهمزة في أم للإنكار والتعجب كأنه قيل دع هذا واسمع القول المنكر العجيب ثم إنه تعالى بيّن بطلان شبهتهم فقال إن افتريته على سبيل الفرض فإن الله تعالى يعاجلني بعقوبة بطلان ذلك الافتراء وأنتم لا تقدرون على دفعه عن معاجلتي بالعقوبة فكيف أقدم على(28/6)
هذه الفرية وأعرض نفسي لعقابه يقال فلان لا يملك نفسه إذا غضب ولا يملك عنانه إذا صمم ومثله فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ( المائدة 17 ) وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ( المائدة 41 ) ومن قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أملك لكم من الله شيئاً )
ثم قال تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق ويشهد عليكم بالكذب والجحود ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد لهم على إقامتهم في الطعن والشتم
ثم قال وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بمن رجع عن الكفر وتاب واستعان بحكم الله عليهم مع عظم ما ارتكبوه
قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَأامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَة ً وَهَاذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وَعَلَى وَالِدَى َّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ فِى أَصْحَابِ الْجَنَّة ِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاٌّ حْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم في كون القرآن معجزاً بأن قالوا إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى أنه كلام الله على سبيل الفرية حكى عنهم نوعاً آخر من الشبهات وهو أنهم كانوا يقترحون منه معجزات عجيبة قاهرة ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات فأجاب الله تعالى عنه بأن قال قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ والبدع والبديع من كل شيء المبدأ والبدعة ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله بحكم السنة وفيه وجوه الأول مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ أي ما كنت أولهم فلا ينبغي أن تنكروا إخباري بأني رسول الله إليكم ولا تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد ونهيي عن عبادة الأصنام فإن كل الرسل إنما بعثوا بهذا الطريق الوجه الثاني أنهم طلبوا منه معجزات عظيمة وأخباراً عن الغيوب فقال قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ والمعنى أن الإتيان بهذه المعجزات القاهرة والإخبار عن هذه الغيوب ليس في وسع البشر وأنا من جنس الرسل واحد منهم لم يقدر على ما تريدونه فكيف أقدر عليه الوجه الثالث أنهم كانوا يعيبونه أنه(28/7)
يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وبأن أتباعه فقراء فقال قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ وكلهم كانوا على هذه الصفة وبهذه المثابة فهذه الأشياء لا تقدح في نبوتي كما لا تقدح في نبوتهم
ثم قال وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير الآية وجهان أحدهما أن يحمل ذلك على أحوال الدنيا والثاني أن يحمل على أحوال الآخرة أما الأول ففيه وجوه الأول لا أدري ما يصير إليه أمري وأمركم ومن الغالب منا والمغلوب والثاني قال ابن عباس في رواية الكلبي لما اشتد البلاء بأصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج مما هم فيه من أذى المشركين ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا يا رسول الله ما رأينا الذي قلت ومتى نهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام فسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى مَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع إلا ما أوحاه الله إليّ الثالث قال الضحاك لا أدري ما تؤمرون به ولا أؤمر به في باب التكاليف والشرائع والجهاد ولا في الابتلاء والامتحان وإنما أنذركم بما أعلمني الله به من أحوال الآخرة في الثواب والعقاب والرابع المراد أنه يقول لا أدري ما يفعل بي في الدنيا أأموت أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم أم يفعل بكم ما فعل بسائر الأمم أما الذين حملوا هذه الآية على أحوال الآخرة فروي عن ابن عباس أنه قال لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به وبنا فأنزل الله تعالى إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ إلى قوله وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً ( الفتح 1 5 ) فبيّن تعالى ما يفعل به وبمن أتبعه ونسخت هذه الآية وأرغم الله أنف المنافقين والمشركين وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا عليه بوجوهالأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا بد وأن يعلم من نفسه كونه نبياً ومتى علم كونه نبياً علم أنه لا تصدر عنه الكبائر وأنه مغفور له وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أم لا الثاني لا شك أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء فلما قل في هذا إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( الأحقاف 17 ) فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأتقياء وقدوة الأنبياء والأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفورين أو من المعذبين الثالث أنه تعالى قال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) والمراد منه كمال حاله ونهاية قربه من حضرة الله تعالى ومن هذا حاله كيف يليق به أن يبقى شاكاً في أنه من المعذبين أو من المغفورين فثبت أن هذا القول ضعيف
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء مَّا يَفْعَلُ يفتح الياء أي يفعل الله عزّ وجلّ فإن قالوا مَّا يَفْعَلُ مثبت وغير منفي وكان وجه الكلام أن يقال ما يفعل بي وبكم قلنا التقدير ما أدري ما يفعل بي وما أدري ما يفعل بكم
ثم قال تعالى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ يعني إني لا أقول قولاً ولا أعمل عملاً إلا بمقتضى الوحي واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما قال قولاً ولا عمل عملاً إلا بالنص الذي أوحاه الله إليه فوجب أن يكون حالنا كذلك بيان الأول قوله تعالى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ بيان الثاني قوله تعالى(28/8)
وَاتَّبِعُوهُ ( الأعراف 158 ) وقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ( النور 63 )
ثم قال تعالى وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ كانوا يطالبونه بالمعجزات العجيبة وبالإخبار عن الغيوب فقال قل وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ والقادر على تلك الأعمال الخارجة عن قدرة البشر والعالم بتلك الغيوب ليس إلا الله سبحانه
ثم قال تعالى قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَئَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى جواب الشرط محذوف والتقدير أن يقال إن كان هذا الكتاب من عند الله ثم كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على صحته ثم استكبرتم لكنتم من الخاسرين ثم حذف هذا الجواب ونظيره قولك إن أحسنت إليك وأسأت إليّ وأقبلت عليك وأعرضت عني فقد ظلمتني فكذا ههنا التقدير أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وحصل أيضاً شهادة أعلم بني إسرائيل بكونه معجزاً من عند الله فلو استكبرتم وكفرتم ألستم أضل الناس وأظلمهم واعلم أن جواب الشرط قد يحذف في بعض الآيات وقد يذكر أما الحذف فكما في هذه الآية وكما في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الاْرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى ( الرعد 31 ) وأما المذكور فكما في قوله تعالى قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ ( فصلت 52 ) وقوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء ( القصص 71 )
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله تعالى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ على قولين الأول وهو الذي قال به الأكثرون أن هذا الشاهد عبد الله بن سلاّم روى صاحب ( الكشاف ) أنه لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة نظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب وتأمله وتحقق أنه هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المنتظر فقال له إني سائلك عن ثلاث ما يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعات وما أول طعام يأكله أهل الجنة والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزع له وإن سبق ماء المرأة نزع لها ) فقال أشهد أنك لرسول الله حقاً ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي رجل عبد الله فيكم فقالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا فقال أرأيتم إن أسلم عبد الله فقالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله فقال أشهد أن لا إلاه إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا وانتقصوه فقال هذا ما كنت أخاف يا رسول الله فقال سعد بن أبي وقاص ما سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلاّم وفيه نزل وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى مِثْلِهِ
واعلم أن الشعبي ومسروقاً وجماعة آخرين أنكروا أن يكون الشاهد المذكور في هذه الآية هو عبد الله بن سلاّم قالوا لأن إسلامه كان بالمدينة قبل وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعامين وهذه السورة مكية فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعة حدثت في آخر عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة وأجاب الكلبي بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدنية وكانت الآية تنزل فيؤمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يضعها في سورة كذا فهذا(28/9)
الآية نزلت بالمدينة وإن الله تعالى أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يضعها في هذه السورة المكية في هذا الموضع المعين ولقائل أن يقول إن الحديث الذي رويتم عن عبد الله بن سلاّم مشكل وذلك لأن ظاهر الحديث يوهم أنه لما سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن المسائل الثلاثة وأجاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بتلك الجوابات من عبد الله بن سلاّم لأجل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر تلك الجوابات وهذا بعيد جداً لوجهين الأول أن الإخبار عن أول أشراط الساعة وعن أول طعام يأكله أهل الجنة إخبار عن وقوع شيء من الممكنات وما هذا سبيله فإنه لا يعرف كون ذلك الخبر صدقاً إلا إذا عرف أولاً كون المخبر صادقاً فلو أنا عرفنا صدق المخبر يكون ذلك الخبر صدقاً لزم الدور وإنه محال والثاني أنا نعلم بالضرورة أن الجوابات المذكورة عن هذه المسائل لا يبلغ العلم بها إلى حد الإعجاز ألبتة بل نقول الجوابات القاهرة عن المسائل الصعبة لما لم تبلغ إلى حد الإعجاز فأمثال هذه الجوابات عن هذه السؤالات كيف يمكن أن يقال إنها بلغت إلى حد الإعجاز والجواب يحتمل أنه جاء في بعض كتب الأنبياء المتقدمين أن رسول آخر الزمان يسأل عن هذه المسائل وهو يجيب عنها بهذه الجوابات وكان عبد الله بن سلام عالماً بهذا المعنى فلما سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأجاب بتلك الأجوبة عرف بهذا الطريق كونه رسولاً حقاً من عند الله وعلى هذا الوجه فلا حاجة بنا إلى أن نقول العلم بهذه الجوابات معجز والله أعلم
القول الثاني في تفسير قوله تعالى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْراءيلَ أنه ليس المراد منه شخصاً معيناً بل المراد منه أن ذكر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) موجود في التوراة والبشارة بمقدمه حاصلة فيها فتقدير الكلام لو أن رجلاً منصفاً عارفاً بالتوراة أقر بذلك واعترف به ثم إنه آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأنكرتم ألستم كنتم ظالمين لأنفسكم ضالين عن الحق فهذا الكلام مقرر سواء كان المراد بذلك الشاهد شخصاً معيناً أو لم يكن كذلك لأن المقصود الأصلي من هذا الكلام أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب من عند الله وثبت أن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومع هذين الأمرين كيف يليق بالعقل إنكار نبوته
المسألة الثالثة قوله تعالى عَلَى مِثْلِهِ ذكروا فيه وجوهاً والأقرب أن نقول إنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهم أرأيتم إن كان هذا القرآن من عند الله كما أقول وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما قلت فآمن واستكبرتم ألستم كنتم ظالمين أنفسكم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تهديد وهو قائم مقام الجواب المحذوف والتقدير قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالين
المسألة الثانية قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أنه تعالى إنما منعهم الهداية بناء على الفعل القبيح الذي صدر منهم أولاً فإن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ صريح في أنه تعالى لا يهديهم لكونهم ظالمين أنفسهم فوجب أن يعتقدوا في جميع الآيات الواردة في المنع من الإيمان والهداية أن يكون الحال فيها كما ههنا والله أعلم
ثم قال تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه شبهة أخرى للقوم في إنكار نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي سبب نزوله وجوه الأول أن(28/10)
هذا كلام كفار مكة قالوا إن عامة من يتبع محمداً الفقراء والأراذل مثل عمار وصهيب وابن مسعود ولو كان هذا الدين خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الثاني قيل لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع لو كان هذا خيراً ما سبقنا إليه رعاء ألبهم الثالث قيل إن أمة لعمر أسلمت وكان عمر يضربها حتى يفتر ويقول لولا أني فترت لزدتك ضرباً فكان كفار قريش يقولون لو كان ما يدعو محمد إليه حقاً ما سبقتنا إليه فلانة الرابع قيل كان اليهود يقولون هذا الكلام عند إسلام عبد الله بن سلاّم
المسألة الثانية اللام في قوله تعالى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ذكروا فيه وجهين الأول أن يكون المعنى وقال الذين كفروا للذين آمنوا على وجه الخطاب كما تقول قال زيد لعمرو ثم تترك الخطاب وتنتقل إلى الغيبة كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ( يونس 22 ) الثاني قال صاحب ( الكشاف ) لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لأجلهم يعني أن الكفار قالوا لأجل إيمان الذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه وعندي فيه وجه الثالث وهو أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين وقالوا لهم لو كان هذا الدين خيراً لما سبقنا إليه أولئك الغائبون الذين أسلموا
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا الكلام أجاب عنه بقوله وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ والمعنى أنهم لما لم يقفوا على وجه كونه معجزاً فلا بد من عامل في الظرف في قوله وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ ومن متعلق لقوله فَسَيَقُولُونَ وغير مستقيم أن يكون فَسَيَقُولُونَ هو العامل في الظرف لتدافع دلالتي المضي والاستقبال فما وجه هذا الكلام وأجاب عنه بأن العامل في إذ محذوف لدلالة الكلام عليه والتقدير وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ ظهر عنادهم فَسَيَقُولُونَ هَاذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ
ثم قال تعالى وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَة ً كتاب موسى مبتدأ ومن قبله ظرف واقع خبراً مقدماً عليه وقوله إِمَاماً نصب على الحال كقولك في الدار زيد قائماً وقرىء وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى والتقدير وآتينا الذي قبله التوراة ومعنى إِمَاماً أي قدوة وَرَحْمَة ً يؤتم به في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإمام وَرَحْمَة ً لمن آمن به وعمل بما فيه ووجه تعلق هذا الكلام بما قبله أن القوم طعنوا في صحة القرآن وقالوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الصعاليك وكأنه تعالى قال الذي يدل على صحة القرآن أنكم لا تنازعون في أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام وجعل هذا الكتاب إماماً يقتدى به ثم إن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا سلمتم كون التوراة إماماً يقتدى به فاقبلوا حكمه في كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حقاً من الله
ثم قال تعالى وَهَاذَا كِتَابٌ مُّصَدّقٌ لّسَاناً عَرَبِيّاً أي هذا القرآن مصدق لكتاب موسى في أن محمداً رسول حقاً من عند الله وقوله تعالى لّسَاناً عَرَبِيّاً نصب على الحال ثم قال لّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قال ابن عباس مشركي مكة وفي قوله لّتُنذِرَ قراءتان التاء لكثرة ما ورد من هذا المعنى بالمخاطبة كقوله تعالى لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( الأعراف 2 ) والياء لتقدم ذكر الكتاب فأسند الإنذار إلى الكتاب كما أسند إلى الرسول وقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ إلى قوله لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ ( الكهف 1 2 )(28/11)
ثم قال تعالى وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ قال الزجاج الأجود أن يكون قوله وَبُشْرَى في موضع رفع والمعنى وهو بشرى للمحسنين قال ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى لّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ وحاصل الكلام أن المقصود من إنزال هذا الكتاب إنذار المعرضين وبشارة المطيعين
إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وَعَلَى وَالِدَى َّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ فِى أَصْحَابِ الْجَنَّة ِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما قرر دلائل التوحيد والنبوّة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها ذكر بعد ذلك طريقة المحقين والمحققين فقال إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ وقد ذكرنا تفسير هذه الكلمة في سورة السجدة والفرق بين الموضعين أن في سورة السجدة ذكر أن الملائكة ينزلون ويقولون أَن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ( فصلت 30 ) وهاهنا رفع الواسطة من البين وذكر أنه لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ فإذا جمعنا بين الآيتين حصل من مجموعهما أن الملائكة يبلغون إليهم هذه البشارة وأن الحق سبحانه يسمعهم هذه البشارة أيضاً من غير واسطة
واعلم أن هذه الآيات دالة على أن من آمن بالله وعمل صالحاً فإنهم بعد الحشر لا ينالهم خوف ولا حزن ولهذا قال أهل التحقيق إنهم يوم القيامة آمنون من الأهوال وقال بعضهم خوف العقاب زائل عنهم أما خوف الجلال والهيبة فلا يزول ألبتة عن العبد ألا ترى أن الملائكة مع علو درجاتهم وكمال عصمتهم لا يزول الخوف عنهم فقال تعالى يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ( النحل 50 ) وهذه المسألة سبقت بالاستقصاء في آيات كثيرة منها قوله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 )(28/12)
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قالت المعتزلة هذه الآية تدل على مسائل أولها قوله تعالى أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ وهذا يفيد الحصر وهذا يدل على أن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخل الجنة وثانيها قوله تعالى جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وهذا يدل على فساد قول من يقول الثواب فضل لا جزاء وثالثها أن قوله تعالى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يدل على إثبات العمل للعبد ورابعها أن هذا يدل على أنه يجوز أن يحصل الأثر في حال المؤثر أو أي أثر كان موجوداً قبل ذلك بدليل أن العمل المتقدم أوجب الثواب المتأخر وخامسها كون العبد مستحقاً على الله تعالى وأعظم أنواع هذا النوع الإحسان إلى الوالدين لا جرم أردفه بهذا المعنى فقال تعالى وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي بِوالِدَيْهِ إِحْسَاناً والباقون حَسَنًا
واعلم أن الإحسان خلاف الإساءة والحسن خلاف القبيح فمن قرأ إِحْسَاناً فحجته قوله تعالى في سورة بني إسرائيل وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 43 ) والمعنى أمرناه بأن يوصل إليهما إحساناً وحجة القراءة الثانية قوله تعالى في العنكبوت وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( العنكبوت 8 ) ولم يختلفوا فيه والمراد أيضاً أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسناً إلا أنه سمى ذلك الفعل الحسن بالحسن على سبيل المبالغة كما يقال هذا الرجل علم وكرم وانتصب حسناً على المصدر لأن معنى وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ أمرناه أن يحسن إليهما إِحْسَاناً
ثم قال تعالى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي كَرْهاً بضم الكاف والباقون بفتحها قيل هما لغتان مثل الضعف والضعف والفقر والفقر ومن غير المصادر الدف والدف والشهد والشهد قال الواحدي الكره مصدر من كرهت الشيء أكرهه والكره الاسم كأنه الشيء المكروه قال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ( البقرة 216 ) فهذا بالضم وقال أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً ( النساء 19 ) فهذا في موضع الحال ولم يقرأ الثانية بغير الفتح فما كان مصدراً أو في موضع الحال فالفتح فيه أحسن وما كان اسماً نحو ذهبت به على كره كان الضم فيه أحسن
المسألة الثانية قال المفسرون حملته أمه على مشقة ووضعته في مشقة وليس يريد ابتداء الحمل فإن ذلك لا يكون مشقة وقد قال تعالى فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا ( الأعراف 189 ) يريد ابتداء الحمل فإن ذلك لا يكون مشقة فالحمل نطفة وعلقة ومضغة فإذا أثقلت فحينئذ حَمَلَتْهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً يريد شدة الطلق
المسألة الثالثة دلت الآية على أن حق الأم أعظم لأنه تعالى قال أولاً وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً فذكرهما معاً ثم خص الأم بالذكر فقال حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وذلك يدل على أن حقها أعظم وأن وصول المشاق إليها بسبب الولد أكثر والأخبار مذكورة في هذا الباب(28/13)
ثم قال تعالى وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا من باب حذف المضاف والتقدير ومرة حمله وفصاله ثلاثون شهراً والفصال الفطام وهو فصله عن اللبن فإن قيل المراد بيان مدة الرضاعة لا الفطام فكيف عبّر عنه بالفصال قلنا لما كان الرضاع يليه الفصال ويلائمه لأنه ينتهي ويتم به سمي فصالاً
المسألة الثانية دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً قال وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( البقرة 233 ) فإذا أسقطت الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهراً من الثلاثين بقي أقل مدة الحمل ستة أشهر روي عن عمر أن امرأة رفعت إليه وكانت قد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها فقال علي لا رجم عليها وذكر الطريق الذي ذكرناه وعن عثمان أنه هم بذلك فقرأ ابن عباس عليه ذلك
واعلم أن العقل والتجربة يدلان أيضاً على أن الأمر كذلك قال أصحاب التجارب إن لتكوين الجنين زماناً مقدراً فإذا تضاعف ذلك الزمان تحرك الجنين فإذا انضاف إلى ذلك المجموع مثلاه انفصل الجنين عن الأم فلنفرض أنه يتم خلقه في ثلاثين يوماً فإذا تضاعف ذلك الزمان حتى صار ستين تحرك الجنين فإذا تضاعف إلى هذا المجموع مثلاه وهو مائة وعشرون حتى صار المجموع مائة وثمانين وهو ستة أشهر فحينئذ ينفصل الجنين فلنفرض أنه يتم خلقه في خمسة وثلاثين يوماً فيتحرك في سبعين يوماً فإذا انضاف إليه مثلاه وهو مائة وأربعون يوماً صار المجموع مائة وثمانين وعشرة أيام وهو سبعة أشهر انفصل الولد ولنفرض أنه يتم خلقه في أربعين يوماً فيتحرك في ثمانين يوماً فينفصل عند مائتين وأربعين يوماً وهو ثمانية أشهر ولنفرض أنه تمت الخلقة في خمسة وأربعين يوماً فيتحرك في تسعين يوماً فينفصل عند مائتين وسبعين يوماً وهو تسعة أشهر فهذا هو الضبط الذي ذكره أصحاب التجارب قال جالينوس إن كنت شديد التفحص عن مقادير أزمنة الحمل فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة وزعم أو علي بن سينا أنه شاهد ذلك فقد صار أقل مدة الحمل بحسب نص القرآن وبحسب التجارب الطيبة شيئاً واحداً وهو ستة أشهر وأما أكثر مدة الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه قال أبو علي بن سينا في الفصل السادس من المقالة التاسعة من عنوان الشفاء بلغني من حيث وثقت به كل الثقة أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولداً قد نبتت أسنانه وعاش وحكي عن أرسطاطاليس أنه قال أزمنة الولادة وحبل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت الحبلى لسبعة أشهر وربما وضعت في الثامن وقلما يعيش المولود في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر والغالب هو الولادة بعد التاسع قال أهل التجارب والذي قلناه من أنه إذا تضاعف زمان التكوين تحرك الجنين وإذا انضم إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين إنما قلناه بحسب التقريب لا بحسب التحديد فإنه ربما زاد أو نقص بحسب الأيام لأنه لم يقم على هذا الضبط برهان إنما هو تقريب ذكروه بحسب التجربة والله أعلم
ثم قال المدة التي فيها تتم خلقة الجنين تنقسم إلى أقسام فأولها أن الرحم إذا اشتملت على المني ولم تقذفه إلى الخارج استدار المني على نفسه منحصراً إلى ذاته وصار كالكرة ولما كان من شأن المني أن يفسده الحركات لا جرم يثخن في هذا الوقت وبالحري أن خلق المني من مادة تجف بالحر إذا كان الغرض منه تكون الحيوان واستحصاف أجزائه ويصير المني زبداً في اليوم السادس وثانيها ظهور النقط الثلاثة(28/14)
الدموية فيه إحداها في الوسط وهو الموضع الذي إذا تمت خلقته كان قلباً والثاني فوق وهو الدماغ والثالث على اليمين وهو الكبد ثم إن تلك النقط تتباعد ويظهر فيما بينها خيوط حمر وذلك يحصل بعد ثلاثة أيام أخرى فيكون المجموع تسعة أيام وثالثها أن تنفذ الدموية في الجميع فيصير علقة وذلك بعد ستة أيام أخرى حتى يصير المجموع خمسة عشر يوماً ورابعها أن يصير لحماً وقد تميزت الأعضاء الثلاثة وامتدت رطوبة النخاع وذلك إنما يتم باثني عشر يوماً فيكون المجموع سبعة وعشرين يوماً وخامسها أن ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع والبطن يميز الحس في بعض ويخفى في بعض وذلك يتم في تسعة أيام أخرى فيكون المجموع ستة وثلاثين يوماً وسادسها أن يتم انفصال هذه الأعضاء بعضها عن بعض ويصير بحيث يظهر ذلك الحس ظهوراً بيناً وذلك يتم في أربعة أيام أخرى فيكون المجموع أربعين يوماً وقد يتأخر إلى خمسة وأربعين يوماً قال والأقل هو الثلاثون فصارت هذه التجارب الطبية مطابقة لما أخبر عنه الصادق المصدوق في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً ) قال أصحاب التجارب إن السقط بعد الأربعين إذا شق عنه السلالة ووضع في الماء البارد ظهر شيء صغير متميز الأطراف
المسألة الثالثة هذه الآية دلّت على أقل الحمل وعلى أكثر مدة الرضاع أما أنها تدل على أقل مدة الحمل فقد بيناه وأما أنها تدل على أكثر مدة الرضاع فلقوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة َ ( البقرة 233 ) والفقهاء ربطوا بهذين الضابطين أحكاماً كثيرة في الفقه وأيضاً فإذا ثبت أن أقل مدة الحمل هو الأشهر الستة فبتقدير أن تأتي المرأة بالولد في هذه الأشهر يبقى جانبها مصوناً عن تهمة الزنا والفاحشة وبتقدير أن يكون أكثر مدة الرضاع ما ذكرناه فإذا حصل الرضاع بعد هذه المدة لا يترتب عليها أحكام الرضاع فتبقى المرأة مستورة عن الأجانب وعند هذا يظهر أن المقصود من تقدير أقل الحمل ستة أشهر وتقدير أكثر الرضاع حولين كاملين السعي في دفع المضار والفواحش وأنواع التهمة عن المرأة فسبحان من له تحت كل كلمة من هذا الكتاب الكريم أسرار عجيبة ونفائس لطيفة تعجز العقول عن الإحاطة بكمالها
وروى الواحدي في ( البسيط ) عن عكرمة أنه قال إذا حملت تسعة أشهر أرضعته أحداً وعشرين شهراً وإذا حملت ستة أشهر أرضعته أربعة وعشرين شهراً والصحيح ما قدمناه
ثم قال تعالى حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف المفسرون في تفسير الأشد قال ابن عباس في رواية عطاء يريد ثماني عشرة سنة والأكثرون من المفسرين على أنه ثلاثة وثلاثون سنة واحتج الفراء عليه بأن قال أن الأربعين أقرب في النسق إلى ثلاث وثلاثين منها إلى ثمانية عشر ألا ترى أنك تقول أخذت عامة المال أو كله فيكون أحسن من قولك أخذت أقل المال أو كله ومثله قوله تعالى رَبّهِ سَبِيلاً إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ( المزمل 20 ) فبعض هذه الأقسام قريب من بعض فكذا هاهنا وقال الزجاج الأولى حمله على ثلاث وثلاثين سنة لأن هذا الوقت الذي يكمل فيه بدن الإنسان وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن يقال إن مراتب سن الحيوان ثلاثة وذلك لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية ولا شك أن الرطوبة الغريزية(28/15)
غالبة في أول العمر وناقصة في آخر العمر والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدتين فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام أولها أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية وحينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد في ذواتها وللزيادة بحسب الطول والعرض والعمق وهذا هو سن النشوء والنماء
والمرتبة الثانية وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافية بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نقصان وهذا هو سن الوقوف وهو سن الشباب
والمرتبة الثالثة وهي المرتبة الأخيرة أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية ثم هذا النقصان على قسمين فالأول هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة والثاني هو النقصان الظاهر وهو سن الشيخوخة فهذا ضبط معلوم ثم ههنا مقدمة أخرى وهي أن دور القمر إنما يكمل في مدة ثمانية وعشرين يوماً وشيء فإذا قسمنا هذه المدة بأربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة فلهذا السبب قدروا الشهر بالأسابيع الأربعة ولهذه الأسابيع تأثيرات عظيمة في اختلاف أحوال هذا العالم إذا عرفت هذا فنقول إن المحققين من أصحاب التجارب قسموا مدة سن النماء والنشوء إلى أربعة أسابيع ويحصل للآدمي بحسب انتهاء كل سابوع من هذه السوابيع الأربعة نوع من التغير يؤدي إلى كماله أما عند تمام السوابيع الأول من العمر فتصلب أعضاءه بعض الصلابة وتقوى أفعاله أيضاً بعض القوة وتتبدل أسنانه الضعيفة الواهية بأسنان قوية وتكون قوة الشهوة في هذا السابوع أقوى في الهضم مما كان قبل ذلك وأما في نهاية السابوع الثاني فتقوى الحرارة وتقل الرطوبات وتتسع المجاري وتقوى قوة الهضم وتقوى الأعضاء وتصلب قوة وصلابة كافية ويتولد فيه مادة الزرع وعند هذا يحكم الشرع عليه بالبلوغ على قول الشافعي رضي الله عنه وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه لأن هذا الوقت لما قويت الحرارة الغريزية قلت الرطوبات واعتدل الدماغ فتكمل القوى النفسانية التي هي الفكر والذكر فلا جرم يحكم عليه بكمال العقل فلا جرم حكمت الشريعة بالبلوغ وتوجه التكاليف الشرعية فما أحسن قول من ضبط البلوغ الشرعي بخمس عشرة سنة
واعلم أنه يتفرع على حصول هذه الحالة أحوال في ظاهر البدن أحدها انفراق طرف الأرنبة لأن الرطوبة الغريزية التي هناك تنتقص فيظهر الانفراق وثانيها نتوء الحنجرة وغلظ الصوت لأن الحرارة التي تنهض في ذلك الوقت توسع الحنجرة فتنتوء ويغلظ الصوت وثالثها تغير ريح الإبط وهي الفضلة العفينة التي يدفعها القلب إلى ذلك الموضع وذلك لأن القلب لما قويت حرارته لا جرم قويت على إنضاج المادة ودفعها إلى اللحم الغددي الرخو الذي في الإبط ورابعها نبات الشعر وحصول الاحتلام وكل ذلك لأن الحرارة قويت فقدرت على توليد الأبخرة المولدة للشعر وعلى توليد مادة الزرع وفي هذا الوقت تتحرك الشهوة في الصبايا وينهد ثديهن وينزل حيضهن وكل ذلك بسبب أن الحرارة الغريزية التي فيهن قويت في آخر هذا السابوع وأما في السابوع الثالث فيدخل في حد الكمال وينبت للذكر اللحية ويزداد حسنه وكماله وأما في السابوع الرابع فلا تزال هذه الأحوال فيه متكاملة متزايدة وعند انتهاء السابوع الرابع نهاية أن لا يظهر الازدياد أما مدة سن الشباب وهي مدة الوقوف السابوع واحد فيكون المجموع خمسة وثلاثين سنة ولما كانت هذه المدة إما قد(28/16)
تزداد وإما قد تنقص بحسب الأمزجة جعل الغاية فيه مدة أربعين سنة وهذا هو السن الذي يحصل فيه الكمال اللائق بالإنسان شرعاً وطباً فإن في هذا الوقت تسكن أفعال القوى الطبيعية بعض السكون وتنتهي له أفعال القوة الحيوانية غايتها وتبتدىء أفعال القوة النفسانية بالقوة والكمال وإذا عرفت هذه المقدمة ظهر لك أن بلوغ الإنسان وقت الأشد شيء وبلوغه إلى الأربعين شيء آخر فإن بلوغه إلى وقت الأشد عبارة عن الوصول إلى آخر سن النشوء والنماء وأن بلوغه إلى الأربعين عبارة عن الوصول إلى آخر مدة الشباب ومن ذلك الوقت تأخذ القوى الطبيعية والحيوانية في الانتقاص وتأخذ القوة العقلية والنطقية في الاستكمال وهذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن فإن البدن عند الأربعين يأخذ في الانتقاص والنفس من وقت الأربعين تأخذ في الاستكمال ولو كانت النفس عين البدن لحصل للشيء الواحد في الوقت الواحد الكمال والنقصان وذلك محال وهذا الكلام الذي ذكرناه ولخصناه مذكور في صريح لفظ القرآن لأنا بينا أن عند الأربعين تنتهي الكمالات الحاصلة بسبب القوى الطبيعية والحيوانية وأما الكمالات الحاصلة بحسب القوى النطقية والعقلية فإنها تبتدىء بالاستكمال والدليل عليه قوله تعالى حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وَعَلَى والِدَى َّ فهذا يدل على أن توجه الإنسان إلى عالم العبودية والاشتغال بطاعة الله إنما يحصل من هذا الوقت وهذا تصريح بأن القوة النفسانية العقلية النطقية إنما تبتدىء بالاستكمال من هذا الوقت فسبحان من أودع في هذا الكتاب الكريم هذه الأسرار الشريفة المقدسة قال المفسرون لم يبعث نبي قط إلا بعد أربعين سنة وأقول هذا مشكل بعيسى عليه السلام فإن الله جعله نبياً من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال الأغلب أنه ما جاءه الوحي إلا بعد الأربعين وهكذا كان الأمر في حق رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) ويروى أن عمر بن عبد العزيز لما بلغ أربعين سنة كان يقول اللّهم أوزعني أن أشكر نعمتك إليّ تمام الدعاء وروي أنه جاء جبريل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ققال ( يؤمر الحافظان أن أرفقا بعبدي من حداثة سنه حتى إذا بلغ الأربعين قيل احفظا وحققا ) فكان راوي هذا الحديث إذا ذكر هذا الحديث بكى حتى تبتل لحيته رواه القاضي في ( التفسير )
المسألة الثانية اعلم أن قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً يدل على أن الإنسان كالمحتاج إلى مراعاة الوالدين له إلى قريب من هذه المدة وذلك لأن العقل كالناقص فلا بد له من رعاية الأبوين على رعاية المصالح ودفع الآفات وفيه تنبيه على أن نعم الوالدين على الولد بعد دخوله في الوجود تمتد إلى هذه المدة الطويلة وذلك يدل على أن نعم الوالدين كأنه يخرج عن وسع الإنسان مكافأتهما إلا بالدعاء والذكر الجميل
المسألة الثالثة حكى الواحدي عن ابن عباس وقوم كثير من متأخري المفسرين ومتقدميهم أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالوا والدليل عليه أن الله تعالى قد وقت الحمل والفصال ههنا بمقدار يعلم أنه قد ينقص وقد يزيد عنه بسبب اختلاف الناس في هذه الأحوال فوجب أن يكون المقصود منه شخصاً واحداً حتى يقال إن هذا التقدير آخبار عن حاله فيمكن أن يكون أبو بكر كان حمله وفصاله هذا القدر
ثم قال تعالى في صفة ذلك الإنسان حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة ً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وَعَلَى والِدَى َّ(28/17)
ومعلوم أنه ليس كل إنسان يقول هذا القول فوجب أن يكون المراد من هذه الآية إنساناً معيناً قال هذا القول وأما أبو بكر فقد قال هذا القول في قريب من هذا السن لأنه كان أقل سناً من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بسنتين وشيء والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث عند الأربعين وكان أبو بكر قريباً من الأربعين وهو قد صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآمن به فثبت بما ذكرناه أن هذه الآيات صالحة لأن يكون المراد منها أبو بكر وإذا ثبت القول بهذه الصلاحية فنقول ندعي أنه هو المراد من هذه الآية ويدل عليه أنه تعالى قال في آخر هذه الآية أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ فِى أَصْحَابِ الْجَنَّة ِ وهذا يدل على أن المراد من هذه الآية أفضل الخلق لأن الذي يتقبل الله عنه أحسن أعماله ويتجاوز عن كل سيئاته يجب أن يكون من أفاضل الخلق وأكابرهم وأجمعت الأمة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إما أبو بكر وإما علي ولا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن هذه الآية إنما تليق بمن أتى بهذه الكلمة عند بلوغ الأشد وعند القرب من الأربعين وعلي بن أبي طالب ما كان كذلك لأنه إنما آمن في زمان الصبا أو عند القرب من الصبا فثبت أن المراد من هذه الآية هو أبو بكر والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى أَوْزِعْنِى قال ابن عباس معناه ألهمني قال صاحب ( الصحاح ) أوزعته بالشيء أغريته به فأوزع به فهو موزع به أي مغرى به واستوزعت الله شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني
المسألة الخامسة اعلم أنه تعالى حكى عن هذا الداعي أنه طلب من الله تعالى ثلاثة أشياء أحدها أن يوفقه الله للشكر على نعمه والثاني أن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عند الله الثالث أن يصلح له في ذريته وفي ترتيب هذه الأشياء الثلاثة على الوجه المذكور وجهان الأول أنا بينا أن مراتب السعادات ثلاثة أكملها النفسانية وأوسطها البدنية وأدونها الخارجية والسعادات النفسانية هي اشتغال القلب بشكر آلاء الله ونعمائه والسعادات البدنية هي اشتغال البدن بالطاعة والخدمة والسعادات الخارجية هي سعادة الأهل والولد فلما كانت المراتب محصورة في هذه الثلاثة لا جرم رتبها الله تعالى على هذا الوجه
والسبب الثاني لرعاية هذا الترتيب أنه تعالى قدم الشكر على العمل لأن الشكر من أعمال القلوب والعمل من أعمال الجوارح وعمل القلب أشرف من عمل الجارحة وأيضاً المقصود من الأعمال الظاهرة أحوال القلب قال تعالى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) بين أن الصلاة مطلوبة لأجل أنها تفيد الذكر فثبت أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح والأشرف يجب تقديمه في الذكر وأيضاً الاشتغال بالشكر اشتغال بقضاء حقوق النعم الماضية والاشتغال بالطاعة الظاهرة اشتغال بطلب النعم المستقبلة وقضاء الحقوق الماضية يجري مجرى قضاء الدين وطلب المنافع المستقبلة طلب للزوائد ومعلوم أن قضاء الدين مقدم على سائر المهمات فلهذا السبب قدم الشكر على سائر الطاعات وأيضاً أنه قدم طلب التوفيق على الشكر وطلب التوفيق على الطاعة على طلب أن يصلح له ذريته وذلك لأن المطلوبين الأولين اشتغال بالتعظيم لأمر الله والمطلوب الثالث اشتغال بالشفقة على خلق الله ومعلوم أن التعظيم لأمر الله يجب تقديمه على الشفقة على خلق الله
المسألة السادسة قال أصحابنا إن العبد طلب من الله تعالى أن يلهمه الشكر على نعم الله وهذا يدل(28/18)
على أنه لا يتم شيء من الطاعات والأعمال إلا بإعانة الله تعالى ولو كان العبد مستقلاً بأفعاله لكان هذا الطلب عبثاً وأيضاً المفسرون قالوا المراد من قوله أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ هو الإيمان أو الإيمان يكون داخلاً فيه والدليل عليه قوله تعالى اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ( الفاتحة 6 7 ) والمراد صراط الذين أنعمت عليهم بنعمة الإيمان وإذا ثبت هذا فنقول العبد يشكر الله على نعمة الإيمان فلو كان الإيمان من العبد لا من الله لكان ذلك شكراً لله تعالى على فعله لا على فعل غيره وذلك قبيح لقوله تعالى وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ( آل عمران 188 ) فإن قيل فهب أن يشكر الله على ما أنعم به عليه فكيف يشكره على النعم التي أنعم بها على والديه وإنما يجب على الرجل أن يشكر ربه على ما يصل إليه من النعم قلنا كل نعمة وصلت من الله تعالى إلى والديه فقد وصل منها أثر إليه فلذلك وصاه الله تعالى على أن يشكر ربه على الأمرين
وأما المطلوب الثاني من المطالب المذكورة في هذا الدعاء فهو قوله وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ
واعلم أن الشيء الذي يعتقد أن الإنسان فيه كونه صالحاً على قسمين أحدهما الذي يكون صالحاً عنده ويكون صالحاً أيضاً عند الله تعالى والثاني الذي يظنه صالحاً ولكنه لا يكون صالحاً عند الله تعالى فلما قسم الصالح في ظنه إلى هذين القسمين طلب من الله أن يوفقه لأن يأتي بعمل صالح يكون صالحاً عند الله ويكون مرضياً عند الله
والمطلوب الثالث من المطالب المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى لأن ذلك من أجل نعم الله على الوالد كما قال إبراهيم عليه السلام وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ ( إبراهيم 35 ) فإن قيل ما معنى فِى في قوله وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى قلنا تقدير الكلام هب لي الصلاح في ذريتي وأوقعه فيهم
واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الداعي أنه طلب هذه الأشياء الثلاثة قال بعد ذلك إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة وإلا مع كونه من المسلمين فتبين أني إنما أقدمت على هذا الدعاء بعد أن تبت إليك من الكفر ومن كل قبيح وبعد أن دخلت في الإسلام والانقياد لأمر الله تعالى ولقضائه
واعلم أن الذين قالوا إن هذه الآية نزلت في أبي بكر قالوا إن أبا بكر أسلم والداه ولم يتفق لأحد من الصحابة والمهاجرين إسلام الأبوين إلا له فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو وقوله وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ قال ابن عباس فأجابه الله إليه فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة ولم يترك شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه وقوله تعالى وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى قال ابن عباس لم يبق لأبي بكر ولد من الذكور والإناث إلا وقد آمنوا ولم يتفق لأحد من الصحابة أن أسلم أبواه وجميع أولاده الذكور والإناث إلا لأبي بكر
ثم قال تعالى أُوْلَائِكَ أي أهل هذا القول الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ قرىء بضم الياء على بناء الفعل للمفعول وقرىء بالنون المفتوحة وكذلك نتجاوز وكلاهما في المعنى واحد لأن الفعل وإن كان مبنياً للمفعول فمعلوم أنه لله سبحانه وتعالى فهو كقوله يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) فبيّن تعالى بقوله(28/19)
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ أن من تقدم ذكره ممن يدعو بهذا الدعاء ويسلك هذه الطريقة التي تقدم ذكرها نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله فإن قيل ولم قال تعالى أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ والله يتقبل الأحسن وما دونه قلنا الجواب من وجوه الأول المراد بالأحسن الحسن كقوله تعالى وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ ( الزمر 55 ) كقولهم الناقص والأشج أعدلا بني مروان أي عادلا بني مروان الثاني أن الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب والأحسن ما يغاير ذلك وهو وكل ما كان مندوباً واجباً
ثم قال تعالى وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيْئَاتِهِمْ والمعنى أنه تعالى يتقبل طاعاتهم ويتجاوز عن سيئاتهم ثم قال فِى أَصْحَابِ الْجَنَّة ِ قال صاحب ( الكشاف ) ومعنى هذا الكلام مثل قولك أكرمني الأمير في مائتين من أصحابه يريد أكرمني في جملة من أكرم منهم وضمني في عدادهم ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين منهم وقوله وَعْدَ الصّدْقِ مصدر مؤكد لأن قوله نَتَقَبَّلُ وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز والمقصود بيان أنه تعالى يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء وذلك وعد من الله تعالى فبيّن أنه صدق ولا شك فيه
وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ
اعلم أنه تعالى لما وصف الولد البار بوالديه في الآية المتقدمة وصف الولد العاق لوالديه في هذه الآية فقال يُوعَدُونَ وَالَّذِى قَالَ لِوالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا وفي هذه الآية قولان الأول أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قالوا كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى وهو أُفّ لَّكُمَا واحتج القائلون بهذا القول على صحته بأنه لما كتب معاوية إلى مروان يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن بن أبي بكر لقد جئتم بها هرقلية أتبايعون لأبنائكم فقال مروان يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه وَالَّذِى قَالَ لِوالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا والقول الثاني أنه ليس المراد من شخص معين بل المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة وهو كل من دعاه أبواه إلى(28/20)
الدين الحق فأباه وأنكره وهذا القول هو الصحيح عندنا ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني بقوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إسلامه وكان من سادات المسلمين فبطل حمل الآية عليه فإن قالوا روي أنه لما دعاه أبواه إلى الإسلام وأخبراه بالبعث بعد الموت قال أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ من القبر يعني أبعث بعد الموت وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى يعني الأمم الخالية فلم أر أحداً منهم بعث فأين عبد الله بن جدعان وأين فلان وفلان إذا عرفت هذا فنقول قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ المراد هؤلاء الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله وهم الذين حق عليهم القول وبالجملة فهو عائد إلى المشار إليهم بقوله وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى لا إلى المشار إليه بقوله وَالَّذِى قَالَ لِوالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا هذا ما ذكره الكلبي في دفع ذلك الدليل وهو حسن والوجه الثاني في إبطال ذلك القول ما روي أن مروان لما خطب عبد الرحمن بن أبي بكر بذلك الكلام سمعت عائشة ذلك فغضبت وقالت والله ما هو به ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه الوجه الثالث وهو الأقوى أن يقال إنه تعالى وصف الولد البار بأبويه في الآية المتقدمة ووصف الولد العاق لأبويه في هذه الآية وذكر من صفات ذلك الولد أنه بلغ في العقوق إلى حيث لما دعاه أبواه إلى الدين الحق وهو الإقرار بالبعث والقيامة أصر على الإنكار وأبى واستكبر وعول في ذلك الإنكار على شبهات خسيسة وكلمات واهية وإذا كان كذلك كان المراد كل ولد اتصف بالصفات المذكورة ولا حاجة ألبتة إلى تخصيص اللفظ المطلق بشخص معين قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أُفّ بالفتح والكسر بغير تنوين وبالحركات الثلاث مع التنوين وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر كما إذا قال حس علم أنه متوجع واللام للبيان معناه هذا التأفيف لكما خاصة ولأجلكما دون غيركما وقرىء أَتَعِدَانِنِى بنونين وأتعداني بأحدهما وأتعداني بالإدغام وقرأ بعضهم أتعدانني بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرين والياء ففتح الأولى تحرياً للتخفيف كما تحراه من أدغم ومن طرح أحدهما
ثم قال أَنْ أَخْرِجْ أي أن أبعث وأخرج من الأرض وقرىء أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى يعني ولم يبعث منهم أحد
ثم قال وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ أي الوالدان يستغيثان الله فإن قالوا كان الواجب أن يقال يستغيثان بالله قلنا الجواب من وجهين الأول أن المعنى أنهما يستغيثان الله من كفره وإنكاره فلما حذف الجار وصل الفعل الثاني يجوز أن يقال الباء حذف لأنه أريد بالاستغاثة ههنا الدعاء على ما قاله المفسرون عَبْدُ اللَّهِ فلما أريد بالاستغاثة الدعاء حذف الجار لأن الدعاء لا يقتضيه وقوله وَيْلَكَ أي يقولان له ويلك مِن وصدق بالبعث وهو دعاء عليه بالثبور والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك
ثم قال إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حق فيقول لهما ما هذا الذي تقولان من أمر البعث وتدعوانني إليه إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي حقت عليهم كلمة العذاب ثم ههنا قولان(28/21)
فالذين يقولون المراد بنزول الآية عبد الرحمن بن أبي بكر قالوا المراد بهؤلاء الذين حقت عليهم كلمة العذاب هم القرون الذين خلوا من قبله والذين قالوا المراد به ليس عبد الرحمن بل كل ولد كان موصوفاً بالصفة المذكورة قالوا هذا الوعيد مختص بهم وقوله فِى أُمَمٍ نظير لقوله فِى أَصْحَابِ الْجَنَّة ِ وقد ذكرنا أنه نظير لقوله أكرمني الأمير في أناس من أصحابه يريد أكرمني في جملة من أكرم منهم
ثم قال إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ وقرىء أن بالفتح على معنى آمن بأن وعد الله حق
ثم قال وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ وفيه قولان الأول أن الله تعالى ذكر الولد البار ثم أردفه بذكر الولد العاق فقوله وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ خاص بالمؤمنين وذلك لأن المؤمن البار بوالديه له درجات متفاوتة ومراتب مختلفة في هذا الباب والقول الثاني أن قوله لِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ عائد إلى الفريقين والمعنى ولكل واحد من الفريقين درجات في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية فإن قالوا كيف يجوز ذكر لفظ الدرجات في أهل النار وقد جاء في الأثر الجنة الدرجات والنار دركات قلنا فيه وجوه الأول يجوز أن يقال ذلك على جهة التغليب الثاني قال ابن زيد درج أهل الجنة يذهب علواً ودرج أهل النار ينزلوا هبوطاً الثالث أن المراد بالدرجات المراتب المتزايدة إلا أن زيادات أهل الجنة في الخيرات والطاعات وزيادات أهل النار في المعاصي والسيئات
ثم قال تعالى وَلِيُوَفّيَهُمْ وقرىء بالنون وهذا تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه كأنه وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات ولما بيّن الله تعالى أنه يوصل حق كل أحد إليه بين أحوال أهل العقاب أولاً فقال وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ قيل يدخلون النار وقيل تعرض عليهم النار ليروا أهوالها أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا قرأ ابن كثير أَذْهَبْتُمْ استفهام بهمزة ومدة وابن عامر استفهام بهمزتين بلا مدة والباقون أَذْهَبْتُمْ بلفظ الخبر والمعنى أن كل ما قدر لكم من الطيبات والراحات فقد استوفيتموه في الدنيا وأخذتموه فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها وعن عمر لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكني أستبقي طيباتي وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً فقال ( أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة قالوا نحن يومئذ خير قال بل أنتم اليوم خير ) رواه صاحب ( الكشاف ) قال الواحدي إن الصالحين يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل إلا أن هذه الآية لا تدل على المنع من التنعم لأن هذه الآية وردت في حق الكافر وإنما وبخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته والإيمان به وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه والدليل عليه قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف 32 ) نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى لأن النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والإنقباض وحينئذ فربما حمله الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي وذلك مما يجر بعضه إلى بعض ويقع في البعد عن الله تعالى بسببه
ثم قال تعالى فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ أي الهوان وقرىء عذاب الهوان بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ(28/22)
فعلل تعالى ذلك العذاب بأمرين أولهما الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب الثاني الفسق وهو ذنب الجوارح وقدم الأول على الثاني لأن أحوال القلوب أعظم وقعاً من أعمال الجوارح ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يتكبرون عن قبول الدين الحق ويستنكفون عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وأما الفسق فهو المعاصي واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا لأنه تعالى علل عذابهم بأمرين أولهما الكفر وثانيهما الفسق وهذا الفسق لا بد وأن يكون مغايراً لذلك الكفر لأن العطف يوجب المغايرة فثبت أن فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات والله أعلم
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاٌّ حْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَاكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَى ْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَة ً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَى ْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أنه تعالى لما أورد أنواع الدلائل في إثبات التوحيد والنبوّة وكان أهل مكة بسبب استغراقهم في لذات الدنيا واشتغالهم بطلبها أعرضوا عنها ولم يلتفتوا إليها ولهذا السبب قال تعالى في حقهم وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا فلما كان الأمر كذلك بين أن قوم عاد كانوا أكثر أموالاً وقوة وجاهاً منهم ثم إن الله تعالى سلّط العذاب عليهم بسبب شؤم كفرهم فذكر هذه القصة ههنا(28/23)
ليعتبر بها أهل مكة فيتركوا الاغترار بما وجدوه من الدنيا ويقبلوا على طلب الدين فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذه القصة في هذا الموضع وهو مناسب لما تقدم لأن من أراد تقبيح طريقة عند قوم كان الطريق فيه ضرب الأمثال وتقديره أن من واظب على تلك الطريقة نزل به من البلاء كذا وكذا وقوله تعالى وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ أي واذكر يا محمد لقومك أهل مكة هوداً عليه السلام إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ أي حذرهم عذاب الله إن لم يؤمنوا وقوله بِالاْحْقَافِ قال أبو عبيدة الحقف الرمل المعوج ومنه قيل للمعوج محقوف وقال الفراء الأحقاف واحدها حقف وهو الكثيب المكسر غير العظيم وفيه اعوجاج قال ابن عباس الأحقاف وادٍ بين عمان ومهرة والنذر جمع نذير بمعنى المنذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ من قبله وَمِنْ خَلْفِهِ من بعده والمعنى أن هوداً عليه السلام قد أنذرهم وقال لهم أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم العذاب
واعلم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره
ثم حكى تعالى عن الكفار أنهم قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا الإفك الصرف يقال أفكه عن رأيه أي صرفه وقيل بل المراد لتزيلنا بضرب من الكذب عَنْ ءالِهَتِنَا وعن عبادتها فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا معاجلة العذاب على الشرك إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك فعند هذا قال هود إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وإنما صلح هذا الكلام جواباً لقولهم فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا لأن قولهم فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا استعجال منهم لذلك العذاب فقال لهم هود لا علم عندي بالوقت الذي يحصل فيه ذلك العذاب إنما علم ذلك عند الله تعالى وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وهو التحذير عن العذاب وأما العلم بوقته فما أوحاه الله إليّ وَلَاكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وهذا يحتمل وجوهاً الأول المراد أنكم لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا سائلين عن غير ما أذن لهم فيه وإنما بعثوا مبلغين الثاني أراكم قوماً تجهلون من حيث إنكم بقيتم مصرين على كفركم وجهلكم فيغلب على ظني أنه قرب الوقت الذي ينزل عليكم العذاب بسبب هذ الجهل المفرط والوقاحة التامة الثالث إِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ حيث تصرون على طلب العذاب وهب أنه لم يظهر لكم كوني صادقاً ولكن لم يظهر أيضاً لكم كوني كاذباً فالإقدام على الطلب الشديد لهذا العذاب جهل عظيم
ثم قال تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ ذكر المبرّد في الضمير في رأوه قولين أحدهما أنه عائد إلى غير مذكور وبينه قوله عَارِضاً كما قال مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ ( فاطر 45 ) ولم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا هاهنا الضمير عائد إلى السحاب كأنه قيل فلما رأوا السحاب عارضاً وهذا اختيار الزجاج ويكون من باب الإضمار لا على شريطة التفسير والقول الثاني أن يكون الضمير عائداً إلى ما في قوله فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا أي فلما رأوا ما يوعدون به عارضاً قال أبو زيد العارض السحابة التي ترى في ناحية السماء ثم تطبق وقوله مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قال المفسرون كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من وادٍ يقال له المغيث فَلَمَّا رَأَوْهُ مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ استبشروا و قَالُواْ هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا والمعنى ممطر إيانا قيل كان هود قاعداً في قومه فجاء سحاب مكثر فقالوا هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا فقال بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ من العذاب ثم بيّن ماهيته فقال رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ثم وصف تلك الريح فقال تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء أي تهلك كل شيء من الناس والحيوان والنبات بِأَمْرِ رَبّهَا والمعنى أن هذا ليس من باب تأثيرات الكواكب والقرانات بل هو أمر حدث ابتداء بقدرة الله تعالى لأجل تعذيبكم(28/24)
فَأَصْبَحُواْ يعني عاداً لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى روي أن الريح كانت تحمل الفسطاط فترفعها في الجو حتى يرى كأنها جرادة وقيل أول من أبصر العذاب امرأة منهم قالت رأيت ريحاً فيها كشهب النار وروي أن أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم فعلقت الريح الأبواب وصرعتهم وأحال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ثم كشفت الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر وروي أن هوداً لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع فكانت الريح التي تصيبهم ريحاً لينة هادئة طيبة والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطيرهم إلى السماء وتضربهم على الأرض وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما أمر الله خازن الرياح أن يرسل على عاد إلا مثل مقدار الخاتم ) ثم إن ذلك القدر أهلكهم بكليتهم والمقصود من هذا الكلام إظهار كمال قدرة الله تعالى وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال ( اللّهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها ومن شر ما أرسلت به )
المسألة الثالثة قرأ عاصم وحمزة لاَ يُرَى بالياء وضمها مَسَاكِنِهِمْ بضم النون قال الكسائي معناه لا يرى شيء إلا مساكنهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي لاَّ تَرَى على الخطاب أي لا ترى أنت أيها المخاطب وفي بعض الروايات عن عاصم لاَّ تَرَى بالتاء مَسَاكِنِهِمْ بضم النون وهي قراءة الحسن والتأويل لا ترى من بقايا عاد أشياء إلا مساكنهم وقال الجمهور هذه القراءة ليست بالقوية
ثم قال تعالى كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ والمقصود منه تخويف كفار مكة فإن قيل لما قال الله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) فكيف يبقى التخويف حاصلاً قلنا قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ إنما أنزل في آخر الأمر فكان التخويف حاصلاً قبل نزوله
ثم إنه تعالى خوف كفار مكة وذكر فضل عاد بالقوة والجسم عليهم فقال وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ قال المبرّد ما في قوله فِيمَا بمنزلة الذي و ءانٍ بمنزلة ما والتقدير ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه والمعنى أنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أموالاً وقال ابن قتيبة كلمة إن زائدة والتقدير ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وهذا غلط لوجوه الأول أن الحكم بأن حرفاً من كتاب الله عبث لا يقول به عاقل والثاني أن المقصود من هذا الكلام أنهم كانوا أقوى منكم قوة ثم إنهم مع زيادة القوة ما نجوا من عقاب الله فكيف يكون حالكم وهذا المقصود إنما يتم لو دلّت الآية على أنهم كانوا أقوى قوة من قوم مكة الثالث أن سائر الآيات تفيد هذا المعنى قال تعالى هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ( مريم 74 ) وقال قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّة ً وَءاثَاراً فِى الاْرْضِ ( غافر 82 )
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَة ً والمعنى أنا فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبر وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها فلا جرم ما أغنى سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله شيئاً(28/25)
ثم بيّن تعالى أنه إنما لم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم لأجل أنهم كانوا يجحدون بآيات الله وقوله إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بمنزلة التعليل ولفظ إذ قد يذكر لإفادة التعليل تقول ضربته إذ أساء والمعنى ضربته لأنه أساء وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة فإن قوم عاد لما اغتروا بدنياهم وأعرضوا عن قبول الدليل والحجة نزل بهم عذاب الله ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى بأن يحذروا من عذاب الله تعالى ويخافوا
ثم قال تعالى وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب وإنما كانوا يطلبونه على سبيل الاستهزاء والله أعلم
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الاٌّ يَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءَالِهَة َ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أن المراد ولقد أهلكنا ما حولكم يا كفار مكة من القرى وهي قرى عاد وثمود باليمن والشام وَصَرَّفْنَا الاْيَاتِ بيناها لهم لَعَلَّهُمْ أي لعلّ أهل القرى يرجعون فالمراد بالتصريف الأحوال الهائلة التي وجدت قبل الإهلاك قال الجبائي قوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ معناه لكي يرجعوا عن كفرهم دل بذلك على أنه تعالى أراد رجوعهم ولم يرد إصرارهم والجواب أنه فعل ما لو فعله غيره لكان ذلك لأجل الإرادة المذكورة وإنما ذهبنا إلى هذا التأويل للدلائل الدالة على أنه سبحانه مريد لجميع الكائنات
ثم قال تعالى فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءالِهَة َ القربان ما يتقرب به إلى الله تعالى أي اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله حيث قالوا هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) وقالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) وفي إعراب الآية وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) أحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين هو محذوف والثاني آلهة وقرباناً حال وقيل عليه إن الفعل المتعدي إلى مفعولين لا يتم إلا بذكرهما لفظاً والحال مشعر بتمام الكلام ولا شك أن إتيان الحال بين المفعولين على خلاف الأصل الثاني قال بعضهم قُرْبَاناً مفعول ثان قدم على المفعول الأول وهو آلهة فقيل عليه إنه يؤدي إلى خلو الكلام عن الراجع إلى الذين والثالث قال بعض المحققين يضمر أحد مفعولي اتخذوا وهو الراجع إلى الذين ويجعل قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة عطف بيان إذا عرفت الكلام في الإعراب فنقول المقصود أن يقال إن أولئك الذين أهلكهم الله هلا نصرهم الذين عبدوهم وزعموا أنهم متقربون بعبادتهم إلى الله ليشفعوا لهم بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ أي غابوا عن نصرتهم وذلك إشارة إلى أن كون آلهتهم ناصرين لهم أمر ممتنع
ثم قال تعالى وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ أي وذلك الامتناع أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب في إثبات الشركاء له قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء إِفْكِهِمْ والإفك(28/26)
والأفك كالحذر والحذر وقرىء وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ بفتح الفاء والكاف أي ذلك الاتخاذ الذي هذا أثره وثمرته صرفهم عن الحق وقرىء إِفْكِهِمْ على التشديد للمبالغة أفكهم جعلهم آفكين وآفكهم أي قولهم الإفك أي ذو الإفك كما تقول قول كاذب
ثم قال وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ والتقدير وذلك إفكهم وافتراؤهم في إثبات الشركاء لله تعالى والله أعلم
وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِى َ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ ياقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ياقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِى َ اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِى َ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأرض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بيّن أن في الإنس من آمن وفيهم من كفر بيّن أيضاً أن الجن فيهم من آمن وفيهم من كفر وأن مؤمنهم معرض للثواب وكافرهم معرض للعقاب وفي كيفية هذه الواقعة قولان الأول قال سعيد بن جبير كانت الجن تستمع فلما رجموا قالوا هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب وكان قد اتفق أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن نخل قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر فمرّ به نفر من أشراف جن نصيبين لأن إبليس بعثهم ليعرفوا السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب والقول الثاني أن الله تعالى أمر رسوله أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله إليه نفراً من الجن ليستمعوا منه القرآن وينذروا قومهم
ويتفرع على ما ذكرناه فروع الأول نقل عن القاضي في تفسيره الجن أنه قال إنهم كانوا يهوداً لأن في الجن ( مللاً ) كما في الإنس من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام وأطبق المحققون على أن الجن مكلفون سئل ابن عباس هل للجن ثواب فقال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها الفرع الثاني قال صاحب ( الكشاف ) النفر دون العشرة ويجمع على أنفار ثم روى(28/27)
محمد بن جرير الطبري عن ابن عباس أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رسلاً إلى قومهم وعن زر ابن حبيش كانوا تسعة أحدهم ذوبعة وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من ساوة الفرع الثالث اختلفوا في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة الجن والروايات فيه مختلفة ومشهورة الفرع الرابع روى القاضي في ( تفسيره ) عن أنس قال ( كنت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جبال مكة إذ أقبل شيخ متوكىء على عكازة فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مشية جني ونغمته فقال أجل فقال من أي الجن أنت فقال أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس فقال لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين فكم أتى عليك فقال أكلت عمر الدنيا إلا أقلها وكنت وقت قتل قابيل هابيل أمشي بين الآكام وذكر كثيراً مما مرّ به وذكر في جملته أن قال قال لي عيسى بن مريم إن لقيت محمداً فأقرئه مني السلام وقد بلغت سلامه وآمنت بك فقال عليه السلام وعلى عيسى السلام وعليك يا هامة ما حاجتك فقال إن موسى عليه السلام علمني التوراة وعيسى علمني الإنجيل فعلمني القرآن فعلمه عشر سور وقبض ( صلى الله عليه وسلم ) ولم ينعه ) قل عمر بن الخطاب ولا أراه إلا حياً واعلم أن تمام الكلام في قصة الجن مذكور في سورة الجن
المسألة الثانية اختلفوا في تفسير قوله وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ فقال بعضهم لما لم يقصد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قراءة القرآن عليهم فهو تعالى ألقى في قلوبهم ميلا وداعية إلى استماع القرآن فلهذا السبب قال وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ
ثم قال تعالى فَلَمَّا حَضَرُوهُ الضمير للقرآن أو لرسول الله قَالُواْ أي قال بعضهم لبعض أَنصِتُواْ أي اسكتوا مستمعين يقال أنصت لكذا واستنصت له فلما فرغ من القراءة وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ينذرونهم وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلا وقد آمنوا فعنده قَالُواْ يأَبَانَا قَوْمُنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى ووصفوه بوصفين الأول كونه مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أي مصدقاً لكتب الأنبياء والمعنى أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد والنبوّة والمعاد والأمر بتطهير الأخلاق فكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني الثاني قوله يَهْدِى إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ
واعلم أن الوصف الأول يفيد أن هذا الكتاب يماثل سائر الكتب الإلاهية في الدعوة إلى هذه المطالب العالية الشريفة والوصف الثاني يفيد أن هذه المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطلب حقة صدق في أنفسها يعلم كل أحد بصريح عقله كونها كذلك سواء وردت الكتب الإلاهية قبل ذلك بها أو لم ترد فإن قالوا كيف قالوا مِن بَعْدِ مُوسَى قلنا قد نقلنا عن الحسن إنه قال إنهم كانوا على اليهودية وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا من بعد موسى ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا مُّسْتَقِيمٍ ياقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِى َ اللَّهِ واختلفوا في أنه هل المراد بداعي الله الرسول أو الواسطة التي تبلغ عنه والأقرب أنه هو الرسول لأنه هو الذي يطلق عليه هذا الوصف
واعلم أن قوله أَجِيبُواْ دَاعِى َ اللَّهِ فيه مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان مبعوثاً إلى الجن كما كان مبعوثاً إلى الإنس قال مقاتل ولم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله(28/28)
المسألة الثانية قوله أَجِيبُواْ دَاعِى َ اللَّهِ أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان إلا أنه أعاد ذكر الإيمان على التعيين لأجل أنه أهم الأقسام وأشرفها وقد جرت عادة القرآن بأنه يذكر اللفظ العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه كقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ( البقرة 98 ) وقوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 70 ) ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان وهي قوله يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال بعضهم كلمة مِنْ ههنا زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم وقيل بل الفائدة فيه أن كلمة مِنْ ههنا لابتداء الغاية فكان المعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل
المسألة الثانية اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا فقيل لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا تراباً مثل البهائم واحتجوا على صحة هذا المذهب بقوله تعالى وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأحقاف 31 ) وهو قول أبي حنيفة والصحيح أنهم في حكم بني آدم فيستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وهذا القول قول ابن أبي ليلى ومالك وجرت بينه وبين أبي حنيفة في هذا الباب مناظرة قال الضحاك يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون والدليل على صحة هذا القول أن كل دليل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حق الجن والفرق بين البابين بعيد جداً
واعلم أن ذلك الجني لما أمر قومه بإجابة الرسول والإيمان به حذرهم من تلك تلك الإجابة فقال وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِى َ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الاْرْضَ أي لا ينجي منه مهرب ولا يسبق قضاءه سابق ونظيره قوله تعالى وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ( الجن 12 ) ولا نجد له أيضاً ولياً ولا نصيراً ولا دافعاً من دون الله ثم بيّن أنهم في ضلال مبين
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَمْ يَعْى َ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْى ِ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم المختار ثم فرع عليه فرعين الأول إبطال قول عبدة الأصنام والثاني إثبات النبوّة وذكر شبهاتهم في الطعن في النبوة وأجاب عنها ولما كان أكثر إعراض كفار مكة عن قبول الدلائل بسبب اغترارهم بالدنيا واستغراقهم في استيفاء طيباتهم وشهواتها وبسبب أنه كان يثقل عليهم الانقياد لمحمد والاعتراف بتقدمه عليهم ضرب لذلك مثلاً وهم قوم عاد فإنهم كانوا أكمل في منافع الدنيا من قوم محمد فلما أصروا على الكفر أبادهم الله وأهلكهم(28/29)
فكان ذلك تخويفاً لأهل مكة بإصرارهم على إنكار نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ثم لما قرر نبوته على الإنس أردفه بإثبات نبوته في الجن وإلى ههنا قد تم الكلام في التوحيد وفي النبوة ثم ذكر عقيبهما تقرير مسألة المعاد ومن تأمل في هذا البيان الذي ذكرناه علم أن المقصود من كل القرآن تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد وأما القصص فالمراد من ذكرها ما يجري مجرى ضرب الأمثال في تقرير هذه الأصول
المسألة الثانية المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على كونه تعالى قادراً على البعث والدليل عليه أنه تعالى أقام الدلائل في أول هذه السورة على أنه هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ولا شك أن خلقها أعظم وأفخم من إعادة هذا الشخص حياً بعد أن صار ميتاً والقادر على الأقوى الأكمل لا بد وأن يكون قادراً على الأقل والأضعف ثم ختم الآية بقوله إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ والمقصود منه أن تعلق الروح بالجسد أمر ممكن إذ لو لم يكن ممكناً في نفسه لما وقع أولاً والله تعالى قادر على كل الممكنات فوجب كونه قادراً على تلك الإعادة وهذه الدلائل يقينية ظاهرة
المسألة الثالثة في قوله تعالى بِقَادِرٍ إدخاله الباء على خبر إن وإنما جاز ذلك لدخول حرف النفي على أن وما يتعلق بها فكأنه قيل أليس الله بقادر قال الزجاج لو قلت ما ظننت أن زيداً بقائم جاز ولا يجوز ظننت أن زيداً بقائم والله أعلم
المسألة الرابعة يقال عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه ومنه أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( ق 15 )
واعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على صحة القول بالحشر والنشر ذكر بعض أحوال الكفار فقال وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ قَالُواْ بَلَى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ فقوله أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ التقدير يقال لهم أليس هذا بالحق والمقصود التهكم بهم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( الصافات 59 )
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَة ً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ
واعلم أنه تعالى لما قرر المطالب الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والمعاد وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوجسون صدره فقال تعالى فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي أولو الجد والصبر والثبات وفي الآية قولان
الأول أن تكون كلمة مِنْ للتبعيض ويراد بأولو العزم بعض الأنبياء قيل هم نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه وإبراهيم على النار وذبح الولد وإسحاق على الذبح ويعقوب على فقدان الولد وذهاب البصر ويوسف على الجب والسجن وأيوب على الضر وموسى قال له قومه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ كَلاَّ إِنَّ مَعِى َ رَبّى سَيَهْدِينِ ( الشعراء 61 62 ) وداود بكى على زلته أربعين سنة وعيسى لم(28/30)
يضع لبنة على لبنة وقال إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها وقال الله تعالى في آدم وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) وفي يونس وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( القلم 48 )
والقول الثاني أن كل الرسل أولو عزم ولم يبعث الله رسولاً إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال وعقل ولفظة من في قوله مَّنَ الرُّسُلِ تبيين لا تبعيض كما يقال كسيته من الخز وكأنه قيل اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم ووصفهم بالعزم لصبرهم وثباتهم
ثم قال وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ومفعول الاستعجال محذوف والتقدير لا تستعجل لهم بالعذاب قيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ضجر من قومه بعض الضجر وأحب أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه فأمر بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر أن ذلك العذاب منهم قريب وأنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر وعند نزول ذلك العذاب بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار والمعنى أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من النهار أو كأن لم يكن لهول ما عاينوا أو لأن الشيء إذا مضى صار كأنه لم يكن وإن كان طويلاً قال الشاعر كأن شيئاً لم يكن إذا مضى
كأن شيئاً لم يزل إذا أنى
واعلم أنه ههنا ثم قال تعالى يلاغ أي هذا بلاغ ونظيره قوله تعالى الْحِسَابِ هَاذَا بَلَاغٌ لّلنَّاسِ ( إبراهيم 25 ) أي هذا الذي وعظتم به فيه كفاية في الموعظ أو هذا تبليغ من الرسل فهل يهلك إلا الخارجون عن الاتعاظ به والعمل بموجبه والله أعلم(28/31)
سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
( ثلاثون وتسع آيات مكية
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة فإن آخرها قوله تعالى فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( الأحقاف 35 ) فإن قال قائل كيف يهلك الفاسق وله أعمال صالحة كإطعام الطعام وصلة الأرحام وغير ذلك مما لا يخلو عنه الإنسان في طول عمره فيكون في إهلاكه إهدار عمله وقد قال تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزله 7 ) وقال تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أي لم يبق لهم عمل ولم يوجد فلم يمتنع الإهلاك وسنبين كيف إبطال الأعمال مع تحقيق القول فيه وتعالى الله عن الظلم وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى من المراد بقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ قلنا فيه وجوه الأول هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر منهم أبو جهل والحرث ابنا هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم الثاني كفار قريش الثالث أهل الكتاب الرابع هو عام يدخل فيه كل كافر
المسألة الثانية في الصد وجهان أحدهما صدوا أنفسهم معناه أنهم صدوا أنفسهم عن السبيل ومنعوا عقولهم من اتباع الدليل وثانيهما صدوا غيرهم ومنعوهم كما قال تعالى عن المستضعفين يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( سبأ 31 ) وعلى هذا بحث وهو أن إضلال الأعمال مرتب على الكفر والصد والمستضعفون لم يصدوا فلا يضل أعمالهم فنقول التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ولا سيما إذا كان المذكور أولى بالذكر من غيره وههنا الكافر الصاد أدخل في الفساد فصار هو أولى بالذكر أو نقول كل من كفر صار صاداً لغيره أما المستكبر فظاهر وأما المستضعف فلأنه(28/32)
بمتابعته أثبت للمستكبر ما يمنعه من اتباع الرسول فإنه بعد ما يكون متبوعاً يشق عليه بأن يصير تابعاً ولأن كل من كفر صار صاداً لمن بعده لأن عادة الكفار اتباع المتقدم كما قال عنهم بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى ( الزخرف 22 ) أو مقتدون فإن قيل فعلى هذا كل كافر صاد فما الفائدة في ذكر الصد بعد الكفر نقول هو من باب ذكر السبب وعطف المسبب عليه تقول أكلت كثيراً وشبعت والكفر على هذا سبب الصد ثم إذا قلنا بأن المراد منه أنهم صدوا أنفسهم ففيه إشارة إلى أن ما في الأنفس من الفطرة كان داعياً إلى الإيمان والامتناع لمانع وهو الصد لنفسه
المسألة الثالثة في المصدود عنه وجوه الأول عن الإنفاق على محمد عليه السلام وأصحابه الثاني عن الجهاد الثالث عن الإيمان الرابع عن كل ما فيه طاعة الله تعالى وهو اتباع محمد عليه السلام وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الصراط المستقيم هاد إليه وهو صراط الله قال تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ ( الشورى 52 53 ) فمن منع من اتباع محمد عليه السلام فقد صد عن سبيل الله
المسألة الرابعة في الإضلال وجوه الأول المراد منه الإبطال ووجهه هو أن المراد أنه أضله بحيث لا يجده فالطالب إنما يطلبه في الوجود وما لا يوجد في الوجود فهو معدوم فإن قيل كيف يبطل الله حسنة أوجدها نقول إن الابطال على وجوه أحدها يوازن بسيئاتهم الحسنات التي صدرت منهم ويسقطها بالموازنة ويبقي لهم سيئات محضة لأن الكفر يزيد على غير الإيمان من الحسنات والإيمان يترجح على غير الكفر من السيئات وثانيها أبطلها لفقد شرط ثبوتها وإثباتها وهو الإيمان لأنه شرط قبول العمل قال تعالى مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ( غافر 40 ) وإذا لم يقبل الله العمل لا يكون له وجود لأن العمل لا بقاء له في نفسه بل هو يعدم عقيب ما يوجد في الحقيقة غير أن الله تعالى يكتب عنده بفضله أن فلاناً عمل صالحاً وعندي جزاؤه فيبقى حكماً وهذا البقاء حكماً خير من البقاء الذي للأجسام التي هي محل الأعمال حقيقة فإن الأجسام وإن بقيت غير أن مآلها إلى الفناء والعمل الصالح من الباقيات عند الله أبداً وإذا ثبت هذا تبين أن الله بالقبول متفضل وقد أخبر أني لا أقبل إلا من مؤمن فمن عمل وتعب من غير سبق الإيمان فهو المضيع تعبه لا الله تعالى وثالثها لم يعمل الكافر عمله لوجه الله تعالى فلم يأت بخير فلا يرد علينا قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 ) وبيانه هو أن العمل لا يتميز إلا بمن له العمل لا بالعامل ولا بنفس العمل وذلك لأن من قام ليقتل شخصاً ولم يتفق قتله ثم قال ليكرمه ولم يتفق الإكرام ولا القتل وأخبر عن نفسه أنه قام في اليوم الفلاني لقتله وفي اليوم الآخر لإكرامه يتميز القيامان لا بالنظر إلى القيام فإنه واحد ولا بالنظر إلى القائم فإنه حقيقة واحدة وإنما يتميز بما كان لأجله القيام وكذلك من قام وقصد بقيامه إكرام الملك وقام وقصد بقيامه إكرام بعض العوام يتميز أحدهما عن الآخر بمنزلة العمل لكن نسبة الله الكريم إلى الأصنام فوق نسبة الملوك إلى العوام فالعمل للأصنام ليس بخير ثم إن اتفق أن يقصد واحد بعمله وجه الله تعالى ومع ذلك يعبد الأوثان لا يكون عمله خيراً لأن مثل ما أتى به لوجه الله أتى به للصنم المنحوت فلا تعظيم الوجه الثاني الإضلال هو جعله مستهلكاً وحقيقته هو أنه إذا كفر وأتى للأحجار والأخشاب بالركوع والسجود فلم يبق لنفسه حرمة وفعله لا يبقى معتبراً بسبب كفره وهذا كمن يخدم عند الحارس والسايس إذا قام فالسلطان لا يعمل قيامه تعظيماً لخسته كذلك الكافر وأما المؤمن فبقدر ما يتكبر على غير الله يظهر تعظيمه لله كالملك الذي لا ينقاد لأحد إذا انقاد في وقت لملك من الملوك يتبين به عظمته الوجه الثالث أضله أي أهمله وتركه(28/33)
كما يقال أضل بعيره إذا تركه مسيباً فضاع
ثم إن الله تعالى لما بيّن حال الكفار بيّن حال المؤمنين فقال
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
فيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا مراراً أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان والعمل الصالح رتب عليهما المغفرة والأجر كما قال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( الحج 50 ) وقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ( العنكبوت 70 ) وقلنا بأن المغفرة ثواب الإيمان والأجر على العمل الصالح واستوفينا البحث فيه في سورة العنكبوت فنقول ههنا جزاء ذلك قوله كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ إشارة إلى ما يثيب على الإيمان وقوله وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ إشارة إلى ما يثيب على العمل الصالح
المسألة الثانية قالت المعتزلة تكفير السيئات مرتب على الإيمان والعمل الصالح فمن آمن ولم يفعل الصالحات يبقى في العذاب خالداً فنقول لو كان كما ذكرتم لكان الإضلال مرتباً على الكفر والضد فمن يكفر لا ينبغي أن تضل أعماله أو نقول قد ذكرنا أن الله رتب أمرين على أمرين فمن آمن كفر سيئاته ومن عمل صالحاً أصلح باله أو نقول أي مؤمن يتصور أنه غير آت بالصالحات بحيث لا يصدر عنه صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا إطعام وعلى هذا فقوله وَعَمِلُواْ عطف المسبب على السبب كما قلنا في قول القائل أكلت كثيراً وشبعت
المسألة الثالثة قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءامَنُواْ مع أن قوله آمنوا وعملوا الصالحات أفاد هذا المعنى فما الحكمة فيه وكيف وجهه فنقول أما وجهه فبيانه من وجوه الأول قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أي بالله ورسوله واليوم الآخر وقوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله تعميم بعد أمور خاصة وهو حسن تقول خلق الله السماوات والأرض وكل شيء إما على معنى وكل شيء غير ما ذكرنا وإما على العموم بعد ذكر الخصوص الثاني أن يكون المعنى آمنوا وآمنوا من قبل بما نزل على محمد وهو الحق المعجز الفارق بين الكاذب والصادق يعني آمنوا أولاً بالمعجز وأيقنوا بأن القرآن لا يأتي به غير الله فآمنوا وعملوا الصالحات والواو للجمع المطلق ويجوز أن يكون المتأخر ذكراً متقدماً وقوعاً وهذا كقول القائل آمن به وكان الإيمان به واجباً أو يكون بياناً لإيمانهم كأنهم وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءامَنُواْ أي آمنوا وآمنوا بالحق كما يقول القائل خرجت وخرجت مصيباً أي وكان خروجي جيداً حيث نجوت من كذا وربحت كذا فكذلك لما قال آمنوا بين أن إيمانهم كان أمر الله وأنزل الله لا بما كان باطلاً من عند غير الله الثالث ما قاله أهل المعرفة وهو أن العلم العمل والعمل العلم فالعلم يحصل ليعمل به لما جاء إذا عمل العالم العمل الصالح علم ما لم يكن يعلم فيعلم الإنسان مثلاً قدرة الله بالدليل وعلمه وأمره فيحمله الأمر على(28/34)
الفعل ويحثه عليه علمه فعلمه بحاله وقدرته على ثوابه وعقابه فإذا أتى بالعمل الصالح علم من أنواع مقدورات الله ومعلومات الله تعالى ما لم يعلمه أحد إلا باطلاع الله عليه وبكشفه ذلك له فيؤمن وهذا هو المعنى في قوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ( الفتح 4 ) فإذا آمن المكلف بمحمد بالبرهان وبالمعجزة وعمل صالحاً حمله علمه على أن يؤمن بكل ما قاله محمد ولم يجد في نفسه شكاً وللمؤمن في المرتبة الأولى أحوال وفي المرتبة الأخيرة أحوال أما في الإيمان بالله ففي الأول يجعل الله معبوداً وقد يقصد غيره في حوائجه فيطلب الرزق من زيد وعمر ويجعل أمراً سبباً لأمر وفي الأخيرة يجعل الله مقصوداً ولا يقصد غيره ولا يرى إلا منه سره وجهره فلا ينيب إلى شيء في شيء فهذا هو الإيمان الآخر بالله وذلك الإيمان الأول
وأما ما في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول أولاً هو صادق فيما ينطق ويقول آخر لا نطق له إلا بالله ولا كلام يسمع منه إلا وهو من الله فهو في الأول يقول بالصدق ووقوعه منه وفي الثاني يقول بعدم إمكان الكذب منه لأن حاكي كلام الغير لا ينسب إليه الكذب ولا يمكن إلا في نفس الحكاية وقد علم هو أنه حاك عنه كما قاله وأما في المرتبة الأولى فيجعل الحشر مستقبلاً والحياة العاجلة حالاً وفي المرتبة الأخيرة يجعل الحشر حالاً والحياة الدنيا ماضياً فيقسم حياة نفسه في كل لحظة ويجعل الدنيا كلها عدماً لا يلتفت إليها ولا يقبل عليها
المسألة الرابعة قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءامَنُواْ هو في مقابلة قوله في حق الكافر وَصُدُّواْ ( محمد 1 ) لأنا بينا في وجه أن المراد بهم صدوا عن اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا حث على اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهم صدوا أنفسهم عن سبيل الله وهو محمد عليه السلام وما أنزل عليه وهؤلاء حثوا أنفسهم على اتباع سبيله لا جرم حصل لهؤلاء ضد ما حصل لأولئك فأضل الله حسنات أولئك وستر على سيئات هؤلاء
المسألة الخامسة قوله تعالى وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ هل يمكن أن يكون من ربهم وصفاً فارقاً كما يقال رأيت رجلاً من بغداد فيصير وصفاً للرجل فارقاً بينه وبين من يكون من الموصل وغيره نقول لا لأن كل ما كان من الله فهو الحق فليس هذا هو الحق من ربهم بل قوله مّن رَّبّهِمُ خبر بعد خبر كأنه قال وهو الحق وهو من ربهم أو إن كان وصفاً فارقاً فهو على معنى أنه الحق النازل من ربهم لأن الحق قد يكون مشاهداً فإن كون الشمس مضيئة حق وهو ليس نازل من الرب بل هو علم حاصل بطريق يسره الله تعالى لنا
ثم قال تعالى كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ أي سترها وفيه إشارة إلى بشارة ما كانت تحصل بقوله أعدمها ومحاها لأن محو الشيء لا ينبىء عن إثبات أمر آخر مكانه وأما الستر فينبىء عنه وذلك لأن من يريد ستر ثوب بال أو وسخ لا يستره بمثله وإنما يستره بثوب نفيس نظيف ولا سيما الملك الجواد إذا ستر على عبد من عبيده ثوبه البالي أمر بإحضار ثوب من الجنس العالي لا يحصل إلا بالثمن الغالي فيلبس هذا هو الستر بينه وبين المحبوبين وكذلك المغفرة فإن المغفرة والتكفير من باب واحد في المعنى وهذا هو المذكور في قوله تعالى فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) وقوله وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ إشارة إلى ما ذكرنا من أنه يبدلها حسنة فإن قيل كيف تبدل السيئة حسنة نقول معناه أنه يجزيه بعد سيئاته ما يجزى المحسن على إحسانه فإن قال الإشكال باق وباد وما زال بل زاد فإن الله تعالى لو أثاب على(28/35)
السيئة كما يثيب عن الحسنة لكان ذلك حثاً على السيئة نقول ما قلنا إنه يثيب على السيئة وإنما قلنا إنه يثيب بعد السيئة بما يثيب على الحسنة وذلك حيث يأتي المؤمن بسيئة ثم يتنبه ويندم ويقف بين يدي ربه معترفاً بذنبه مستحقراً لنفسه فيصير أقرب إلى الرحمة من الذي لم يذنب ودخل على ربه مفتخراً في نفسه فصار الذنب شرطاً للندم والثواب ليس على السيئة وإنما هو على الندم وكأن الله تعالى قال عبدي أذنب ورجع إليّ ففعله شيء لكن ظنه بي حسن حيث لم يجد ملجأ غيري فاتكل على فضلي والظن عمل القلب والفعل عمل البدن واعتبار عمل القلب أولى ألا ترى أن النائم والمغمى عليه لا يلتفت إلى عمل بدنه والمفلوج الذي لا حركة له يعتبر قصد قلبه ومثال الروح والبدن راكب دابة يركض فرسه بين يدي ملك يدفع عنه العدو بسيفه وسنانه والفرس يلطخ ثوب الملك بركضه في استنانه فهل يلتفت إلى فعل الدابة مع فعل الفارس بل لو كان الراكب فارغاً الفرس يؤذي بالتلويث يخاطب الفارس به فكذلك الروح راكب والبدن مركوب فإن كانت الروح مشغولة بعبادة الله وذكره ويصدر من البدن شيء لا يلتفت إليه بل يستحسن منه ذلك ويزاد في تربية الفرس الراكض ويهجر الفرس الواقف وإن كان غير مشغول فهو مؤاخذ بأفعال البدن ثم قال تعالى
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ
فيه مسائل
المسألة الأولى في الباطل وجوه الأول ما لا يجوز وجوده وذلك لأنهم اتبعوا إلاهاً غير الله وإلاه غير الله محال الوجود وهو الباطل وغاية الباطل لأن الباطل هو المعدوم يقال بطل كذا أي عدم والمعدوم الذي لا يجوز وجوده ولا يمكن أن يوجد ولا يجوز أن يصير حقاً موجوداً فهو في غاية البطلان فعلى هذا فالحق هو الذي لا يمكن عدمه وهو الله تعالى وذلك لأن الحق هو الموجود يقال تحقق الأمر أي وجد وثبت والموجود الذي لا يجوز عدمه هو في غاية الثبوت الثاني الباطل الشيطان بدليل قوله تعالى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ( ص 85 ) فبيّن أن الشيطان متبوع وأتباعه هم الكفار والفجار وعلى هذا فالحق هو الله لأنه تعالى جعل في مقابلة حزب الشيطان حزب الله الثالث الباطل هو قول كبرائهم ودين آبائهم كما قال تعالى عنهم بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّة ٍ وَإِنَّا عَلَى ( الزحرف 22 ) ومقتدون فعلى هذا الحق ما قاله النبي عليه السلام عن الله الرابع الباطل كل ما سوى الله تعالى لأن الباطل والهالك بمعنى واحد و كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) وعلى هذا فالحق هو الله تعالى أيضاً
المسألة الثانية لو قال قائل من ربهم لا يلائم إلا وجهاً واحداً من أربعة أوجه وهو قولنا المراد من الحق هو ما أنزل الله وما قال النبي عليه السلام من الله فأما على قولنا الحق هو الله فكيف يصح قوله اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبّهِمْ(28/36)
نقول على هذا مّن رَّبّهِمُ لا يكون متعلقاً بالحق وإنما يكون تعلقه بقوله بقوله تعالى اتَّبَعُواْ أي اتبعوا أمر ربهم أي من فضل الله أو هداية ربهم اتبعوا الحق وهو الله سبحانه
المسألة الثالثة إذا كان الباطل هو المعدوم الذي لا يجوز وجوده فكيف يمكن اتباعه نقول لما كانوا يقولون إنما يفعلون للأصنام وهي آلهة وهي تؤجرهم بذلك كانوا متبعين في زعمهم ولا متبع هناك
المسألة الرابعة قال في حق المؤمنين اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبّهِمْ وقال في حق الكفار اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ من آلهتهم أو الشيطان نقول أما آلهتهم فلأنهم لا كلام لهم ولا عقل وحيث ينطقهم الله ينكرون فعلهم كما قال تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ( فاطر 14 ) وقال تعالى وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( الأحقاف 6 ) والله تعالى رضي بفعلهم وثبتهم عليه ويحتمل أن يقال قوله مّن رَّبّهِمُ عائد إلى الأمرين جميعاً أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق أي من حكم ربهم ومن عند ربهم
ثم قال تعالى كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ وفيه أيضاً مسائل
المسألة الأولى أي مثل ضربه الله تعالى حتى يقول كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ نقول فيه وجهان أحدهما إضلال أعمال الكفار وتكفير سيئات الأبرار الثاني كون الكافر متبعاً للباطل وكون المؤمن متبعاً للحق ويحتمل وجهين آخرين أحدهما على قولنا مّن رَّبّهِمُ أي من عند ربهم اتبع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق نقول هذا مثل يضرب عليه جميع الأمثال فإن الكل من عند الله الإضلال وغيره والاتباع وغيره وثانيهما هو أن الله تعالى لما بيّن أن الكافر يضل الله عمله والمؤمن يكفر الله سيئاته وكان بين الكفر والإيمان مباينة ظاهرة فإنهما ضدان نبه على أن السبب كذا أي ليس الإضلال والتكفير بسبب المضادة والاختلاف بل بسبب اتباع الحق والباطل وإذا علم السبب فالفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الحق والآخر اتباع الباطل فإن من يؤمن ظاهراً وقلبه مملوء من الكفر ومن يؤمن بقلبه وقلبه مملوء من الإيمان اتحد فعلاهما في الظاهر وهما مختلفان بسبب اتباع الحق واتباع الباطل لا بدع من ذلك فإن من يؤمن ظاهراً وهو يسر الكفر ومن يكفر ظاهراً بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان اختلف الفعلان في الظاهر وإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب أن اتباع الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلان يثبت فيهما حكمان وعلم سببه وهو اتباع الحق والباطل فكذلك اعلموا أن كل شيء اتبع فيه الحق كان مقبولاً مثاباً عليه وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردوداً معاقباً عليه فصار هذا عاماً في الأمثال على أنا نقول قوله كَذالِكَ لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب بل معناه أنه تعالى لما بيّن حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته وبيّن السبب فيهما كان ذلك غاية الإيضاح فقال كَذالِكَ أي مثل هذا البيان يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ويبين لهم أحوالهم
المسألة الثانية الضمير في قوله أَمْثَالَهُمْ عائد إلى من فيه وجهان أحدهما إلى الناس كافة قال تعالى يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ على أنفسهم وثانيهما إلى الفريقين السابقين في الذكر معناه يضرب الله للناس أمثال الفريقين السابقين(28/37)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَالِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَاكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
ثم قال تعالى فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى الفاء في قوله فَإِذَا لَقِيتُمُ يستدعي متعلقاً يتعلق به ويترتب عليه فما وجه التعلق بما قبله نقول هو من وجوه الأول لما بيّن أن الذين كفروا أضل الله أعمالهم واعتبار الإنسان بالعمل ومن لم يكن له عمل فهو همج فإن صار مع ذلك يؤذي حسن إعدامه فَإِذَا لَقِيتُمُ بعد ظهور أن لا حرمة لهم وبعد إبطال أعمالهم فاضربوا أعناقهم الثاني إذا تبين تباين الفريقين وتباعد الطريقين وأن أحدهما يتبع الباطل وهو حزب الشيطان والآخر يتبع الحق وهو حزب الرحمن حق القتال عند التحزب فإذا لقيتموهم فاقتلوهم الثالث أن من الناس من يقول لضعف قلبه وقصور نظره إيلام الحيوان من الظلم والطغيان ولا سيما القتل الذي هو تخريب بنيان فيقال رداً عليهم لما كان اعتبار الأعمال باتباع الحق والباطل فمن يقتل في سبيل الله لتعظيم أمر الله لهم من الأجر ما للمصلي والصائم فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ولا تأخذكم بهما رأفة فإن ذلك اتباع للحق والاعتبار به لا بصورة الفعل
المسألة الثانية فَضَرْبَ منصوب على المصدر أي فاضربوا ضرب الرقاب
المسألة الثالثة ما الحكمة في اختيار ضرب الرقبة على غيرها من الأعضاء نقول فيه لما بيّن أن المؤمن ليس يدافع إنما هو دافع وذلك أن من يدفع الصائل لا ينبغي أن يقصد أولاً مقتله بل يتدرج ويضرب على غير المقتل فإن اندفع فذاك ولا يترقى إلى درجة الإهلاك فقال تعالى ليس المقصود إلا دفعهم عن وجه الأرض وتطهير الأرض منهم وكيف لا والأرض لكم مسجد والمشركون نجس والمسجد يطهر من النجاسة فإذاً ينبغي أن يكون قصدكمم أولاً إلى قتلهم بخلاف دفع الصائل والرقبة أظهر المقاتل لأن قطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك والرقبة ظاهرة في الحرب ففي ضربها حز العنق وهو مستلزم للموت بخلاف سائر المواضع ولا سيما في الحرب وفي قوله لَقِيتُمُ ما ينبىء عن مخالفتهم الصائل لأن قوله لَقِيتُمُ يدل على أن القصد من جانبهم بخلاف قولنا لقيكم ولذلك قال في غير هذا الموضع وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( البقرة 191 )
المسألة الرابعة قال ههنا ضُرِبَ الرّقَابِ بإظهار المصدر وترك الفعل وقال في الأنفال فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ ( الأنفال 12 ) بإظهار الفعل وترك المصدر فهل فيه فائدة نقول نعم ولنبينها بتقديم مقدمة وهي أن المقصود أولاً في بعض السور قد يكون صدور الفعل من فاعل ويتبعه المصدر ضمناً إذ لا يمكن أن يفعل فاعل إلا ويقع منه المصدر في الوجود وقد يكون المقصود أولاً المصدر ولكنه لا يوجد إلا من فاعل فيطلب منه أن يفعل مثاله من قال إني حلفت أن أخرج من المدينة فيقال له فاخرج صار المقصود منه صدور الفعل منه والخروج في نفسه غير مقصود الانتفاء ولو أمكن أن يخرج من غير تحقق الخروج منه لما كان(28/38)
عليه إلا أن يخرج لكن من ضرورات الخروج أن يخرج فإذا قال قائل ضاق بي المكان بسبب الأعداء فيقال له مثلاً الخروج يعني الخروج فاخرج فإن الخروج هو المطلوب حتى لو أمكن الخروج من غير فاعل لحصل الغرض لكنه محال فيتبعه الفعل إذا عرفت هذا فنقول في الأنفال الحكاية عن الحرب الكائنة وهم كانوا فيها والملائكة أنزلوا لنصرة من حضر في صف القتال فصدور الفعل منه مطلوب وههنا الأمر وارد وليس في وقت القتال بدليل قوله تعالى فَإِذَا لَقِيتُمُ والمقصود بيان كون المصدر مطلوباً لتقدم المأمور على الفعل قال فَضَرْبَ الرّقَابِ وفيما ذكرنا تبيين فائدة أخر وهي أن الله تعالى قال هناك وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ( الأنفال 12 ) وذلك لأن الوقت وقت القتال فأرشدهم إلى المقتل وغيره إن لم يصيبوا المقتل وههنا ليس وقت القتال فبيّن أن المقصود القتل وغرض المسلم ذلك
المسألة الخامسة حَتَّى لبيان غاية الأمر لا لبيان غاية القتل أي حتى إذا اثخنتموهم لا يبقى الأمر بالقتل ويبقى الجواز ولو كان لبيان القتل لما جاز القتل والقتل جائز إذا التحق المثخن بالشيخ الهرم والمراد كما إذا قطعت يداه ورجلاه فنهى عن قتله
ثم قال تعالى فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ أمر إرشاد
ثم قال تعالى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء وفيه مسائل
المسألة الأولى ( إما ) وإنما للحصر وحالهم بعد الأسر غير منحصر في الأمرين بل يجوز القتل والاسترقاق والمن والفداء نقول هذا إرشاد فذكر الأمر العام الجائز في سائر الأجناس والاسترقاق غير جائز في أسر العرب فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان معهم فلم يذكر الاسترقاق وأما القتل فلأن الظاهر في المثخن الإزمان ولأن القتل ذكره بقوله فَضَرْبَ الرّقَابِ فلم يبق إلا الأمران
المسألة الثانية مناً وفداءً منصوبان لكونهما مصدرين تقديره فإما تمنون مناً وإما تفدون فداءً وتقديم المن على الفداء إشارة إلى ترجيح حرمة النفس على طلب المال والفداء يجوز أن يكون مالاً يكون وأن يكون غيره من الأسرى أو شرطاً يشرط عليهم أو عليه وحده
المسألة الثالثة إذا قدرنا الفعل وهو تمنون أو تفدون على تقدير المفعول حتى نقول إما تمنون عليهم منا أو تفدونهم فداء نقول لا لأن المقصود المن والفداء لا عليهم وبهم كما يقول القائل فلان يعطي ويمنع ولا يقال يعطي زيداً ويمنع عمراً لأن غرضه ذكر كونه فاعلاً لا بيان المفعول وكذلك ههنا المقصود إرشاد المؤمنين إلى الفضل
ثم قال تعالى حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا
وفي تعلق حَتَّى وجهان أحدهما تعلقها بالقتل أي اقتلوهم حتى تضع وثانيهما بالمن والفداء ويحتمل أن يقال متعلقة بشدوا الوثاق وتعلقها بالقتل أظهر وإن كان ذكره أبعد وفي الأوزار وجهان أحدهما السلاح والثاني الآثام وفيه مسائل
المسألة الأولى إن كان المراد الإثم فكيف تضع الحرب الإثم والإثم على المحارب وكذلك السؤال في السلاح لكنه على الأول أشد توجهاً فيقول تضع الحرب الأوزار لا من نفسها بل تضع الأوزار(28/39)
التي على المحاربين والسلاح الذي عليهم
المسألة الثانية هل هذا كقوله تعالى وَاسْئَلِ ( يوسف 82 ) حتى يكون كأنه قال حتى تضع أمة الحرب أو فرقة الحرب أوزارها نقول ذلك محتمل في النظر الأول لكن إذا أمعنت في المعنى تجد بينهما فرقاً وذلك لأن المقصود من قوله فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر يحارب حزباً من أحزاب الإسلام ولو قلنا حتى تضع أمة الحرب جاز أن يضعوا الأسلحة ويتركوا الحرب وهي باقية بمادتها كما تقول خصومتي ما انفصلت ولكني تركتها في هذه الأيام وإذا أسندنا الوضع إلى الحرب يكون معناه إن الحرب لم يبق
المسألة الثالثة لو قال حتى لا يبقى حزب أو ينفر من الحرب هل يحصل معنى قوله حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا نقول لا والتفاوت بين العبارتين مع قطع النظر عن النظم بل النظر إلى نفس المعنى كالتفاوت بين قولك انقرضت دولة بني أُمية وقولك لم يبق من دولتهم أثر ولا شك أن الثاني أبلغ فكذلك ههنا قوله تعالى أَوْزَارَهَا معناه آثارها فإن من أوزار الحرب آثارها
المسألة الرابعة وقت وضع أوزار الحرب متى هو نقول فيه أقوال حاصلها راجع إلى أن ذلك الوقت هو الوقت الذي لا يبقى فيه حزب من أحزاب الإسلام وحزب من أحزاب الكفر وقيل ذلك عند قتال الدجال ونزول عيسى عليه السلام
ثم قال تعالى ذالِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ
في معنى ذلك وجهان أحدهما الأمر ذلك والمبتدأ محذوف ويحتمل أن يقال ذلك واجب أو مقدم كما يقول القائل إن فعلت فذاك أي فذاك مقصود ومطلوب ثم بيّن أن قتالهم ليس طريقاً متعيناً بل الله لو أراد أهلكهم من غير جند
قوله تعالى وَلَاكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
أي ولكن ليكلفكم فيحصل لكم شرف باختياره إياكم لهذا الأمر فإن قيل ما التحقيق في قولنا التكليف ابتلاء وامتحان والله يعلم السر وأخفى وماذا يفهم من قوله وَلَاكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ نقول فيه وجوه الأول أن المراد منه يفعل ذلك فعل المبتلين أي كما يفعل المبتلى المختبر ومنها أن الله تعالى يبلو ليظهر الأمر لغيره إما للملائكة وإما للناس والتحقيق هو أن الابتلاء والامتحان والاختبار فع يظهر بسببه أمر غيره متعين عند العقلاء بالنظر إليه قصداً إلى ظهوره وقولنا فعل يظهر بسببه أمر ظاهر الدخول في مفهوم الابتداء لأن ما لا يظهر بسببه شيء أصلاً لا يسمى ابتلاء أما قولنا أمر غير متعين عند العقلاء وذلك لأن من يضرب بسيفه على القثاء والخيار لا يقال إنه يمتحن لأن الأمر الذي يظهر منه متعين وهو القطع والقد بقسمين فإذا ضرب بسيفه سبعاً يقال يمتحن بسيفه ليدفع عن نفسه وقد يقده وقد لا يقده وأما قولنا ليظهر منه ذلك فلأن من يضرب سبعاً بسيفه ليدفعه عن نفسه لا يقال إنه ممتحن لأن ضربه ليس لظهور أمر متعين إذا علم هذا فنقول الله تعالى إذا أمرنا بفعل يظهر بسببه أمر غير متعين وهو إما الطاعة أو المعصية في العقول ليظهر ذلك يكون ممتحناً وإن كان عالماً به لكون عدم العلم مقارناً فينا لابتلائنا فإذا ابتلينا وعدم العلم فينا مستمر أمرنا وليس من ضرورات الابتلاء فإن قيل الابتلاء فائدته حصول العلم عند المبتلى فإذا كان الله تعالى عالماً فأية فائدة(28/40)
فيه نقول ليس هذا سؤال يختص بالابتلاء فإن قول القائل لم ابتلى كقول القائل لم عاقب الكافر وهو مستغن ولم خلق النار محرقة وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضر وجوابه لا يسأل عما يفعل ونقول حينئذ ما قاله المتقدمون إنه لظهور الأمر المتعين لإلاه وبعد هذا فنقول المبتلى لا حاجة له إلى الأمر الذي يظهر من الابتلاء فإن الممتحن للسيف فيما ذكرنا من الصورة لا حاجة له إلى قطع ما يجرب السيف فيه حتى أنه لو كان محتاجاً كما ضربنا من مثال دفع السبع بالسيف لا يقال إنه يمتحن وقوله لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ إشارة إلى عدم الحاجة تقريراً لقوله ذالِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
قرىء قتلوا وقاتلوا والكل مناسب لما تقدم أما من قرأ قتلوا فلأنه لما قال فَضَرْبَ الرّقَابِ ومعناه فاقتلوهم بين ما للقاتل بقوله وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ رداً على من زعم أن القتل فساد محرم إذ هو إفناء من هو مكرم فقال عملهم ليس كحسنة الكافر يبطل بل هو فوق حسنات الكافر أضل الله أعمال الكفار ولن يضل القاتلين فكيف يكون القتل سيئة وأما من قرأ قَاتَلُواْ فهو أكثر فائدة وأعم تناولاً لأنه يدخل فيه من سعى في القتل سواء قتل أو لم يقتل وأما من قرأ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ على البناء للمفعول فنقول هي مناسبة لما تقدم من وجوه أحدها هو أنه تعالى لما قال فَضَرْبَ الرّقَابِ أي اقتلوا والقتل لا يتأتى إلا بالإقدام وخوف أن يقتل المقدم يمنعه من الإقدام فقال لا تخافوا القتل فإن من يقتل في سبيل الله له من الأجر والثواب ما لا يمنع المقاتل من القتال بل يحثه عليه وثانيها هو أنه تعالى لما قال لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ والمبتلى بالشيء له على كل وجه من وجوه الأثر الظاهر بالابتلاء حال من الأحوال فإن السيف الممتحن تزيد قيمته على تقدير أن يقطع وتنقص على تقدير أن لا يقطع فحال المبتلين ماذا فقال إن قتل فله أن لا يضل عمله ويهدى ويكرم ويدخل الجنة وأما إن قتل فلا يخفى عاجلاً وآجلاً وترك بيانه على تقدير كونه قاتلاً لظهوره وبين حاله على تقدير كونه مقتولاً وثالثها هو أنه تعالى لما قال لِيَبْلُوَكُمْ ولا يبتلي الشيء النفيس بما يخاف منه هلاكه فإن السيف المهند العضب الكبير القيمة لا يجرب بالشيء الصلب الذي يخاف عليه منه الانكسار ولكن الآدمي مكرم كرمه الله وشرفه وعظمه فلماذا ابتلاه بالقتال وهو يفضي إلى القتل والهلاك إفضاء غير نادر فكيف يحسن هذا الابتلاء فنقول القتل ليس بإهلاك بالنسبة إلى المؤمن فإنه يورث الحياة الأبدية فإذا ابتلاه بالقتال فهو على تقدير أن يقتل مكرم وعلى تقدير أن لا يقتل هذا إن قاتل وإن لم يقاتل فالموت لا بد منه وقد فوت على نفسه الأجر الكبير
وأما قوله تعالى فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ قد علم معنى الإضلال بقي الفرق بين العبارتين في حق الكافر والضال قال أَضَلَّ ( محمد 1 ) وقال في حق المؤمن الداعي لَنْ يُضِلَّ لأن المقاتل داع إلى الإيمان لأن قوله حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قد ذكر أن معناه حتى لم يبق إثم بسبب حرب وذلك حيث يسلم الكافر فالمقاتل يقول إما أن تسلم وإما أن تقتل فهو داع والكافر صاد وبينهما تباين وتضاد فقال في حق الكافر أضل بصيغة الماضي ولم يقل يضل إشارة إلى أن عمله حيث وجد عدم وكأنه لم يوجد من أصله وقال في حق المؤمن فلن يضل ولم يقل ما أضل إشارة إلى أن عمله كلما ثبت عليه أثبت له فلن يضل للتأبيد وبينهما غاية الخلاف كما أن بين الداعي والصاد غاية التباين والتضاد فإن قيل ما معنى الفاء في قوله فَلَن يُضِلَّ(28/41)
جوابه لأن في قوله تعالى وَالَّذِينَ قُتِلُواْ معنى الشرط
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
إن قرىء قَاتِلُواْ أو قَاتَلُواْ فالهداية محمولة على الآجلة والعاجلة وإن قرىء قَاتِلُواْ فهو الآخرة سَيَهْدِيهِمْ طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم
وقوله وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
قد تقدم تفسيره في قوله تعالى إِصْلَاحٍ بَالَهُمْ ( محمد 2 ) والماضي والمستقبل راجع إلى أن هناك وعدهم ما وعدهم بسبب الإيمان والعمل الصالح وذلك كان واقعاً منهم فأخبر عن الجزاء بصيغة تدل على الوقوع وههنا وعدهم بسبب القتال والقتل فكان في اللفظ ما يدل على الاستقبال لأن قوله تعالى فَإِذَا لَقِيتُمُ ( محمد 4 ) يدل على الاستقبال فقال وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ثم قال تعالى
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة َ عَرَّفَهَا لَهُمْ
وكأن الله تعالى عند حشرهم يهديهم إلى طريق الجنة ويلبسهم في الطريق خلع الكرامة وهو إصلاح البال وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة َ فهو على ترتيب الوقوع
وأما قوله عَرَّفَهَا لَهُمْ ففيه وجوه أحدها هو أن كل أحد يعرف منزلته ومأواه حتى أن أهل الجنة يكونون أعرف بمنازلهم فيها من أهل الجمعة ينتشرون في الأرض كل أحد يأوي إلى منزله ومنهم من قال الملك الموكل بأعماله يهديه الوجه الثاني عَرَّفَهَا لَهُمْ أي طيبها يقال طعام معرف الوجه الثالث قال الزمخشري يحتمل أن يقال عرفها لهم حددها من عرف الدار وأرفها أي حددها وتحديدها في قوله وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 133 ) ويحتمل أن يقال المراد هو قوله تعالى وَتِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا ( الزخرف 72 ) مشيراً إليها معرفاً لهم بأنها هي تلك وفيه وجه آخر وهو أن يقال معناه عَرَّفَهَا لَهُمْ قبل القتل فإن الشهيد قبل وفاته تعرض عليه منزلته في الجنة فيشتاق إليها ووجه ثان معناه وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّة َ ولا حاجة إلى وصفها فإنه تعالى عَرَّفَهَا لَهُمْ مراراً ووصفها ووجه ثالث وهو من باب تعريف الضالة فإن الله تعالى لما قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ ( التوبة 111 ) فكأنه تعالى قال من يأخذ الجنة ويطلبها بماله أو بنفسه فالذي قتل سمع التعريف وبذل ما طلب منه عليها فأدخلها ثم إنه تعالى لما بيّن ما على القتال من الثواب والأجر وعدهم بالنصر في الدنيا زيادة في الحث ليزداد منهم الإقدام فقال
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
وفي نصر الله تعالى وجوه الأول إن تنصروا دين الله وطريقه والثاني إن تنصروا حزب الله وفريقه الثالث المراد نصرة الله حقيقة فنقول النصرة تحقيق مطلوب أحد المتعاديين عند الاجتهاد والأخذ في تحقيق علامته فالشيطان عدو الله يجتهد في(28/42)
تحقيق الكفر وغلبة أهل الإيمان والله يطلب قمع الكفر وإهلاك أهله وإفناء من اختار الإشراك بجهله فمن حقق نصرة الله حيث حقق مطلوبه لا تقول حقق مراده فإن مراد الله لا يحققه غيره ومطلوبه عند أهل السنة غير مراده فإنه طلب الإيمان من الكافر ولم يرده وإلا لوقع
ثم قال يَنصُرْكُمُ فإن قيل فعلام قلت إذا نصر المؤمنين الله تعالى فقد حقق ما طلبه فكيف يحقق ما طلبه العبد وهو شيء واحد فنقول المؤمن ينصر الله بخروجه إلى القتال وإقدامه والله ينصره بتقويته وتثبيت أقدامه وإرسال الملائكة الحافظين له من خلفه وقدامه ثم قال تعالى
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
هذا زيادة في تقوية قلوبهم لأنه تعالى لما قال وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ( محمد 7 ) جاز أن يتوهم أن الكافر أيضاً يصير ويثبت للقتال فيدوم القتال والحراب والطعان والضراب وفيه المشقة العظيمة فقال تعالى لكم الثبات ولهم الزوال والتغير والهلاك فلا يكون الثبات وسببه ظاهر لأن آلهتهم جمادات لا قدرة لها ولا ثبات عند من له قدرة فهي غير صالحة لدفع ما قدره الله تعالى عليهم من الدمار وعند هذا لا بد عن زوال القدم والعثار وقال في حق المؤمنين وَيُثَبّتْ بصيغة الوعد لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء وقال في حقهم بصيغة الدعاء وهي أبلغ من صيغة الإخبار من الله لأن عثارهم واجب لأن عدم النصرة من آلهتهم واجب الوقوع إذ لا قدرة لها والتثبيت من الله ليس بواجب الوقوع لأنه قادر مختار يفعل ما يشاء
وقوله وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ إشارة إلى بيان مخالفة موتاهم لقتلى المسلمين حيث قال في حق قتلاهم فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ( محمد 4 ) وقال في موتى الكافرين وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ثم بيّن الله تعالى سبب ما اختلفوا فيه فقال
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
وفيه وجوه الأول المراد القرآن ووجهه هو أن كيفية العمل الصالح لا تعلم بالعقل وإنما تدرك بالشرع والشرع بالقرآن فلما أعرضوا لم يعرفوا العمل الصالح وكيفية الإتيان به فأتوا بالباطل فأحبط أعمالهم الثاني كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ من بيان التوحيد كما قال الله تعالى عنهم اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا ( الصافات 36 ) وقال تعالى أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إلى أن قال إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ( ص 5 7 ) وقال تعالى وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ ( الزمر 45 ) ووجهه أن الشرك محبط للعمل قال الله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وكيف لا والعمل من المشرك لا يقع لوجه الله فلا بقاء له في نفسه ولا بقاء له ببقاء من له العمل لأن ما سوى وجه الله تعالى هالك محبط الثالث كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ من بيان أمر الآخرة فلم يعملوا لها والدنيا وما فيها ومآلها باطل فأحبط الله أعمالهم(28/43)
أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا
فيه مناسبة للوجه الثالث يعني فينظروا إلى حالهم ويعلموا أن الدنيا فانية
وقوله دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي أهلك عليهم متاع الدنيا من الأموال والأولاد والأزواج والأجساد
وقوله تعالى وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد لهم أمثالها في الدنيا وحينئذ يكون المراد من الكافرين هم الكافرون بمحمد عليه الصلاة والسلام وثانيهما أن يكون المراد لهم أمثالها في الآخرة فيكون المراد من تقدم كأنه يقول دمر الله عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها وفي العائد إليه ضمير المؤنث في قوله أَمْثَالُهَا وجهان أحدهما هو المذكور وهو العاقبة وثانيهما هو المفهوم وهو العقوبة لأن التدمير كان عقوبة لهم فإن قيل على قولنا المراد للكافرين بمحمد عليه السلام أمثال ما كان لمن تقدمهم من العاقبة يرد سؤال وهو أن الأولين أهلكوا بوقائع شديدة كالزلازل والنيران وغيرهما من الرياح والطوفان ولا كذلك قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نقول جاز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين لكون دين محمد أظهر بسبب تقدم الأنبياء عليهم السلام عليه وإخبارهم عنه وإنذارهم به على أنهم قتلوا وأسروا بأيديهم من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم والقتل بيد المثل آلم من الهلاك بسبب عام وسؤال آخر إذا كان الضمير عائداً إلى العاقبة فكيف يكون لها أمثال قلنا يجوز أن يقال المراد العذاب الذي هو مدلول العاقبة أو الألم الذي كانت العاقبة عليه ثم قال تعالى
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ
ذالِكَ يحتمل أن يكون إشارة إلى النصر وهو اختيار جماعة ذكره الواحدي ويحتمل وجهاً آخر أغرب من حيث النقل وأقرب من حديث العقل وهو أنا لما بينا أن قوله تعالى وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ( محمد 10 ) إشارة إلى أن قوم محمد عليه الصلاة والسلام أهكلوا بأيدي أمثالهم الذين كانوا لا يرضون بمجالستهم وهو آلم من الهلاك بالسبب العام قال تعالى ذالِكَ أي الإهلاك والهوان بسبب أن الله تعالى ناصر المؤمنين والكافرون اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر وتركوا الله فلا ناصر لهم ولا شك أن من ينصره الله تعالى يقدر على القتل والأسر وإن كان له ألف ناصر فضلاً عن أن يكون لا ناصر لهم فإن قيل كيف الجمع بين قوله تعالى لاَ مَوْلَى لَهُمْ وبين قوله مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 62 ) نقول المولى ورد بمعنى السيد والرب والناصر فحيث قال لاَ مَوْلَى لَهُمْ أراد لا ناصر لهم وحيث قال مَوْلَاهُمُ الْحَقّ أي ربهم ومالكهم كما قال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ ( النساء 1 ) وقال رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 26 ) وفي الكلام تباين عظيم بين الكافر والمؤمن لأن المؤمن ينصره الله وهو خير الناصرين والكافر لا مولى له بصيغة نافية للجنس فليس له ناصر وإنه شر الناصرين ثم قال تعالى
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الاٌّ نْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ(28/44)
لما بيّن الله تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بيّن حالهم في الآخرة وقال إنه يدخل المؤمن الجنة والكافر النار وفيه مسائل
المسألة الأولى كثيراً ما يقتصر الله على ذكر الأنهار في وصف الجنة لأن الأنهار يتبعها الأشجار والأشجار تتبعها الثمار ولأنه سبب حياة العالم والنار سبب الإعدام وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرر بها
المسألة الثانية ذكرنا مراراً أن من في قوله مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ يحتمل أن يكون صلة معناه تجري تحتها الأنهار ويحتمل أن يكون المراد أن ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر فيقال هذا النهر منبعه من أين يقال من عين كذا من تحت جبل كذا
لمسألة الثالثة قال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ خصهم بالذكر مع أن المؤمن أيضاً له التمتع بالدنيا وطيباتها نقول من يكون له ملك عظيم ويملك شيئاً يسيراً أيضاً لا يذكر إلا بالملك العظيم يقال في حق الملك العظيم صاحب الضيعة الفلانية ومن لا يملك إلا شيئاً يسيراً فلا يذكر إلا به فالمؤمن له ملك الجنة فمتاع الدنيا لا يلتفت إليه في حقه والكافر ليس له إلا الدنيا ووجه آخر الدنيا للمؤمن سجن كيف كان ومن يأكل في السجن لا يقال إنه يتمتع فإن قيل كيف تكون الدنيا سجناً مع ما فيها من الطيبات نقول للمؤمن في الآخرة طيبات معدة وإخوان مكرمون نسبتها ونسبتهم إلى الدنيا ومن فيها تتبين بمثال وهو أن من يكون له بستان فيه من كل الثمرات الطيبة في غاية اللذة وأنهار جارية في غاية الصفاء ودور وغرف في غاية الرفعة وأولاده فيها وهو قد غاب عنهم سنين ثم توجه إليهم وهم فيها فلما قرب منهم عوق في أجمة فيها من بعض الثمار العفصة والمياه الكدرة وفيها سباع وحشرات كثيرة فهل يكون حاله فيها كحال مسجون في بئر مظلمة وفي بيت خراب أم لا وهل يجوز أن يقال له اترك ما هو لك وتعلل بهذه الثمار وهذه الأنهار أم لا كذلك حال المؤمن وأما الكافر فحاله كحال من يقدم إلى القتل فيصبر عليه أياماً في مثل تلك الأجمة التي ذكرناها يكون في جنة ونسبة الدنيا إلى الجنة والنار دون ما ذكرنا من المثال لكنه ينبىء ذا البال عن حقيقة الحال
وقوله تعالى كَمَا تَأْكُلُ الاْنْعَامُ يحتمل وجوهاً أحدها أن الأنعام يهمها الأكل لا غير والكافر كذلك والمؤمن يأكل ليعمل صالحاً ويقوى عليه وثانيها الأنعام لا تستدل بالمأكول على خالقها والكافر كذلك وثالثها الأنعام تعلف لتسمن وهي غافلة عن الأمر لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح والهلاك وكذلك الكافر ويناسب ذلك قوله تعالى وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ
المسألة الرابعة قال في حق المؤمن إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بصيغة الوعد وقال في حق الكافر وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ بصيغة تنبىء عن الاستحقاق لما ذكرنا أن الإحسان لا يستدعي أن يكون عن استحقاق فالمحسن إلى من لم يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم والمعذب من غير استحقاق ظالم(28/45)
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة ٍ هِى َ أَشَدُّ قُوَّة ً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ
لما ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ ( محمد 10 ) ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ضرب للنبي عليه السلام مثلاً تسلية له فقال وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ هِى َ أَشَدُّ قُوَّة ً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ وكانوا أشد من أهل مكة كذلك نفعل بهم فاصبر كما صبر رسلهم وقوله فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ قال الزمخشري كيف قوله فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ مع أن الإهلاك ماض وقوله فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ للحال والاستقبال والجواب أنه محمول على الحكاية والحكاية كالحال الحاضر ويحتمل أن يقال أهلكناهم في الدنيا فلا ناصر لهم ينصرهم ويخلصهم من العذاب الذي هم فيه ويحتمل أن يقال قوله فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ عائد إلى أهل قرية محمد عليه السلام كأنه قال أهلكنا من تقدم أهل قريتك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويخلصهم مما جرى على الأولين
أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُو ءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
اعلم أن هذا إشارة إلى الفرق بين النبي عليه السلام والكفار ليعلم أن إهلاك الكفار ونصرة النبي عليه السلام في الدنيا محقق وأن الحال يناسب تعذيب الكافر وإثابة المؤمن وقوله عَلَى بَيّنَة ٍ فرق فارق وقوله مّن رَّبّهِ مكمل له وذلك أن البينة إذا كانت نظرية تكون كافية للفرق بين المتمسك بها وبين القائل قولاً لا دليل عليه فإذا كانت البينة منزلة من الله تعالى تكون أقوى وأظهر فتكون أعلى وأبهر ويحتمل أن يقال قوله مّن رَّبّهِ ليس المراد إنزالها منه بل المراد كونها من الرب بمعنى قوله يَهْدِى مَن يَشَآء ( المدثر 31 ) وقولنا الهداية من الله وكذلك قوله تعالى كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فرق فارق وقوله وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ تكملة وذلك أن من زين له سوء عمله وراجت الشبهة عليه في مقابلة من يتبين له البرهان وقبله لكن من راجت الشبهة عليه قد يتفكر في الأمر ويرجع إلى الحق فيكون أقرب إلى من هو على البرهان وقد يتبع هواه ولا يتدبر في البرهان ولا يتفكر في البيان فيكون في غاية البعد فإذن حصل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمن مع الكافر في طرفي التضاد وغاية التباعد حتى مدهم بالبينة والكافر له الشبهة وهو مع الله وأولئك مع الهوى وعلى قولنا مّن رَّبّهِ معناه الإضافة إلى الله كقولنا الهداية من الله فقوله اتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ مع ذلك القول يفيد معنى قوله تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( النساء 79 ) وقوله كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ بصيغة التوحيد محمول على لفظة من وقوله وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ محمول على معناه فإنها للجميع والعموم وذلك لأن التزيين للكل على حد واحد فحمل على اللفظ لقربه منه في الحس والذكر وعند اتباع الهوى كل أحد يتبع هوى نفسه فظهر التعدد فحمل على المعنى
مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّة ٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَة ٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ(28/46)
قوله تعالى مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ
لما بيّن الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال بيّن الفرق بينهما في مرجعهما ومآلهما وكما قدم من على البينة في الذكر على من اتبع هواه قدم حاله في مآله على حال من هو بخلاف حاله وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى مَّثَلُ الْجَنَّة ِ يستدعي أمراً يمثل به فما هو نقول فيه وجوه الأول قول سيبويه حيث قال المثل هو الوصف معناه وصف الجنة وذلك لا يقتضي ممثلاً به وعلى هذا ففيه احتمالان أحدهما أن يكون الخبر محذوفاً ويكون مَّثَلُ الْجَنَّة ِ مبتدأ تقديره فيما قصصناه مثل الجنة ثم يستأنف ويقول فِيهَا أَنْهَارٌ وكذلك القول في سورة الرعد يكون قوله تعالى تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ( الرعد 35 ) ابتداء بيان والاحتمال الثاني أن يكون فيها أنهار وقوله تَجْرِى مِن تَحْتِهَا خبراً كما يقال صف لي زيداً فيقول القائل زيد أحمر قصير والقول الثاني أن المثل زيادة والتقدير الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار الوجه الثاني ههنا الممثل به محذوف غير مذكور وهو يحتمل قولين أحدهما قال الزجاج حيث قال مَّثَلُ الْجَنَّة ِ جنة تجري فِيهَا أَنْهَارٌ كما يقال مثل زيد رجل طويل أسمر فيذكر عين صفات زيد في رجل منكر لا يكون هو في الحقيقة إلا زيداً الثاني من القولين هو أن يقال معناه مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ مثل عجيب أو شيء عظيم أو مثل ذلك وعلى هذا يكون قوله فِيهَا أَنْهَارٌ كلاماً مستأنفاً محققاً لقولنا مثل عجيب الوجه الثالث الممثل به مذكور وهو قول الزمخشري حيث قال كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ مشبه به على طريقة الإنكار وحينئذ فهذا كقول القائل حركات زيد أو أخلاقه كعمرو وكذلك على أحد التأويلين إما على تأويل كحركات عمرو أو على تأويل زيد في حركاته كعمر وكذلك على أحد التأويلين إما على تأويل كحركات عمرو أو على تأويل زيد في حركاته كعمر وكذلك ههنا كأنه تعالى قال مثل الجنة كمن هو خالد في النار وهذا أقصى ما يمكن أن يقرر به قول الزمخشري وعلى هذا فقوله تعالى فِيهَا أَنْهَارٌ وما بعد هذا جمل اعتراضية وقعت بين المبتدأ والخبر كما يقال نظير زيد فيه مروءة وعنده علم وله أصل عمرو
ثم قال تعالى فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّة ٍ لّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مّنْ
اختار الأنهار من الأجناس الأربعة وذلك لأن المشروب إما أن يشرب لطعمه وإما أن يشرب لأمر غير عائد إلى الطعم فإن كان للطعم فالطعوم تسعة المر والمالح والحريف والحامض والعفص والقابض والتفه والحلو والدسم ألذها الحلو والدسم لكن أحلى الأشياء العسل فذكره وأما أدسم الأشياء فالدهن لكن الدسومة إذا تمحضت لا تطيب للأكل ولا للشرب فإن الدهن لا يؤكل ولا يشرب كما هو في الغالب وأما اللبن فيه الدسم الكائن في غيره وهو طيب للأكل وبه تغذية الحيوان أولاً فذكره الله تعالى وأما ما يشرب لا(28/47)
لأمر عائد إلى الطعم فالماء والخمر فإن الخمر فيها أمر يشربها الشارب لأجله هي كريهة الطعم باتفاق من يشربها وحصول التواتر به ثم عرى كل واحد من الأشياء الأربعة عن صفات النقص التي هي فيها وتتغير بها الدنيا فالماء يتغير يقال أسن الماء يأسن على وزن أمن يأمن فهو آسن وأسن اللبن إذا بقي زماناً تغير طعمه والخمر يكرهه الشارب عند الشرب والعسل يشوبه أجزاء من الشمع ومن النحل يموت فيه كثيراً ثم إن الله تعالى خلط الجنسين فذكر الماء الذي يشرب لا للطعم وهو عام الشرب وقرن به اللبن الذي يشرب لطعمه وهو عام الشرب إذ ما من أحد إلا وكان شربه اللبن ثم ذكر الخمر الذي يشرب لا للطعم وهو قليل الشرب وقرن به العسل الذي يشرب للطعم وهو قليل الشرب فإن قيل العسل لا يشرب نقول شراب الجلاب لم يكن إلا من العسل والسكر قريب الزمان ألا ترى أن السكنجبين من ( سركه وانكبين ) وهو الخل والعسل بالفارسية كما أن استخراجه كان أولاً من الخل والعسل ولم يعرف السكر إلا في زمان متأخر ولأن العسل اسم يطلق على غير عسل النحل حتى يقال عسل النحل للتمييز والله أعلم
المسألة الثانية قال في الخمر لَذَّة ٍ لّلشَّارِبِينَ ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين ولا قال في العسل مصفى للناظرين لأن اللذة تختلف باختلاف الأشخاص فرب طعام يلتذ به شخص ويعافه الآخر فقال لَذَّة ٍ لّلشَّارِبِينَ بأسرهم ولأن الخمر كريهة الطعم فقال لَذَّة ٍ أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم وأما الطعم واللون فلا يختلفان باختلاف الناس فإن الحلو والحامض وغيرهما يدركه كل أحد كذلك لكنه قد يعافه بعض الناس ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أن له طعماً واحداً وكذلك اللون فلم يكن إلى التصريح بالتعميم حاجة وقوله لَذَّة ٍ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تأنيث لذ يقال طعام لذ ولذيذ وأطعمة لذة ولذيذة وثانيهما أن يكون ذلك وصفاً بنفس المعنى لا بالمشتق منه كما يقال للحليم هو حلم كله وللعاقل كله
ثم قال تعالى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَة ٌ مّن رَّبّهِمْ
بعد ذكر المشروب أشار إلى المأكول ولما كان في الجنة الأكل للذة لا للحاجة ذكر الثمار فإنها تؤكل للذة بخلاف الخبز واللحم وهذا كقوله تعالى في سورة الرعد مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا ( الرعد 35 ) حيث أشار إلى المأكول والمشروب وههنا لطيفة وهي أنه تعالى قال فيها وِظِلُّهَا ولم يقل ههنا ذلك نقول قال ههنا وَمَغْفِرَة ٌ والظل فيه معنى الستر والمغفرة كذلك ولأن المغفور تحت نظر من رحمة الغافر يقال نحن تحت ظل الأمير وظلها هو رحمة الله ومغفرته حيث لا يمسهم حر ولا برد
المسألة الثالثة المتقي لا يدخل الجنة إلا بعد المغفرة فكيف يكون لهم فيها مغفرة فنقول الجواب عنه من وجهين الأول ليس بلازم أن يكون المعنى لهم مغفرة من ربهم فيها بل يكون عطفاً على قوله ( لهم ) كأنه تعالى قال لهم الثمرات فيها ولهم المغفرة قبل دخولها والثاني هو أن يكون المعنى لهم فيها مغفرة أي(28/48)
رفع التكليف عنهم فيأكلون من غير حساب بخلاف الدنيا فإن الثمار فيها على حساب أو عقاب ووجه آخر وهو أن الآكل في الدنيا لا يخلو عن استنتاج قبيح أو مكروه كمرض أو حاجة إلى تبرز فقال وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَة ٌ لا قبيح على الآكل بل مستور القبائح مغفور وهذا استفدته من المعلمين في بلادنا فإنهم يعودون الصبيان بأن يقولون وقت حاجتهم إلى إراقة البول وغيره يا معلم غفر الله لك فيفهم المعلم أنهم يطلبون الإذن في الخروج لقضاء الحاجة فيأذن لهم فقلت في نفسي معناه هو أن الله تعالى في الجنة غفر لمن أكل وأما في الدنيا فلأن للأكل توابع ولوازم لا بد منها فيفهم من قولهم حاجتهم
ثم قال تعالى كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ وفيه أيضاً مسائل
المسألة الأولى على قول من قال مَّثَلُ الْجَنَّة ِ معناه وصف الجنة فقوله كَمَنْ هُوَ بماذا يتعلق نقول قوله لَّهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ يتضمن كونهم فيها فكأنه قال هو فيها كمن هو خالد في النار فالمشبه يكون محذوفاً مدلولاً عليه بما سبق ويحتمل أن يقال ما قيل في تقرير قول الزمخشري أن المراد هذه الجنة التي مثلها ما ذكرنا كمقام من هو خالد في النار
المسألة الثانية قال الزجاج قوله تعالى كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ راجع إلى ما تقدم كأنه تعالى قال أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار فهل هو صحيح أم لا نقول لنا نظر إلى اللفظ فيمكن تصحيحه بتعسف ونظر إلى المعنى لا يصح إلا بأن يعود إلى ما ذكرناه أما التصحيح فبحذف كمن في المرة الثانية أو جعله بدلاً عن المتقدم أو بإضمار عاطف يعطف كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ على كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ أو كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وأما التعسف فبيّن نظراً إلى الحذف وإلى الإضمار مع الفاصل الطويل بين المشبه والمشبه به وأما طريقة البدل ففاسدة وإلا لكان الاعتماد على الثاني فيكون كأنه قال أفمن كان على بينة كمن هو خالد وهو سمج في التشبيه تعالى كلام الله عن ذلك والقول في إضمار العاطف كذلك لأن المعطوف أيضاً يصير مستقلاً في التشبيه اللّهم إلا أن يقال المجموع بالمجموع كأنه يقول أفمن كان على بينة من ربه وهو في الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار وعلى هذا تقع المقابلة بين من هو على بينة من ربه وبين من زين له سوء عمله وبين من في الجنة وبين من هو خالد في النار وقد ذكرناه فلا حاجة إلى خلط الآية بالآية وكيف وعلى ما قاله تقع المقابلة بين من هو في النار وسقوا ماءً حميماً وبين من هو على بينة من ربه وأية مناسبة بينهما بخلاف ما ذكرناه من الوجوه الأخر فإن المقابلة بين الجنة التي فيها الأنهار وبين النار التي فيها الماء الحميم وذلك تشبيه إنكار مناسب
المسألة الثالثة قال كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ حملاً على اللفظ الواحد وقال وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً على المعنى وهو جمع وكذلك قال من قبل كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ ( محمد 14 ) على التوحيد والإفراد وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ على الجمع فما الوجه فيه نقول المسند إلى من إذا كان متصلاً فرعاية اللفظ أولى لأنه هو المسموع إذا كان مع انفصال فالعود إلى المعنى أولاً لأن اللفظ لا يبقى في السمع والمعنى يبقى في ذهن السامع فالحمل في الثاني على المعنى أولى وحمل الأول على اللفظ أولى فإن قيل كيف قال في سائر المواضع مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ( سبأ 37 ) و فَمَن تَابَ وَأَصْلَحَ ( المائدة 39 ) نقول إذا كان المعطوف مفرداً أو شبيهاً(28/49)
بالمعطوف عليه في المعنى فالأولى أن يختلفا كما ذكرت فإنه عطف مفرد على مفرد وكذلك لو قال كمن هو خالد في النار ومعذب فيها لأن المشابهة تنافي المخالفة وأما إذا لم يكن كذلك كما في هذا الموضع فإن قوله السَّمَاء مَاء جملة غير مشابهة لقوله هُوَ خَالِدٌ وقوله تعالى وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً بيان لمخالفتهم في سائر أحوال أهل الجنة فلهم أنهار من ماء غير آسن ولهم ماء حميم فإن قيل المشابهة الإنكارية بالمخالفة على ما ثبت وقد ذكرت البعض وقلت بأن قوله عَلَى بَيّنَة ٍ في مقابلة زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ و مّن رَّبّهِ في مقابلة قوله وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ والجنة في مقابلة النار في قوله خَالِدٌ فِى النَّارِ والماء الحميم في مقابلة الأنهار فأين ما يقابل قوله وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَة ٌ فنقول تقطع الأمعاء في مقابلة مغفرة لأنا بينا على أحد الوجوه أن المغفرة التي في الجنة هي تعرية أكل الثمرات عما يلزمه من قضاء الحاجة والأمراض وغيرها كأنه قال للمؤمن أكل وشرب مطهر طاهر لا يجتمع في جوفهم فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء حاجة وللكافر ماء حميم في أول ما يصل إلى جوفهم يقطع أمعاءهم ويشتهون خروجه من جوفهم وأما الثمار فلم يذكر مقابلها لأن في الجنة زيادة مذكورة فحققها بذكر أمر زايد
المسألة الرابعة الماء الحار يقطع أمعاءهم لأمر آخر غير الحرارة وهي الحدة التي تكون في السموم المدوفة وإلا فمجرد الحرارة لا يقطع فإن قيل قوله تعالى فَقَطَّعَ بالفاء يقتضي أن يكون القطع بما ذكر نقول نعم لكنه لا يقتضي أن يقال يقطع لأنه ماء حميم فحسب بل ماء حميم مخصوص يقطع ثم قال تعالى
وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ
لما بيّن الله تعالى حال الكافر ذكر حال المنافق بأنه من الكفار وقوله وَمِنْهُمُ يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الناس كما قال تعالى في سورة البقرة وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ ( البقرة 8 ) بعد ذكر الكفار ويحتمل أن يكون راجعاً إلى أهل مكة لأن ذكرهم سبق في قوله تعالى هِى َ أَشَدُّ قُوَّة ً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ ( محمد 13 ) ويحتمل أن يكون راجعاً إلى معنى قوله كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً ( محمد 15 ) يعني ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك وقوله حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ على ما ذكرنا حمل على المعنى الذي هو الجمع ويستمع حمل على اللفظ وقد سبق التحقيق فيه وقوله حَتَّى للعطف في قول المفسرين وعلى هذا فالعطف بحتى لا يحسن إلا إذا كان المعطوف جزءاً من المعطوف عليه إما أعلاه أو دونه كقول القائل أكرمني الناس حتى الملك وجاء الحاج حتى المشاة وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف عليه من حيث المعنى ولا يشترط في العطف بالواو ذلك فيجوز أن تقول في الواو جاء الحاج وما علمت ولا يجوز مثل ذلك في حتى إذا علمت هذا فوجه التعلق ههنا هو أن قوله(28/50)
حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ يفيد معنى زائداً في الاستماع كأنه يقول يستمعون استماعاً بالغاً جيداً لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلم الطالب للتفهم فإن قلت فعلى هذا يكون هذا صفة مدح لهم وهو ذكرهم في معرض الذم نقول يتميز بما بعده وهو أحد أمرين إما كونهم بذلك مستهزئين كالذكي يقول للبليد أعد كلامك حتى أفهمه ويرى في نفسه أنه مستمع إليه غاية الاستماع وكل أحد يعلم أنه مستهزىء غير مستفيد ولا مستعيد وإما كونهم لا يفهمون مع أنهم يستمعون ويستعيدون ويناسب هذا الثاني قوله تعالى كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ( الأعراف 101 ) والأول يؤكده قوله تعالى وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ( البقرة 14 ) والثاني يؤكده قوله تعالى قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 14 ) وقوله ءانِفاً قال بعض المفسرين معناه الساعة ومنه الاستئناف وهو الابتداء فعلى هذا فالأولى أن يقال يقولون ماذا قال آنفاً بمعنى أنهم يستعيدون كلامه من الابتداء كما يقول المستعيد للمعيد أعد كلامك من الابتداء حتى لا يفوتني شيء منه
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ
أي تركوا اتباع الحق إما بسبب عدم الفهم أو بسبب عدم الاستماع للاستفادة واتبعوا ضده ثم قال تعالى
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ
لما بيّن الله تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع ويستعيد ولا يستفيد بين أن حال المؤمن المهتدي بخلافه فإنه يستمع فيفهم ويعمل بما يعلم والمنافق يستعيد والمهتدي يفسر ويعيد وفيه فائدتان إحداهما ما ذكرنا من بيان التباين بين الفريقين وثانيهما قطع عذر المنافق وإيضاح كونه مذموم الطريقة فإنه لو قال ما فهمته لغموضه وكونه معمى يرد عليه ويقول ليس كذلك فإن المهتدي فهم واستنبط لوازمه وتوابعه فذلك لعماء القلوب لا لخفاء المطلوب وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الفاعل للزيادة في قوله زَادَهُمْ نقول فيه وجوه الأول المسموع من النبي عليه الصلاة والسلام من كلام الله وكلام الرسول يدل عليه قوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ( محمد 16 ) فإنه يدل على مسموع والمقصود بيان التباين بين الفريقين فكأنه قال هم لم يفهموه وهؤلاء فهموه والثاني أن الله تعالى زادهم ويدل عليه قوله تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( محمد 16 ) وكأنه تعالى طبع على قلوبهم فزادهم عمى والمهتدين زاده هدى ً والثالث استهزاء المنافق زاد المهتدي هدى ووجهه أنه تعالى لما قال وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ قال وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ اتباعهم الهدى هدى فإنهم استقبحوا فعلهم فاجتنبوه
المسألة الثانية ما معنى قوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ نقول فيه وجوه منقولة ومستنبطة أما المنقولة فنقول قيل فيه إن المراد آتاهم ثواب تقواهم وقيل آتاهم نفس تقواهم من غير إضمار يعني بيّن لهم التقوى وقيل آتاهم توفيق العمل بما علموا وأما المستنبط فنقول يحتمل أن يكون المراد به بيان حال(28/51)
المستمعين للقرآن الفاهمين لمعانيه المفسرين له بياناً لغاية الخلاف بين المنافق فإنه استمع ولم يفهمه وستعاد ولم يعلمه والمهتدي فإنه علمه وبينه لغيره ويدل عليه قوله تعالى زَادَهُمْ هُدًى ولم يقل اهتداء والهدى مصدر من هدى قال الله تعالى فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) أي خذ بما هدوا واهتد كما هدوا وعلى هذا فقوله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ معناه جنبهم عن القول في القرآن بغير برهان وحملهم على الاتقاء من التفسير بالرأي وعلى هذا فقوله زَادَهُمْ هُدًى معناه كانوا مهتدين فزادهم على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين ويحتمل أن يقال قوله زَادَهُمْ هُدًى إشارة إلى العلم وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ إشارة إلى الأخذ بالاحتياط فيما لم يعلموه وهو مستنبط من قوله تعالى فَبَشّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الزمر 17 18 ) وقوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ( آل عمران 7 )
المعنى الثالث يحتمل أن يكون المراد بيان أن المخلص على خطر فهو أخشى من غيره وتحقيقه هو أنه لما قال زَادَهُمْ هُدًى أفاد أنهم ازداد علمهم وقال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) فقال آتاهم خشيتهم التي يفيدها العلم
والمعنى الرابع تقواهم من يوم القيامة كما قال تعالى كَفُورٍ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ( لقمان 33 ) ويدل عليه قوله تعالى فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً ( محمد 18 ) كأن ذكر الساعة عقيب التقوى يدل عليه
المعنى الخامس آتاهم تقواهم التقوى التي تليق بالمؤمن وهي التقوى التي لا يخاف معها لومة لائم
ثم قال تعالى الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ( الأحزاب 39 ) وكذلك قوله تعالى مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 1 ) وهذا الوجه مناسب لأن الآية لبيان تباين الفريقين وهذا يحقق ذلك من حيث إن المنافق كان يخشى الناس وهم الفريقان المؤمنون والكافرون فكان يتردد بينهما ويرضي الفريقين ويسخط الله فقال الله تعالى المؤمن المهتدي بخلاف المنافق حيث علم ذاك ولم يعلم ذلك واتقى الله لا غير واتقى ذلك غير الله
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ
يعني الكافرون والمنافقون لا ينظرون إلا الساعة وذلك لأن البراهين قد صحت والأمور قد اتضحت وهم لم يؤمنوا فلا يتوقع منهم الإيمان إلا عند قيام الساعة وهو من قبيل بدل الاشتمال على تقدير لا ينظرون(28/52)
إلا الساعة إتيانها بغتة وقرىء فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ على الشرط وجزاؤه لا ينفعهم ذكراهم يدل عليه قوله تعالى فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ وقد ذكرنا أن القيامة سميت بالساعة لساعة الأمور الواقعة فيها من البعث والحشر والحساب
وقوله فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا يحتمل وجهين أحدهما لبيان غاية عنادهم وتحقيقه هو أن الدلائل لما ظهرت ولم يؤمنوا لم يبق إلا إيمان اليأس وهو عند قيام الساعة لكن أشراطها بانت فكان ينبغي أن يؤمنوا ولم يؤمنوا فهم في لجة الفساد وغاية العناد ثانيهما يكون لتسلية قلوب المؤمنين كأنه تعالى لما قال فَهَلْ يَنظُرُونَ فهم منه تعذيبهم والساعة عند العوام مستبطأة فكأن قائلاً قال متى الساعة فقد جاء أشراطها كقوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( القمر 1 ) والأشراط العلامات قال المفسرون هي مثل انشقاق القمر ورسالة محمد عليه السلام ويحتمل أن يقال معنى الأشراط البينات الموضحة لجواز الحشر مثل خلق الإنسان ابتداء وخلق السماوات والأرض كما قال تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( ي س 81 ) والأول هو التفسير
ثم قال تعالى فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ يعني لا تنفعهم الذكرى إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الإيمان والمراد فكيف لهم الحال إذا جاءتهم ذكراهم ومعنى ذلك يحتمل أن يكون هو قوله تعالى هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( الأنبياء 103 ) هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ( الصافات 21 ) فيذكرون به للتحسر وكذلك قوله تعالى وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ ( الزمر 71 )
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلأ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
ولبيان المناسبة وجوه الأول هو أنه تعالى لما قال فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا ( محمد 18 ) قال فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ يأتي بالساعة كما قال تعالى أَزِفَتِ الاْزِفَة ُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَة ٌ وثانيها فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا وهي آتية فكأن قائلاً قال متى هذا فقال فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ فلا تشتغل به واشتغل بما عليك من الاستغفار وكن في أي وقت مستعداً للقائها ويناسبه قوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ الثالث فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ينفعك فإن قيل النبي عليه الصلاة والسلام كان عالماً بذلك فما معنى الأمر نقول عنه من وجهين أحدهما فاثبت على ما أنت عليه من العلم كقول القائل لجالس يريد القيام اجلس أي لا تقم ثانيهما الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام والمراد قومه والضمير في أنه للشأن وتقدير هذا هو أنه عليه السلام لما دعا القوم إلى الإيمان ولم يؤمنوا ولم يبق شيء يحملهم على الإيمان إلا ظهور الأمر بالبعث والنشور وكان ذلك مما يحزن النبي عليه الصلاة والسلام فسلى قلبه وقال أنت كامل في نفسك مكمل لغيرك فإن لم يكمل بك قوم لم يرد الله تعالى بهم خيراً فأنت في نفسك عامل بعلمك وعلمك حيث تعلم أن الله واحد وتستغفر وأنت بحمد الله مكمل وتكمل المؤمنين والمؤمنات وأنت تستغفر لهم فقد حصل لك الوصفان فاثبت على ما أنت عليه ولا يحزنك كفرهم وقوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الخطاب معه والمراد المؤمنون وهو بعيد لإفراد المؤمنين والمؤمنات بالذكر وقال بعض الناس لِذَنبِكِ أي لذنب أهل بيتك وللمؤمنين والمؤمنات أي الذين ليسوا منك بأهل بيت(28/53)
وثالثهما المراد هو النبي والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحاشاه من ذلك وثالثها وجه حسن مستنبط وهو أن المراد توفيق العمل الحسن واجتناب العمل السيء ووجهه أن الاستغفار طلب الغفران والغفران هو الستر على القبيح ومن عصم فقد ستر عليه قبائح الهوى ومعنى طلب الغفران أن لا تفضحنا وذلك قد يكون بالعصمة منه فلا يقع فيه كما كان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد يكون بالستر عليه بعد الوجود كما هو في حق المؤمنين والمؤمنات وفي هذه الآية لطيفة وهي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له أحوال ثلاثة حال مع الله وحال مع نفسه وحال مع غيره فأما مع الله وحده وأما مع نفسك فاستغفر لذنبك واطلب العصمة من الله وأما مع المؤمنين فاستغفر لهم واطلب الغفران لهم من الله وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ يعني حالكم في الدنيا وفي الآخرة وحالكم في الليل والنهار
وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَة ٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَة ٌ مُّحْكَمَة ٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِى ِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ
لما بيّن الله حال المنافق والكافر والمهتدي المؤمن عند استماع الآيات العلمية من التوحيد والحشر وغيرهما بقوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ( محمد 16 ) وقوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) بين حالهم في الآيات العملية فإن المؤمن كان ينتظر ورودها ويطلب تنزيلها وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها والمنافق إذا نزلت السورة أو الآية وفيها تكليف شق عليه ليعلم تباين الفريقين في العلم والعمل حيث لا يفهم المنافق العلم ولا يريد العمل والمؤمن يعلم ويحب العمل وقولهم لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَة ٌ المراد منه سورة فيها تكليف بمحن المؤمن والمنافق
ثم إنه تعالى أنزل سورة فيها القتال فإنه أشق تكليف وقوله سُورَة ٌ مُّحْكَمَة ٌ فيها وجوه أحدها سورة لم تنسخ ثانيها سورة فيها ألفاظ أُريدت حقائقها بخلاف قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) وقوله فِى جَنبِ اللَّهِ ( الزمر 56 ) فإن قوله تعالى فَضَرْبَ الرّقَابِ ( محمد 4 ) أراد القتل وهو أبلغ من قوله فَاقْتُلُوهُمْ ( البقرة 191 ) وقوله وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( النساء 91 ) صريح وكذلك غير هذا من آيات القتال وعلى الوجهين فقوله مُّحْكَمَة ٌ فيها فائدة زائدة من حيث إنهم لا يمكنهم أن يقولوا المراد غير ما يظهر منه أو يقولوا هذه آية وقد نسخت فلا نقاتل وقوله رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أي المنافقين يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِى ّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ لأن عند التكليف بالقتال لا يبقى لنفاقهم فائدة فإنهم قيل القتال كانوا يترددون إلى القبيلتين وعند الأمر بالقتال لم يبق لهم إمكان ذلك فَأَوْلَى لَهُمْ دعاء كقول القائل فويلٌ لهم ويحتمل(28/54)
أن يكون هو خبر لمبتدأ محذوف سبق ذكره وهو الموت كأن الله تعالى لما قال نَظَرَ الْمَغْشِى ّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ قال فالموت أولى لهم لأن الحياة التي لا في طاعة الله ورسوله الموت خير منها وقال الواحدي يجوز أن يكون المعنى فأولى لهم طاعة أي الطاعة أولى لهم
طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الاٌّ مْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
ثم قال تعالى طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ
كلام مستأنف محذوف الخبر تقديره خير لهم أي أحسن وأمثل لا يقال طاعة نكرة لا تصلح للابتداء لأنا نقول هي موصوفة بدل عليه قوله وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فإنه موصوف فكأنه تعالى قال طَاعَة ٌ مخلصة وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ خير وقيل معناه قالوا طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ أي قولهم أمرنا طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ويدل عليه قراءة أُبي يَقُولُونَ طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ
وقوله فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
جوابه محذوف تقديره فَإِذَا عَزَمَ الاْمْرُ خالفوا وتخلفوا وهو مناسب لمعنى قراءة أُبي كأنه يقول في أول الأمر قالوا سمعاً وطاعة وعند آخر الأمر خالفوا وأخلفوا موعدهم ونسب العزم إلى الأمر والعزم لصاحب الأمر معناه فإذا عزم صاحب الأمر هذا قول الزمخشري ويحتمل أن يقال هو مجاز كقولنا جاء الأمر وولى فإن الأمر في الأول يتوقع أن لا يقع وعند إظلاله وعجز الكاره عن إبطاله فهو واقع فقال عَزَمَ والوجهان متقاربان وقوله تعالى فَلَوْ صَدَقُواْ فيه وجهان على قولنا المراد من قوله طاعة أنهم قالوا طاعة فمعناه لو صدقوا في ذلك القول وأطاعوا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وعلى قولنا طَاعَة ٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ خير لهم وأحسن فمعناه لَوْ صَدَقُواْ في إيمانهم واتباعهم الرسول لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
وهذه الآية فيها إشارة إلى فساد قول قالوه وهو أنهم كانوا يقولون كيف نقاتل والقتل إفساد والعرب من ذوي أرحامنا وقبائلنا فقال تعالى إِن تَوَلَّيْتُمْ لا يقع منكم إلا الفساد في الأرض فإنكم تقتلون من تقدرون عليه وتنهبونه والقتال واقع بينكم أليس قتلكم البنات إفساداً وقطعاً للرحم فلا يصح تعللكم بذلك مع أنه خلاف ما أمر الله وهذا طاعة وفيه مسائل
المسألة الأولى في استعمال عسى ثلاثة مذاهب أحدها الإتيان بها على صورة فعل ماضٍ معه فاعل تقول عسى زيد وعسينا وعسوا وعسيت وعسيتما وعسيتم وعست وعستا والثاني أن يؤتى بها على صورة فعل مع مفعول تقول عساه وعساهما وعساك وعساكما وعساي وعسانا والثالث الإتيان بها من غير أن يقرن بها شيء تقول عسى زيد يخرج وعسى أنت تخرج وعسى أنا أخرج والكل له وجه وما عليه كلام الله أوجه وذلك لأن عسى من الأفعال الجامدة واقتران الفاعل بالفعل أولى من اقتران المفعول لأن الفاعل كالجزء من الفعل ولهذا لم يجز فيه أربع متحركات في مثل قول القائل نصرت وجوز في مثل قولهم نصرك ولأن كل فعل له فاعل سواء كان لازماً أو متعدياً ولا كذلك المفعول به فعسيت وعساك كعصيت وعصاك في اقتران الفاعل بالفعل والمفعول به وأما قول من قال عسى أنت تقوم وعسى أن أقوم فدون ما ذكرنا للتطويل الذي فيه
المسألة الثانية الاستفهام للتقرير المؤكد فإنه لو قال على سبيل الإخبار عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ لكان للمخاطب أن ينكره فإذا قال بصيغة الاستفهام كأنه يقول أنا أسألك عن هذا وأنت لا تقدر أن تجيب إلا بلا أو(28/55)
نعم فهو مقرر عندك وعندي
المسألة الثالثة عسى للتوقيع والله تعالى عالم بكل شيء فنقول فيه ما قلنا في لعل وفي قوله لِنَبْلُوَهُمْ ( الكهف 7 ) إن بعض الناس قال يفعل بكم فعل المترجي والمبتلي والمتوقع وقال آخرون كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك ونحن قلنا محمول على الحقيقة وذلك لأن الفعل إذا كان ممكناً في نفسه فالنظر إليه غير مستلزم لأمر وإنما الأمر يجوز أن يحصل منه تارة ولا يحصل منه أخرى فيكون الفعل لذلك الأمر المطلوب على سبيل الترجي سواء كان الفاعل يعلم حصول الأمر منه وسواء أن لم يكن يعلم مثاله من نصب شبكة لاصطياد الصيد يقال هو متوقع لذلك فإن حصل له العلم بوقوعه فيه بإخبار صادق أنه سيقع فيه أو بطريق أخرى لا يخرج عن التوقع غاية ما في الباب أن في الشاهد لم يحصل لنا العلم فيما نتوقعه فيظن أن عدم العلم لازم للمتوقع وليس كذلك بل المتوقع هو المنتظر لأمر ليس بواجب الوقوع نظراً لذلك الأمر فحسب سواء كان له به علم أو لم يكن وقوله إِن تَوَلَّيْتُمْ فيه وجهان أحدهما أنه من الولاية يعني إن أخذتم الولاية وصار الناس بأمركم أفسدتم وقطعتم الأرحام وثانيهما هو من التولي الذي هو الإعراض وهذا مناسب لما ذكرنا أي كنتم تتركون القتال وتقولون فيه الإفساد وقطع الأرحام لكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلا ذلك حيث تقاتلون على أدنى شيء كما كان عادة العرب الأول يؤكده قراءة علي عليه السلام توليتم أي إن تولاكم ولاة ظلمة جفاة غشمة ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم معهم وقطعتم أرحامكم والنبي عليه السلام لا يأمركم إلا بالإصلاح وصلة الأرحام فلم تتقاعدون عن القتال وتتباعدون في الضلال
أَوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ
إشارة لمن سبق ذكرهم من المنافقين أبعدهم الله عنه أو عن الخير فأصمهم فلا يسمعون الكلام المستبين وأعماهم فلا يتبعون الصراط المستقيم وفيه ترتيب حسن وذلك من حيث إنهم استمعوا الكلام العلمي ولم يفهموه فهم بالنسبة إليه صم أصمهم الله وعند الأمر بالعمل تركوه وعللوا بكونه إفساداً وقطعاً للرحم وهم كانوا يتعاطونه عند النهي عنه فلم يروا حالهم عليه وتركوا اتباع النبي الذي يأمرهم بالإصلاح وصلة الأرحام ولو دعاهم من يأمر بالإفساد وقطيعة الرحم لاتبعوه فهم عمي أعماهم الله وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال أصمهم ولم يقل أصم آذانهم وقال وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ولم يقل أعماهم وذلك لأن العين آلة الرؤية ولو أصابها آفة لا يحصل الإبصار والأذن لو أصابها آفة من قطع أو قلع تسمع الكلام لأن الأذن خلقت وخلق فيها تعاريج ليكثر فيها الهواء المتموج ولا يقرع الصماخ بعنف فيؤذي كما يؤذي الصوت القوي فقال أصمهم من غير ذكر الأذن وقال أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ مع ذكر العين لأن البصر ههنا بمعنى العين ولهذا جمعه بالأبصار ولو كان مصدراً لما جمع فلم يذكر الأذن إذ لا مدخل لها في الإصمام والعين لها مدخل في الرؤية بل هي الكل ويدل عليه أن الآفة في غير هذه المواضع لما أضافها إلى الأذن سماها وقراً كما قال تعالى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى ( فصلت 5 ) وقال كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً ( لقمان 7 ) والوقر دون الصم وكذلك الطرش(28/56)
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ
ولنذكر تفسيرها في مسائل
المسألة الأولى لما قال الله تعالى فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( محمد 23 ) كيف يمكنهم التدبر في القرآن قال تعالى أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ وهو كقول القائل للأعمى أبصر وللأصم اسمع فنقول الجواب عنه من ثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من البعض الأول تكليفه ما لا يطاق جائز والله أمر من علم أنه لا يؤمن بأن يؤمن فكذلك جاز أن يعميهم ويذمهم على ترك التدبر الثاني أن قوله أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ المراد منه الناس الثالث أن نقول هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المتقدمة فإنه تعالى قال أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ( محمد 23 ) أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو عن الخير أو غير ذلك من الأمور الحسنة فَأَصَمَّهُمْ لا يسمعون حقيقة الكلام وأعماهم لا يتبعون طريق الإسلام فإذن هم بين أمرين إما لا يتدبرون القرآن فيبعدون منه لأن الله تعالى لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق والقرآن منهما الصنف الأعلى بل النوع الأشرف وأما يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة تقديره أفلا يتدبرون القرآن لكونهم ملعونين مبعودين أم على قلوب أقفال فيتدبرون ولا يفهمون وعلى هذا لا نحتاج أن نقول أم بمعنى بل بل هي على حقيقتها للاستفهام واقعة في وسط الكلام والهمزة أخذت مكانها وهو الصدر وأم دخلت على القلوب التي في وسط الكلام
المسألة الثانية قوله عَلَى قُلُوبٍ على التنكير ما الفائدة فيه نقول قال الزمخشري يحتمل وجهين أحدهما أن يكون للتنبيه على كونه موصوفاً لأن النكرة بالوصف أولى من المعرفة فكأنه قال أم على قلوب قاسية أو مظلمة الثاني أن يكون للتبعيض كأنه قال أم على بعض القلوب لأن النكرة لا تعم تقول جاءني رجال فيفهم البعض وجاءني الرجال فيفهم الكل ونحن نقول التنكير للقلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب وذلك لأن القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً لأن القلب خلق للمعرفة فإذا لم تكن فيه المعرفة فكأنه لا يعرف وهذا كما يقول القائل في الإنسان المؤذي هذا ليس بإنسان هذا سبع ولذلك يقال هذا ليس بقلب هذا حجر إذا علم هذا فالتعريف إما بالألف واللام وإما بالإضافة واللام لتعريف الجنس أو للعهد ولم يمكن إرادة الجنس إذ ليس على قلب قفل ولا تعريف العهد لأن ذلك القلب ليس ينبغي أن يقال له قلب وأما بالإضافة بأن نقول على قلوب أقفالها وهي لعدم عود فائدة إليهم كأنها ليست لهم فإن قيل فقد قال خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( البقرة 7 ) وقال فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ ( الزمر 22 ) فنقول الأقفال أبلغ من الختم فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً
المسألة الثالثة في قوله أَقْفَالُهَا بالإضافة ولم يقل أقفال كما قال قُلُوبٍ لأن الأقفال كانت من شأنها فأضافها إليها كأنها ليست إلا لها وفي الجملة لم يضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم وأضاف الأقفال إليها لكونها مناسبة لها ونقول أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكفر والعناد(28/57)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ
إشارة إلى أهل الكتاب الذي تبين لهم الحق في التوراة بنعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبعثه وارتدوا أو إلى كل من ظهرت له الدلائل وسمعها ولم يؤمن وهم جماعة منعهم حب الرياسة عن اتباع محمد عليه السلام وكانوا يعلمون أنه الحق الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ سهل لهم وَأَمْلَى لَهُمْ يعني قالوا نعيش أياماً ثم نؤمن به وقرىء وَأَمْلَى لَهُمْ فإن قيل الإملاء والإمهال وحد الآجال لا يكون إلا من الله فكيف يصح قراءة من قرأ وَأَمْلَى لَهُمْ فإن المملي حينئذ يكون هو الشيطان نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما جاز أن يكون المراد وَأَمْلَى لَهُمْ الله فيقف على سَوَّلَ لَهُمْ وثانيها هو أن المسول أيضاً ليس هو الشيطان وإنما أسند إليه من حيث إن الله قدر على يده ولسانه ذلك فذلك الشيطان يمليهم ويقول لهم في آجالكم فسحة فتمتعوا برياستكم ثم في آخر الأمر تؤمنون وقرىء وَأَمْلَى لَهُمْ بفتح الياء وضم الهمزة على البناء للمفعول
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاٌّ مْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ
قال بعض المفسرين ذلك إشارة إلى الإملاء أي ذلك الإملاء بسبب أنهم قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ وهو اختيار الواحدي وقال بعضهم ذالِكَ إشارة إلى التسويل ويحتمل أن يقال ذلك الارتداد بسبب أنهم قالوا سَنُطِيعُكُمْ وذلك لأنا نبين أن قوله سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاْمْرِ هو أنهم قالوا نوافقكم على أن محمداً ليس بمرسل وإنما هو كاذب ولكن لا نوافقكم في إنكار الرسالة والحشر والإشراك بالله من الأصنام ومن لم يؤمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهو كافر وإن آمن بغيره لا بل من لم يؤمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يؤمن بالله ولا برسله ولا بالحشر لأن الله كما أخبر عن الحشر وهو جائز أخبر عن نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام وهي جائزة فإذا لم يصدق الله في شيء لا ينفي الكذب بقول الله في غيره فلا يكون مصدقاً موقناً بالحشر ولا برسالة أحد من الأنبياء لأن طريق معرفتهم واحد والمراد من الذين كرهوا ما نزل الله هم المشركون والمنافقون وقيل المراد اليهود فإن أهل مكة قالوا لهم نوافقكم في إخراج محمد وقتله وقتال أصحابه والأول أصح لأن قوله كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ لو كان مسنداً إلى أهل الكتاب لكان مخصوصاً ببعض ما أنزل الله وإن قلنا بأنه مسند إلى المشركين يكون عاماً لأنهم كرهوا ما نزل الله وكذبوا الرسل بأسرهم وأنكروا الرسالة رأساً وقوله سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاْمْرِ يعني فيما يتعلق بمحمد من الإيمان به فلا نؤمن والتكذيب به فنكذبه كما تكذبونه والقتال معه وأما الإشراك بالله واتخاذ الأنداد له من الأصنام وإنكار الحشر والنبوة فلا وقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ قال أكثرهم المراد منه هو أنهم قالوا ذلك سراً فأفشاه الله وأظهره لنبيه عليه الصلاة والسلام والأظهر أن يقال وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ وهو ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد عليه(28/58)
الصلاة والسلام فإنهم كانوا مكابرين معاندين وكانوا يعرفون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما يعرفون أبناءهم وقرىء إِسْرَارَهُمْ بكسر الهمزة على المصدر وما ذكرنا من المعنى ظاهر على هذه القراءة فإنهم كانوا يسرون نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وعلى قولنا المراد من الذين ارتدوا المنافقون فكانوا يقولون للمجاهدين من الكفار سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الاْمْرِ ( محمد 26 ) وكانوا يسرون أنهم إن غلبوا انقلبوا كما قال الله تعالى ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم وقال تعالى وقال تعالى فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَة ٍ حِدَادٍ ( الأحزاب 15 )
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَة ُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
اعلم أنه لما قال الله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( محمد 26 ) قال فهب أنهم يسرون والله لا يظهره اليوم فكيف يبقى مخفياً وقت وفاتهم أو نقول كأنه تعالى قال وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ وهب أنهم يختارون القتال لما فيه الضراب والطعان مع أنه مفيد على الوجهين جميعاً إن غلبوا فالمال في الحال والثواب في المآل وإن غلبوا فالشهادة والسعادة فكيف حالهم إذا ضرب وجوههم وأدبارهم وعلى هذا فيه لطيفة وهي أن القتال في الحال إن أقدم المبارزة فربما يهزم الخصم ويسلم وجهه وقفاه وإن لم يهزمه فالضرب على وجهه إن صبر وثبت وإن لم يثبت وانهزم فإن فات القرن فقد سلم وجهه وقفاه وإن لم يفته فالضرب على قفاه لا غير ويوم الوفاة لا نصرة له ولا مفر فوجهه وظهره مضروب مطعون فكيف يحترز عن الأذى ويختار العذاب الأكبر
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى ذكر أمرين ضرب الوجه وضرب الأدبار وذكر بعدهما أمرين آخرين اتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه فكأنه تعالى قابل الأمرين فقال يضربون وجوههم حيث أقبلوا على سخط الله فإن المتسع للشيء متوجه إليه ويضربون أدبارهم لأنهم تولوا عما فيه رضا الله فإن الكاره للشيء يتولى عنه وما أسخط الله يحتمل وجوهاً الأول إنكار الرسول عليه الصلاة والسلام ورضوانه الإقرار به والإسلام الثاني الكفر هو ما أسخط الله والإيمان يرضيه يدل عليه قوله تعالى إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ اللَّهُ لَكُمْ ( الزمر 7 ) وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة ِ(28/59)
إلى أن قال رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ( البينة 7 8 ) الثالث ما أسخط الله تسويل الشيطان ورضوان الله التعويل على البرهان والقرآن فإن قيل هم ما كانوا يكرهون رضوان الله بل كانوا يقولون إن ما نحن عليه فيه رضوان الله ولا نطلب إلا رضاء الله وكيف لا والمشركون بإشراكهم كانوا يقولون إنا نطلب رضاء الله كما قالوا لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) وقالوا فَيَشْفَعُواْ لَنَا ( الأعراف 53 ) فنقول معناه كرهوا ما فيه رضاء الله تعالى
وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ولم يقل ما أرضى الله وذلك لأن رحمة الله سابقة فله رحمة ثابتة وهي منشأ الرضوان وغضب الله متأخر فهو يكون على ذنب فقال رِضْوَانَهُ لأنه وصف ثابت لله سابق ولم يقل سخط الله بل مَا أَسْخَطَ اللَّهَ إشارة إلى أن السخط ليس ثبوته كثبوت الرضوان ولهذا المعنى قال في اللعان في حق المرأة وَالْخَامِسَة َ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( النور 9 ) يقال غضب الله مضافاً لأن لعانه قد سبق مظهر الزنا بقوله وأيمانه وقبله لم يكن لله غضب و رضوان الله أمر يكون منه الفعل وغضب الله أمر يكون من فعله ولنضرب له مثالاً الكريم الذي رسخ الكرم في نفسه يحمله الكرم على الأفعال الحسنة فإذا كثر من السيء الإساءة فغضبه لا لأمر يعود إليه بل غضبه عليه يكون لإصلاح حالة وزجراً لأمثاله عن مثل فعاله فيقال هو كان الكريم فكرمه لما فيه من الغريزة الحسنة لكن فلاناً أغضبه وظهر منه الغضب فيجعل الغضب ظاهراً من الفعل والفعل الحسن ظاهراً من الكرم فالغضب في الكريم بعد فعل والفعل منه بعد كرم ومن هذا يعرف لطف قوله مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ
ثم قال تعالى فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ حيث لم يطلبوا إرضاء الله وإنما طلبوا إرضاء الشيطان والأصنام
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
هذا إشارة إلى المنافقين و أَمْ تستدعي جملة أخرى استفهامية إذا كانت للاستفهام لأن كلمة أَمْ إذا كانت متصلة استفهامية تستدعي سبق جملة أخرى استفهامية يقال أزيد في الدار أم عمرو وإذا كانت منقطعة لا تستدعي ذلك يقال إن هذا لزيد أم عمرو وكما يقال بل عمرو والمفسرون على أنها منقطعة ويحتمل أن يقال إنها استفهامية والسابق مفهوم من قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فكأنه تعالى قال أحسب الذين كفروا أن لن يعلم الله إسرارهم أم حسب المنافقون أن لن يظهرها والكل قاصر وإنما يعلمها ويظهرها ويؤيد هذا أن المتقطعة لا تكاد تقع في صدر الكلام فلا يقال ابتداء بل جاء زيد ولا أم جاء عمرو والإخراج بمعنى الإظهار فإنه إبراز والأضغان هي الحقود والأمراض واحدها ضغن
وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
ثم قال تعالى وَلَوْ نَشَاء لارَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
لما كان مفهوم قوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ( محمد 29 ) أن الله يظهر ضمائرهم ويبرز سرائرهم كأن قائلاً قال فلم لم يظهر فقال أخرناه لمحض المشيئة لا لخوف منهم كما لا تفشى أسرار الأكابر خوفاً منهم وَلَوْ نَشَاء لارَيْنَاكَهُمْ أي لا مانع لنا والإراءة بمعنى التعريف وقوله(28/60)
فلتعرفنهم لزيادة فائدة وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزمه المعرفة يقال عرفته ولم يعرف وفهمته ولم يفهم فقال ههنا لارَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم يعني عرفناهم تعريفاً تعرفهم به إشارة إلى قوة التعريف واللام في قوله فَلَعَرَفْتَهُم هي التي تقع في جزاء لو كما في قوله لارَيْنَاكَهُمْ أدخلت على المعرفة إشارة إلى أن المعرفة كالمرتبة على المشيئة كأنه قال ولو نشاء لعرفتهم ليفهم أن المعرفة غير متأخرة عن التعريف فتفيد تأكيد التعريف أي لو نشاء لعرفناك تعريفاً معه المعرفة لا بعده وأما اللام في قوله تعالى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ جواب لقسم محذوف كأنه قال ولتعرفنهم والله وقوله فِى لَحْنِ الْقَوْلِ فيه وجوه أحدها في معنى القول وعلى هذا فيحتمل أن يكون المراد من القول قولهم أي لتعرفنهم في معنى قولهم حيث يقولون ما معناه النفاق كقولهم حين مجيء النصر إنا كنا معكم وقولهم لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ِ لَيُخْرِجَنَّ ( المنافقون 8 ) وقولهم إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَة ٌ ( الأحزاب 13 ) وغير ذلك ويحتمل أن يكون المراد قول الله عزّ وجل أي لتعرفنهم في معنى قول الله تعالى حيث قال ما تعلم منه حال المنافقين كقوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ ( النور 62 ) وقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ( الأنفال 2 ) إلى غير ذلك وثانيها في ميل القول عن الصواب حيث قالوا ما لم يعتقدوا فأمالوا كلامهم حيث قالوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ وقالوا إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَة ٌ وَمَا هِى َ بِعَوْرَة ٍ ( الأحزاب 13 ) وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَارَ ( الأحزاب 15 ) إلى غير ذلك وثالثها في لحن القول أي في الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عليه السلام ولا يفهمه غيره وهذا يحتمل أمرين أيضاً والنبي عليه السلام كان يعرف المنافق ولم يكن يظهر أمره إلى أن أذن الله تعالى له في إظهار أمرهم ومنع من الصلاة على جنائزهم والقيام على قبورهم وأما قوله بِسِيمَاهُمْ فالظاهر أن المراد أن الله تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يمسخهم كما قال تعالى وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ ( ي س 67 ) وروي أن جماعة منهم أصبحوا وعلى جباههم مكتوب هذا منافق وقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وعد للمؤمنين وبيان لكون حالهم على خلاف حال المنافق فإن المنافق كان له قول بلا عمل والمؤمن كان له عمل ولا يقول به وإنما قوله التسبيح ويدل عليه قوله تعالى رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ( البقرة 286 ) وقوله رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا ( آل عمران 193 ) وكانوا يعملون الصالحات ويتكلمون في السيئات مستغفرين مشفقين والمنافق كان يتكلم في الصالحات كقوله إِنَّا مَعَكُمْ ( البقرة 14 ) قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا ( الحجرات 14 ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا ( البقرة 8 ) ويعمل السيء فقال تعالى الله يسمع أقوالهم الفارغة ويعلم أعمالكم الصالحة فلا يضيع
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ
أي لنأمرنكم بما لا يكون متعيناً للوقوع بل بما يحتمل الوقوع ويحتمل عدم الوقوع كما يفعل المختبر وقوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ أي نعلم المجاهدين من غير المجاهدين ويدخل في علم الشهادة فإنه تعالى قد علمه علم الغيب وقد ذكرنا ما هو التحقيق في الابتلاء وفي قوله حَتَّى نَعْلَمَ وقوله(28/61)
الْمُجَاهِدِينَ أي المقدمين على الجهاد وَالصَّابِرِينَ أي الثابتين الذين لا يولون الأدبار وقوله وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ يحتمل وجوهاً أحدها قوله مِنَ ( البقرة 8 ) لأن المنافق وجد منه هذا الخبر والمؤمن وجد منه ذلك أيضاً وبالجهاد يعلم الصادق من الكاذب كما قال تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( الحجرات 15 ) وثانيها إخبارهم من عدم التولية في قوله وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَارَ ( الأحزاب 15 ) إلى غير ذلك فالمؤمن وفى بعهده وقاتل مع أصحابه في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص والمنافق كان كالهباء ينزعج بأدنى صيحة وثالثها المؤمن كان له أخبار صادقة مسموعة من النبي عليه السلام كقوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ( الفتح 27 ) لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) و ءانٍ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الصافات 173 ) وللمنافق أخبار أراجيف كما قال تعالى في حقهم وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَة ِ ( الأحزاب 60 ) فعند تحقق الإيجاف يتبين الصدق من الإرجاف
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ
فيه وجهان أحدهما هم أهل الكتاب قريظة والنضير والثاني كفار قريش يدل على الأول قوله تعالى مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى قيل أهل الكتاب تبين لهم صدق محمد عليه السلام وقوله لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً تهديد معناه هم يظنون أن ذلك الشقاق مع الرسول وهم به يشاقونه وليس كذلك بل الشقاق مع الله فإن محمداً رسول الله ما عليه إلا البلاغ فإن ضروا يضروا الرسل لكن الله منزه عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق وقوله وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ قد علم معناه فإن قيل قد تقدم في أول السورة أن الله تعالى أحبط أعمالهم فكيف يحبط في المستقبل فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن المراد من قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( محمد 1 ) في أول السورة المشركون ومن أول الأمر كانوا مبطلين وأعمالهم كانت على غير شريعة والمراد من الذين كفروا ههنا أهل الكتاب وكانت لهم أعمال قبل الرسول فأحبطها الله تعالى بسبب تكذيبهم الرسول ولا ينفعهم إيمانهم بالحشر والرسل والتوحيد والكافر المشرك أحبط عمله حيث لم يكن على شرع أصلاً ولا كان معترفاً بالحشر الثاني هو أن المراد بالأعمال ههنا مكايدهم في القتال وذلك في تحقق منهم والله سيبطله حيث يكون النصر للمؤمنين والمراد بالأعمال في أول السورة هو ما ظنوه حسنة
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ
العطف ههنا من باب عطف المسبب على السبب يقال اجلس واسترح وقم وامش لأن طاعة الله تحمل على طاعة الرسول وهذا إشارة إلى العمل بعد حصول العلم كأنه تعالى قال يا أيها الذين آمنوا علمتم الحق فافعلوا الخير وقوله وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ يحتمل وجوهاً أحدها دوموا على ما أنتم عليه ولا تشركوا فتبطل أعمالكم قال تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) الوجه الثاني لاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ(28/62)
بترك طاعة الرسول كما أبطل الكتاب أعمالهم بتكذيب الرسول وعصيانه ويؤيده قوله تعالى عَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ إلى أن قال أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ( الحجرات 2 ) الثالث لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( البقرة 264 ) كما قال تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَى َّ إِسْلَامَكُمْ ( الحجرات 17 ) وذلك أن من يمن بالطاعة على الرسول كأنه يقول هذا فعلته لأجل قلبك ولولا رضاك به لما فعلت وهو مناف للاخلاص والله لا يقبل إلا العمل الخالص
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
بيّن أن الله لا يغفر الشرك وما دون ذلك يغفره إن شاء حتى لا يظن ظان أن أعمالهم وإن بطلت لكن فضل الله باق يغفر لهم بفضله وإن لم يغفر لهم بعملهم
إِنَّا كُلَّ شَى ْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
لما بيّن أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات محبط وذنبه الذي هو أقبح السيئات غير مغفور بين أن لا حرمة في الدنيا ولا في الآخرة وقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول بقوله
لما بيّن أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات محبط وذنبه الذي هو أقبح السيئات غير مغفور بين أن لا حرمة في الدنيا ولا في الآخرة وقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول بقوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( النساء 59 ) وأمر بالقتال بقوله فَلاَ تَهِنُواْ أي لا تضعفوا بعد ما وجد السبب في الجد في الأمر والاجتهاد في الجهاد فقاله فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وفي الآيات ترتيب في غاية الحسن وذلك لأن قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( التغابن 120 ) يقتضي السعي في القتال لأن أمر الله وأمر الرسول ورد بالجهاد وقد أمروا بالطاعة فذلك يقتضي أن لا يضعف المكلف ولا يكسل ولا يهن ولا يتهاون ثم إن بعد المقتضي قد يتحقق مانع ولا يتحقق المسبب والمانع من القتال إما أخروي وإما دنيوي فذكر الأخروي وهو أن الكافر لا حرمة له في الدنيا والآخرة لأنه لا عمل له في الدنيا ولا مغفرة له في الآخرة فإذا وجد السبب ولم يوجد المانع ينبغي أن يتحقق المسبب ولم يقدم المانع الدنيوي على قوله فَلاَ تَهِنُواْ إشارة إلى أن الأمور الدنيوية لا ينبغي أن تكون مانعة من الإتيان فلا تهنوا فإن لكم النصر أو عليكم بالعزيمة على تقدير الاعتزام للهزيمة
ثم قال تعالى بعد ذلك المانع الدنيوي مع أنه لا ينبغي أن يكون مانعاً ليس بموجود أيضاً حيث أَنتُمْ الاْعْلَوْنَ والأعلون والمصطفون في الجمع حالة الرفع معلوم الأصل ومعلوم أن الأمر كيف آل إلى هذه الصيغة في التصريف وذلك لأن أصله في الجمع الموافق أعليون ومصطفيون فسكنت الياء لكونها حرف علة فتحرك ما قبلها والواو كانت ساكنة فالتقى ساكنان ولم يكن بد من حذف أحدهما أو تحريكه والتحريك كان يوقع في المحذور الذي اجتنب منه فوجب الحذف والواو كانت فيه لمعنى لا يستفاد إلا منها وهو الجمع فأسقطت الياء وبقي أعلون وبهذا الدليل صار في الجر أعلين ومصطفين وقوله تعالى وَاللَّهُ مَعَكُمْ هداية وإرشاد يمنع الملكف من الإعجاب بنفسه وذلك لأنه تعالى لما قال وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ كان ذلك سبب الافتخار فقال وَاللَّهُ مَعَكُمْ يعني ليس ذلك من أنفسكم بل من الله أو نقول لما قال وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ(28/63)
فكان المؤمنون يرون ضعف أنفسهم وقلتهم مع كثرة الكفار وشوكتهم وكان يقع في نفس بعضهم أنهم كيف يكون لهم الغلبة فقال إن الله معكم لا يبقى لكم شك ولا ارتياب في أن الغلبة لكم وهذا كقوله تعالى لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) وقوله وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الصافات 273 ) وقوله وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وعد آخر وذلك لأن الله لما قال إن الله معكم كان فيه أن النصرة بالله لا بكم فكان القائل يقول لم يصدر مني عمل له اعتبار فلا أستحق تعظيماً فقال هو ينصركم ومع ذلك لا ينقص من أعمالكم شيئاً ويجعل كأن النصرة جعلت بكم ومنكم فكأنكم مستقلون في ذلك ويعطيكم أجر المستبد والترة النقص ومنه الموتر كأنه نقص منه ما يشفعه ويقول عند القتال إن قتل من الكافرين أحد فقد وتروا في أهلهم وعملهم حيث نقص عددهم وضاع عملهم والمؤمن إن قتل فإنما ينقص من عدده ولم ينقص من عمله وكيف ولم ينقص من عدده أيضاً فإنه حي مرزوق فرح بما هو إليه مسوق
إِنَّمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْألْكُمْ أَمْوَالَكُمْ
زيادة في التسلية يعني كيف تمنعك الدنيا من طلب الآخرة بالجهاد وهي لا تفوتك لكونك منصوراً غالباً وإن فاتتك فعملك غير موتر فكيف وما يفوتك فإن فات فائت ولم يعوض لا ينبغي لك أن تلتفت إليها لكونها لعباً ولهواً وقد ذكرنا في اللعب واللهو مراراً أن اللعب ما تشتغل به ولا يكون فيه ضرورة في الحال ولا منفعة في المآل ثم إن استعمله الإنسان ولم يشتغله عن غيره ولم يثنه عن أشغاله المهمة فهو لعب وإن شغله ودهشه عن مهماته فهو لهو ولهذا يقال ملاهي لآلات الملاهي لأنها مشغلة عن الغير ويقال لما دونه لعب كاللعب بالشطرنج والحمام وقد ذكرنا ذلك غير مرة وقوله وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ إعادة للوعد والإضافة للتعريف أي الأجر الذي وعدكم بقوله أَجْرٌ كَرِيمٌ ( ي س 11 ) وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( هود 11 ) وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( آل عمران 172 ) وقوله وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ يحتمل وجوهاً أحدها أن الجهاد لا بد له من إنفاق فلو قال قائل أنا لا أنفق مالي فيقال له الله لا يسئلكم ظمالكم في الجهات المعينة من الزكاة والغنيمة وأموال المصالح فيها تحتاجون إليه من المال لا تراعون بإخراجه وثانيها الأموال لله وهي في أيديكم عارية وقد طلب منكم أو أجاز لكم في صرفها في جهة الجهاد فلا معنى لبخلكم بماله وإلى هذا إشارة بقوله تعالى وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الحديد 10 ) أي الكل لله وثالثها لا يسألكم أموالكم كلها وإنما يسألكم شيئاً يسيراً منها وهو ربع العشر وهو قليل جداً لأن العشر هو الجزء الأقل إذ ليس دونه جزء وليس اسماً مفرداً وأما الجزء من أحد عشر ومن إثنى عشر و ( إلى ) مائة جزء لما لم يكن ملتفتاً إليه لم يوضع له اسم مفرد
ثم إن الله تعالى لم يوجب ذلك في رأس المال بل أوجب ذلك في الربح الذي هو من فضل الله(28/64)
وعطائه وإن كان رأس المال أيضاً كذلك لكن هذا المعنى في الربح أظهر ولما كان المال منه ما ينفق للتجارة فيه ومنه ما لا ينفق وما أنفق منه للتجارة أحد قسميه وهو يحتمل أن تكون التجارة فيه رابحة ويحتمل أن لا تكون رابحة فصار القسم الواحد قسمين فصار في التقدير كان الربح في ربعه فأوجب ( ربع ) عشر الذي فيه الربح وهو عشر فهو ربع العشر وهو الواجب فعلم أن الله لا يسألكم أموالكم ولا الكثير منه
ؤإِن يَسْألْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
الفاء في قوله فَيُحْفِكُمْ للإشارة إلى أن الإحفاء يتبع السؤال بياناً لشح الأنفس وذلك لأن العطف بالواو قد يكون للمثلين وبالفاء لا يكون إلا للمتعاقبين أو متعلقين أحدهما بالآخر فكأنه تعالى بيّن أن الإحفاء يقع عقيب السؤال لأن الإنسان بمجرد السؤال لا يعطي شيئاً وقوله تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ يعني ما طلبها ولو طلبها وألح عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير لا تبخلون بالكثير وقوله وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ يعني بسببه فإن الطالب وهو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه يطلبونكم وأنتم لمحبة المال وشح الأنفس تمتنعون فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن
هَآ أَنتُمْ هَاؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم
( يعني ) قد طلبت منكم اليسير فبخلتم فكيف لو طلبت منكم الكل وقوله هَؤُلاء يحتمل وجهين أحدهما أن تكون موصولة كأنه قال أنتم هؤلاء الذين تدعون لتنفقوا في سبيل الله وثانيهما هَؤُلاء وحدها خبر أَنتُمْ كما يقال أنت هذا تحقيقاً للشهرة والظهور أي ظهر أثركم بحيث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمر مغاير ثم يبتدىء تَدْعُونَ وقوله تَدْعُونَ أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله تعالى بالجهاد وإما في صرفه إلى المستحقين من إخوانكم وبالجملة ففي الجهتين تخذيل الأعداء ونصرة الأولياء فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ثم بيّن أن ذلك البخل ضرر عائد إليه فلا تظنوا أنهم لا ينفقونه على غيرهم بل لا ينفقونه على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة الطبيب وثمن الدواء وهو مريض فلا يبخل إلا على نفسه ثم حقق ذلك بقوله وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء حتى لا تقولوا إنا أيضاً أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فلأنه لولا القتال لقتلوا فإن الكافر إن يغز يغز والمحتاج إن لم يدفع حاجته يقصده لا سيما أباح الشارع للمضطر ذلك وأما في الآخرة فظاهر فكيف لا يكون فقيراً وهو موقوف مسؤول يوم لا ينفع مال ولا بنون
ثم قال تعالى وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم بيان الترتيب من وجهين(28/65)
أحدهما أنه ذكره بياناً للاستغناء كما قال تعالى إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( إبراهيم 19 ) وقد ذكر أن هذا تقرير بعد التسليم كأنه تعالى يقول الله غني عن العالم بأسره فلا حاجة له إليكم فإن كان ذاهب يذهب إلى أن ملكه بالعالم وجبروته يظهر به وعظمته بعباده فنقول هب أن هذا الباطل حق لكنكم غير متعينين له بل الله قادر على أن يخلق خلقاً غيركم يفتخرون بعبادته وعالماً غير هذا يشهد بعظمته وكبريائه وثانيهما أنه تعالى لما بيّن الأمور وأقام عليها البراهين وأوضحها بالأمثلة قال إن أطعتم فلكم أجوركم وزيادة وإن تتولوا لم يبق لكم إلا الإهلاك فإن ما من نبي أنذر قومه وأصروا على تكذيبه إلا وقد حق عليهم القول بالإهلاك وطهر الله الأرض منهم وأتى بقوم آخرين طاهرين وقوله ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم فيه مسألة نحوية يتبين منها فوائد عزيزة وهي أن النحاة قالوا يجوز في المعطوف على جواب الشرط بالواو والفاء وثم الجزم والرفع جميعاً قال الله تعالى ههنا وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم بالجزم وقال في موضع آخر وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( آل عمران 111 ) بالرفع بإثبات النون وهو مع الجواز ففيه تدقيق وهو أن ههنا لا يكون متعلقاً بالتولي لأنهم إن لم يتولوا يكونون ممن يأتي بهم الله على الطاعة وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين كون من يأتي بهم مطيعين وأما هناك سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون فلم يكن للتعليق هناك وجه فرفع بالابتداء وههنا جزم للتعليق
وقوله ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم في الوصف ولا في الجنس وهو لائق الوجه الثاني وفيه وجوه أحدها قوم من العجم ثانيها قوم من فارس روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عمن يستبدل بهم إن تولوا وسلمان إلى جنبه فقال ( هذا وقومه ) ثم قال ( لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لناله رجال من فارس ) و ثالثها قوم من الأنصار والله أعلم(28/66)
سورة الفتح
وهي عشرون وتسع آيات مدنية
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً
فيه مسائل
المسألة الأولى في الفتح وجوه أحدها فتح مكة وهو ظاهر وثانيها فتح الروم وغيرها وثالثها المراد من الفتح صلح الحديبية ورابعها فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسيف والسنان وخامسها المراد منه الحكم كقوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ ( الأعراف 89 ) وقوله ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ ( سبأ 26 ) والمختار من الكل وجوه أحدها فتح مكة والثاني فتح الحديبية والثالث فتح الإسلام بالآية والبيان والحجة والبرهان والأول مناسب لآخر ما قبلها من وجوه أحدها أنه تعالى لما قال أَضْغَانَكُمْ هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إلى أن قال وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ( محمد 38 ) بيّن تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم ثانيها لما قال وَاللَّهُ مَعَكُمْ وقال وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ ( محمد 35 ) بيّن برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون ثالثها لما قال تعالى فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ ( محمد 35 ) وكان معناه لا تسألوا الصلح من عندكم بل اصبروا فإنهم يسألون الصلح ويجتهدون فيه كما كان يوم الحديبية وهو المراد بالفتح في أحد الوجوه وكما كان فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين فإن قيل إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن قد فتحت فكيف قال تعالى فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً بلفظ الماضي نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما فتحنا في حكمنا وتقديرنا ثانيهما ما(28/67)
قدره الله تعالى فهو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر لا دافع له واقع لا رافع له
المسألة الثانية قوله لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ينبىء عن كون الفتح سبباً للمغفرة والفتح لا يصلح سبباً للمغفرة فما الجواب عنه نقول الجواب عنه من وجوه الأول ما قيل إن الفتح لم يجعله سبباً للمغفرة وحدها بل هو سبب لاجتماع الأمور المذكورة وهي المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصرة كأنه تعالى قال ليغفر للك الله ويتم نعمته ويهديك وينصرك ولا شك أن الاجتماع لم يثبت إلا بالفتح فإن النعمة به تمت والنصرة بعده قد عمت الثاني هو أن فتح مكة كان سبباً لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان وتطهير بيته صار سبباً لتطهير عبده الثالث هو أن بالفتح يحصل الحج ثم بالحج تحصل المغفرة ألا ترى إلى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال في الحج ( اللّهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً ) الرابع المراد منه التعريف تقديره إنا فتحنا لك ليعرف أنك مغفور معصوم فإن الناس كانوا علموا بعد عام الفيل أن مكة لا يأخذها عدو الله المسخوط عليه وإنما يدخلها ويأخذها حبيب الله المغفور له
المسألة الثالثة لم يكن للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذنب فماذا يغفر له قلنا الجواب عنه قد تقدم مراراً من وجوه أحدها المراد ذنب المؤمنين ثانيها المراد ترك الأفضل ثالثها الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعمد وهو يصونهم عن العجب رابعها المراد العصمة وقد بينا وجهه في سورة القتال
المسألة الرابعة ما معنى قوله وَمَا تَأَخَّرَ نقول فيه وجوه أحدها أنه وعد النبي عليه السلام بأنه لا يذنب بعد النبوة ثانيها ما تقدم على الفتح وما تأخر عن الفتح ثالثها العموم يقال اضرب من لقيت ومن لا تلقاه مع أن من لا يلقى لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم رابعها من قبل النبوة ومن بعدها وعلى هذا فما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة وفيه وجوه أُخر ساقطة منها قول بعضهم ما تقدم من أمر مارية وما تأخر من أمر زينب وهو أبعد الوجوه وأسقطها لعدم التئام الكلام وقوله تعالى وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ يحتمل وجوهاً أحدها هو أن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج وهو آخر التكاليف والتكاليف نعم ثانيها يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض لك عن معانديك فإن يوم الفتح لم يبق للنبي عليه الصلاة والسلام عدو ذو اعتبار فإن بعضهم كانوا أهلكوا يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح ثالثها ويتم نعمته عليك في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح وفي الآخرة بقول شفاعتك في الذنوب ولو كانت في غاية القبح وقوله تعالى وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُّسْتَقِيماً يحتمل وجوهاً أظهرها يديمك على الصراط المستقيم حتى لا يبقى من يلتفت إلى قوله من المضلين أو ممن يقدر على الإكراه على الكفر وهذا يوافق قوله تعالى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً ( المائدة 3 ) حيث أهلكت المجادلين فيه وحملتهم على الإيمان وثانيها أن يقال جعل الفتح سبباً للهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بالفوائد العاجلة بالفتح والآجلة بالوعد والجهاد سلوك سبيل الله ولهذا يقال للغازي في سبيل الله مجاهد وثالثها ما ذكرنا أن المراد التعريف أي ليعرف أنك على صراط مستقيم من حيث إن الفتح لا يكون إلا على يد من يكون على صراط الله بدليل حكاية الفيل وقوله وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ظاهر لأن بالفتح ظهر النصر واشتهر الأمر وفيه مسألتان إحداهما لفظية والأخرى معنوية(28/68)
أما المسألة اللفظية فهي أن الله وصف النصر بكونه عزيزاً والعزيز من له النصر والجواب من وجهين أحدهما ما قاله الزمخشري أنه يحتمل وجوهاً ثلاثة الأول معناه نصر إذ عز كقوله فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) أي ذات رضى الثاني وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال له كلام صادق كما يقال له متكلم صادق الثالث المراد نصراً عزيزاً صاحبه الوجه الثاني من الجواب أن نقول إنما يلزمنا ما ذكره الزمخشري من التقديرات إذا قلنا العزة من الغلبة والعزيز الغالب وأما إذا قلنا العزيز هو النفيس القليل النظير أو المحتاج إليه القليل الوجود يقال عز الشيء إذا قل وجوده مع أنه محتاج إليه فالنصر كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله من الكفار المتمكنين فيه من غير عدد
أما المسألة المعنوية وهي أن الله تعالى لما قال لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ أبرز الفاعل وهو الله ثم عطف عليه بقوله وَيُتِمُّ وبقوله وَيَهْدِيَكَ ولم يذكر لفظ الله على الوجه الحسن في الكلام وهو أن الأفعال الكثيرة إذا صدرت من فاعل يظهر اسمه في الفعل الأول ولا يظهر فيما بعده تقول جاء زيد وتكلم وقام وراح ولا تقول جاء زيد وقعد زيد اختصاراً للكلام بالاقتصار على الأول وههنا لم يقل وينصرك نصراً بل أعاد لفظ الله فنقول هذا إرشاد إلى طريق النصر ولهذا قلما ذكر الله النصر من غير إضافة فقال تعالى بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ ( الروم 5 ) ولم يقل بالنصر ينصر وقال هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ( الأنفال 62 ) ولم يقل بالنصر وقال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ( النصر 1 ) وقال نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ( الصف 13 ) ولم يقل نصر وفتح وقال وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( الأنفا 10 ) وهذا أدل الآيات على مطلوبنا وتحقيقه هو أن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ( النحل 127 ) وذلك لأن الصبر سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله كما قال تعالى أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) فلما قال ههنا وينصرك الله أظهر لفظ الله ذكراً للتعليم أن بذكر الله يحصل اطمئنان القلوب وبه يحصل الصبر وبه يتحقق النصر وههنا مسألة أخرى وهو أن الله تعالى قال إِنَّا فَتَحْنَا ثم قال لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ولم يقل إنا فتحنا لنغفر لك تعظيماً لأمر الفتح وذلك لأن المغفرة وإن كانت عظيمة لكنها عامة لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) وقال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) ولئن قلنا بأن المراد من المغفرة في حق النبي عليه السلام العصمة فذلك لم يختص بنبينا بل غيره من الرسل كان معصوماً وإتمام النعمة كذلك قال الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( المائدة 3 ) وقال خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ( البقرة 47 ) وكذلك الهداية قال الله تعالى يَهْدِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء فعمم وكذلك النصر قال الله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ( الصافات 171 172 ) وأما الفتح فلم يكن لأحد غير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعظمه بقوله تعالى إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً وفيه التعظيم من وجهين أحدهما إنا وثانيهما لك أي لأجلك على وجه المنة(28/69)
هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
لما قال تعالى وَيَنصُرَكَ اللَّهُ ( الفتح 3 ) بين وجه النصر وذلك لأن الله تعالى قد ينصر رسله بصيحة يهلك بها أعداءهم أو رجفة تحكم عليهم بالفناء أو جند يرسله من السماء أو نصر وقوة وثبات قلب يرزق المؤمنين به ليكون لهم بذلك الثواب الجزيل فقال هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ أي تحقيقاً للنصر وفي السكينة وجوه أحدها هو السكون الثاني الوقار لله ولرسول الله وهو من السكون الثالث اليقين والكل من السكون وفيه مسائل
المسألة الأولى السكينة هنا غير السكينة في قوله تعالى وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَة َ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ ( البقرة 248 ) في قول أكثر المفسرين ويحتمل هي تلك المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلوب
المسألة الثانية السكينة المنزّلة عليهم هي سبب ذكرهم الله كما قال تعالى أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 )
المسألة الثالثة قال الله تعالى في حق الكافرين وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ( الأحزاب 26 ) بلفظ القذف المزعج وقال في حق المؤمنين أَنزَلَ السَّكِينَة َ بلفظ الإنزال المثبت وفيه معنى حكمي وهو أن من علم شيئاً من قبل وتذكره واستدام تذكره فإذا وقع لا يتغير ومن كان غافلاً عن شيء فيقع دفعة يرجف فؤاده ألا ترى أن من أخبر بوقوع صيحة وقيل له لا تنزعج منها فوقعت الصيحة لا يرجف ومن لم يخبر به و أخبر وغفل عنه يرتجف إذا وقعت فكذلك الكافر أتاه الله من حيث لا يحتسب وقذف في قلبه فارتجف والمؤمن أتاه من حيث كان يذكره فسكن وقوله تعالى لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ فيه وجوه أحدها أمرهم بتكاليف شيئاً بعد شيء فآمنوا بكل وحد منها مثلاً أمروا بالتوحيد فآمنوا وأطاعوا ثم أمروا بالقتال والحج فآمنوا وأطاعوا فازدادوا إيماناً مع إيمانهم ثانيها أنزل السكينة عليهم فصبروا فرأوا عين اليقين بما علموا من النصر علم اليقين إيماناً بالغيب فازدادوا إيماناً مستفاداً من الشهادة مع إيمانهم المستفاد من الغيب ثالثها ازدادوا بالفروع مع إيمانهم بالأصول فإنهم آمنوا بأن محمداً رسول الله وأن الله واحد والحشر كائن وآمنوا بأن كل ما يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صدق وكل ما يأمر الله تعالى به واجب رابعها ازدادوا إيماناً استدلالياً مع إيمانهم الفطري وعلى هذا الوجه نبين لطيفة وهي أن الله تعالى قال في حق الكافر إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) ولم يقل مع كفرهم لأن كفرهم عنادي وليس في الوجود كفر فطري لينضم إليه الكفر العنادي بل الكفر ليس إلا عنادياً وكذلك الكفر بالفروع لا يقال انضم إلى الكفر بالأصول لأن من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعة والانقياد فقال لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وقوله وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فكان قادراً على إهلاك عدوه بجنوده بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائهم بأيديهم فيكون لهم الثواب وفي جنود السماوات والأرض وجوه أحدها ملائكة السماوات والأرض ثانيها من في السماوات من الملائكة ومن في الأرض من الحيوانات والجن وثالثها الأسباب السماوية والأرضية حتى يكون(28/70)
سقوط كسف من السماء والخسف من جنوده وقوله تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لما قال وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وعددهم غير محصور أثبت العلم إشارة إلى أنه لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ ( سبأ 3 ) وأيضاً لما ذكر أمر القلوب بقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ والإيمان من عمل القلوب ذكر العلم إشارة إلى أنه يعلم السر وأخفى وقوله حَكِيماً بعد قوله عَلِيماً إشارة إلى أنه يفعل على وفق العلم فإن الحكيم من يعمل شيئاً متقناً ويعلمه فإن من يقع منه صنع عجيب اتفاقاً لا يقال له حكيم ومن يعلم ويعمل على خلاف العلم لا يقال له حكيم وقوله تعالى
لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً
يستدعي فعلاً سابقاً لّيُدْخِلَ فإن من قال ابتداء لتكرمني لا يصح ما لم يقل قبله جئتك أو ما يقوم مقامه وفي ذلك الفعل وجوه وضبط الأحوال فيه بأن تقول ذلك الفعل إما أن يكون مذكوراً بصريحه أو لا يكون وحينئذ ينبغي أن يكون مفهوماً فإما أن يكون مفهوماً من لفظ يدل عليه بل فهم بقرينة حالية فإن كان مذكوراً فهو يحتمل وجوهاً أحدها قوله لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً ( الفتح 4 ) كأنه تعالى أنزل السكينة ليزدادوا إيماناً بسبب الإنزال ليدخلهم بسبب الإيمان جنّات فإن قيل فقوله وَيُعَذّبَ ( الفتح 6 ) عطف على قوله لّيُدْخِلَ وازدياد إيمانهم لا يصلح سبباً لتعذيبهم نقول بلى وذلك من وجهين أحدهما أن التعذيب مذكور لكونه مقصوداً للمؤمنين كأنه تعالى يقول بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم في الآخرة جنّات ويعذب بأيديكم في الدنيا الكفار والمنافقين الثاني تقديره ويعذب بسبب ما لكم من الازدياد يقال فعلته لأجرب به العدو والصديق أي لأعرف بوجوده الصديق وبعدمه العدو فكذلك ليزداد المؤمن إيماناً فيدخله الجنة ويزداد الكافر كفراً فيعذبه به ووجه آخر ثالث وهو أن سبب زيادة إيمان المؤمنين بكثرة صبرهم وثباتهم فيعيى المنافق والكافر معه ويتعذب وهو قريب مما ذكرنا الثاني قوله وَيَنصُرَكَ اللَّهُ ( الفتح 3 ) كأنه تعالى قال وينصرك الله بالمؤمنين ليدخل المؤمنين جنّات الثالث قوله لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ ( الفتح 2 ) على قولنا المراد ذنب المؤمن كأنه تعالى قال ليغفر لك ذنب المؤمنين ليدخل المؤمنين جنات وأما إن قلنا هو مفهوم من لفظ غير صريح فيحتمل وجوهاً أيضاً أحدها قوله حَكِيماً ( الفتح 4 ) يدل على ذلك كأنه تعالى قال الله حكيم فعل ما فعل ليدخل المؤمنين جنات وثانيها قوله تعالى وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ( الفتح 2 ) في الدنيا والآخرة فيستجيب دعاءك في الدنيا ويقبل شفاعتك في العقبى لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ ثالثها قوله إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ( الفتح 1 ) ووجهه هو أنه روي أن المؤمنين قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) هنيئاً لك إن الله غفر لك فماذا لنا فنزلت هذه الآية كأنه تعالى قال إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك وفتحنا للمؤمنين ليدخلهم جنّات وأما إن قلنا إن ذلك مفهوم من غير مقال بل من قرينة الحال فنقول هو الأمر بالقتال لأن من ذكر الفتح والنصر علم أن الحال حال القتال فكأنه تعالى قال إن الله تعالى أمر بالقتال ليدخل المؤمنين أو نقول عرف من قرينة الحال أن الله اختار المؤمنين ليدخلهم جنّات(28/71)
المسألة الرابعة قال ههنا وفي بعض المواضع الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وفي بعض المواضع اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كما في قوله تعالى وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( الأحزاب 47 ) وقوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) فما الحكمة فيه نقول في المواضع التي فيها ما يوهم اختصاص المؤمنين بالجزاء الموعود به مع كون المؤمنات يشتركن معهم ذكرهن الله صريحاً وفي المواضع التي ليس فيها ما يوهم ذلك اكتفى بدخولهم في المؤمنين فقوله وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ مع أنه علم من قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ( سبأ 28 ) العموم لا يوهم خروج المؤمنات عن البشارة وأما ههنا فلما كان قوله تعالى لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ لفعل سابق وهو إما الأمر بالقتال أو الصبر فيه أو النصر للمؤمنين أو الفتح بأيديهم على ما كان يتوهم لأن إدخال المؤمنين كان للقتال والمرأة لا تقاتل فلا تدخل الجنة الموعود بها صرح الله بذكرهن وكذلك في المنافقات والمشركات والمنافقة والمشركة لم تقاتل فلا تعذب فصرّح الله تعالى بذكرهن وكذلك في قوله تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( الأحزاب 35 ) لأن الموضع موضع ذكر النساء وأحوالهن لقوله وَلاَ تَبَرَّجْنَ وَأَقِمْنَ وَءاتِينَ وَأَطِعْنَ ( الأحزاب 33 ) وقوله وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ ( الأحزاب 34 ) فكان ذكرهن هناك أصلاً لكن الرجال لما كان لهم ما للنساء من الأجر العظيم ذكرهم وذكرهن بلفظ مفرد من غير تبعية لما بينا أن الأصل ذكرهن في ذلك الموضع
المسألة الخامسة قال الله تعالى وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ بعد ذكر الإدخال مع أن تكفير السيئات قبل الإدخال نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما الواو لا تقتضي الترتيب الثاني تكفر السيئات والمغفرة وغيرهما من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة الثالث وهو أن التكفير يكون بإلباس خلع الكرامة وهي في الجنة وكان الإنسان في الجنة تزال عنه قبائح البشرية الجرمية كالفضلات والمعنوية كالغضب والشهوة وهو التكفير وتثبت فيه الصفات الملكية وهي أشرف أنواع الخلع وقوله تعالى وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً فيه وجهان أحدهما مشهور وهو أن الإدخال والتكفير في الله فوز عظيم يقال عندي هذا الأمر على هذا الوجه أي في اعتقادي وثانيهما أغرب منه وأقرب منه عقلاً وهو أن يجعل عند الله كالوصف لذلك كأنه تعالى يقول ذلك عند الله أي بشرط أن يكون عند الله تعالى ويوصف أن يكون عند الله فوز عظيم حتى أن دخول الجنة لو لم يكن فيه قرب من الله بالعندية لما كان فوزاً
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَة ُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً(28/72)
واعلم أنه قدم المنافقين على المشركين في الذكر في كثير من المواضع لأمور أحدها أنهم كانوا أشد على المؤمنين من الكافر المجاهر لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر وكان يخالط المنافق لظنه بإيمانه وهو كان يفشي أسراره وإلى هذا أشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ) والمنافق على صورة الشيطان فإنه لا يأتي الإنسان على أني عدوك وإنما يأتيه على أني صديقك والمجاهر على خلاف الشيطان من وجه ولأن المنافق كان يظن أن يتخلص للمخادعة والكافر لا يقطع بأن المؤمن إن غلب يفديه فأول ما أخبر الله أخبر عن المنافق وقول الظَّانّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْء هذا الظن يحتمل وجوهاً أحدها هو الظن الذي ذكره الله في هذه السورة بقوله بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ ( الفتح 12 ) ثانيها ظن المشركين بالله في الإشراك كما قال تعالى إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ إلى أن قال إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً ( النجم 23 28 ) ثالثها ظنهم أن الله لا يرى ولا يعلم كما قال وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ ( فصلت 22 ) والأول أصح أو نقول المراد جميع ظنونهم حتى يدخل فيه ظنهم الذي ظنوا أن الله لا يحيي الموتى وأن العالم خلقه باطل كما قال تعالى ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ص 27 ) ويؤيد هذا الوجه الألف واللام الذي في السوء وسنذكره في قوله ظَنَّ السَّوْء وفيه وجوه أحدها ما اختاره المحققون من الأدباء وهو أن السوء صار عبارة عن الفساد والصدق عبارة عن الصلاح يقال مررت برجل سوء أي فاسد وسئلت عن رجل صدق أي صالح فإذا كان مجموع قولنا رجل سوء يؤدي معنى قولنا فاسد فالسوء وحده يكون بمعنى الفساد وهذا ما اتفق عليه الخليل والزجاج واختاره الزمخشري وتحقيق هذا أن السوء في المعاني كالفساد في الأجساد يقال ساء مزاجه وساء خلقه وساء ظنه كما يقال فسد اللحم وفسد الهواء بل كان ما ساء فقد فسد وكل ما فسد فقد ساء غير أن أحدهما كثير الاستعمال في المعاني والآخر في الأجرام قال الله تعالى ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ ( الروم 41 ) وقال سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( التوبة 9 ) هذا ما يظهر لي من تحقيق كلامهم
ثم قال تعالى عَلَيْهِمْ دَائِرَة ُ السَّوْء أي دائرة الفساد وحاق بهم الفساد بحيث لا خروج لهم منه
ثم قال تعالى وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ زيادة في الإفادة لأن من كان به بلاء فقد يكون مبتلى به على وجه الامتحان فيكون مصاباً لكي يصير مثاباً وقد يكون مصاباً على وجه التعذيب فقوله وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إشارة إلى أن الذي حاق بهم على وجه التعذيب وقوله وَلَعَنَهُمُ زيادة إفادة لأن المغضوب عليه قد يكون بحيث يقنع الغاضب بالعتب والشتم أو الضرب ولا يفضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه وطرده من بابه وقد يكون بحيث يفضي إلى الطرد والإبعاد فقال وَلَعَنَهُمُ لكون الغضب شديداً ثم لما بيّن حالهم في الدنيا بيّن مآلهم في العقبى قال وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً وقوله سَاءتْ إشارة لمكان التأنيث في جهنم يقال هذه الدار نعم المكان وقوله تعالى وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الفتح 4 ) قد تقدم تفسيره وبقي فيه مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في الإعادة نقول لله جنود الرحمة وجنود العذاب أو جنود الله إنزالهم قد يكون للرحمة وقد يكون للعذاب فذكرهم أولى لبيان الرحمة بالمؤمنين قال تعالى وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ( الأحزاب 43 ) وثانياً لبيان إنزال العذاب على الكافرين(28/73)
المسألة الثانية قال هناك وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( الفتح 4 ) وهنا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً لأن قوله وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الفتح 4 ) قد بينا أن المقصود من ذكرهم الإشارة إلى شدة العذاب فذكر العزة كما قال تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ ( الزمر 37 ) وقال تعالى فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ( القمر 42 ) وقال تعالى الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
المسألة الثالثة ذكر جنود السماوات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة وذكرهم ههنا بعد ذكر تعذيب الكفار وإعداد جنهم نقول فيه ترتيب حسن لأن الله تعالى ينزل جنود الرحمة فيدخل المؤمنين مكرمين معظمين الجنة ثم يلبسهم خلع الكرامة بقوله وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ ( الفتح 5 ) كما بينا ثم تكون لهم القربى والزلفى بقوله وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وبعد حصول القرب والعندية لا تبقى واسطة الجنود فالجنود في الرحمة أولاً ينزلون ويقربون آخراً وأما في الكافر فيغضب عليه أولاً فيبعد ويطرد إلى البلاد النائية عن ناحية الرحمة وهي جهنم ويسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى عَلَيْهَا مَلَئِكَة ٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ( التحريم 6 ) ولذلك ذكر جنود الرحمة أولاً والقربة بقوله عند الله آخراً وقال ههنا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمُ وهو الإبعاد أولاً وجنود السماوات والأرض آخراً
إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً
قال المفسرون شَاهِداً على أمتك بما يفعلون كما قال تعالى وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) والأولى أن يقال إن الله تعالى قال إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وعليه يشهد أنه لا إلاه إلا الله كما قال تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ( آل عمران 18 ) وهم الأنبياء عليهم السلام الذين آتاهم الله علماً من عنده وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ولذلك قال تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) أي فاشهد وقوله وَمُبَشّراً لمن قبل شهادته وعمل بها ويوافقه فيها وَنَذِيرًا لمن رد شهادته ويخالفه فيها ثم بيّن فائدة الإرسال على الوجه الذي ذكره فقال لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن تكون الأمور الأربعة المذكورة مرتبة على الأمور المذكورة من قبل فقوله لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مرتب على قوله إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ لأن كونه مرسلاً من الله يقتضي أن يؤمن المكلف بالله والمرسل وبالمرسل وقوله شَاهِداً يقتضي أن يعزر الله ويقوي دينه لأن قوله شَاهِداً على ما بينا معناه أنه يشهد أنه لا إلاه إلا هو فدينه هو الحق وأحق ن يتبع وقوله مُبَشّرًا يقتضي أن يوقر الله لأن تعظيم الله عنده على شبه تعظيم الله إياه وقوله نَذِيراً يقتضي أن ينزه عن السوء والفحشاء مخافة عذابه الأليم وعقابه الشديد وأصل الإرسال مرتب على أصل الإيمان ووصف الرسول يترتب عليه وصف المؤمن وثانيهما أن يكون كل واحد مقتضياً للأمور الأربعة فكونه مرسلاً يقتضي أن يؤمن المكلف بالله ورسوله(28/74)
ويعزره ويوقره ويسبحه وكذلك كونه شَاهِداً بالوحدانية يقتضي الأمور المذكورة وكذلك كونه مُبَشّرًا وَنَذِيرًا لا يقال إن اقتران اللام بالفعل يستدعي فعلاً مقدماً يتعلق به ولا يتعلق بالوصف وقوله لّتُؤْمِنُواْ يستدعي فعلاً وهو قوله إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ فكيف تترتب الأمور على كونه شَاهِداً وَمُبَشّراً لأنا نقول يجوز الترتيب عليه معنى لا لفظاً كما أن القائل إذا قال بعثت إليك عالماً لتكرمه فاللفظ ينبىء عن كون البعث سبب الإكرام وفي المعنى كونه عالماً هو السبب للإكرام ولهذا لو قال بعثت إليك جاهلاً لتكرمه كان حسناً وإذا أردنا الجمع بين اللفظ والمعنى نقول الإرسال الذي هو إرسال حال كونه شاهداً كما تقول بعث العالم سبب جعله سبباً لا مجرد البعث ولا مجرد العالم في الآية مسائل
المسألة الأولى قال في الأحزاب إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( الأحزاب 45 46 ) وههنا اقتصر على الثلاثة من الخمسة فما الحكمة فيه نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن ذلك المقام كان مقام ذكره لأن أكثر السورة في ذكر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأحواله وما تقدمه من المبايعة والوعد والدخول ففصل هنالك ولم يفصل ههنا ثانيهما أن نقول الكلام مذكور ههنا لأن قوله شَاهِداً لما لم يقتض أن يكون داعياً لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إلاه إلا الله ولا يدعو الناس قال هناك وداعياً لذلك وههنا لما لم يكن كونه شَاهِداً منبئاً عن كونه داعياً قال لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ دليل على كونه سراجاً لأنه أتى بما يجب من التعظيم والاجتناب عما يحرم من السوء والفحشاء بالتنزيه وهو التسبيح
المسألة الثانية قد ذكرنا مراراً أن اختيار البكرة والأصيل يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة ويحتمل أن يكون أمراً بخلاف ما كان المشركون يعملونه فإنهم كانوا يجتمعون على عبادة الأصنام في الكعبة بكرة ً وعشية فأمروا بالتسبيح في أوقات كانوا يذكرون فيها الفحشاء والمنكر
المسألة الثالثة الكنايات المذكور في قوله تعالى وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ راجعة إلى الله تعالى أو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والأصح هو الأول
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
لما بيّن أنه مرسل ذكر أن من بايعه فقد بايع الله وقوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يحتمل وجوهاً وذلك أن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد وإما أن تكون بمعنيين فإن قلنا إنها بمعنى واحد ففيه وجهان أحدهما يَدُ اللَّهِ بمعنى نعمة الله عليهم فوق إحسانهم إلى الله كما قال تعالى بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ ( الحجرات 17 ) وثانيهما يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أي نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه يقال اليد لفلان أي الغلبة والنصرة والقهر وأما إن قلنا إنها بمعنيين فنقول في حق الله تعالى(28/75)
بمعنى الحفظ وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة واليد كناية عن الحفظ مأخوذ من حال المتبايعين إذا مد كل واحد منهما يده إلى صاحبه في البيع والشراء وبينهما ثالث متوسط لا يريد أن يتفاسخا العقد من غير إتمام البيع فيضع يده على يديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما يترك يد الآخر فوضع اليد فوق الأيدي صار سبباً للحفظ على البيعة فقال تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يحفظهم على البيعة كما يحفظ ذلك المتوسط أيدي المتبايعين وقوله تعالى فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ أما على قولنا المراد من اليد النعمة أو الغلبة والقوة فلأن من نكث فوت على نفسه الإحسان الجزيل في مقابلة العمل القليل فقد خسر ونكثه على نفسه وأما على قولنا المراد الحفظ فهو عائد إلى قوله إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يعني من يبايعك أيها النبي إذا نكث لا يكون نكثه عائداً إليك لأن البيعة مع الله ولا إلى الله لأنه لا يتضرر بشيء فضرره لا يعود إلا إليه قال وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وقد ذكرنا أن العظم في الأجرام لا يقال إلا إذا اجتمع فيه الطول البالغ والعرض الواسع والسمك الغليظ فيقال في الجبل الذي هو مرتفع ولا اتساع لعرضه جبل عال أو مرتفع أو شاهق فإذا انضم إليه الاتساع في الجوانب يقال عظيم والأجر كذلك لأن مآكل الجنة تكون من أرفع الأجناس وتكون في غاية الكثرة وتكون ممتدة إلى الأبد لا انقطاع لها فحصل فيه ما يناسب أن يقال له عظيم والعظيم في حق الله تعالى إشارة إلى كماله في صفاته كما أنه في الجسم إشارة إلى كماله في جهاته
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
لما بيّن حال المنافقين ذكر المتخلفين فإن قوماً من الأعراب امتنعوا عن الخروج مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لظنهم أنه يهزم فإنهم قالوا أهل مكة يقاتلون عن باب المدينة فكيف يكون حالهم إذا دخلوا بلادهم وأحاط بهم العدو فاعتذروا وقولهم شَغَلَتْنَا أَمْوالُنَا وَأَهْلُونَا فيه أمران يفيدان وضوح العذر أحدهما ( قولهم ) أَمْوَالِنَا ولم يقولوا شغلتنا الأموال وذلك لأن جمع المال لا يصلح عذراً ( لأنه ) لا نهاية له وأما حفظ ما جمع من الشتات ومنع الحاصل من الفواتت يصلح عذراً فقالوا شَغَلَتْنَا أَمْوالُنَا أي ما صار مالاً لنا لا مطلق الأموال وثانيهما قوله تعالى وَأَهْلُونَا وذلك لو أن قائلاً قال لهم المال لا ينبغي أن يبلغ إلى درجة يمنعكم حفظه من متابعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لكان لهم أن يقولوا فالأهل يمنع الاشتغال بهم وحفظهم عن أهم الأمور ثم إنهم مع العذر تضرعوا وقالوا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يعني فنحن مع إقامة العذر معترفون بالإساءة فاستغفر لنا واعف عنا في أمر الخروج فكذبهم الله تعالى فقال يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وهذا(28/76)
يحتمل أمرين أحدهما أن يكون التكذيب راجعاً إلى قولهم فَاسْتَغْفِرْ لَنَا وتحقيقه هو أنهم أظهروا أنهم يعتقدون أنهم مسيئون بالتخلف حتى استغفروا ولم يكن في اعتقادهم ذلك بل كانوا يعتقدون أنهم بالتخلف محسنون ثانيهما قالوا شَغَلَتْنَا إشارة إلى أن امتناعنا لهذا لا غير ولم يكن ذلك في اعتقادهم بل كانوا يعتقدون امتناعهم لاعتقاد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون يقهرون ويغلبون كما قال بعده بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ( الفتح 12 ) وقوله قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً معناه أنكم تحترزون عن الضر وتتركون أمر الله ورسوله وتقعدون طلباً للسلامة ولو أراد بكم الضرر لا ينفعكم قعودكم من الله شيئاً أو معناه أنكم تحترزون عن ضرر القتال والمقاتلين وتعتقدون أن أهليكم وبلادكم تحفظكم من العدو فهب أنكم حفظتم أنفسكم عن ذلك فمن يدفع عنكم عذاب الله في الآخرة مع أن ذلك أولى بالاحتراز وقد ذكرنا في سورة ي س في قوله تعالى إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرّ ( ي س 23 ) أنه في صورة كون الكلام مع المؤمن أدخل الباء على الضر فقال إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ بِضُرّ ( الزمر 38 ) وقال وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ ( الأنعام 17 ) وفي صورة كون الكلام مع الكافر أدخل الباء عل الكافر فقال ههنا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً وقال مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً ( الأحزاب 17 ) وقد ذكرنا الفرق الفائق هناك ولا نعيده ليكون هذا باعثاً على مطالعة تفسير سورة يّس فإنها درج الدرر اليتيمة بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي بما تعملون من إظهار الحرب وإضمار غيره
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً
يعني لم يكن تخلفكم لما ذكرتم بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ وأن مخففة من الثقيلة أي ظننتم أولاً فزين الشيطان ظنكم عندكم حتى قطعتم به وذلك لأن الشبهة قد يزينها الشيطان ويضم إليها مخايلة يقطع بها الغافل وإن كان لا يشك فيها العاقل وقوله تعالى وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء يحتمل وجهين أحدهما أن يكون هذا العطف عطفاً يفيد المغايرة فقوله وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء غير الذي في قوله بَلْ ظَنَنْتُمْ وحينئذ يحتمل أن يكون الظن الثاني معناه وظننتم أن الله يخلف وعده أو ظننتم أن الرسول كاذب في قوله وثانيهما أن يكون قوله وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء هو ما تقدم من ظن أن لا ينقلبوا ويكون على حد قول القائل علمت هذه المسألة وعلمت(28/77)
كذا أي هذه المسألة لا غيرها وذلك كأنه قال بل ظننتم ظن أن لن ينقلب وظنكم ذلك فاسد وقد بينا التحقيق في ظن السوء وقوله تعالى وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً يحتمل وجهين أحدهما وصرتم بذلك الظن بائرين هالكين وثانيهما أنتم في الأصل بائرون وظننتم ذلك الظن الفاسد
وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً
على قولنا وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء ( الفتح 12 ) ظن آخر غير ما في قوله بَلْ ظَنَنْتُمْ ظاهر لأنا بينا أن ذلك ظنهم بأن الله يخلف وعده أو ظنهم بأن الرسول كاذب فقال وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ويظن به خلفاً وبرسوله كذباً فإنا أعتدنا له سعيراً وفي قوله لِلْكَافِرِينَ بدلاً عن أن يقول فإنا أعتدنا له فائدة وهي التعميم كأنه تعالى قال ومن لم يؤمن بالله فهو من الكافرين وإنا أعتدنا للكافرين سعيراً
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
بعد ما ذكر من له أجر عظيم من المبايعين ومن له عذاب أليم من الظانين الضالين أشار إلى أنه يغفر للأولين بمشيئته ويعذب الآخرين بمشيئته وغفرانه ورحمته أعم وأشمل وأتم وأكمل وقوله تعالى وَاللَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يفيد عظمة الأمرين جميعاً لأن من عظم ملكه يكون أجره وهبته في غاية العظم وعذابه وعقوبته كذلك في غاية النكال والألم
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
ثم قال تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ
أوضح الله كذبهم بهذا حيث كانوا عندما يكون السير إلى مغانم يتوقعونها يقولون من تلقاء أنفسهم ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ فإذا كان أموالهم وأهلوهم شغلتهم يوم دعوتكم إياهم إلى أهل مكة فما بالهم لا يشتغلون بأموالهم يوم الغنيمة والمراد من المغانم مغانم أهل خيبر وفتحها وغنم المسلمون ولم يكن معهم إلا من كان معه في المدينة وفي قوله سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ وعد المبايعين الموافقين بالغنيمة والمتخلفين المخالفين بالحرمان(28/78)
وقوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ
يحتمل وجوهاً أحدها هو ما قال الله إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية وعاهد بها لا غير وهو الأشهر عند المفسرين والأظهر نظراً إلى قوله تعالى كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ثانيها يريدون أن يبدلوا كلام الله وهو قوله وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ( الفتح 6 ) وذلك لأنهم لو اتبعوكم لكانوا في حكم بيعة أهل الرضوان الموعودين بالغنيمة فيكونون من الذين رضي الله عنهم كما قال تعالى لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ ( الفتح 18 ) فلا يكونون من الذين غضب الله عليهم فيلزم تبديل كلام الله ثالثها هو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما تخلف القوم أطلعه الله على باطنهم وأظهر له نفاقهم وأنه يريد أن يعاقبهم وقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِى َ عَدُوّا ( التوبة 83 ) فأرادوا أن يبدلوا ذلك الكلام بالخروج معه لا يقال فالآية التي ذكرتم واردة في غزوة تبوك لا في هذه الواقعة لأنا نقول قد وجد ههنا بقوله لَّن تَتَّبِعُونَا على صيغة النفي بدلاً عن قوله لا تتبعونا على صيغة النهي معنى لطيف وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنى على إخبار الله تعالى عنهم النفي لوثوقه وقطعه بصدقه فجزم وقال لَّن تَتَّبِعُونَا يعني لو أذنتكم ولو أردتم واخترتم لا يتم لكم ذلك لما أخبر الله تعالى
ثم قال تعالى فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا
رداً على قوله تعالى كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ كأنهم قالوا ما قال الله كذلك من قبل بل تحسدوننا وبل للاضراب والمضروب عنه محذوف في الموضعين أما ههنا فهو بتقدير ما قال الله وكذلك فإن قيل بماذا كان الحسد في اعتقادهم نقول كأنهم قالوا نحن كنا مصيبين في عدم الخروج حيث رجعوا من الحديبية من غير حاصل ونحن استرحنا فإن خرجنا معهم ويكون فيه غنيمة يقولون هم غنموا معنا ولم يتعبوا معنا
ثم قال تعالى رداً عليهم كما ردوا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً أي لم يفقهوا من قولك لا تخرجوا إلا ظاهر النهي ولم يفهموا من حكمه إلا قليلاً فحملوه على ما أرادوه وعللوه بالحسد
قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً
لما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قُل لَّن تَتَّبِعُونَا ( الفتح 15 ) وقال فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا ( التوبة 83 ) فكان المخلفون جمعاً كثيراً من قبائل متشعبة دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم فإنهم لم يبقوا على ذلك ولم يكونوا من الذين مردوا على النفاق بل منهم من حسن حاله وصلح باله فجعل لقبول توبتهم علامة وهو أنهم يدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد ويطيعون بخلاف حال ثعلبة حيث امتنع من أداء الزكاة ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واستمر عليه الحال ولم يقبل منه أحد من الصحابة كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أنه تعالى بيّن أنهم يدعون فإن كانوا يطيعون يؤتون الأجرر الحسن وما كان أحد من الصحابة يتركهم يتبعونه والفرق بين حال ثعلبة وبين حال هؤلاء من وجهين أحدهما أن ثعلبة جاز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم الله فلم يبين لتوبته علامة والأعراب تغيرت فإن بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يبق من المنافقين على النفاق أحد على مذهب أهل السنة وثانيهما أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير والجم الغفير أمس لأنه لولا البيان لكان(28/79)
يفضي الأمر إلى قيام الفتنة بين فرق المسلمين وفي قوله سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ وجوه أشهرها وأظهرها أنهم بنو حنيفة حيث تابعوا مسيلمة وغزاهم أبو بكر وثانيها هم فارس والروم غزاهم عمر ثالثها هوازن وثقيف غزاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأقوى الوجوه هو أن الدعاء كان من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان الأظهر غيره أما الدليل على قوة هذا الوجه هو أن أهل السنة اتفقوا على أن أمر العرب في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ظهر ولم يبق إلا كافر مجاهر أو مؤمن تقي طاهر وامتنع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الصلاة على موتى المنافقين وترك المؤمنون مخالطتهم حتى إن عبادة بن كعب مع كونه بين المؤمنين لم يكلمه المؤمنون مدة وما ذكره الله علامة لظهور حال من كان منافقاً فإن كان ظهر حالهم بغير هذا فلا معنى لجعل هذا علامة وإن ظهر بهذا الظهور كان في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن النبي عليه الصلاة والسلام لو امتنع من قبولهم لاتباعه لامتنع أبو بكر وعمر لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ ( الأعراف 158 ) وقوله فَاتَّبِعُونِى ( مريم 43 ) فإن قيل هذا ضعيف لوجهين أحدهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لَّن تَتَّبِعُونَا ( الفتح 15 ) وقال لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا ( التوبة 83 ) فكيف كانوا يتبعونه مع النفي الثاني قوله تعالى أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ ولم يبق بعد ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام حرب قوم أولي بأسٍ شديد فإن الرعب استولى على قلوب الناس ولم يبق الكفار بعده شدة وبأس واتفاق الجمهور يدل على القوة والظهور نقول أما الجواب عن الأول فمن وجهين أحدهما أن يكون ذلك مقيداً تقديره لن تخرجوا معي أبداً وأنتم على ما أنتم عليه ويجب هذا التقييد لأنا أجمعنا على أن منهم من أسلم وحسن إسلامه بل الأكثر ذلك وما كان يجوز للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول لهم لستم مسلمين لقوله تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 ) ومع القول بإسلامهم ما كان يجوز أن يمنعهم ما كان من الجهاد في سبيل الله مع وجوبه عليهم وكان ذلك مقيداً وقد تبيّن حسن حالهم فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعاهم إلى جهاد فأطاعه قوم وامتنع آخرون وظهر أمرهم وعلم من استمر على الكفر ممن استقر قلبه على الإيمان الثاني المراد من قوله لَّن تَتَّبِعُونَا ( الفتح 15 ) في هذا القتال فحسب وقوله لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ ( التوبة 83 ) كان في غير هذا وهم المنافقون الذين تخلفوا في غزوة تبوك وأما اتفاق الجمهور فنقول لا مخالفة بيننا وبينهم لأنا نقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعاهم أولاً وأبو بكر رضي الله عنه أيضاً دعاهم بعد معرفته جواز ذلك من فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما نحن نثبت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعاهم فإن قالوا أبو بكر رضي الله عنه دعاهم لم يكن بين القولين تناف وإن قالوا لم يدعهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فالنفي والجزم به في غاية البعد لجواز أن يكون ذلك قد وقع وكيف لا والنبي عليه الصلاة والسلام قال من كلام الله إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى ( آل عمران 31 ) وقال وَاتَّبِعُونِ هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( الزخرف 61 ) ومنهم من أحب الله واختار اتباع النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن بقاء جمعهم على النفاق والكفر بعد ما اتسعت دائرة الإسلام واجتمعت العرب على الإيمان بعيد ويوم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لَّن تَتَّبِعُونَا كان أكثر العرب على الكفر والنفاق لأنه كان قبل فتح مكة وقبل أخذ حصون كثيرة
وأما قوله لم يبق للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حرب مع أولي بأس شديد قلنا لا نسلم ذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عام الحديبية دعاهم إلى الحرب لأنه خرج محرماً ومعه الهدى ليعلم قريش أنه لا يطلب القتال وامتنعوا فقال ستدعون إلى الحرب ولا شك أن من يكون خصمه مسلحاً محارباً أكثر بأساً ممن يكون على خلاف ذلك فكان قد علم من حال مكة أنهم لا يوقرون حاجاً ولا معتمراً فقوله أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني أولي سلاح من آلة الحديد فيه بأس شديد ومن قال بأن الداعي أبو بكر وعمر تمسك بالآية على خلافتهما ودلالتها ظاهرة وحينئذ(28/80)
تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ إشارة إلى أن أحدهما يقع وقرىء أَوْ بالنصب بإضمار أن على معنى تقاتلونهم إلى أن يسلموا والتحقيق فيه هو أن لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ لا تجيء إلا بين المتغايرين وتنبىء عن الحصر فيقال العدد زوج أو فرد ولهذا لا يصح أن يقال هو زيد أو عمرو ولهذا يقال العدد زوج أو خمسة أو غيرهما إذا علم هذا فقال القائل لألزمنك أو تقضيني حقي يفهم منه أن الزمان انحصر في قسمين قسم يكون فيه الملازمة وقسم يكون فيه قضاء الحق فلا يكون بين الملازمة وقضاء الحق زمان لا يوجد فيه الملازمة ولا قضاء الحق فيكون في قوله لألزمنك أو تقضيني كما حكي في قول القائل لألزمنك إلى أن تقضيني لامتداد زمان الملازمة إلى القضاء وهذا ما يضعف قول القائل الداعي هو عمر والقوم فارس والروم لأن الفريقين يقران بالجزية فالقتال معهم لا يمتد إلى الإسلام لجواز أن يؤدوا الجزية وقوله تعالى فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ فيه فائدة لأن التولي إذا كان بعذر كما قال تعالى لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( النور 61 ) لا يكون للمتولي عذاب أليم فقال وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ يعني إن كان توليكم بناء على الظن الفاسد والاعتقاد الباطل كما كان حيث قلتم بألسنتكم لا بقلوبكم شَغَلَتْنَا أَمْوالُنَا ( الفتح 11 ) فالله يعذبكم عذاباً أليماً
لَّيْسَ عَلَى الاٌّ عْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاٌّ عْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً
بين من يجوز له التخلف وترك الجهاد وما بسببه يجوز ترك الجهاد وهو ما يمنع من الكر والفر وبين ذلك ببيان ثلاثة أصناف الأول الاْعْمَى فإنه لا يمكنه الإقدام على العدو والطلب ولا يمكنه الاحتراز والهرب والأعرج كذلك والمريض كذلك وفي معنى الأعرج الأقطع والمقعد بل ذلك أولى بأن يعذر ومن به عرج لا يمنعه من الكر والفر لا يعذر وكذلك المرض القليل الذي لا يمنع من الكر والفر كالطحال والسعال إذ به يضعف وبعض أوجاع المفاصل لا يكون عذراً وفيه مسائل
المسألة الأولى أن هذه أعذار تكون في نفس المجاهد ولنا أعذار خارجة كالفقر الذي لا يتمكن صاحبه من استصحاب ما يحتاج إليه والاشتغال بمن لولاه لضاع كطفل أو مريض والأعذار تعلم من الفقه ونحن نبحث فيما يتعلق بالتفسير في بيان مسائل
المسألة الأولى ذكر الأعذار التي في السفر لأن غيرها ممكن الإزالة بخلاف العرج والعمى
المسألة الثانية اقتصر منها على الأصناف الثلاثة لأن العذر إما أن يكون بإخلال في عضو أو بإخلال في القوة والذي بسبب إخلال العضو فإما أن يكون بسبب اختلال في العضو الذي به الوصول إلى العدو(28/81)
والانتقال في مواضع القتال أو في العضو الذي تتم به فائدة الحصول في المعركة والوصول والأول هو الرجل والثاني هو العين لأن بالرجل يحصل الانتقال وبالعين يحصل الانتفاع في الطلب والهرب وأما الأذن والأنف واللسان وغيرها من الأعضاء فلا مدخل لها في شيء من الأمرين بقيت اليد فإن المقطوع اليدين لا يقدر على شيء وهو عذر واضح ولم يذكره نقول لأن فائدة الرجل وهي الانتقال تبطل بالخلل في إحداهما وفائدة اليد وهي الضراب والبطش لا تبطل إلا ببطلان اليدين جميعاً ومقطوع اليدين لا يوجد إلا نادراً ولعل في جماعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن أحد مقطوع اليدين فلم يذكره أو لأن المقطوع ينتفع به في الجهاد فإنه ينظر ولولاه لاستقل به مقاتل فيمكن أن يقاتل وهو غير معذور في التخلف لأن المجاهدين ينتفعون به بخلاف الأعمى فإن قيل كما أن مقطوع اليد الواحدة لا تبطل منفعة بطشه كذلك الأعور لا تبطل منفعة رؤيته وقد ذكر الأعمى وما ذكر الأشل وأقطع اليدين قلنا لما بينا أن مقطوع اليدين نادر الوجود والآفة النازلة بإحدى اليدين لا تعمهما والآفة النازلة بالعين الواحدة تعم العينين لأن منبع النور واحد وهما متجاذبان والوجود يفرق بينهما فإن الأعمى كثير الوجود ومقطوع اليدين نادر
المسألة الثالثة قدم الآفة في الآلة على الآفة في القوة لأن الآفة في القوة تزول وتطرأ والآفة في الآلة إذ طرأت لا تزول فإن الأعمى لا يعود بصيراً فالعذر في محل الآلة أتم
المسألة الرابعة قدم الأعمى على الأعرج لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال والأعرج إن حضر راكباً أو بطريق آخر يقدر على القتال بالرمي وغيره
لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَة َ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَة ً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
اعلم أن طاعة كل واحد منهما طاعة الآخر فجمع بينهما بياناً لطاعة الله فإن الله تعالى لو قال ومن يطع الله كان لبعض الناس أن يقول نحن لا نرى الله ولا نسمع كلامه فمن أين نعلم أمره حتى نطيعه فقال طاعته في طاعة رسوله وكلامه يسمع من رسوله
ثم قال وَمَن يَتَوَلَّ أي بقلبه ثم لما بيّن حال المخلفين بعد قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) عاد إلى بيان حالهم وقال لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ من الصدق كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض فَأنزَلَ السَّكِينَة َ عَلَيْهِمْ حتى بايعوا على الموت وفيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال قبل هذه الآية وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ ( الفتح 17 ) فجعل طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله الجنة في تلك الآية وفي هذه الآية بيّن أن طاعة الله والرسول وجدت من أهل بيعة الرضوان أما طاعة الله فالإشارة إليها بقوله لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وأما طاعة الرسول فبقوله إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ بقي الموعود به وهو إدخال الجنة أشار إليه بقوله تعالى لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة كما قال تعالى وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ ( المجادلة 22 )
ثم قال تعالى فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ والفاء للتعقيب وعلم الله قبل الرضا لأنه علم ما في قلوبهم من(28/82)
الصدق فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في العلم نقول قوله فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ متعلق بقوله إِذَا يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ كما يقول القائل فرحت أمس إذ كلمت زيداً فقام إليّ أو إذ دخلت عليه فأكرمني فيكون الفرح بعد الإكرام ترتيباً كذلك ههنا قال تعالى لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ من الصدق إشارة إلى أن الرضا لم يكن عند المبايعة فحسب بل عند المبايعة التي كان معها علم الله بصدقهم والفاء في قوله فَأنزَلَ السَّكِينَة َ عَلَيْهِمْ للتعقيب الذي ذكرته فإنه تعالى رضي عنهم فأنزل السكينة عليهم وفي علم بيان وصف المبايعة بكونها معقبة بالعلم بالصدق الذي في قلوبهم وهذا توفيق لا يتأتى إلا لمن هداه الله تعالى إلى معاني كتابه الكريم وقوله تعالى وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر وَمَغَانِمَ كَثِيرَة ً يَأْخُذُونَهَا مغانمها وقيل مغانم هجر وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً كامل القدرة غنياً عن إعانتكم إياه حَكِيماً حيث جعل هلاك أعدائه على أيديكم ليثيبكم عليه أو لأن في ذلك إعزاز قوم وإذلال آخرين فإنه يذل من يشاء بعزته ويعز من يشاء بحكمته
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَة ً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ وَكَفَّ أَيْدِى َ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَة ً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
إشارة إلى أن ما أتاهم من الفتح والمغانم ليس هو كل الثواب بل الجزاء قدامهم وإنما هي لعاجلة عجل بها وفي المغانم الموعود بها أقوال أصحها أنه وعدهم مغانم كثيرة من غير تعيين وكل ما غنموه كان منها والله كان عالماً بها وهذا كما يقول الملك الجواد لمن يخدمه يكون لك مني على ما فعلته الجزاء إن شاء الله ولا يريد شيئاً بعينه ثم كل ما يأتي به ويؤتيه يكون داخلاً تحت ذلك الوعد غير أن الملك لا يعلم تفاصيل ما يصل إليه وقت الوعد ولله عالم بها وقوله تعالى وَكَفَّ أَيْدِى َ النَّاسِ عَنْكُمْ لإتمام المنة كأنه قال رزقتكم غنيمة باردة من غير مس حر القتال ولو تعبتم فيه لقلتم هذا جزاء تعبنا وقوله تعالى وَلِتَكُونَ ءايَة ً لّلْمُؤْمِنِينَ عطف على مفهوم لأنه لما قال الله تعالى فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ واللام ينبىء عن النفع كما أن علي ينبىء عن الضر القائل لا علي ولا ليا بمعنى لا ما أتضرر به ولا ما أنتفع به ولا أضر به ولا أنفع فكذلك قوله فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ لتنفعكم وَلِتَكُونَ ءايَة ً لّلْمُؤْمِنِينَ وفيه معنى لطيف وهو أن المغانم الموعود بها كل ما يأخذه المسلمون فقوله وَلِتَكُونَ ءايَة ً لّلْمُؤْمِنِينَ يعني لينفعكم بها وليجعلها لمن بعدكم آية تدلهم على أن ما وعدهم الله يصل إليهم كما وصل إليكم أو نقول معناه لتنفعكم في الظاهر وتنفعكم في الباطن حيث يزداد يقينكم إذا رأيتم صدق الرسول في إخباره عن الغيوب فتجمل أخباركم ويكمل اعتقادكم وقوله وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً وهو التوكل عليه والتفويض إليه والاعتزاز به
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيراً(28/83)
قيل غنيمة هوازن وقيل غنائم فارس والروم وذكر الزمخشري في أخرى ثلاثة أوجه أن تكون منصوبة بفعل مضمرر يفسره قَدْ أَحَاطَ و لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا صفة لأخرى كأنه يقول وغنيمة أخرى غير مقدورة قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ثانيها أن تكون مرفوعة وخبرها قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وحسن جعلها مبتدأ مع كونه نكرة لكونها موصوفة بلم تقدروا وثالثها الجر بإضمار رب ويحتمل أن يقال منصوبة بالعطف على منصوب وفيه وجهان أحدهما كأنه تعالى قال فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ وأخرى ما قدرتم عليها وهذا ضعيف لأن أخرى لم يعجل بها وثانيهما على مغانم كثيرة تأخذونها وأخرى أي وعدكم الله أخرى وحينئذ كأنه قال وعدكم الله مغانم تأخذونها ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين وعلى هذا تبين لقول الفرّاء حسن وذلك لأنه فسر قوله تعالى قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا أي حفظها للمؤمنين لا يجري عليها هلاك إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحراس بالخزائن
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الاٌّ دْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
وهو يصلح جواباً لمن يقول كف الأيدي عنهم كان أمراً اتفاقياً ولو اجتمع عليهم العرب كما عزموا لمنعوهم من فتح خيبر واغتنام غنائمها فقال ليس كذلك بل سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون والغلبة واقعة للمسلمين فليس أمرهم أمراً اتفاقياً بل هو إلاهي محكوم به محتوم
وقوله تعالى ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
قد ذكرنا مراراً أن دفع الضرر عن الشخص إما أن يكون بولي ينفع باللطف أو بنصير يدفع بالعنف وليس للذين كفروا شيء من ذلك وفي قوله تعالى ثُمَّ لطيفة وهي أن من يولي دبره يطلب الخلاص من القتل بالالتحاق بما ينجيه فقال وليس إذا ولوا الأدبار يتخلصون بل بعد التولي الهلاك لاحق بهم
سُنَّة َ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً
جواب عن سؤال آخر يقوم مقام الجهاد وهو أن الطوالع لها تأثيرات والاتصالات لها تغيرات فقال ليس كذلك ( بل ) سنة الله نصرة رسوله وإهلاك عدوه
وقوله تعالى وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً
بشارة ودفع وهن يقع بسبب وهم وهو أنه إذا قال الله تعالى ليس هذا بالتأثيرات فلا يجب وقوعه بل الله فاعل مختار ولو أراد أن يهلك العباد لأهلكهم بخلاف قول المنجم بأن الغلب لمن له طالع وشواهد تقتضي غلبته قطعاً فقال الله تعالى وَلَن تَجِدَ لِسُنَّة ِ اللَّهِ تَبْدِيلاً يعني أن الله فاعل مختار يفعل ما يشاء ويقدر على إهلاك أصدقائه ولكن لا يبدل سنته ولا يغير عادته(28/84)
وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّة َ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
تبييناً لما تقدم من قوله وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الاْدْبَارَ ( الفتح 22 ) أي هو بتقدير الله لأنه كف أيديهم عنكم بالفرار وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم وقوله تعالى بِبَطْنِ مَكَّة َ إشارة إلى أمر كان هناك يقتضي عدم الكف ومع ذاك وجد كف الأيدي وذلك الأمر هو دخول المسلمين ببطن مكة فإن ذلك يقتضي أن يصبر المكفوف على القتال لكون العدو دخل دارهم طالبين ثأرهم وذلك مما يوجب اجتهاد البليد في الذب عن الحريم ويقتضي أن يبالغ المسلمون في الاجتهاد في الجهاد لكونهم لو قصروا لكسروا وأسروا لبعد مأمنهم فقوله بِبَطْنِ مَكَّة َ إشارة إلى بعد الكف ومع ذلك وجد بمشيئة الله تعالى وقوله تعالى مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ صالح لأمرين أحدهما أن يكون منة على المؤمنين بأن الظفر كان لكم مع أن الظاهر كان يستدعي كون الظفر لهم لكون البلاد لهم ولكثرة عددهم الثاني أن يكون ذكر أمرين مانعين من الأمرين الأولين مع أن الله حققهما مع المنافقين أما كف أيدي الكفار فكان بعيداً لكونهم في بلادهم ذابين عن أهليهم وأولادهم وإليه أشار بقوله بِبَطْنِ مَكَّة َ وأما كف أيدي المسلمين فلأنه كان بعد أن ظفروا بهم ومتى ظفر الإنسان بعدوه الذي لو ظفر هو به لاستأصله يبعد انكفافه عنه مع أن الله كف اليدين
وقوله تعالى وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
يعني كان الله يرى فيه من المصلحة وإن كنتم لا ترون ذلك وبينه بقوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْى َ مَعْكُوفاً إلى أن قال وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ ( الفتح 25 ) يعني كان الكف محافظة على ما في مكة من المسلمين ليخرجوا منها ويدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات واختلف المفسرون في ذلك الكف منهم من قال المراد ما كان عام الفتح ومنهم من قال ما كان عام الحديبية فإن المسلمين هزموا جيش الكفار حتى أدخلوهم بيوتهم وقيل إن الحرب كان بالحجارة
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْى َ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّة ٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
وقوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْى َ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ(28/85)
إشارة إلى أن الكف لم يكن لأمر فيهم لأنهم كفروا وصدوا وأحصروا وكل ذلك يقتضي قتالهم فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا ولم يبق بينهما خلاف واصطلحوا ولم يبق بينهما نزاع بل الاختلاف باق والنزاع مستمر لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوا فازدادوا كفراً وعداوة وإنما ذلك للرجال المؤمنين والنساء المؤمنات وقوله وَالْهَدْى َ منصوب على العطف على كم في صَدُّوكُمْ ويجوز الجر عطفاً على المسجد أي وعن الهدي و مَعْكُوفاً حال و أَن يَبْلُغَ تقديره على أن يبلغ ويحتمل أن يقال أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ رفع تقديره معكوفاً بلوغه محله كما يقال رأيت زيداً شديداً بأسه ومعكوفاً أي ممنوعاً ولا يحتاج إلى تقدير عن على هذا الوجه
وقوله تعالى وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مَّعَرَّة ٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وصف الرجال والنساء يعني لولا رجال ونساء يؤمنون غير معلومين وقوله تعالى أَن تَطَئُوهُمْ بدل اشتمال كأنه قال رجال غير معلومي الوطء فتصيبكم منهم معرة عيب أو إثم وذلك لأنكم ربما تقتلونهم فتلزمكم الكفارة وهي دليل الإثم أو يعيبكم الكفار بأنهم فعلوا بإخوانهم ما فعلوا بأعدائهم وقوله تعالى بِغَيْرِ عِلْمٍ قال الزمخشري هو متعلق بقوله أَن تَطَئُوهُمْ يعني تطئوهم بغير علم وجاز أن يكون بدلاً عن الضمير المنصوب في قوله لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ ولقائل أن يقول يكون هذا تكراراً لأن على قولنا هو بدل من الضمير يكون التقدير لم تعلموا أن تطئوهم بغير علم فيلزم تكرار بغير علم الحصول بقوله لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ فالأولى أن يقال بِغَيْرِ عِلْمٍ هو في موضعه تقديره لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم من يعركم ويعيب عليكم يعني إن وطأتموهم غير عالمين يصبكم مسبة الكفار بِغَيْرِ عِلْمٍ أي بجهل لا يعلمون أنكم معذورون فيه أو نقول تقديره لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم أي فتقتلوهم بغير علم أو تؤذوهم بغير علم فيكون الوطء سبب القتل والوطء غير معلوم لكم والقتل الذي هو بسبب المعرة وهو الوطء الذي يحصل بغير علم أو نقول المعرة قسمان أحدهما ما يحصل من القتل العمد ممن هو غير العالم بحال المحل والثاني ما يحصل من القتل خطأ وهو غير عدم العلم فقال تصيبكم منهم معرة غير معلومة لا التي تكون عن العلم وجواب لولا محذوف تقديره لولا ذلك لما كف أيديكم عنهم هذا ما قاله الزمخشري وهو حسن ويحتمل أن يقال جوابه ما يدل عليه قوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني قد استحقوا لأن لا يهملوا ولولا رجال مؤمنون لوقع ما استحقوه كما يقول القائل هو سارق ولولا فلان لقطعت يده وذلك لأن لولا لا تستعمل إلا لامتناع الشيء لوجود غيره وامتناع الشيء لا يكون إلا إذا وجد المقتضي له فمنعه الغير فذكر الله تعالى أولاً المقتضي التام البالغ وهو الكفر والصد والمنع وذكر ما امتنع لأجله مقتضاه وهو وجود الرجال المؤمنين
وقوله تعالى لّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فيه أبحاث
الأول في الفعل الذي يستدعي اللام الذي بسببه يكون الإدخال وفيه وجوه أحدها أن يقال هو قوله كَفَّ أَيْدِيكُم عَنْهُمْ ليدخل لا يقال بأنك ذكرت أن المانع وجود رجال مؤمنين فيكون كأنه قال كف(28/86)
أيديكم لئلا تطئوا فكيف يكون لشيء آخر نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن نقول كف أيديكم لئلا تطئوا لتدخلوا كما يقال أطعمته ليشبع ليغفر الله لي أي الإطعام للشابع كان ليغفر الثاني هو أنا بينا أن لولا جوابه ما دل عليه قوله هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فيكون كأنه قال هم الذين كفروا واستحقوا التعجل في إهلاكهم ولولا رجال لعجل بهم ولكن كف أيديكم ليدخل ثانيها أن يقال فعل ما فعل ليدخل لأن هناك أفعالاً من الألطاف والهداية وغيرهما وقوله لّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ليؤمن منهم من علم الله تعالى أنه يؤمن في تلك السنة أو ليخرج من مكة ويهاجر فيدخلهم في رحمته وقوله تعالى لَوْ تَزَيَّلُواْ أي لو تميزوا والضمير يحتمل أن يقال هو ضمير الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات فإن قيل كيف يصح هذا وقد قلتم بأن جواب لولا محذوف وهو قوله لما كف أو لعجل ولو كان لَوْ تَزَيَّلُواْ راجعاً إلى الرجال لكان لعذبنا جواب لولا نقول وقد قال به الزمخشري فقال لَوْ تَزَيَّلُواْ يتضمن ذكر لولا فيحتمل أن يكون لعذبنا جواب لولا ويحتمل أن يقال هو ضمير من يشاء كأنه قال ليدخل من يشاء في رحمته لو تزيلوا هم وتميزوا وآمنوا لعذبنا الذين كتب الله عليهم أنهم لا يؤمنون وفيه أبحاث
البحث الأول وهو على تقدير نفرضه فالكلام يفيد أن العذاب الأليم اندفع عنهم إما بسبب عدم التزييل أو بسبب وجود الرجال وعلم تقدير وجود الرجال والعذاب الأليم لا يندفع عن الكافر نقول المراد عذاباً عاجلاً بأيديكم يبتدىء بالجنس إذ كانوا غير مقرنين ولا منقلبين إليهم فيظهرون ويقتدرون يكون أليماً
البحث الثاني ما الحكمة في ذكر المؤمنين والمؤمنات مع أن المؤنث يدخل في ذكر المذكر عند الاجتماع قلنا الجواب عنه من وجهين أحدهما ما تقدم يعني أن الموضع موضع وهم اختصاص الرجال بالحكم لأن قوله تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ معناه تهلكوهم والمراد لا تقاتل ولا تقتل فكان المانع وهو وجود الرجال المؤمنين فقال والنساء المؤمنات أيضاً لأن تخريب بيوتهن ويتم أولادهن بسبب رجالهن وطأة شديدة وثانيهما أن في محل الشفقة تعد المواضع لترقيق القلب يقال لمن يعذب شخصاً لا تعذبه وارحم ذله وفقره وضعفه ويقال أولاده وصغاره وأهله الضعفاء العاجزين فكذلك ههنا قال لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لترقيق قلوب المؤمنات ورضاهم بما جرى من الكف بعد الظفر
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّة َ حَمِيَّة َ الْجَاهِلِيَّة ِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيماً
إِذْ يحتمل أن يكون ظرفاً فلا بد من فعل يقع فيه ويكون عاملاً له ويحتمل أن يكون مفعولاً به فإن قلنا إنه ظرف فالفعل الواقع فيه يحتمل أن يقال هو مذكور ويحتمل أن يقال هو مفهوم غير مذكور فإن قلنا هو مذكور ففيه وجهان أحدهما هو قوله تعالى وَصَدُّوكُمْ ( الفتح 25 ) أي وصدوكم حين جعلوا في قلوبهم الحمية(28/87)
وثانيها قوله تعالى لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ ( الفتح 25 ) أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم الحمية والثاني أقرب لقربه لفظاً وشدة مناسبته معنى لأنهم إذا جعلوا في قلوبهم الحمية لا يرجعون إلى الاستسلام والانقياد والمؤمنون لما أنزل الله عليهم السكينة لا يتركون الاجتهاد في الجهاد والله مع المؤمنين فيعذبونهم عذاباً أليماً أو غير المؤمنين وأما إن قلنا إن ذلك مفهوم غير مذكور ففيه وجهان أحدهما حفظ الله المؤمنين عن أن يطئوهم وهم الذين كفروا الذين جعل في قلوبهم الحمية وثانيها أحسن الله إليكم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية وعلى هذا فقوله تعالى فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ تفسير لذلك الإحسان وأما إن قلنا إنه مفعول به فالعامل مقدر تقديره أذكر أي أذكر ذلك الوقت كما تقول أتذكر إذ قام زيد أي أتذكر وقت قيامه كما تقول أتذكر زيداً وعلى هذا يكون الظرف للفعل المضاف إليه عاملاً فيه وفي لطائف معنوية ولفظية الأولى هو أن الله تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن فأشار إلى ثلاثة أشياء أحدها جعل ما للكافرين بجعلهم فقال إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وجعل ما للمؤمنين بجعل الله فقال فَأَنزَلَ اللَّهُ وبين الفاعلين ما لا يخفى ثانيها جعل للكافرين الحمية وللمؤمنين السكينة وبين المفعولين تفاوت على ما سنذكره ثالثها أضاف الحمية إلى الجاهلية وأضاف السكينة إلى نفسه حيث قال حمية الجاهلية وقال سكينته وبين الإضافتين ما لا يذكر الثانية زاد المؤمنين خيراً بعد حصول مقابلة شيء بشيء فعلهم بفعل الله والحمية بالسكينة والإضافة إلى الجاهلية بالإضافة إلى الله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى وسنذكر معناه وأما اللفظية فثلاث لطائف الأولى قال في حق الكافر ( جعل ) وقال في حق المؤمن ( أنزل ) ولم يقل خلق ولا جعل سكينته إشارة إلى أن الحمية كانت مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى وأما السكينة فكانت كالمحفوظة في خزانة الرحمة معدة لعباده فأنزلها الثانية قال الحمية ثم أضافها بقوله حَمِيَّة َ الْجَاهِلِيَّة ِ لأن الحمية في نفسها صفة مذمومة وبالإضافة إلى الجاهلية تزداد قبحاً وللحمية في القبح درجة لا يعتبر معها قبح القبائح كالمضاف إلى الجاهلية وأما السكينة في نفسها وإن كانت حسنة لكن الإضافة إلى الله فيها من الحسن ما لا يبقى معه لحسن اعتبار فقال سَكِينَتَهُ اكتفاه بحسن الإضافة الثالثة قوله فَأنزَلَ بالفاء لا بالواو إشارة إلى أن ذلك كالمقابلة تقول أكرمني فأكرمته للمجازاة والمقابلة ولو قلت أكرمني وأكرمكته لا ينبىء عن ذلك وحينئذ يكون فيه لطيفة وهي أن عند اشتداد غضب أحد العدوين فالعدو الآخر إما أن يكون ضعيفاً أو قوياً فإن كان ضعيفاً ينهزم وينقهر وإن كان قوياً فيورث غضبه فيه غضباً وهذا سبب قيام الفتن والقتال فقال في نفس الحركة عند حركتهم ما أقدمنا وما انهزمنا وقوله تعالى فَأَنزَلَ اللَّهُ بالفاء يدل تعلق الإنزال بالفاء على ترتيبه على شيء نقول فيه وجهان أحدهما ما ذكرنا من أن إذ ظرف كأنه قال أحسن الله إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وقوله فَأنزَلَ تفسير لذلك الإحسان كما يقال أكرمني فأعطاني لتفسير الإكرام وثانيهما أن تكون الفاء للدلالة على أن تعلق إنزال السكينة بجعلهم الحمية في قلوبهم على معنى المقابلة تقول أكرمني فأثنيت عليه ويجوز أن يكونا فعلين واقعين من غير مقابلة كما تقول جاءني زيد وخرج عمرو وهو هنا كذلك لأنهم لما جعلوا في قلوبهم الحمية فالمسلمون على مجرى العادة لو نظرت إليهم لزم أن يوجد منهم أحد الأمرين إما إقدام وإما(28/88)
انهزام لأن أحد العدوين إذا اشتد غضبه فالعدو الآخر إن كان مثله في القوة يغضب أيضاً وهذا يثير الفتن وإن كان أضعف منه ينهزم أو ينقاد له فالله تعالى أنزل في مقابلة حمية الكافرين على المؤمنين سكينته حتى لم يغضبوا ولم ينهزموا بل يصبروا وهو بعيد في العادة فهو من فضل الله تعالى قوله تعالى عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فإنه هو الذي أجاب الكافرين إلى الصلح وكان في نفس المؤمنين أن لا يرجعوا إلا بأحد الثلاثة بالنحر في المنحر وأبوا أن لا يكتبوا محمداً رسول الله وبسم الله فلما سكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سكن المؤمنون وقوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى فيه وجوه أظهرها أنه قول لا إلاه إلا الله فإن بها يقع الاتقاء عن الشرك وقيل هو بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله فإن الكافرين أبوا ذلك والمؤمنون التزموه وقيل هي الوفاء بالعهد إلى غير ذلك ونحن نوضح فيه ما يترجح بالدليل فنقول وَأَلْزَمَهُمْ يحتمل أن يكون عائداً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين جميعاً يعني ألزم النبي والمؤمنين كلمة التقوى ويحتمل أن يكون عائداً إلى المؤمنين فحسب فإن قلنا إنه عائد إليهما جميعاً نقول هو الأمر بالتقوى فإن الله تعالى قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ( الأحزاب 1 ) وقال للمؤمنين مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( آل عمران 102 ) والأمر بتقوى الله حتى تذهله تقواه عن الالتفات إلى ما سوى الله كما قال في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وقال تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ( الأحزاب 77 ) ثم بيّن له حال من صدقه بقوله الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ( الأحزاب 39 ) أما في حق المؤمنين فقال مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وقال فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى ( البقرة 150 ) وإن قلنا بأنه راجع إلى المؤمنين فهو قوله تعالى وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ( الحشر 7 ) ألا ترى إلى قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( الحجرات 1 ) وهو قوله تعالى عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وفي معنى قوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى على هذا معنى لطيف وهو أنه تعالى إذا قال ( اتقوا ) يكون الأمر وارداً ثم إن من الناس من يقبله بتوفيق الله ويلتزمه ومنهم من لا يلتزمه ومن التزمه فقد التزمه بإلزام الله إياه فكأنه قال تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى وفي هذا المعنى رجحان من حيث إن التقوى وإن كان كاملاً ولكنه أقرب إلى الكلمة وعلى هذا فقوله وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا معناه أنهم كانوا عند الله أكرم الناس فألزموا تقواه وذلك لأن قوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) يحتمل وجهين أحدهما أن يكون معناه أن من يكون تقواه أكثر يكرمه الله أكثر والثاني أن يكون معناه أن من سيكون أكرم عند الله وأقرب إليه كان أتقى كما في قوله ( والمخلصون على خطر عظيم ) وقوله تعالى هُم مّنْ خَشْية ِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ ( المؤمنون 57 ) وعلى الوجه الثاني يكون معنى قوله وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا لأنهم كانوا أعلم بالله لقوله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) وقوله وَأَهْلُهَا يحتمل وجهين أحدهما أنه يفهم من معنى الأحق أنه يثبت رجحاناً على الكافرين إن لم يثبت الأهلية كما لو اختار الملك اثنين لشغل وكل واحد منهما غير صالح له ولكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق فقال في الأقرب إلى الاستحقاق إذا كان ولا بد فهذا أحق كما يقال الحبس أهون من القتل مع أنه لاهين هناك فقال وَأَهْلُهَا دفعاً لذلك الثاني وهو أقوى وهو أن يقال قوله تعالى وَأَهْلُهَا فيه وجوه نبينها بعد ما نبين معنى الأحق فنقول هو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الأحق بمعنى الحق لا للتفضيل كما في قوله تعالى خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً(28/89)
( مريم 73 ) إذ لا خير في غيره والثاني أن يكون للتفضيل وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون بالنسبة إلى غيرهم أي المؤمنون أحق من الكافرين والثاني أن يكون بالنسبة إلى كلمة التقوى من كلمة أخرى غير تقوى تقول زيد أحق بالإكرام منه بالإهانة كما إذا سأل شخص عن زيد إنه بالطب أعلم أو بالفقه نقول هو بالفقه أعلم أي من الطب
لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً
بيان لفساد ما قاله المنافقون بعد إنزال الله السكينة على رسوله وعلى المؤمنين ووقوفهم عند ما أمروا به من عدم الإقبال على القتال وذلك قولهم ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا ولا قصرنا حيث كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في منامه أن المؤمنين يدخلون مكة ويتمون الحج ولم يعين له وقتاً فقص رؤياه على المؤمنين فقطعوا بأن الأمر كما رأى لنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في منامه وظنوا أن الدخول يكون عام الحديبية والله أعلم أنه لا يكون إلا عام الفتح فلما صالحوا ورجعوا قال المنافقون استهزاء ما دخلنا ولا حلقنا فقال تعالى لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ وتعدية صدق إلى مفعولين يحتمل أن يكون بنفسه وكونه من الأفعال التي تتعدى إلى المفعولين ككلمة جعل وخلق ويحتمل أن يقال عدى إلى الرؤيا بحرف تقديره صدق الله رسوله في الرؤيا وعلى الأول معناه جعلها واقعة بين صدق وعده إذ وقع الموعود به وأتى به وعلى الثاني معناه ما أراه الله لم يكذب فيه وعلى هذا فيحتمل أن يكون رأى في منامه أن الله تعالى يقول ستدخلون المسجد الحرام فيكون قوله صَدَقَ ظاهراً لأن استعمال الصدق في الكلام ظاهر ويحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام رأى أنه يدخل المسجد فيكون قوله صَدَقَ اللَّهُ معناه أنه أتى بما يحقق المنام ويدل على كونه صادقاً يقال صدقني سن بكره مثلاً وفيما إذا حقق الأمر الذي يريه من نفسه مأخوذ من الإبل إذا قيل له هدع سكن فحقق كونه من صغار الإبل فإن هدع كلمة يسكن بها صغار الإبل وقوله تعالى بِالْحَقّ قال الزمخشري هو حال أو قسم أو صفة صدق وعلى كونه حال تقديره صدقه الرؤيا ملتبسة بالحق وعلى تقدير كونه صفة تقديره صدقه صدقاً ملتبساً بالحق وعلى تقدير كونه قسماً إما أن يكون قسماً بالله فإن الحق من أسمائه وإما أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل هذا ما قاله ويحتمل أن يقال ( إن ) فيه وجهين آخرين أحدهما أن يقال فيه تقديم تأخير تقديره صدق الله رسوله بالحق الرؤيا أي الرسول الذي هو رسول بالحق وفيه إشارة إلى امتناع الكذب في الرؤيا لأنه لما كان رسولاً بالحق فلا يرى في منامه الباطل والثاني أن يقال بأن قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن قلنا بأن الحق قسم فأمر اللام ظاهر وإن لم يقل به فتقديره لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق والله لتدخلن وقوله والله لتدخلن جاز أن يكون تفسيراً للرؤيا يعني الرؤيا هي(28/90)
والله لتدخلن وعلى هذا تبين أن قوله صَدَقَ اللَّهُ كان في الكلام لأن الرؤيا كانت كلاماً ويحتمل أن يكون تحقيقاً لقوله تعالى صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ يعني والله ليقعن الدخول وليظهرن الصدق فلتدخلن ابتداء كلام وقوله تعالى إِن شَاء اللَّهُ فيه وجوه أحدها أنه ذكره تعليماً للعباد الأدب وتأكيداً لقوله تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 24 ) الثاني هو أن الدخول لما لم يقع عام الحديبية وكان المؤمنون يريدون الدخول ويأبون الصلح قال لَتَدْخُلُنَّ ولكن لا بجلادتكم ولا بإرادتكم إنما تدخلون بمشيئة الله تعالى الثالث هو أن الله تعالى لما قال في الوحي المنزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لَتَدْخُلُنَّ ذكر أنه بمشيئة الله تعالى لأن ذلك من الله وعد ليس عليه دين ولا حق واجب ومن وعد بشيء لا يحققه إلا بمشيئة الله تعالى وإلا فلا يلزمه به أحد وإذا كان هذا حال الموعود به في الوحي المنزّل صريحاً في اليقظة فما ظنكم بالوحي بالمنام وهو يحتمل التأويل أكثر مما يحتمله الكلام فإذا تأخر الدخول لم يستهزئون الرابع هو أن ذلك تحقيقاً للدخول وذلك لأن أهل مكة قالوا لا تدخلوها إلا بإرادتنا ولا نريد دخولكم في هذه السنة ونختار دخولكم في السنة القابلة والمؤمنون أرادوا الدخول في عامهم ولم يقع فكان لقائل أن يقول بقي الأمر موقوفاً على مشيئة أهل مكة إن أرادوا في السنة الآتية يتركوننا ندخلها وإن كرهوا لا ندخلها فقال لا تشترط إرادتهم ومشيئتهم بل تمام الشرط بمشيئة الله وقوله مُحَلّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لاَ تَخَافُونَ إشارة إلى أنكم تتمون الحج من أوله إلى آخره فقوله لَتَدْخُلُنَّ إشارة إلى الأول وقوله مُحَلّقِينَ إشارة إلى الآخر وفيه مسألتان
المسألة الأولى مُحَلّقِينَ حال الداخلين والداخل لا يكون الآن محرماً والمحرم لا يكون محلقاً فقوله ءامِنِينَ ينبىء عن الدوام فيه إلى الحلق فكأنه قال تدخلونها آمنين متمكنين من أن تتموا الحج محلقين
المسألة الثانية قوله تعالى لاَ تَخَافُونَ أيضاً حال معناه غير خائفين وذلك حصل بقوله تعالى ءامِنِينَ فما الفائدة في إعادتها نقول فيه بيان كمال الأمن وذلك لأن بعد الحلق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم فقال تدخلون آمنين وتحلقون ويبقى أمنكم بعد خروجكم عن الإحرام وقوله تعالى فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ أي من المصلحة وكون دخولكم في سنتكم سبباً لوطء المؤمنين والمؤمنات أو فَعَلِمَ للتعقيب فَعَلِمَ وقع عقيب ماذا نقول إن قلنا المراد من فَعَلِمَ وقت الدخول فهو عقيب صدق وإن قلنا المراد فَعَلِمَ المصلحة فالمعنى علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب والتقدير يعني حصلت المصلحة في العام القابل فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ من المصلحة المتجددة فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً إما صلح الحديبية وإما فتح خيبر وقد ذكرناه وقوله تعالى وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء عَلِيماً يدفع وهم حدوث علمه من قوله فَعَلِمَ وذلك لأن قوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء عَلِيماً يفيد سبق علمه العام لكل علم محدث
هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً(28/91)
ثم قال تعالى هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً
تأكيداً لبيان صدق الله في رسوله الرؤيا وذلك لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي لا يريد ما لا يكون مهدياً للناس فيظهر خلافه فيقع ذلك سبباً للضلال ويحتمل وجوهاً أقوى من ذلك وهو أن الرؤيا بحيث توافق الواقع تقع لغير الرسل لكن رؤية الأشياء قبل وقوعها في اليقظة لا تقع لكل أحد فقال تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وحكى له ما سيكون في اليقظة ولا يبعد من أن يريه في المنام ما يقع فلا استبعاد في صدق رؤياه وفيها أيضاً بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة له و ( الهدى ) يحتمل أن يكون هو القرآن كما قال تعالى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة 185 ) وعلى هذا دِينَ الْحَقِّ هو ما فيه من الأصول والفروع ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالحق أي مع الحق إشارة إلى ما شرع ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصول و دِينَ الْحَقِّ هو الأحكام وذلك لأن من الرسل من لم يكن له أحكام بل بين الأصول فحسب والألف واللام في الهدى يحتمل أن تكون للاستغراق أي كل ما هو هدى ويحتمل أن تكون للعهد وهو قوله تعالى ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء ( الزمر 23 ) وهو إما القرآن لقوله تعالى كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ إلى أن قال ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء ( الزمر 23 ) وإما ما اتفق عليه الرسل لقوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) والكل من باب واحد لأن ما في القرآن موافق لما اتفق عليه الأنبياء وقوله تعالى وَدِينِ الْحَقّ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون الحق اسم الله تعالى فيكون كأنه قال بالهدى ودين الله وثانيها أن يكون الحق نقيض الباطل فيكون كأنه قال ودين الأمر الحق وثالثها أن يكون المراد به الانقياد إلى الحق والتزامه لِيُظْهِرَهُ أي أرسله بالهدى وهو المعجز على أحد الوجوه لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ أي جنس الدين فينسخ الأديان دون دينه وأكثر المفسرين على أن الهاء في قوله لِيُظْهِرَهُ راجعة إلى الرسول والأظهر أنه راجع إلى دين الحق أي أرسل الرسول بالدين الحق ليظهره أي ليظهر الدين الحق على الأديان وعلى هذا فيحتمل أن يكون الفاعل للاظهار هو الله ويحتمل أن يكون هو النبي أي ليظهر النبي دين الحق وقوله تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً أي في أنه رسول الله وهذا مما يسلي قلب المؤمنين فإنهم تأذوا من رد الكفار عليهم العهد المكتوب وقالوا لا نعلم أنه رسول الله فلا تكتبوا محمد رسول الله بل اكتبوا محمد بن عبد الله فقال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً في أنه رسول الله وفيه معنى لطيف وهو أن قول الله مع أنه كاف في كل شيء لكنه في الرسالة أظهر كفاية لأن(28/92)