بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطرة وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين ولا شرح الشارحين وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال هو تصريف الله إياه بعد الولادة في أطواره في زمن الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب وخلق الفهم والعقل وما بعده إلى أن يموت ودليل هذا القول إنه عقبه بقوله ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ وهذا المعنى مروي أيضاً عن ابن عباس وابن عمر وإنما قال أَنشَأْنَاهُ لأنه جعل إنشاء الروح فيه وإتمام خلقه إنشاء له قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام في أن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه سبحانه بين أن الإنسان هو المركب من هذه الصفات وفيها دلالة أيضاً على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون إن الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم
أما قوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أي فتعالى الله فإن البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما زاد على الشيء فقد علاه ويجوز أن يكون المعنى والبركات والخيرات كلها من الله تعالى وقيل أصله من البروك وهو الثبات فكأنه قال والبقاء والدوام والبركات كلها منه فهو المستحق للتعظيم والثناء وقوله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ أي أحسن المقدرين تقديراً فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه وههنا مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة لولا أن الله تعالى قد يكون خالقاً لفعله إذا قدره لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين والخلق في اللغة هو كل فعل وجد من فاعله مقدراً لا على سهو وغفلة والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه قال الكعبي هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد كما أنه يجوز أن يقال رب الدار ولا يجوز أن يقال رب بلا إضافة ولا يقول العبد لسيده هو ربي ولا يقال إنما قال الله تعالى ذلك لأنه سبحانه وصف عيسى عليه السلام بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير لأنا نجيب عنه من وجهين أحدهما إن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح الثاني أنه إذا صح وصف عيسى بأنه يخلق صح وصف غيره من المصورين أيضاً بأنه يخلق وأجاب أصحابنا بأن هذه الآية معارضة بقول الله تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) فوجب حمل هذه الآية على أنه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ في اعتقادكم وظنكم كقوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) أي هو أهون عليه في اعقتادكم وظنكم والجواب الثاني هو أن الخالق هو المقدر لأن الخلق هو التقدير والآية تدل على أنه سبحانه أحسن المقدرين والتقدير يرجع معناه إلى الطن والحسبان وذلك في حق الله سبحانه محال فتكون الآية من المتشابهات والجواب الثالث أن الآية تقتضي كون العبد خالقاً بمعنى كونه مقدراً لكن لم قلت بأنه خالق بمعنى كونه موجداً
المسألة الثانية قالت المعتزلة الآية تدل على أن كل ما خلقه حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقاً للكفر والمعصية فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما والجواب من الناس من حمل الحسن على الإحكام والاتقان في التركيب والتأليف ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله تعالى كل الأشياء لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعاً له عن فعل شيء
المسألة الثالثة روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبدالله بن سعد بن أبي سرح كان(23/75)
يكتب هذه الآيات لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما انتهى إلى قوله تعالى خَلْقاً ءاخَرَ عجب من ذلك فقال فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اكتب فهكذا نزلت ) فشك عبدالله وقال إن كان محمد صادقاً فيما يقول فإنه يوحى إلي كما يوحى إليه وإن كان كاذباً فلا خير في دينه فهرب إلى مكة فقيل إنه مات على الكفر وقيل إنه أسلم يوم الفتح وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هكذا نزلت يا عمر وكان عمر يقول وافقني ربي في أربع في الصلاة خلف المقام وفي ضرب الحجاب على النسوة وقولي لهن لتنتهن أو ليبدلنه الله خيراً منكن فنزل قوله تعالى عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مّنكُنَّ ( التحريم 5 ) والرابع قلت فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فقال هكذا نزلت قال العارفون هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر وسبب الشقاوة لعبد الله كما قال تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 ) فإن قيل فعلى كل الروايات قد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن وذلك يقدح في كونه معجزاً كما ظنه عبدالله والجواب هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز فسقطت شبهة عبدالله
المرتبة الثامنة قوله ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ قرأ ابن أبي عبلة وابن محيصن لمائتون والفرق بين الميت والمائت أن الميت كالحي صفة ثابتة وأما المائت فيدل على الحدوث تقول زيد ميت الآن ومائت غداً وكقولك يموت ونحوهما ضيق وضائق في قوله إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ( هود 12 )
المرتبة التاسعة قوله ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ تُبْعَثُونَ فالله سبحانه جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين أيضاً على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الحكمة في الموت وهلا وصل نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الأنعام أبلغ والجواب هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله يبين ذلك أنه لو قيل لمن يصلي ويصوم إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب الجنة فلاجرم أخره الله تعالى وبعده بالإماتة ثم الإعادة ليكون العبد عابداً لربه بطاعته لا لطلب الانتفاع
السؤال الثاني هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر لأنه قال ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ تُبْعَثُونَ ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة والجواب من وجهين الأول أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة والثاني أن الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة والذي ترك ذكره فهو من جنس الإعادة
النوع الثاني من الدلائل الاستدلال بخلقة السموات وهو قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( المؤمنون 17 )
فقوله سَبْعَ طَرَائِقَ ( المؤمنون 17 ) أي سبع سموات وإنما قيل لها طرائق لتطارقها بمعنى كون بعضها فوق بعض(23/76)
يقال طارق الرجل نعليه إذا أطبق نعلاً على نعل وطارق بين ثوبين إذا لبس ثوباً فوق ثوب هذا قول الخليل والزجاج والفراء قال الزجاج هو كقوله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ( نوح 15 ) وقال علي بن عيسى سميت بذلك لأنها طرائق للملائكة في العروج والهبوط والطيران وقال آخرون لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه تعالى جعلها موضعاً لأرزاقنا بإنزال الماء منها وجعلها مقراً للملائكة ولأنها موضع الثواب ولأنها مكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي
أما قوله وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( المؤمنون 17 ) ففيه وجوه أحدها ما كنا غافلين بل كنا للخلق حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم وهذا قول سفيان بن عيينة وهو كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ( فاطر 41 ) وثانيها إنما خلقناها فوقهم لننزل عليهم الأرزاق والبركات منها عن الحسن وثالثها أنا خلقنا هذه الأشياء فدل خلقنا لها على كمال قدرتنا ثم بين كمال العلم بقوله وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( المؤمنون 17 ) يعني عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر ورابعها وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظون لئلا تخرج عن التقدير الذي أردنا كونها عليه كقوله تعالى مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ( الملك 3 )
واعلم أن هذه الآية دالة على كثير من المسائل إحداها أنها دالة على وجود الصانع فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على تلك الصفة يدل على أنه لابد من محول ومغير وثانيتها أنها تدل على فساد القول بالطبيعة فإن شيئاً من تلك الصفات لو حصل بالطبيعة لوجب بقاؤها وعدم تغيرها ولو قلت إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجود وثالثتها تدل على أن المدبر قادر عالم لأن الموجب والجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة ورابعتها تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات وخامستها تدل على جواز الحشر والنشر نظراً إلى صريح الآية ونظراً إلى أن الفاعل لما كان قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت وسادستها أن معرفة الله تعالى يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية وإلا لكان ذكر هذه الدلائل عبثاً
النوع الثالث الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيراتها في النبات
وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأرض وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَة ٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَة ً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلأَكِلِيِنَ(23/77)
اعلم أن الماء في نفسه نعمة وأنه مع ذلك سبب لحصول النعم فلا جرم ذكره الله تعالى أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً
أما قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فقد اختلفوا في السماء فقال الأكثرون من المفسرين إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء وهو الظاهر من اللفظ ويؤكده قوله وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ( الذاريات 22 ) وقال بعضهم المراد السحاب وسماه سماء لعلوه والمعنى أن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد ثم إن تلك الذرات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله تعالى على قدر الحاجة إليه ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ولا بماء البحار لملوحته ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض لأن البحار هي الغاية في العمق واعلم أن هذه الوجوه إنما يتمحلها من ينكر الفاعل المختار فأما من أقربه فلا حاجة به إلى شيء منها
أما قوله تعالى بِقَدَرٍ فمعناه بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة في الزرع والغرس والشرب أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم
أما قوله فَأَسْكَنَّاهُ فِى الاْرْضِ قيل معناه جعلناه ثابتاً في الأرض قال ابن عباس رضي الله عنهما أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج ويرفع أيضاً القرآن
أماقوله وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ أي كما قدرنا على إنزاله فكذلك نقدر على رفعه وإزالته قال صاحب ( الكشاف ) وقوله عَلَى ذَهَابٍ بِهِ من أوقع النكرات وأخرها للفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يعسر عليه شيء وهو أبلغ في الإيعاد من قوله قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ( الملك 30 ) ثم إنه سبحانه لما نبه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وإنما ذكر تعالى النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الأدام ومقام الفواكه رطباً ويابساً وقوله لَّكُمْ فِيهَا فَواكِهُ كَثِيرَة ٌ أي في الجنات فكما أن فيها النخيل والأعناب ففيها الفواكه الكثيرة وقوله وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ قال صاحب ( الكشاف ) يجوز أن يكون هذا من قولهم فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يعملها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه كأنه قال وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها تتعيشون
أما قوله تعالى وَشَجَرَة ً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء فهو عطف على جنات وقرئت مرفوعة على الابتداء أي ومما أنشأنا لكم شجرة قال صاحب ( الكشاف ) طور سيناء وطور سينين لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون وإما أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس وبعلبك فيمن أضاف فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث لأنها بقعة وفعلاء لا يكون(23/78)
ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء ومن فتح لم يصرفه لأن ألفه للتأنيث كصحراء وقيل هو جبل فلسطين وقيل بين مصر وأيلة ومنه نودي موسى عليه السلام وقرأ الأعمش سينا على القصر
أما قوله تعالى تَنبُتُ بِالدُّهْنِ فهو في موضع الحل أي تنبت وفيها الدهن كما يقال ركب الأمير بجنده أي ومعه الجند وقرىء تنبت وفيه وجهان أحدهما أن أنبت بمعنى نبت قال زهير ف رأيت ذوي لحاجات حول بيوتهم
قطيناً لهم حتى إذا أنبت البقل
والثاني أن مفعوله محذوف أي تنبت زيتونها وفيه الزيت قال المفسرون وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت ولأن معظمها هناك أما قوله وَصِبْغٍ لّلاكِلِيِنَ فعطف على الدهن أي إدام للآكلين والصبغ والصباغ ما يصطبغ به أي يصبغ به الخبز وجملة القول أنه سبحانه وتعالى نبه على إحسانه بهذه الشجرة لأنها تخرج هذه الثمرة التي يكثر بها الانتفاع وهي طرية ومدخرة وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ويعظم وجوه الانتفاع به
النوع الرابع الاستدلال بأحوال الحيوانات
وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاٌّ نْعَامِ لَعِبْرَة ً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَة ٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
إعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن فيها عبرة مجملاً ثم أردفه بالتفصيل من أربعة أوجه أحدها قوله نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا والمراد منه جميع وجوه الانتفاع بألبانها ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع وتتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى فتستحيل إلى طهارة وإلى لون وطعم موافق للشهوة وتصير غذاء فمن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته كان ذلك معدوداً في النعم الدينية ومن انتفع به فهو في نعمة الدنيا وأيضاً فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إلى ضروعها تجدها شراباً طيباً وإذا ذبحتها لم تجد لها أثراً وذلك يدل على عظيم قدرة الله تعالى قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء تسقيكم بتاء مفتوحة أي تسقيكم الأنعام وثانيها قوله وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَة ٌ وذلك بيعها والانتفاع بأثمانها وما يجري مجرى ذلك وثالثها قوله وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ يعني كما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضاً بالأكل ورابعها قوله وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ لأن وجه الانتفاع بالإبل في المحمولات على البر بمنزلة الانتفاع بالفلك في البحر ولذلك جمع بين الوجهين في إنعامه لكي يشكر على ذلك ويستدل به واعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور وهي ههنا(23/79)
القصة الأولى قصة نوح عليه السلام
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاّنزَلَ مَلَائِكَة ً مَّا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى ءَابَآئِنَا الاٌّ وَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّة ٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ
قال قوم إن نوحاً كان اسمه يشكر ثم سمي نوحاً لوجوه أحدها لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك فأهلكهم بالطوفان فندم على ذلك وثانيها لمراجعة ربه في شأن ابنه وثالثها أنه مر بكلب مجذوم فقال له إخساً يا قبيح فعوتب على ذلك فقال الله له أعبتني إذ خلقته أم عبت الكلب وهذه الوجوه مشكلة لما ثبت أن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى
أما قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ فالمعنى أنه سبحانه أرسله بالدعاء إلى عبادة الله تعالى وحده ولا يجوز أن يدعوهم إلى ذلك إلا وقد دعاهم إلى معرفته أولاً لأن عبادة من لا يكون معلوماً غير جائزة وإنما يجوز ويجب بعد المعرفة
أما قوله مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ فالمراد أن عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه ومن حق العبادة أن تحسن لمن أنعم بالخلق والإحياء وما بعدهما فإذا لم يصح ذلك إلا منه تعالى فكيف يعبد ما لا يضر ولا ينفع وقرىء غيره بالرفع على المحل وبالجر على اللفظ ثم إنه لما لم ينفع فيهم هذا الدعاء واستمروا على عبادة غير الله تعالى حذرهم بقوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ لأن ذلك زجر ووعيد باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه ثم إنه سبحانه حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح عليه السلام
الشبهة الأولى قولهم مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وهذه الشبهة تحتمل وجهين أحدهما أن يقال إنه لما كان مساوياً لسائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض امتنع كونه رسولاً لله لأن الرسول لا بد وأن يكون عظيماً عند الله تعالى وحبيباً له والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والمعزة فلما فقدت هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة والثاني أن يقال هذا الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلاً إلا بادعاء النبوة فصار ذلك شبهة لهم في القدح في نبوته فهذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى خبراً عنهم يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي يريد أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله تعالى وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِى الاْرْضِ(23/80)
الشبهة الثانية قولهم وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاَنزَلَ مَلَائِكَة ً وشرحه أن الله تعالى لو شاء إرشاد البشر لوجب أن يسلك الطريق الذي يكون أشد إفضاء إلى المقصود ومعلوم أن بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى هذا المقصود من بعثة البشر لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم وكثرة علومهم فالخلق ينقادون إليهم ولا يشكون في رسالتهم فلما لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولاً ألبتة
الشبهة الثالثة قولهم مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ وقوله بهذا إشارة إلى نوح عليه السلام أو إلى ما كلمهم به من الحث على عبادة الله تعالى أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام أو بمثل هذا الذي يدعى وهو بشر أنه رسول الله وشرح هذه الشبهة أنهم كانوا أقواماً لا يعولون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء فلما لم يجدوا في نبوة نوح عليه السلام هذه الطريقة حكموا بفسادها قال القاضي يحتمل أن يريدوا بذلك كونه رسولاً مبعوثاً لأنه لا يمتنع فيما تقدم من زمان آبائهم أنه كان زمان فترة ويحتمل أن يريدوا بذلك دعاءهم إلى عبادة الله تعالى وحده لأن آباءهم كانوا على عبادة الأوثان
الشبهة الرابعة قولهم إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّة ٌ والجنة الجنون أو الجن فإن جهال العوام يقولون في المجنون زال عقله بعمل الجن وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام فإنه عليه الصلاة والسلام كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم فأولئك الرؤساء كانوا يقولون للعوام إنه مجنون ومن كان مجنوناً فكيف يجوز أن يكون رسولاً
الشبهة الخامسة قولهم فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ وهذا يحتمل أن يكون متعلقاً بما قبله أي أنه مجنون فاصبروا إلى زمان حتى يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا قتلتموه ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوي أمره فنحن حينئذ نتبعه وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه فهذه مجموع الشبه التي حكاها الله تعالى عنهم واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عنها لركاكتها ووضوح فسادها وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولاً إلا لأنه من جنس الملك وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولاً بل جعل الرسول من جملة البشر أولى لما مر بيانه في السور المتقدمة وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة وأما قولهم يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب على الرسول وأن إرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد فالأنبياء منزهون عن ذلك وأما قولهم ما سمعنا بهذا فهو استدلال بعدم التقليد على عدم وجود الشيء وهو في غاية السقوط لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء فعدمه من أين يدل على عدمه وأما قولهم به جنة فقد كذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله وأما قولهم فتربصوا به فضعيف لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته وهي المعجزة وجب عليهم قبول قوله في الحال ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته لأن الدولة لا تدل على الحقية وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور لا جرم تركها الله سبحانه
قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ إِنَّ فِى ذالِكَ لأَيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ(23/81)
أما قوله رَبّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ ففيه وجوه أحدها أن في نصره إهلاكهم فكأنه قال أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي وثانيها انصرني بدل ما كذبوني كما تقول هذا بذاك أي بدل ذلك ومكانه والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم وثالثها انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( الأعراف 59 ) ولما أجاب الله دعاءه قال فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا أي بحفظنا وكلئنا كأن معه من الله حافظاً بكلؤه بعينه لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله ومنه قولهم عليه من الله عين كالئة وهذه الآية دالة على فساد قول المشبهة في تمسكهم بقوله عليه السلام ( إن الله خلق آدم على صورته ) لأن ثبوت الأعين يمنع من ذلك واختلفوا في أنه عليه السلام كيف صنع الفلك فقيل إنه كان نجاراً وكان عالماً بكيفية اتخاذها وقيل إن جبريل عليه السلام علمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها وهذا هو الأقرب لقوله بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا
أما قوله فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا فاعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم والدليل عليه أنك إذا قلت هذا أمر بقي الذهن يتردد بين المفهومين وذلك يدل على كونه حقيقة فيهما وتمام تقريره مذكور في كتاب المحصول في الأصول ومن الناس من قال إنما سماه أمراً على سبيل التعظيم والتفخيم مثل قوله ثُمَّ قَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
أما قوله وَفَارَ التَّنُّورُ فاختلفوا في التنور فالأكثرون على أنه هو التنور المعروف روي أنه قيل لنوح إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب وقيل كان تنور آدم وكان من حجارة فصار إلى نوح واختلف في مكانه فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان نوح عليه السلام عمل السفينة في وسط المسجد وقيل بالشام بموضع يقال له عين وردة وقيل بالهند القول الثاني أن التنور وجه الأرض عن ابن عباس رضي الله عنهما الثالث أنه أشرف موضع في الأرض أي أعلاه عن قتادة والرابع وَفَارَ التَّنُّورُ أي طلع للفجر عن علي عليه السلام وقيل إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر والخامس هو مثل قولهم حمى الوطيس والسادس أنه الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء إليه عن الحسن رحمه الله والقول الأول هو(23/82)
الصواب لأن العدول عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل لا يجوز واعلم أن الله تعالى جعل فوران التنور علامة لنوح عليه السلام حتى يركب عنده السفينة طلباً لنجاته ونجاة من آمن به من قومه
أما قوله فَاسْلُكْ فِيهَا أي أدخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلك غيره وأسلكه مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي من كل زوجين من الحيوان الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان وكل واحد منهما زوج لا كما تقوله العامة من أن الزوج هو الاثنان روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض وقرىء من كل بالتنوين أي من كل أمة زوجين واثنين تأكيد وزيادة بيان
أما قوله وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي وأدخل أهلك ولفظ على إنما يستعمل في المضار قال تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) واعلم أن هذه الآية تدل على أمرين أحدهما أنه سبحانه أمره بإدخال سائر من آمن به وإن لم يكن من أهله وقيل المراد بأهله من آمن دون من يتصل به نسباً أو سبباً وهذا ضعيف وإلا لما جاز استثناء قوله إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ والثاني أنه قال وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ يعني كنعان فإنه سبحانه لما أخبر بإهلاكهم وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم لأنه إن أجابه إليه فقد صير خبره الصدق كذباً وإن لم يجبه إليه كان ذلك تحقيراً لشأن نوح عليه السلام فلذلك قال إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ أي الغرق نازل بهم لا محالة
أما قوله فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ قال ابن عباس رضي الله عنهما كان في السفينة ثمانون إنساناً نوح وامرأته سوى التي غرقت وثلاثة بنين سام وحام ويافث وثلاث نسوة لهم واثنان وسبعون إنساناً فكل الخلائق نسل من كان في السفينة
أما قوله فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى إنما قال فَقُلْ ولم يقل فقولوا لأن نوحاً كان نبياً لهم وإماماً لهم فكان قوله قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي
المسألة الثانية قال قتادة علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ( هود 41 ) وعند ركوب الدابة سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ( الزخرف 13 ) وعند النزول وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ( المؤمنون 29 ) قال الأنصاري وقال لنبينا وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ ( الإسراء 80 ) وقال فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ( النحل 98 ) كأنه سبحانه أمرهم أن لا يكونوا عن ذكره وعن الاستعاذة به في جميع أحوالهم غافلين
المسألة الثالثة هذه مبالغة عظيمة في تقبيح صورتهم حيث أتبع النهي عن الدعاء لهم الأمر بالحمد على إهلاكهم والنجاة منهم كقوله تعالى فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الأنعام 45 ) وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق لأنه سبحانه كان عرفه أنه بذلك ينجيه ومن تبعه فيصح أن يقول نَجَّانَا من حيث جعله آمناً بهذا الفعل ووصف قومه بأنهم الظالمون لأن الكفر منهم ظلم لأنفسهم لقوله إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) ثم إنه سبحانه بعد أن أمره بالحمد على إهلاكهم(23/83)
أمره بأن يدعو لنفسه فقال وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وقرىء مُنزَلاً بمعنى إنزالاً أو موضع إنزال كقوله ليدخلنهم مدخلاً يرضونه واختلفوا في المنزل على قولين أحدهما أن المراد هو نفس السفينة فمن ركبها خلصته مما جرى على قومه من الهلاك والثاني أن المراد أن ينزله الله بعد خروجه من السفينة من الأرض منزلاً مباركاً والأول أقرب لأنه أمر بهذا الدعاء في حال استقراره في السفينة فيجب أن يكون المنزل ذلك دون غيره ثم بين سبحانه بقوله وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله تعالى وإن كان هو سبحانه خير من أنزل لأنه يحفظ من أنزله في سائر أحواله ويدفع عنه المكاره بحسب ما يقتضيه الحكم والحكمة ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة نوح وقومه لآيات ودلالات وعبراً في الدعاء إلى الإيمان والزجر عن الكفر فإن إظهار تلك المياه العظيمة ثم الإذهاب بها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح عليه السلام يدل على المعجز العظيم وإفناء الكفار وبقاء الأرض لأهل الدين والطاعة من أعظم أنواع العبر
أما قوله وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ فيمكن أن يكون المراد وإن كنا لمبتلين فيما قبل ويحتمل أن يكون وإن كنا لمبتلين فيما بعد وهذا هو الأقرب لأنه كالحقيقة في الاستقبال وإذا حمل على ذلك احتمل وجوهاً أحدها أن يكون المراد المكلفين في المستقبل أي فيجب فيمن كلفناه أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه وثانيها أن يكون المراد لمعاقبين لمن سلك في تكذيب الأنبياء مثل طريقة قوم نوح وثالثها أن يكون المراد كما نعاقب من كذب بالغرق وغيره فقد نمتحن بالغرق من لم يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب لكي لا يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد
القصة الثانية قصة هود أو صالح عليهما السلام
ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الاٌّ خِرَة ِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّ مْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(23/84)
اعلم أن هذه القصة هي قصة هود عليه السلام في قول ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين واحتجوا عليه بحكاية الله تعالى قول هود عليه السلام وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ( الأعراف 69 ) ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء وقال بعضهم المراد بهم صالح وثمود لأن قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة أما كيفية الدعوى فكما تقدم في قصة نوح عليه السلام وههنا سؤالات
السؤال الأول حق أُرْسِلَ أن يتعدى بإلى كأخواته التي هي وجه وأنفذ وبعث فلم عدى في القرآن بإلى تارة وبفي أخرى كقوله تعالى كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّة ٍ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ ( الأعراف 94 ) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً ( المؤمنون 32 ) أي في عاد وفي موضع آخر وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ( هود 50 ) الجواب لم يعد بفي كما عدي بإلى ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال وعلى هذا المعنى جاء بعث في قوله وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَة ٍ نَّذِيراً ( الفرقان 51 )
السؤال الثاني هل يصح ما قاله بعضهم أن قوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ غير موصول بالأول وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه وردوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك قال لهم مخوفاً مما هم عليه أَفَلاَ تَتَّقُونَ هذه الطريقة مخافة العذاب الذي أنذرتكم به الجواب يجوز أن يكون موصولاً بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان فدعاهم إلى عبادة الله وحذرهم من العقاب بسبب إقبالهم على عبادة الأوثان ثم اعلم أن الله تعالى حكى صفات أولئك القوم وحكى كلامهم أما الصفات فثلاث هي شر الصفات أولها الكفر بالخالق سبحانه وهو المراد من قوله كَفَرُواْ وثانيها الكفر بيوم القيامة وهو المراد من قوله وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الاْخِرَة ِ وثالثها الانغماس في حب الدنيا وشهواتها وهو المراد من قوله وَقَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ أي نعمناهم فإن قيل ذكر الله مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير واو قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ٍ ( الأعراف 66 ) قالوا مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا ( هود 27 ) وههنا مع الواو فأي فرق بينهما قلنا الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال فما قال قومه فقيل له كيت وكيت وأما الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله ومعناه أنه اجتمع في هذه الواقعة هذا الكلام الحق وهذا الكلام الباطل وأما شبهات القوم فشيئان أولهما قولهم مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وقد مر شرح هذه الشبهة في القصة الأولى وقوله مِمَّا تَشْرَبُونَ أي من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه وهو قوله وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ فجعلوا اتباع الرسول خسراناً ولم يجعلوا عبادة الأصنام خسراناً أي لئن كنتم أعطيتموه الطاعة من غير(23/85)
أن يكون لكم بإزائها منفعة فذلك هو الخسران وثانيهما أنهم طعنوا في صحة الحشر والنشر ثم طعنوا في نبوته بسبب إتيانه بذلك أما الطعن في صحة الحشر فهو قولهم أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّ مْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ معادون أحياء للمجازاة ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى قرنوا به الاستبعاد العظيم وهو قولهم هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ثم أكدوا الشبهة بقولهم إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ولم يريدوا بقولهم نموت ونحيا الشخص الواحد بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمَبْعُوثِينَ ولما فرغوا من الطعن في صحة الحشر بنوا عليه الطعن في نبوته فقالوا لما أتى بهذا الباطل فقد افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ثم لما قرروا الشبهة الطاعنة في نبوته قالوا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ لأن القوم كالتبع لهم واعلم أن الله تعالى ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أما الشبهة الأولى فقد تقدم بيان ضعفها وأما الثانية فلأنهم استبعدوا الحشر ولا يستبعد الحشر لوجهين الأول أنه سبحانه لما كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على الحشر والنشر والثاني وهو أنه لولا الإعادة لكن تسليط القوى على الضعيف في الدنيا ظلماً وهو غير لائق بالحكيم على ما قرره سبحانه في قوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) وههنا مسائل
المسألة الأولى ثنى إنكم للتوكيد وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف ومخرجون خبر عن الأول وفي قراءة ابن مسعود وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( المؤمنون 35 )
المسألة الثانية قرىء هَيْهَاتَ بالفتح والكسر كلها بتنوين وبلا تنوين وبالسكون على لفظ الوقف
المسألة الثالثة هي في قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه وأصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع هي موضع الحياة لأن الخبر يدل عليه ومنه ( قول الشاعر ) هي النفس ما حملتها تتحمل
والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة ولأن إن النافية دخلت على هي التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس
واعلم أن ذلك الرسول لما يئس من قبول الأكابر والأصاغر فزع إلى ربه وقال رَبّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ وقد تقدم تفسيره فأجابه الله تعالى فيما سأل وقال عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ( المؤمنون 40 ) والأقرب أن يكون المراد بأن يظهر لهم علامات الهلاك فعند ذلك يحصل منهم الحسرة والندامة على ترك القبول ويكون الوقت وقت إيمان اليأس فلا ينتفعون بالندامة وبين تعالى الهلاك الذي أنزله عليهم بقوله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ بِالْحَقّ وذكروا في الصيحة وجوهاً أحدها أن جبريل عليه السلام صاح بهم وكانت الصيحة عظيمة فماتوا عندها وثانيها الصيحة هي الرجفة عن ابن عباس رضي الله عنهما وثالثها الصيحة هي نفس العذاب والموت كما يقال فيمن يموت دعي فأجاب عن الحسن ورابعها أنه العذاب المصطلم قال الشاعر(23/86)
صاخ الزمان بآل برمك صيحة
خروا لشدتها على الأذقان
والأول أولى لأنه هو الحقيقة
وأما قوله بِالْحَقّ فمعناه أنه دمرهم بالعدل من قولك فلان يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضاياه وقال المفضل بالحق أي بما لا يدفع كقوله وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ
أما قوله فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فالغثاء حميل السيل مما بلي واسود من الورق والعيدان ومنه قوله تعالى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى
وأما قوله تعالى فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله بُعْدًا وسحقاً ودمراً ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها ومعنى بعداً بعدوا أي هلكوا يقال بعد بعداً وبعداً بفتح العين نحو رشد رشداً ورشداً بفتح الشين والله أعلم
المسألة الثانية قوله بُعْدًا بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير والله تعالى ذكر ذلك على وجه الاستخفاف والإهانة لهم وقد نزل بهم العذاب دالاً بذلك على أن الذي ينزل بهم في الآخرة من البعد من النعيم والثواب أعظم مما حل بهم حالاً ليكون ذلك عبرة لمن يجيء بعدهم
القصة الثالثة
ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءَاخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّة ً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
إعلم أنه سبحانه يقص القصص في القرآن تارة على سبيل التفصيل كما تقدم وأخرى على سبيل الإجمال كههنا وقيل المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام
فأما قوله ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءاخَرِينَ فالمعنى أنه ما أخلى الديار من مكلفين أنشأهم وبلغهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كان قبلهم في عمارة الدنيا
أما قوله مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ فيحتمل في هذا الأجل أن يكون المراد آجال حياتها وتكليفها ويحتمل آجال موتها وهلاكها وإن كان الأظهر في الأجل إذا أطلق أن يراد به وقت الموت فبين أن كل أمة لها آجال مكتوبة في الحياة والموت لا يتقدم ولا يتأخر منبهاً بذلك على أنه عالم بالأشياء قبل كونها فلا توجد إلا على وفق العلم ونظيره قوله تعالى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(23/87)
وههنا مسألتان
المسألة الأولى قال أصحابنا هذه الآية تدل على أن المقتول ميت بأجله إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدم الأجل أو تأخر وذلك ينافيه هذا النص
المسألة الثانية قال الكعبي المراد من قوله مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أي لا يتقدمون الوقت المؤقت لعذابهم إن لم يؤمنوا ولا يتأخرون عنه ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عناداً وأنهم لا يلدون مؤمناً وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم ولا ضرر على أحد في هلاكهم وهو كقول نوح عليه السلام إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( نوح 27 )
أما قوله تعالى ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا فالمعنى أنه كما أنشأنا بعضهم بعد بعض أرسل إليهم الرسل على هذا الحد قرأ ابن كثير تترى منونة والباقون بغير تنوين وهو اختيار أكثر أهل اللغة لأنها فعلى من المواترة وهي المتابعة وفعلى لا ينون كالدعوى والتقوى والتاء بدل من الواو فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد قال الواحدي تترى على القراءتين مصدر أو اسم أقيم مقام الحال لأن المعنى متواترة
أما قوله تعالى كُلَّمَا جَاءهُمْ أُمَّة ً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ( المؤمنون 44 ) يعني أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة فلذلك قال فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي بالهلاك
( وقوله ) وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ يمكن أن يكون المراد جمع الحديث ومنه أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى أنه سبحانه بلغ في إهلاكهم مبلغاً صاروا معه أحاديث فلا يرى منهم عين ولا أثر ولم يبق منهم إلا الحديث الذي يذكر ويعتبر به
ويمكن أيضاً أن يكون جمع أحدوثة مثل الأضحوكة والأعجوبة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً
ثم قال فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ على وجه الدعاء والذم والتوبيخ ودل بذلك على أنهم كما أهلكوا عاجلاً فهلاكهم بالتعذيب آجلاً على التأبيد مترقب وذلك وعيد شديد
القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِأايَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(23/88)
اختلفوا في الاْيَاتِ فقال ابن عباس رضي الله عنهما هي الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفلاق البحر والسنون والنقص من الثمرات وقال الحسن قوله بِئَايَاتِنَا أي بديننا واحتج بأن المراد بالآيات لو كانت هي المعجزات والسلطات المبين أيضاً هو المعجز فحينئذ يلزم عطف الشيء على نفسه والأقرب هو الأول لأن لفظ الآيات إذا ذكر في الرسل فالمراد منها المعجزات وأما الذي احتجوا به فالجواب عنه من وجوه أحدها أن المراد بالسلطان المبين يجوز أن يكون أشرف معجزاته وهو العصا لأنه قد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها بها وكونها حارساً وشمعة وشجرة مثمرة ودلواً ورشاء فلأجل انفراد العصا بهذه الفضائل أفردت بالذكر كقوله جبريل وميكال وثانيها يجوز أن يكون المراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها على الصدق وذلك لأنها وإن شاركت سائر آيات الأنبياء في كونها آيات فقد فارقتها في قوة دلالتها على قوة موسى عليه السلام وثالثها أن يكون المراد بالسلطان المبين استيلاء موسى عليه السلام عليهم في الاستدلال على وجود الصانع وإثبات النبوة وأنه ما كان يقيم لهم قدراً ولا وزناً
واعلم أن الآية تدل على أن معجزات موسى عليه السلام كانت معجزات هرون عليه السلام أيضاً وأن النبوة كما أنها مشتركة بينهما فكذلك المعجزات ثم إنه سبحانه حكى عن فرعون وقومه صفتهم ثم ذكر شبهتهم أما صفتهم فأمران أحدهما الاستكبار والأنفة والثاني أنهم كانوا قوماً عالين أي رفيعي الحال في أمور الدنيا ويحتمل الاقتدار بالكثرة والقوة وأما شبهتهم فهي قولهم أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ قال صاحب ( الكشاف ) لم يقل مثلينا كما قال إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ ( النساء 14 ) ولم يقل أمثالهم وقال كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 ) ولم يقل أخيار أمة كل ذلك لأن الإيجاز أحب إلى العرب من الإكثار والشبهة مبنية على أمرين أحدهما كونهما من البشر وقد تقدم الجواب عنه والثاني أن قوم موسى وهرون كانوا كالخدم والعبيد لهم قال أبو عبيدة العرب تسمى كل من دان لملك عابداً له ويحتمل أن يقال إنه كان يدعي الإلهية فادعى أن الناس عباده وأن طاعتهم له عبادة على الحقيقة ثم بين سبحانه أنه لما خطرت هذه الشبهة ببالهم صرحوا بالتكذيب وهو المراد من قوله فَكَذَّبُوهُمَا
ولما كان ذلك التكذيب كالعلة لكونهم من المهلكين لا جرم رتبه عليه بفاء التعقيب فقال وكانوا ممن حكم الله عليهم بالغرق فإن حصول الغرق لم يكن حاصلاً عقيب التكذيب إنما الحاصل عقيب التكذيب حكم الله تعالى بكونهم كذلك في الوقت اللائق به
أما قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فقال القاضي معناه أنه سبحانه خص موسى عليه السلام بالكتاب الذي هو التوراة لا لذلك التكذيب لكن لكي يهتدوا به فلما أصروا على الكفر مع البيان العظيم استحقوا أن يهلكوا واعترض صاحب ( الكشاف ) عليه فقال لا يجوز أن يرجع الضمير في لعلهم إلى فرعون وملائه لأن التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملائه بدليل قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاْولَى ( القصص 43 ) بل المعنى الصحيح ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يعملون بشرائعها ومواعظها فذكر موسى والمراد آل موسي كما يقال هاشم وثقيف والمراد قولهما(23/89)
القصة الخامسة قصة عيسى وقصة مريم عليهما السلام
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَة ً وَءَاوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَة ٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
اعلم أن ابن مريم هو عيسى عليه السلام جعله الله تعالى آية بأن خلقه من غير ذكر وأنطقه في المهد في الصغر وأجرى على يديه إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وأما مريم فقد جعلها الله تعالى آية لأنها حملته من غير ذكر وقال الحسن تكلمت مريم في صغرها كما تكلم عيسى عليه السلام وهو قولها هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( آل عمران 37 ) ولم تلقم ثدياً قط قال القاضي إن ثبت ذلك فهو معجزة لزكريا عليه السلام لأنها لم تكن نبية قلنا القاضي إنما قال ذلك لأن عنده الإرهاص غير جائز وكرامات الأولياء غير جائزة وعندنا هما جائزان فلا حاجة إلى ما قال والأقرب أنه جعلهما آية بنفس الولادة لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعاً في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة والذي يدل على أن هذا التفسير أولى وجهان أحدهما أنه تعالى قال وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً لأن نفس الإعجاز طهر فيهما لا أنه ظهر على يدهما وهذا أولى من أن يحمل على الآيات التي ظهرت على يده نحو إحياء الموتى وذلك لأن الولادة فيه وفيها آية فيهما وكذلك أن نطقا في المهد وما عدا ذلك من الآيات ظهر على يده لا أنه آية فيه الثاني أنه تعالى قال آية ولم يقل آيتين وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتم إلا بمجموعهما أولى وذلك هو أمر الولادة لا المعجزات التي كان عيسى عليه السلام مستقلاً بها
أما قوله تعالى وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً أي جعلنا مأواهما الربوة والربوة والرباوة في راءيهما الحركات الثلاث وهي الأرض المرتفعة ثم قال قتادة وأبو العالية هي إيلياء أرض بيت المقدس وقال أبو هريرة رضي الله عنه إنها الرملة وقال الكلبي وابن زيد هي بمصر وقال الأكثرون إنها دمشق وقال مقاتل والضحاك هي غوطة دمشق والقرار المستقر من ( كل ) أرض مستوية مبسوطة وعن قتادة ذات ثمار وماء يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها والمعين الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض فنبه سبحانه على كمال نعمه عليها بهذا اللفظ على اختصاره ثم في المعين قولان أحدهما أنه مفعول لأنه لظهوره يدرك بالعين من عانه إذا أدركه بعينه وقال الفراء والزجاج إن شئت جعلته فعيلاً من الماعون ويكون أصله من المعن والماعون فاعول منه قال أبو علي والمعين السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى والماعون ما سهل على معطيه ثم قالوا وسبب الإيواء أنها فرت بإبنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة وإنما ذهب بهما ابن عمها يوسف ثم رجعت إلى أهلها بعد أن مات ملكهم وههنا آخر القصص والله أعلم
ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ(23/90)
إعلم أن ظاهر قوله لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ خطاب مع كل الرسل وذلك غير ممكن لأن الرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة متفرقة مختلفة فكيف يمكن توجيه هذا الخطاب إليهم فلهذا الإشكال اختلفوا في تأويله على وجوه أحدها أن المعنى الإعلام بأن كل رسول فهو في زمانه نودي بهذا المعنى ووصى به ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق بأن يؤخذ به ويعمل عليه وثانيها أن المراد نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل وإنما ذكر على صيغة الجمع كما يقال للواحد أيها القوم كفوا عني أذاكم ومثله الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( آل عمران 173 ) وهو نعيم بن مسعود كأنه سبحانه لما خاطب محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك بين أن الرسل بأسرهم لو كانوا حاضرين مجتمعين لما خوطبوا إلا بذلك ليعلم رسولنا أن هذا التثقيل ليس عليه فقط بل لازم على جميع الأنبياء عليهم السلام وثالثها وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى عليه السلام لأنه إنما ذكر ذلك بعدما ذكر مكانه الجامع للطعام والشراب ولأنه روى أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه والقول الأول أقرب لأنه أوفق للفظ الآية ولأنه روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره وهو صائم فرده الرسول إليها وقال من أين لك هذا فقالت من شاة لي ثم رده وقال من أين هذه الشاة فقالت اشتريتها بمالي فأخذه ثم إنها جاءته وقالت يا رسول الله لم رددته فقال عليه السلام بذلك أمرت الرسل أن لا يأكلوا إلا طيباً ولا يعملوا إلا صالحاً
أما قوله تعالى مّنَ الطَّيّبَاتِ ففيه وجهان الأول أنه الحلال وقيل طيبات الرزق حلال وصاف وقوام فالحلال الذي لا يعصى الله فيه والصافي الذي لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل والثاني أنه المستطاب المستلذ من المأكل والفواكه فبين تعالى أنه وإن ثقل عليهم بالنبوة وبما ألزمهم القيام بحقها فقد أباح لهم أكل الطيبات كما أباح لغيرهم واعلم أنه سبحانه كما قال لمرسلين وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ فقال للمؤمنين يَعْقِلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ واعلم أن تقديم قوله كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ على قوله وَاعْمَلُواْ صَالِحاً كالدلالة على أن العمل الصالح لا بد وأن يكون مسبوقاً بأكل الحلال فأما قوله إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فهو تحذير من مخالفة ما أمرهم به وإذا كان ذلك تحذيراً للرسل مع علو شأنهم فبأن يكون تحذيراً لغيرهم أولى
أما قوله وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّة ً واحِدَة ً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فقد فسرناه في سورة الأنبياء وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى أنه كما يجب اتفاقهم على أكل الحلال والأعمال الصالحة فكذلك هم متفقون على التوحيد وعلى الاتقاء من معصية الله تعالى فإن قيل لما كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحداً قلنا المراد من الدين ما لا يختلفون فيه من معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يسمى اختلافاً في الدين فكما يقال في الحائض والطاهر من النساء إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا ههنا ويدل على ذلك قوله وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فكأنه نبه بذلك على أن دين الجميع(23/91)
واحد فيما يتصل بمعرفة الله تعالى واتقاء معاصيه فلا مدخل للشرائع وإن اختلفت في ذلك
المسألة الثانية قرىء وإن بالكسر على الاستئناف وإن بمعنى ولأن وإن مخففة من الثقيلة وأمتكم مرفوعة معها
أما قوله تعالى فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً فالمعنى فإن أمم الأنبياء عليهم السلام تقطعوا أمرهم بينهم وفي قوله فَتَقَطَّعُواْ معنى المبالغة في شدة اختلافهم والمراد بأمرهم ما يتصل بالدين
أما قوله زُبُراً فقرىء زبراً جمع زبور أي كتباً مختلفة يعني جعلوا دينهم أدياناً وزبراً قطعاً استعيرت من زبر الفضة والحديد وزبراً مخففة الباء كرسل في رسل قال الكلبي ومقاتل والضحاك يعني مشركي مكة والمجوس واليهود والنصارى
أما قوله تعالى كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فمعناه أن كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه ديناً لنفسه معجب به يرى المحق أنه الرابح وأن غيره المبطل الخاسر ولما ذكر الله تعالى تفرق هؤلاء في دينهم أتبعه بالوعيد وقال فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حين حتى الخطاب لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( فدع هؤلاء الكفار في جهلهم والغمرة الماء الذي يغمر القامة فكأن ما هم فيه من الجهل والحيرة صار غامراً ساتراً لعقولهم ) وعن علي عليه السلام فِى لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ وذكروا في الحين وجوهاً أحدها إلى حين الموت وثانيها إلى حين المعاينة وثالثها إلى حين العذاب والعادة في ذلك أن يذكر في الكلام والمراد به الحالة التي تقترن بها الحسرة والندامة وذلك يحصل إذا عرفهم الله بطلان ما كانوا عليه وعرفهم سوء منقلبهم ويحصل أيضاً عند المحاسبة في الآخرة ويحصل عند عذاب القبر والمساءلة فيجب أن يحمل على كل ذلك
ولما كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أن تلك النعم كالثواب المعجل لهم على أديانهم فبين سبحانه أن الأمر بخلاف ذلك فقال أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ قرىء يمدهم ويسارع بالياء والفاعل هو الله سبحانه وفي المعنى وجهان أحدهما أن هدا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم في المعاصي واستجراراً لهم في زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة في الخيرات وبل للاستدراك لقوله أَيَحْسَبُونَ يعني بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في ذلك أهو استدراج أم مسارعة في الخير وهذه الآية كقوله وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ ( التوبة 85 ) روي عن يزيد بن ميسرة أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء ( أيفرح عبدي أن أبسط له الدنيا وهو أبعد له مني ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني ) ثم تلا أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ وعن الحسن لما أتى عمر بسوار كسرى فأخذه ووضعه في يد سراقة فبلغ منكبه فقال عمر اللهم إني قد علمت أن نبيك عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يصيب مالاً لينفقه في سبيلك فزويت ذلك عنه نظراً ثم إن أبا بكر كان يحب ذلك اللهم لا يكن ذلك مكراً منك بعمر ثم تلا أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ الوجه الثاني وهو أنه سبحانه إنما أعطاهم هذه النعم ليكونوا فارغي البال متمكنين من الاشتغال بكلف الحق فإذا أعرضوا عن الحق والحالة هذه كان لزوم الحجة عليهم أقوى فلذلك قال بَل لاَّ يَشْعُرُونَ(23/92)
إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْية ِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِأايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَائِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
إعلم أنه تعالى لما ذم من تقدم ذكره بقوله أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ ثم قال بَل لاَّ يَشْعُرُونَ بين بعده صفات من يسارع في الخيرات ويشعر بذلك وهي أربعة
الصفة الأولى قوله إِنَّ الَّذِينَ هُم مّنْ خَشْية ِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف فمنهم من قال جمع بينهما للتأكيد ومنهم من حمل الخشية على العذاب والمعنى الذين هم من عذاب ربهم مشفقون وهو قول الكلبي ومقاتل ومنهم من حمل الإشفاق على أثره وهو الدوام في الطاعة والمعنى الذين هم من خشية ربهم دائمون في طاعته جادون في طلب مرضاته والتحقيق أن من بلغ في الخشية إلى حد الإشفاق وهو كمال الخشية كان في نهاية الخوف من سخط الله عاجلاً ومن عقابة آجلاً فكان في نهاية الاحتراز عن المعاصي
الصفة الثانية قوله وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ واعلم أن آيات الله تعالى هي المخلوقات الدالة على وجوده والإيمان بها هو التصديق بها والتصديق بها إن كان بوجودها فذلك معلوم بالضرورة وصاحب هذا التصديق لا يستحق المدح وإن كان بكونها آيات ودلائل على وجود الصانع فذلك مما لا يتوصل إليه إلا بالنظر والفكر وصاحبه لا بد وأن يصير عارفاً بوجود الصانع وصفاته وإذا حصلت المعرفة بالقلب حصل الإقرار باللسان ظاهراً وذلك هو الإيمان
الصفة الثالثة قوله وَالَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله تعالى لأن ذلك داخل في قوله وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ بل المراد منه نفي الشرك الخفي وهو أن يكون مخلصاً في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله تعالى وطلب رضوانه والله أعلم
الصفة الرابعة قوله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ معناه يعطون ما أعطوا فدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان ذلك من حق الله تعالى كالزكاة والكفارة وغيرهما أو من حقوق الآدميين كالودائع والديون وأصناف الإنصاف والعدل وبين أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه وقلوبهم وجلة لأن من يقدم على العبادة وهو وجل من تقصيره وإخلاله بنقصان أو غيره فإنه يكون لأجل ذلك الوجل مجتهداً في أن يوفيها حقها في الأداء وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق وهو على ذلك يخاف الله تعالى فقال عليه الصلاة والسلام ( لا يا ابنة(23/93)
الصديق ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله تعالى )
واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي
والصفة الثانية دلت على ترك الرياء في الطاعات
والصفة الثالثة دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير وذلك هو نهاية مقامات الصديقين رزقنا الله سبحانه الوصول إليها فإن قيل أفتقولون إن قوله وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ يرجع إلى يؤتون أو يرجع إلى كل ما تقدم من الخصال قلنا بل الأولى أن يرجع إلى الكل لأن العطية ليست بذلك أولى من سائر الأعمال إذ المراد أن يؤدي ذلك على وجل من تقصيره فيكون مبالغاً في توفيته حقه فأما إذا قرىء وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا ءاتَواْ فالقول فيه أظهر إذ المراد بذلك أي شيء أتوه وفعلوه من تحرز عن معصية وإقدام على إيمان وعمل فإنهم يقدمون عليه مع الوجل ثم إنه سبحانه بين علة ذلك الوجل وهي علمهم بأنهم إلى ربهم راجعون أي للمجازاة والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال وأن هناك لا تنفع الندامة فليس إلا الحكم القاطع من جهة مالك الملك ثم إنه سبحانه لما ذكر هذه الصفات للمؤمنين المخلصين قال بعده أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وفيه وجهان أحدهما أن المراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها لئلا تفوت عن وقتها ولكيلا تفوتهم دون الاحترام والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا أنواع النفع ووجوه الإكرام كما قال فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَة ِ ( آل عمران 148 ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّة َ وَالْكِتَابَ ( العنبكوت 27 ) لأنهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين وقرىء يسرعون في الخيرات
أما قوله وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ فالمعنى فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها أو وهم لها سابقون أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر والمعنى وهم لها كما يقال أنت لها وهي لك ثم قال سابقون أي وهم سابقون
وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَة ٍ مِّنْ هَاذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذالِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ لاَ تَجْأرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين من أحكام أعمال العباد(23/94)
فالأول قوله وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وفي الوسع قولان أحدهما أنه الطاقة عن المفضل والثاني أنه دون الطاقة وهو قول المعتزلة ومقاتل والضحاك والكلبي واحتجوا عليه بأن الوسع إنما سمى وسعاً لأنه يتسع عليه فعله ولا يصعب ولا يضيق فبين أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما عملوا قال مقاتل من لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً ومن لم يستطع جالساً فليوم إيماء لأنا لا نكلف نفساً إلا وسعها واستدلت المعتزلة به في نفي تكليف ما لا يطاق وقد تقدم القول فيه الثاني قوله وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ونظيره قوله هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ ( الجاثية 29 ) وقوله لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 )
واعلم أنه تعالى شبه الكتاب بمن يصدر عنه البيان فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان محقاً فإن قيل هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إما أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوزين ذلك عليه فإن أحالوه عليه فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد وإن جوزوه عليه لم يثقوا بذلك الكتاب لتجويزهم أنه سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل فعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب قلنا يفعل الله ما يشاء وعلى أنه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة
وأما قوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ فنظيره قوله وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( الكهف 49 ) فقالت المعتزلة الظلم إما أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من الثواب أو بأن يعذب على ما لم يعلم أو بأن يكلفهم ما لا يطيقون فتكون الآية دالة على كون العبد موجداً لفعله وإلا لكان تعذيبه عليه ظلماً ودالة على أنه سبحانه لا يكلف ما لا يطاق الجواب أنه لما كلف أبا لهب أن يؤمن والإيمان يقتضي تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أن أبا لهب لا يؤمن فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن فيلزمكم كل ما ذكرتموه
وأما قوله تعالى بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَة ٍ مّنْ هَاذَا ففيه قولان أحدهما أنه راجع إلى الكفار وهم الذين يليق بهم قوله بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَة ٍ مّنْ هَاذَا ولا يليق ذلك بالمؤمنين إذ المراد في غمرة من هذا الذي بيناه في القرآن أو من هذا الكتاب الذي ينطق بالحق أو من هذا الذي هو وصف المشفقين ولهم أي لهؤلاء الكفار أعمال من دون ذلك أي أعمال سوى ذلك أي سوى جهلهم وكفرهم ثم قال بعضهم أراد أعمالهم في الحال وقال بعضهم بل أراد المستقبل وهذا أقرب لأن قوله هُمْ لَهَا عَامِلُونَ إلى الاستقبال أقرب وإنما قال هُمْ لَهَا عَامِلُونَ لأنها مثبتة في علم الله تعالى وفي حكم الله وفي اللوح المحفوظ فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الله من الشقاوة القول الثاني وهو اختيار أبي مسلم أن هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه سبحانه قال بعد وصفهم وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يحفظ أعمالهم يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بل نوفر عليهم ثواب كل أعمالهم بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَة ٍ مّنْ هَاذَا هو أيضاً وصف لهم بالحيرة كأنه قال وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في جعل أعمالهم مقبولة أو مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أيضاً من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه إما أعمالاً قد عملوها في الماضي أو سيعملونها في المستقبل ثم إنه سبحانه رجع بقوله(23/95)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إلى وصف الكفار
واعلم أن قول أبي مسلم أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين كان أولى من رده إلى ما بعد منه خصوصاً وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أن أعماله محفوظة كما قد يحذر بذلك من الشر وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أورده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر فإن قيل فما المراد بقوله من هذا وهو إشارة إلى ماذا قلنا هو إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم مع أنهما مستوليان على قلوبهم
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ فقال صاحب ( الكشاف ) حتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية
واعلم أنه لا شبهة ( في ) أن الضمير في مترفيهم راجع إلى من تقدم ذكره من الكفار لأن العذاب لا يليق إلا بهم وفي هذا العذاب وجهان أحدهما أراد بالعذاب ما نزل بهم يوم بدر والثاني أنه عذاب الآخرة ثم بين سبحانه أن المنعمين منهم إذا نزل بهم العذاب يجأرون أي يرتفع صوتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة ما هم عليه ويقال لهم على وجه التبكيت لاَ تَجْئَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ فلا يدفع عنكم ما يريد إنزاله بكم دل بذلك سبحانه على أنهم سينتهون يوم القيامة إلى هذه الدرجة من الحسرة والندامة وهو كالباعث لهم في الدنيا على ترك الكفر والإقدام على الإيمان والطاعة فإنهم الآن ينتفعون بذلك
قَدْ كَانَتْ ءَايَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الاٌّ وَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّة ٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَازِقِينَ
اعلم أنه سبحانه لما بين فيما قبل أنه لا ينصر أولئك الكفار أتبعه بعلة ذلك وهي أنه متى تليت آيات الله عليهم أتوا بأمور ثلاثة أحدها أنهم كانوا على أعقابهم ينكصون وهذا مثل يضرب فيمن تباعد عن الحق كل(23/96)
التباعد وهو قوله فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ أي تنفرون عن تلك الآيات وعمن يتلوها كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إلى ورائه وثانيها قوله مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ والهاء في به إلى ماذا تعود فيه وجوه أولها إلى البيت العتيق أو الحرم كانوا يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم والذي يسوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وإن لم يكن لهم مفخرة إلا أنهم ولاته والقائمون به وثانيها المراد مستكبرين بهذا التراجع والتباعد وثالثها أن تتعلق الباء بسامراً أي يسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه وهذا هو الأمر الثالث الذي يأتون به عند تلاوة القرآن عليهم وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويهجرون والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع وقرىء سمراً وسامراً يهجرون من أهجر في منطقه إذا أفحش والهجر بالفتح الهذيان والهجر بالضم الفحش أو من هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هدى ثم إنه سبحانه لما وصف حالهم رد عليهم بأن بين أن إقدامهم على هذه الأمور لا بد وأن يكون لأحد أمور أربعة أحدها أن لا يتأملوا في دليل ثبوته وهو المراد من قوله أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ فبين أن القول الذي هو القرآن كان معروفاً لهم وقد مكنوا من التأمل فيه من حيث كان مبايناً لكلام العرب في الفصاحة ومبرأ عن التناقض في طول عمره ومن حيث ينبه على ما يلزمهم من معرفة الصانع ومعرفة الوحدانية فل لا يتدبرون فيه ليتركوا الباطل ويرجعوا إلى الحق وثانيها أن يعتقدوا أن مجيء الرسل أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله أَمْ جَاءهُمْ تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ وذلك لأنهم عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تتواتر على الأمم وتظهر المعجزات عليها وكانت الأمم بين مصدق ناج وبين مكذب هالك بعذاب الاستئصال أفما دعاهم ذلك إلى تصديق الرسول وثالثها أن لا يكونوا عالمين بديانته وحسن خصاله قبل ادعائه للنبوة وهو المراد من قوله أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ نبه سبحانه بذلك على أنهم عرفوا منه قبل ادعائه الرسالة كونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار من الكذب والأخلاق الذميمة فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على تسميته بالأمين ورابعها أن يعتقدوا فيه الجنون فيقولون إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه وهو المراد من قوله أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّة ٌ وهذا أيضاً ظاهر الفساد لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعفل الناس والمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة والشرائع الكاملة ولقد كان من المبغضين له عليه السلام من سماه بذلك وفيه وجهان أحدهما أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم فنسبوه إلى الجنون لذلك والثاني أنهم قالوا ذلك إيهاماً لعوامهم لكي لا ينقادوا له فأوردوا ذلك مورد الاستحقار له ثم إنه سبحانه بعد أن عد هذه الوجوه ونبه على فسادها قال بَلْ جَاءهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ من حيث تمسكوا بالتقليد ومن حيث علموا أنهم لو أقروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لزالت مناصبهم ولاختلت رياساتهم فلذلك كرهوه فإن قيل قوله وَأَكْثَرُهُمُ فيه دليل على أن أقلهم لا يكرهون الحق قلنا كان فيهم من يترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه وأن يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق كما حكى عن أبي طالب ثم بين سبحانه أن الحق لا يتبع الهوى بل الواجب على المكلف أن يطرح الهوى ويتبع الحق فبين سبحانه أن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم فقال وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَن فِيهِنَّ وفي تفسيره وجوه الأول أن القوم كانوا يرون أن الحق في اتخاذ آلهة مع الله تعالى لكن لو(23/97)
صح ذلك لوقع الفساد في السموات والأرض على ما قررناه في دليل التمانع في قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) والثاني أن أهواءهم في عبادة الأوثان وتكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهما منشأ المفسدة والحق هو الإسلام فلو اتبع الإسلام قولهم لعلم الله حصول المفاسد عند بقاء هذا العالم وذلك يقتضي تخريب العالم وإفناءه والثالث أن آراءهم كانت متناقضة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض ولاختل نظام العالم عن القفال
أما قوله بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فقيل إنه القرآن والأدلة وقيل بل شرفهم وفخرهم بالرسول وكلا القولين متقارب لأن في مجيء الرسول بيان الأدلة وفي مجيء الأدلة بيان الرسول فأحدهما مقرون بالآخر وقيل الذكر هو الوعظ والتحذير وقيل هو الذي كانوا يتمنونه ويقولون لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاْوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ( الصافات 168 169 ) وقرىء بذكراهم ثم بين سبحانه أنه عليه الصلاة والسلام لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سبباً للنفرة فقال أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وقرىء خراجاً قال أبو عمرو بن العلاء الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه والوجه أن الخرج أخص من الخراج كقولك خراج القرية وخرج الكردة زيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذلك حسنت قراءة من قرأ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ يعني أم تسألهم على هدايتهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخلق خير فنبه سبحانه بذلك على أن هذه التهمة بعيدة عنه فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله لأجلها فنبه سبحانه بهذه الآيات على أنهم غير معذورين ألبته وأنهم محجوجون من جميع الوجوه قال الجبائي دل قوله تعالى وَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ على أن أحداً من العباد لا يقدر على مثل نعمه ورزقه ولا يساويه في الإفضال على عباده ودل أيضاً على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضاً ولولا ذلك لما جاز أن يقول وَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
إعلم أنه سبحانه وتعالى لما زيف طريقة القوم أتبعه ببيان صحة ما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ لأن ما دل الدليل على صحته فهو في باب الاستقامة أبلغ من الطريق المستقيم وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ عَنِ الصّراطِ لَنَاكِبُونَ أي لعادلون عن هذا الطريق لأن طريق الاستقامة واحدة وما يخالفه فكثير
أما قوله تعالى وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ ففيه وجوه أحدها المراد ضرر الجوع وسائر مضار الدنيا وثانيها المراد ضرر القتل والسبي وثالثها أنه ضرر الآخرة وعذابها فبين أنهم قد بلغوا في التمرد والعناد المبلغ الذي لا مرجع فيه إلى دار الدنيا وأنهم لَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) لشدة لجاجهم فيما هم عليه من الكفر(23/98)
أما قوله تعالى لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ فالمعنى لتمادوا في ضلالهم وهم متحيرون
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالاٌّ فْئِدَة َ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِى يُحَاى ِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
اختلفوا في قوله وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ على وجوه أحدها أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منغ الميرة عن أهل مكة فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا الجلود والجيف فجاء أبو سفيان إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ألست تزعم أنك بعثت رحمة العالمين ثم قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله هذه الآية والمعنى أخذناهم بالجوع فما أطاعوا وثانيها هو الذي نالهم يوم بدر من القتل والأسر يعني أن ذلك مع شدته ما دعاهم إلى الإيمان عن الأصم وثالثها المراد من عذب من الأمم الخوالي فَمَا اسْتَكَانُواْ أي مشركي العرب لربهم عن الحسن ورابعها أن شدة الدنيا أقرب إلى المكلف من شدة الآخرة فإذا لم تؤثر فيهم شدة الدنيا فشدة الآخرة كذلك وهذا يدل على أنهم لَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 )
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ ففيه وجهان أحدهما حتى إذا فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من القتل والأسر والثاني إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون كقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ مُّبْلِسُونَ والإبلاس اليأس من كل خير وقيل السكون مع التحسير وههنا سؤالات
السؤال الأول ما وزن استكان الجواب استفعل من السكون أي انتقل من كون إلى كون كما قيل استحال إذا انتقل من حال إلى حال ويجوز أن يكون افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه
السؤال الثاني لم جاء اسْتَكَانُواْ بلفظ الماضي و يَتَضَرَّعُونَ بلفظ المستقبل الجواب لأن المعنى امتحناهم فما وجدنا منهم عقيب المحنة استكانة وما من عادة هؤلاء أن يتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد وقرىء فتحنا
السؤال الثالث العطف لا يحسن إلا مع المجانسة فأي مناسبة بين قوله وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وبين ما قبله الجواب كأنه سبحانه لما بين مبالغة أولئك الكفار في الأعراض عن سماع الأدلة(23/99)
ورؤية العبر والتأمل في الحقائق قال للمؤمنين وهو الذي أعطاكم هذه الأشياء ووقفكم عليها تنبيهاً على أن من لم يستعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها كما قال تعالى فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَى ْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِئَايَاتِ اللَّهِ تنبيهاً على أن حرمان أولئك الكفار ووجدان هؤلاء المؤمنين ليس إلا من الله واعلم أنه سبحانه بين عظيم نعمه من وجوه أحدها بإعطاء السمع والأبصار والأفئدة وخص هذه الثلاثة بالذكر لأن الاستدلال موقوف عليها ثم بين أنه يقل منهم الشاكرون قال أبو مسلم وليس المراد أن لهم شكراً وإن قل لكنه كما يقال للكفور الجاحد للنعمة ما أقل شكر فلان وثانيها قوله وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ قيل في التفسير خَلَقَكُمْ قال أبو مسلم ويحتمل بسطكم فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله تعالى ذُرّيَّة َ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ( الإسراء 3 ) فنقول هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين ويحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشراً إليه لا بمعنى المكان وثالثها قوله وَهُوَ الَّذِى يُحى ِ وَيُمِيتُ أي نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة وأنه سبحانه وإن أنعم بها فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب ورابعها قوله وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ووجه النعمة بذلك معلوم ثم إنه سبحانه حذر من ترك النظر في هذه الأمور فقال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ لأن ذلك دلالة الزجر والتهديد وقرىء أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاٌّ وَّلُونَ قَالُوا أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا هَاذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أنه سبحانه لما أوضح القول في دلائل التوحيد عقبه بذكر المعاد فقال بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاْوَّلُونَ في إنكار البعث مع وضوح الدلائل ونبه بذلك على أنهم إنما أنكروا ذلك تقليداً للأولين وذلك يدل على فساد القول بالتقليد ثم حكى الشبهة عنهم من وجهين أحدهما قولهم أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ وهو مشهور وثانيهما قولهم لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هَاذَا مِن قَبْلُ كأنهم قالوا إن هذا الوعد كما وقع منه عليه الصلاة والسلام فقد وقع قديماً من الأنبياء ثم لم يوجد مع طول العهد فظنوا أن الإعادة(23/100)
تكون في دار الدنيا ثم قالوا لما كان كذلك فهو من أساطير الأولين والأساطير جمع أسطار والأسطار جمع سطر أي ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له وجمع أسطورة أوفق
قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَى ْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود من هذه الآيات الرد على منكري الإعادة وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان وذلك لأن القوم كانوا مقرين بالله تعالى فقالوا نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى ثم إنه سبحانه احتج عليهم بأمور ثلاثة أحدها قوله قُل لّمَنِ الاْرْضُ وَمَن فِيهَا ووجه الاستدلال به على الإعادة أنه تعالى لما كان خلقاً للأرض ولمن فيها من الأحياء وخالقاً لحياتهم وقدرتهم وغيرها فوجب أن يكون قادراً على أن يعيدهم بعد أن أفناهم ووجه الاستدلال به على نفي عبادة عبادة الأوثان من حيث إن عبادة من خلقكم وخلق الأرض وكل ما فيها من النعم هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع وقوله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ معناه الترغيب في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه وثانيها قوله مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ووجه الاستدلال على الأمرين كما تقدم وإنما قال أَفَلاَ تَتَّقُونَ تنبيهاً على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا بترك عبادة الأوثان والاعتراف بجواز الإعادة وثالثها قوله تعالى قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَى ْء
إعلم أنه سبحانه لما ذكر الأرض أولاً والسماء ثانياً عمم الحكم ههنا فقال من بيده ملكوت كل شيء ويدخل في الملكوت الملك والملك على سبيل المبالغة وقوله وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ يقال أجرت فلاناً على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحداً
أما قوله تعالى فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فالمعنى أنى تخدعون عن توحيده وطاعته والخادع هو الشيطان والهوى ثم بين تعالى بقوله بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقّ أنه قد بالغ في الحجاج عليهم بهذه الآيات وغيرها وهم مع ذلك كاذبون وذلك كالتوعد والتهديد وقرىء أتيتهم وأتيتهم بالضم والفتح وههنا سؤالات
السؤال الأول قرىء قُل لِلَّهِ في الجواب الأول باللام لا غير وقرىء الله في الأخيرين بغير اللام في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام وباللام في مصاحف أهل البصرة فما الفرق الجواب لا فرق في المعنى لأن قولك من ربه ولمن هو في معنى واحد
السؤال الثاني كيف قال إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ثم حكى عنهم سيقولون الله وفيه تناقض الجواب لا تناقض لأن قوله إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ لا ينفي عملهم بذلك وقد يقال مثل ذلك في الحجاج على وجه التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم بما يورد من ذلك
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ السَّيِّئَة َ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ(23/101)
إعلم أنه سبحانه ادعى أمرين أحدهما قوله مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وهو كالتنبيه على أن ذلك من قول هؤلاء الكفار فإن جمعاً منهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله والثاني قوله وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ وهو قولهم باتخاذ الأصنام آلهة ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر الدليل المعتمد بقوله إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ والمعنى لانفرد على ( ذلك ) كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبد به ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزاً عن ملك الآخر ولغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متميزة وهم متغالبون وحيث لم تروا أثر التمايز في الممالك والتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء فإن قيل إِذَا لا يدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب فكيف وقع قوله لذهب جزاء وجواباً ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل قلنا الشرط محذوف وتقديره ولو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ عليه ثم إنه سبحانه نزه نفسه عن قولهم بقوله سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من إثبات الولد والشريك
أما قوله عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فقرىء بالجر صفة لله وبالرفع خبر مبدتأ محذوف والمعنى أنه سبحانه هو المختص بعلم الغيب والشهادة فغيره وإن علم الشهادة فلن يعلم معها الغيب والشهادة التي يعلمها لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم فلذلك قال فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم أمره سبحانه بالانقطاع إليه وأن يدعوه بقوله رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قال صاحب ( الكشاف ) ما والنون مؤكدتان أي إن كان ولا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني قريناً لهم ولا تعذبني بعذابهم فإن قيل كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم قلنا يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه وما أحسن قول الحسن في قول الصديق وليتكم ولست بخيركم مع أنه كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه وإنما ذكر رب مرتين مرة قبل الشرط ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع
أما قوله تعالى وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ففيه قولان أحدهما أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب ويضحكون منه فقيل لهم إن الله قادر على إنجاز ما وعد ويحتمل عذاباً في الدنيا مؤخراً(23/102)
عن أيامه عليه السلام فلذلك قال بعضهم هو في أهل البغى وبعضهم في الكفار الذين قوتلوا بعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أن المراد عذاب الآخرة
أما قوله ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ السَّيّئَة َ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ فالمراد منه أن الأولى به عليه السلام أن يعامل به الكفار فأمر باحتمال ما يكون منهم من التكذيب وضروب الأذى وأن يدفعه بالكلام الجميل كالسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه وبين له أنه أعلم بحالهم منه عليه السلام وأنه سبحانه لما لم يقطع نعمه عنهم فينبغي أن يكون هو عليه السلام مواظباً على هذه الطريقة قال صاحب ( الكشاف ) قوله ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ السَّيّئَة َ ( المؤمنون 96 ) أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل والمعنى الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الطاقة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء السيئة وقيل هذه الآية منسوخة بآية السيف وقيل محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة
وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَة ٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
اعلم أنه سبحانه لما أدب رسوله بقوله ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ السَّيّئَة َ ( المؤمنون 96 ) أتبعه بما به يقوى على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين أحدهما من همزات الشياطين والهمزات جمع الهمزة وهو الدفع والتحريك الشديد وهو كالهز والأز ومنه مهماز الرائض وهمزاته هو كيده بالوسوسة ويكون ذلك منه في الرسول بوجهين أحدهما بالوسوسة والآخر بأن يبعث أعداءه على إيذائه وكذلك القول في المؤمنين لأن الشيطان يكيدهم بهذين الوجهين ومعلوم أن من ينقطع إلى الله تعالى ويسأله أن يعيذه من الشيطان فإنه يجب أن يكون متذكراً متيقظاً فيما يأتي ويذر فيكون نفس هذا الانقطاع إلى الله تعالى داعية إلى التمسك بالطاعة وزاجراً عن المعصية قال الحسن كان عليه السلام يقول بعد استفتاح الصلاة ( لا إله إلا الله ثلاثاً الله أكبر ثلاثاً اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفثه ونفخه فقيل يا رسول الله وما همزه قال الموتة التي تأخذ ابن آدم أي الجنون الذي يأخذ ابن آدم قيل فما نفثه قال الشعر قيل فما نفخه قال الكبر وثانيها قوله وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ وفيه وجهان أحدهما أن يحضرون عند قراءة القرآن لكي يكون متذكراً فيقل سهوه وقال آخرون بل استعاذ بالله من نفس حضورهم لأنه الداعي إلى وسوستهم كما يقول المرء أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد اشتكى إليه رجل أرقاً يجده فقال ( إذا أردت النوم فقل أعوذ بالله وبكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده(23/103)
ومن همزات الشياطين وأن يحضرون )
أما قوله حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) حتى متعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أنه يستزله عن الحلم والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في قوله حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ فالأكثرون على أنه راجع إلى الكفار وقال الضحاك كنت جالساً عند ابن عباس فقال من لم يترك ولم يحج سأل الرجعة عند الموت فقال واحد إنما يسأل ذلك الكفار فقال ابن عباس رضي الله عنهما أنا أقرأ عليك به قرآناً وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ( المنافقون 10 ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ) والأقرب هو الأول إذا عرف المؤمن منزلته في الجنة فإذا شاهدها لا يتمنى أكثر منها ولولا ذلك لكان أدونهم ثواباً يغتم بفقد ما يفقد من منزلة غيره وأما ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من قوله وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فهو إخبار عن حال الحياة في الدنيا لا عن حال الثواب فلا يلزم على ما ذكرنا
المسألة الثالثة اختلفوا في وقت مسألة الرجعة فالأكثرون على أنه يسأل في حال المعاينة لأنه عندها يضطر إلى معرفة الله تعالى وإلى أنه كان عاصياً ويصير ملجأ إلى أنه لا يفعل القبيح بأن يعلمه الله تعالى أنه لو رامه لمنع منه ومن هذا حاله يصير كالممنوع من القبائح بهذا الإلجاء فعند ذلك يسأل الرجعة ويقول رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ وقال آخرون بل يقول ذلك عند معاينة النار في الآخرة ولعل هذا القائل إنما ترك ظاهر هذه الآية لما أخبر الله تعالى في كتابه عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة لكن ذلك مما لا يمنع أن يكونوا سائلين الرجعة في حال المعاينة والله تعالى يقول حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ فعلق قولهم هذا بحال حضور الموت وهو حال المعاينة فلا وجه لترك هذا الظاهر
المسألة الرابعة اختلفوا في قوله سبحانه وتعالى ارْجِعُونِ من المراد به فقال بعضهم الملائكة الذين يقبضون الأرواح وهم جماعة فلذلك ذكره بلفظ الجمع وقال آخرون بل المراد هو الله تعالى لأن قوله رب بمنزلة أن يقول يا رب وإنما ذكر بلفظ الجمع للتعظيم كما يخاطب العظيم بلفظه فيقول فعلنا وصنعنا وقال الشاعر
فإن شئت حرمت النساء سواكم
ومن يقول بالأول يجعل ذكر الرب للقسم فكأنه عند المعاينة قال بحق الرب ارجعون وههنا سؤالات
السؤال الأول كيف يسألون الرجعة وقد علموا صحة الدين بالضرورة ومن الدين أن لا رجعة الجواب أنه وإن كان كذلك فلا يمتنع أن يسألوه لأن الاستعانة بهذا الجنس من المسألة تحسن وإن علم أنه(23/104)
لا يقع فأما إرادته للرجعة فلا يمتنع أيضاً على سبيل ما يفعله المتمني
السؤال الثاني ما معنى قوله لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً أفيجوز أن يسأل الرجعة مع الشك الجواب ليس المراد بلعل الشك فإنه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطى ما سأل بل هو مثل من قصر في حق نفسه وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير فيقول مكنوني من التدارك لعلي أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازماً بأنه سيتدارك ويحتمل أيضاً أن الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين فقد قال تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 )
السؤال الثالث ما المراد بقوله فيما تركت الجواب قال بعضهم فيما خلفت من المال ليصير عند الرجعة مؤدياً لحق الله تعالى منه والمعقول من قوله تَرَكْتُ التركة وقال آخرون بل المراد أعمل صالحاً فيما قصرت فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق وهذا أقرب كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه ويطيعوا في كل ما عصوا
السؤال الرابع ما المراد بقوله كلا الجواب فيه قولان أحدهما أنه كالجواب لهم في المنع مما طلبوا كما يقال لطالب الأمر المستبعد هيهات روي أنه عليه السلام قال لعائشة رضي الله عنها ( إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان لا بل قدوماً على الله وأما الكافر فيقال له نرجعك فيقول ارجعون فيقال له إلى أي شيء ترغب إلى جمع المال أو غرس الغراس أو بناء البنيان أو شق الأنهار فيقول لعلي أعمل صالحاً فيما تركتا فيقول فيقول الجبار كلا ) الثاني يحتمل أن يكون على وجه الإخبار بأنهم يقولون ذلك وأن هذا الخبر حق فكأنه قال حقاً إنها كلمة هو قائلها والأقرب الأول
أما قوله إِنَّهَا كَلِمَة ٌ هُوَ ففيه وجهان الأول أنه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه الثاني أنه قائلها وحده ولا يجاب إليها ولا يسمع منه
أما قوله تعالى قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فالبرزخ هو الحاجز والمانع كقوله في البحرين بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 20 ) أي فهؤلاء صائرون إلى حالة مانعة من التلافي حاجزة عن الاجتماع وذلك هو الموت وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث إنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة
فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(23/105)
إعلم أنه سبحانه لما قال وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( المؤمنون 100 ) ذكر أحوال ذلك اليوم فقال فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ وفيه ثلاثة أقوال أحدها أن الصور آلة إذا نفخ فيها يظهر صوت عظيم جعله الله تعالى علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قرن ينفخ فيه وثانيها أن المراد من الصور مجموع الصور والمعنى فإذا نفخ في الصور أرواحها وهو قول الحسن فكان يقرأ بفتح الواو والفتح والكسر عن أبي رزين وهو حجة لمن فسر الصور بجمع صورة وثالثها أن النفخ في الصور استعارة والمراد منه البعث والحشر والأول أولى للخبر وفي قوله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ( الزمر 68 ) دلالة على أنه ليس المراد نفع الروح والإحياء لأن ذلك لا يتكرر
أما قوله فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ فمن المعلوم أنه سبحانه إذا أعادهم فالأنساب ثابتة لأن المعاد هو الولد والوالد فلا يجوز أن يكون المراد نفي النسب في الحقيقة بل المراد نفي حكمه وذلك من وجوه أحدها أن من حق النسب أن يقع به التعاطف والتراحم كما يقال في الدنيا أسألك بالله والرحم أن تفعل كذا فنفى سبحانه ذلك من حيث إن كل أحد من أهل النار يكون مشغولاً بنفسه وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب وهكذا الحال في الدنيا لأن الرجل متى وقع في الأمر العظيم من الآلام ينسى ولده ووالده وثانيها أن من حق النسب أن يحصل به التفاخر في الدنيا وأن يسأل بعضهم عن كيفية نسب البعض وفي الآخرة لا يتفرغون لذلك وثالثها أن يجعل ذلك استعارة عن الخوف الشديد فكل امرىء مشغول بنفسه عن بنيه وأخيه وفصيلته التي تؤويه فكيف بسائر الأمور قال ابن مسعود رضي الله عنه يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وينادي مناد ألا إن هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها أو أبيها أو أخيها أو ابنها أو زوجها فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ وعن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء ثم تلا يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ ( عبس 34 ) وعن الشعبي قال قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله تعالى يقول فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ فقال عليه الصلاة والسلام ( ثلاث مواطن تذهل فيها كل نفس حين يرمي إلى كل إنسان كتابه وعند الموازين وعلى جسر جهنم ) وطعن بعض الملحدة فقال قوله وَلاَ يَتَسَاءلُونَ وقوله وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( المعارج 10 ) يناقض قوله وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ( الصافات 27 ) وقوله يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ( يونس 45 ) الجواب عنه من وجوه أحدها أن يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ففيه أزمنة وأحوال مختلفة فيتعارفون ويتساءلون في بعضها ويتحيرون في بعضها لشدة الفزع وثانيها أنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شغلوا بأنفسهم عن التساؤل فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ ( يس 52 ) وثالثها المراد لا يتساءلون بحقوق النسب ورابعها أن قوله لاَ يَتَسَاءلُونَ صفة للكفار وذلك لشدة خوفهم(23/106)
أما قوله فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها واعلم أنه سبحانه قد بين أن بعد النفخ في الصور تكون المحاسبة وشرح أحوال السعداء والأشقياء وقيل لما بين سبحانه أنه ليس في الآخرة إلا ثقل الموازين وخفتها وجب أن يكون كل مكلف لا بد وأن يكون من أهل الجنة وأهل الفلاح أو من أهل النار فيبطل بذلك القول بأن فيهم من لا يستحق الثواب والعقاب أو من يتساوى له الثواب والعقاب ثم إنه سبحانه شرح حال السعداء بقوله فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( المؤمنون 102 ) وفي الموازين أقوال أحدها أنه استعارة من العدل وثانيها أن الموازين هي الأعمال الحسنة فمن أتي بما له قدر وخطر فهو الفائز الظافر ومن أتى بما لا وزن له كقوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْانُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ( النور 39 ) فهو خالد في جهنم قال ابن عباس رضي الله عنهما الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال أي الصالحات التي لها وزن وقدر عند الله تعالى من قوله فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً ( الكهف 105 ) أي قدراً وثالثها أنه ميزان له لسان وكفتان يوزن فيه الحسنات في أحسن صورة والسيئات في أقبح صورة فمن ثقلت حسناته سيق إلى الجنة ومن ثقلت سيئاته فإلى النار وتمام الكلام في هذا الباب قد تقدم في سورة الأنبياء عليهم السلام وأما الأشقياء فقد وصفهم الله تعالى بأمور أربعة أحدها أنهم خسروا أنفسهم قال ابن عباس رضي الله عنهما غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين وقيل امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب وثانيها قوله فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ودلالته على خلود الكفار في النار بينة قال صاحب ( الكشاف ) فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ بدل من خسروا أنفسهم أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف وثالثها قوله تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قال ابن عباس رضي الله عنهما أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم قال الزجاج اللفح والنفخ واحد إلا أن اللفح أشد تأثيراً ورابعها قوله وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ والكلوح أن تتقلص الشفتان ويتباعدا عن الأسنان كما ترى الرؤوس المشوية وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته ) وقرىء ( كلحون ) ثم إنه سبحانه لما شرح عذابهم حكى ما يقال لهم عند ذلك تقريعاً وتوبيخاً وهو قوله تعالى أَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ ثم إنكم كنتم تكذبون بها مع وضوحها فلا جرم صرتم مستحقين لما أنتم فيه من العذاب الأليم قالت المعتزلة الآية تدل على أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب لسوء أفعالهم ولو كان فعل العباد بخلق الله تعالى لما صح ذلك والجواب أن القادر على الطاعة والمعصية إن صدرت المعصية عنه لا لمرجح ألبتة كان صدورها عنه اتفاقياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق العقاب وإن كان لمرجح فذاك المرجح ليس من فعله وإلا لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عند اضطرارياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق الثواب
قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ(23/107)
اعلم أنه سبحانه لما قال أَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ ( المؤمنون 105 ) ذكروا ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين الأول قولهم رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) غلبت علينا ملكتنا من قولك غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك والشقاوة سوء العاقبة قرىء ( شقوتنا ) و ( شقاوتنا ) بفتح الشين وكسرها فيهما قال أبو مسلم الشقوة من الشقاء كجرية الماء والمصدر الجري وقد يجيء لفظ فعله والمراد به الهيئة والحال فيقول جلسة حسنة وركبة وقعدة وذلك من الهيئة وتقول عاش فلان عيشة طيبة ومات ميتة كريمة وهذا هو الحال والهيئة فعلى هذا المراد من الشقوة حال الشقاء
المسألة الثانية قال الجبائي المراد أن طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة فأطلق اسم المسبب على السبب وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم قلنا إنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذات المحرمة وطلب تلك اللذات حصل باختيارهم أو لا باختيارهم فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث فإن استغنى عن المؤثر فلم لا يجوز في كل الحوادث ذلك وحينئذ ينسد عليك باب إثبات الصانع وإن افتقر إلى محدث فمحدثه إما العبد أو الله تعالى فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه أحدها أن قدرة العبد صالحة للفعل والترك فإن توقف صدور تلك الإرادة عنها إلى مرجح آخر عاد الكلام فيه ولزم التسلسل وإن لم يتوقف على المرجح فقد جوزت رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وذلك يسد باب إثبات الصانع وثانيها أن العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ولا كيفيتها والجاهل بالشيء لا يكون محدثاً له وإلا لبطلت دلالة الإحكام والإتقان على العلم والثاني أن أحداً في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل بل لا يقصد إلا تحصيل العلم فالكافر ما قصد إلا تحصيل العلم فإن كان الموجد لفعله هو فوجب أن لا يحصل إلا ما قصد إيقاعه لكنه لم يقصد إلا العلم فكيف حصل الجهل فثبت أن الموجد للدواعي والبواعث هو الله تعالى ثم إن الداعية إن كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة وإن كانت سائقة إلى الشر كانت شقاوة الوجه الثاني لهم في الجواب قولهم وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ وهذا الضلال الذي جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس ذلك التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه ولما بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم وما ذاك إلا(23/108)
خلق الداعي إلى الضلال ثم إن القوم لما أوردوا هذين العذرين قال لهم سبحانه اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ وهذا هو صريح قولنا في أن المناظرة مع الله تعالى غير جائزة بل لا يسأل عما يفعل قال القاضي في قوله رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا دلالة على أنه لا عذر لهم إلا الاعتراف فلو كان كفرهم من خلقه تعالى وبإرادته وعلموا ذلك لكانوا بأن يذكروا ذلك أجدر وإلى العذر أقرب فنقول قد بينا أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم فلا جرم قال لهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ
أما قوله رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ فالمعنى أخرجنا من هذه الدار إلى دار الدنيا فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون فإن قيل كيف يجوز أن يطلبوا ذلك وقد علموا أن عقابهم دائم قلنا يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون ذلك على وجه الغوث والاسترواح
أما قوله وَأَنزَلْنَا فِيهَا فالمعنى ذلوا فيها وانزجروا كما يزجر الكلاب إذا زجرت يقال خسأ الكلب وخسأ بنفسه
أما قوله وَلاَ تُكَلّمُونِ فليس هذا نهياً لأنه لا تكليف في الآخرة بل المراد لا تكلمون في رفع العذاب فإنه لا يرفع ولا يخفف قيل هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا ( السجدة 12 ) فيجابون حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى ( السجدة 13 ) فينادون ألف سنة ثانية رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فيجابون ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِى َ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ( غافر 12 ) فينادون ألف ثالثة وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف 77 ) فيجابون إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ( الزخرف 77 ) فينادون ألفاً رابعة رَبَّنَا أَخْرِجْنَا فيجابون أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ ( إبراهيم 44 ) فينادون ألفاً خامسة أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ( فاطر 37 ) فيجابون أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ ( فاطر 37 ) فينادون ألفاً سادسة رَبّ ارْجِعُونِ ( المؤمنون 99 ) فيجابون وَأَنزَلْنَا فِيهَا ثم بين سبحانه وتعالى أن فزعهم بأمر يتصل بالمؤمنين وهو قوله إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً فوصف تعالى أحد ما لأجه عذبوا وبعدوا من الخير وهو ما عاملوا به المؤمنين وفي حرف أبي إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ بالفتح بمعنى لأنه وقرأ نافع وأهل المدينة وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن وقرأ الباقون بالكسر ههنا وفي ص قال الخليل وسيبويه هما لغتان كدرى ودرى وقال الكسائي والفراء الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول والضم بمعنى السخرية قال مقاتل إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلف كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويضحكون بالفقراء منهم مثل بلال وخباب وعمار وصهيب والمعنى اتخذتموهم هزواً حتى أنسوكم بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذكرى وأكد ذلك بقوله وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ثم بين سبحانه ما يقتضي فيهم الأسف والحسرة بأن وصف ما جازى به أولئك المؤمنين فقال إِنِى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ قرأ حمزة والكسائي أنهم بالكسر والباقون بالفتح فالكسر استئناف أي قد فازوا حيث صبروا فجوزوا بصبرهم أحسن الجزاء والفتح على أنه في موضع المفعول الثاني من جزيت ويجوز أن يكون نصباً بإضمار الخافض أي جزيتهم الجزاء الوافر لأنهم هم الفائزون(23/109)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) في مصاحف أهل الكوفة قَالَ وهو ضمير الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة و قُلْ في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام وهو ضمير الملك أو بعض رؤساء أهل النار
المسألة الثانية الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ فقد كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلاً ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة وهم فيها مخلدون سألهم كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاْرْضِ تنبيهاً لهم على أن ما ظنوه دائماً طويلاً فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا من حيث أيقنوا خلافه فليس الغرض السؤال بل الغرض ما ذكرنا فإن قيل فكيف يصح في جوابهم أن يقولوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ولا يقع من أهل النار الكذب قلنا لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا فَاسْأَلِ الْعَادّينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين وقيل مرادهم بقولهم لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه وعرفوه من أليم العذاب والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في أن السؤال عن أي لبث وقع فقال بعضهم لبثهم إحياؤهم في الدنيا ويكون المراد أنهم أمهلوا حتى تمكنوا من العلم والعمل فأجابوا بأن قدر لبثهم كان يسيراً بناء على أن الله تعالى أعلمهم أن الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار وهذا القائل احتج على قوله بأنهم كانوا يزعمون أن لا حياة سواها فلما أحياهم الله تعالى في النار وعذبوا سألوا عن ذلك توبيخاً لأنه إلى التوبيخ أقرب وقال آخرون بل المراد اللبث في حال الموت واحتجوا على قولهم بأمرين الأول أن قوله في الأرض يفيد الكون في القبر ومن كان حياً فالأقرب أن يقال إنه على الأرض وهذا ضعيف لقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 56 ) الثاني قوله تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَة ٍ ( الروم 55 ) ثم بين سبحانه أنهم كذبوا في ذلك وأخبر عن المؤمنين قولهم لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ( الروم 56 )(23/110)
المسألة الرابعة احتج من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال قوله كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاْرْضِ يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أن مدة مكثهم في الأرض طويلة فما كانوا يقولون لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ والجواب من وجهين أحدهما أن الجواب لا بد وأن يكون بحسب السؤال وإنما سألوا عن موت لا حياة بعده إلا في الآخرة وذلك لا يكون إلا بعد عذاب القبر والثاني يحتمل أن يكونوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض فيصح أن يكون جوابهم لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عند أنفسنا
أما قوله فَاسْأَلِ الْعَادّينَ ففيه وجوه أحدها المراد بهم الحفظة وأنهم كانوا يحصون الأعمال وأوقات الحياة ويحسبون أوقات موتهم وتقدم من تقدم وتأخر من تأخر وهو معنى قول عكرمة فاسأل العادين أي الذين يحسبون وثانيها فاسأل الملائكة الذين يعدون أيام الدنيا وساعاتها وثالثها أن يكون المعنى سل من يعرف عدد ذلك فإنا قد نسيناه ورابعها قرىء العادين بالتخفيف أي الظلمة فإنهم يقولون مثل ما قلنا وخامسها قرىء العاديين أي القدماء المعمرين فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم
أما قوله لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً فالمعنى أنهم قالوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ على معنى أنا لبثنا في الدنيا قليلاً فكأنه قيل لهم صدقتم ما لبثتم فيها إلا قليلاً إلا أنها انقضت ومضت فظهر أن الغرض من هذا السؤال تعريف قلة أيام الدنيا في مقابلة أيام الآخرة
فأما قوله تعالى لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فبين في هذا الوجه أنه أراد أنه قليل لو علمتم البعث والحشر لكنكم لما أنكرتم ذلك كنتم تعدونه طويلاً
ثم بين تعالى ما هو في التوبيخ أعظم بقوله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) عَبَثاً حال أي عابثين كقوله لاَعِبِينَ أو مفعول به أي ما خلقناكم للعبث
المسألة الثانية أنه سبحانه لما شرح صفات القيامة ختم الكلام فيها بإقامة الدلالة على وجودها وهي أنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي والصديق من الزنديق وحينئذ يكون خلق هذا العالم عبثاً وأما الرجوع إلى الله تعالى فالمراد إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه لا أنه رجوع من مكان إلى مكان لاستحالة ذلك على الله تعالى ثم إنه تعالى نزه نفسه عن العبث بقوله فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ والملك هو المالك للأشياء الذي لا يبيد ولا يزول ملكه وقدرته وأما الحق فهو الذي يحق له الملك لأن كل شيء منه وإليه وهو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه وبين أنه لا إله سواه وأن ما عداه فمصيره إلى الفناء وما يفنى لا يكون إلهاً وبين أنه تعالى رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ قال أبو مسلم والعرش ههنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة ويجوز أن يعني به الملك العظيم وقال الأكثرون المراد هو العرش حقيقة وإنما وصفه بالكريم لأن الرحمة تنزل منه والخير والبركة ولنسبته إلى أكرم الأكرمين كما يقال بيت كريم إذا كان ساكنوه كراماً وقرىء الكريم بالرفع ونحوه ذو العرش المجيد(23/111)
وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ
اعلم أنه سبحانه لما بين أنه هو الملك الحق لا إله إلا هو أتبعه بأن من ادعى إلهاً آخر فقد ادعى باطلاً من حيث لا برهان لهم فيه ونبه بذلك على أن كل ما لا برهان فيه لا يجوز إثباته وذلك يوجب صحة النظر وفساد التقليد ثم ذكر أن من قال بذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ كأنه قال إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله تعالى وقرىء أنه لا يفلح بفتح الهمزة ومعناه حسابه عدم الفلاح جعل فاتحة السورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) وخاتمتها إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة ثم أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقول رب اغفر وارحم ويثني عليه بأنه خير الراحمين وقد تقدم بيان أنه سبحانه خير الراحمين فإن قيل كيف تتصل هذه الخاتمة بما قبلها قلنا لأنه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله تعالى والالتجاء إلى دلائل غفرانه ورحمته فإنهما هما العاصمان عن كل الآفات والمخافات وروي أن أول سورة قَدْ أَفْلَحَ وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله وحده وصلاته على خير خلقه سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وعترته وأهل بيته(23/112)
سورة النور
مدنية كلها وهي اثنتان وقيل أربع وستون آية
سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
قرأ العامة سورة بالرفع وقرأ طلحة بن مصرف بالنصب أما الذين قرأوا بالرفع فالجمهور قالوا الابتداء بالنكرة لا يجوز والتقدير هذه سورة أنزلناها أو نقول سورة أنزلناها مبتدأ موصوف والخبر محذوف أي فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها وقال الأخفش لا يبعد الابتداء بالنكرة فسورة مبتدأ وأنزلنا خبره ومن نصب فعلى معنى الفعل يعني اتبعوا سورة أو أتل سورة أو أنزلنا سورة وأما معنى السورة ومعنى الإنزال فقد تقدم فإن قيل الإنزال إنما يكون من صعود إلى نزول فهذا يدل على أنه تعالى في جهة قلنا الجواب من وجوه أحدها أن جبريل عليه السلام كان يحفظها من اللوح المحفوظ ثم ينزلها عليه ( صلى الله عليه وسلم ) فلهذا جاز أن يقال أنزلناها توسعاً وثانيها أن الله تعالى أنزلها من أم الكتاب في السماء الدنيا دفعة واحدة ثم أنزلها بعد ذلك نجوماً على لسان جبريل عليه السلام وثالثها معنى أَنزَلْنَاهَا أي أعطيناها الرسول كما يقول العبد إذا كلم سيده رفعت إليه حاجتي كذلك يكون من السيد إلى العبد الإنزال قال الله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 )
أما قوله وَفَرَضْنَاهَا فالمشهور قراءة التخفيف وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد
أما قراءة التخفيف فالفرض هو القطع والتقدير قال الله تعالى فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) أي قدرتم إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( القصص 85 ) أي قدر ثم إن السورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود وتحصيل الحاصل محال فوجب أن يكون المراد وفرضنا ما بين فيها وإنما قال ذلك لأن أكثر ما في هذه السورة من باب الأحكام والحدود فلذلك عقبها بهذا الكلام وأما قراءة التشديد فقال الفراء التشديد للمبالغة والتكثير أما المبالغة فمن حيث إنها حدود وأحكام فلا بد من المبالغة في إيجابها ليحصل الانقياد لقبولها وأما التكثير فلوجهين أحدهما أن الله تعالى بين فيها أحكاماً مختلفة والثاني أنه سبحانه(23/113)
وتعالى أوجبها على كل المكلفين إلى آخر الدهر أما قوله سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا ففيه وجوه أحدها أنه سبحانه ذكر في أول السورة أنواعاً من الأحكام والحدود وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله وَفَرَضْنَاهَا إشارة إلى الأحكام التي بينها أولاً ثم قوله سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد والذي يؤكد هذا التأويل قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإن الأحكام والشرائع ما كانت معلومة لهم ليؤمروا بتذكيرها أما دلائل التوحيد فقد كانت كالمعلومة لهم لظهورها فأمروا بتذكيرها وثانيها قال أبو مسلم يجوز أن تكون الآيات البينات ما ذكر فيها من الحدود والشرائع كقوله رَبّ اجْعَل لِّى ءايَة ً قَالَ ءايَتُكَ أَن لا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ( آل عمران 41 ) سأل ربه أن يفرض عليه عملاً وثالثها قال القاضي إن السورة كما اشتملت على عمل الواجبات فقد اشتملت على كثير من المباحثات بأن بينها الله تعالى ولما كان بيانه سبحانه لها مفصلاً وصف الآيات بأنها بينات
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فقرىء بتشديد الذال وتخفيفها ومعنى لعل قد تقدم في سورة البقرة قال القاضي لعل بمعنى كي وهذا يدل على أنه سبحانه أراد من جميعهم أن يتذكروا والجواب أنه سبحانه لو أراد ذلك من الكل لما قوى دواعيهم إلى جانب المعصية ولو لم توجد تلك التقوية لزم وقوع الفعل لا لمرجح ولو جاز ذلك لما جاز الاستدلال بالإمكان والحدوث على وجود المرجح ويلزم نفي الصانع وإذا كان كذلك وجب حمل لعل على سائر الوجوه المذكورة في سورة البقرة واعلم أنه سبحانه ذكر في هذه السورة أحكاماً كثيرة
الحكم الأول
الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَة ٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ
إعلم أن قوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه على معنى فيما فرض الله عليكم الزانية والزاني أي فاجلدوهما ويجوز أن يكون الخبر فاجلدوا وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمنه معنى الشرط تقديره التي زنت والذي زنى فاجلدوهما كما تقول من زنا فاجلدوه وقرىء بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وقرىء والزان بلا ياء واعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين أحدهما ما يتعلق بالشرعيات والثاني ما يتعلق بالعقليات ونحن نأتي على البابين بقدر الطاقة إن شاء الله تعالى
النوع الأول الشرعيات واعلم أن الزنا حرام وهو من الكبائر ويدل عليه أمور أحدها أن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ( الفرقان 68 ) وقال وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَسَاء سَبِيلاً ( الإسراء 32 ) وثانيها أنه تعالى أوجب المائة فيها بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر وشرع(23/114)
فيه الرجم ونهى المؤمنين عن الرأفة وأمر بشهود الطائفة للتشهير وأوجب كون تلك الطائفة من المؤمنين لأن الفاسق من صلحاء قومه أخجل وثالثها ما روى حذيفة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة أما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما التي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى وسوء الحساب وعذاب النار ) وعن عبد الله قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله قال ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت ثم أي قال وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك قلت ثم أي قال وأن تزني بحليلة جارك ) فأنزل الله تعالى تصديقها وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ ( الفرقان 68 ) واعلم أنه يجب البحث في هذه الآية عن أمور أحدها عن ماهية الزنا وثانيها عن أحكام الزنا وثالثها عن الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجباً لتلك الأحكام ورابعها عن الطريق الذي به يعرف حصول الزنا وخامسها أن المخاطبين بقوله فَاجْلِدُوهُمْ ( النور 4 ) من هم وسادسها أن الرجم والجلد المأمور بهما في الزنا كيف يكون حالهما
البحث الأول عن ماهية الزنا قال بعض أصحابنا إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم قطعاً وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن اللواطة هل ينطلق عليها اسم الزنا أم لا فقال قائلون نعم واحتج عليه بالنص والمعنى أما النص فما روى أبو موسى الأشعري رضى الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ) وأما المعنى فهو أن اللواط مثل الزنا صورة ومعنى أما الصورة فلأن الزنا عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم قطعاً والدبر أيضاً فرج لأن القبل إنما سمى فرجاً لما فيه من الانفراج وهذا المعنى حاصل في الدبر أكثر ما في الباب أن في العرف لا تسمى اللواطة زنا ولكن هذا لا يقدح في أصل اللغة كما يقال هذا طبيب وليس بعالم مع أن الطب علم وأما المعنى فلأن الزنا قضاء للشهوة من محل مشتهى طبعاً على جهة الحرام المحض وهذا موجود في اللواط لأن القبل والدبر يشتهيان لأنهما يشتركان في المعاني التي هي متعلق الشهوة من الحرارة واللين وضيق المدخل ولذلك فإن من يقول بالطبائع لا يفرق بين المحلين وإنما المفرق هو الشرع في التحريم والتحليل فهذا حجة من قال اللواط داخل تحت اسم الزنا وأما الأكثرون من أصحابنا فقد سلموا أن اللواط غير داخل تحت اسم الزنا واحتجوا عليه بوجوه أحدها العرف المشهور من أن هذا لواط وليس بزنا وبالعكس والأصل عدم التغيير وثانيها لو حلف لا يزني فلاط لا يحنث وثالثها أن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة فلو سمي اللواط زناً لأغناهم نص الكتاب في حد الزنا عن الاختلاف والاجتهاد وأما الحديث فهو محمول على الإثم بدليل قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ) وقال عليه الصلاة والسلام ( اليدان تزنيان والعينان تزنيان ) وأما القياس فبعيد لأن الفرج وإن كان سمى فرجاً لما فيه من الانفراج فلا يجب أن يسمى كل ما فيه انفراج بالفرج وإلا لكان الفم والعين فرجاً وأيضاً فهم سموا النجم نجماً لظهوره ثم ما سموا كل ظاهر نجماً وسموا الجنين جنيناً لاستناره وما سموا كل مستتر جنيناً واعلم أن للشافعي رحمه الله في فعل(23/115)
اللواط قولان أصحهما عليه حد الزنا إن كان محصناً يرجم وإن لم يكن محصناً يجلد مائة ويغرب عاماً وثانيهما يقتل الفاعل والمفعول به سواء كان محصناً أو لم يكن محصناً لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) ثم في كيفية قتله أوجه أحدها تحز رقبته كالمرتد وثانيها يرجم بالحجارة وهو قول مالك وأحمد وإسحق وثالثها يهدم عليه جدار يروى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ورابعها يرمى من شاهق جبل حتى يموت يروى ذلك عن علي عليه السلام وإنما ذكروا هذه الوجوه لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك فقال تعالى فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مّن سِجّيلٍ ( هود 82 ) وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يحد اللوطي بل يعذر أما المفعول به فإن كان عاقلاً بالغاً طائعاً فإن قلنا على الفاعل القتل فيقتل المفعول به على صفة قتل الفاعل للخبر وإن قلنا على الفاعل حد الزنا فعلى المفعول به مائة جلدة وتغريب عام محصناً كان أو غير محصن وقيل إن كانت امرأة محصنة فعليها الرجم وليس بصحيح لأنها لا تصير محصنة بالتمكين في الدبر فلا يلزمها حد المحصنات كما لو كان المفعول به ذكر حجة الشافعي رحمه الله على وجوب الحد من وجوه الأول أن اللواط إما أن يساوي الزنا في الماهية أو يساويه في لوازم هذه الماهية وإذا كان كذلك وجب الحد بيان الأول قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ) فاللفظ دل على كون اللائط زانياً واللفظ الدال بالمطابقة على ماهية دال بالالتزام على حصول جميع لوازمها ودلالة المطابقة والالتزام مشتركان في أصل الدلالة فاللفظ الدال على حصول الزنا دال على حصول جميع اللوازم ثم بعد هذا إن تحقق مسمى الزنا في اللواط دخل تحت قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ وإن لم يتحقق مسمى الزنا وجب أن يتحقق لوازم مسمى الزنا لما ثبت أن اللفظ الدال على تحقق ماهية دال على تحقق جميع تلك اللوازم ترك العمل به في حق الماهية فوجب أن يبقى معمولاً به في الدلالة على جميع تلك اللوازم لكن من لوازم الزنا وجوب الحد فوجب أن يتحقق ذلك في اللواط أكثر ما في الباب أنه ترك العمل بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ) لكن لا يلزم من ترك العمل هناك تركه ههنا الثاني أن اللائط يجب قتله فوجب أن يقتل رجماً بيان الأول قوله عليه السلام ( من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل منهما والمفعول به ) وبيان الثاني أنه لما وجب قتله وجب أن يكون زانياً وإلا لما جاز قتله لقوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا لإحدى ثلاث ) وههنا لم يوجد كفر بعد إيمان ولا قتل نفس بغير حق فلو لم يوجد الزنا بعد الإحصان لوجب أن لا يقتل وإذا ثبت أنه وجد الزنا بعد الإحصان وجب الرجم لهذا الحديث الثالث نقيس اللواط على الزنا والجامع أن الطبع داع إليه لما فيه من الالتذاذ وهو قبيح فيناسب الزجر والحد يصلح زاجراً عنه قالوا والفرق من وجهين أحدهما أنه وجد في الزنا داعيات فكان وقوعه أكثر فساداً فكانت الحاجة إلى الزاجر أتم الثاني أن الزنا يقتضي فساد الأنساب والجواب إلغاؤهما بوطء العجوز الشوهاء واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه أحدها اللواط ليس بزنا على ما تقدم فوجب أن لا(23/116)
يقتل لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا لإحدى ثلاث ) وثانيها أن اللواط لا يساوي الزنا في الحاجة إلى شرع الزاجر ولا في الجناية فلا يساويه في الحد بيان عدم المساواة في الحاجة أن اللواطة وإن كانت يرغب فيها الفاعل لكن لا يرغب فيها المفعول طبعاً بخلاف الزنا فإن الداعي حاصل من الجانبين وأما عدم المساواة في الجناية فلأن في الزنا إضاعة النسب ولا كذلك اللواط إذا ثبت هذا فوجب أن لا يساويه في العقوبة لأن الدليل ينفي شرع الحد لكونه ضرراً ترك العمل به في الزنا فوجب أن يبقى في اللواط على الأصل وثالثها أن الحد كالبدل عن المهر فلما لم يتعلق باللواط المهر فكذا الحد والجواب عن الأول أن اللواط وإن لم يكن مساوياً للزنا في ماهيته لكنه يساويه في الأحكام وعن الثاني أن اللواط وإن كان لا يرغب فيه المفعول لكن ذلك بسبب اشتداد رغبة الفاعل لأن الإنسان حريص على ما منع وعن الثالث أنه لا بد من الجامع والله أعلم
المسألة الثانية أجمعت الأمة على حرمة إتيان البهائم وللشافعي رحمه الله في عقوبته أقوال أحدها يجب به حد الزنا فيرجم المحصن ويجلد غير المحصن ويغرب والثاني أنه يقتل محصناً كان أو غير محصن لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه ) فقيل لابن عباس ما شأن البهيمة فقال ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل والقول الثالث وهو الأصح وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأحمد رحمهم الله أن عليه التعزيز لأن الحد شرح للزجر عما تميل النفس إليه وهذا الفعل لا تميل النفس إليه وضعفوا حديث ابن عباس رضي الله عنهما لضعف إسناده وإن ثبت فهو معارض بما روي أنه عليه السلام نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله
المسألة الثالثة السحق من النسوان وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها إلا التعزيز
البحث الثاني عن أحكام الزنا واعلم أنه كان في أول الإسلام عقوبة الزاني الحبس إلى الممات في حق الثيب والأذى بالكلام في حق البكر قال الله تعالى وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعة ً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا ( النساء 15 16 ) ثم نسخ ذلك فجعل حد الزنا على الثيب الرجم وحد البكر الجلد والتغريب ولنذكر هاتين المسألتين
المسألة الأولى الخوارج أنكروا الرجم واحتجوا فيه بوجوه أحدها قوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ( النساء 25 ) فلو وجب الرجم على المحصن لوجب نصف الرجم على الرقيق لكن الرجم لا نصف لها وثانيها أن الله سبحانه ذكر في القرآن أنواع المعاصي من الكفر والقتل والسرقة ولم يستقص في أحكامها كما استقصى في بيان أحكام الزنا ألا ترى أنه تعالى نهى عن الزنا بقوله وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى ( الإسراء 32 ) ثم توعد عليه ثانياً بالنار كما في كل المعاصي ثم ذكر الجلد ثالثاً ثم خص الجلد بوجوب إحضار المؤمنين رابعاً ثم خصه بالنهي عن الرأفة عليه بقوله وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ خامساً ثم أوجب على من رمى مسلماً بالزنا ثمانين جلدة وسادساً لم يجعل ذلك على من رماه بالقتل والكفر وهما أعظم منه ثم قال سابعاً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَة ً أَبَداً ثم ذكر ثامناً من رمى زوجته بما يوجب(23/117)
التلاعن واستحقاق غضب الله تعالى ثم ذكر تاسعاً أن الزَّانِيَة ُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ( النور 3 ) ثم ذكر عاشراً أن ثبوت الزنا مخصوص بالشهود الأربعة فمع المبالغة في استقصاء أحكام الزنا قليلاً وكثيراً لا يجوز إهمال ما هو أجل أحكامها وأعظم آثارها ومعلوم أن الرجم لو كان مشروعاً لكان أعظم الآثار فحيث لم يذكره الله تعالى في كتابه دل على أنه غير واجب وثالثها قوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة وإيجاب الرجم على البعض بخبر الواحد يقتضي تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد وهو غير جائز لأن الكتاب قاطع في متنه وخبر الواحد غير قاطع في متنه والمقطوع راجح على المظنون واحتج الجمهور من المجتهدين على وجوب رجم المحصن لما ثبت بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك قال أبو بكر الرازي روى الرجم أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبدالله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة وبعض هؤلاء الرواة روى خبر رجم ماعز وبعضهم خبر اللخمية والغامدية وقال عمر رضي الله عنه لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لأثبته في المصحف والجواب عما احتجوا به أولاً أنه مخصوص بالجلد فإن قيل فيلزم تخصيص القرآن بخبر الواحد قلنا بل بالخبر المتواتر لما بينا أن الرجم منقول بالتواتر وأيضاً فقد بينا في أصول الفقه أن تخصيص القرآن بخبر الواحد جائز والجواب عن الثاني أنه لا يستبعد تجدد الأحكام الشرعية بحسب تجدد المصالح فلعل المصلحة التي تقضي وجوب الرجم حدثت بعد نزول تلك الآيات والجواب عن الثالث أنه نقل عن علي عليه السلام أنه كان يجمع بين الجلد والرجم وهو اختيار أحمد وإسحق وداود واحتجوا عليه بوجوه أحدها أن عموم هذه الآية يقتضي وجوب الجلد والخبر المتواتر يقتضي وجوب الرجم ولا منافاة فوجب الجمع وثانيها قوله عليه السلام ( البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم(23/118)
بالحجارة ) وثالثها روى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن ابن جريج عن ابن الزبير عن جابر ( أن رجلاً زنى بامرأة فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجلد ثم أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان محصناً فأمر به فرجم ) ورابعها روي أن علياً عليه السلام جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
واعلم أن أكثر المجتهدين متفقون على أن المحصن يرجم ولا يجلد واحتجوا عليه بأمور أحدها قصة العسيف فإنه عليه السلام قال ( يا أنيس اغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) ولم يذكر الجلد ولو وجب الجلد مع الرجم لذكره وثانيها أن قصة ماعز رويت من جهات مختلفة ولم يذكر في شيء منها مع الرجم جلد ولو كان الجلد معتبراً مع الرجم لجلده النبي عليه السلام ولو جلده لنقل كما نقل الرجم إذ ليس أحدهما بالنقل أولى من الآخر وكذا في قصة الغامدية حين أقرت بالزنا فرجمها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن وضعت ولو جلدها لنقل ذلك وثالثها ما روى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال قال عمر رضي الله عنه قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى وقد قرأنا الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة رجم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرجمنا بعده فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هو الرجم ولو كان الجلد واجباً مع الرجم لذكره أما الجواب عن التمسك بالآية فهو أنها مخصوصة في حق المحصن وتخصيص عموم القرآن بالخبر المتواتر غير ممتنع وأما قوله عليه السلام ( الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ) فلعل ذلك كان قبل قوله ( يا أنيس اغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) وأما أنه عليه السلام جلد امرأة ثم رجمها فلعله عليه السلام ما علم إحصانها فجلدها ثم لما علم إحصانها رجمها وهو الجواب عن فعل علي عليه السلام فهذا ما يمكن من التكلف في هذه الأجوبة والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر وقال أبو حنيفة رحمه الله يجلد وأما التغريب فمفوض إلى رأي الإمام وقال مالك يجلد الرجل ويغرب وتجلد المرأة ولا تغرب حجة الشافعي رحمه الله حديث عبادة أنه عليه السلام قال ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ) ويدل أيضاً عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد ( أن رجلاً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله إن ابني كان عسيفاً على هذا وزني بامرأته فافتديت منه بوليدة ومائة شاة ثم أخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فاقض بيننا فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الغنم والوليدة فرد عليك وأما ابنك فإن عليه جلد مائة وتغريب عام ثم قال لرجل من أسلم أغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) واحتج أبو حنيفة رحمه الله على نفي التغريب بوجوه أحدها أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ الآية ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز وقرروا النسخ من ثلاثة أوجه الأول أنه سبحانه رتب الجلد على فعل الزنا بالفاء وحرف الفاء للجزاء إلا أن أئمة اللغة قالوا اليمين بغير لله ذكر شرط وجزاء وفسروا الشرط بالذي دخل عليه كلمة إن والجزاء بالذي دخل عليه حرف الفاء والجزاء اسم له يقع به الكفاية مأخوذ من قولهم جازيناه أي كافأناه وقال عليه السلام ( تجزيك ولا تجزي أحداً بعدك ) أي تكفيك ومنه قول القائل اجتزت الإبل بالعشب بالماء وإنما تقع الكفاية بالجلد إذا لم يجب معه شيء آخر فإيجاب شيء آخر يقتضي نسخ كونه كافياً الثاني أن المذكور في الآية لما كان هو الجلد فقط كان ذلك كمال الحد فلو جعلنا النفي معتبراً مع الجلد لكان الجلد بعض الحد لا كل الحد فيفضي إلى نسخ كونه كل الحد الثالث إن بتقدير كون الجلد كمال الحد فإنه يتعلق بذلك رد الشهادة ولو جعلناه بعض الحد لزال ذلك الحكم فثبت أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ الآية ثانيها قال أبو بكر الرازي لو كان النفي مشروعاً مع الجلد لوجب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند تلاوة الآية توقيف الصحابة عليه لئلا يعتقدوا عند سماع الآية أن الجلد هو كمال الحد ولو كان كذلك لكان اشتهاره مثل اشتهار الآية فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة بل كان وروده من طريق الآحاد علم أنه غير معتبر وثالثها ما روى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في الأمة ( إذا زنت فاجلدوها فإن زنت فاجلدوها فإن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بطفير ) وفي رواية أخرى ( فليجلدها الحد ولا تثريب عليه ) ووجه الاستدلال به أنه لو كان النفي ثابتاً لذكره مع الجلد ورابعها أنه إما أن يشرع التغريب في حق الأمة أو لا يشرع ولا جائز أن يكون مشروعاً لأنه يلزم منه الإضرار بالسيد من غير جناية صدرت منه وهو غير جائز ولأنه قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بيعوها ولو بطفير ) ولو وجب نفيها لما جاز بيعها لأن المكنة من تسليمها إلى المشتري لا تبقى بالنفي ولا جائز أن لا يكون مشروعاً لقوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( النساء 25 )(23/119)
وخامسها أن التغريب لو كان مشروعاً في حق الرجل لكان إما أن يكون مشروعاً في حق المرأة أو لا يكون والثاني باطل لأن التساوي في الجناية قد وجد في حقهما وإن كان مشروعاً في حق المرأة فإما أن يكون مشروعاً في حقها وحدها أو مع ذي محرم والأول غير جائز للنص والمعقول أما النص فقوله عليه السلام ( لا يحل لامرأة أن تسافر من غير ذي محرم ) وأما المعقول فهو أن الشهوة غالبة في النساء والانزجار بالدين إنما يكون في الخواص من الناس فإن الغالب لعدم الزنا من النساء بوجود الحفاظ من الرجال وحيائهن من الأقارب وبالتغريب تخرج المرأة من أيدي القرباء والحفاظ ثم يقل حياؤها لبعدها عن معارفها فينفتح عليها باب الزنا فربما كانت فقيرة فيشتد فقرها في السفر فيصير مجموع ذلك سبباً لفتح باب هذه الفاحشة العظيمة عليها ولا جائز أن يقال إنا نغربها مع الزوج أو المحرم لأن عقوبة غير الجاني لا تجوز لقوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 ) وسادسها ما روي عن عمر أنه غرب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فقال عمر لا أغرب بعدها أحداً ولم يستثن الزنا وروي عن علي عليه السلام أنه قال في البكرين إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان وإن نفيهما من الفتنة وعن ابن عمر أن أمة له زنت فجلدها ولم ينفها ولو كان النفي معتبراً في حد الزنا لما خفي ذلك على أكابر الصحابة وسابعها ما روي ( أن شيخاً وجد على بطن جارية يحنث بها في خربة فأتى به إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال اجلدوه مائة فقيل إنه ضعيف من ذلك فقال خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها وخلوا سبيله ) ولو كان النفي واجباً لنفاه فإن قيل إنما لم ينفه لأنه كان ضعيفاً عاجزاً عن الحركة قلنا كان ينبغي أن يكتري له دابة من بيت المال ينفى عليها فإن قيل كان عسى يضعف عن الركوب قلنا من قدر على الزنا كيف لا يقدر على الاستمساكا وثامنها أن التغريب نظير القتل لقوله تعالى أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ فنزلهما منزلة واحدة فإذا لم يشرع القتل في زنا البكر وجب أن لا يشرع أيضاً نظيره وهو التغريب والجواب عن الأول أنه ليس في كلام الله تعالى إلا إدخال حرف الفاء على الأمر بالجلد فأما أن الذي دخل عليه هذا الحرف فإنه يسمى جزاء فليس هذا من كلام الله ولا من كلام رسوله بل هو قول بعض الأدباء فلا يكون حجة
أما قوله ثانياً لو كان النفي مشروعاً لما كان الجلد كل الحد فنقول لا نزاع في أنه زال أمره لأن إثبات كل شيء لا أقل من أن يقتضي زوال عدمه الذي كان إلا أن الزائل ههنا ليس حكماً شرعياً بل الزائل محض البراءة الأصلية ومثل هذه الإزالة لا يمتنع إثباتها بخبر الواحد وإنما قلنا إن الزائل محض العدم الأصلي وذلك لأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغريب والقدر المشترك بين القسمين لا إشعار له بواحد من القسمين
فإذن إيجاب الجلد لا إشعار فيه ألبتة لا بإيجاب التغريب ولا بعدم إيجابه إلا أن نفي التغريب كان معلوماً بالعقل نظراً إلى البراءة الأصلية فإذا جاء خبر الواحد ودل على وجوب التغريب فما أزال ألبتة شيئاً من مدلولات اللفظ الدال على وجوب الجلد بل أزال البراءة الأصلية فأما كون الجلد وحده مجزياً وكونه وحده كمال الحد وتعلق رد الشهادة عليه فكل ذلك(23/120)
تابع لنفي وجوب الزيادة فلما كان ذلك النفي معلوماً بالعقل جاز قبول خبر الواحد فيه كما أن الفروض لو كانت خمساً لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة ولو زيد فيها شيء آخر لتوقف الخروج عن العهدة وقبول الشهادة على أداء تلك الزيادة مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس فكذا ههنا أما لو قال الله تعالى الجلد كمال الحد وعلمنا أنها وحدها متعلق رد الشهادة فلا يقبل ههنا في إثبات الزيادة خبر الواحد لأن نفي وجوب الزيادة ثبت بدليل شرعي متواتر والجواب عن الثاني أنه لو صح ما ذكره لوجب في كل ما خصص آية عامة أن يبلغ في الاشتهار مبلغ تلك الآية ومعلوم أنه ليس كذلك والجواب عن الثالث أن قوله ( ثم بيعوها ) لا يفيد التعقيب فلعلها تنفى ثم بعد النفي تباع والجواب عن الرابع أنه معارض بما روى الترمذي في جامعه أنه عليه السلام جلد وغرب وأن أبا بكر جلد وغرب والجواب عن الخامس أن للشافعي رحمه الله في تغريب العبد قولين أحدهما لا يغرب لأنه عليه السلام قال ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ) ولم يأمر بالتغريب ولأن التغريب للمعرة ولا معرة على العبد فيه لأنه ينقل من يد إلى يد ولأن منافعه للسيد ففي نفيه إضرار بالسيد والثاني وهو الأصح أنه يغرب لقوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( النساء 25 ) ولا ينظر إلى ضرر المولى كما يقتل العبد بسبب الردة ويجلد العبد في الزنا والقذف وإن تضرر به المولى فعلى هذا كم يغرب فيه قولان أحدهما يغرب نصف سنة لأنه يقبل التنصيف كما يجلد نصف حد الأحرار والثاني يغرب سنة لأن التغريب المقصود منه الإيحاش وذلك معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء أو العنة والجواب عن السادس أن المرأة لا تغرب وحدها بل مع محرم فإن لم يتبرع المحرم بالخروج معها أعطى أجرته من بيت المال وإن لم يكن لها محرم تغرب مع النساء الثقات كما يجب عليها الخروج إلى الحج معهن قوله التغريب يفتح عليها باب الزنا قلنا لا نسلم فإن أكثر الزنا بالإلف والمؤانسة وفراغ القلب وأكثر هذه الأشياء تبطل بالغربة فإن الإنسان يقع في الوحشة والتعب والنصب فلا يتفرغ للزنا والجواب عن السابع أي استبعاد في أن يكون الإنسان الذي يعجز عن ركوب الدابة يقدر على الزنا والجواب عن الثامن أنه ينتقض بالتغريب إذا وقع على سبيل التعزير والله أعلم
المسألة الثالثة اتفقت الأمة على أن قوله سبحانه وتعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى يفيد الحكم في كل الزناة لكنهم اختلفوا في كيفية تلك الدلالة فقال قائلون لفظ الزاني يفيد العموم والمختار أنه ليس كذلك ويدل عليه أمور أحدها أن الرجل إذا قال لبست الثوب أو شربت الماء لا يفيد العموم وثانيها أنه لا يجوز توكيده بما يؤكد به الجمع فلا يقال جاءني الرجل أجمعون وثالثها لا ينعت بنعوت الجمع فلا يقال جاءني الرجل الفقراء وتكلم الفقيه الفضلاء فأما قولهم أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر فمجاز بدليل أنه لا يطرد وأيضاً فإن كان الدينار الصفر حقيقة وجب أن يكون الدينار الأصفر مجازاً كما أن الدنانير الصفر لما كانت حقيقة كان الدنانير الأصفر مجازاً ورابعها أن الزاني جزئي من هذا الزاني فإيجاب جلد هذا الزاني إيجاب جلد الزاني فلو كان إيجاب جلد الزاني إيجاباً لجلد كل زان لزم أن يكون(23/121)
إيجاب جلد هذا الزاني إيجاب جلد كل زان ولما لم يكن كذلك بطل ما قالوه فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اللفظ المطلق إنما يفيد العموم بشرط العراء عن لفظ التعيين أو يقال اللفظ المطلق وإن اقتضى العموم إلا أن لفظ التعيين يقتضي الخصوص قلنا أما الأول فباطل لأن العدم لا دخل له في التأثير أما الثاني فلأنه يقتضي التعارض وهو خلاف الأصل وخامسها أن يقال الإنسان هو الضحاك فلو كان المفهوم من قولنا الإنسان هو كل الإنسان لنزل ذلك منزلة ما يقال كل إنسان هو الضحاك وذلك متناقض لأنه يقتضي حصر الإنسانية في كل واحد من الناس ومعنى الحصر هو أن يثبت فيه لا في غيره فيلزم أن يصدق على كل واحد من أشخاص الناس أنه هو الضحاك لا غير واحتج المخالف بوجهين الأول أنه يجوز الاستثناء منه لقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته الثاني أن الألف واللام للتعريف وليس ذلك لتعريف الماهية فإن ذلك قد حصل بأصل الإسم ولا لتعريف واحد بعينه فإنه ليس في اللفظ دلالة عليه ولا لتعريف بعض مراتب الخصوص فإنه ليس بعض المراتب أولى من بعض فوجب حمله على تعريف الكل والجواب عن الأول أن ذلك الاستثناء مجاز بدليل أنه لا يصح أن يقال رأيت الإنسان إلا المؤمنين وعن الثاني أنه يشكل بدخول الألف واللام على صيغة الجمع فإن جعلتها هناك للتأكيد فكدا ههنا ومن الناس من قال إن قوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى وإن كان لا يفيد العموم بحسب اللفظ لكنه يفيده بحسب القرينة وذلك من وجهين الأول أن ترتيب الحكم على الوصف المشتق يفيد كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان الوصف مناسباً وههنا كذلك فيدل ذلك على أن الزنا علة لوجوب الجد فيلزم أن يقال أينما تحقق الزنا يتحقق وجوب الجلد ضرورة أن العلة لا تنفك عن المعلول الثاني أن المراد من قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى إما أن يكون كل الزناة أو البعض فإن كان الثاني صارت الآية مجملة وذلك يمنع من إمكان العمل به لكن العمل به مأمور وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فوجب حمله على العموم حتى يمكن العمل به والله أعلم
البحث الثالث في الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجباً للرجم تارة والجلد أخرى فنقول أجمعوا على أن كون الزنا موجباً لهذين الحكمين مشروط بالعقل وبالبلوغ فلا يجب الرجم والحد على الصبي والمجنون وهذان الشرطان ليسا من خواص هذين الحكمين بل هما معتبران في كل العقوبات أما كونهما موجبين للرجم فلا بد مع العقل والبلوغ من أمور أخر الشرط الأول الحرية وأجمعوا على أن الرقيق لا يجب عليه الرجم ألبتة الشرط الثاني التزوج بنكاح صحيح فلا يحصل الإحصان بالإصابة بملك اليمين ولا بوطء الشبهة ولا بالنكاح الفاسد الشرط الثالث الدخول ولا بد منه لقوله عليه السلام ( الثيب بالثيب ) وإنما تصير ثيباً بالوطء وههنا مسألتان
المسألة الأولى هل يشترط أن تكون الإصابة بالنكاح بعد البلوغ والحرية والعقل فيه وجهان أحدهما لا يشترط حتى لو أصاب عبد أمة بنكاح صحيح أو في حال الجنون والصغر ثم كمل حاله فزنى يجب عليه الرجم لأنه وطء يحصل به التحليل للزوج الأول فيحصل به الإحصان كالوطء في حال الكمال(23/122)
ولأن عقد النكاح يجوز أن يكون قبل الكمال فكذلك الوطء والثاني وهو الأصح وهو ظاهر النص وقول أبي حنيفة رحمه الله يشترط أن تكون الإصابة بالنكاح بعد البلوغ والحرية والعقل لأنه لما شرط أكمل الإصابات وهو أن يكون بنكاح صحيح شرط أن يكون تلك الإصابة في حال الكمال
المسألة الثانية هل يعتبر الكمال في الطرفين أو يعتبر في كل واحد منهما كماله بنفسه دون صاحبه فيه قولان أحدهما معتبر في الطرفين حتى لو وطىء الصبي بالغة حرة عاقلة فإنه لا يحصنها وهو قول أبي حنيفة ومحمد والثاني يعتبر في كل واحد منهما كماله بنفسه وهو قول أبي يوسف رحمه الله
حجة القول الأول أنه وطء لا يفيد الإحصان لأحد الوطئين فلا يفيد في الآخر كوطء الأمة
حجة القول الثاني أنه لا يشترط كونهما على صفة الإحصان وقت النكاح وكذا عند الدخول الشرط الرابع الإسلام ليس شرطاً في كون الزنا موجباً للرجم عند الشافعي رحمه الله وأبي يوسف وقال أبو حنيفة رحمه الله شرط احتج الشافعي بأمور أحدها قوله عليه السلام ( فإذا قبلوا الجزية فانبئوهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ) ومن جملة ما على المسلم كونه بحيث يجب عليه الرجم عند الإقدام على الزنا فوجب أن يكون الذمي كذلك لتحصل التسوية وثانيها حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أنه عليه السلام رجم يهودياً ويهودية زنياً فإما أن يقال إنه عليه السلام حكم بذلك بشريعته أو بشريعة من قبله فإن كان الأول فالاستدلال به بين وإن كان الثاني فكذلك لأنه صار شرعاً له وثالثها أن زنا الكافر مثل زنا المسلم فيجب عليه مثل ما يجب على المسلم وذلك لأن الزنا محرم قبيح فيناسب الزجر وإيجاب الرجم يصلح زاجراً له ولا يبقى إلا التفاوت بالكفر والإيمان والكفر وإن كان لا يوجب تغليظ الجناية فلا يوجب تخفيفها واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه أحدها التمسك بعموم قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى وجب العمل به في حق المسلم ولا يجب في الذمي لمعنى مفقود في الذمي ووجه الفرق أن القتل بالأحجار عقوبة عظيمة فلا يجب إلا بجناية عظيمة والجناية تعظم بكفران النعم في حق الجاني عقلاً وشرعاً أما العقل فلأن المعصية كفران النعمة وكلما كانت النعم أكثر وأعظم كان كفرانها أعظم وأقبح وأما الشرح فلأن الله تعالى قال في حق نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عَظِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( الأحزاب 30 ) فلما كانت نعم الله تعالى في حقهن أكثر كان العذاب في حقهن أكثر وقال في حق الرسول لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ( الإسراء 74 75 ) وإنما عظمت معصيته لأن النعمة في حقه أعظم وهي نعمة النبوة ومن المعلوم أن نعم الله تعالى في حق المسلم المحصن أكثر منها في حق الذمي فكانت معصية المسلم أعظم فوجب أن تكون عقوبته أشد وثانيها أن الذمي لم يزن بعد الإحصان فلا يجب عليه القتل بيان الأول قوله عليه السلام ( من أشرك بالله طرفة عين فليس بمحصن ) بيان الثاني أن المسلم الذي لا يكون محصناً لا يجب عليه القتل لقوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا لإحدى ثلاث ) وإذا كان المسلم كذلك وجب أن يكون الذمي كذلك لقوله عليه السلام ( إذا قبلوا عقد الجزية فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ) وثالثها أجمعنا على أن إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام فكان إحصان الرجم والجامع ما ذكرنا من كمال النعمة والجواب عن الأول أنه خص عنه الثيب المسلم فكذا الثيب الذمي وما ذكروه من حديث زيادة النعمة على المؤمنين فنقول نعمة(23/123)
الإسلام حصلت بكسب العبد فيصير ذلك كالخدمة الزائدة وزيادة الخدمة إن لم تكن سبباً للعذر فلا أقل من أن لا تكون سبباً لزيادة العقوبة وعن الثاني لا نسلم أن الذمي مشرك سلمناه لكن الإحصان قد يراد به التزوج لقوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( النور 40 ) وفي التفسير فَإِذَا أُحْصِنَّ ( النساء 25 ) يعني فإذا تزوجن إذا ثبت هذا فنقول الذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) أو زنا بعد إحصان رتب الحكم في حق المسلم على هذا الوصف فدل على كون الوصف علة والوصف قائم في حق الذمي فوجب كونه مستلزماً للحكم بالرجم وعن الثالث أن حد القذف لدفع العار كرامة للمقذوف والكافر لا يكون محلاً للكرامة وصيانة العرض بخلاف ما ههنا والله أعلم أما ما يتعلق بالجلد ففيه مسائل
المسألة الأولى اتفقوا على أن الرقيق لا يرجم واتفقوا على أنه يجلد وثبت بنص الكتاب أن على الإماء نصف ما على المحصنات من العذاب فلا جرم اتفقوا على أن الأمة تجلد خمسين جلدة أما العبد فقد اتفق الجمهور على أنه يجلد أيضاً خمسين إلا أهل الظاهر فإنهم قالوا عموم قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة فلو قسنا العبد عليها كان ذلك تخصيصاً لعموم الكتاب بالقياس وأنه غير جائز ومنهم من قال الأمة إذا تزوجت فعليها خمسون جلدة وإذا لم تتزوج فعليها المائة لظاهر قوله تعالى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ وذكروا أن قوله فَإِذَا أُحْصِنَّ أي تزوجن فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( النساء 25 )
المسألة الثانية قال الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله الذمي يجلد وقال مالك رحمه الله لا يجلد لنا وجوه أحدها عموم قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى وثانيها قوله عليه السلام ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ) وقوله ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) ولم يفرق بين الذمي والمسلم وثالثها أنه عليه السلام رجم اليهوديين فذاك الرجم إن من كان من شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد حصل المقصود وإن كان من شرعهم فلما فعله الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) صار ذلك من شرعه وحقيقة هذه المسألة ترجع إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع
البحث الرابع فيما يدل على صدور الزنا منه اعلم أن ذلك لا يحصل إلا من أحد ثلاثة أوجه إما بأن يراه الإمام بنفسه أو بأن يقر أو بأن يشهد عليه الشهود أما الوجه الأول وهو ما إذا رآه الإمام قال الإمام محيي السنة في كتاب التهذيب لا خلاف أن على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه مثل ما إذا ادعى رجل على آخر حقاً وأقام عليه بينة والقاضي يعلم أنه قد أبرأه أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا وقد رآه القاضي حياً بعد ذلك أو ادعى نكاح امرأة وقد سمعه القاضي طلقها لا يجوز أن يقضي به وإن أقام عليه شهوداً وهل يجوز للقاضي أن يقضي بعلم نفسه مثل أن ادعى عليه ألفاً وقد رآه القاضي أقرضه أو سمع المدعي عليه أقربه فيه قولان أصحهما وبه قال أبو يوسف ومحمد والمزني رحمهم الله أنه يجوز له أن يقضي بعلمه لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود وهو من قولهم على ظن فلأن يجوز بما رآه وسمعه وهو منه على علم أولى قال الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة أقضي بعلمي وهو أقوى من شاهدين أو بشاهدين وشاهد وامرأتين وهو أقوى من شاهد ويمين أو بشاهد ويمين وهو أقوى من النكول ورد اليمين
والقول الثاني لا يقضي بعلمه وهو قول ابن أبي ليلى لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء ولم يوجد هذا في المال أما في العقوبات فينظر إن كان ذلك من حقوق العباد كالقصاص وحد القذف هل يحكم فيه(23/124)
بعلم نفسه يرتب على المال إن قلنا هناك لا يقضي فههنا أولى وإلا فقولان والفرق أن مبنى حقوق الله تعالى على المساهلة والمسامحة ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته وزمان ولايته أو في غيره وقال أبو حنيفة رحمه الله إن حصل له العلم في بلد ولايته أو في زمان ولايته له أن يقضي بعلمه وإلا فلا فنقول العلم لا يختلف باختلاف هذه الأحوال فوجب أن لا يختلف الحكم باختلافها والله أعلم
الطريق الثاني الإقرار قال الشافعي رحمه الله الإقرار بالزنا مرة واحدة يوجب الحد وقال أبو حنيفة رحمه الله بل لا بد من الإقرار أربع مرات في أربع مجالس وقال أحمد لا بد من الإقرار أربع مرات لكن لا فرق بين أن يكون في أربع مجالس أو في مجلس واحد حجة الشافعي رحمه الله أمران الأول قصة العسيف فإنه قال عليه السلام فإن اعترفت فارجمها وذلك دليل عل أن الاعتراف مرة واحدة كاف والثاني أنه لما أقر بالزنا وجب الحد عليه لقوله عليه السلام اقض بالظاهر والإقرار مرة واحدة يوجب الظهور لا سيما ههنا وذلك لأن الصارف عن الإقرار بالزنا قوي لما أنه سبب العار في الحال والألم الشديد في المآل والصارف عن الكذب أيضاً قائم وعند اجتماع الصارفين يقوى الانصراف فثبت أنه إنما أقدم على هذا الإقرار لكونه صادقاً وإذا ظهر اندرج تحت الحديث وتحت الآية أو نقيسه على الإقرار بالقتل والردة واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه أحدها قصة ماعز والاستدلال بها من وجوه الأول أنه عليه السلام أعرض عنه في المرة الأولى ولو وجب عليه الحد لم يعرض عنه لأن الإعراض عن إقامة حد الله تعالى بعد كمال الحجة لا يجوز الثاني أنه عليه السلام قال ( إنك شهدت على نفسك أربع مرات ) ولو كان الواحد مثل الأربع في إيجاب الحد كان هذا القول لغواً والثالث روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لماعز بعدما أقر ثلاث مرات ( لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله ) والرابع عن بريدة الأسلمي قال ( كنا معشر أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نقول لو لم يقر ماعز أربع مرات ما رجمه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وثانيها أنهم قاسوا الإقرار على الشهادة فكما أنه لا يقبل في الزنا إلا أربع شهادات فكذا في الإقرار به والجامع السعي في كتمان هذه الفاحشة وثالثها أن الزنا لا ينتفي إلا بأربع شهادات أو بأربع أيمان في اللعان فجاز أيضاً أن لا يثبت إلا بالإقرار أربع مرات وبه يفارق سائر الحقوق فإنها تنتفي بيمين واحد فجاز أيضاً أن يثبت بإقرار واحد والجواب عن الأول أنه ليس في الحديث إلا أنه عليه السلام حكم بالشهادات الأربع وذلك لا ينافي جواز الحكم بالشهادة الواحدة وعن الثاني أن الفرق بينهما أن المقذوف لو أقر بالزنا مرة لسقط الحد عن القاذف ولولا أن الزنا ثبت لما سقط كما لو شهد اثنان بالزنا لا يسقط الحد عن القاذف حيث لم يثبت به الزنا والله أعلم
والطريق الثالث الشهادة وقد أجمعوا على أنه لا بد من أربع شهادات ويدل عليه قوله تعالى فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعة ً مّنْكُمْ ( النساء 15 ) والكلام فيه سيأتي إن شاء الله تعالى في قوله ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء
البحث الخامس في أن المخاطب بقوله تعالى فَاجْلِدُواْ من هو أجمعت الأمة على أن المخاطب بذلك هو الإمام ثم احتجوا بهذا على وجوب نصب الإمام قالوا لأنه سبحانه أمر بإقامة الحد وأجمعوا على أنه لا يتولى إقامته إلا الإمام وما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب فكان(23/125)
نصب الإمام واجباً وقد مر بيان هذه الدلالة في قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة 38 ) بقي ههنا ثلاث مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله السيد يملك إقامة الحد على مملوكه وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله لا يملك وقال مالك يحده المولى من الزنا وشرب الخمر والقذف ولا يقطعه في السرقة وإنما يقطعه الإمام وهو قول الليث واحتج الشافعي رحمه الله بوجوه أحدها قوله عليه السلام ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال عليه السلام ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ) وفي رواية أخرى ( فليجلدها الحد ) قال أبو بكر الرازي لا دلالة في هذه الأخبار لأن قوله ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) هو كقوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ومعلوم أن المراد منه رفعه إلى الإمام لإقامة الحد والمخاطبون بإقامة الحد هم الأئمة وسائر الناس مخاطبون برفع الأمر إليهم حتى يقيموا عليهم الحدود فكذلك قوله ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) على هذا المعنى وأما قوله ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ) فإنه ليس كل جلد حداً لأن الجلد قد يكون على وجه التعزير فإذا عزرنا فقد وفينا بمقتضى الحديث والجواب أن قوله ( أقيموا الحدود ) أمر بإقامة الحد فحمل هذا اللفظ على رفع الواقعة إلى الإمام عدول عن الظاهر أقصى ما في الباب أنه ترك الظاهر في قوله فاجلدوا لكن لا يلزم من ترك الظاهر هناك تركه ههنا أما قوله ( فليجلدها ) المراد هو التعزير فباطل لأن الجلد المذكور عقيب الزنا لا يفهم منه إلا الحد وثانيها أن السلطان لما ملك إقامة الحد عليه فسيده به أولى لأن تعلق السيد بالعبد أقوى من تعلق السلطان به لأن الملك أقوى من عقد البيعة وولاية السادة على العبيد فوق ولاية السلطان على الرعية حتى إذا كان للأمة سيد وأب فإن ولاية النكاح للسيد دون الأب ثم إن الأب مقدم على السلطان في ولاية النكاح فيكون السيد مقدماً على السلطان بدرجات فكان أولى ولأن السيد يملك من التصرفات في هذا المحل ما لا يملكه الإمام فثبت أن المولى أولى وثالثها أجمعنا على أن السيد يملك التعزير فكذا الحد لأن كل واحد نظير الآخر وإن كان أحدهما مقدراً والآخر غير مقدر واحتج أبو بكر الرازي على مذهب أبي حنيفة بوجوه أحدها قال قوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ لا شك أنه خطاب مع الأئمة دون عامة الناس فالتقدير فاجلدوا أيها الأئمة والحكام كل واحد منهما مائة جلدة ولم يفرق في هذه الآية بن المحدودين من الأحرار والعبيد فوجب أن تكون الأئمة هم المخاطبون بإقامة الحدود على الأحرار والعبيد دون الموالي وثانيها أنه لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود لأن تضمين الشهود يتعلق بحكم الحاكم بالشهادة لأنه لو لم يكن يحكم بشهادتهم لم يضمنوا شيئاً فكان يصير حاكماً لنفسه بإيجاب الضمان عليهم وذلك باطل لأنه ليس لأحد من الناس أن يحكم لنفسه فعلمنا أن المولى لا يملك استماع البينة على عبده بذلك ولا قطعه وثالثها أن المالك ربما لا يستوفي الحد بكماله لشفقته على ملكه وإذا كان متهماً وجب أن لا يفوض إليه والجواب عن الأول أن قوله فَاجْلِدُواْ ليس بصريحه خطاباً مع الإمام لكن بواسطة أنه لما انعقد الإجماع على أن غير الإمام لا يتولاه حملنا ذلك الخطاب على الإمام وههنا لم ينعقد الإجماع(23/126)
على أن الإمام لا يتولاه لأنه عين النزاع والجواب عن الثاني قال محيي السنة في كتاب ( التهذيب ) هل يجوز للمولى قطع يد عبده بسبب السرقة أو قطع الطريق فيه وجهان أصحهما أنه يجوز نص عليه في رواية البويطي لما روي عن ابن عمر أنه قطع عبداً له سرق وكما يجلده في الزنا وشرب الخمر والثاني لا بل القطع إلى الإمام بخلاف الجلد لأن المولى يملك جنس الجلد وهو التعزير ولا يملك جنس القطع ثم قال وكل حد يقيمه المولى على عبده إنما يقيمه إذا ثبت باعتراف العبد فإن كانت عليه بينة فهل يسمع المولى الشهادة فيه وجهان أحدهما يسمع لأنه ملك الإقامة بالاعتراف فيملك بالبينة كالإمام والثاني لا يسمع بل ذاك إلى الحكام والجواب عن الثالث أنه منقوض بالتعزير
المسألة الثانية إذا فقد الإمام فليس لآحاد الناس إقامة هذه الحدود بل الأولى أن يعينوا واحداً من الصالحين ليقوم به
المسألة الثالثة الخارجي المتغلب هل له إقامة الحدود قال بعضهم له ذلك وقال آخرون ليس له ذلك لأن إقامة الحد من جهة من لم يلزمنا أن نزيل ولايته أبعد من أن نفوض ذلك إلى رجل من الصالحين
البحث السادس في كيفية إقامة الحد أما الجلد فاعلم أن المذكور في الآية هو الجلد وهذا مشترك بين الجلد الشديد والجلد الخفيف والجلد على كل الأعضاء أو على بعض الأعضاء فحينئذ لا يكون في الآية إشعار بشيء من هذه القيود بل مقتضى الآية أن يكون الآتي بالجلد كيف كان خارجاً عن العهدة لأنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج من العهدة قال صاحب ( الكشاف ) وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم ولأن الجلد ضرب الجلد يقال جلده كقولك ظهره بفتح الهاء وبطنه ورأسه إلا أنا لما عرفنا أن المقصود منه الزجر والزجر لا يحصل إلا بالجلد الخفيف لا جرم تكلم العلماء في صفة الجلد على سبيل القياس ثم هنا مسائل
المسألة الأولى المحصن يجلد مع ثيابه ولا يجرد ولكن ينبغي أن يكون بحيث يصل الألم إليه وينزع من ثيابه الحشو والفرو روي أن أبا عبيدة بن الجراح أتى برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال ما ينبغي لجسدي هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص فقال أبو عبيدة لا تدعوه ينزع قميصه فضربه عليه أما المرأة فلا خلاف في أنه لا يجوز تجريدها بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ويلي ذلك منها امرأة
المسألة الثانية لا يمد ولا يربط بل يترك حتى يتقي بيديه ويضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة قال أبو يوسف رحمه الله ضرب ابن أبي ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطأه أبو حنيفة
المسألة الثالثة يضرب بسوط وسط لا جديد يجرح ولا خلق لم يؤلم ويضرب ضرباً بين ضربين لا شديد ولا واه روى أبو عثمان النهدي قال أتى عمر برجل في حد ثم جيء بسوط فيه شدة فقال أريد ألين من هذا فأتى بسوط فيه لين فقال أريد أشد من هذا فأتى بسوط بين السوطين فرضي به
المسألة الرابعة تفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد واتفقوا على أنه يتقي المهالك كالوجه والبطن والفرج ويضرب على الرأس عند الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله لا(23/127)
يضرب على الرأس وهو قول على حجة الشافعي رحمه الله قال أبو بكر أضرب على الرأس فإن الشيطان فيه وعن عمر أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه حين سأل عن الذاريات على وجه التعنت حجة أبي حنيفة رحمه الله أجمعنا على أنه لا يضرب على الوجه فكذا الرأس والجامع الحكم والمعنى أما الحكم فلأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه بدليل أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه واحد وفارقا سائر البدن لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه إنما يجب فيها حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة والواقعة في الرأس والوجه فوجب استواء الرأس والوجه في وجوب صونهما عن الضرب وأما المعنى فهو إنما منع من ضرب الوجه لما كان فيه من الجناية على البصر وذلك موجود في الرأس لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر وربما حدث منه الماء في العين وربما حدث منه اختلاط العقل أجاب أصحابنا عنه بأن الفرق بين الوجه والرأس ثابت لأن الضربة إذا وقعت على الوجه فعظم الجبهة رقيق فربما انكسر بخلاف عظم القفا فإنه في نهاية الصلابة وأيضاً فالعين في نهاية اللطافة فالضرب عليها يورث العمى وأيضاً فالضرب على الوجه يكسر الأنف لأنه من غضروف لطيف ويكسر الأسنان لأنها عظام لطيفة ويقع على الخدين وهما لحمان قريبان من الدماغ والضربة عليهما في نهاية الخطر لسرعة وصول ذلك الأثر إلى جرم الدماغ وكل ذلك لم يوجد في الضرب على الرأس
المسألة الخامسة لو فرق سياط الحد تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل أن يضرب كل يوم سوطاً أو سوطين لا يحسب وإن ضرب كل يوم عشرين أو أكثر يحسب والأولى أن لا يفرق
المسألة السادسة إن وجب الحد على الحبلى لا يقام حتى تضع روى عمران بن الحصين أن امرأة من جهينة أتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي حبلى من الزنا فقالت يا نبي الله أصبت حداً فأقمه علي فدعا نبي الله وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فاتني بها ففعل فأمر بها نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها ولأن المقصود التأديب دون الإتلاف
المسألة السابعة إن وجب الجلد على المريض نظر فإن كان به مرض يرجى زواله من صداع أو ضعف أو ولادة يؤخر حتى يبرأ كما لو أقيم عليه حد أو قطع لا يقام عليه حد آخر حتى يبرأ من الأول وإن كان به مرض لا يرجى زواله كالسل والزمانة فلا يؤخر ولا يضرب بالسياط فإنه يموت وليس المقصود موته وذلك لا يختلف سواء كان زناه في حال الصحة ثم مرض أو في حال المرض بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ فيقول ذلك مقام مائة جلدة كما قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ( ص 44 ) وعند أبي حنيفة رحمه الله يضرب بالسياط دليلنا ما روي أن رجلاً مقعداً أصاب امرأة فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذوا مائة شمراخ فضربوه بها ضربة واحدة ولأن الصلاة إذا كانت تختلف باختلاف حاله فالحد أولى بذلك
المسألة الثامنة يقام الحد في وقت اعتدال الهواء فإن كان في حال شدة حر أو برد نظر إن كان الحد رجماً يقام عليه كما يقام في المرض لأن المقصود قتله وقيل إن كان الرجم ثبت عليه بإقراره فيؤخر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض الذي يرجى زواله لأنه ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم وقد أثر الرجم في جسمه فتعين شدة الحر والبرد والمرض على أهلاكه بخلاف ما لو ثبت بالبينة لأنه لا يسقط وإن كان الحد(23/128)
جلداً لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض أما الرجم ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله ومالك رحمه الله يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور وقال أبو حنيفة رحمه الله إن ثبت الزنا بالبينة وجب على الشهود أن يبدأوا بالرجم ثم الإمام ثم الناس وإن ثبت بإقرار بدأ الإمام ثم الناس حجة الشافعي رحمه الله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمهما
المسألة الثانية إن ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك وقع به بعض الحد أو لم يقع وبه قال أبو حنيفة رحمه الله والثوري وأحمد وإسحق وقال الحسن وابن أبي ليلى وداود لا يقبل رجوعه وعن مالك رحمه الله روايتان
حجة القول الأول أن ماعزاً لما مسته الحجارة وهرب فقال عليه السلام ( هلا تركتموه )
المسألة الثالثة يحفر للمرأة إلى صدرها حتى لا تنكشف ويرمى إليها ولا يحفر للرجل لما روى أبو سعيد الخدري ( أن ماعزاً أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله إني أصبت فاحشة فأقم على الحد فرده النبي عليه السلام مراراً ثم سأل قومه فقالوا لا نعلم به بأساً فأمرنا أن نرجمه فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد فما أوثقناه ولا حفرنا له قال فرميناه بالعظام والمدر والخزف قال فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة وانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكن ) وجه الاستدلال أنه قال ( فما أوثقناه ولا حفرنا له ) ولأنه هرب ولو كان في حفرة لما أمكنه ذلك
المسألة الرابعة إذا مات في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين فهذا ما أردنا ذكره من بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه الآية
أما المباحث العقلية فاعلم أن من الناس من قال لا شك أن البدن مركب من أجزاء كثيرة فإما أن يقوم بكل جزء حياة وعلم وقدرة على حدة أو يقوم بكل الأجزاء حياة واحدة وعلم واحد وقدرة واحدة والثاني محال لاستحالة قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة فتعين الأول وإذا كان كذلك كان كل جزء من أجزاء البدن حياً على حدة وعالماً على حدة وقادراً على حدة وإذا ثبت هذا فنقول الزاني هو الفرج لا الظهر فكيف يحسن من الحكيم أن يأمر بجلد الظهر ولأنه ربما كان الإنسان حال إقدامه على الزنا عجيفاً نحيفاً ثم يسمن بعد ذلك فكيف يجوز إيلام تلك الأجزاء الزائدة مع أنها كانت بريئة عن فعل الزنا فإن قال قائل هذا مدفوع من وجهين الأول وهو أنه ليس كل واحد من أجزاء البدن فاعلاً على حدة وحياً على حدة وذلك محال بل الحياة والعلم والقدرة تقوم بالجزء الواحد ثم توجب حكم الحيية والعالمية والقادرية لمجموع الأجزاء فيكون المجموع حياً واحداً عالماً واحداً قادراً واحداً وعلى هذا التقدير يزول السؤال الثاني أن يقال الذي هو الفاعل والمحرك والمدرك شيء ليس بجسم ولا جسماني وإنما هو مدبر لهذا البدن وعلى هذا التقدير أيضاً يزول السؤال والجواب أما الأول فضعيف وذلك لأن العلم إذا قام بجزء واحد فإما أن يحصل بمجموع الأجزاء عالمية واحدة فيلزم قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة وهو محال أو يقوم بكل جزء عالمية على حدة فيعود المحذور المذكور وأما الثاني ففي نهاية البعد لأنه إذا كان الفاعل للقبيح هو ذلك المباين فلم يضرب هذا الجسد واعلم أن المقصود من أحكام الشرع رعاية المصالح ونحن نعلم أن(23/129)
شرع الحد يفيد الزجر فكان المقصود حاصلاً والله أعلم
أما قوله تعالى وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى الرأفة الرقة والرحمة وقراءة العامة بسكون الهمزة وقرىء رأفة بفتح الهمزة ورآفة على فعالة
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد أن لا تأخذكم رأفة بأن يعطل الحد أو ينقص منه والمعنى لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها للشفقة والرحمة وهذا قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير واختيار الفراء والزجاج ويحتمل أن لا تأخذكم رأفة بأن يخفف الجلد وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وقتادة ويحتمل كلا الأمرين والأول أولى لأن الذي تقدم ذكره الأمر بنفس الجلد ولم يذكر صفته فما يعقبه يجب أن يكون راجعاً إليه وكفى برسول الله أسوة في ذلك حيث قال ( لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ) ونبه بقوله في دين الله على أن الدين إذا أوجب أمراً لم يصح استعمال الرأفة في خلافه
أما قوله تعالى إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ فهو من باب التهييج والنهاب الغضب لله تعالى ولدينه قال الجبائي تقدير الآية إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود وهذا يدل على أن الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان بخلاف ما تقوله المرجئة والجواب أن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه أن الأولى أن لا تقام تلك الحدود وحينئذ يكون منكراً للدين فيخرج عن الإيمان في الحديث ( يؤتى بوال نقص من الحد سوطاً فيقال له لم فعلت ذاك فيقول رحمة لعبادك فيقال له أنت أرحم بهم منيا فيؤمر به إلى النار ويؤتى بمن زاد سوطاً فيقال له لم فعلت ذلك فيقول لينتهوا عن معاصيك فيقول أنت أحكم به منيا فيؤمر به إلى النار )
أما قوله تعالى وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ أمر وظاهره للوجوب لكن الفقهاء قالوا يستحب حضور الجمع والمقصود إعلان إقامة الحد لما فيه من مزيد الردع ولما فيه من رفع التهمة عمن يجلد وقيل أراد بالطائفة الشهود لأنه يجب حضورهم ليعلم بقاؤهم على الشهادة
المسألة الثانية اختلفوا في أقل الطائفة على أقوال أحدها أنه رجل واحد وهو قول النخعي ومجاهد واحتجا بقوله تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 ) وثانيها أنه اثنان وهو قول عكرمة وعطاء واحتجا بقوله تعالى فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ ( التوبة 122 ) وكل ثلاثة فرقة والخارج من الثلاثة واحد أو اثنان والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر وثالثها أنه ثلاثة وهو قول الزهري وقتادة قالوا الطائفة هي الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء وهذه الصورة أقل ما لا بد في حصولها هو الثلاثة ورابعها أنه أربعة بعدد شهود الزنا وهو قول ابن عباس والشافعي رضي الله عنهم وخامسها أنه عشرة وهو قول الحسن البصري لأن العشرة هي العدد الكامل
المسألة الثالثة تسميته عذاباً يدل على أنه عقوبة ويجوز أن يسمى عذاباً لأنه يمنع المعاودة كما سمي نكالاً لذلك ونبه تعالى بقوله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ على أن الذين يشهدون يجب أن يكونوا بهذا الوصف(23/130)
لأنهم إذا كانوا كذلك عظم موقع حضورهم في الزجر وعظم موقع إخبارهم عما شاهدوا فيخاف المجلود من حضورهم الشهرة فيكون ذلك أقوى في الانزجار والله أعلم
الحكم الثاني
الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً أَوْ مُشْرِكَة ً وَالزَّانِيَة ُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
قرىء لاَ يَنكِحُ بالجزم عن النهي وقرىء وَحَرَّمَ بفتح الحاء ثم إن في الآية سؤالات
السؤال الأول قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً أَوْ مُشْرِكَة ً ظاهره خبر ثم إنه ليس الأمر كما يشعر به هذا الظاهر لأنا نرى أن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف
السؤال الثاني أنه قال وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وليس كذلك فإن المؤمن يحل له التزوج بالمرأة الزانية والجواب اعلم أن المفسرين لأجل هذين السؤالين ذكروا وجوهاً أحدها وهو أحسنها ما قاله القفال وهو أن اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد منه الأعم الأغلب وذلك لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والفسق لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في فاسقة خبيثة مثله أو في مشركة والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة والمشركين فهذا على الأعم الأغلب كما يقال لا يفعل الخير إلا الرجل التقي وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي فكذا ههنا
وأما قوله وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فالجواب من وجهين أحدهما أن نكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم عليه لما فيه من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة والتسبب لسوء المقالة فيه والغيبة ومجالسة الخاطئين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني والفجار الثاني وهو أن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين لأن قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً معناه أن الزاني لا يرغب إلا في الزانية فهذا الحصر محرم على المؤمنين ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزوج بالزانية فهذا هو المعتمد في تفسير الآية الوجه الثاني أن الألف واللام في قوله الزَّانِى وفي قوله وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وإن كان للعموم ظاهراً لكنه ههنا مخصوص بالأقوام الذين نزلت هذه الآية فيهم قال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء ليس لهم أموال ولا عشائر وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ولكل واحدة منهن علامة على بابها كعلامة البيطار ليعرف أنها زانية وكان لا يدخل عليها إلا زان أو مشرك فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن فاستأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية فتقدير الآية أولئك الزواني لا ينكحون إلا تلك الزانيات وتلك الزانيات لا ينكحهن إلا أولئك الزواني وحرم نكاحهن على المؤمنين(23/131)
الوجه الثالث في الجواب أن قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً وإن كان خبراً في الظاهر لكن المراد النهي والمعنى أن كل من كان زانياً فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية وحرم ذلك على المؤمنين وهكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام وعلى هذا الوجه ذكروا قولين أحدهما أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزوج بالعفيفة والعفيف وبالعكس ويقال هذا مذهب أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة ثم في هؤلاء من يسوي بين الابتداء والدوام فيقول كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة
والقول الثاني أن هذا الحكم صار منسوخاً واختلفوا في ناسخه فعن الجبائي أن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وَأَنْكِحُواْ الايَامَى ( النور 32 ) قال المحققون هذان الوجهان ضعيفان أما الأول فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به وأيضاً فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي فكيف يصح
وأما قوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ فهو لا يصح أن يكون ناسخاً لأنه لا بد من أن يشترط فيه أن لا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما ولقائل أن يقول لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمن كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ ونقول إن للزنا تأثيراً في الفرقة ما ليس لغيره ألا ترى أنه إذا قذفها بالزنا يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد ولأن من حق الزنا أن يورث العار ويؤثر في الفراش ففارق غيره ثم احتج هؤلاء الذين يدعون هذا النسخ بأنه سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل زنى بامرأة فهل له أن يتزوجها فأجازه ابن عباس وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن ذلك فقال ( أوله سفاح وآخره نكاح ) والحرام لا يحرم الحلال الوجه الرابع أن يحمل النكاح على الوطء والمعنى أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة وكذا الزانية وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي وحرم الزنا على المؤمنين وعلى هذا تأويل أبي مسلم قال الزجاج هذا التأويل فاسد من وجهين الأول أنه ما ورد النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج ولم يرد ألبتة بمعنى الوطء الثاني أن ذلك يخرج الكلام عن الفائدة لأنا لو قلنا المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية فالإشكال عائد لأنا نرى أن الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها ولو قلنا المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا فهذا الكلام لا فائدة فيه وهذا آخر الكلام في هذا المقام
السؤال الثالث أي فرق بين قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً وبين قوله وَالزَّانِيَة ُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ والجواب الكلام الأول يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية وهذا لا يمنع من أن يرغب في نكاح الزانية غير الزاني فلا جرم بين ذلك بالكلام الثاني
السؤال الرابع لم قدمت الزانية على الزاني في الآية المتقدمة وههنا بالعكس الجواب سبقت تلك الآية لعقوبتها على جنايتها والمرأة هي المادة في الزنا وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو الراغب والطالب(23/132)
الحكم الثالث
القذف
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة ً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَة ً أَبَداً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي به رموا المحصنات وذكر الرمي لا يدل على الزنا إذ قد يرميها بسرقة وشرب خمر وكفر بل لا بد من قرينة دالة على التعيين وقد أجمع العلماء على أن المراد الرمي بالزنا وفي الآية أقوال تدل عليه أحدها تقدم ذكر الزنا وثانيها أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف فدل ذلك على أن المراد بالرمي رميهن بضد العفاف وثالثها قوله ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء يعني على صحة ما رموهن به ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا في الزنا ورابعها انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا إذا عرفت هذا فالكلام في هذه الآية يتعلق بالرمي والرامي والمرمي
البحث الأول في الرمي وفيه مسائل
المسألة الأولى ألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض فالصريح أن يقول يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك ولو قال زنى بدنك فيه وجهان أحدها أنه كناية كقوله زنى يدك لأن حقيقة الزنا من الفرج فلا يكون من سائر البدن إلا المعونة والثاني وهو الأصح أنه صريح لأن الفعل إنما يصدر من جملة البدن والفرج آلة في الفعل أما الكنايات فمثل أن يقول يا فاسقة يا فاجرة يا خبيثة يا مؤاجرة يا ابنة الحرام أو امرأتي لا ترد يد لامس وبالعكس فهذا لا يكون قذفاً إلا أن يريده وكذلك لو قال لعربي يا نبطي فهذا لا يكون قذفاً إلا أن يريده فإن أراد به القذف فهو قذف لأم المقول له وإلا فلا فإن قال عنيت به نبطي الدار واللسان وادعت أم المقول له أنه أراد القذف فالقول قوله مع يمينه أما التعريض فليس بقذف وإن أراده وذلك مثل قوله يا ابن الحلال أما أنا فما زنيت وليست أمي زانية وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح رحمهم الله وقال مالك رحمه الله يجب الحد فيه وقال أحمد وإسحق هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا لنا أن التعريض بالقذف محتمل للقذف ولغيره فوجب أن لا يجب الحد لأن الأصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك وأيضاً فلقوله عليه السلام ( أدرأوا الحدود بالشبهات ) ولأن الحدود شرعت على خلاق النص النافي للضرر والإيذاء الحاصل بالتصريح فوق الحاصل بالتعريض واحتج المخالف بما روى الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال كان عمر يضرب الحد في التعريض وروي أيضاً أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أحدهما للآخر والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية فاستشار عمر الناس في ذلك فقال قائل مدح أباه وأمه وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا فجلده عمر ثمانين جلدة(23/133)
والجواب أن في مشاورة عمر الصخابة في حكم التعريض دلالة على أنه لم يكن عندهم فيه توقيف وأنهم قالوا رأياً واجتهاداً
المسألة الثانية في تعدد القذف اعلم أنه إما أن يقذف شخصاً واحداً مراراً أو يقذف جماعة فإن قذف واحداً مراراً نظر إن كان أراد بالكل زانية واحدة بأن قال زنيت بعمرو قاله مراراً لا يجب إلا حد واحد ولو أنشأ الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني وإن قذفها بزنيات مختلفة بأن قال زنيت بزيد ثم قال زنيت بعمرو فهل يتعدد الحد أم لا فيه قولان أحدهما يتعدد اعتباراً باللفظ ولأنه من حقوق العباد فلا يقع فيه التداخل كالديون والثاني وهو الأصح يتداخل فلا يجب فيه إلا حد واحد لأنهما حدان من جنس واحد لمستحق واحد فوجب أن يتداخل كحدود الزنا ولو قذف زوجته مراراً فالأصح أنه يكتفي بلعان واحد سواء قلنا يتعدد الحد أو لا يتعدد أما إذا قذف جماعة معدودين نظر إن قذف كل واحد بكلمة يجب عليه لكل واحد حد كامل وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجب عليه إلا حد واحد واحتج أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بالقرآن والسنة والقياس
أما القرآن فهو قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ والمعنى أن كل أحد يرمي المحصنات وجب عليه الجلد وذلك يقتضي أن قاذف جماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية
وأما السنة فما روى عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشريك بن سحماء فقال النبي عليه السلام ( لا البينة أو حد في ظهرك ) فلم يوجب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على هلال إلا حداً واحداً مع قذفه لإمرأته ولشريك بن سحماء إلى أن نزلت آية اللعان فأقيم اللعان في الزوجات مقام الحد في الأجنبيات
وأما القياس فهو أن سائر ما يوجب الحد إذا وجد منه مراراً لم يجب إلا حد واحد كمن زنى مراراً أو شرب مراراً أو سرق مراراً فكذا ههنا والمعنى الجامع دفع مزيد الضرر والجواب عن الأول أن قوله وَالَّذِينَ صيغة جمع وقوله الْمُحْصَنَاتِ صيغة جمع والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل الفرد بالفرد فيصير المعنى كل من رمى محصناً واحداً وجب عليه الجد وعند ذلك يظهر وجه تمسك الشافعي رحمه الله بالآية ولأن قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ فَاجْلِدُوهُمْ يدل على ترتيب الجلد على رمي المحصنات وترتيب الحكم على الوصف لا سيما إذا كان مناسباً فإنه مشعر بالعلية فدلت الآية على أن رمي المحصن من حيث إنه هذا المسمى يوجب الجلد إذا ثبت هذا فنقول إذا قذف واحداً صار ذلك القذف موجباً للحد فإذا قذف الثاني وجب أن يكون القذف الثاني موجباً للحد أيضاً ثم موجب القذف الثاني لا يجوز أن يكون هو الحد الأول لأن ذلك قد وجب بالقذف الأول وإيجاب الواجب محال فوجب أن يحد بالقذف الثاني حداً ثانياً أقصى ما في الباب أن يورد على هذه الدلالة حدود الزنا لكنا نقول ترك العمل هناك بهذا الدليل لأن حد الزنا أغلظ من حد القذف وعند ظهور الفارق يتعذر الجمع
وأما السنة فلا دلالة فيها على هذه المسألة لأن قذفهما بلفظ واحد ولنا في هذه المسألة تفصيل سيأتي إن شاء(23/134)
وأما القياس ففاسد لأن حد القذف حق الآدمي بدليل أنه لا يحد إلا بمطالبة المقذوف وحقوق الآدمي لا تتداخل بخلاف حد الزنا فإنه حق الله تعالى هذا كله إذا قذف جماعة كل واحد منهم بكلمة على حدة أما إذا قذفهم بكلمة واحدة فقال أنتم زناة أو زنيتم ففيه قولان أصحهما وهو قوله في ( الجديد ) يجب لكل واحد حد كامل لأنه من حقوق العباد فلا يتداخل ولأنه أدخل على كل واحد منهم معرة فصار كما لو قذفهم بكلمات وفي ( القديم ) لا يجب للكل إلا حد واحد اعتباراً باللفظ فإن اللفظ واحد والأول أصح لأنه أوفق لمفهوم الآية فعلى هذا لو قال لرجل يا ابن الزانيين يكون قذفاً لأبويه بكلمة واحدة فعليه حدان
المسألة الثالثة فيما يبيح القذف القذف ينقسم إلى محظور ومباح وواجب وجملة الكلام أنه إذا لم يكن ثم ولد يريد نفيه فلا يجب وهل يباح أم لا ينظر إن رآها بعينه تزني أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها أو سمع ممن يثق بقوله أو لم يسمع لكنه استفاض فيما بين الناس أن فلاناً يزني بفلانة وقد رآه الزوج يخرج من بيتها أو رآه معها في بيت فإنه يباح له القذف لتأكد التهمة ويجوز أن يمسكها ويستر عليها
لما روي ( أن رجلاً قال يا رسول الله إن لي امرأة لا ترد يد لامس قال طلقها قال إني أحبها قال فأمسكها ) أما إذا سمعه ممن لا يوثق بقوله أو استفاض من بين الناس ولكن الزوج لم يره معها أو بالعكس لم يحل له قذفها لأنه قد يذكره من لا يكون ثقة فينتشر ويدخل بيتها خوفاً من قاصد أو لسرقة أو لطلب فجور فتأبى المرأة قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ جَاءوا بِالإفْكِ عُصْبَة ٌ مّنْكُمْ ( النور 11 ) أما إذا كان ثم ولد يريد نفيه نظر فإن تيقن أنه ليس منه بأن لم يكن وطئها الزوج أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوطء أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه نفيه باللعان لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير كما هو ممنوع من نفي نسبه لما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولم يدخلها الله جنته ) فلما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم كان الرجل أيضاً كذلك أما إن احتمل أن يكون منه بأن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الوطء ولدون أربع سنين نظر إن لم يكن قد استبرأها بحيضة أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء لا يحل له القذف والنفي وإن اتهمها بالزنا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ) فإن استبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء يباح له القذف والنفي والأولى أن لا يفعل لأنها قد ترى الدم على الحبل وإن أتت امرأته بولد لا يشبهه بأن كانا أبيضين فأتت به أسود نظر إن لم يكن يتهمها بالزنا فليس له نفيه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ( أن رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال هل لك من إبل قال نعم قال ما ألوانها قال حمر قال فهل فيها أورق قال نعم قال فكيف ذاك قال نزعه عرق قال فلعل هذا نزعه عرق ) وإن كان يتهمها بزنا أو يتهمها برجل فأتت بولد يشبهه هل يباح له نفيه فيه وجهان أحدهما لا لأن العرق ينزع والثاني له ذلك لأن التهمة قد تأكدت بالشبهة
البحث الثاني في الرامي وفيه مسائل
المسألة الأولى إذا قذف الصبي أو المجنون امرأته أو أجنبياً فلا حد عليهما ولا لعان لا في الحال(23/135)
ولا بعد البلوغ لقوله عليه الصلاة والسلام ( رفع القلم عن ثلاث ) ولكن يعزران للتأديب إن كان لهما تمييز فلو لم تتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ قال القفال يسقط التعزير لأنه كان للزجر عن إساءة الأدب وقد حدث زاجر أقوى وهو البلوغ
المسألة الثانية الأخرس إذا كانت له إشارة مفهومة أو كتابة معلومة وقذف بالإشارة أو بالكناية لزمه الحد وكذلك يصح لعانه بالإشارة والكناية وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه وقول الشافعي رحمه الله أقرب إلى ظاهر الآية لأن من كتب أو أشار إلى القذف فقد رمى المحصنة وألحق العار بها فوجب اندراجه تحت الظاهر ولأنا نقيس قذفه ولعانه على سائر الأحكام
المسألة الثالثة اختلفوا فيما إذا قذف العبد حراً فقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان القن عليه أربعون جلدة روى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن علياً عليه السلام قال ( يجلد العبد في القذف أربعين ) وعن عبدالله بن عمر أنه قال ( أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء وكلهم يضربون المملوك في القذف أربعين ) وقال الأوزاعي يجلد ثمانين وهو مروي عن ابن مسعود وروي أنه جلد عمر بن عبد العزيز العبد في الفرية ثمانين ومدار المسألة على حرف واحد وهو أن هذه الآية صريحة في إيجاب الثمانين فمن رد هذا الحد إلى أربعين فطريقه أن الله تعالى قال فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( النساء 25 ) فنص على أن حد الأمة في الزنا نصف حد الحرة ثم قاسوا العبد على الأمة في تنصيف حد الزنا ثم قاسوا تنصيف حد قذف العبد على تنصيف حد الزنا في حقه فرجع حاصل الأمر إلى تخصيص عموم الكتاب بهذا القياس
المسألة الرابعة اتفقوا على دخول الكافر تحت عموم قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ لأن الاسم يتناوله ولا مانع فاليهودي إذا قذف المسلم يجلد ثمانين والله أعلم
البحث الثالث في المرمى وهي المحصنة قال أبو مسلم اسم الإحصان يقع على المتزوجة وعلى العفيفة وإن لم تتزوج لقوله تعالى في مريم وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ( الأنبياء 91 ) وهو مأخوذ من منع الفرج فإذا تزوجت منعته إلا من زوجها وغير المتزوجة تمنعه كل أحد ويتفرع عليه مسائل
المسألة الأولى ظاهر الآية يتناول جميع العفائف سواء كانت مسلمة أو كافرة وسواء كانت حرة أو رقيقة إلا أن الفقهاء قالوا شرائط الإحصان خمسة الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا وإنما اعتبرنا الإسلام لقوله عليه السلام ( من أشرك بالله فليس بمحصن ) وإنما اعتبرنا العقل والبلوغ لقوله عليه السلام ( رفع القلم عن ثلاث ) وإنما اعتبرنا الحرية لأن العبد ناقص الدرجة فلا يعظم عليه التعيير بالزنا وإنما اعتبرنا العفة عن الزنا لأن الحد مشروع لتكذيب القاذف فإذا كان المقذوف زانياً فالقاذف صادق في القذف وكذلك إذا كان المقذوف وطىء امرأة بشبهة أو نكاح فاسد لأن فيه شبهة الزنا كما فيه شبهة الحل فكما أن إحدى الشبهتين أسقطت الحد عن الواطىء فكذا الأخرى تسقطه عن قاذفه أيضاً ثم نقول من قذف كافراً أو مجنوناً أو صبياً أو مملوكاً أو من قد رمى امرأة فلا حد عليه بل يعزر للأذى حتى لو زنى في عنفوان شبابه مرة ثم تاب وحسن حاله وشاخ في الصلاح لا يحد قاذفه وكذلك لو زنى كافر أو رقيق ثم أسلم وعتق وصلح حاله فقذفه قاذف لا حد عليه بخلاف ما لو زنى في حال صغره أو جنونه ثم بلغ أو أفاق فقذفه(23/136)
قاذف يحد لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زناً ولو قذف محصناً فقبل أن يحد القاذف زنا المقذوف سقط الحد عن قاذفه لأن صدور الزنا يورث ريبة في حالة فيما مضى لأن الله تعالى كريم لا يهتك ستر عبده في أول ما يرتكب المعصية فبظهوره يعلم أنه كان متصفاً به من قبل روي أن رجلاً زنى في عهد عمر فقال والله ما زنيت إلا هذه فقال عمر كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة وقال المزني وأبو ثور الزنا الطارىء لا يسقط الحد عن القاذف
المسألة الثانية قال الحسن البصري قوله وَالَّذِينَ يَرَوْنَ الْمُحْصَنَاتِ يقع على الرجال والنساء وسائر العلماء أنكروا ذلك لأن لفظ المحصنات جمع لمؤنث فلا يتناول الرجال بل الإجماع دل على أنه لا فرق في هذا الباب بين المحصنين والمحصنات
المسألة الثالثة رمي غير المحصنات لا يوجب الحد بل يوجب التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفاً بما قذف به فلا حد هناك ولا تعزير فهذا مجموع الكلام في تفسير قوله سبحانه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
أما قوله سبحانه ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء ففيه بحثان
البحث الأول اعلم أن الله تعالى حكم في القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء بثلاثة أحكام أحدها جلد ثمانين وثانيها بطلان الشهادة وثالثها الحكم بفسقه إلى أن يتوب واختلف أهل العلم في كيفية ثبوت هذه الأحكام بعد اتفاقهم على وجوب الحد عليه بنفس القذف عند عجزه عن إقامة البينة على الزنا فقال قائلون قد بطلت شهادته ولزمه سمة الفسق قبل إقامة الحد عليه وهو قول الشافعي والليث بن سعد وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر شهادته مقبولة ما لم يحد قال أبو بكر الرازي وهذا مقتضى قولهم إنه غير موسوم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد لأنه لو لزمته سمة الفسق لما جازت شهادته إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها ثم احتج أبو بكر على صحة قول أبي حنيفة رحمه الله بأمور أحدها قوله سبحانه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة ً ظاهر الآية يقتضي ترتب وجوب الحد على مجموع القذف والعجز عن إقامة الشهادة فلو علقنا هذا الحكم على القذف وحده قدح ذلك في كونه معلقاً على الأمرين وذلك بخلاف الآية وأيضاً فوجوب الجلد حكم مرتب على مجموع أمرين فوجب أن لا يحصل بمجرد حصول أحدهما كما لو قال لامرأته إن دخلت الدار وكلمت فلاناً فأنت طالق فأتت بأحد الأمرين دون الآخر لم يوجد الجزاء فكذا ههنا وثانيها أن القاذف لا يحكم عليه بالكذب بمجرد قذفه وإذا كان كذلك وجب أن لا ترد شهادته بمجرد القذف بيان الأول من ثلاثة أوجه الأول أن مجرد قذفه لو أوجب كونه كاذباً لوجب أن لا تقبل بعد ذلك بينته على الزنا إذ قد وقع الحكم بكذبه والحكم بكذبه في قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقه في كون المقذوف زانياً ولما أجمعوا على قبول بينته ثبت أنه لم يحكم عليه بالكذب بمجرد قذفه الثاني أن قاذف امرأته بالزنا لا يحكم بكذبه بنفس قذفه وإلا لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته ولما أمر بأن يشهد بالله أنه لصادق فيما رماها به من الزنا مع الحكم بكذبه ولما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعدما لاعن بين الزوجين ( الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ) فأخبر أن أحدهما بغير تعيين هو الكاذب ولم يحكم بكذب القاذف وفي ذلك دليل على أن(23/137)
نفس القذف لا يوجب كونه كاذباً الثالث قوله تعالى لَّوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( النور 13 ) فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط فثبت بهذه الوجوه أن القاذف غير محكوم عليه بكونه كاذباً بمجرد القذف وإذا كان كذلك وجب أن لا تبطل شهادته بمجرد القذف لأنه كان عدلاً ثقة والصادر عنه غير معارض ولما كان يجب أن يبقى على عدالته فوجب أن يكون مقبول الشهادة وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام ( المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدوداً في قذف ) أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببقاء عدالة القاذف ما لم يحد ورابعها ما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة هلال بن أمية لما قذف امرأته عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله ( يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ) فأخبر أن بطلان شهادته متعلق بوقوع الجلد به وذلك يدل على أن مجرد القذف لا يبطل الشهادة وخامسها أن الشافعي رحمه الله زعم أن شهود القذف إذا جاءوا متفرقين قبلت شهادتهم فإن كان القذف قد أبطل شهادته فواجب أن لا يقبلها بعد ذلك وإن شهد معه ثلاثة لأنه قد فسق بقذفه ووجب الحكم بكذبه وفي قبول شهادتهم إذا جاءوا متفرقين ما يلزمه أن لا تبطل شهادتهم بنفس القذف وأما وجه قول الشافعي رحمه الله فهو أن الله تعالى رتب على القذف مع عدم الإتيان بالشهداء الأربعة أموراً ثلاثة معطوفاً بعضها على بعض بحرف الواو وحرف الواو لا يقتضي الترتيب فوجب أن لا يكون بعضها مرتباً على البعض فوجب أن لا يكون رد الشهادة مرتباً على إقامة الحد بل يجب أن يثبت رد الشهادة سواء أقيم الحد عليه أو ما أقيم والله أعلم
البحث الثاني في كيفية الشهادة على الزنا قال الله تعالى وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعة ً مّنْكُمْ ( النساء 15 ) وقال تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء وقال سعد بن عبادة ( يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال نعم ) ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة رجلين فيه قولان أحدهما لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا والثاني يثبت بخلاف فعل الزنا لأن الفعل يغمض الاطلاع عليه فاحتيط فيه باشتراط الأربع والإقرار أمر ظاهر فلا يغمض الإطلاع عليه
المسألة الثانية إذا شهدوا على فعل الزنا يجب أن يذكروا الزاني ومن زنى بها لأنه قد يراه على جارية له فيظن أنها أجنبية ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المكحلة فلو شهدوا مطلقاً أنه زنى لا يثبت لأنهم ربما يرون المفاخذة زنا بخلاف ما لو قذف إنساناً فقال زنيت يجب الحد ولا يستفسر ولو أقر على نفسه بالزنا هل يشترط أن يستفسر فيه وجهان أحدهما نعم كالشهود والثاني لا يجب كما في القذف
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله لا فرق بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا شهدوا متفرقين لا يثبت وعليهم حد القذف حجة الشافعي رحمه الله من وجوه الأول أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين أو متفرقين واللفظ الدال على ما به الاشتراك لا إشعار له بما به الامتياز فالآتي بهم متفرقين يكون عاملا بالنص فوجب أن يخرج عن العهدة الثاني كل(23/138)
حكم يثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين يثبت إذا جاءوا متفرقين كسائر الأحكام بل هذا أولى لأنهم إذا جاءوا متفرقين كان أبعد عن التهمة وعن أن يتلقن بعضهم من بعض فلذلك قلنا إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ليظهر على عورة إن كانت في شهادتهم الثالث أنه لا يشترط أن يشهدوا معاً في حالة واحدة بل إذا اجتمعوا عند القاضي وكان يقدم واحد بعد آخر ويشهد فإنه تقبل شهادتهم فكذا إذا اجتمعوا على بابه ثم كان يدخل واحد بعد واحد حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجهين الأول أن الشاهد الواحد لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فوجب عليه الحد لقوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء أقصى ما في الباب أنهم عبروا عن ذلك القذف بلفظ الشهادة وذلك لا عبرة به لأنه يؤدي إلى إسقاط حد القذف رأساً لأن كل قاذف لا يعجزه لفظ الشهادة فيجعل ذلك وسيلة إلى إسقاط الحد عن نفسه ويحصل مقصوده من القذف الثاني ما روي ( أن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب أربعة أبو بكرة ونافع ونفيع وقال زياد وكان رابعهم رأيت إستاً تنبو ونفساً يعلو ورجلاها على عاتقه كأذني حمار ولا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد آخر ) فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف لأن الحدود مما يتوقف فيها ويحتاط
المسألة الرابعة لو شهد على الزنا أقل من أربعة لا يثبت الزنا وهل يجب حد القذف على الشهود فيه قولان أحدهما لا يجب لأنهم جاءوا مجيء الشهود ولأنا لو حددنا لانسد باب الشهادة على الزنا لأن كل واحد لا يأمن أن لا يوافقه صاحبه فيلزمه الحد والقول الثاني وهو الأصح وبه قال أبو حنيفة رحمه الله يجب عليهم الحد والدليل عليه الوجهان اللذان ذكرناهما في المسألة الثالثة
المسألة الخامسة إذا قذف رجل رجلاً فجاء بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا قال أبو حنيفة رحمه الله يسقط الحد عن القاذف ولا يجب الحد على الشهود وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه يحدون وجه قول أبي حنيفة قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء وهذا قد أتى بأربعة شهداء فلا يلزمه الحد ولأن الفاسق من أهل الشهادة وقد وجدت شرائط شهادة الزنا من اجتماعهم عند القاضي إلا أنه لم تقبل شهادتهم لأجل التهمة فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه فكذلك وجب اعتبارها في نفي الحد عنهم ووجه قول الشافعي رحمه الله أنهم غير موصوفين بالشرائط المعتبرة في قبول الشهادة فخرجوا عن أن يكونوا شاهدين فبقوا محض القاذفين وههنا آخر الكلام في تفسير قوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء
أما قوله تعالى فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة ً ففيه مسائل
المسألة الأولى المخاطب بقوله فَاجْلِدُوهُمْ هو الإمام على ما بيناه في آية الزنا أو المالك على مذهب الشافعي أو رجل صالح ينصبه الناس عند فقد الإمام
المسألة الثانية خص من عموم هذه الآية صور أحدها الوالد يقذف ولده أو أحداً من نوافله فلا يجب عليه الحد كما لا يجب عليه القصاص بقتله الثانية القاذف إذا كان عبداً فالواجب جلد أربعين وكذا المكاتب وأم الولد ومن بعضه حر وبعضه رقيق فحدهم حد العبيد الثالثة من قذف رقيقة عفيفة أو من زنت في قديم الأيام ثم تابت فهي بموجب اللغة محصنة ومع ذلك لا يجب الحد بقذفها(23/139)
المسألة الثالثة قالوا أشد الضرب في الحدود ضرب الزنا ثم ضرب شرب الخمر ثم ضرب القاذف لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب إلا أنه عوقب صيانة للأعراض وزجراً عن هتكها
المسألة الرابعة قال مالك والشافعي حد القذف يورث فإذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد وقبل العفو يثبت لوارثه حد القذف وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير فإنه يورث عنه وكذا لو أنشأ القذف بعد موت المقذوف ثبت لوارثه طلب الحد وعند أبي حنيفة رحمه الله حد القذف لا يورث ويسقط بالموت حجة الشافعي رحمه الله أن حد القذف هو حق الآدمي لأنه يسقط بعفوه ولا يستوفي إلا بطلبه ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر وإذا كان حق الآدمي وجب أن يورث لقوله عليه السلام ( ومن ترك حقاً فلورثته ) حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه لو كان موروثاً لكان للزوج أو الزوجة فيه نصيب ولأنه حق ليس فيه معنى المال والوثيقة فلا يورث كالوكالة والمضاربة والجواب عن الأول أن الأصح عند الشافعية أنه يرثه جميع الورثة كالمال وفيه وجه ثان أنه يرثه كلهم إلا الزوج والزوجة لأن الزوجية ترتفع بالموت ولأن المقصود من الحد دفع العار عن النسب وذلك لا يلحق الزوج والزوجة
المسألة الخامسة إذا قدف إنسان إنساناً بين يدي الحاكم أو قذف امرأته برجل بعينه والرجل غائب فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلاناً قذفك وثبت لك حد القذف عليه كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلمه يلزمه إعلامه وعلى هذا المعنى ( بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنيساً ليخبرها بأن فلاناً قذفها بابنه ولم يبعثه ليتفحص عن زناها ) قال الشافعي رحمه الله وليس للإمام إذا رمى رجل بزنا أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك لأن الله تعالى قال وَلاَ تَجَسَّسُواْ وأراد به إذا لم يكن القاذف معيناً مثل إن قال رجل بين يدي الحاكم الناس يقولون إن فلاناً زنى فلا يبعث الحاكم إليه فيسأله
أما قوله تعالى وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَة ً أَبَداً فاختلف الفقهاء فيه فقال أكثر الصحابة والتابعين إنه إذا تاب قبلت شهادته وهو قول الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح رحمهم الله لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب وهذه المسألة مبنية على أن قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ هل عاد إلى جميع الأحكام المذكورة أو اختص بالجملة الأخيرة فعند أبي حنيفة رحمه الله الاستثناء المذكور عقيب الجمل الكثيرة مختص بالجملة الأخيرة وعند الشافعي رحمه الله يرجع إلى الكل وهذه المسألة قد لخصناها في أصول الفقه ونذكر ههنا ما يليق بهذا الموضع إن شاء الله تعالى احتج الشافعي رحمه الله على أن شهادته مقبولة بوجوه أحدها قوله عليه السلام ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) ومن لا ذنب له مقبول الشهادة فالتائب يجب أن يكون أيضاً مقبول الشهادة وثانيها أن الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع فالقاذف المسلم إذا تاب عن القذف وجب أن تقبل شهادته لأن القذف مع الإسلام أهون حالاً من القذف مع الكفر فإن قيل المسلمون لا يألمون بسب الكفار لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنآن ما يلحقه بقذف مسلم مثله فشدد على القاذف من المسلمين زجراً عن إلحاق العار والشنآن وأيضاً فالتائب من الكفر لا يجب عليه الحد والتائب من القذف لا يسقط عنه الحد قلا هذا الفرق ملغى بقوله عليه السلام ( أنبئهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على(23/140)
المسلمين ) وثالثها أجمعنا على أن التائب عن الكفر والقتل والزنا مقبول الشهادة فكذا التائب عن القذف لأن هذه الكبيرة ليست أكبر من نفس الزنا ورابعها أن أبا حنيفة رحمه الله يقبل شهادته إذ تاب قبل الحد مع أن الحد حق المقذوف فلا يزول بالتوبة فلأن تقبل شهادته إذا تاب بعد إقامة الحد وقد حسنت حالته وزال اسم الفسق عنه كان أولى وخامسها أن قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ استثناء مذكور عقيب جمل فوجب عوده إليها بأسرها ويدل عليه أمور أحدها أجمعنا على أنه لو قال عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله فإنه يرجع الاستثناء إلى الجميع فكذا فيما نحن فيه فإن قيل الفرق أن قوله إِن شَاء اللَّهُ ( يوسف 99 ) يدخل لرفع حكم الكلام حتى لا يثبت فيه شيء والاستثناء المذكور بحرف الاستثناء لا يجوز دخوله لرفع حكم الكلام رأساً ألا ترى أنه يجوز أن يقول أنت طالق إن شاء الله فلا يقع شيء ولو قال أنت طالق إلا طلاقاً كان الطلاق واقعاً والاستثناء باطلاً لاستحالة دخوله لرفع حكم الكلام بالكلية فثبت أنه لا يلزم من رجوع قوله إِن شَاء اللَّهُ إلى جميع ما تقدم صحة رجوع الاستثناء بحرفه إلى جميع ما تقدم قلنا هذا فرق في غير محل الجمع لأن إن شاء الله جاز دخوله لرفع حكم الكلام بالكلية فلا جرم جاز رجوعه إلى جميع الجمل المذكورة وإلا جاز دخوله لرفع بعض الكلام فوجب جواز رجوعه إلى جميع الجمل على هذا الوجه حتى يقتضي أن يخرج من كل واحد من الجمل المذكورة بعضه وثانيها أن الواو للجمع المطلق فقوله فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة ً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَة ً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ صار الجمع كأنه ذكر معاً لا تقدم للبعض على البعض فلما دخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضها أولى من رجوعه إلى الباقي إذ لم يكن لبعضها على بعض تقدم في المعنى ألبتة فوجب رجوعه إلى الكل ونظيره على قول أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ( المائدة 6 ) فإن فاء التعقيب ما دخلت على غسل الوجه بل على مجموع هذه الأمور من حيث إن الواو لا تفيد الترتيب فكذا ههنا كلمة إلا ما دخلت على واحد بعينه لأن حرف الواو لا يفيد الترتيب بل دخلت على المجموع فإن قيل الواو قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد تكون للاستئناف وهي في قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه ونظمه جملة واحدة فيصير الكل كالمذكور معاً مثل آية الوضوء فإن الكل أمر واحد كأنه قال فاغسلوا هذه الأعضاء فإن الكل قد تضمنه لفظ الأمر وأما آية القذف فإن ابتداءها أمر وآخرها خبر فلا يجوز أن ينظمهما جملة واحدة وكان الواو للاستئناف فيختص الاستثناء به قلنا لم لا يجوز أن نجعل الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط كأنه قيل ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والفسق إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم فينقبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين وثالثها أن قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ عقيب قوله وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَة ً أَبَداً يدل على أن العلة في عدم قبول تلك الشهادة كونه فاسقاً لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية لا سيما إذا كان الوصف مناسباً وكونه فاسقاً يناسب أن لا يكون مقبول الشهادة إذا ثبت أن العلة لرد الشهادة ليست إلا كونه فاسقاً ودل الاستثناء على زوال الفسق فقد زالت العلة فوجب أن يزول الحكم لزوال العلة ورابعها أن مثل هذا الاستثناء موجود في القرآن قال الله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ( البقرة 160 ) ولا خلاف أن هذا الاستثناء راجع إلى ما تقدم من أول الآية وأن التوبة حاصلة لهؤلاء جميعاً وكذلك قوله لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى(23/141)
إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( النساء 43 ) وصار التيمم لمن وجب عليه الاغتسال كما أنه مشروع لمن وجب عليه الوضوء وهذا الوجه ذكره أبو عبيد في إثبات مذهب الشافعي رحمه الله واحتج أصحاب أبي حنيفة على أن حكم الاستثناء مختص بالجملة الأخيرة بوجوه أحدها أن الاستثناء من الاستثناء يختص بالجملة الأخيرة فكذا في جميع الصور طرداً للباب وثانيها أن المقتضي لعموم الجمل المتقدمة قائم والمعارض وهو الاستثناء يكفي في تصحيحه تعليقه بجملة واحدة لأن بهذا القدر يخرج الاستثناء عن أن يكون لغواً فوجب تعليقه بالجملة الواحدة فقط وثالثها أن الاستثناء لو رجع إلى كل الجمل المتقدمة لوجب أنه إذا تاب أن لا يجلد وهذا باطل بالإجماع فوجب أن يختص الاستثناء بالجملة الأخيرة والجواب عن الأول أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي فالاستثناء عقيب لو رجع إلى الاستثناء الأول وإلى المستثنى فبقدر ما نفي من أحدهما أثبت في الآخر فينجبر الناقص بالزائد ويصير الاستثناء الثاني عديم الفائدة فلهذا السبب قلنا في الاستثناء من الاستثناء إنه يختص بالجملة الأخيرة والجواب عن الثاني أنا بينا أن واو العطف لا تقتضي الترتيب فلم يكن بعض الجمل متأخراً في التقدير عن البعض فلم يكن تعليقه بالبعض أولى من تعليقه بالباقي فوجب تعليقه بالكل والجواب عن الثالث أنه ترك العمل به في حق البعض فلم يترك العمل به في حق الباقي واحتج أصحاب أبي حنيفة رحمه الله في المسألة بوجوه من الأخبار أحدها ما روى ابن عباس رضي الله عنهما في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ) فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن وقوع الجلد به يبطل شهادته من غير شرط التوبة في قبولها وثانيها أن قوله عليه السلام ( المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف ) ولم يشترط فيه وجود التوبة منه وثالثها ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا تجوز شهادة محدود في الإسلام ) قالت الشافعية هذا معارض بوجوه أحدها قوله عليه السلام ( إذا علمت مثل الشمس فاشهد ) والأمر للوجوب فإذا علم المحدود وجبت عليه الشهادة ولو لم تكن مقبولة لما وجبت لأنها تكون عبثاً وثانيها قوله عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر ) وههنا قد حصل الظهور لأن دينه وعقله وعفته الحاصلة بالتوبة تفيد ظن كونه صادقاً وثالثها ما روي عن عمر بن الخطاب ( أنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة ونافع ونفيع ثم قال لهم من أكذب نفسه قبلت شهادته ومن لم يفعل لم أجز شهادته فأكذب نافع ونفيع أنفسهما وتابا وكان يقبل شهادتهما وأما أبو بكرة فكان لا يقبل شهادته ) وما أنكر عليه أحد من الصحابة فيه فهذا تمام الكلام في هذه المسألة
أما قوله تعالى وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ فاعلم أنه يدل على أمرين الأول أن القذف من جملة الكبائر لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب الكبيرة الثاني أنه اسم لمن يستحق العقاب لأنه لو كان مشتقاً من فعله لكانت التوبة لا تمنع من دوامه كما لا تمنع من وصفه بأنه ضارب وبأنه رام إلى غير ذلك
وأما قوله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ فاعلم أنهم اختلفوا في أن التوبة عن القذف كيف تكون قال الشافعي رحمه الله التوبة منه إكذابه نفسه واختلف أصحابه في معناه فقال الأصطخري يقول كذبت فيما قلت فلا أعود لمثله وقال أبو إسحق لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقاً فيكون قوله كذبت كذباً والكذب(23/142)
معصية والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى بل يقول القاذف باطلاً ندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه
أما قوله وَأَصْلَحُواْ فقال أصحابنا إنه بعد التوبة لا بد من مضي مدة عليه في حسن الحال حتى تقبل شهادته وتعود ولايته ثم قدروا تلك المدة بسنة حتى تمر عليه الفصول الأربع التي تتغير فيها الأحوال والطباع كما يضرب للعنين أجل سنة وقد علق الشرع أحكاماً بالسنة من الزكاة والجزية وغيرهما
وأما قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فالمعنى أنه لكونه غفوراً رحيماً يقبل التوبة وهذا يدل على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً إذ لو كان واجباً لما كان في قبوله غفوراً رحيماً لأنه إذا كان واجباً فهو إنما يقبله خوفاً وقهراً لعلمه بأنه لو لم يقبله لصار سفيهاً ولخرج عن حد الإلهية أما إذا لم يكن واجباً فقبله فهناك تتحقق الرحمة والإحسان وبالله التوفيق
الحكم الرابع
حكم اللعان
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَة ُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَة ُ أَنَّ لَعْنَة َ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَة َ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ
إعلم أنه سبحانه لما ذكر أحكام قذف الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات ثم هذه الآية مشتملة على أبحاث
البحث الأول في سبب نزوله وذكروا فيه وجوها أحدها قال ابن عباس رحمهم الله ( لما تزل قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء قال عاصم بن عدي الأنصاري إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدوا بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج وإن قتله قتل به وإن قال وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضرب وإن سكت سكت على غيظ اللهم افتح وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس فأتى عويمر عاصماً فقال لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما ذاك فقال أخبرني عويمر ابن عمي بأنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بهم جميعاً وقال لعويمر اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها فقال يا رسول الله أقسم بالله أني رأيت شريكاً على بطنها(23/143)
وأني ماقربتها منذ أربعة أشهر وأنها حبلى من غيري فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت فقالت يا رسول الله إن عويمراً رجل غيور وإنه رأى شريكاً يطيل النظر إلي ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى نودي الصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر قم وقل أشهد بالله أن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ثم قال في الثانية قل أشهد بالله أني رأيت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين ثم قال في الثالثة قل أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين ثم قال في الرابعة قل أشهد بالله أنها زانية وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ثم قال في الخامس قل لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال ثم قال اقعد وقال لخولة قومي فقامت وقالت أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي عويمراً لمن الكاذبين وقالت في الثانية أشهد بالله ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين وقالت في الثالثة أشهد بالله أني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين وقالت في الرابعة أشهد بالله أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين وقالت في الخامسة غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله ففرق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بينهما ) وثانيها قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الكلبي ( أن عاصماً ذات يوم رجع إلى أهله فوجد شريك بن سحماء على بطن امرأته فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وتمام الحديث كما تقدم وثالثها ما روى عكرمة عن ابن عباس ( لما نزل وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار لو وجدت رجلاً على بطنها فإني إن جئت بأربعة من الشهداء يكون قد قضى حاجته وذهب فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا معشر الأنصار أما تسمعون ما يقول سيدكم فقالوا يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور فقال سعد يا رسول الله والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكني عجبت منه فقال عليه السلام فإن الله يأبى إلا ذلك قال فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء ابن عمر له يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فقال يا رسول الله إني وجدت مع امرأتي رجلاً رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما جاء به فقال هلال والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أخبرتك به والله يعلم أني لصادق وما قلت إلا حقاً فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إما البيتة وإما إقامة الحد عليك ) فاجتمعت الأنصار فقالوا ابتلينا بما قال سعد فبينا هم كذلك إذ نزل عليه الوحي وكان إذا نزل عليه الوحي اربد وجهه وعلا جسده حمرة فلما سرى عنه قال عليه السلام أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجاً قال قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى فقرأ عليهم هذه الآيات فقال عليه السلام ادعوها فدعيت فكذبت هلالاً فقال عليه السلام الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب وأمر بالملاعنة فشهد هلال أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين فقال عليه السلام له عند الخامسة اتق الله يا هلال فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشهد الخامسة ثم قال رسول الله أتشهدين فشهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين فلما أخذت في الخامسة قال لها اتقي الله فإن الخامسة هي الموجبة فتفكرت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت والله لا أفضح قومي وشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بينهما ثم قال انظروها إن جاءت به أثيبج أصهب أحمش الساقين فهو لهلال وإن جاءت به خدلج الساقين أورق جعداً فهو لصاحبه فجاءت به أورق خدلج الساقين فقال عليه السلام لولا الإيمان لكان لي ولها شأن ) قال عكرمة لقد رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار ولا يدري من أبوها(23/144)
البحث الثاني ما يتعلق بالقراءة قرىء ولم تكن بالتاء لأن الشهداء جماعة أو لأنهم في معنى الأنفس ووجه من قرأ أربع أن ينصب لأنه في حكم المصدر والعامل فيه المصدر الذي هو فشهادة أحدهم وهي مبتدأ محذوف الخبر فتقديره فواجب شهادة أحدهم أربع شهادات وقرىء أن لعنة الله وأن غضب الله على تخفيف أن ورفع ما بعدها وقرىء أن غضب الله على فعل الغضب وقرىء بنصب الخامستين على معنى ويشهد الخامسة
البحث الثالث ما يتعلق بالأحكام والنظر فيه يتعلق بأطراف
الطرف الأول في موجب اللعان وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة والتعزير إن لم تكن محصنة كما في رمي الأجنبية لا يختلف موجبهما غير أنهما يختلفان في المخلص ففي قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف أو ببينة تقوم على زناها وفي قذف الزوجة يسقط عنه الحد بأحد هذين الأمرين أو باللعان وإنما اعتبر الشرع اللعان في هذه الصورة دون الأجنبيات لوجهين الأول أنه لا معرة عليه في زنا الأجنبية والأولى له ستره أما إذا زنى بزوجته فيلحقه العار والنسب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمعتذر فلا جرم خص الشرع هذه الصورة باللعان الثاني أن الغالب في المتعارف من أحوال الرجل مع امرأته أنه لا يقصدها بالقذف إلا عن حقيقة فإذا رماها فنفس الرمي يشهد بكونه صادقاً إلا أن شهادة الحال ليست بكاملة فضم إليها ما يقويها من الإيمان كشهادة المرأة لما ضعفت قويت بزيادة العدد والشاهد الواحد يتقوى باليمين على قول كثير من الفقهاء
المسألة الثانية قال أبو بكر الرازي كان حد قاذف الأجنبيات والزوجات والجلد والدليل عليه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء ( ائتني بأربعة يشهدون لك وإلا فحد في ظهرك ) فثبت بهذا أن حد قاذف الزوجات كان كحد قاذف الأجنبيات إلا أنه نسخ عن الأزواج الجلد باللعان وروى نحو ذلك في الرجل الذي قال أرأيتم لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ فدلت هذه الأخبار على أن حد قاذف الزوجة كان الجلد وأن الله نسخه باللعان
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله إذا قذف الزوج زوجته فالواجب هو الحد ولكن المخلص منه باللعان كما أن الواجب بقذف الأجنبية الحد والمخلص منه بالشهود فإذا نكل الزوج عن اللعان يلزمه الحد للقذف فإذا لاعن ونكلت عن اللعان يلزمها حد الزنا وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا نكل الزوج عن اللعان حبس حتى يلاعن وكذا المرأة إذا نكلت حبست حتى لا تلاعن حجة الشافعي وجوه أحدها أن الله تعالى قال في أول السورة وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( النور 4 ) يعني غير الزوجات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة ً ( النور 4 ) ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَة ُ أَحَدِهِمْ الآية فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد وثانيها قوله تعالى وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ والألف واللام الداخلان على العذاب لا يفيدان العموم لأنه لم يجب عليها جميع أنواع العذاب فوجب صرفهما إلى(23/145)
المعهود السابق والمعهود السابق هو الحد لأنه تعالى ذكر في أول السورة وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( النور 2 ) والمراد منه الحد وإذا ثبت أن المراد من العذاب في قوله وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ هو الحد ثبت أنها لو لم تلاعن لحدت وأنها باللعان دفعت الحد فإن قيل المراد من العذاب هو الحبس قلنا قد بينا أن الألف واللام للمعهود المذكور وأقرب المذكورات في هذه السورة العذاب بمعنى الحد وأيضاً فلو حملناه على الحد لا تصير الآية مجملة أما لو حملناه على الحبس تصير الآية مجملة لأن مقدار الحبس غير معلوم وثالثها قال الشافعي رحمه الله ومما يدل على بطلان الحبس في حق المرأة أنها تقول إن كان الرجل صادقاً فحدوني وإن كان كاذباً فخلوني فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا الإجماع ولا القياس ورابعها أن الزوج قذفها ولم يأت بالمخرج من شهادة غيره أو شهادة نفسه فوجب عليه الحد لقوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ( النور 4 ) وإذا ثبت ذلك في حق الرجل ثبت في حق المرأة لأنه لا قائل بالفرق وخامسها قوله عليه السلام لخولة ( فالرجم أهون عليك من غضب الله ) وهو نص في الباب حجة أبي حنيفة رحمه الله أما في حق المرأة فلأنها ما فعلت سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك ليس بينة على الزنا ولا إقراراً منها به فوجب أن لا يجوز رجمها لقوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء ) الحديث وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن لأنه لا قائل بالفرق وأيضاً فالنكول ليس بصريح في الإقرار فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا ولغيره
المسألة الرابعة قال الجمهور إذا قال لها يا زانية وجب اللعان وقال مالك رحمه الله لا يلاعن إلا أن يقول رأيتك تزني أو ينفي حملاً لها أو ولداً منها حجة الجمهور أن عموم قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ يتناول الكل ولأنه لا تفاوت في قذف الأجنبية بين الكل فكذا في حق قذف الزوجة
الطرف الثاني الملاعن قال الشافعي رحمه الله من صح يمينه صح لعانه فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين وكذا إذا كان أحدهما رقيقاً أو كان الزوج مسلماً والمرأة ذمية قال أبو حنيفة رحمه الله لا يصح في صورتين إحداهما أن تكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد إذا كان أجنبياً نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية والثاني أن يكون أحدهما من غير أهل الشهادة بأن يكون محدوداً في قذف أو عبداً أو كافراً ثم زعم أن الفاسق والأعمى مع أنهما ليسا من أهل الشهادة يصح لعانهما وجه قول الشافعي رحمه الله أن ظاهر قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ يتناول الكل ولا معنى للتخصيص والقياس أيضاً ظاهر من وجهين الأول أن المقصود دفع العار عن النفس ودفع ولد الزنا عن النفس وكما يحتاج غير المحدود إليه فكذا المحدود محتاج إليه والثاني أجمعنا على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى وإن لم يكونا من أهل الشهادة فكذا القول في غيرهما والجامع هو الحاجة إلى دفع عار الزنا ووجه قول أبو حنيفة رحمه الله النص والمعنى أما النص فما روى عبدالله بن عمرو بن العاص أنه عليه السلام قال ( أربع من النساء ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحرة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر ) أما المعنى فنقول أما في الصورة الأولى فلأنه كان الواجب على قاذف الزوجة والأجنبية الحد بقوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( النور 40 ) ثم نسخ ذلك عن الأزواج وأقيم اللعان مقامه فلما كان اللعان مع الأزواج قائماً مقام الحد في الأجنبيات لم يجب اللعان على من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي وأما في الصورة(23/146)
الثانية فالوجه فيه أن اللعان شهادة فوجب أن لا يصح إلا من أهل الشهادة وإنما قلنا إن اللعان شهادة لوجهين الأول قوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَة ُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ فسمى الله تعالى لعانهما شهادة كما قال وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ ( البقرة 282 ) وقال فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعة ً مّنْكُمْ ( النساء 15 ) الثاني أنه عليه السلام حين لاعن بين الزوجين أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين إذا ثبت أن اللعان شهادة وجب أن لا تقبل من المحدود في القذف لقوله تعالى وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَة ً أَبَداً ( النور 4 ) وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في العبد والكافر إما للإجماع على أنهما ليسا من أهل الشهادة أو لأنه لا قائل بالفرق أجاب الشافعي رحمه الله بأن اللعان ليس شهادة في الحقيقة بل هو يمين لأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسه ولأنه لو كان شهادة لكانت المرأة تأتي بثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل ولأنه يصح من الأعمى والفاسق ولا يجوز شهادتهما فإن قيل الفاسق والفاسقة قد يتوبان قلنا وكذلك العبد قد يعتق فتجوز شهادته ثم أكد الشافعي رحمه الله بأن العبد إذا عتق تقبل شهادته في الحال والفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته في الحال ثم ألزم أبا حنيفة رحمه الله بأن شهادة أهل الذمة مقبولة بعضهم على بعض فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية وهذا كله كلام الشافعي رحمه الله ثم قال بعد ذلك وتختلف الحدود بمن وقعت له ومعناه أن الزوج إن لم يلاعن تنصف حد القذف عليه لرقه وإن لاعن ولم تلاعن اختلف حدها بإحصانها وعدم إحصانها وحريتها ورقها
الطرف الثالث الأحكام المرتبة على اللعان قال الشافعي رحمه الله يتعلق باللعان خمسة أحكام درء الحد ونفي الولد والفرقة والتحريم المؤبد ووجوب الحد عليها وكلها تثبت بمجرد لعانه ولا يفتقر فيه إلى لعانها ولا إلى حكم الحاكم فإن حكم الحاكم به كان تنفيذاً منه لا إيقاعاً للفرقة فلنتكلم في هذه المسائل
المسألة الأولى اختلف المجتهدون في وقوع الفرقة باللعان على أربعة أقوال أحدها قال عثمان ألبتي لا أرى ملاعنة الزوج امرأته تقتضي شيئاً يوجب أن يطلقها وثانيها قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا تقع الفرقة بفراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما وثالثها قال مالك والليث وزفر رحمهم الله إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم ورابعها قال الشافعي رحمه الله إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبداً التعنت أو لم تلتعن حجة عثمان البتي وجوه أحدها أن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة فوجب أن لا يفيد الفرقة كسائر الأقوال التي لا إشعار لها بالفرقة لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقاً في قوله وهو لا يوجب تحريماً ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها لم يوجب ذلك تحريماً فإذا كان كاذباً والمرأة صادقة يثبت أنه لا دلالة فيه على التحريم وثانيها لو تلاعنا فيما بينهما لم يوجب الفرقة فكذا لو تلاعنا عند الحاكم وثالثها أن اللعان قائم مقام الشهود في قذف الأجنبيات فكما أنه لا فائدة في إحضار الشهود هناك إلا إسقاط الحد فكذا اللعان لا تأثير له إلا إسقاط الحد ورابعها إذا أكذب الزوج نفسه في قذفه إياها ثم حد لم يوجب ذلك فرقة فكذا إذا لاعن لأن اللعان قائم مقام درء الحد قال وأما تفريق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بين المتلاعنين فكان ذلك في قصة العجلاني وكان قد طلقها ثلاثاً بعد اللعان فلذلك فرق بينهما وأما قول أبي حنيفة وهو أن الحاكم يفرق بينهما فلا بد من بيان أمرين أحدهما أنه يجب على الحاكم أن يفرق بينهما ودليله ما روى سهل بن سعد في قصة العجلاني(23/147)
مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً والثاني أن الفرقة لا تحصل إلا بحكم الحاكم واحتجوا عليه بوجوه أحدها روى في قصة عويمر أنهما لما فرغا ( قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها هي طالق ثلاثاً ) فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والاستدلال بهذا الخبر من وجوه أحدها أنه لو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله ( كذبت عليها إن أمسكتها ) لأن إمساكها غير ممكن وثانيها ما روي في هذا الخبر أنه طلقها ثلاث تطليقات فأنفذه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتنفيذ الطلاق إنما يمكن لو لم تقع الفرقة بنفس اللعان وثالثها ما قال سهل بن سعد في هذا الخبر مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً ولو كانت الفرقة واقعة باللعان استحال التفريق بعدها وثانيها قال أبو بكر الرازي قول الشافعي رحمه الله خلاف الآية لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج للاعنت المرأة وهي أجنبية وذلك خلاف الآية لأن الله تعالى إنما أوجب اللعان بين الزوجين وثالثها أن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا عند الحاكم فوجب أن لا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم كما لا يثبت المشهود به إلا بحكم الحاكم ورابعها اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي بالبينة فلما لم يجز أن يستحق المدعي مدعاه إلا بحكم الحاكم وجب مثله في استحقاق المرأة نفسها وخامسها أن اللعان لا إشعار فيه بالتحريم لأن أكثر ما فيه أنها زنت ولو قامت البينة على زناها أو هي أقرت بذلك فذاك لا يوجب التحريم فكذا اللعان وإذا لم يوجد فيها دلالة على التحريم وجب أن لا تقع الفرقة به فلا بد من إحداث التفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم أما قول مالك وزفر فحجته أنهما لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا بل يفرق بينهما فدل على أن اللعان قد أوجب الفرقة أما قول الشافعي رحمه الله فله دليلان الأول قوله تعالى وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ الآية فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج الثاني أن لعان الزوج وحده مستقل بنفي الولد فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها ألا ترى أنها في لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه فيعتبر نفي الزوج لا إلحاق المرأة ولهذا إذا أكذب الزوج نفسه ألحق به الولد وما دام يبقى مصراً على اللعان فالولد منفي عنه إذا ثبت أن لعانه مستقل بنفي الولد وجب أن يكون مستقلاً بوقوع الفرقة لأن الفرقة لو لم تقع لم ينتف الولد لقوله عليه السلام ( الولد للفراش ) فما دام يبقى الفراش التحق به فلما انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أنه يزول الفراش عنه بمجرد لعانه وأما الأخبار التي استدل بها أبو حنيفة رحمه الله فالمراد به أن النبي عليه السلام أخبر عن وقوع الفرقة وحكم بها وذلك لا ينافي أن يكون المؤثر في الفرقة شيئاً آخر وأما الأقيسة التي ذكرها فمدارها على أن اللعان شهادة وليس الأمر كذلك بل هو يمين على ما بينا وأما قوله اللعان لا إشعار فيه بوقوع الحرمة قلنا بينته على نفي الولد مقبولة ونفي الولد يتضمن نفي حلية النكاح والله أعلم
المسألة الثانية قال مالك والشافعي وأبو يوسف والثوري وإسحق والحسن المتلاعنان لا يجتمعان أبداً وهو قول علي وعمر وابن مسعود وقال أبو حنيفة ومحمد إذا أكذب نفسه وحد زال تحريم العقد وحلت له بنكاح جديد حجة الشافعي رحمه الله أمور أحدها قوله عليه السلام للملاعن بعد اللعان ( لا سبيل لك عليها ) ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان الإكذاب غاية لهذه الحرمة لردها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى هذه الغاية كما قال في المطلقة بالثلاث فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( البقرة 230 ) وثانيها(23/148)
ما روي عن علي وعمر وابن مسعود أنهم قالوا لا يجتمع المتلاعنان أبداً وهذا قد روي أيضاً مرفوعاً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها ما روى الزهري عن سهل بن سعد في قصة العجلاني ( مضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً ) حجة أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ وقوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ
المسألة الثالثة اتفق أهل العلم على أن الولد قد ينفى عن الزوج باللعان وحكى عن بعض من شذ أنه للزوج ولا ينتفي نسبه باللعان واحتج بقوله عليه السلام ( الولد للفراش ) وهذا ضعيف لأن الأخبار الدالة على أن النسب ينتفي باللعان كالمتواترة فلا يعارضها هذا الواحد
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله لو أتى أحدهما ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم وقال أبو حنيفة رحمه الله أكثر كلمات اللعان تعمل عمل الكل إذا حكم به الحاكم والظاهر مع الشافعي لأنه يدل على أنها لا تدرأ العذاب عن نفسها إلا بتمام ما ذكره الله تعالى ومن قال بخلاف ذلك فإنما يقوله بدليل منفصل
الطرف الرابع في كيفية اللعان والآية دالة عليها صريحاً فالرجل يشهد أربع شهادات بالله بأن يقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ثم يقول من بعد وعليه لعنة الله إن كان من الكاذبين ويتعلق بلعان الزوج تلك الأحكام الخمسة على قول الشافعي رحمه الله ثم المرأة إذا أرادت إسقاط حد الزنا عن نفسها عليها أن تلاعن ولا يتعلق بلعانها إلا هذا الحكم الواحد ثم ههنا فروع الفرع الأول أجمعوا على أن اللعان كالشهادة فلا يثبت إلا عند الحاكم الثاني قال الشافعي رحمه الله يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى اللعنة والغضب ويقول له أني أخاف إن لم تك صادقاً أن تبوء بلعنة الله الثالث اللعان بمكة بين المقام والركن وبالمدينة عند المنبر وبيت المقدس في مسجده وفي غيرها في المواضع المعظمة ولعان المشرك كغيره في الكيفية وأما الزمان فيوم الجمعة بعد العصر ولا بد من حضور جماعة من الأعيان أقلهم أربعة
الطرف الخامس في سائر الفوائد وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على بطلان قول الخوارج في أن الزنا والقذف كفر من وجهين الأول أن الرامي إن صدق فهي زانية وإن كذب فهو قاذف فلا بد على قولهم من وقوع الكفر من أحدهما وذلك يكون ردة فيجب على هذا أن تقع الفرقة ولا لعان أصلاً وأن تكون فرقة الردة حتى لا يتعلق بذلك توارث ألبتة الثاني أن الكفر إذا ثبت عليها بلعانه فالواجب أن تقتل لا أن تجلد أو ترجم لأن عقوبة المرتد مباينة للحد في الزنا
المسألة الثانية الآية دالة على بطلان قول من يقول إن وقوع الزنا يفسد النكاح وذلك لأنه يجب إذا رماها بالزنا أن يكون قوله هذا كأنه معترف بفساد النكاح حتى يكون سبيله سبيل من يقر بأنها أخته من الضراع أو بأنها كافرة ولو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بنفس الرمي من قبل اللعان وقد ثبت بالإجماع فساد ذلك(23/149)
المسألة الثالثة قالت المعتزلة دلت الآية على أن القاذف مستحق للعن الله تعالى إذا كان كاذباً وأنه قد فسق وكذلك الزاني والزانية يستحقان غضب الله تعالى وعقابه وإلا لم يحسن منهما أن يلعنا أنفسهما كما لا يجوز أن يدعو أحد ربه أن يلعن الأطفال والمجانين وإذا صح ذلك فقد استحق العقاب والعقاب يكون دائماً كالثواب ولا يجتمعان فثوابهما أيضاً محبط فلا يجوز إذا لم يتوبا أن يدخلا الجنة لأن الأمة مجمعة على أن من دخل الجنة من المكلفين فهو مثاب على طاعاته وذلك يدل على خلود الفساق في النار قال أصحابنا لا نسلم أن كونه مغضوباً عليه بفسقه ينافي كونه مرضياً عنه لجهة إيمانه ثم لو سلمناه فلم نسلم أن الجنة لا يدخلها إلا مستحق الثواب والإجماع ممنوع
المسألة الرابعة إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظاً عليها لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخيلائها وإطماعها ولذلك كانت مقدمة في آية الجلد
واعلم أنه سبحانه لما بين حكم الرامي للمحصنات والأزواج على ما ذكرنا وكان في ذلك من الرحمة والنعمة ما لا خفاء فيه لأنه تعالى جعل باللعان للمرء سبيلاً إلى مراده ولها سبيلاً إلى دفع العذاب عن نفسها ولهما السبيل إلى التوبة والإنابة فلأجل هذا بين تعالى بقوله وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ عظم نعمه فيما بينه من هذه الأحكام وفيما أمهل وأبقى ومكن من التوبة ولا شبهة في أن في الكلام حذفاً إذ لا بد من جواب إلا أن تركه يدل على أنه أمر عظيم لا يكتنه ورب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به
الحكم الخامس
قصة الإفك
إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَة ٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِى ءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
الكلام في هذه الآية من وجهين أحدهما تفسيره والثاني سبب نزوله
أما التفسير فاعلم أن الله تعالى ذكر في هذه الآية ثلاثة أشياء أولها أنه حكى الواقعة وهو قوله إِنَّ الَّذِينَ جَاءوا بِالإفْكِ عُصْبَة ٌ مّنْكُمْ والإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء وقيل هو البهتان وهو الأمر الذي لا تشعر به حتى يفجأك وأصله الإفك وهو القلب لأنه قول مأفوك عن وجهه وأجمع المسلمون على أن المراد ما أفك به على عائشة وإنما وصف الله تعالى ذلك الكذب بكونه إفكاً لأن المعروف من حال عائشة خلاف ذلك لوجوه أحدها أن كونها زوجة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) المعصوم يمنع من ذلك لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويستعطفوهم فوجب أن لا يكون معهم ما ينفرهم عنهم وكون الإنسان بحيث تكون زوجته مسافحة من أعظم المنفرات فإن قيل كيف جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن(23/150)
تكون فاجرة وأيضاً فلو لم يجز ذلك لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما ضاق قلبه ولما سأل عائشة عن كيفية الواقعة قلنا الجواب عن الأول أن الكفر ليس من المنفرات أما كونها فاجرة فمن المنفرات والجواب عن الثاني أنه عليه السلام كثيراً ما كان يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد تلك الأقوال قال تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ( الحجر 97 ) فكان هذا من هذا الباب وثانيها أن المعروف من حال عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور ومن كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به وثالثها أن القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم وقد عرف أن كلام العدو المفترى ضرب من الهذيان فلمجموع هذه القرائن كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي أما العصبة فقيل إنها الجماعة من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة واعصوصبوا اجتمعوا وهم عبدالله بن أبي بن سلول رأس النفاق وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم
أما قوله مّنكُمْ فالمعنى أن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون لأن عبدالله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهراً ورابعها أنه سبحانه شرح حال المقذوفة ومن يتعلق بها بقوله لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ والصحيح أن هذا الخطاب ليس مع القاذفين بل مع من قذفوه وآذوه فإن قيل هذا مشكل لوجهين أحدهما أنه لم يتقدم ذكرهم والثاني أن المقذوفين هما عائشة وصفوان فكيف تحمل عليهما صيغة الجمع في قوله لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ والجواب عن الأول أنه تقدم ذكرهم في قوله مّنكُمْ وعن الثاني أن المراد من لفظ الجمع كل من تأذى بذلك الكذب واغتم ومعلوم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) تأذى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به فإن قيل فمن أي جهة يصير خيراً لهم مع أنه مضرة في العاجل قلنا لوجوه أحدها أنهم صبروا على ذلك الغم طلباً لمرضاة الله تعالى فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين عند وقوع الظلم بهم وثانيها أنه لولا إظهارهم للإفك كان يجوز أن تبقى التهمة كامنة في صدور البعض وعند الإظهار انكشف كذب القوم على مر الدهر وثالثها أنه صار خيراً لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثمان عشرة آية كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة وشهد الله تعالى بكذب القاذفين ونسبهم إلى الإفك وأوجب عليهم اللعن والذم وهذا غاية الشرف والفضل ورابعها صيرورتها بحال تعلق الكفر والإيمان بقدحها ومدحها فإن الله تعالى لما نص على كون تلك الواقعة إفكاً وبالغ في شرحه فكل من يشك فيه كان كافراً قطعاً وهذه درجة عالية ومن الناس من قال قوله تعالى لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ خطاب مع القاذفين وجعله الله تعالى خيراً لهم من وجوه أحدها أنه صار ما نزل من القرآن مانعاً لهم من الاستمرار عليه فصار مقطعة لهم عن إدامة هذا الإفك وثانيها صار خيراً لهم من حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة وثالثها صار خيراً لهم من حيث تاب بعضهم عنده واعلم أن هذا القول ضعيف لأنه تعالى خاطبهم بالكاف ولما وصف أهل الإفك جعل الخطاب بالهاء بقوله تعالى لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ(23/151)
ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة فالمراد لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا والمعنى أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض
أما قوله وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء كبره بالضم والكسر وهو عظمه
المسألة الثانية قال الضحاك الذي تولى كبره حسان ومسطح فجلدهما ( صلى الله عليه وسلم ) حين أنزل الله عذرها وجلد معهما امرأة من قريش وروي أن عائشة رضي الله عنها ذكرت حساناً وقالت ( أرجو له الجنة فقيل أليس هو الذي تولى كبره فقالت إذا سمعت شعره في مدح الرسول رجوت له الجنة ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله يؤيد حساناً بروح القدس في شعره ) وفي رواية أخرى ( وأي عذاب أشد من العمى ) ولعل الله جعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره والأقرب في الرواية أن المراد به عبدالله بن أبي بن سلول فإنه كان منافقاً يطلب ما يكون قدحاً في الرسول عليه السلام وغيره كان تابعاً له فيما كان يأتي وكان فيهم من لا يتهم بالنفاق
المسألة الثالثة المراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدئاً بذلك القول فلا جرم حصل له من العقاب مثل ما حصل لكل من قال ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام ( من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) وقيل سبب تلك الإضافة شدة الرغبة في إشاعة تلك الفاحشة وهو قول أبي مسلم
المسألة الرابعة قال الجبائي قوله تعالى لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ أي عقاب ما اكتسب ولو كانوا لا يستحقون على ذلك عقاباً لما جاز أن يقول تعالى ذلك وفيه دلالة على أن من لم يتب منهم صار إلى العذاب الدائم في الآخرة لأن مع استحقاق العذاب لا يجوز استقاق الثواب والجواب أن الكلام في المحابطة قد مر غير مرة فلا وجه للإعادة والله أعلم
أما سبب النزول فقد روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وعبيد الله بن عبدالله بن عقبة بن مسعود كلهم رووا عن عائشة قالت ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه قالت فأقرع بيننا في غزوة غزاها قبل غزوة بني المصطلق فخرج فيها اسمى فخرجت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فلما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقرب من المدينة نزل منزلاً ثم أذن بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل ومشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني وأقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع فرجعت والتمست عقدي وحبسني طلبه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه لخفتي فإني كنت جارية حديث السن فظنوا أني في الهودج وذهبوا بالبعير فلما رجعت لم أجد في المكان أحداً فجلست وقلت لعلهم يعودون في طلبي فنمت وقد كان صفوان بن المعطل يمكث في العسكر يتتبع أمتعة الناس فيحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب منهم شيء فلما رآني عرفني وقال ما خلفك عن الناس فأخبرته الخبر فنزل وتنحى حتى ركبت ثم قاد البعير وافتقدني الناس حين نزلوا وماج الناس في ذكرى فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فتكلم الناس وخاضوا في حديثي وقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ولحقني(23/152)
وجع ولم أر منه عليه السلام ما عهدته من اللطف الذي كنت أعرف منه حين أشتكى إنما يدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يقول كيف تيكم فذاك الذي يريبني ولا أشعر بعد بما جرى حتى نقهت فخرجت في بعض الليالي مع أم مسطح لمهم لنا ثم أقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح فأنكرت ذلك وقلت أتسبين رجلاً شهد بدراً فقالت وما بلغك الخبرا فقلت وما هو فقال ( ت ) أشهد أنك من المؤمنات الغافلات ثم أخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي فرجعت أبكي ثم دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال كيف تيكم فقلت ائذن لي أن آتي أبوي فأذن لي فجئت أبوي وقلت لأمي يا أمه ماذا يتحدث الناس قالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ثم قالت ألم تكوني علمت ما قيل حتى الآن فأقبلت أبكي فبكيت تلك الليلة ثم أصبحت أبكي فدخل علي أبي وأنا أبكي فقال لأمي ما يبكيها قالت لم تكن علمت ما قيل فيها حتى الآن فأقبل يبكي ثم قال اسكتي يا بنية ودعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علي بن أبي طالب عليه السلام وأسامة بن زيد واستشارهما في فراق أهله فقال أسامة يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيراً وأما علي فقال لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بريرة وسألها عن أمري قالت بريرة يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قط أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجن فتأكله قالت فقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خطيباً على المنبر فقال يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي يعني عبدالله بن أبي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ فقال أعذرك يارسول الله منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا فعلناه فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن أخذته الحمية فقال لسعد بن معاذ كذبت والله لا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ وقال كذبت لعمر الله لنقتلنه وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على المنبر فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا قالت ومكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ دخل علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسلم ثم جلس قالت ولم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل ولقد لبث شهراً لا يوحي الله إليه في شأني شيئاً ثم قال أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا تاب تاب الله عليه قالت فما قضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مقالته فاض دمعي ثم قلت لأبي أجب عني رسول الله فقال والله ما أدري ما أقول فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله فقالت والله لا أدري ما أقول فقلت وأنا جارية حديثة السن ما أقرأ من القرآن كثيراً إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فإن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقوني والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال العبد الصالح أبو يوسف ولم أذكر اسمه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( يوسف 18 ) قالت ثم تحولت واضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أن الله تعالى يبرئني ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحياً يتلى فشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت فوالله ما قام رسول الله من مجلسه ولا خرج من أهل البيت(23/153)
أحد حتى أنزل الله الوحي على نبيه فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي حتى إنه ليتحدر عنه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل الوحي فسجى بثوب ووضعت وسادة تحت رأسه فوالله ما فرغت ولا باليت لعلمي ببراءتي وأما أبواي فوالله ما سرى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى ظننت أن نفسي أبوي ستخرجان فرقاً من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس فلما سرى عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال ابشري يا عائشة أما والله لقد برأك الله فقلت بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد أصحابك فقالت أمي قومي إليه فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد أحداً إلا الله أنزل براءتي فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ جَاءوا بِالإفْكِ عُصْبَة ٌ مّنْكُمْ العشر آيات فقال أبو بكر والله لا أنفق على مسطح بعد هذا وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره فأنزل الله تعالى وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ إلى قوله أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ( النور 22 ) فقال أبو بكر بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع النفقة على مسطح قالت فلما نزل عذري قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل ضرب عبدالله بن أبي ومسطحاً وحمنة وحسان الحد )
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر القصة وذكر حال المقذوفين والقاذفين عقبها بما يليق بها من الآداب والزواجر وهي أنواع
النوع الأول
لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ
وهذا من جملة الآداب التي كان يلزمهم الإتيان بها و لَوْلاَ معناه هلا وذلك كثير في اللغة إذا كان يليه الفعل كقوله لَوْلا أَخَّرْتَنِى ( المنافقون 10 ) وقوله فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَة ٌ ءامَنَتْ ( يونس 98 ) فأما إذا وليه الاسم فليس كذلك كقوله لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( سبأ 31 ) وقوله وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ( انور 10 ) والمراد كان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول القاذف أن يكذبوه ويشتغلوا بإحسان الظن ولا يسرعوا إلى التهمة فيمن عرفوا فيه الطهارة وههنا سؤالات
السؤال الأول هلا قيل لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم فلم عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن المضمر إلى الظاهر الجواب ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات وفي التصريح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يظن بالمسلمين إلا خيراً لأن دينه يحكم بكون المعصية منشأ للضرر وعقله يهديه إلى وجوب الاحتراز عن الضرر وهذا يوجب حصول الظن باحترازه عن المعصية فإذا وجد هذا المقتضى للاحتراز ولم يوجد في مقابلته راجح يساويه في القوة وجب إحسان الظن وحرم الإقدام على الطعن
السؤال الثاني ما المراد من قوله بأنفسهم الجواب فيه وجهان الأول المراد أن يظن بعضهم ببعض خيراً ونظيره قوله وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( الحجرات 11 ) وقوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) وقوله فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( النور 61 ) ومعناه أي بأمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم(23/154)
روي أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال لأم أيوب أما ترين ما يقال فقالت لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله سوءاً قال لا قالت ولو كنت بدل عائشة ما خنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعائشة خير مني وصفوان خير منك وقال ابن زيد ذلك معاتبة للمؤمنين إذ المؤمن لا يفجر بأمه ولا الأم بابنها وعائشة رضي الله عنها هي أم المؤمنين والثاني أنه جعل المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم عن النعمان بن بشير قال عليه السلام ( مثل المسلمين في تواصلهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا وجع بعضه بالسهر والحمى وجع كله ) وعن أبي بردة قال عليه السلام ( المؤمنون للؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضاً )
السؤال الثالث ما معنى قوله هَاذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ وهل يحل لمن يسمح ما لا يعرفه أن يقول ذلك الجواب من وجهين الأول كذلك يجب أن يقول لكنه يخبر بذلك عن قول القاذف الذي لا يستند إلى أمارة ولا عن حقيقة الشيء الذي لا يعلمه الثاني أن ذلك واجب في أمر عائشة لأن كونها زوجة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) المعصوم عن جميع المنفرات كالدليل القاطع في كون ذلك كذباً قال أبو بكر الرازي هذا يدل على أن الواجب فيمن كان ظاهره العدالة أن يظن به خيراً ويوجب أن يكون عقود المسلمين وتصرفاتهم محمولة على الصحة والجواز ولذلك قال أصحابنا فيمن وجد رجلاً مع امرأة أجنبية فاعترفا بالتزويج إنه لا يجوز تكذيبهما بل يجب تصديقهما وزعم مالك أنه يحدهما أن لم يقيما بينة على النكاح ومن ذلك أيضاً ما قال أصحابنا رضي الله عنهم فيمن باع درهماً وديناراً بدرهمين ودينارين إنه يخالف بينهما لأنا قد أمرنا بحسن الظن بالمؤمنين فوجب حمله على ما يجوز وهو المخالفة بينهما وكذلك إذا باع سيفاً محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم إنا نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف وهو يدل أيضاً على قول أبي حنيفة رحمه الله في أن المسلمين عدول ما لم يظهر منهم ريبة لأنا مأمورون بحسن الظن وذلك يوجب قبول الشهادة ما لم يظهر منه ريبة توجب التوقف عنها أوردها قال تعالى إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا ( النجم 28 )
النوع الثاني
لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَة ِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَائِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ
وهذا من باب الزواجر والمعنى هلا أتوا على ما ذكروه بأربعة شهداء يشهدون على معاينتهم فيما رموها به فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء ( النور 13 ) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك عند الله أي في حكمه هم الكاذبون فإن قيل أليس إذا لم يأتوا بالشهداء فإنه يجوز كونهم صادقين كما يجوز كونهم كاذبين فلم جزم بكونهم كاذبين والجواب من وجهين الأول أن المراد بذلك الذين رموا عائشة خاصة وهم كانوا عند الله كاذبين الثاني المراد فأولئك عند الله في حكم الكاذبين فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب والقاذف إن لم يأت بالشهود فإنه يجب زجره فلما كان شأنه شأن الكاذب في الزجر لا جرم أطلق عليه لفظ الكاذب مجازاً(23/155)
النوع الثالث
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
وهذا من باب الزواجر أيضاً ولولا ههنا لامتناع الشيء لوجود غيره ويقال أفاض في الحديث واندفع وخاض وفي المعنى وجهان الأول ولولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك والثاني ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم في الدنيا والآخرة معاً فيكون فيه تقديم وتأخير والخطاب للقذفة وهو قول مقاتل وهذا الفضل هو حكم الله تعالى من تأخيره العذاب وحكمه بقبول التوبة لمن تاب
النوع الرابع
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ
وهذا أيضاً من الزواجر قال صاحب ( الكشاف ) إذ ظرف لمسكم أو لأفضتم ومعنى تلقونه يأخذه بعضكم من بعض يقال تلقى القول وتلقنه وتلقفه ومنه قوله تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ( البقرة 37 ) وقرىء على الأصل تتلقونه وإتلقونه بإدغام الذال في التاء وتلقونه من لقيه بمعنى لفقه وتلقونه من إلقائه بعضهم على بعض وتلقونه وتألقونه من الولق والألف وهو الكذب وتلقونه محكية عن عائشة وعن سفيان سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه وكان أبوها يقرأ بحرف عبدالله بن مسعود واعلم أن الله تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها أحدها تلقي الإفك بألسنتهم وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول له ما وراءك فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع واشتهر فلم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه فكأنهم سعوا في إشاعة الفاحشة وذلك من العظائم وثانيها أنهم كانوا يتكلمون بما لا علم لهم به وذلك يدل على أنه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم فأما الذي لا يعلم صدقه فالإخبار عنه كالإخبار عما علم كذبه في الحرمة ونظيره قوله وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) فإن قيل ما معنى قوله بِأَفْواهِكُمْ والقول لا يكون إلا بالفم قلنا معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب فيترجم عنه باللسان وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في القلب علم به كقوله يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( آل عمران 167 ) وثالثها أنهم كانوا يستصغرون ذلك وهو عظيم من العظائم ويدل على أمور ثلاثة الأول يدل على أن القذف من الكبائر لقوله وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ الثاني نبه بقوله وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً على أن عظم المعصية لا يختلف بظن فاعلها وحسبانه بل ربما كان ذلك مؤكداً لعظمها من حيث جهل كونها عظيماً الثالث الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه إذ لا يأمن أنه من الكبائر وقيل لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار(23/156)
النوع الخامس
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
وهذا من باب الآداب أي هلا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا وإنما وجب عليهم الامتناع منه لوجوه أحدها أن المقتضى لكونهم تاركين لهذا الفعل قائم وهو العقل والدين ولم يوجد ما يعارضه فوجب أن يكون ظن كونهم تاركين للمعصية أقوى من ظن كونهم فاعلين لها فلو أنه أخبر عن صدور المعصية لكان قد رجح المرجوح على الراجح وهو غير جائز وثانيها وهو أنه يتضمن إيذاء الرسول وذلك سبب للعن لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ( الأحزاب 57 ) وثالثها أنه سبب لإيذاء عائشة وإيذاء أبويها ومن يتصل بهم من غير سبب عرف إقدامهم عليه ولا جناية عرف صدورها عنهم وذلك حرام ورابعها أنه إقدام على ما يجوز أن يكون سبباً للضرر مع الاستغناء عنه والعقل يقتضي التباعد عنه لأن القاذف بتقدير كونه صادقاً لا يستحق الثواب على صدقه بل يستحق العقاب لأنه أشاع الفاحشة وبتقدير كونه كاذباً فإنه يستحق العقاب العظيم ومثل ذلك مما يقتضي صريح العقل الاحتراز عنه وخامسها أنه تضييع للوقت بما لا فائدة فيه وقال عليه الصلاة والسلام ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) وسادسها أن في إظهار محاسن الناس وستر مقابحهم تخلقاً بأخلاق الله تعالى وقال عليه السلام ( تخلقوا بأخلاق الله ) فهذه الوجوه توجب على العاقل أنه إذا سمع القذف أن يسكت عنه وأن يجتهد في الاحتراز عن الوقوع فيه فإن قيل كيف جاز الفصل بين لولا وبين قلتم بالظرف قلنا الفائدة فيه أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به
أما قوله سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ففيه سؤالان
السؤال الأول كيف يليق سبحانك بهذا الموضع الجواب من وجوه الأول المراد منه التعجب من عظم الأمر وإنما استعمل في معنى التعجب لأنه يسبح الله عند رؤية العجيب من صانعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه الثاني المراد تنزيه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه فاجرة الثالث أنه منزه عن أن يرضى بظلم هؤلاء الفرقة المفترين الرابع أنه منزه عن أن لا يعاقب هؤلاء القذفة الظلمة
السؤال الثاني لم أوجب عليهم أن يقولوا هذا بهتان عظيم مع أنهم ما كانوا عالمين بكونه كذباً قطعاً والجواب من وجهين الأول أنهم كانوا متمكنين من العلم بكونه بهتاناً لأن زوجة الرسول لا يجوز أن تكون فاجرة الثاني أنهم لما جزموا أنهم ما كانوا ظانين له بالقلب كان إخبارهم عن ذلك الجزم كذباً ونظيره قوله وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( المنافقون 1 )
النوع السادس
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاٌّ يَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(23/157)
وهذا من باب الزواجر والمعنى يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب وأن فيه الحد والنكال في الدنيا والعذاب في الآخرة لكي لا تعودوا إلى مثل هذا العمل أبداً وأبدهم ما داموا أحياء مكلفين وقد دخل تحت ذلك من قال ومن سمع فلم ينكر لأن حالهما سواء في أن فعلا ما لا يجوز وإن كان من أقدم عليه أعظم ذنباً فبين أن الغرض بما عرفهم من هذه الطريقة أن لا يعودوا إلى مثل ما تقدم منهم وههنا مسائل
المسألة الأولى استدلت المعتزلة بقوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ على أن ترك القذف من الإيمان وعلى أن فعل القذف لا يبقى معه الإيمان لأن المعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط والجواب هذا معارض بقوله إِنَّ الَّذِينَ جَاءوا بِالإفْكِ عُصْبَة ٌ مّنْكُمْ ( النور 11 ) أي منكم أيها المؤمنون فدل ذلك على أن القذف لا يوجب الخروج عن الإيمان وإذا ثبت التعارض حملنا هذه الآية على التهييج في الإتعاظ والانزجار
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أنه تعالى أراد من جميع من وعظه مجانبه مثل ذلك في المستقبل وإن كان فيهم من لا يطيع فمن هذا الوجه تدل على أنه تعالى يريد من كلهم الطاعة وإن عصوا لأن قوله يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ معناه لكي لا تعودوا لمثله وذلك دلالة الإرادة والجواب عنه قد تقدم مراراً
المسألة الثالثة هل يجوز أن يسمى الله تعالى واعظاً لقوله يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ الأظهر أنه لا يجوز كما لا يجوز أن يسمى معلماً لقوله الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 2 )
أما قوله تعالى وَيُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاْيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فالمراد من الآيات ما به يعرف المرء ما ينبغي أن يتمسك به ثم بين أنه لكونه عليماً حكيماً يؤثر بما يجب أن يبينه ويجب أن يطاع لأجل ذلك لأن من لا يكون عالماً لا يجب قبول تكليفه لأنه قد يأمر بما لا ينبغي ولأن المكلف إذا أطاعه فقد لا يعلم أنه أطاعه وحينئذ لا يبقى للطاعة فائدة وأما من كان عالماً لكنه لا يكون حكيماً فقد يأمره بما لا ينبغي فإذا أطاعه المكلف فقد يعذب المطيع وقد يثيب العاصي وحينئذ لا يبقى للطاعة فائدة وأما إذا كان عليماً حكيماً فإنه لا يأمر إلا بما ينبغي ولا يهمل جزاء المستحقين فلهذا ذكر هاتين الصفتين وخصهما بالذكر وههنا سؤالات
الأول الحكيم هو الذي لا يأتي بما لا ينبغي وإنما يكون كذلك لو كان عالماً بقبح القبيح وعالماً بكونه غنياً عنه فيكون العليم داخلاً في الحكيم فكان ذكر الحكيم مغنياً عنه هذا على قول المعتزلة وأما على قول أهل السنة والجماعة فالحكمة هي العلم فقط فذكر العليم الحكيم يكون تكراراً محضاً الجواب يحمل ذلك على التأكيد
السؤال الثاني قالت المعتزلة دلت الآية على أنه إنما يجب قبول بيان الله تعالى لمجرد كونه عالماً حكيماً والحكيم هو الذي لا يفعل القبائح فتدل الآية على أنه لو كان خالقاً للقبائح لما جاز الاعتماد على وعده ووعيده والجواب الحكم عندنا هو العليم وإنما يجوز الاعتماد على قوله لكونه عالماً بكل المعلومات فإن الجاهل لا اعتماد على قوله ألبتة
السؤال الثالث قالت المعتزلة قوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أي لأجلكم وهذا يدل على أن أفعاله معللة(23/158)
بالأغراض ولأن قوله لَكُمْ لا يجوز حمله على ظاهره لأنه ليس الغرض نفس ذواتهم بل الغرض حصول انتفاعهم وطاعتهم وإيمانهم فدل هذا على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل والجواب المراد أنه سبحانه فعل بهم ما لو فعله غيره لكان ذلك غرضاً
النوع السابع
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَة ُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه سبحانه لما بين ما على أهل الإفك وما على من سمع منهم وما ينبغي أن يتمسكوا به من آداب الدين أتبعه بقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَة ُ ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك في هذا الذم كما شارك فيه من فعله ومن لم ينكره وليعلم أن أهل الأفك كما عليهم العقوبة فيما أظهروه فكذلك يستحقون العقاب بما أسروه من محبة إشاعة الفاحشة في المؤمنين وذلك يدل على وجوب سلامة القلب للمؤمنين كوجوب كف الجوارح والقول عما يضربهم وههنا مسائل
المسألة الأولى معنى الإشاعة الانتشار يقال في هذا العقار سهم شائع إذا كان في الجميع ولم يكن منفصلاً وشاع الحديث إذا ظهر في العامة
المسألة الثانية لا شك أن ظاهر قوله إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ يفيد العموم وأنه يتناول كل من كان بهذه الصفة ولا شك أن هذه الآية نزلت في قذف عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فوجب إجراؤها على ظاهرها في العموم ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيصها بقذفة عائشة قوله تعالى في الَّذِينَ كَفَرُواْ فإنه صيغة جمع ولو أراد عائشة وحدها لم يجز ذلك والذين خصصوه بقذفة عائشة منهم من حمله على عبدالله بن أبي لأنه هو الذي سعى في إشاعة الفاحشة قالوا معنى الآية إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ والمراد عبدالله أن تشيع الفاحشة أي الزنا في الذين آمنوا أي في عائشة وصفوان
المسألة الثالثة روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إني لأعرف قوماً يضربون صدورهم ضرباً يسمعه أهل النار وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون فيهم من الفواحش ما ليس فيهم ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة ومن أقال مسلماً صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة ومن ستر عورته ستر الله عورته يوم القيامة ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) وعن عبدالله بن عمر عنه عليه الصلاة والسلام قال ( من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويحب أن يؤتى إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ) وعن أنس قال قال عليه الصلاة والسلام ( لا يؤمن العبد حتى يجب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير )
المسألة الرابعة اختلفوا في عذاب الدنيا فقال بعضهم إقامة الحد عليهم وقال بعضهم هو الحد(23/159)
واللعن والعداوة من الله والمؤمنين ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عبدالله بن أبي وحسان ومسطح وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف فكف بصره وقال الحسن عنى به المنافقين لأنهم قصدوا أن يغموا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن أراد غم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو كافر وعذابهم في الدنيا هو ما كانوا يتعبون فيه وينفقون لمقاتلة أوليائهم مع أعدائهم وقال أبو مسلم الذين يحبون هم المنافقون يحبون ذلك فأوعدهم الله تعالى العذاب في الدنيا على يد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالمجاهدة لقوله جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 73 ) والأقرب أن المراد بهذا العذاب ما استحقوه بإفكهم وهو الحد واللعن والذم فأما عذاب الآخرة فلا شك أنه في القبر عذابه وفي القيامة عذاب النار
أما قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فهو حسن الموقع بهذا الموضع لأن محبة القلب كامنة ونحن لا نعلمها إلا بالأمارات أما الله سبحانه فهو لا يخفى عليه شيء فصار هذا الذكر نهاية في الزجر لأن من أحب إشاعة الفاحشة وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلم ذلك منه وإن علمه سبحانه بذلك الذي أخفاه كعلمه بالذي أظهره ويعلم قدر الجزاء عليه
المسألة الخامسة الآية تدل على أن العزم على الذنب العظيم عظيم وأن إرادة الفسق فسق لأنه تعالى علق الوعيد بمحبة إشاعة الفاحشة
المسألة السادسة قال الجبائي دلت الآية على أن كل قاذف لم يتب من قذفه فلا ثواب له من حيث استحق هذا العذاب الدائم وذلك يمنع من استحقاق ضده الذي هو الثواب فمن هذا الوجه تدل على ما نقوله في الوعيد واعلم أن حاصله يرجع إلى مسألة المحابطة وقد تقدم الكلام عليه
المسألة السابعة قالت المعتزلة إن الله تعالى بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة فلو كان تعالى هو الخالق لأفعال العباد لما كان مشيع الفاحشة إلا هو فكان يجب أن لا يستحق الذم على إشاعة الفاحشة إلا هو لأنه هو الذي فعل تلك الإشاعة وغيره لم يفعل شيئاً منها والكلام عليه أيضاً قد تقدم
المسألة الثامنة قال أبو حنيفة رحمه الله المصابة بالفجور لا تستنطق لأن استنطاقها إشاعة للفاحشة وذلك ممنوع منه
النوع الثامن
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
وفيه وجوه أحدها أن جوابه محذوف وكأنه قال لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم لكنه رؤوف رحيم قال ابن عباس الخطاب لحسان ومسطح وحمنة ويجوز أن يكون الخطاب عاماً والثاني جوابه في قوله زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً ( النور 21 ) والثالث جوابه لكانت الفاحشة تشيع فتعظم المضرة وهو قول أبي مسلم والأقرب أن جوابه محذوف لأن قوله من بعد وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ ( النور 21 ) كالمنفصل من الأول فلا يجب أن يكون جواباً للأول خصوصاً وقد وقع بين الكلامين كلام آخر والمراد أنه لولا إنعامه بأن بقي وأمهل ومكن من التلافي لهلكوا لكنه لرأفته لا يدع ما هو للعبد أصلح وإن جنى على نفسه(23/160)
النوع التاسع
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
قرىء خطوات بضم الطاء وسكونها والخطوات جمع خطوة وهو من خطا الرجل يخطو خطواً فإذا أردت الواحدة قلت خطوة مفتوحة الأول والجمع يفتح أوله ويضم والمراد بذلك السيرة والطريقة والمعنى لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في الإصغاء إلى الإفك والتلقي له وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا والله تعالى وإن خص بذلك المؤمنين فهو نهي لكل المكلفين وهو قوله وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ ومعلوم أن كل المكلفين ممنوعون من ذلك وإنما قلنا إنه تعالى خص المؤمنين بذلك لأنه توعدهم على اتباع خطواته بقوله وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ وظاهر ذلك أنهم لم يتبعوه ولو كان المراد به الكفار لكانوا قد اتبعوه فكأنه سبحانه لما بين ما على أهل الإفك من الوعيد أدب المؤمنين أيضاً بأن خصهم بالذكر ليتشددوا في ترك المعصية لئلا يكون حالهم كحال أهل الإفك والفحشاء والفاحشة ما أفرط قيحه والمنكر ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه
أما قوله وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً ( النور 21 ) فقرأ يعقوب وابن محيصن ما زكى بالتشديد واعلم أن الزكي من بلغ في طاعة الله مبلغ الرضا ومنه يقال زكى الزرع فإذا بلغ المؤمن من الصلاح في الدين إلى ما يرضاه الله تعالى سمى زكياً ولا يقال زكى إلا إذا وجد زكياً كما لا يقال لمن ترك الهدى هداه الله تعالى مطلقاً بل يقال هداه الله فلم يهتد واحتج أصحابنا في مسألة المخلوق بقوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُزَكّى مَن يَشَاء ( النور 21 ) فقالوا التزكية كالتسويد والتحمير فكما أن التسويد تحصيل السواد فكذا التزكية تحصيل الزكاء في المحل قالت المعتزلة ههنا تأويلان أحدهما حمل التزكية على فعل الألطاف والثاني حملها على الحكم بكون العبد زكياً قال أصحابنا الوجهان على خلاف الظاهر ثم نقيم الدلالة العقلية على بطلانهما أيضاً أما الوجه الأول فيدل على فساده وجوه أحدها أن فعل اللطف هل يرجح الداعي أو لا يرجحه فإن لم يرجحه ألبتة لم يكن به تعلق فلا يكون لطفاً وإن رجحه فنقول المرجح لا بد وأن يكون منتهياً إلى حد الوجوب فإنه مع ذلك القدر من الترجيح إما أن يمتنع وقوع الفعل عنده أو يمكن أو يجب فإن امتنع كان مانعاً لا داعياً وإن أمكن أن يكون وأن لا يكون فكل ما يمكن لا يلزم من فرض وقوعه محال فليفرض تارة واقعاً وأخرى غير واقع فامتياز وقت الوقوع عن وقت اللاوقوع إما أن يتوقف على انضمام قيد إليه أو لا يتوقف فإن توقف كان المرجح هو المجموع الحاصل بعد انضمام هذا القيد فلا يكون الحاصل أولاً مرجحاً وإن لم يتوقف كان اختصاص أحد الوقتين بالوقوع والآخر باللاوقوع ترجيحاً للممكن من غير(23/161)
مرجح وهو محال وأما إن اللطف مرجحاً موجباً كان فاعل اللطف فاعلاً للملطوف فيه فكان تعالى فاعلاً لفعل العبد الثاني أنه تعالى قال وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُزَكّى مَن يَشَاء علق التزكية على المشيئة وفعل اللطف واجب والواجب لا يتعلق بالمشيئة الثالث أنه علق التزكية على الفضل والرحمة وخلق الألطاف واجب فلا يكون معلقاً بالفضل والرحمة وأما الوجه الثاني وهو الحكم بكونه زكياً فذلك واجب لأنه لو يحكم به لكان كذباً والكذب على الله تعالى محال فكيف يجوز تعليقه بالمشيئة فثبت أن قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُزَكّى مَن يَشَاء نص في الباب
أما قوله وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فالمراد أنه يسمع أقوالكم في القذف وأقوالكم في إثبات البراءة عليم بما في قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو من كراهيتها وإذا كان كذلك وجب الاحتراز عن معصيته
وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَة ِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى كما أدب أهل الإفك ومن سمع كلامهم كما قدمنا ذكره فكذلك أدب أبا بكر لما حلف أن لا ينفق على مسطح أبداً قال المفسرون نزلت الآية في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسطح وهو ابن خالة أبي بكر وقد كان يتيماً في حجره وكان ينفق عليه وعلى قرابته فلما نزلت الآية قال لهم أبو بكر قوموا فلستم مني ولست منكم ولا يدخلن على أحد منكم فقال مسطح أنشدك الله والإسلام وأنشدك القرابة والرحم أن لا تحوجنا إلى أحد فما كان لنا في أول الأمر من ذنب فقال لمسطح إن لم تتكلم فقد ضحكتا فقال قد كان ذلك تعجباً من قول حصان فلم يقبل عذره وقال انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذراً ولا فرجاً فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخبره بأن الله تعالى قد أنزل علي كتاباً ينهاك فيه أن تخرجهم فكبر أبو بكر وسره وقرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الآية عليه فلما وصل إلى قوله أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال بلى يا رب إني أحب أن يغفر لي وقد تجاوزت عما كان فذهب أبو بكر إلى بيته وأرسل إلى مسطح وأصحابه وقال قبلت ما أنزل الله على الرأس والعين وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم أما إذا عفا عنكم فمرحباً بكم وجعل له مثلي ما كان له قبل ذلك اليوم وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في قوله وَلاَ يَأْتَلِ وجهين الأول وهو المشهور أنه من ائتلى إذا حلف افتعل من الألية والمعنى لا يحلف قال أبو مسلم هذا ضعيف لوجهين أحدهما أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع من الحلف على الإعطاء وهم أرادوا المنع من الحلف على ترك الإعطاء فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب وجعل المنهي عنه مأموراً به وثانيهما أنه قلما يوجد في الكلام افتعلت مكان أفعلت وإنما يوجد مكان فعلت وهنا آليت من الألية افتعلت فلا يقال أفعلت كما لا يقال من ألزمت(23/162)
التزمت ومن أعطيت اعتطيت ثم قال في يأتل إن أصله يأتلي ذهبت الياء للجزم لأنه نهى وهو من قولك ما آلوت فلاناً نصحاً ولم آل في أمري جهداً أي ما قصرت ولا يأل ولا يأتل واحداً فالمراد لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم ويوجد كثيراً افتعلت مكان فعلت تقول كسبت واكتسبت وصنعت واصطنعت ورضيت وارتضيت فهذا التأويل هو الصحيح دون الأول ويروى هذا التأويل أيضاً عن أبي عبيدة أجاب الزجاج عن السؤال الأول بأن لا تخذف في اليمين كثيراً قال الله تعالى وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَة ً لاِيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ ( البقرة 224 ) يعني أن لا تبروا وقال امرؤ القيس فقلت يمين الله أبرح قاعدا
ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
أي لا أبرح وأجابوا عن السؤال الثاني أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظة باليمين وقول كل واحد منهم حجة في اللغة فكيف الكل ويعضده قراءة الحسن ولا يتأل
المسألة الثانية أجمع المفسرون على أن المراد من قوله أُوْلُواْ الْفَضْلِ أبو بكر وهذه الآية تدل على أنه رضي الله عنه كان أفضل الناس بعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الفضل المذكور في هذه الآية إما في الدنيا وإما في الدين والأول باطل لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز ولأنه لو كان كذلك لكان قوله وَالسَّعَة ِ تكريراً فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين فلو كان غيره مساوياً له في الدرجات في الدين لم يكن هو صاحب الفضل لأن المساوي لا يكون فاضلاً فلما أثبت الله تعالى له الفضل مطلقاً غير مقيد بشخص دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق ترك العمل به في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيبقى معمولاً به في حق الغير فإن قيل نمنع إجماع المفسرين على اختصاص هذه الآية بأبي بكر قلنا كل من طالع كتب التفسير والأحاديث علم أن اختصاص هذه الآية بأبي بكر بالغ إلى حد التواتر فلو جاز منعه لجاز منع كل متواتر وأيضاً فهذه الآية دالة على أن المراد منها أفضل الناس وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو علي فإذا بينا أنه ليس المراد علياً تعينت الآية لأبي بكر وإنما قلنا إنه ليس المراد منه علياً لوجهين الأول أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يتعلق بابنة أبي بكر فيكون حديث علي في البين سمجاً الثاني أنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة وإن علياً لم يكن من أولي السعة في الدنيا في ذلك الوقت فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعاً واعلم أن الله تعالى وصف أبا بكر في هذه الآية بصفات عجيبة دالة على علو شأنه في الدين أحدها أنه سبحانه كنى عنه بلفظ الجمع والواحد إذا كنى عنه بلفظ الجمع دل على علو شأنه كقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( الكوثر 1 ) فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنها وثانيها وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص والفضل يدخل فيه الإفضال وذلك يدل على أنه رضي الله عنه كما كان فاضلاً على الإطلاق كان مفضلاً على الإطلاق وثالثها أن الإفضال إفادة ما ينبغي لا لعوض فمن يهب السكين لمن يقتل نفسه لا يسمى مفضلاً لأنه أعطى مالاً ينبغي ومن أعطى ليستفيد منه عوضاً إما مالياً أو مدحاً أو ثناء فهو مستفيض والله تعالى قد وصفه(23/163)
بذلك فقال وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَة ٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى ( الليل 17 20 ) وقال في حق علي إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ( الإنسان 9 10 ) فعلي أعطى للخوف من العقاب وأبو بكر ما أعطى إلا لوجه ربه الأعلى فدرجة أبي بكر أعلى فكانت عطيته في الإفضال أتم وأكمل ورابعها أنه قال أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ فكلمة من للتمييز فكأنه سبحانه ميزه عن كل المؤمنين بصفة كونه أولي الفضل والصفة التي بها يقع الامتياز يستحيل حصولها في الغير وإلا لما كانت مميزة له بعينه فدل ذلك على أن هذه الصفة خاصة فيه لا في غيره ألبتة وخامسها أمكن حمل الفضل على طاعة الله تعالى وخدمته وقوله وَالسَّعَة ِ على الإحسان إلى المسلمين فكأنه كان مستجمعاً للتعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله وهما من أعلى مراتب الصديقين وكل من كان كذلك كان الله معه لقوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ولأجل اتصافه بهاتين الصفتين قال له لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ( التوبة 40 ) وسادسها إنما يكون الإنسان موصوفاً بالسعة لو كان جواداً بذولاً ولقد قال عليه الصلاة والسلام ( خير الناس من ينفع الناس ) فدل على أنه خير الناس من هذه الجهة ولقد كان رضي الله عنه جواداً بذولاً في كل شيء ومن جوده أنه لما أسلم بكرة اليوم جاء بعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن أسلموا على يده وكان جوده في التعليم والإرشاد إلى الدين والبذل بالدينا كما هو مشهور فيحق له أن يوصف بأنه من أهل السعة وأيضاً فهب أن الناس اختلفوا في أنه هل كان إسلامه قبل إسلام علي أو بعده ولكن اتفقوا على أن علياً حين أسلم لم يشتغل بدعوة الناس إلى دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأن أبا بكر اشتغل بالدعوة فكان أبو بكر أول الناس اشتغالاً بالدعوة إلى دين محمد ولا شك أن أجل المراتب في الدين هذه المرتبة فوجب أن يكون أفضل الناس بعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هو أبو بكر من هذه الجهة ولأنه عليه السلام قال ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فوجب أن يكون لأبي بكر مثل أجر كل من يدعو إلى الله فيدل على الأفضلية من هذه الجهة أيضاً وسابعها أن الظلم من ذوي القربى أشد قال الشاعر وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
وأيضاً فالإنسان إذا أحسن إلى غيره فإذا قابله ذلك الغير بالإساءة كان ذلك أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من الأجنبي والجهتان كانتا مجتمعتين في حق مسطح ثم إنه آذى أبا بكر بهذا النوع من الإيذاء الذي هو أعظم أنواع الإيذاء فانظر أين مبلغ ذلك الضرر في قلب أبي بكر ثم إنه سبحانه أمره بأن لا يقطع عنه بره وأن يرجع معه إلى ما كان عليه من الإحسان وذلك من أعظم أنواع المجاهدات ولا شك أن هذا أصعب من مقاتلة الكفار لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكافر ومجاهدة النفس أشق ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) وثامنها أن الله تعالى لما أمر أبا بكر بذلك لقبه بأولي الفضل وأولي السعة كأنه سبحانه يقول أنت(23/164)
أفضل من أن تقابل إساءته بشيء وأنت أوسع قلباً من أن تقيم للدنيا وزناً فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن تقطع برك عنه بسبب ما صدر منه من الإساءة ومعلوم أن مثل هذا الخطاب يدل على نهاية الفضل والعلو في الدين وتاسعها أن الألف واللام يفيدان العموم فالألف واللام في الفضل والسعة يدلان على أن كل الفضل وكل السعة لأبي بكر كما يقال فلان هو العالم يعني قد بلغ في الفضل إلى أن صار كأنه كل العالم وما عداه كالعدم وهذا وأيضاً منقبة عظيمة وعاشرها قوله وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ وفيه وجوه منها أن العفو قرينة التقوى وكل من كان أقوى في العفو كان أقوى في التقوى ومن كان كذلك كان أفضل لقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) ومنها أن العفو والتقوى متلازمان فلهذا السبب اجتمعا فيه أما التقوى فلقوله تعالى وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى ( الليل 17 ) وأما العفو فلقوله تعالى وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ وحادي عاشرها أنه سبحانه قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ( المائدة 13 ) وقال في حق أبي بكر وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ فمن هذا الوجه يدل على أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جميع الأخلاق حتى في العفو والصفح وثاني عشرها قوله أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ فإنه سبحانه ذكره بكناية الجمع على سبيل التعظيم وأيضاً فإنه سبحانه علق غفرانه له على إقدامه على العفو والصفح فلما حصل الشرط منه وجب ترتيب الجزاء عليه ثم قوله يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ بصيغة المستقبل وأنه غير مقيد بشيء دون شيء فدلت الآية على أنه سبحانه قد غفر له في مستقبل عمره على الإطلاق فكان من هذا الوجه ثاني اثنين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ( الفتح 2 ) ودليلاً على صحة إمامته رضي الله عنه فإن إمامته لو كانت على خلاف الحق لما كان مغفوراً له على الإطلاق ودليلاً على صحة ما ذكره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في خبر بشارة العشرة بأن أبا بكر في الجنة وثالث عشرها أنه سبحانه وتعالى لما قال أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وصف نفسه بكونه غفوراً رحيماً والغفور مبالغة في الغفران فعظم أبا بكر حيث خاطبه بلفظ الجمع الدل على التعظيم وعظم نفسه سبحانه حيث وصفه بمبالغة الغفران والعظيم إذا عظم نفسه ثم عظم مخاطبه فالعظمة الصادرة منه لأجله لا بد وأن تكون في غاية التعظيم ولهذا قلنا بأنه سبحانه لما قال إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( الكوثر 1 ) وجب أن تكون العطية عظيمة فدلت الآية على أن أبا بكر ثاني اثنين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه المنقبة أيضاً ورابع عشرها أنه سبحانه لما وصفه بأنه أولوا الفضل والسعة على سبيل المدح وجب أن يقال إنه كان خالياً عن المعصية لأن الممدوح إلى هذا الحد لا يجوز أن يكون من أهل النار ولو كان عاصياً لكان كذلك لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا ( النساء 14 ) وإذا ثبت أنه كان خالياً عن المعاصي فقوله يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لا يجوز أن يكون المراد غفران معصية لأن المعصية التي لا تكون لا يمكن غفرانها وإذا ثبت أنه لا يمكن حمل الآية على ذلك وجب حملها على وجه آخر فكأنه سبحانه قال(23/165)
والله أعلم أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لأجل تعظيمكم هؤلاء القذفة العصاة فيرجع حاصل الآية إلى أنه سبحانه قال يا أبا بكر إن قبلت هؤلاء العصاة فأنا أيضاً أقبلهم وإن رددتهم فأنا أيضاً أردهم فكأنه سبحانه أعطاه مرتبة الشفاعة في الدنيا فهذا ما حضرنا في هذه الآية والله أعلم فإن قيل هذه الآية تقدم في فضيلة أبي بكر من وجه آخر وذلك لأنه نهاه عن هذا الحلف فدل على صدور المعصية منه قلنا الجواب عنه من وجوه أحدها أن النهي لا يدل على وقوعه قال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) ولم يدل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام أطاعهم بل دلت الأخبار الظاهرة على صدور هذا الحلف منه ولكن على هذا التقدير لا تكون الآية دالة على قولكم وثانيها هب أنه صدر عنه ذلك الحلف فلم قلتم إنه كان معصية وذلك لأن الامتناع من التفضل قد يحسن خصوصاً فيمن يسيء إلى من أحسن إليه أو في حق من يتخذه ذريعة إلى الأفعال المحرمة لا يقال فلو لم تكن معصية لما جاز أن ينهى الله عنه بقوله وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ لأنا نقول هذا النهي ليس نهي زجر وتحريم بل هو نهي عن ترك الأولى كأنه سبحانه قال لأبي بكر اللائق بفضلك وسعة همتك أن لا تقطع هذا فكان هذا إرشاداً إلى الأولى لا منعاً عن المحرم
المسألة الثالثة أجمعوا على أن المراد من قوله أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مسطح لأنه كان قريباً لأبي بكر وكان من المساكين وكان من المهاجرين واختلفوا في الذنب الذي وقع منه فقال بعضهم قذف كما فعله عبدالله بن أبي فإنه عليه الصلاة والسلام حده وأنه تاب عن ذلك وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان تاركاً للنكر ومظهراً للرضا وأي الأمرين كان فهو ذنب
المسألة الرابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على بطلان المحابطة وقالوا إنه سبحانه وصفه بكونه من المهاجرين في سبيل الله بعد أن أتى بالقذف وهذه صفة مدح فدل على أن ثواب كونه مهاجراً لم يحبط بإقدامه على القذف
المسألة الخامسة أجمعوا على أن مسطحاً كان من البدريين وثبت بالرواية الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) فكيف صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدرياً والجواب أنه لا يجوز أن يكون المراد منه افعلوا ما شئتم من المعاصي فيأمر بها أو يقيمها لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقياً عليهم لو حملناه على ذلك لاقتضى زوال التكليف عنهم ولأنه لو كان كذلك لما جاز أن يحد مسطح على ما فعل ويلعن فوجب حمله على أحد أمرين الأول أنه تعالى اطلع على أهل بدر وقد علم توبتهم وإنابتهم فقال افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة الثاني يحتمل أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة
المسألة السادسة العفو والصفح عن المسيء حسن مندوب إليه وربما وجب ذلك ولو لم يدل عليه إلا هذه الآية لكفي ألا ترى إل قوله أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ( النور 22 ) فعلق الغفران بالعفو والصفح وعنه عليه الصلاة والسلام ( من لم يقبل عذراً لمتنصل كاذباً كان أو صادقاً فلا يرد على حوضي يوم القيامة ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( أفضل أخلاق المسلمين العفو ) وعنه أيضاً ( ينادي مناد يوم القيامة ألا من كان له على الله أجر(23/166)
فليقم فلا يقوم إلا أهل العفو ثم تلا فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) وعنه عليه الصلاة والسلام أيضاً ( لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه )
المسألة السابعة في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير لا صارفة عنه
المسألة الثامنة مذهب الجمهور الفقهاء أنه من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها أنا ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه وقال بعضهم إنه يأتي بالذي هو خير وذلك كفارته واحتج ذلك القائل بالآية والخبر أما الآية فهي أن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة وأما الخبر فما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته ) وأما دليل قول الجمهور فأمور أحدها قوله تعالى وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ ( المائدة 89 ) فكفارته وقوله ذالِكَ كَفَّارَة ُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ( المائدة 89 ) وذلك عام في الحانث في الخير وغيره وثانيها قوله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ( ص 44 ) وقد علمنا أن الحنث كان خيراً من تركه وأمره الله بضرب لا يبلغ منها ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها بل كان يحنث بلا كفارة وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) أما الجواب عما ذكره أولاً فهو أنه تعالى لم يذكر أمر الكفارة في قصة أبي بكر لا نفياً ولا إثباتاً لأن حكمه كان معلوماً في سائر الآيات والجواب عما ذكره ثانياً في قوله ( وليأت الذي هو خير وذلك كفارته ) فمعناه تكفير الذنب لا الكفارة المذكورة في الكتاب وذلك لأنه منهي عن نقض الأيمان فأمره ههنا بالحنث والتوبة وأخبر أن ذلك يكفر ذنبه الذي ارتكبه بالحلف
المسألة التاسعة روى القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أنها ( قالت فضلت أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعشر خصال تزوجني رسول ( صلى الله عليه وسلم ) بكراً دون غيري وأبواي مهاجران وجاء جبريل عليه السلام بصورتي في حريرة وأمره أن يتزوج بي وكنت أغتسل معه في إناء واحد وجبريل عليه السلام ينزل عليه بالوحي وأنا معه في لحاف واحد وتزوجني في شوال وبنى بي في ذلك الشهر وقبض بين سحري ونحري وأنزل الله تعالى عذري من السماء ودفن في بيتي وكل ذلك لم يساوني غيري فيه ) وقال بعضهم برأ الله أربعة بأربعة برأ يوسف عليه السلام بلسان الشاهد وشهد شاهد من أهلها وبرأ موسى عليه السلام من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه وبرأ مريم بإنطاق ولدها وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر وروى أنه لما قربت وفاة عائشة جاء ابن عباس يستأذن عليها فقالت يجيء الآن فيثني علي فخبره ابن الزبير فقال ما أرجع حتى تأذن لي فأذنت له فدخل فقالت عائشة أعوذ بالله من النار فقال ابن عباس يا أم المؤمنين مالك والنار قد أعاذك الله منها وأنزل براءتك تقرأ في المساجد وطيبك فقال الطَّيّبَاتِ لِلطَّيّبِينَ وَالطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَاتِ ( النور 26 ) كنت أحب نساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليه ولم يحب ( صلى الله عليه وسلم ) إلا طيباً وأنزل بسببك التيمم فقال فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً ( النساء 43 ) وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا فقالت زينب أنا التي أنزل ربي تزويجي وقالت عائشة أنا التي برأني ربي حين حملني ابن المعطل على الراحلة فقالت لها زينب ما قلت حين ركبتيها قالت قلت حسبي الله ونعم الوكيل فقالت قلت كلمة المؤمنين(23/167)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في قوله إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ هل المراد منه كل من كان بهذه الصفة أو المراد منه الخصوص أما الأصوليون فقالوا الصيغة عامة ولا مانع من إجرائها على ظاهرها فوجب حمله على العموم فيدخل فيه قذفة عائشة وقذفة غيرها ومن الناس من خالف فيه ذكر وجوهاً أحدها أن المراد قذفة عائشة قالت عائشة ( رميت وأنا غافلة وإنما بلغني بعد ذلك فبينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عندي إذ أوحى الله إليه فقال أبشري وقرأ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ وثانيها أن المراد جملة أزواج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنهن لشرفهن خصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لاحق به واحتج هؤلاء بأمور الأول أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله تعالى في أول السورة وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ إلى قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ( النور 54 ) وأما القاذف في هذه الآية فإنه لا تقبل توبته لأنه سبحانه قال لُعِنُواْ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ولم يذكر الاستثناء وأيضاً فهذه صفة المنافقين في قوله مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ ( الأحزاب 61 ) الثاني أن قاذف سائر المحصنات لا يكفر والقاذف في هذه الآية يكفر لقوله تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وذلك صفة الكفار والمنافقين كقوله وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ ( فصلت 19 ) الآيات الثلاث الثالث أنه قال وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ والعذاب العظيم يكون عذاب الكفر فدل على أن عقاب هذا القاذف عقاب الكفر وعقاب قذفه سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر الرابع روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة وكان يسأل عن تفسير القرآن فسئل عن تفسير هذه الآية فقال من أذنب ذنباً ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة أجاب الأصوليون عنه بأن الوعيد المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون مشروطاً بعدم التوبة لأن الذنب سواء كان كفراً أو فسقاً فإذا حصلت التوبة منه صار مغفوراً فزال السؤال ومن الناس ذكر فيه قولاً آخر وهو أن هذه الآية نزلت في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله عهد فكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا إنما خرجت لتفجر فنزلت فيهم والقول الأول هو الصحيح
المسألة الثانية أن الله تعالى ذكر فيمن يرمي المحصنات الغافلات المؤمنات ثلاثة أشياء أحدها كونهم ملعونين في الدنيا والآخرة وهو وعيد شديد واحتج الجبائي بأن التقييد باللعن عام في جميع القذفة ومن كان ملعوناً في الدنيا فهو ملعون في الآخرة والملعون في الآخرة لا يكون من أهل الجنة وهو بناء على المحابطة وقد تقدم القول فيه وثانيها وقوله يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ونظيره(23/168)
قوله وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ( فصلت 21 ) وعندنا البنية ليست شرطاً للحياة فيجوز أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علماً وقدرة وكلاماً وعند المعتزلة لا يجوز ذلك فلا جرم ذكروا في تأويل هذه الآية وجهين الأول أنه سبحانه يخلق في هذه الجوارح هذا الكلام وعندهم المتكلم فاعل الكلام فتكون تلك الشهادة من الله تعالى في الحقيقة إلا أنه سبحانه أضافها إلى الجوارح توسعاً الثاني أنه سبحانه بيني هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله قال القاضي وهذا أقرب إلى الظاهر لأن ذلك يفيد أنها تفعل الشهادة وثالثها قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ولا شبهة في أن نفس دينهم ليس هو المراد لأن دينهم هو عملهم بل المراد جزاء عملهم والدين بمعنى الجزاء مستعمل كقولهم كما تدين تدان وقيل الدين هو الحساب كقوله ذلك الدين القيم أي الحساب الصحيح ومعنى قوله الْحَقّ أي أن الذي نوفيهم من الجزاء هو القدر المستحق لأنه الحق وما زاد عليه هو الباطل وقرىء الحق بالنصب صفة للدين وهو الجزاء وبالرفع صفة لله
وأما قوله وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( النور 25 ) فمن الناس من قال إنه سبحانه إنما سمي بالحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره أو لأنه الحق فيما يأمر به دون غيره ومعنى الْمُبِينُ يؤيد ما قلنا لأن المحق فيما يخاطب به هو المبين من حيث يبين الصحيح بكلامه دون غيره ومنهم من قال الحق من أسماء الله تعالى ومعناه الموجود لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم ومعنى المبين المظهر ومعناه أن بقدرته ظهر وجود الممكنات فمعنى كونه حقاً أنه الموجود لذاته ومعنى كونه مبيناً أنه المعطي وجود غيره
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُوْلَائِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
اعلم أن الخبيثات يقع على الكلمات التي هي القذف الواقع من أهل الإفك ويقع أيضاً على الكلام الذي هو كالذم واللعن ويكون المراد من ذلك لا نفس الكلمة التي هي من قبل الله تعالى بل المراد مضمون الكلمة ويقع أيضاً على الزواني من النساء وفي هذه الآية كل هذه الوجوه محتملة فإن حملناها على القذف الواقع من أهل الإفك كان المعنى الخبيثات من قول أهل الإفك للخبيثين من الرجال وبالعكس والطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال وبالعكس وإن حلمناها على الكلام الذي هو كالذم واللعن فالمعنى أن الذم واللعن معدان للخبيثين من الرجال والخبيثون منهم معرضون للعن والذم وكذا القول في الطيبات وأولئك إشارة إلى الطيبين وأنهم مبرءون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات وإن حملناه حملناه على الزواني فالمعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال وبالعكس على معنى قوله تعالى الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً ( النور 3 ) والطيبات من النساء للطيبين من الرجال والمعنى أن مثل ذلك الرمي الواقع من المنافقين لا يليق إلا بالخبيثات والخبيثين لا بالطيبات والطيبين كالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأزواجه فإن قيل فعلى هذا الوجه يلزم أن لا يتزوج الرجل العفيف بالزانية والجواب ما تقدم في قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً(23/169)
وقوله أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ يعني الطيبات والطيبين مما يقوله أصحاب الإفك سوى قول من حمله على الكلمات فكأنه قال الطيبون مبرءون مما يقوله الخبيثون ومتى حمل أولئك على هذا الوجه كان لفظه كمعناه في أنه جمع ومتى حملته على عائشة وصفوان وهما اثنان فكيف يعبر عنهما بلفظ الجمع فجوابه من وجهين الأول أن ذلك الرمي قد تعلق بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبعائشة وصفوان فبرأ الله تعالى كل واحد منهم من التهمة اللائقة به الثاني أن المراد به كل أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكأنه تعالى برأهن من هذا الإفك لكن لا يقدح فيهن أحد كما أقدموا على عائشة ونزه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك عن أمثال هذا الأمر وهذا أبين كأنه تعالى بين أن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال ولا أحد أطيب ولا أطهر من الرسول فأزواجه إذن لا يجوز أن يكن إلا طيبات ثم بين تعالى أن لَهُم مَّغْفِرَة ٌ يعني براءة من الله ورسوله ورزق كريم في الآخرة ويحتمل أن يكون ذلك خبراً مقطوعاً به فيعلم بذلك أن أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام هن معه في الجنة وقد وردت الأخبار بذلك ويحتمل أن يكون المراد بشرط اجتناب الكبائر والتوبة والأول أولى لأنا إنما نحتاج إلى الشرط إذا لم يمكن حمل الآية عليه أما إذا أمكن فلا وجه لطلب الشرط وهذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها تصير إلى الجنة بخلاف مذهب الرافضة الذين يكفرونها بسبب حرب يوم الجمل فإنهم يردون بذلك نص القرآن فإن قيل القطع بأنها من أهل الجنة إغراء لها بالقبيح قلنا أليس أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قد أعلمه الله تعالى بأنه من أهل الجنة ولم يكن ذلك إغراء له بالقبيح وكذا العشرة المبشرة بالجنة فكذا ههنا والله أعلم تمت قصة أهل الإفك
الحكم السادس
في الاستئذان
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَة ٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
اعلم أنه تعالى عدل عما يتصل بالرمي والقذف وما يتعلق بهما من الحكم إلى ما يليق به لأن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة فصارت كأنها طريق التهمة فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به فقال ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ الخ وفي الآية سؤالات(23/170)
السؤال الأول الاستئناس عبارة عن الأنس الحاصل من جهة المجالسة قال تعالى ولا مستأنسين لحديث وإنما يحصل ذلك بعد الدخول والسلام فكان الأولى تقديم السلام على الاستئناس فلم جاء على العكس من ذلك والجواب عن هذا من وجوه أحدها ما يروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير إنما هو حتى تستأذنوا فأخطأ الكاتب وفي قراءة أبي حتى تستأذنوا لكم والتسليم خير لكم من تحية الجاهلية والدمور وهو الدخول بغير إذن واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب وفي الحديث ( من سبقت عينه استئذانه فقد دمر واعلم أن هذا القول من ابن عباس فيه نظر لأنه يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ويقتضي صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر وفتح هذين البابين يطرق الشك إلى كل القرآن وأنه باطل وثانيها ما روي عن الحسن البصري أنه قال إن في الكلام تقديماً وتأخيراً والمعنى حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا وذلك لأن السلام مقدم على الاستئناس وفي قراءة عبدالله حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا وهذا أيضاً ضعيف لأنه خلاف الظاهر وثالثها أن تجري الكلام على ظاهره ثم في تفسير الاستئناس وجوه الأول حتى تستأنسوا بالإذن وذلك لأنهم إذا استأذنوا وسلموا أنس أهل البيت ولو دخلوا بغير إذن لاستوحشوا وشق عليهم الثاني تفسير الاستئناس بالاستعلام والاستكشاف استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم ومنه قولهم استأنس هل ترى أحداً واستأنست فلم أر أحداً أي تعرفت واستعلمت فإن قيل وإذا حمل على الأنس ينبغي أن يتقدمه السلام كما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول ( السلام عليكم أأدخل ) قلنا المستأذن ربما لا يعلم أن أحداً في المنزل فلا معنى لسلامه والحالة هذه والأقرب أن يستعلم بالاستئذان هل هناك من يأذن فإذا أذن ودخل صار مواجهاً له فيسلم عليه والثالث أن يكون اشتقاق الاستئناس من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان ولا شك أن هذا مقدم على السلام والرابع لو سلمنا أن الاستئناس إنما يقع بعد السلام ولكن الواو لا توجب الترتيب فتقديم الاستئناس على السلام في اللفظ لا يوجب تقديمه عليه في العمل
السؤال الثاني ما الحكم في إيجاب تقديم الاستئذان والجواب تلك الحكمة هي التي نبه الله تعالى عليها في قوله لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَة ٍ فدل بذلك على أن الذي لأجله حرم الدخول إلا على هذا الشرط هو كون البيوت مسكونة إذ لا يأمن من يهجم عليها بغير استئذان أن يهجم على ما لا يحل له أن ينظر إليه من عورة أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه غيرهم من الأحوال وهذا من باب العلل المنبه عليها بالنص ولأنه تصرف في ملك الغير فلا بد وأن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب
السؤال الثالث كيف يكون الاستئذان الجواب استأذن رجل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أألج فقال عليه الصلا والسلام لامرأة يقال لها روضة ( قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن قولي له يقول السلام عليكم أأدخل فسمعها الرجل فقالها فقال ادخل فدخل وسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أشياء وكان يجيب فقال هل في العلم ما لا تعلمه فقال عليه الصلاة والسلام لقد آتاني خيراً كثيراً وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله وتلا إن الله عنده علم الساعة إلى آخره ) وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فصدق الله تعالى عن(23/171)
ذلك وعلم الأحسن والأجمل وعن مجاهد حتى تستأنسوا هو التنحنح وقال عكرمة هو التسبيح والتكبير ونحوه
السؤال الرابع كم عدد الاستئذان الجواب روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الاستئذان ) ثلاث بالأولى يستنصتون وبالثانية يستصلحون وبالثالثة يأذنون أو يردون ) وعن جندب قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع ) وعن أبي سعيد الخدري قال ( كنت جالساً في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبو موسى فزعاً فقلنا له ما أفزعك فقال أمرني عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت فقال ما منعك أن تأتيني فقلت قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي وقد قال عليه الصلاة والسلام إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع فقال لتأتيني على هذا بالبينة أو لأعاقبنك فقال أبي لا يقوم معك إلا أصغر القوم قال فقام أبو سعيد فشهد له ) وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبي موسى إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعن قتادة الاستئذان ثلاثة الأولى يسمع الحي والثاني ليتأهبوا والثالث إن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا واعلم أن هذا من محاسن الآداب لأن في أول مرة ربما منعهم بعض الأشغال من الإذن وفي المرة الثانية ربما كان هناك ما يمنع أو يقتضي المنع أو يقتضي التساوي فإذا لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع ثابت وربما أوجب ذلك كراهة قربه من الباب فلذلك يسن له الرجوع ولذلك يقول يجب في الاستئذان ثلاثاً أن لا يكون متصلاً بل يكون بين كل واحدة والأخرى وقت فأما قرع الباب بعنف والصياح بصاحب الدار فذاك حرام لأنه يتضمن الإيذاء والإيحاش وكفى بقصة بني أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله تعالى إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( الحجرات 4 )
السؤال الخامس كيف يقف على الباب الجواب روي أن أبا سعيد استأذن على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مستقبل الباب فقال عليه الصلاة والسلام لا تستأذن وأنت مستقبل الباب وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول السلام عليكم وذلك لأن الدور لم يكن عليها حينئذ ستور
السؤال السادس أن كلمة ( حتى ) للغاية والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها فقوله لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن فما قولكم فيه الجواب من وجوه أحدها أن الله تعالى جعل الغاية الاستئناس لا الاستئذان والاستئناس لا يحصل إلا إذا حصل الإذن بعد الاستئذان وثانيها أنا لما علمنا بالنص أن الحكمة في الاستئذان أن لا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه فإن ذلك مما يسوءه وعلمنا أن هذا المقصود لا يحصل إلا بعد حصول الإذن علمنا أن الاستئذان ما لم يتصل به الإذن وجب أن لا يكون كافياً وثالثها أن قوله تعالى فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ فحظر الدخول إلا بإذن فدل على أن الإذن مشروط بإباحة الدخول في الآية الأولى فإن قيل إذا ثبت أنه لا بد من الإذن فهل يقوم مقامه غيره أم لا قلنا روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( رسول الرجل إلى الرجل إذنه ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال ( إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن ) وهذا الخبر يدل على معنيين(23/172)
أحدهما أن الإذن محذوف من قوله حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وهو المراد منه والثاني أن الدعاء إذن إذا جاء مع الرسول وأنه لا يحتاج إلى استئذن ثان وقال بعضهم إن من قد جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان
السؤال السابع ما حكم من اطلع على دار غيره بغير إذنه الجواب قال الشافعي رحمه الله لو فقئت عينه فهي هدر وتمسك بما روى سهل بن سعد قال ( اطلع رجل في حجرة من حجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه مدري يحك بها رأسه فقال لو علمت أنك تنظر إلي لطعنت بها في عينك إنما الاستئذان قبل النظر ) وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه ) قال أبو بكر الرازي هذا الخبر يرد لوروده على خلاف قياس الأصول فإنه لا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً وكان عليه القصاص إن كان عامداً والأرش إن كان مخطئاً ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الاطلاع فظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق فإن صح فمعناه من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع فذهبت عينه في حال الممانعة فهي هدر فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم يقع فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان يلزمه حكم جنايته لظاهر قوله تعالى الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ إلى قوله وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ( المائدة 45 ) واعلم أن التمسك بقوله تعالى وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ في هذه المسألة ضعيف لأنا أجمعنا على أن هذا النص مشروط بما إذا لم تكن العين مستحقة فإنها لو كانت مستحقة لم يلزم القصاص فلم قلت إن من اطلع في دار إنسان لم تكن عينه مستحقة وهذا أول المسألة
أما قوله إنه لو دخل لم يجز فقء عينه فكذا إذا نظر قلنا الفرق بين الأمرين ظاهر لأنه إذا دخل علم القوم دخوله عليهم فاحترزوا عنه وتستروا فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطلع منهم على ما لا يجوز الاطلاع عليه فلا يبعد في حكم الشرع أن يبالغ ههنا في الزجر حسماً لباب هذه المفسدة وبالجملة فرد حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لهذا القدر من الكلام غير جائز
السؤال الثامن لما بينتم أنه لا بد من الإذن فهل يكفي الإذن كيف كان أو لا بد من إذن مخصوص الجواب ظاهر الآية يقتضي قبول الإذن مطلقاً سواء كان الآذان صبياً أو امرأة أو عبداً أو ذمياً فإنه لا يعتبر في هذا الإذن صفات الشهادة وكذلك قبول أخبار هؤلاء في الهدايا ونحوها
السؤال التاسع هل يعتبر الاستئذان على المحارم والجواب نعم عن عطاء بن يسار ( أن رجلاً سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أستأذن على أختي فقال النبي عليه الصلاة والسلام نعم أتحب أن تراها عريانة ) وسأل رجل حذيفة أستأذن على أختي فقال إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك وقال عطاء سألت ابن عباس رضي الله عنهما استأذن على أختي ومن أنفق عليها قال نعم إن الله تعالى يقول وَإِذَا بَلَغَ الاْطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( النور 59 ) ولم يفرق بين من كان أجنبياً أو ذا رحم محرم
واعلم أن ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز إلا أنه أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من الأعضاء والتحقيق فيه أن المنع من الهجوم على الغير إن كان لأجل أن ذلك الغير ربما كان منكشف الأعضاء فهذا دخل فيه الكل إلا الزوجات وملك اليمين وإن كان لأجل أنه ربما كان مشتغلاً(23/173)
بأمر يكره إطلاع الغير عليه وجب أن يعم في الكل حتى لا يكون له أن يدخل على الزوجة والأمة إلا بإذن
السؤال العاشر إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان الجواب كل ذلك مستثنى بالدليل فهذا جملة الكلام في الاستئذان وأما السلام فهو من سنة المسلمين التي أمروا بها وأمان للقوم وهو تحية أهل الجنة ومجلبة للمودة وناف للحقد والضغينة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله فحمد الله بإذن الله فقال له ربه يرحمك ربك يا آدم اذهب إلى هؤلاء الملائكة وهم ملأ منهم جلوس فقل السلام عليكم فلما فعل ذلك رجع إلى ربه فقال هذه تحيتك وتحية ذريتك ) وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حق المسلم على المسلم ست يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه وينصح له بالغيب ويشمته إذا عطس ويعوده إذا مرض ويشهد جنازته إذا مات ) وعن ابن عمر قال قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ( إن سركم أن يسل الغل من صدوركم فأفشوا السلام بينكم )
أما قوله تعالى ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ فالمعنى فيه ظاهر إذ المراد أن فعل ذلك خير لكم وأولى لكم من الهجوم بغير إذن لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لكي تتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به ثم قال فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أي في البيوت أحداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا لأن العلة في الصورتين واحدة وهي جواز أن يكون هناك أحوال مكتومة يكره إطلاع الداخل عليها ثم قال وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ وذلك لأنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار فكذا الوقوف على الباب قد يكرهه فلا جرم كان الأولى والأزكى له أن يرجع إزالة للإيحاش والإيذاء ولما ذكر الله تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير مسكونة فقال لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَة ٍ وذلك لأن المانع من الدخول إلا بإذن زائل عنها واختلف المفسرون في المراد من قوله بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَة ٍ على أقوال أحدها وهو قول محمد بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع يروى أن أبا بكر قال يا رسول الله إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن فنزلت هذه الآية وثانيها أنها الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز وثالثها الأسواق ورابعها أنها الحمامات والأولى أن يقال إنه لا يمتنع دخول الجميع تحت الآية فيحمل على الكل والعلة في ذلك أنها إذا كانت كذلك فهي مأذون بدخولها من جهة العرف فكذلك نقول إنها لو كانت غير مسكونة ولكنها كانت مغصوبة فإنه لا يجوز للداخل أن يدخل فيها لكن الظاهر من حال الخانات أنها موضوعة لدخول الداخل
وأما قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ فهو وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة
الحكم السابع
حكم النظر
قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَة ِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(23/174)
اعلم أنه تعالى قال قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ وإنما خصهم بذلك لأن غيرهم لا يلزمه غض البصر عما لا يحل له ويحفظ الفرج عما لا يحل له لأن هذه الأحكام كالفروع للإسلام والمؤمنون مأمورون بها ابتداء والكفار مأمورون قبلها بما تصير هذه الأحكام تابعة له وإن كان حالهم كحال المؤمنين في استحقاق العقاب على تركها لكن المؤمن يتمكن من هذه الطاعة من دون مقدمة والكافر لا يتمكن إلا بتقديم مقدمة من قبله وذلك لا يمنع من لزوم التكاليف له
واعلم أنه سبحانه أمر الرجال بغض البصر وحفظ الفرج وأمر النساء بمثل ما أمر به الرجال وزاد فيهن أن لا يبدين زينتهن إلا لأقوام مخصوصين
أما قوله تعالى يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الأكثرون ( من ) ههنا للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل وجوز الأخفش أن تكون مزيدة ونظيره قوله مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ( الأعراف 85 ) فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( الحاقة 47 ) وأباه سيبويه فإن قيل كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج قلنا دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وكذا الجواري المستعرضات وأما أمر الفرج فمضيق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه ومنهم من قال يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ أي ينقصوا من نظرهم فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو مغضوض ممنوع عنه وعلى هذا من ليست بزائدة ولا هي للتبعيض بل هي من صلة الغض يقال غضضت(23/175)
من فلان إذا نقصت من قدره
المسألة الثانية اعلم أن العورات على أربعة أقسام عورة الرجل مع الرجل وعورة المرأة مع المرأة وعورة المرأة مع الرجل وعورة الرجل مع المرأة فأما الرجل مع الرجل فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا عورته وعورته ما بين السرة والركبة والسرة والركبة ليستا بعورة وعند أبي حنيفة رحمه الله الركبة عورة وقال مالك الفخذ ليست بعورة والدليل على أنها عورة ما روي عن حذيفة ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر به في المسجد وهو كاشف عن فخذه فقال عليه السلام غط فخذك فإنها من العورة ) وقال لعلي رضي الله عنه ( لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت ) فإن كان في نظره إلى وجهه أو سائر بدنه شهوة أو خوف فتنة بأن كان أمرد لا يحل النظر إليه ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لما روى أبو سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد ) وتكره المعانقة وتقبيل الوجه إلا لولده شفقة وتستحب المصافحة لما روى أنس قال ( قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقي أخاه أو صديقه أينحني له قال لا قال أيلتزمه ويقبله قال لا قال أفيأخذ بيده ويصافحه قال نعم ) أما عورة المرأة مع المرأة فكعورة الرجل مع الرجل فلها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة وعند خوف الفتنة لا يجوز ولا يجوز المضاجعة والمرأة الذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة قيل يجوز كالمسلمة مع المسلمة والأصح أنه لا يجوز لأنها أجنبية في الدين والله تعالى يقول أَوْ نِسَائِهِنَّ وليست الذمية من نسائنا أما عورة المرأة مع الرجل فالمرأة إما أن تكون أجنبية أو ذات رحم محرم أو مستمتعة فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة فإن كانت حرة فجميع بدنها عورة ولا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه في البيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء ونعني بالكف ظهرها وبطنها إلى الكوعين وقيل ظهر الكف عورة
واعلم أنا ذكرنا أنه لا يجوز النظر إلى شيء من بدنها ويجوز النظر إلى وجهها وكفها وفي كل واحد من القولين استثناء أما قوله يجوز النظر إلى وجهها وكفها فاعلم أنه على ثلاثة أقسام لأنه إما أن لا يكون فيه غرض ولا فيه فتنة وإما أن يكون فيه فتنة ولا غرض فيه وإما أن يكون فيه فتنة وغرض أما القسم الأول فاعلم أنه لا يجوز أن يتعمد النظر إلى وجه الأجنبية لغير غرض وإن وقع بصره عليها بغتة يغض بصره لقوله تعالى قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وقيل يجوز مرة واحدة إذا لم يكن محل فتنة وبه قال أبو حنيفة رحمه الله ولا يجوز أن يكرر النظر إليها لقوله تعالى إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ( الإسراء 36 ) ولقوله عليه السلام ( يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ) وعن جابر قال ( سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري ) ولأن الغالب أن الاحتراز عن الأولى لا يمكن فوقع عفواً قصد أو لم يقصد(23/176)
أما القسم الثاني وهو أن يكون فيه غرض ولا فتنة فيه فذاك أمور أحدها بأن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيها روى أبو هريرة رضي الله عنه ( أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة ) وقال المغبرة بن شعبة ( خطبت امرأة فقال عليه السلام نظرت إليها فقلت لا قال فانظر فإنها أحرى أن يدوم بينكما ) فكل ذلك يدل على جواز النظر إلى وجهها وكفيها للشهوة إذا أراد أن يتزوجها ويدل عليه أيضاً قوله تعالى لاَّ يَحِلُّ لَكَ النّسَاء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ( الأحزاب 52 ) ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن وثانيها إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها وثالثها أنه عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة إليه ورابعها ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى غير الوجه لأن المعرفة تحصل به أما القسم الثالث وهو أن ينظر إليها للشهوة فذاك محظور قال عليه الصلاة والسلام ( العينان تزنيان ) وعن جابر قال ( سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري ) وقيل مكتوب في التوراة النظرة تزرع في القلب الشهوة ورب شهوة أورثت حزناً طويلاً أما الكلام الثاني وهو أنه لا يجوز للأجنبي النظر إلى بدن الأجنبية فقد استثنوا منه صوراً إحداها يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إليها للمعالجة كما يجوز للختان أن ينظر إلى فرج المختون لأنه موضع ضرورة وثانيتها يجوز أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة على الزنا وكذلك ينظر إلى فرجها لتحمل شهادة الولادة وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع وقال أبو سعيد الإصطخري لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع لأن الزنا مندوب إلى ستره وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء فلا حاجة إلى نظر الرجال للشهادة وثالثتها لو وقعت في غرق أو حرق فله أن ينظر إلى بدنها ليخلصها أما إذا كانت الأجنبية أمة فقال بعضهم عورتها ما بين السرة والركبة وقال آخرون عورتها ما لا يبين للمهنة فخرج منه أن رأسها ساعديها وساقيها ونحرها وصدرها ليس بعورة وفي ظهرها وبطنها وما فوق ساعديها الخلاف المذكور ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال لا لحجامة ولا اكتحال ولا غيره لأن اللمس أقوى من النظر بدليل أن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز أن يمس من الأمة ما يحل النظر إليه أما إن كانت المرأة ذات محرم له بنسب أو رضاع أو صهرية فعورتها معه ما بين السرة والركبة كعورة الرجل وقال آخرون بل عورتها ما لا يبدو عند المهنة وهو قول أبي حنيفة رحمه الله فأما سائر التفاصيل فستأتي إن شاء الله تعالى في تفسير الآية أما إذا كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل له الاستمتاع بها فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها حتى إلى فرجها غير أنه يكره أن ينظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه لأنه يروي أنه(23/177)
يورث الطمس وقيل لا يجوز النظر إلى فرجها ولا فرق بين أن تكون الأمة قنة أو مدبرة أو أم ولد أو مرهونة فإن كانت مجوسية أو مرتدة أو وثنية أو مشتركة بينه وبين غيره أو متزوجة أو مكاتبة فهي كالأجنبية روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة ) وأما عورة الرجل مع المرأة ( ففيه ) نظر إن كان أجنبياً منها فعورته معها ما بين السرة والركبة وقيل جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه والأول أصح بخلاف المرأة في حق الرجل لأن بدن المرأة في ذاته عورة بدليل أنه لا تصح صلاتها مكشوفة البدن وبدن الرجل بخلافه ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ولا تكرير النظر إلى وجهه لما روي عن أم سلمة ( أنها كانت عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليها فقال عليه الصلاة والسلام احتجبا منه فقلت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا فقال عليه الصلاة والسلام أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه ) وإن كان محرماً لها فعورته معها ما بين السرة والركبة وإن كان زوجها أو سيدها الذي يحل له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خال وله ما يستر عورته لأنه روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عنه فقال ( الله أحق أن يستحيي منه ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله ) والله أعلم
المسألة الثالثة سئل الشبلي عن قوله يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ فقال أبصار الرؤوس عن المحرمات وأبصار القلوب عما سوى الله تعالى
وأما قوله تعالى وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ فالمراد به عما لا يحل وعن أبي العالية أنه قال كل ما في القرآن من قوله وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ويحفظن فروجهن من الزنا إلا التي في النور مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أن لا ينظر إليها أحد وهذا ضعيف لأنه تخصيص من غير دلالة والذي يقتضيه الظاهر أن يكون المعنى حفظها عن سائر ما حرم الله عليه من الزنا والمس والنظر وعلى أنه إن كان المراد حظر النظر فالمس والوطء أيضاً مرادان بالآية إذ هما أغلظ من النظر فلو نص الله تعالى على النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الوطء والمس كما أن قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ( الإسراء 23 ) اقتضى حظر ما فوق ذلك من السب والضرب
أما قوله تعالى ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ ( النور 30 ) أي تمسكهم بذلك أزكى لهم وأطهر لأنه من باب ما يزكون به ويستحقون الثناء والمدح ويمكن أن يقال إنه تعالى خص في الخطاب المؤمنين لما أراده من تزكيتهم بذلك ولا يليق ذلك بالكافر
أما قوله تعالى وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ فالقول فيه على ما تقدم فإن قيل فلم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج قلنا لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه
أما قوله تعالى وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا فمن الأحكام التي تختص بها النساء في الأغلب وإنما قلنا في الأغلب لأنه محرم على الرجل أن يبدي زينته حلياً ولباساً إلى غير ذلك للنساء الأجنبيات لما فيه من الفتنة وههنا مسائل(23/178)
المسألة الأولى اختلفوا في المراد بزينتهن واعلم أن الزينة اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله تعالى وعلى سائر ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلى وغير ذلك وأنكر بعضهم وقوع اسم الزينة عل الخلقة لأنه لا يكاد يقال في الخلقة إنها من زينتها وإنما يقال ذلك فيما تكتسبه من كحل وخضاب وغيره والأقرب أن الخلقة داخلة في الزينة ويدل عليها وجهان الأول أن الكثير من النساء ينفردن بخلقتهن عن سائر ما يعد زينة فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقه ولا يمنع دخول ما عدا الخلقة فيه أيضاً الثاني أن قوله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ يدل على أن المراد بالزينة ما يعم الخلقة وغيرها فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار وأما الذين قالوا الزينة عبارة عما سوى الخلقة فقد حصروه في أمور ثلاثة أحدها الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها والغمرة في خديها والحناء في كفيها وقدميها وثانيها الحلى كالخاتم والسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط وثالثها الثياب قال الله تعالى خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ( الأعراف 31 ) وأراد الثياب
المسألة الثانية اختلفوا في المراد من قوله إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا أما الذين حملوا الزينة على الخلقة فقال القفال معنى الآية إلا ما يظهره الإنسان في العادة الجارية وذلك في النساء الوجه والكفان وفي الرجل الأطراف من الوجه واليدين والرجلين فأمروا بستر ما لا تؤدي الضرورة إلى كشفه ورخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه وأدت الضرورة إلى إظهاره إذ كانت شرائع الإسلام حنيفية سهلة سمحة ولما كان ظهور الوجه والكفين كالضروري لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة أما القدم فليس ظهوره بضروري فلا جرم اختلفوا في أنه هل هو من العورة أم لا فيه وجهان الأصح أنه عورة كظهر القدم وفي صوتها وجهان أصحهما أنه ليس بعورة لأن نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كن يروين الأخبار للرجال وأما الذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فقالوا إنه سبحانه إنما ذكر الزينة لأنه لا خلاف أنه يحل النظر إليها حالما لم تكن متصلة بأعضاء المرأة فلما حرم الله سبحانه النظر إليها حال اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوشمة والغمرة وزينة بدنها من الخضاب والخواتيم وكذا الثياب والسبب في تجويز النظر إليها أن تسترها فيه حرج لأن المرأة لا بد لها من مناولة الأشياء بيديها والحاجة إلى كشف وجهها في الشهادة والمحاكمة والنكاح
المسألة الثالثة اتفقوا على تخصيص قوله وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا بالحرائر دون الإماء والمعنى فيه ظاهر وهو أن الأمة مال فلا بد من الاحتياط في بيعها وشرائها وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على الاستقصاء بخلاف الحرة
أما قوله تعالى وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ فالخمر واحدها خمار وهي المقانع قال المفسرون إن نساء الجاهلية كن يشددن خمرهن من خلفهن وإن جيوبهن كانت من قدام فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط به من شعر وزينة من الحلى في الأذن والنحر وموضع العقدة منها وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء والباء للإلصاق وعن عائشة رضي الله عنها ( ما رأيت خيراً من نساء الأنصار لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة(23/179)
منهن إلى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرت فأصبحن على رؤوسهن الغربان ) وقرىء جُيُوبِهِنَّ بكسر الجيم لأجل الياء وكذلك بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
فأما قوله تعالى وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فاعلم أنه سبحانه لما تكلم في مطلق الزينة تكلم بعد ذلك في الزينة الخفية التي نهاهن عن إبدائها للأجانب وبين أن هذه الزينة الخفية يجب إخفاؤها عن الكل ثم استثنى اثنتي عشرة صورة أحدها أزواجهن وثانيها آباؤهن وإن علون من جهة الذكران والإناث كآباء الآباء وآباء الأمهات وثالثها آباء أزواجهن ورابعها وخامسها أبناؤهن وأبناء بعولتهن ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا من الذكران والإناث كبني البنين وبني البنات وسادسها إخوانهن سواء كانوا من الأب أو من الأم أو منهما وسابعها بنو إخوانهن وثامنها بنو أخواتهن وهؤلاء كلهم محارم وههنا سؤالات
السؤال الأول أفيحل لذوي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل له في المؤمنة الجواب إذا ملك المرأة وهي من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة بل لأمر يرجع إلى مزية الملك على اختلاف بين الناس في ذلك
السؤال الثاني كيف القول في العم والخال الجواب القول الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر وهو قول الحسن البصري قال لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب وقال في سورة الأحزاب لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ ( الأحزاب 55 ) الآية ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم وقد ذكروا ههنا وقد يذكر البعض لينبه على الجملة قال الشعبي إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفهما العم عند ابنه الخال كذلك ومعناه أن سائر القرابات تشارك الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وأبناءهما فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم فيقرب تصوره لها بالوصف من نظره إليها وهذا أيضاً من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهم في التستر
السؤال الثالث ما السبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة الجواب لأنهم مخصوصون بالحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن ولقلة توقع الفتنة بجهاتهن ولما في الطباع من النفرة عن مجالسة الغرائب وتحتاج المرأة إلى صحبتهم فى الأسفار وللنزول والركوب وتاسعها قوله تعالى أَوْ نِسَائِهِنَّ وفيه قولان أحدهما المراد والنساء اللاتي هن على دينهن وهذا قول أكثر السلف قال ابن عباس رضي الله عنهما ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها لقوله تعالى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات وثانيهما المراد بنسائهن جميع النساء وهذا هو المذهب وقول السلف محمول على الاستحباب والأولى وعاشرها قوله تعالى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وظاهر الكلام يشمل العبيد والإماء واختلفوا فمنهم من أجرى الآية على ظاهرها وزعم أنه لا بأس عليهن في أن يظهرن لعبيدهن من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن وهو مروي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما واحتجوا بهذه الآية وهو ظاهر وبما روى أنس ( أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما بها قال إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك ) وعن مجاهد كان أمهات المؤمنن لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم وعن(23/180)
عائشة رضي الله عنها أنها قالت لذكوان ( إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر وروي أن عائشة رضي الله عنها كانت تمتشط والعبد ينظر إليها وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة رحمه الله واحتجوا عليه بأمور أحدها قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاث إلا مع ذي محرم ) والعبد ليس بذي محرم منها فلا يجوز أن يسافر بها وإذا لم يجز له السفر بها لم يجز له النظر إلى شعرها كالحر الأجنبي وثانيها أن ملكها للعبد لا يحلل ما يحرم عليه قبل الملك إذ ملك النساء للرجال ليس كملك الرجال للنساء فإنهم لم يختلفوا في أنها لا تستبيح بملك العبد منه شيئاً من التمتع كما يملكه الرجل من الأمة وثالثها أن العبد وإن لم يجز له أن يتزوج بمولاته إلا أن ذلك التحريم عارض كمن عنده أربع نسوة فإنه لا يجوز له التزوج بغيرهن فلما لم تكن هذه الحرمة مؤبدة كان العبد بمنزلة سائر الأجانب إذا ثبت هذا ظهر أن المراد من قوله أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ الإماء فإن قيل الإماء دخلن في قوله نِسَائِهِنَّ فأي فائدة في الإعادة قلنا الظاهر أنه عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن من في صحبتهن من الحرائر والإماء وبيانه أنه سبحانه ذكر أولاً أحوال الرجال بقوله وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ إلى آخر ما ذكر فجاز أن يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذ كانوا ذوي المحارم أو غير ذات المحارم ثم عطف على ذلك الإماء بقوله أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ لئلا يظن أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء إذ كان ظاهر قوله أَوْ نِسَائِهِنَّ يقتضي الحرائر دون الإماء كقوله شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ ( البقرة 282 ) على الأحرار لإضافتهم إلينا كذلك قوله أَوْ نِسَائِهِنَّ عَلَى أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَة ِ مِنَ الرّجَالِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل هم الذين يتبعونكم لينالوا من فضل طعامكم ولا حاجة بهم إلى النساء لأنهم بله لا يعرفون من أمرهن شيئاً أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم ومعلوم أن الخصى والعنين ومن شاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع ويكون له إربة قوية فيما عداه من التمتع وذلك يمنع من أن يكون هو المراد فيجب أن يحمل المراد على من المعلوم منه إنه لا إربة له في سائر وجوه التمتع إما لفقد الشهوة وإما لفقد المعرفة وإما للفقر والمسكنة فعلى هذه الوجوه الثلاثة اختلف العلماء فقال بعضهم هم الفقراء الذين بهم الفاقة وقال بعضهم المعتوه والأبله والصبي وقال بعضهم الشيخ وسائر من لا شهوة له ولا يمتنع دخول الكل في ذلك وروى هشام بن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل عليها وعندها مخنث فأقبل على أخي أم سلمة فقال يا عبد الله إن فتح الله لكم غداً الطائف دللتك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ) فقال عليه الصلاة والسلام ( لا يدخلن عليكم هذا ) فأباح النبي عليه الصلاة والسلام دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولى الإربة فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهن علم أنه من أولى الإربة فحجبه وفي الخصى والمجبوب ثلاثة أوجه أحدها استباحة الزينة الباطنة معهما والثاني تحريمها عليهما والثالثة تحريمها على الخصى دون المجبوب(23/181)
المسألة الثانية الإربة الفعلة من الأرب كالمشية والجلسة من المشي والجلوس والأرب الحاجة والولوع بالشيء والشهوة له والإربة الحاجة في النساء والإربة العقل ومنه الأريب
المسألة الثالثة في غَيْرِ قراءتان قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر غير بالنصب على الاستثناء أو الحال يعني أو التابعين عاجزين عنهن والقراءة الثانية بالخفض على الوصفية وثاني عشرها قوله تعالى أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء وفيه مسائل
المسألة الأولى الطفل اسم للواحد لكنه وضع ههنا موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونظيره قوله تعالى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( الحج 5 )
المسألة الثانية الظهور على الشيء على وجهين الأول العلم به كقوله تعالى إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ( الكهف 20 ) أي إن يشعروا بكم والثاني الغلبة له والصولة عليه كقوله فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( الصف 14 ) فعلى الوجه الأول يكون المعنى أو الطفل الذين لم يتصوروا عورات النساء ولم يدروا ما هي من الصغر وهو قول ابن قتيبة وعلى الثاني الذين لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء وهو قول الفراء والزجاج
المسألة الثالثة أن الصغير الذي لم يتنبه لصغره على عورات النساء فلا عورة للنساء معه وإن تنبه لصغره ولمراهقته لزم أن تستر عنه المرأة ما بين سرتها وركبتها وفي لزوم ستر ما سواه وجهان أحدهما لا يلزم لأن القلم غير جار عليه والثاني يلزم كالرجل لأنه يشتهي والمرأة قد تشتهيه وهو معنى قوله أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم وأما الشيخ إن بقيت له شهوة فهو كالشاب وإن لم يبق له شهوة ففيه وجهان أحدهما أن الزينة الباطنة معه مباحة والعورة معه ما بين السرة والركبة والثاني أن جميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة وههنا آخر الصور التي استثناها الله تعالى قال الحسن هؤلاء وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الباطنة فهم على أقسام ثلاثة فأولهم الزوج وله حرمة ليست لغيره يحل له كل شيء منها والحرمة الثانية للابن والأب والأخ والجد وأبي الزوج وكل ذي محرم والرضاع كالنسب يحل لهم أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساقين والذراع وأشباه ذلك والحرمة الثالثة هي للتابعين غير أولي الإربة من الرجال وكذا مملوك المرأة فلا بأس أن تقوم المرأة الشابة بين يدي هؤلاء في درع وخمار صفيق بغير ملحفة ولا يحل لهؤلاء أن يروا منها شعراً ولا بشراً والستر في هذا كله أفضل ولا يحل للشابة أن تقوم بين يدي الغريب حتى تلبس الجلباب فهذا ضبط هؤلاء المراتب
أما قوله تعالى وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ فقال ابن عباس وقتادة كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع قعقعة خلخالها ومعلوم أن الرجل الذي يغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة في مشاهدتهن وقد علل تعالى ذلك بأن قال لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ فنبه به على أن الذي لأجله نهى عنه أن يعلم زينتهن من الحلى وغيره وفي الآية فوائد الفائدة الأولى لما نهى عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى الثانية أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت والمرأة منهية عن ذلك الثالثة(23/182)
تدل الآية على حظر النظر إلى وجهها بشهوة إذا كان ذلك أقرب إلى الفتنة
أما قوله سبحانه وتعالى وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى في التوبة وجهان أحدهما أن تكاليف الله تعالى في كل باب لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها وإن ضبط نفسه واجتهد ولا ينفك من تقصير يقع منه فلذلك وصى المؤمنين جميعاً بالتوبة والاستغفار وتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا والثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة فإن قيل قد صحت التوبة بالإسلام والإسلام يجب ما قبله فما معنى هذه التوبة قلنا قال بعض العلماء إن من أذنب ذنباً ثم تاب عنه لزمه كلما ذكره أن يجدد عنه التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه إلى أن يلقى ربه
المسألة الثانية قرىء أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ بضم الهاء ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكينن أتبعت حركتها حركة ما قبلها والله أعلم
المسألة الثالثة تفسير لعل قد تقدم في سورة البقرة في قوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ والله أعلم
الحكم الثامن
ما يتعلق بالنكاح
وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بغض الأبصار وحفظ الفروج بين من بعد أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل فبين تعالى بعد ذلك طريق الحل فقال وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وههنا مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف الأيامى واليتامى أصلهما أيايم ويتايم فقلبا وقال النضر بن شميل الأيم في كلام العرب كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الضحاك تقول زوجوا أيامكم بعضكم من بعض وقال الشاعر فإن تنكحي انكح وإن تتأيمي
وإن كنت أفتى منكمنوا أتأيم
المسألة الثانية قوله تعالى وَأَنْكِحُواْ الايَامَى ( النور 32 ) أمر وظاهر الأمر للوجوب على ما بيناه مراراً فيدل على أن الولي يجب عليه تزويج مولاته وإذا ثبت هذا وجب أن لا يجوز النكاح إلا بولي إما لأن كل من أوجب ذلك على الولي حكم بأنه لا يصح من المولية وإما لأن المولية لو فعلت ذلك لفوتت على الولي التمكن من أداء هذا الواجب وأنه غير جائز وإما لتطابق هذه الآية مع الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) قال أبو بكر الرازي هذه الآية وإن اقتضت بظاهرها الإيجاب إلا أنه أجمع السلف على أنه لم يرد به الأيجاب ويدل عليه أمور(23/183)
أحدها أنه لو كان ذلك واجباً لورد النقل بفعله من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن السلف مستفيضاً شائعاً لعموم الحاجة إليه فلما وجدنا عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسائر الأعضاء بعده قد كان في الناس أيامى من الرجال والنساء فلم ينكروا عدم تزويجهن ثبت أنه ما أريد به الإيجاب وثانيها أجمعنا على أن الأيم الثيب لو أبت التزوج لم يكن للولي إجبارها عليه وثالثها اتفاق الكل على أنه لا يجبر على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على الأيامى فدل على أنه غير واجب في الجميع بل ندب في الجميع ورابعها أن اسم الأيامى ينتظم فيه الرجال والنساء وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم كذلك في النساء والجواب أن جميع ما ذكرته تخصيصات تطرقت إلى الآية والعام بعد التخصيص يبقى حجة فوجب أن يبقى حجة فيما إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب وحينئذ ينتظم وجه الكلام
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها لأن الآية والحديث يدلان على أمر الولي يتزويجها ولولا قيام الدلالة على أنه لا يزوج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزاً له تزويجها أيضاً بغير رضاها لعموم الآية قال أبو بكر الرازي قوله تعالى وَأَنْكِحُواْ الايَامَى لا يختص بالنساء دون الرجال على ما بينا فلما كان الاسم شاملاً للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء وأيضاً فقد أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) باستئمار البكر بقوله ( البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها ) وذلك أمر وإن كان في صورة الخبر فثبت أنه لا يجوز تزويجها إلا بإذنها والجواب أما الأول فهو تخصيص للنص وهو لا يقدح في كونه حجة والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده أمره بخلاف المرأة فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها في التزويج أظهر وأيضاً فلفظ الأيامى وإن تناول الرجال والنساء فإذا أطلق لم يتناول إلا النساء وإنما يتناول الرجال إذا قيد وأما الثاني ففي تخصيص الآية بخبر الواحد كلام مشهور
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة رحمه الله العم والأخ يليان تزويج البنت الصغيرة ووجه الاستدلال بالآية كما تقدم
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله الناس في النكاح قسمان منهم من تتوق نفسه في النكاح فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبة النكاح سواء كان مقبلاً على العبادة أو لم يكن كذلك ولكن لا يجب أن ينكح وإن لم يجد أهبة النكاح يكسر شهوته لما روى عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء أما الذي لا تتوق نفسه إلى النكاح فإن كان ذلك لعلة به من كبر أو مرض أو عجز يكره له أن ينكح لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام بحقه وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة وإن لم يكن به عجز وكان قادراً على القيام بحقه لم يكره له النكاح لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى وقال أبو حنيفة رحمه الله النكاح أفضل من التخلي للعبادة وحجة الشافعي رحمه الله وجوه أحدها قوله تعالى وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا مّنَ الصَّالِحِينَ ( آل عمران 39 ) مدح يحيى عليه السلام بكونه حصوراً والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن ولا يقال هو الذي لا يأتي النساء مع العجز عنهن لأن مدح الإنسان بما يكون عيباً غير جائز وإذا ثبت أنه مدح في حق يحيى وجب أن يكون مشروعاً(23/184)
في حقنا لقوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ولا يجوز حمل الهدى على الأصول لأن التقليد فيها غير جائز فوجب حمله على الفروع وثانيها قوله عليه الصلاة والسلام ( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة ) ويتمسك أيضاً بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن ) وثالثها أن النكاح مباح لقوله عليه الصلاة والسلام ( أحب المباحات إلى الله تعالى النكاح ) ويحمل الأحب على الأصلح في الدنيا لئلا يقع التناقض بين كونه أحب وبين كونه مباحاً والمباح ما استوى طرفاه في الثواب والعقاب والمندوب ما ترجح وجوده على عدمه فتكون العبادة أفضل ورابعها أن النكاح ليس بعبادة بدليل أنه يصح من الكافر والعبادة لا تصح منه فوجب أن تكون العبادة أفضل منه لقوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) والاشتغال بالمقصود أولى وخامسها أن الله تعالى سوى بين التسري والنكاح ثم التسري مرجوح بالنسبة إلى العبادة ومساوى المرجوح مرجوح فالنكاح مرجوح وإنما قلنا إنه سوى بين التسري والنكاح لقوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 3 ) وذكر كلمة أو للتخيير بين الشيئين والتخيير بين الشيئين أمارة التساوي كقول الطبيب للمريض كل الرمان أو التفاح وإذا ثبت الاستواء فالتسري مرجوح ومساوى المرجوح مرجوح فالنكاح يجب أن يكون مرجوحاً وسادسها أن النافلة أشق فتكون أكثر ثواباً بيان أنها أشق أن ميل الطباع إلى النكاح أكثر ولولا ترغيب الشرع لما رغب أحد في النوافل وإذا ثبت أنها أشق وجب أن تكون أكثر ثواباً لقوله عليه الصلاة والسلام ( أفضل العبادات أحمزها ) وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لعائشة ( أجرك على قدر نصبك ) وسابعها لو كان النكاح مساوياً للنوافل في الثواب مع أن النوافل أشق منه لما كانت النوافل مشروعة لأنه إذا حصل طريقان إلى تحصيل المقصود وكانا في الإفضاء إلى المقصود سيين وكان أحدهما شاقاً والآخر سهلاً فإن العقلاء يستقبحون تحصيل ذلك المقصود بالطريق الشاق مع المكنة من الطريق السهل ولما كانت النوافل مشروعة علمنا أنها أفضل وثامنها لو كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لكان الاشتغال بالحراثة والزراعة أولى من النافلة بالقياس على النكاح والجامع كون كل واحد منهما سبباً لبقاء هذا العالم ومحصلاً لنظامه وتاسعها أجمعنا على أنه يقدم واجب العبادة على واجب النكاح فيقدم مندوبها على مندوبه لاتحاد السبب وعاشرها أن النكاح اشتغال بتحصيل اللذات الحسية الداعية إلى الدنيا والنافلة قطع العلائق الجسمانية وإقبال على الله تعالى فأين أحدهما من الآخر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة ) فرجح الصلاة على النكاح حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه الأول أن النكاح يتضمن صون النفس عن الزنا فيكون ذلك دفعاً للضرر عن النفس والنافلة جلب النفع ودفع الضرر أولى من جلب النفع الثاني أن النكاح يتضمن العدل والعدل أفضل من العبادة لقوله عليه الصلاة والسلام ( لعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة ) الثالث النكاح سنة مؤكدة لقوله عليه الصلاة والسلام ( من رغب عن سنتي فليس مني ) وقال في الصلاة وإنها خير موضوع ( فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل ) فوجب أن يكون النكاح أفضل
المسألة السادسة قوله تعالى وَأَنْكِحُواْ الايَامَى ( النور 32 ) وإن كانت تتناول جميع الأيامى بحسب الظاهر(23/185)
لكنهم أجمعوا على أنه لا بد فيها من شروط وقد تقدم شرحها في قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ( النساء 24 )
أما قوله تعالى مّنكُمْ فقد حمله كثير من المفسرين على أن المراد هم الأحرار لينفصل الحر من العبد وقال بعضهم بل المراد بذلك من يكون تحت ولاية المأمور من الولد أو القريب ومنهم من قال الإضافة تفيد الحرية والإسلام
أما قوله تعالى وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ( النور 32 ) ففيه مسائل
المسألة الأولى ظاهر أنه أيضاً أمر للسادة بتزويج هذين الفريقين إذا كانوا صالحين وأنه لا فرق بين هذا الأمر وبين الأمر بتزويج الأيامى في باب الوجوب لكنهم اتفقوا على أنه إباحة أو ترغيب فأما أن يكون واجباً فلا وفرقوا بينه وبين تزويج الأيامى بأن في تزويج العبد التزام مؤنة وتعطيل خدمة وذلك ليس بواجب على السيد وفي تزويج الأمة استفادة مهر وسقوط نفقة وليس ذلك بلازم على المولى
المسألة الثانية إنما خص الصالحين بالذكر لوجوه الأول ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم الثاني لأن الصالحين من الأرقاء هم الذين مواليهم يشفقون عليهم ( و ) ينزلونهم منزلة الأولاد في المودة فكانوا مظنة للتوصية بشأنهم والاهتمام بهم وتقبل الوصية فيهم وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك الثالث أن يكون المراد الصلاح لأمر النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم لها وتقوم الأمة بما يلزم للزوج الرابع أن يكون المراد الصلاح في نفس النكاح بأن لا تكون صغيرة فلا تحتاج إلى النكاح
المسألة الثالثة ظاهر الآية يدل على أن العبد لا يتزوج بنفسه وإنما يجوز أن يتولى المولى تزويجه لكن ثبت بالدليل أنه إذا أمره بأن يتزوج جاز أن يتولى تزويج نفسه فيكون توليه بإذنه بمنزلة أن يتولى ذلك نفس السيد فأما الإماء فلا شبهة في أن المولى يتولى تزويجهن خصوصاً على قول من لا يجوز النكاح إلى بولي
أما قوله تعالى إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( النور 32 ) ففيه مسألتان
المسألة الأولى الأصح أن هذا ليس وعداً من الله تعالى بإغناء من يتزوج بل المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون تزويجها ففي فضل الله ما يغنيهم والمال غاد ورائح وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح فهذا معنى صحيح وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغني حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف وروي عن قدماء الصحابة ما يدل على أنهم رأوا ذلك وعداً عن أبي بكر قال أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى وعن عمر وابن عباس مثله قال ابن عباس التمسوا الرزق بالنكاح وشكى رجل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحاجة فقال ( عليك بالباءة ) وقال طلحة بن مطرف تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم وأوسع لكم في أخلاقكم ويزيد في مروءتكم فإن قيل فنحن نرى من كان غنياً فيتزوج فيصير فقيراً قلنا الجواب عنه من وجوه أحدها أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة كما في قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( التوبة 28 ) المطلق محمول على المقيد وثانيها أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أنه يكون خاصاً في بعض المذكورين دون البعض وهو في(23/186)
الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون وثالثها أن يكون المراد الغنى بالعفاف فيكون المعنى وقوع الغنى بملك البضع والاستغناء به عن الوقوع في الزنا
المسألة الثانية من الناس من استدل بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم فتقتضي الآية بيان أن العبد قد يكون فقيراً وقد يكون غنياً فإن دل ذلك على الملك ثبت أنهما يملكان ولكن المفسرون تأولوه على الأحرار خاصة فكأنهم قالوا هو راجع إلى الأيامى أما إذا فسرنا الغنى بالعفاف فالاستدلال به على ذلك ساقط
أما قوله وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فالمعنى أنه سبحانه في الإفضال لا ينتهي إلى حد تنقطع قدرته على الإفضال دونه لأنه قادر على المقدورات التي لا نهاية لها وهو مع ذلك عليم بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِى ءَاتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك فقال وَلْيَسْتَعْفِفِ أي وليجتهد في العفة كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه
وأما قوله لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً فالمعنى لا يتمكنون من الوصول إليه يقال لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه قال الله تعالى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ والمراد به بالإجماع من لم يتمكن ويقال في أحدنا هو غير واجد للماء وإن كان موجوداً إذا لم يمكنه أن يشتريه ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال فبين سبحانه وتعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف ولينتظر أن يغنيه الله من فضله ثم يصل إلى بغيته من النكاح فإن قيل أفليس ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح قلنا لكن من لم يجد المهر والنفقة فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى والله أعلم
الحكم التاسع
في الكتابة
إعلم أنه تعالى لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفوا في أنفسهم كالأحرار فقال وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ مرفوع على الابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره(23/187)
فكاتبوهم كقولك زيداً فاضربه ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط
المسألة الثانية الكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه أحدها أن أصل الكلمة من الكتب وهو الضم والجمع ومنه الكتيبة سميت بذلك لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض وتضم ماله إلى ماله وثانيها يحتمل أن يكون اللفظ مأخوذاً من الكتاب ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي لي بذلك أو كتبت لي كتاباً عليك بالوفاء بالمال وكتبت على العتق وهذا ما ذكره الأزهري وثالثها إنما سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالاً ولكنه يقع مؤجلاً ليكون متمكناً من الاكتساب وغيره حين ما انقبضت يد السيد عنه ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب فسمى لهذا المعنى هذا العقد كتابً لما يقع فيه من الأجل قال تعالى لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ ( الرعد 38 )
المسألة الثالثة قال محي السنة الكتابة أن يقول لمملوكه كاتبتك على كذا ويسمى مالاً معلوماً يؤديه في نجمين أو أكثر ويبين عدد النجوم وما يؤدي في كل نجم ويقول إذا أديت ذلك المال فأنت حر أو نوي ذلك بقلبه ويقول العبد قبلت وفي هذا الضبط أبحاث
البحث الأول قال الشافعي رحمه الله إن لم يقل بلسانه أو لم ينو بقلبه إذا أديت ذلك المال فأنت حر لم يعتق وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله لا حلاجة إلى ذلك حجة أبي حنيفة رحمه الله أن قوله تعالى فَكَاتِبُوهُمْ خال عن هذا الشرط فوجب أن تصح الكتابة بدون هذا الشرط وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع حجة الشافعي رحمه الله أن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة لأن ما في يد العبد فهو ملك السيد والإنسان لا يمكنه بيع ملكه بملكه بل قوله كاتبتك كتابة في العتق فلا بد من لفظ العتق أو نيته
البحث الثاني لا تجوز الكتابة الحالة عند الشافعي وتجوز عند أبي حنيفة وجه قول الشافعي رحمه الله أن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال وإذا عقد حالاً توجهت المطالبة عليه في الحال فإذا عجز عن الأداء لم يحصل مقصود العقد كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز لأنه حين العقد يتصور أن يكون له ملك في الباطن فالعجز لا يتحقق عن أدائه وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن قوله تعالى فَكَاتِبُوهُمْ مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة وأيضاً لما كان مال الكتابة بدلاً عن الرقبة كان بمنزلة أثمان السلع المبيعة فيجوز عاجلاً وآجلاً وأيضاً أجمعوا على جواز العتق معلقاً على مال حال فوجب أن تكون الكتابة مثله لأنه بدل عن العتق في الحالين إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط الأداء وفي الآخر معجل فوجب أن لا يختلف حكمهما
البحث الثالث قال الشافعي رحمه الله لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين يروى ذلك عن علي وعثمان وابن عمر روى أن عثمان رضي الله عنه غضب على عبده فقال لأضيقن الأمر عليك ولأكاتبنك على نجمين ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل لأن التضييق فيه أشد وإنما شرطنا التنجيم لأنه عقد(23/188)
إرفاق ومن شرط الإرفاق التنجيم ليتيسر عليهم الأداء وقال أبو حنيفة رحمه الله تجوز الكتابة على نجم واحد لأن ظاهر قوله فَكَاتِبُوهُمْ ليس فيه تقييد
المسألة الرابعة تجوز كتابة المملوك عبداً كان أو أمة ويشترط عند الشافعي رحمه الله أن يكون عاقلاً بالغاً فإذا كان صبياً أو مجنوناً لا تصح كتابته لأن الله تعالى قال وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ولا يتصور الابتغاء من الصبي والمجنون وعند أبي حنيفة رحمه الله تجوز كتابة الصبي ويقبل عنه المولى
المسألة الخامسة يشرط أن يكون المولى مكلفاً مطلقاً فإن كان صبياً أو مجنوناً أو محجوراً عليه بالسفه لا تصح كتابته كما لا يصح بيعه ولأن قوله فَكَاتِبُوهُمْ خطاب فلا يتناول غير العاقل وعند أبي حنيفة رحمه لله تصح كتابة الصبي بإذن الولي
المسألة السادسة اختلف العلماء في أن قوله فَكَاتِبُوهُمْ أمر إيجاب أو أمر استحباب فقال قائلون هو أمر إيجاب فيجب على الرجل أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيراً ولو كان بدون قيمته لم يلزمه وهذا قول عمرو بن دينار وعطاء وإليه ذهب داود بن علي ومحمد بن جرير واحتجوا عليه بالآية والأثر أما الآية فظاهر قوله تعالى فَكَاتِبُوهُمْ لأنه أمر وهو للإيجاب ويدل عليه أيضاً سبب نزول الآية فإنها نزلت في غلام لحويطب ابن عبد العزى يقال له صبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فنزلت الآية فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً وأما الأثر فما روي أن عمر أمر أنساً أن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبى فرفع عليه الدرة وضربه وقال فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وحلف عليه ليكاتبنه ولو لم يكن ذلك واجباً لكان ضربه بالدرة ظلماً وما أنكر على عمر أحد من الصحابة فجرى ذلك مجرى الإجماع وقال أكثر الفقهاء إنه أمر استحباب وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري واحتجوا عليه بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب من نفسه ) وأنه لا فرق أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة وهذه طريقة المعاوضات أجمع وههنا سؤالان
السؤال الأول كيف يصح أن يبيع ماله بماله قلنا إذا ورد الشرع به فيجب أن يجوز كما إذا علق عتقه على مال يكتسبه فيؤديه أو يؤدي عنه صار سبباً لعتقه
السؤال الثاني هل يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه لولا الكتابة قلنا نعم لأنه لو دفع إليه الزكاة ولم يكاتب لم يحل له أن يأخذها وإذا صار مكاتباً حل له وإذا دفع إلى مولاه حل له سواء أدى فعتق أو عجز فعاد إلى الرق ويستفيد أيضاً أن الكتابة تبعثه على الجد والاجتهاد في الكسب فلولاها لم يكن ليفعل ذلك ويستفيد المولى الثواب لأنه إذا باعه فلا ثواب وإذا كاتبه ففيه ثواب ويستفيد أيضاً الولاء لأنه لو عتق من قبل غيره لم يكن له ولاء وإذا عتق بالكتابة فالولاء له فورد الشرع بجواز الكتابة لما ذكرناه من الفوائد
أما قوله تعالى إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فذكروا في الخير وجوهاً أحدها ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن علمتم لهم حرفة فلا تدعوهم كلا على الناس ) وثانيها قال عطاء الخير المال وتلا كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا أي ترك مالاً قال وبلغني ذلك عن ابن عباس وثالثها عن ابن سيرين(23/189)
قال إذا صلى وقال النخعي وفاء وصدقاً وقال الحسن صلاحاً في الدين ورابعها قال الشافعي رحمه الله المراد بالخير الأمانة والقوة على الكسب لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما فإنه ينبغي أن يكون كسوباً يحصل المال ويكون أميناً يصرفه في نجومه ولا يضيعه فإذا فقد الشرطان أو أحدهما لا يستحب أن يكاتبه والأقرب أنه لا يجوز حمله على المال لوجهين الأول أن المفهوم من كلام الناس إذا قالوا فلان فيه خير إنما يريدون به الصلاح في الدين ولو أراد المال لقال إن علمتم لهم خيراً لأنه إنما يقال لفلان مال ولا يقال فيه مال الثاني أن العبد لا مال له بل المال لسيده فالأولى أن يحمل على ما يعود على كتابته بالتمام وهو الذي ذكره الشافعي رحمه الله وهو أن يتمكن من الكسب ويوثق به بحفظ ذلك لأن كل ذلك مما يعود على كتابته بالتمام ودخل فيه تفسير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الخير لأنه عليه الصلاة والسلام فسره بالكسب وهو داخل في تفسير الشافعي رحمه الله
أما قوله وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى ففيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في المخاطب بقوله وَءاتُوهُم على وجوه أحدها أنه هو المولى يحط عنه جزءاً من مال الكتابة أو يدفع إليه جزءاً مما أخذ منه وهؤلاء اختلفوا في قدره فمنهم من جعل الخيار له وقال يجب أن يحط قدراً يقع به الاستغناء وذلك يختلف بكثرة المال وقلته ومنهم من قال يحط ربع المال روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاماً له فترك له ربع مكاتبته وقال إن علياً كان يأمرنا بذلك ويقول وهو قول الله تعالى وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى فإن لم يفعل فالسبع لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كاتب عبداً له بخمس وثلاثين ألفاً ووضع عنه خمسة آلاف ويروى أن عمر كاتب عبداً له فجاء بنجمه فقال له اذهب فاستعن به على أداء مال الكتابة فقال المكاتب لو تركته إلى آخر نجم فقال إني أخاف أن لا أدرك ذلك ثم قرأ هذه الآية وكان ابن عمر يؤخره إلى آخر النجوم مخافة أن يعجز وثانيها المراد وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات في قوله وَفِي الرّقَابِ وعلى هذا فالخطاب لغير السادة وهو قول الحسن والنخعي ورواية عطاء عن ابن عباس وأجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع صدقته المفروضة إلى مكاتب نفسه وثالثها أن هذا أمر من الله تعالى للسادة والناس أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم وهذا قول الكلبي وعكرمة والمقاتلين والنخعي وقال عليه الصلاة والسلام ( من أعان مكاتباً على فك رقبته أظله الله تعالى في ظل عرشه ) وروي أن رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) علمني عملاً يدخلني الجنة قال ( لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعظمت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة فقال أليسا واحداً فقال لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ) قالوا ويؤكد هذا القول وجوه أحدها أنه أمر بإعطائه من مال الله تعالى وما أطلق عليه هذه الإضافة فهو ما كان سبيله الصدقة وصرفه في وجوه القرب وثانيها أن قوله مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ هو الذي قد صح ملكه للمالك وأمر بإخراج بعضه ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح وثالثها أن ما آتاه الله فهو الذي يحصل في يده ويمكنه التصرف فيه وما سقط عقيب العقد لم يحصل له عليه يد ملك فلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه فإن قيل ههنا وجهان يقدحان في صحة هذا التأويل أحدهما أنه كيف يحل لمولاه إذا كان غيناً أن يأخذ من مال الصدقة والثاني أن قوله وَءاتُوهُم معطوف على قوله فَكَاتِبُوهُمْ فيجب أن يكون المخاطب في الموضعين واحداً وعلى هذا التأويل يكون المخاطب(23/190)
في الآية الأولى السادات وفي الثانية سائر المسلمين قلنا أما الأول فجوابه أن تلك الصدقة تحل لمولاه وكذلك إذا لم تقف الصدقة بجميع النجوم وعجز عن أداء الباقي كان للمولى ما أخذه لأنه لم يأخذه بسبب الصدقة ولكن بسبب عقد الكتابة كمن اشترى الصدقة من الفقير أو ورثها منه يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة ( هو لها صدقة ولنا هدية ) والجواب عن الثاني أنه قد يصح الخطاب لقوم ثم يعطف عليه بمثل لفظه خطاباً لغيرهم كقوله تعالى وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( البقرة 231 ) فالخطاب للأزواج ثم خاطب الأولياء بقوله فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ وقوله مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ والقائلون غير المبرئين فكذا ههنا قال للسادة فَكَاتِبُوهُمْ وقال لغيرهم وَءاتُوهُم أو قال لهم ولغيرهم
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله يجب على المولى إيتاء المكاتب وهو أن يحط عنه جزءاً من مال الكتابة أو يدفع إليه جزءاً مما أخذ منه وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه إنه مندوب إليه لكنه غير واجب حجة الشافعي رحمه الله ظاهر قوله وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى والأمر للوجوب فقيل عليه إن قوله فَكَاتِبُوهُمْ وقوله وَءاتُوهُم أمران وردا في صورة واحدة فلم جعلت الأولى ندباً والثاني إيجاباً وأيضاً فقد ثبت أن قوله وَءاتُوهُم ليس خطاباً مع الموالي بل مع عامة المسلمين حجة أبي حنيفة رحمه الله من حيث السنة والقياس أما السنة فما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو عبد ) فلو كان الحط واجباً لسقط عنه بقدره وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت ( جاءتني بريرة فقالت يا عائشة إني قد كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعيتني ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً فقالت عائشة رضي الله عنها ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعاً ويكون ولاؤك لي فعلت فأبوا فذكرت ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لا يمنعك ذلك منها ابتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق ) وجه الاستدلال أنها ما قضت من كتابتها شيئاً وأرادت عائشة أن تؤدي عنها كتابتها بالكلية وذكرته لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وترك رسول الله النكر عليها ولم يقل إنها تستحق أن يحط عنها بعض كتابتها فثبت قولنا وأما القياس فمن وجهين الأول لو كان الإيتاء واجباً لكان وجوبه متعلقاً بالعقد فيكون العقد موجباً له ومسقطاً له وذلك محال لتنافي الإسقاط والإيجاب الثاني لو كان الحط واجباً لما أحتاج إلى أن يضع عنه بل كان يسقط القدر المستحق كمن له على إنسان دين ثم حصل لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قصاصاً ولو كان كذلك لكان قدر الإيتاء إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً فإن كان معلوماً وجب أن تكون الكتابة بألفين فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف والكتابة أربعة آلاف وذلك باطل لأن أداء جميعها مشروط فلا يعتق بأداء بعضها ولأنه عليه السلام قال ( المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ) وإن كان مجهولاً صارت الكتابة مجهولة لأن الباقي بعد الحط مجهول فيصير بمنزلة من كاتب عبده على ألف درهم إلا شيئاً وذلك غير جائز والله أعلم
الحكم العاشر
الإكراه على الزنا
قوله تعالى وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ(23/191)
اعلم أنه تعالى لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء على الفجور وههنا مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في سبب نزولها على وجوه الأول كان لعبد الله بن أبي المنافق ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ( ا ) ثنتان منهن إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت الآية وثانيها أن عبد الله بن أبي أسر رجلاً فراود الأسير جارية عبدالله وكانت الجارية مسلمة فامتنعت الجارية لإسلامها وأكرهها ابن أبي على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده فنزلت وثالثها روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ( جاء عبدالله بن أبي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه جارية من أجمل النساء تسمى معاذة فقال يا رسول الله هذه لأيتام فلان أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها فقال عليه الصلاة والسلام لا فأعاد الكلام ) فنزلت الآية وقال جابر بن عبدالله ( جاءت جارية لبعض الناس فقالت إن سيدي يكرهني على البغاء ) فنزلت الآية
المسألة الثانية الإكراه إنما يحصل متى حصل التخويف بما يقتضي تلف النفس فأما باليسير من الخوف فلا تصير مكرهة فحال الإكراه على الزنا كحال الإكراه على كلمة الكفر والنص وإن كان مختصاً بالإماء إلا أن حال الحرائر كذلك
المسألة الثالثة العرب تقول للمملوك فتى وللمملوكة فتاة قال تعالى فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ ( الكهف 62 ) وقال تُرَاوِدُ فَتَاهَا ( يوسف 30 ) وقال فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ( النساء 25 ) وفي الحديث ( ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي )
المسألة الرابعة البغاء الزنا يقال بغت تبغي بغاء فهي بغي
المسألة الخامسة الذي نقول به أن المعلق بكلمة إن على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء والدليل عليه اتفاق أهل اللغة على أن كلمة إن للشرط واتفاقهم على أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه ومجموع هاتين المقدمتين النقليتين يوجب الحكم بأن المعلق بكلمة إن على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء واحتج المخالف بهذه الآية فقال إنه سبحانه علق المنع من الإكراه على البغاء على إرادة التحصن بكلمة إن فلو كان الأمر كما ذكرتموه لزم أن لا ينتفي المنع من الإكراه على الزنا إذا لم توجد إرادة التحصن وذلك باطل فإنه سواء وجدت إدارة التحصن أو لم توجد فإن المنع من الإكراه على الزنا حاصل والجواب لا نزاع أن ظاهر الآية يقتضي جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن ولكنه فسد ذلك لامتناعه في نفسه لأنه متى لم توجد إرادة التحصن في حقها لم تكن كارهة للزنا وحال كونها غير كارهة للزنا يمتنع إكراهها على الزنا فامتنع ذلك لامتناعه في نفسه وذاته ومن الناس من ذكر فيه جواباً آخر وهو أن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن لقوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ مفهوم ومن هذا القبيل قوله وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ(23/192)
( النساء 101 ) والقصر لا يختص بحال الخوف ولكنه سبحانه أجراه على سبيل الغالب فكذا ههنا والجواب الثالث معناه إذا أردن تحصناً لأن القصة التي وردت الآية فيها كانت كذلك على ما روينا أن جارية عبدالله بن أبي أسلمت وامتنعت عليه طلباً للعفاف فأكرهها فنزلت الآية موافقة لذلك نظيره قوله تعالى وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ( البقرة 23 ) أي وإذا كنتم في ريب
المسألة السادسة أنه تعالى لما منع من إكراههن على الزنا ففيه ما يدل على أن لهم إكراههن على النكاح فليس لها أن تمتنع على السيد إذا زوجها بل له أن يكرهها على ذلك وهذه الدلالة دلالة دليل الخطاب
أما قوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أي تعففاً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا يعني كسبهن وأولادهن
أما قوله وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فاعلم أنه ليس في الآية ( بيان ) أنه تعالى غفور رحيم للمكره أو للمكرهة لا جرم ذكروا فيه وجهين أحدهما فإن الله غفور رحيم بهن لأن الإكراه أزال الأثم والعقوبة لأن الإكراه عذر للمكرهة أما المكره فلا عذر له فيما فعل الثاني المراد فإن الله غفور رحيم بالمكره بشرط التوبة وهذا ضعيف لأن على التفسير الأول لا حاجة إلى هذا الإضمار وعلى التفسير الثاني يحتاج إليه
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَة ً لِّلْمُتَّقِينَ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر في هذه السورة هذه الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاثة أحدها قوله وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَاتٍ مُّبَيّنَاتٍ أي مفصلات وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم مبينات بكسر الياء على معنى أنها تبين للناس كما قال بِلِسَانٍ عَرَبِى ّ مُّبِينٍ ( الشعراء 19 ) أو تكون من بين بمعنى تبين ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين وثانيها قوله وَمَثَلاً مّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وفيه وجهان أحدهما أنه تعالى يريد بالمثل ما ذكر في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود فأنزل في القرآن مثله وهو قول الضحاك والثاني قوله وَمَثَلاً أي شبهاً من حالهم بحالكم في تكذيب الرسل يعني بينا لكم ما أحللنا بهم من العقاب لتمردهم على الله تعالى فجعلنا ذلك مثلاً لكم لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العقاب وهو قول مقاتل وثالثها قوله وَمَوْعِظَة ً لّلْمُتَّقِينَ والمراد به الوعيد والتحذير من فعل المعاصي ولا شبهة في أنه موعظة للكل لكنه تعالى خص المتقين بالذكر للعلة التي ذكرناها في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وههنا آخر الكلام في الأحكام
القول في الإلهيات
اعلم أنه تعالى ذكر مثلين أحدهما في بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور الثاني في بيان أن(23/193)
أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء
بم أما المثل الأول فهو قوله سبحانه وتعالى
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة ٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَة ٍ الزُّجَاجَة ُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّى ٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ زَيْتُونَة ٍ لاَّ شَرْقِيَّة ٍ وَلاَ غَرْبِيَّة ٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاٌّ مْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلَيِمٌ
اعلم أن الكلام في هذه الآية مرتب على فصول
الفصل الأول في إطلاق اسم النور على الله تعالى
اعلم أن لفظ النور موضوع في اللغة لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على الأرض والجدران وغيرهما وهذه الكيفية يستحيل أن تكون إلهاً لوجوه أحدها أن هذه الكيفية إن كانت عبارة عن الجسم كان الدليل الدال على حدوث الجسم دالاً على حدوثها وإن كانت عرضاً فمتى ثبت حدوث جميع الأعراض القائمة به ولكن هذه المقدمة إنما تثبت بعد إقامة الدلالة على أن الحلول على الله تعالى محال وثانيها أنا سواء قلنا النور جسم أو أمر حال في الجسم فهو منقسم لأنه إن كان جسماً فلا شك في أنه منقسم وإن كان حالاً فيه فالحال في المنقسم منقسم وعلى التقديرين فالنور منقسم وكل منقسم فإنه يفتقر في تحققه إلى تحقق أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره وكل مفتقر فهو في تحققه مفتقر إلى غيره والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته محدث بغيره فالنور محدث فلا يكون إلهاً وثالثها أن هذا النور المحسوس لو كان هو الله لوجب أن لا يزول هذا النور لامتناع الزوال على الله تعالى ورابعها أن هذا النور المحسوس يقع بطلوع الشمس والكواكب وذلك على الله محال وخامسها أن هذه الأنوار لو كانت أزلية لكانت إما أن تكون متحركة أو ساكنة لا جائز أن تكون متحركة لأن الحركة معناها الانتقال من مكان إلى مكان فالحركة مسبوقة بالحصول في المكان الأول والأزلى يمتنع أن يكون مسبوقاً بالغير فالحركة الأزلية محال ولا جائز أن تكون ساكنة لأن السكون لو كان أزلياً لكان ممتنع الزوال لكن السكون جائز الزوال لأنا نرى الأنوار تنتقل من مكان إلى مكان فدل ذلك على حدوث الأنوار وسادسها أن النور إما أن يكون جسماً أو كيفية قائمة بالجسم والأول محال لأنا قد نعقل الجسم جسماً مع الذهول عن كونه نيراً ولأن الجسم قد يستنير بعد أن كان مظلماً فثبت الثاني لكن الكيفية القائمة بالجسم محتاجة إلى الجسم والمحتاج إلى الغير لا يكون إلهاً وبمجموع هذه الدلائل يبطل قول المانوية الذين يعتقدون أن الإله سبحانه هو النور الأعظم وأما المجسمة(23/194)
المعترفون بصحة القرآن فيحتج على فساد قولهم بوجهين الأول قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) ولو كان نوراً لبطل ذلك لأن الأنوار كلها متماثلة الثاني أن قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ صريح في أنه ليس ذاته نفس النور بل النور مضاف إليه وكذا قوله يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء فإن قيل قوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ يقتضي ظاهره أنه في ذاته نور وقوله مَثَلُ نُورِهِ يقتضي أن لا يكون هو في ذاته نوراً وبينهما تناقض قلنا نظير هذه الآية قولك زيد كرم وجود ثم تقول ينعش الناس بكرمه وجوده وعلى هذا الطريق لا تناقض الثالث قوله سبحانه وتعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) وذلك صريح في أن ماهية النور مجعولة لله تعالى فيستحيل أن يكون الإله نوراً فثبت أنه لا بد من التأويل والعلماء ذكروا فيه وجهاً أحدها أن النور سبب للظهور والهداية لما شاركت النور في هذا النور في هذا المعنى صح إطلاق اسم النور على الهداية وهو كقوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( البقرة 257 )
وقوله أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا ( الأنعام 122 ) وقال وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ( الشورى 52 ) فقوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي ذو نور السموات والأرض والنور هو الهداية ولا تحصل إلا لأهل السموات والحاصل أن المراد الله هادي أهل السموات والأرض وهو قول ابن عباس والأكثرين رضي الله عنهم وثانيها المراد أنه مدبر السموات والأرض بحكمة بالغة وحجة نيرة فوصف نفسه بذلك كما يوصف الرئيس العالم بأنه نور البلد فإنه إذا كان مدبرهم تدبيراً حسناً فهو لهم كالنور الذي يهتدى به إلى مسالك الطرق قال جرير وأنت لنا نور وغيث وعصمة
وهذا اختيار الأصم والزجاج وثالثها المراد ناظم السموات والأرض على الترتيب الأحسن فإنه قد يعبر بالنور على النظام يقال ما أرى لهذا الأمر نوراً ورابعها معناه منور السموات والأرض ثم ذكروا في هذا القول ثلاثة أوجه أحدها أنه منور السماء بالملائكة والأرض بالأنبياء والثاني منورها بالشمس والقمر والكواكب والثالث أنه زين السماء بالشمس والقمر والكواكب وزين الأرض بالأنبياء والعلماء وهو مروي عن أبي بن كعب والحسن وأبي العالية والأقرب هو القول الأول لأن قوله في آخر الآية يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء يدل على أن المراد بالنور الهداية إلى العلم والعمل واعلم أن الشيخ الغزالي رحمه الله صنف في تفسير هذه الآية الكتاب المسمى بمشكاة الأنوار وزعم أن الله نور في الحقيقة بل ليس النور إلا هو وأنا أنقل محصل ما ذكره مع زوائد كثيرة تقوي كلامه ثم ننظر في صحته وفساده على سبيل الإنصاف فقال اسم النور إنما وضع للكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ظواهر هذه الأجسام الكثيفة فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الثوب ونور السراج على الحائط ومعلوم أن هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف لأن المرئيات تصير بسببها ظاهرة منجلية ثم من المعلوم أنه كما يتوقف إدراك هذه المرئيات على كونها مستنيرة فكذا يتوقف على وجود العين الباصرة إذ المرئيات بعد استنارتها لا تكون ظاهرة في حق العميان فقد ساوى الروح الباصرة النور الظاهرة في كونه ركناً لا بد منه للظهور ثم يرجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك وأما النور الخارج فليس بمدرك ولا به الإدراك بل عنده الإدراك(23/195)
فكان وصف الإظهار بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر فلا جرم أطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعيف وفي الأعمش إنه ضعف نور بصره وفي الأعمى إنه فقد نور البصر إذا ثبت هذا فنقول إن للإنسان بصراً وبصيرة فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان والبصيرة هي القوة العاقلة وكل واحد من الإدراكين يقتضي ظهور المدرك فكل واحد من الإدراكين نور إلا أنهم عددوا لنور العين عيوباً لم يحصل شيء منها في نور العقلي والغزالي رحمه الله ذكر منها سبعة ونحن جعلناها عشرين الأول أن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها أما أنها لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها فلأن القوة الباصرة وإدراك القوة الباصرة ليسا من الأمور المبصرة بالعين الباصرة وأما آلتها فهي العين والقوة الباصرة بالعين لا تدرك العين وأما القوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب والدماغ فثبت أن نور العقل أكمل من نور البصر الثاني أن القوة الباصرة لا تدرك الكليات والقوة العاقلة تدركها ومدرك الكليات وهو القلب أشرف من مدرك الجزئيات أما أن القوة الباصرة لا تدرك الكليات فلأن القوة الباصرة لو أدركت كل ما في الوجود فهي ما أدركت الكل لأن الكل عبارة عن كل ما يمكن دخوله في الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل وأما أن القوة العاقلة تدرك الكليات فلأنا نعرف أن الأشخاص الإنسانية مشتركة في الإنسانية ومتمايزة بخصوصياتها وما به المشاركة غير ما به الممايزة فالإنسانية من حيث هي إنسانية أمر مغاير لهذه المشخصات فقد عقلنا الماهية الكلية وأما أن إدراك الكليات أشرف فلأن إدراك الكليات ممتنع التغير وإدراك الجزئيات واجب التغير ولأن إدراك الكلي يتضمن إدراك الجزئيات الواقعة تحته لأن ما ثبت للماهية ثبت لجميع أفرادها ولا ينعكس فثبت أن الإدراك العقلي أشرف الثالث الإدراك الحسي غير منتج والإدراك العقلي منتج فوجب أن يكون العقل أشرف أما كون الإدراك الحسي غير منتج فلأن من أحس بشيء لا يكون ذلك الإحساس سبباً لحصول إحساس آخر له بل لو استعمل له الحس مرة أخرى لأحس به مرة أخرى ولكن ذلك لا يكون إنتاج الإحساس لإحساس آخر وأما أن الإدراك العقلي منتج فلأنا إذا عقلنا أموراً ثم ركبناها في عقولنا توسلنا بتركيبها إلى اكتساب علوم أخرى وهكذا كل تعقل حاصل فإنه يمكن التوسل به إلى تحصيل تعقل آخر إلى ما لا نهاية له فثبت أن الإدراك العقلي أشرف الرابع الإدراك الحسي لا يتسع للأمور الكثيرة والإدراك العقلي يتسع لها فوجب أن يكون الإدراك العقلي أشرف أما أن الإدراك الحسي لا يتسع لها فلأن البصر إذا توالى عليه ألوان كثيرة عجز عن تمييزها فأدرك لوناً كأنه حاصل من اختلاط تلك الألوان ( و ) السمع إذا توالت عليه كلمات كثيرة التبست عليه تلك الكلمات ولم يحصل التمييز وأما أن الإدراك العقلي متسع لها فلأن كل من كان تحصيله للعلوم أكثر كانت قدرته على كسب الجديد أسهل وبالعكس وذلك يوجب الحكم بأن الإدراك العقلي أشرف الخامس القوة الحسية إذا أدركت المحسوسات القوية ففي ذلك الوقت تعجز عن إدراك الضعيفة فإن من سمع الصوت الشديد ففي تلك الحالة لا يمكنه أن يسمع الصوت الضعيف والقوة العقلية لا يشغلها معقول عن معقول(23/196)
السادس القوى الحسية تضعف بعد الأربعين وتضعف عند كثرة الأفكار التي هي موجباً لاستيلاء النفس على البدن الذي هو موجب لخراب البدن والقوى العقلية تقوى بعد الأربعين وتقوى عند كثرة الأفكار الموجبة لخراب البدن فدل ذلك على استغناء القوة العقلية عن هذه الآلات واحتياج القوى الحسية إليها السابع القوة الباصرة لا تدرك المرئي مع القرب القريب ولا مع البعد البعيد والقوة العقلية لا يختلف حالها بحسب القرب والبعد فإنها تترقى إلى ما فوق العرش وتنزل إلى ما تحت الثرى في أقل من لحظة واحدة بل تدرك ذات الله وصفاته مع كونه منزهاً عن القرب والبعد والجهة فكانت القوة العقلية أشرف الثامن القوة الحسية لا تدرك من الأشياء إلا ظواهرها فإذا أدركت الإنسان فهي في الحقيقة ما أدركت الإنسان لأنها ما أدركت إلا السطح الظاهر من جسمه وإلا اللون القائم بذلك السطح وبالاتفاق فليس الإنسان عبارة عن مجرد السطح واللون فالقوة الباصرة عاجزة عن النفوذ في الباطن أما القوة العاقلة فإن باطن الأشياء وظاهرها بالنسبة إليها على السواء فإنها تدرك البواطن والظواهر وتغوص فيها وفي أجزائها فكانت القوة العاقلة نوراً بالنسبة إلى الباطن والظاهر أما القوة الباصرة فهي بالنسبة إلى الظاهر نور وبالنسبة إلى الباطن ظلمة فكانت القوة العاقلة أشرف من القوة الباصرة التاسع أن مدرك القوة العاقلة هو الله تعالى وجميع أفعاله ومدرك القوة الباصرة هو الألوان والأشكال فوجب أن تكون نسبة شرف القوة العاقلة إلى شرف القوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله تعالى إلى شرف الألوان والأشكال العاشر القوة العاقلة تدرك جميع الموجودات والمعدومات والماهيات التي هي معروضات الموجودات والمعدومات ولذلك فإن أول حكمه أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان وذلك مسبوق لا محالة بتصور مسمى الوجود ومسمى العدم فكأنه بهذين التصورين قد أحاط بجميع الأمور من بعض الوجوه وأما القوة الباصرة فإنها لا تدرك إلا الأضواء والألوان وهما من أخس عوارض الأجسام والأجسام أخس من الجواهر الروحانية فكان متعلق القوة الباصرة أخس الموجودات وأما متعلق القوة العاقلة فهو جميع الموجودات والمعدومات فكانت القوة العاقلة أشرف الحادي عشر القوة العاقلة تقوى على توحيد الكثير وتكثير الواحد والقوة الباصرة لا تقوى على ذلك أما أن القوة العاقلة تقوى على توحيد الكثير فذاك لأنها تضم الجنس إلى الفصل فيحدث منهما طبيعة نوعية واحدة وأما أنها تقوى على تكثير الواحد فلأنها تأخذ الإنسان وهي ماهية واحدة فتقسمها إلى مفهوماتها وإلى عوارضها اللازمة وعوارضها المفارقة ثم تقسم مقوماته إلى الجنس وجنس الجنس والفصل وفصل الفصل وجنس الفصل وفصل الجنس إلى سائر الأجزاء المقومة التي لا تعد من الأجناس ولا من الفصول ثم لا تزال تأتي بهذا لتقسيم في كل واحد من هذه الأقسام حتى تنتهي من تلك المركبات إلى البسائط الحقيقية ثم تعتبر في العوارض اللازمة أن تلك العوارض مفردة أو مركبة ولازمة بوسائط أو بوسط أو بغير وسط فالقوة العاقلة كأنها نفذت في أعماق الماهيات وتغلغلت فيها وميزت كل واحد من أجزائها عن صاحبه وأنزلت كل واحد منها في المكان اللائق به فأما القوة الباصرة فلا تطلع على أحوال الماهيات بل(23/197)
لا ترى إلا أمراً واحداً ولا تدري ما هو وكيف هو فظهر أن القوة العاقلة أشرف الثاني عشر القوة العاقلة تقوى على إدراكات غير متناهية والقوة الحاسة لا تقوى على ذلك بيان الأول من وجوه الأول القوة العاقلة يمكنها أن تتوصل بالمعارف الحاضرة إلى استنتاج المجهولات ثم إنها تجعل تلك النتائج مقدمات في نتائج أخرى لا إلى نهاية وقد عرفت أن القوة الحاسة لا تقوى على الاستنتاج أصلاً الثاني أن القوة العاقلة تقوى على تعقل مراتب الأعداد ولا نهاية لها الثالث أن القوة العاقلة يمكنها أن تعقل نفسها وأن تعقل أنها عقلت وكذا إلى غير النهاية الرابع النسب والإضافات غير متناهية وهي معقولة لا محسوسة فظهر أن القوة العاقلة أشرف الثالث عشر الإنسان بقوته العاقلة يشارك الله تعالى في إدراك الحقائق وبقوته الحاسة يشارك البهائم والنسبة معتبرة فكانت القوة العاقلة أشرف الرابع عشر القوة العاقلة غنية في إدراكها العقلي عن وجود المعقول في الخارج والقوة الحاسة محتاجة في إدراكها الحسي إلى وجود المحسوس في الخارج والغني أشرف من المحتاج الخامس عشر هذه الموجودات الخارجية ممكنة لذواتها وأنها محتاجة إلى الفاعل والفاعل لا يمكنه الإيجاد على سبيل الاتقان إلا بعد تقدم العلم فإذن وجود هذه الأشياء في الخارج تابع للإدراك العقلي وأما الإحساس بها فلا شك أنه تابع لوجودها في الخارج فإذن القوة الحساسة تبع لتبع القوة العاقلة السادس عشر القوة العاقلة غير محتاجة في العقل إلى الآلات بدليل أن الإنسان لو اختلت حواسه الخمس فإنه يعقل أن الواحد نصف الاثنين وأن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية وأما القوة الحساسة فإنها محتاجة إلى آلات كثيرة والغني أفضل من المحتاج السابع عشر الإدراك البصري لا يحصل إلا للشيء الذي في الجهات ثم إنه غير متصرف في كل الجهات بل لا يتناول إلا المقابل أو ما هو في حكم المقابل واحترزنا بقولنا في حكم المقابل عن أمور أربعة الأول العرض فإنه ليس بمقابل لأنه ليس في المكان ولكنه في حكم المقابل لأجل كونه قائماً بالجسم الذي هو مقابل الثاني رؤية الوجه في المرآة فإن الشعاع يخرج من العين إلى المرآة ثم يرتد منها إلى الوجه فيصير الوجه مرئياً وهو من هذا الاعتبار كالمقابل لنفسه الثالث رؤية الإنسان قفاه إذا جعل إحدى المرآتين محاذية لوجهه والأخرى لقفاه والرابع رؤية ما لا يقابل بسبب انعطاف الشعاع في الرطوبات ما هو مشروح في كتاب المناظر وأما القوة العاقلة فإنها مبرأة عن الجهات فإنها تعقل الجهة والجهة ليست في الجهة ولذلك تعقل أن الشيء إما أن يكون في الجهة وإما أن لا يكون في الجهة وهذا الترديد لا يصح إلا بعد تعقل معنى قولنا ليس في الجهة الثامن عشر القوة الباصرة تعجز عند الحجاب وأما القوة العاقلة فإنها لا يحجبها شيء أصلاً فكانت أشرف(23/198)
التاسع عشر القوة العاملة كالأمير والحاسة كالخادم والأمير أشرف من الخادم وتقرير ( الفرق بين ) الإمارة والخدمة مشهور العشرون القوة الباصرة قد تغلط كثيراً فإنها قد تدرك المتحرك ساكناً وبالعكس كالجالس في السفينة فإنه قد يدرك السفينة المتحركة ساكنة والشط الساكن متحركاً ولولا العقل لما تميز خطأ البصر عن صوابه والعقل حاكم والحس محكوم فثبت بما ذكرنا أن الإدراك العقل أشرف من الإدراك البصري وكل واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الذي هو أشرف خواص النور فكان الإدراك العقلي أولى بكونه نوراً من الإدراك البصري وإذا ثبت هذا فنقول هذه الأنوار العقلية قسمان أحدهما واجب الحصول عند سلامة الأحوال وهي التعقلات الفطرية والثاني ما يكون مكتسباً وهي التعقلات النظرية أما الفطرية فليست هي من لوازم جوهر الإنسان لأنه حال الطفولية لم يكن عالماً ألبتة فهذه الأنوار الفطرية إنما حصلت بعد أن لم تكن فلا بد لها من سبب وأما النظريات فمعلوم أن الفطرة الإنسانية قد يعتريها الزيغ في الأكثر وإذا كان كذلك فلا بد من هاد مرشد ولا مرشد فوق كلام الله تعالى وفوق إرشاد الأنبياء فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل بمنزلة نور الشمس عند العين الباصرة إذ به يتم الإبصار فبالحري أن يسمى القرآن نوراً كما يسمى نور الشمس نوراً فنور القرآن يشبه نور الشمس ونور العقل يشبه نور العين وبهذا يظهر معنى قوله فَئَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا ( التغابن 61 ) وقوله قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ ( النساء 174 ) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ( النساء 174 ) وإذا ثبت أن بيان الرسول أقوى من نور الشمس وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من الشمس وكما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيره ولا تستفيده من غيره فكذا نفس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تفيد الأنوار العقلية لسائر الأنفس البشرية ولا تستفيد الأنوار العقلية من شيء من الأنفس البشرية فلذلك وصف الله تعالى الشمس بأنها سراج حيث قال وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ( الفرقان 61 ) ووصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه سراج منير إذا عرفت هذا فنقول ثبت بالشواهد العقلية والنقلية أن الأنوار الحاصلة في أرواح الأنبياء مقتبسة من الأنوار الحاصلة في أرواح الملائكة قال تعالى يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) وقال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وقال قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبّكَ بِالْحَقّ ( النحل 102 ) وقال تعالى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 4 5 ) والوحي لا يكون إلا بواسطة الملائكة فإذا جعلنا أرواح الأنبياء أعظم استنارة من الشمس فأرواح الملائكة التي هي كالمعادن لأنوار عقول الأنبياء لا بد وأن تكون أعظم من أنوار أرواح الأنبياء لأن السبب لا بد وأن يكون أقوى من المسبب ثم نقول ثبت أيضاً بالشواهد العقلية والنقلية أن الأرواح السماوية مختلفة فبعضها مستفيدة وبعضها مفيدة قال تعالى في وصف جبريل عليه السلام مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 21 ) وإذا كان هو مطاع الملائكة فالمطيعون لا بد وأن يكونوا تحت أمره وقال وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) وإذا ثبت هذا فالمفيد أولى بأن يكون نوراً من المستفيد للعلة المذكورة ولمراتب الأنوار في عالم الأرواح مثال وهو أن ضوء الشمس إذا وصل إلى القمر ثم دخل في كوة بيت ووقع على مرآة منصوبة على حائط ثم انعكس منها إلى حائط آخر نصب عليه مرآة أخرى ثم انعكس منها إلى طست مملوء من الماء موضوع على الأرض انعكس منه إلى سقف البيت فالنور الأعظم في الشمس التي هي المعدن وثانياً في القمر وثالثاً ما وصل إلى المرآة الأولى ورابعاً ما وصل إلى المرآة الثانية وخامساً ما وصل إلى الماء وسادساً ما وصل إلى السقف وكل ما كان أقرب إلى المنبع الأول فإنه أقوى مما هو أبعد منه فكذا الأنوار السماوية لما كانت مرتبة(23/199)
لا جرم كان نور المفيد أشد إشراقاً من نور المستفيد ثم تلك الأنوار لا تزال تكون مترقية حتى تنتهي إلى النور الأعظم والروح الذي هو أعظم الأرواح منزلة عند الله الذي هو المراد من قوله سبحانه يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً ( النبأ 38 ) ثم نقول لا شك أن هذه الأنوار الحسية إن كانت سفلية كانت كأنوار النيران أو علوية كانت كأنوار الشمس والقمر والكواكب وكذا الأنوار العقلية سفلية كانت كالأرواح السفلية التي للأنبياء والأولياء أو علوية كالأرواح العلوية التي هي الملائكة فإنها بأسرها ممكنة لذواتها والممكن لذاته يستحق العدم من ذاته والوجود من غيره والعدم هو الظلمة الحاصلة والوجود هو النور فكل ما سوى الله مظلم لذاته مستنير بإنارة الله تعالى وكذا جميع معارفها بعد وجودها حاصل من وجود الله تعالى فالحق سبحانه هو الذي أظهرها بالوجود بعد أن كانت في ظلمات العدم وأفاض عليها أنوار المعارف بعد أن كانت في ظلمات الجهالة فلا ظهور لشيء من الأشياء إلا بإظهاره وخاصة النور إعطاء الإظهار والتجلي والانكشاف وعند هذا يظهر أن النور المطلق هو الله سبحانه وأن إطلاق النور على غيره مجاز إذ كل ما سوى الله فإنه من حيث هو هو ظلم محضة لأنه من حيث إنه هو عدم محض بل الأنوار إذا نظرنا إليها من حيث هي هي فهي ظلمات لأنها من حيث هي هي ممكنات والممكن من حيث هو هو معدوم والمعدوم مظلم فالنور إذا نظر إليه من حيث هو هو ظلمة فأما إذا التفت إليها من حيث أن الحق سبحانه أفاض عليها نور الوجود فبهذا الاعتبار صارت أنواراً فثبت أنه سبحانه هو النور وأن كل ما سواه فليس بنور إلا على سبيل المجاز ثم إنه رحمه الله تكلم بعد هذا في أمرين الأول أنه سبحانه لم أضاف النور إلى السموات والأرض وأجاب فقال قد عرفت أن السموات والأرض مشحونة بالأنوار العقلية والأنوار الحسية أما الحسية فما يشاهد في السموات من الكواكب والشمس والقمر وما يشاهد في الأرض من الأشعة المنبسطة على سطوح الأجسام حتى ظهرت به الألوان المختلفة ولولاها لم يكن للألوان ظهور بل وجود وأما الأنوار العقلية فالعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة والعالم الأسفل مشحون بها وهي القوى النباتية والحيوانية والإنسانية وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام عالم السفل كما بالنور الملكي ظهور نظام عالم العلو وهو المعنى بقوله تعالى لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ ( النور 55 ) وقال وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الاْرْضِ ( النمل 62 ) فإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنية العقلية ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج فإن السراج هو الروح النبوي ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النور وأن العلويات مقتبسة بعضها من بعض وأن بينها ترتيباً في المقامات ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول وأن ذلك هو الله وحده لا شريك له فإذن الكل نوره فلهذا قال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
السؤال الثاني فإذا كان الله النور فلم احتيج في إثباته إلى البرهان أجاب فقال إن معنى كونه نور السموات والأرض معروف بالنسبة إلى النور الظاهر البصري فإذا رأيت خضرة الربيع في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان فربما ظننت أنك لا ترى مع الألوان غيرها فإنك تقول لست أرى مع الخضرة غير الخضرة إلا أنك عند غروب الشمس تدرك تفرقة ضرورية بين اللون حال وقوع الضوء عليه وعدم وقوعه(23/200)
عليه فلا جرم تعرف أن النور معنى غير اللون يدرك مع الألوان إلا أنه كان لشدة اتحاده به لا يدرك ولشدة ظهوره يختفي وقد يكون الظهور سبب الخفاء إذا عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شيء للبصر بالنور الظاهر فقد ظهر كل شيء للبصيرة الباطنة بالله ونوره حاصل مع كل شيء لا يفارقه ولكن بقي ههنا تفاوت وهو أن النور الظاهر يتصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب فحينئذ يظهر أنه غير اللون وأما النور الإلهي الذي به يظهر كل شيء لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره فيبقى مع الأشياء دائماً فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة ولو تصورت غيبته لانهدمت السموات والأرض ولأدرك عنده من التفرقة ما يحصل العلم الضروري به ولكن لما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وجود خالقها وأن كل شيء يسبح بحمده لا بعض الأشياء وفي جميع الأوقات لا في بعض الأوقات ارتفعت التفرقة وخفي الطريق إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد فما لا ضد له ولا تغير له بتشابه أحواله فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة ظهوره وجلائه فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره واحتجب عنهم بإشراق نوره واعلم أن هذا الكلام الذي رويناه عن الشيخ الغزالي رحمه الله كلام مستطاب ولكن يرجع حاصله بعد التحقيق إلى أن معنى كونه سبحانه نوراً أنه خالق للعالم وأنه خالق للقوى الدراكة وهو المعنى من قولنا معنى كونه نور السموات والأرض أنه هادي أهل السموات والأرض فلا تفاوت بين ما قاله وبين الذي نقلناه عن المفسرين في المعنى والله أعلم
الفصل الثاني في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام ( إن لله سبعين حجاباً من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره ) وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون ألفاً فأقول لما ثبت أن الله سبحانه وتعالى متجل في ذاته لذاته كان الحجاب بالإضافة إلى المحجوب لا محالة والمحجوب لا بد وأن يكون محجوباً إما بحجاب مركب من نور وظلمة وإما بحجاب مركب من نور فقط أو بحجاب مركب من ظلمة فقط أما المحجوبون بالظلمة المحضة فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لم يلتفت خاطرهم إلى أنه هل يمكن الاستدلال بوجود هذه المحسوسات على وجود واجب الوجود أم لا وذلك لأنك قد عرفت أن ما سوى الله تعالى من حيث هو هو مظلم وإنما كان مستنيراً من حيث استفاد النور من حضرة الله تعالى فمن اشتغل بالجسمانيات من حيث هي هي وصار ذلك الاشتغال حائلاً له عن الالتفات إلى جانب النور كان حجابه محض الظلمة ولما كانت أنواع الاشتغال بالعلائق البدنية خارجة عن الحد والحصر فكذا أنواع الحجب الظلمانية خارجة عن الحد والحصر
القسم الثاني المحجوبوبن بالحجب الممزوجة من النور والظلمة
اعلم أن من نظر إلى هذه المحسوسات فإما أن يعتقد فيها أنها غنية عن المؤثر أو يعتقد فيها أنها محتاجة فإن اعتقد أنها غنية فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة أَمَّا النُّورُ فلأنه تصور ماهية الاستغناء عن الغير وذلك من صفات جلال الله تعالى وهو من صفات النور وَأَمَّا فلأنه اعتقد حصول ذلك الوصف في هذه الأجسام مع أن ذلك الوصف لا يليق بهذا الوصف وهذا ظلمة فثبت أن هذا حجاب ممزوج من نور وظلمة ثم أصناف هذا القسم كثيرة فإن من الناس من يعتقد أن الممكن غني عن المؤثر ومنهم من يسلم ذلك لكنه يقول المؤثر فيها طبائعها أو حركاتها أو اجتماعها وافتراقها أو نسبتها إلى حركات الأفلاك أو إلى محركاتها وكل هؤلاء من هذا القسم(23/201)
القسم الثالث الحجب النورانية المحضة
واعلم أنه لا سبيل إلى معرفة الحق سبحانه إلا بواسطة تلك الصفات السلبية والإضافية ولا نهاية لهذه الصفات ولمراتبها فالعبد لا يزال يكون مترقياً فيها فإن وصل إلى درجة وبقي فيها كان استغراقه في مشاهدة تلك الدرجة حجاباً له عن الترقي إلى ما فوقها ولما كان لا نهاية لهذه الدرجات كان العبد أبداً في السير والانتقال وأما حقيقته المخصوصة فهي محتجبة عن الكل فقد أشرنا إلى كيفية مراتب الحجب وأنت تعرف أنه عليه الصلاة والسلام إنما حصرها في سبعين ألفا تقريباً لا تحديداً فإنها لا نهاية لها في الحقيقة
الفصل الثالث في شرح كيفية التمثيل
اعلم أنه لا بد في التشبيه من أمرين المشبه والمشبه به واختلف الناس ههنا في أن المشبه أي شي هو وذكروا وجوهاً أحدها وهو قول جمهور المتكلمين ونصره القاضي أن المراد من الهدى التي هي الآيات البينات والمعنى أن هداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات وصارت في ذلك بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء فإن قيل لم شبهه بذلك وقد علمنا أن ضوء الشمس أبلغ من ذلك بكثير قلنا إنه سبحانه أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة فلا جرم كان ذلك المثل ههنا أليق وأوفق واعلم أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذا المثال مما توجب كمال الضوء فأولها المصباح لأن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أكثر إنارة والذي يحقق ذلك أن المصباح إذا كان في بيت صغير فإنه يظهر من ضوئه أكثر مما يظهر في البيت الكبير وثانيها أن المصباح إذا كان في زجاجة صافية فإن الأشعة المنفصلة عن المصباح تنعكس من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض لما في الزجاجة من الصفاء والشفافية وبسبب ذلك يزداد الضوء والنور والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف الضوء الظاهر حتى أنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء فإن انعكست تلك الأشعة من كل واحد من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية الممكنة وثالثها أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد به فإذا كان ذلك الدهن صافياً خالصاً كانت حالته بخلاف حالته إذا كان كدراً وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت فربما يبلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه ورابعها أن هذا الزيت يختلف بحسب اختلاف شجرته فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجاً فكان زيته أكثر صفاء وأقرب إلى أن يتميز صفوه من كدره لأن زيادة الشمس تؤثر في ذلك فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة وتعاونت صار ذلك الضوء خالصاً كاملاً فيصلح أن يجعل مثلاً لهداية الله تعالى وثانيها أن المراد من النور في قوله وَالاْرْضِ مَثَلُ نُورِهِ القرآن ويدل عليه قوله تعالى قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ ( المائدة 15 ) وهو قول الحسن وسفيان بن عيينة وزيد بن أسلم وثالثها أن المراد(23/202)
هو الرسول لأنه المرشد ولأنه تعالى قال في وصفه وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( الأحزاب 46 ) وهو قول عطاء وهذان القولان داخلان في القول الأول لأن من جملة أنواع الهداية إنزال الكتب وبعثة الرسل قال تعالى في صفة الكتب وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وقال في صفة الرسل رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( لنساء 165 ) ورابعها أن المراد منه ما في قلب المؤمنين من معرفة الله تعالى ومعرفة الشرائع ويدل عليه أن الله تعالى وصف الإيمان بأنه نور والكفر بأنه ظلمة فقال أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ ( الزمر 22 ) وقال تعالى لّيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وحاصله أنه حمل الهدى على الاهتداء والمقصود من التمثيل أن إيمان المؤمن قد بلغ في الصفاء عن الشبهات والامتياز عن ظلمات الضلالات مبلغ السراج المذكور وهو قول أبي ابن كعب وابن عباس قال أبي مثل نور المؤمن وهكذا كان يقرأ وقيل إنه كان يقرأ مثل نور من آمن به وقال ابن عباس مثل نوره في قلب المؤمن وخامسها ما ذكره الشيخ الغزالي رحمه الله وهو أنا بينا أن القوى المدركة أنوار ومراتب القوى المدركة الإنسانية خمسة أحدها القوة الحساسة وهي التي تتلقى ما تورده الحوسا الخمس وكأنها أصل الروح الحيواني وأوله إذ به يصير الحيوان حيواناً وهو موجود للصبي الرضيع وثانيها القوة الخيالية وهي التي تستثبت ما أورده الحواس وتحفظه مخزوناً عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه وثالثها القوة العقلية المدركة للحقائق الكلية ورابعها القوة الفكرية وهي التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها تأليفاً فتستنتج من تأليفها علماً بمجهول وخامسها القوة القدسية التي تختص بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الأولياء وتتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت وإليه الإشارة بقوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن ( والشورى 52 ) وإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار إذ بها تظهر أصناف الموجودات وأن هذه المراتب الخمسة يمكن تشبيهها بالأمور الحسنة التي ذكرها الله تعالى وهي المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره خارجة من عدة أثقب كالعينين والأذنين والمنخرين وأوفق مثال له من عالم الأجسام المشكاة وأما الثاني وهو الروح الحيالي فنجد له خواص ثلاثة الأولى أنه من طينة العالم السفلي الكثيف لأن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحيز ومن شأن العلائق الجسمانية أن تحجب عن الأنوار العقلية المحضة التي هي التعقلات الكلية المجردة والثانية أن هذا الخيال الكثيف إذا صفا ورق وهذب صار موازناً للمعاني العقلية ومؤدياً لأنوارها وغير حائل عن إشراق نورها ولذلك فإن المعبر يستدل بالصور الخيالية على المعاني العقلية كما يستدل بالشمس على الملك وبالقمر على الوزير وبمن يختم فروج(23/203)
الناس وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن قبل الصبح والثالثة أن الخيال في بداية الأمر محتاج إليه جداً ليضبط بها المعارف العقلية ولا تضطرب فنعم المثالات الخيالية الجالبة للمعارف العقلية وأنت لا تجد شيئاً في الأجسام يشبه الخيال في هذه الصفات الثلاثة إلا الزجاجة فإنها في الأصل من جوهر كثيف ولكن صفا ورق حتى صار لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه على الانطفاء بالرياح العاصفة وأما الثالث وهو القوة العقلية فهي القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف الإلهية فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح وقد عرفت هذا حيث بينا كون الأنبياء سرجاً منيرة وأما الرابع وهو القوة الفكرية فمن خواصها أنها تأخذ ماهية واحدة ثم تقسمها إلى قسمين كقولنا الموجود إما واجب وإما ممكن ثم تجعل كل قسم مرة أخرى قسمين وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية ثم تقضي بالآخرة إلى نتائج وهي ثمراتها ثم تعود فتجعل تلك الثمرات بذوراً لأمثالها حتى تتأدى إلى ثمرات لا نهاية لها فبالحري أن يكون مثاله من هذا العالم الشجرة وإذا كانت ثمارها مادة لتزايد أنوار المعارف ونباتها فبالحري أن لا يمثل بشجرة السفرجل والتفاح بل بشجرة الزيتون خاصة لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح وله من بين سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان وإذا كانت الماشية التي يكثر درها ونسلها والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالذي لا يتناهى إلى حد محدود أولى أن يسمى شجرة مباركة وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام فبالحري أن تكون لا شرقية ولا غربية وأما الخامس وهو القوة القدسية النبوية فهي في نهاية الشرف والصفاء فإن القوة الفكرية تنقسم إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه وإلى ما لا يحتاج إليه ولا بد من وجود هذا القسم قطعاً للتسلسل فبالحري أن يعبر عن هذا القسم بكماله وصفائه وشدة استعداده بأنه يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار فهذا المثال موافق لهذا القسم ولما كانت هذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض فالحس هو الأول وهو كالمقدمة للخيال والخيال كالمقدمة للعقل فبالحري أن تكون المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح وسادسها ما ذكره أبو علي بن سينا فإنه نزل هذه الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية فقال لا شك أن النفس الإنسانية قابلة للمعارف الكلية والإدراكات المجردة ثم إنها في أول الأمر تكون خالية عن جميع هذه المعارف فهناك تسمى عقلاً هيولياً وهي المشكاة وفي المرتبة الثانية يحصل فيها العلوم البديهية التي يمكن التوصل بتركيباتها إلى اكتساب العلوم النظرية ثم إن أمكنة الانتقال إن كانت ضعيفة فهي الشجرة وإن كانت أقوى من ذلك فهي الزيت وإن كانت شديدة القوة جداً فهي الزجاجة التي تكون كأنها الكوكب الدري وإن كانت في النهاية القصوى وهي النفس القدسية التي للأنبياء فهي التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وفي المرتبة الثالثة يكتسب من العلوم الفطرية الضرورية العلوم النظرية إلا أنها لا تكون حاضرة بالفعل ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استحضارها قدر عليه وهذا يسمى عقلاً بالفعل وهذا المصباح وفي المرتبة الرابعة أن تكون تلك المعارف الضرورية والنظرية حاصلة بالفعل ويكون صاحبها كأنه ينظر إليها وهذا يسمى عقلاً مستفاداً وهو نور على نور لأن الملكة نور وحصول ما عليه الملكة نور آخر ثم زعم أن هذه العلوم التي تحصل في الأرواح البشرية إنما تحصيل من جوهر روحاني يسمى بالعقل الفعال وهو مدبر ما تحت كرة القمر وهو النار وسابعها قول بعض الصوفية هو أنه سبحانه شبه الصدر بالمشكاة والقلب بالزجاجة والمعرفة بالمصباح(23/204)
وهذا المصباح إنما توقد من شجرة مباركة وهي إلهامات الملائكة لقوله تعالى يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) وقوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 ) وإنما شبه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم وإنما وصفها بأنها لا شرقية ولا غربية لأنها روحانية وإنما وصفهم بقوله يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ لكثرة علومها وشدة إطلاعها على أسرار ملكوت الله تعالى والظاهر ههنا أن المشبه غير المشبه به وثامنها قال مقاتل مثل نوره أي مثل نور الإيمان في قلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كمشكاة فيها مصباح فالمشكاة نظير صلب عبدالله والزجاجة نظير جسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمصباح نظير الإيمان في قلب محمد أو نظير النبوة في قلبه وتاسعها قال قوم المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام والزجاجة نظير إسماعيل عليه السلام والمصباح نظير جسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والشجرة النبوة والرسالة وعاشرها أن قوله مثل نوره يرجع إلى المؤمن وهو قول أبي بن كعب وكان يقرأها مثل نور المؤمن وهو قول سعيد بن جبير والضحاك واعلم أن القول الأول هو المختار لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَاتٍ مُّبَيّنَاتٍ فإذا كان المراد بقوله مَثَلُ نُورِهِ أي مثل هذه وبيانه كان ذلك مطابقاً لما قبله ولأن لما فسرنا قوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بأنه هادي أهل السموات والأرض فإذا فسرنا قوله مَثَلُ نُورِهِ بأن المراد مثل هداه كان ذلك مطابقاً لما قبله
الفصل الرابع في بقية المباحث المتعلقة بهذه الآية
وفيه مسائل
المسألة الأولى المشكاة الكوة في الجدار غير النافذة هذا هو القول المشهور وذكروا فيه وجوهاً أخر أحدها قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري المشكاة القائم الذي في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة وهو قول مجاهد والقرظي والثاني قال الزجاج هي ههنا قصبة القنديل من الزجاجة التي توضع فيها الفتيلة الثالث قال الضحاك إنها الحلقة التي يعلق بها القنديل والأول هو الأصح
المسألة الثانية زعموا أن المشكاة هي الكوة بلغة الحبشة قال الزجاج المشكاة من كلام العرب ومثلها المشكاة وهي الدقيق الصغير
المسألة الثالثة قال بعضهم هذه الآية من المقلوب والتقدير مثل نوره كمصباح في مشكاة لأن المشبه به هو الذي يكون معدناً للنور ومنبعاً له وذلك هو المصباح لا المشكاة
المسألة الرابعة المصباح السراج وأصله من الضوء ومنه الصبح
المسألة الخامسة قرىء زُجَاجَة ٍ الزجاجة بالضم والفتح والكسر أما دُرّى ٌّ فقرىء بضم الدال وكسرها وفتحها أما الضم ففيه ثلاثة أوجه الأول ضم الدال وتشديد الراء والياء من غير همز وهو القراءة المعروفة ومعناه أنه يشبه الدر لصفائه ولمعانه وقال عليه الصلاة والسلام ( إنكم لترون أهل الدرجات العلى كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء ) الثاني أنه كذلك إلا أنه بالمد والهمزة وهو قراءة حمزة وعاصم(23/205)
في رواية أبي بكر وصار بعض أهل العربية إلى أنه لحن قال سيبويه وهذا أضعف اللغات وهو مأخوذ من الضوء والتلألؤ وليس بمنسوب إلى الدر قال أبو علي وجه هذه القراءة أنه فعيل من الدرء بمعنى الدفع وأنه صفة وأنه في الصفة مثل المرىء في الاسم والثالث ضم الدال وتخفيف الراء والياء من غير مد ولا همز أما الكسر ففيه وجهان الأول درىء بكسر الدال وتشديد الراء والمد والهمز وهي قراءة أبي عمرو والسكائي قال الفراء هو فعيل من الدرء وهو الدفع كالسكير والفسيق فكان ضوأه يدفع بعضه بعضاً من لمعانه الثاني بكسر الدال وتشديد الراء من غير همز ولا مد وهي قراءة ابن خليد وعتبة بن حماد عن نافع أما الفتح ففيه وجوه أربعة الأول بفتح الدال وتشديد الراء والمد والهمز عن الأعمش الثاني بفتح الدال وتشديد الراء من غير مد ولا همز عن الحسن ومجاهد وقتادة الثالث بفتح الدال وتخفيف الراء مهموزاً من غير مد ولا ياء عن عاصم الرابع كذلك إلا أنه غير مهموز وبياء خفيفة بدل الهمزة أما قوله توقد القراءة المعروفة توقد بالفتحات الأربعة مع تشديد القاف بوزن تفعل وعن الحسن ومجاهد وقتادة كذلك إلا أنه يضم الدال وذكر صاحب ( الكشاف ) يوقد بفتح الياء المنقوطة من تحت بنقطتين والواو والقاف وتشديدها ورفع الدال قال وحذف التاء لاجتماع حرفين زائدين وهو غريب وعن سعيد بن جبير بياء مضمومة وإسكان الواو وفتح القاف مخففة ورفع الدال وعن نافع وحفص كذلك إلا أنه بالتاء وعن عاصم بياء مضمومة وفتح الواو وتشديد القاف وفتحها وعن أبي عمرو كذلك إلا أنه بالتاء وعن طلحة توقد بتاء مضمومة وواو ساكن وكسر القاف وتخفيفها
المسألة السادسة قوله الزُّجَاجَة ُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّى ٌّ أي ضخم مضيء ودراري النجوم عظامها واتفقوا على أن المراد به كوكب من الكواكب المضيئة كالزهرة والمشتري والثوابت التي في العظم الأول
المسألة السابعة قوله مِن شَجَرَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ أي من زيت شجرة مباركة أي كثيرة البركة والنفع وقيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وقد بارك فيها سبعون نبياً منهم الخليل وقيل المراد زيتون الشام لأنها هي الأرض المباركة فلهذا جعل الله هذه شجرة مباركة
المسألة الثامنة اختلفوا في معنى وصف الشجرة بأنها لا شرقية ولا غربية على وجوه أحدها قال الحسن إنها شجرة الزيت من الجنة إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية أو غربية وهذا ضعيف لأنه تعالى إنما ضرب المثل بما شاهدوه وهم ما شاهدوا شجرة الجنة وثانيها أن المراد شجرة الزيتون في الشام لأن الشام وسط الدنيا فلا يوصف شجرها بأنها شرقية أو غربية وهذا أيضاً ضعيف لأن من قال الأرض كرة لم يثبت المشرق والمغرب موضعين معينين بل لكل بلد مشرق ومغرب على حدة ولأن المثل مضروب لكل من يعرف الزيت وقد يوجد في غير الشام كوجوده فيها وثالثها أنها شجرة تلتف بها الأشجار فلا تصيبها الشمس في شرق ولا غرب ومنهم من قال هي شجرة يلتف بها ورقها التفافاً شديداً فلا تصل الشمس إليها سواء كانت الشمس شرقية أو غربية وليس في الشجر ما يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان وهذا أيضاً ضعيف لأن الغرض صفاء الزيت وذلك لا يحصل إلا بكمال نضج الزيتون وذلك إنما يحصل في العادة بوصول أثر الشمس إليه لا بعدم وصوله ورابعها قال ابن عباس المراد الشجرة التي تبرز على جبل عال أو صحراء واسعة فتطلع الشمس عليها(23/206)
حالتي الطلوع والغروب وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة واختيار الفراء والزجاج قالا ومعناه لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها ولكنها شرقية وغربية وهو كما يقال فلان لا مسافر ولا مقيم إذا كان يسافر ويقيم وهذا القول هو المختار لأن الشجرة متى كانت كذلك كان زيتها في نهاية الصفاء وحينئذ يكون مقصود التمثيل أكمل وأتم وخامسها المشكاة صدر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والزجاجة قلبه والمصباح ما في قلبه ( صلى الله عليه وسلم ) من الدين توقد من شجرة مباركة يعني واتبعوا ملة أبيكم إبراهيم صلوات الله عليه فالشجرة هي إبراهيم عليه السلام ثم وصف إبراهيم فقال لا شرقية ولا غربية أي لم يكن يصلي قبل المشرق ولا قبل المغرب كاليهود والنصارى بل كان عليه الصلاة والسلام يصلي إلى الكعبة
المسألة التاسعة وصف الله تعالى زيتها بأنه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار لأن الزيت إذا كان خالصاً صافياً ثم رؤي من بعيد يرى كأن له شعاعاً فإذا مسه النار ازداد ضوأ على ضوء كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم فإذا جاءه العلم ازداد نوراً على نور وهدى على هدى قال يحيى بن سلام قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له لموافقته له وهو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) وقال كعب الأحبار المراد من الزيت نور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي يكاد نوره يبين للناس قبل أن يتكلم وقال الضحاك يكاد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يتكلم بالحكمة قبل الوحي وقال عبدالله بن رواحة لو لم تكن فيه آيات مبينة
كانت بديهته تنبيك بالخبر
المسألة العاشرة قوله تعالى نُّورٌ عَلَى نُورٍ المراد ترادف هذه الأنوار واجتماعها قال أبي بن كعب المؤمن بين أربع خلال أن أعطى شكر وإن ابتلى صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي بين الأموات يتقلب في خمس من النور كلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة قال الربيع سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال سره وعلانيته
المسألة الحادية عشرة قال الجبائي دلت الآية على أن كل من جهل فمن قبله أتى وإلا فالأدلة واضحة ولو نظروا فيها لعرفوا قال أصحابنا هذه الآية صريح مذهبنا فإنه سبحانه بعد أن بين أن هذه الدلائل بلغت في الظهور والوضوح إلى هذا الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه قال يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء يعني وضوح هذه الدلائل لا يكفي ولا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان ولا يمكن أن يكون المراد من قوله يَهْدِى اللَّهُ إيضاح الأدلة والبيانات لأنا لو حملنا النور على إيضاح الأدلة لم يجز حمل الهدى عليه أيضاً وإلا لخرج الكلام عن الفائدة فلم يبق إلا حمل الهدى ههنا على خلق العلم أجاب أبو مسلم بن بحر عنه من وجهين الأول أن قوله يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء محمول على زيادات الهدى الذي هو كالضد للخذلان الحاصل للضال الثاني أنه سبحانه يهدي لنوره الذي هو طريق الجنة من يشاء وشبهه بقوله يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ( الحديد 12 ) وزيف القاضي عبد الجبار هذين الجوابين أما الأول فلأن الكلام المتقدم هو في ذكر الآيات المنزلة فإذا حلمناه على الهدى دخل الكل فيه وإذا حملناه على الزيادة لم يدخل فيه إلا البعض وإذا حمل على طريق الجنة لا يكون داخلاً فيه أصلاً إلا من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ولما زيف هذين الجوابين قال الأولى أن يقال إنه تعالى هدى بذلك البعض دون البعض وهم الذين بلغهم حد التكليف(23/207)
واعلم أن هذا الجواب أضعف من الجوابين الأولين لأن قوله يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء يفهم منه أن هذه الآيات مع وضوحها لا تكفي وهذا لا يتناول الصبي والمجنون فسقط ما قالوه
المسألة الثانية عشرة قوله تعالى وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ لِلنَّاسِ والمراد للمكلفين من الناس وهو النبي ومن بعث إليه فإنه سبحانه ذكر ذلك في معرض النعمة العظيمة واستدلت المعتزلة به فقالوا إنما يكون ذلك نعمة عظيمة لو أمكنهم الانتفاع به ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع به وجوابه ما تقدم ثم بين أنه سبحانه بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ وذلك كالوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر في أمثاله ولا ينظر في أدلته فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات(23/208)
بداية الجزء الرابع والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(24/2)
فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاٌّ صَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَواة ِ وَإِيتَآءِ الزَّكَواة ِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاٌّ بْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ يقتضي محذوفاً يكون فيها وذكروا فيه وجوه أحدها أن التقدير كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله وهو اختيار كثير من المحققين اعترض أبو مسلم بن بحر الأصفهاني عليه من وجهين الأول أن المقصود من ذكر المصباح المثل وكون المصباح في بيوت أذن الله لا يزيد في هذا المقصود لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضارة الثاني أن ما تقدم ذكره فيه وجوه تقتضي كونه واحداً كقوله كَمِشْكَاة ٍ وقوله فِيهَا مِصْبَاحٌ وقوله فِى زُجَاجَة ٍ وقوله كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّى ٌّ ( النور 35 ) ولفظ البيوت جمع ولا يصح كون هذا الواحد في كل البيوت والجواب عن الأول أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم فكان أضوأ فكان التمثيل به أتم وأكمل وعن الثاني أنه لما كان القصد بالمثل هو الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل كمشكاة فيها مصباح في زجاجة تتوقد من الزيت وتكون الفائدة في ذلك أن ضوأها يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله تعالى ولو أن رجلاً قال الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وكفاية وقناعة يلتزم بيته لكان وإن ذكره بلفظ الواحد فالمراد النوع فكذا ما ذكره الله سبحانه في هذه الآية وثانيها التقدير توقد من شجرة مباركة في بيوت أذن الله أن ترفع وثالثها وهو قول أبي مسلم أنه(24/3)
راجع إلى قوله وَمَثَلاً مّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ ( النور 34 ) أي ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويكون المراد بالذين خلوا الأنبياء والمؤمنين والبيوت المساجد وقد اقتص الله أخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذكر أماكنهم فسماها محاريب بقوله إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ و كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ( ص 21 ) فيقول ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات وأنزلنا أقاصيص من بعث قبلكم من الأنبياء والمؤمنين في بيوت أذن الله أن ترفع ورابعها قول الجبائي إنه كلام مستأنف لا تعلق له بما تقدم والتقدير صلوا في بيوت أذن الله أن ترفع وخامسها وهو قول الفراء والزجاج إنه لا حذف في الآية بل فيه تقديم وتأخير كأنه قال يسبح في بيوت أذن الله أن ترفع رجال صفتهم كيت وكيت وأما قول أبي مسلم فقد اعترض عليه القاضي من وجهين الأول أن قوله وَمَثَلاً مّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ ( النور 34 ) المراد منه خلا من المكذبين للرسل لتعلقه بما تقدم من الإكراه على الزنا ابتغاء للدنيا فلا يليق ذلك بوصف هذه البيوت لأنها بيوت أذن أن يذكر فيها اسمه الثاني أن هذه الآية صارت منقطعة عن تلك الآية بما تخلل بينهما من قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وأما قول الجبائي فقيل الإضمار لا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة وعلى التأويل الذي ذكره الفراء والزجاج لا حاجة إليه فلا يجوز المصير إليه فإن قيل على قول الزجاج يتوجه عليه إشكال أيضاً لأن على قوله يصير المعنى في بيوت أذن الله يسبح له فيها فيكون قوله فيها تكراراً من غير فائدة فلم قلتم إن تحمل هذه الزيادة أولى من تحمل مثل ذلك النقصان قلنا الزيادة لأجل التأكيد كثيرة فكان المصير إليها أولى
المسألة الثانية أكثر المفسرين قالوا المراد من قوله فِى بُيُوتٍ المساجد وعن عكرمة فِى بُيُوتٍ قال هي البيوت كلها والأول أولى لوجهين الأول أن في البيوت ما لا يمكن أن يوصف بأن الله تعالى أذن أن ترفع الثاني أنه تعالى وصفها بالذكر والتسبيح والصلاة وذلك لا يليق إلا بالمساجد ثم للقائلين بأن المراد هو المساجد قولان أحدهما أن المراد أربع مساجد الكعبة بناها إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام ومسجد المدينة بناه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومسجد قباء الذي أسس على التقوى بناه نبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعن الحسن هو بيت المقدس يسرج فيه عشرة آلاف قنديل والثاني أن المراد هو جميع المساجد والأول ضعيف لأنه تخصيص بلا دليل فالأول حمل اللفظ على جميع المساجد قال ابن عباس رضي الله عنهما المساجد بيوت الله في الأرض وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض
المسألة الثالثة اختلفوا في المراد من قوله أَن تُرْفَعَ على أقوال أحدها المراد من رفعها بناؤها لقوله بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ( النازعات 27 28 ) وقوله وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ( البقرة 127 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي المساجد أمر الله أن تبنى وثانيها ترفع أي تعظم وتطهر عن الأنجاس وعن اللغو من الأقوال عن الزجاج وثالثها المراد مجموع الأمرين(24/4)
والقول الثاني أولى لأن قوله فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ظاهره أنها كانت بيوتاً قبل الرفع فأذن الله أن ترفع
المسألة الرابعة اختلفوا في المراد من قوله وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فالقول الأول أنه عام في كل ذكر والثاني أن يتلى فيها كتابه عن ابن عباس والثالث لا يتكلم فيها بما لا ينبغي والأول أولى لعموم اللفظ
المسألة الخامسة قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم يُسَبّحُ بفتح الباء والباقون بكسرها فعلى القراءة الأولى يكون القول ممتداً إلى آخر الظروف الثلاثة أعني له فيها بالغدو والآصال ثم قال الزجاج رِجَالٌ مرفوع لأنه لما قال يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا فكأنه قيل من يسبح فقيل يسبح رجال
المسألة السادسة اختلفوا في هذا التسبيح فالأكثرون حملوه على نفس الصلاة ثم اختلفوا فمنهم من حمله على كل الصلوات الخمس ومنهم من حمله على صلاتي الصبح والعصر فقال كانتا واجبتين في ابتداء الحال ثم زيد فيهما ومنهم من حمله على التسبيح الذي هو تنزيه الله تعالى عما لا يليق به في ذاته وفعله واحتج عليه بأن الصلاة والزكاة قد عطفهما على ذلك من حيث قال عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهذا الوجه أظهر
المسألة السابعة الآصال جمل أُصُل والأصُل جميع أصيل وهو العشي وإنما وجد الغدو لأنه في الأصل مصدر لا يجمع والأصيل اسم جمع قال صاحب ( الكشاف ) بالغدو أي بأوقات الغدو أي بالغدوات وقرىء والإيصال وهو الدخول في الأصيل يقال آصال كأعتم وأظهر قال ابن عباس رحمهما الله إن صلاة الضحى لفي كتاب الله تعالى مذكورة وتلا هذه الآية وروى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد يؤثره على ما سواه إلا وله عند الله نزل يعد له في الجنة ) وفي رواية سهل بن سعد مرفوعاً ( من غدا إلى المسجد وراح ليعلم خيراً أو ليتعلمه كما كمثل المجاهد في سبيل الله يرجع غانماً )
المسألة الثامنة اختلفوا في قوله تعالى رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ فقال بعضهم نفى كونهم تجاراً وباعة أصلاً وقال بعضهم بل أثبتهم تجاراً وباعة وبين أنهم مع ذلك لا يشغلهم عنها شاغل من ضروب منافع التجارات وهذا قول الأكثرين قال الحسن أما والله إن كانوا ليتجرون ولكن إذا جاءت فرائض الله لم يلههم عنها شيء فقاموا بالصلاة والزكاة وعن سالم نظر إلى قوم من أهل السوق تركوا بياعاتهم وذهبوا إلى الصلاة فقال هم الذين قال تعالى فيهم لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ وعن ابن مسعود مثله واعلم أن هذا القول أولى من الأول لأنه لا يقال إن فلاناً لا تلهيه التجارة عن كيت وكيت إلا وهو تاجر وإن احتمل الوجه الأول وههنا سؤالات
السؤال الأول لما قال لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ دخل فيه البيع فلم أعاد ذكر البيع قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن التجارة جنس يدخل تحت أنواع الشراء والبيع إلا أنه سبحانه خص البيع بالذكر لأنه في الإلهاء أدخل لأن الربح الحاصل في البيع يقين ناجز والربح الحاصل في الشراء شك مستقبل الثاني أن البيع يقتضي تبديل العرض بالنقد والشراء بالعكس والرغبة في تحصيل النقد أكثر من العكس الثالث قال الفراء التجارة لأهل الجلب يقال اتجر فلان في كذا إذا جلبه من غير بلده والبيع ما باعه على يديه(24/5)
السؤال الثاني لم خص الرجال بالذكر والجواب لأن النساء لسن من أهل التجارات أو الجماعات
المسألة التاسعة اختلفوا في المراد بذكر الله تعالى فقال قوم المراد الثناء على الله تعالى والدعوات وقال آخرون المراد الصلوات فإن قيل فما معنى قوله لَّيْسَ الْبِرَّ قلنا عنه جوابان أحدهما قال ابن عباس رضي الله عنهما المراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها والثاني يجوز أن يكون قوله لَّيْسَ الْبِرَّ ( البقرة 3 ) تفسيراً لذكر الله فهم يذكرون الله قبل الصلاة وفي الصلاة
المسألة العاشرة قد ذكرنا في أول تفسير سورة البقرة في قوله وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ أن إقام الصلاة هو القيام بحقها على شروطها والوجه في حذف الهاء ما قاله الزجاج يقال أقمت الصلاة إقامة وكان الأصل إقواماً ولكن قلبت الواو ألفاً فاجتمع ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي أقمت الصلاة إقاماً فأدخلت الهاء عوضاً من المحذوف وقامت الإضافة ههنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة قال وهذا إجماع من النحويين
المسألة الحادية عشرة اختلفوا في الصلاة فمنهم من قال هي الفرائض ومنهم من أدخل فيه النقل على ما حكيناه في صلاة الضحى عن ابن عباس والأول أقرب لأنه إلى التعريف أقرب وكذلك القول في الزكاة أن المراد المفروض لأنه المعروف في الشرع المسمى بذلك وقال ابن عباس رضي الله عنهما المراد من الزكاة طاعة الله تعالى والإخلاص وكذا في قوله وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ ( مريم 55 ) وقوله مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ ( النور 21 ) وقوله تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) وهذا ضعيف لما تقدم ولأنه تعالى علق الزكاة بالإيتاء وهذا لا يحمل إلا على ما يعطى من حقوق المال
المسألة الثانية عشرة أنه سبحانه بين أن هؤلاء الرجال وإن تعبدوا بذكر الله والطاعات فإنهم مع ذلك موصوفون بالوجل والخوف فقال يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَارُ وذلك الخوف إنما كان لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته واختلفوا في المراد بتقلب القلوب والأبصار على أقوال فالقول الأول أن القلوب تضطرب من الهول والفزع وتشخص الأبصار لقوله وَإِذْ زَاغَتِ الاْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( الأحزاب 10 ) الثاني أنها تتغير أحوالها فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها لا تفقه وتبصر الأبصار بعد أن كانت لا تبصر فكأنهم انقلبوا من الشك إلى الظن ومن الظن إلى اليقين ومن اليقين إلى المعاينة لقوله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 ) وقوله لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَة ٍ مّنْ هَاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ ( ق 22 ) الثالث أن القلوب تتقلب في ذلك اليوم طمعاً في النجابة وحذراً من الهلاك والأبصار تنقلب من أي ناحية يؤمر بهم أمن ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ومن أي ناحية يعطون كتابهم أمن قبل الإيمان أم من قبل الشمائل والمعتزلة لا يرضون بهذا التأويل فإنهم قالوا إن أهل الثواب لا خوف عليهم ألبتة في ذلك اليوم وأهل العقاب لا يرجون العفو لكنا بينا فساد هذا المذهب غير مرة الرابع أن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر والأبصار تصير زرقاً قال الضحاك يحشر الكافر وبصره حديد وتزرق عيناه ثم يعمى ويتقلب القلب من الخوف حيث لا يجد مخلصاً حتى يقع في الحنجرة فهو قوله إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ( غافر 18 ) الخامس قال الجبائي المراد بتقلب القلوب والأبصار تغير هيئاتهما بسبب(24/6)
ما ينالها من العذاب فتكون مرة بهيئة ما أنضج بالنار ومرة بهيئة ما احترق قال ويجوز أن يريد به تقلبها على جمر جهنم وهو معنى قوله تعالى وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الأنعام 110 )
المسألة الثالثة عشرة قوله لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ أي يفعلون هذه القربات ليجزيهم الله ويثيبهم على أحسن ما عملوا وفيه وجوه الأول المراد بالأحسن الحسنات أجمع وهي الطاعات فرضها ونفلها قال مقاتل إنما ذكر الأحسن تنبيهاً على أنه لا يجازيهم على مساوىء أعمالهم بل يغفرها لهم الثاني أنه سبحانه يجزيهم جزاء أحسن ما عملوا على الواحد عشراً إلى سبعمائة الثالث قال القاضي المراد بذلك أن تكون الطاعات منهم مكفرة لمعاصيهم وإنما يجزيهم الله تعالى بأحسن الأعمال وهذا مستقيم على مذهبه في الإحباط والموازنة
أما قوله تعالى وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ فالمعنى أنه تعالى يجزيهم بأحسن الأعمال ولا يقتصر على قدر استحقاقهم بل يزيدهم من فضله على ما ذكره تعالى في سائر الآيات من التضعيف فإن قيل فهذا يدل على أن لفعل الطاعة أثراً في استحقاق الثواب لأنه تعالى ميز الجزاء عن الفضل وأنتم لا تقولون بذلك فإن عندكم العبد لا يستحق على ربه شيئاً قلنا نحن نثبت الاستحقاق لكن بالوعد فذاك القدر هو المستحق والزائد عليه هو الفضل ثم قال وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ نبه به على كمال قدرته وكمال جوده ونفاذ مشيئته وسعة إحسانه فكان سبحانه لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة ومع ذلك يكونون في نهاية الخوف فالحق سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّى ٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ
اعلم أنه سبحانه لما بين حال المؤمن وأنه في الدنيا يكون في النور وبسببه يكون متمسكاً بالعمل الصالح ثم بين أنه في الآخرة يكون فائزاً بالنعيم المقيم والثواب العظيم أتبع ذلك بأن بين أن الكافر يكون في الآخرة في أشد الخسران وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات وضرب لكل واحد منهما مثلاً أما المثل الدال على خيبته في الآخرة فهو قوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ قال الأزهري السراب ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات شبيه الماء الجاري وليس بماء ولكن الذي ينظر إليه من(24/7)
بعيد يظنه ماء جارياً يقال سرب الماء يسرب سروباً إذا جرى فهو سارب أما الآل فهو ما يتراءى للعين في أول النهار فيرى الناظر الصغير كبيراً وظاهر كلام الخليل أن الآل والسراب واحد وأما القيعة فقال الفراء هو جمع قاع مثل جار وجيرة والقاع المنبسط المستوي من الأرض وقال صاحب ( الكشاف ) القيعة بمعنى القاع وقال الزجاج الظمآن قد يخفف همزه وهو الشديد العطش ثم وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال البر فهو لا يستحق عليه ثواباً مع أنه يعتقد أن له ثواباً عليه وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه عقاباً مع أنه يعتقد أنه يستحق عليه ثواباً فكيف كان فهو يعتقد أن له ثواباً عند الله تعالى فإذا وافى عرصات القيامة ولم يجد الثواب بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الماء فإذا شاهد السراب تعلق قلبه به ويرجو به النجاة ويقوى طمعه فإذا جاءه وأيس مما كان يرجوه فيعظم ذلك عليه وهذا المثال في غاية الحسن قال مجاهد السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته ومفارقة الدنيا فإن قيل قوله حَتَّى إِذَا جَاءهُ يدل على كونه شيئاً وقوله لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً مناقض له قلنا الجواب عنه من وجوه ثلاثة الأول المراد معناه أنه لم يجده شيئاً نافعاً كما يقال فلان ما عمل شيئاً وإن كان قد اجتهد الثاني حتى إذا جاءه أي جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئاً فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه الثالث الكناية للسراب لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء وإذا قرب منه رق وانتثر وصار كالهواء
أما قوله وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ أي وجد عقاب الله الذي توعد به الكافر عند ذلك فتغير ما كان فيه من ظن النفع العظيم إلى تيقن الضرر العظيم أو وجد زبانية الله عنده يأخذونه فيقبلون به إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله تعالى فيهم عَامِلَة ٌ نَّاصِبَة ٌ ( الغاشية 3 ) وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( الكهف 104 ) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ ( الفرقان 23 ) وقيل نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام
أما قوله وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ فذاك لأنه سبحانه عالم بجميع المعلومات فلا يشق عليه الحساب وقال بعض المتكلمين معناه لا يشغله محاسبة واحد عن آخر كنحن ولو كان يتكلم بآلة كما يقوله المشبهة لما صح ذلك وأما المثل الثاني فهو قوله أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّى ّ وفي لفظة ( أو ) ههنا وجوه أحدها اعلم أن الله تعالى بين أن أعمال الكفار إن كانت حسنة فمثلها السراب وإن كانت قبيحة فهي الظلمات وثانيها تقدير الكلام أن أعمالهم إما كسراب بقيعة وذلك في الآخرة وإما كظلمات في بحر وذلك في الدنيا وثالثها الآية الأولى في ذكر أعمالهم وأنهم لا يتحصلون منها على شيء والآية الثانية في ذكر عقائدهم فإنها تشبه الظلمات كما قال يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( البقرة 257 ) أي من الكفر إلى الإيمان يدل عليه قوله تعالى وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ( النور 40 ) وأما البحر اللجي فهو ذو اللجنة التي هي معظم الماء الغمر البعيد القعر وفي اللجى لغتان كسر اللام وضمها وأما تقرير المثل فهو أن البحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب غمورة الماء فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى فالواقع في قعر هذا البحر اللجى يكون في نهاية شدة الظلمة ولما كانت العادة في اليد أنها من أقرب ما يراها ومن أبعد ما يظن أنه لا يراها فقال تعالى لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وبين سبحانه بهذا البلوغ تلك الظلمة إلى أقصى النهايات ثم شبه به الكافر في اعتقاده وهو ضد(24/8)
المؤمن في قوله تعالى نُّورٌ عَلَى نُورٍ ( النور 35 ) وفي قوله يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ( الحديد 12 ) ولهذا قال أبي بن كعب الكافر يتقلب في خمس من الظلم كلامه وعمله ومدخله ومخرجه ومصيره إلى النار وفي كيفية هذا التشبيه وجوه أخر أحدها أن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب وكذا الكافر له ظلمات ثلاثة ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل عن الحسن وثانيها شبهوا قلبه وبصره وسمعه بهذه الظلمات الثلاث عن ابن عباس وثالثها أن الكافر لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ويعتقد أنه يدري فهذه المراتب الثلاث تشبه تلك الظلمات ورابعها أن هذه الظلمات متراكمة فكذا الكفار لشدة إصراره على كفره قد تراكمت عليه الضلالات حتى أن أظهر الدلائل إذا ذكرت عنده لا يفهمها وخامسها قلب مظلم في صدر مظلم
أما قوله ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فروي عن ابن كثير أنه قرأ ( سحاب ) وقرأ ( ظلمات ) بالجر على البدل من قوله أَوْ كَظُلُمَاتٍ وعنه أيضاً أنه قرأ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ كما يقال سحاب رحمة وسحاب عذاب على الإضافة وقراءة الباقين سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ كلاهما بالرفع والتنوين وتمام الكلام عند قوله سَحَابٌ ثم ابتدأ ظُلُمَاتِ أي ما تقدم ذكره ظلمات بعضها فوق بعض
أما قوله لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ففيه قولان أحدهما أن كاد نفيه إثبات وإثباته نفي فقوله وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ( البقرة 71 ) نفي في اللفظ ولكنه إثبات في المعنى لأنهم فعلوا ذلك وقوله عليه الصلاة والسلام ( كاد الفقر أن يكون كفراً ) إثبات في اللفظ لكنه نفي في المعنى لأنه لم يكفر فكذا ههنا قوله لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا معناه أنه رآها والثاني أن كاد معناه المقاربة فقوله لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا معناه لم يقارب الوقوع ومعلوم أن الذي لم يقارب الوقوع لم يقع أيضاً وهذا القول هو المختار والأول ضعيف لوجهين الأول أن ما يكون أقل من هذه الظلمات فإنه لا يرى فيه شيء فكيف مع هذه الظلمات الثاني أن المقصود من هذا التمثيل المبالغة في جهالة الكفار وذلك إنما يحصل إذا لم توجد الرؤية ألبتة مع هذه الظلمات
أما قوله وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ فقال أصحابنا إنه سبحانه لما وصف هداية المؤمن بأنها في نهاية الجلاء والظهور عقبها بأن قال يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء ولما وصف ضلالة الكافر بأنها في نهاية الظلمة عقبها بقوله وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ والمقصود من ذلك أن يعرف الإنسان أن ظهور الدلائل لا يفيد الإيمان وظلمة الطريق لا تمنع منه فإن الكل مربوط بخلق الله تعالى وهدايته وتكوينه وقال القاضي المراد بقوله وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أي في الدنيا بالألطاف فَمَا لَهُ مِن نُورٍ أي لا يهتدي فيتحير ويحتمل وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أي مخلصاً في الآخرة وفوزاً بالثواب فَمَا لَهُ مِن نُورٍ والكلام عليه تزييفاً وتقريراً معلوم
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاٌّرْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاٌّ بْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً لأُوْلِى الاٌّبْصَارِ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّة ٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ لَّقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(24/9)
اعلم أنه سبحانه لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد
فالنوع الأول ما ذكره في هذه الآية ولا شبهة في أن المراد ألم تعلم لأن التسبيح لا تتناوله الرؤية بالبصر ويتناوله العلم بالقلب وهذا الكلام وإن كان ظاهره استفهاماً فالمراد التقرير والبيان فنبه تعالى على ما يلزم من تعظيمه بأن من في السموات يسبح له وكذلك من في الأرض
واعلم أنه إما أن يكون المراد من التسبيح دلالة هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الجلال وإما أن يكون المراد منه أنها تنطق بالتسبيح وتتكلم به وإما أن يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان والقسم الأول أقرب لأن القسم الثاني متعذر لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى والمكلفون منهم من لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار أما القسم الثالث وهو أن يقال إن من في السموات وهم الملائكة يسبحون باللسان وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح باللسان ومنهم من يسبح على سبيل الدلالة فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً وهو غير جائز فلم يبق إلا القسم الأول وذلك لأن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله سبحانه وتعالى وعلى قدرته وإلهيته وتوحيده وعدله فسمى ذلك تنزيهاً على وجه التوسع فإن قيل فالتسبيح بهذا المعنى حاصل لجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه ههنا بالعقلاء قلنا لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر وهي العقل والنطق والفهم
أما قوله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ فلقائل أن يقول ما وجه اتصال هذا بما قبله والجواب أنه سبحانه لما ذكر أن أهل السموات وأهل الأرض يسبحون ذكر أن الذين استقروا في الهواء الذي هو بين السماء والأرض وهو الطير يسبحون وذلك لأن إعطاء الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه وجعل طيرانها سجوداً منها له سبحانه وذلك يؤكد ما ذكرناه من أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأحوال على التنزيه لا النطق اللساني
أما قوله كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ففيه ثلاثة أوجه الأول المراد كل قد علم الله صلاته وتسبيحه قالوا ويدل عليه قوله سبحانه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وهو اختيار جمهور المتكلمين والثاني أن يعود الضمير في الصلاة والتسبيح على لفظ كُلٌّ أي إنهم يعلمون ما يجب عليهم من الصلاة والتسبيح والثالث أن تكون الهاء راجعة على ذكر الله يعني قد علم كل مسبح وكل مصل صلاة الله التي كلفه إياها وعلى هذين التقديرين فقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ استئناف وروي عن أبي ثابت قال كنت جالساً عند محمد بن جعفر الباقر رضي الله عنه فقال لي أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها قال لا قال فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن واستبعد المتكلمون ذلك فقالوا الطير لو كانت عارفة بالله تعالى لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا لكنها ليست كذلك فإنا نعلم بالضرورة أنها أشد نقصاناً من الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور فبأن يمتنع ذلك فيها أولى وإذا ثبت أنها لا تعرف الله تعالى استحال كونها مسبحة له بالنطق فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال على ما تقدم تقريره(24/10)
قال بعض العلماء إنا نشاهد أن الله تعالى ألهم الطيور وسائر الحشرات أعمالاً لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه أحدها احتيالها في كيفية الاصطياد فتأمل في العنكبوت كيف يأتي بالحيل اللطيفة في اصطياد الذباب ويقال إن الدب يستلقي في ممر الثور فإذا أرام نطحه شبث ذراعيه بقرينه ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه وأنه يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويضرب الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه وربما عاود يتشممه ويتجسس نفسه ويصعد الشجر أخف صعود ويهشم الجوز بين كفيه تعريضاً بالواحدة وصدمة بالأخرى ثم ينفخ فيه فيذر قشره ويستف لبه ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة وثانيها أمر النحل ومالها من الرياسة وبناء البيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين وثالثها انتقال الكراكي من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلباً لما يوافقها من الأهوية ويقال إن من خواص الخيل أن كل واحد منها يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتاً ما والكلاب تتصايح بالعية المعروفة لها والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق الفهد عمد إلى زبل الإنسان فأكله والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها كالعقعق وينظف ما بين أسنانها وعلى رأس ذلك الطير كالشوك فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من ذلك الشوك فيفتح فاه فيخرج الطائر والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعتراً جبلياً ثم تعود وقد عوفيت من ذلك وحكى بعض الثقات المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود ولا يزال ذلك دأبه فكان ذلك الشيخ قاعداً في كن غائر فعل القنصة وكانت البقلة قريبة من مكمنه فما اشتغل الحبارى بالأفعى قلع البقلة فعادت الحبارى إلى منبتها ففقدته وأخذت تدور حول منبتها دوراناً متتابعاً حتى خر ميتاً فعلم الشيخ أنه كان يتعالج بأكلها من اللسع وتلك البقلة كانت هي الجرجير البري وأما ابن عرس فيستظهر في قتال الحية بأكل السذاب فإن النكهة السذابية مما تنفر منها الأفعى والكلاب إذا دودت بطونها أكلت سنبل القمح وإذا جرحت اللقالق بعضها بعضاً داوت جراحها بالصعتر الجبلى ورابعها القنافذ قد تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى جحرها وكان بالقسطنطينية رجل قد أثرى بسبب أنه كان ينذر بالرياح قبل هبوبها وينتفع الناس بإنذاره وكان السبب فيه قنفذاً في داره يفعل الصنيع المذكور فيستدل به والخطاف صانع جيد في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب ليحمل جناحاه قدراً من الطين وإذا أفرخ بالغ في تعهد الفراخ ويأخذ ذرقها بمنقاره ويرميها عن العش ثم يعلمها إلقاء الذرق نحو طرف العش وإذا دنا الصائد من مكان فراخ القبجة ظهرت له القبجة وقربت منه مطمعة له ليتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب فراخها وناقر الخشب قلما يقع على الأرض بل على الشجر ينقر الموضع الذي يعلم أن فيه دوداً والغرانيق تصعد في الجو جداً عند الطيران فإن حجب بعضها عن بعض ضباب أو سحاب أحدثت عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يلزم به بعضها بعضاً فإذا نامت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلا القائد فإنه ينام مكشوف(24/11)
الرأس فيسرع انتباهه وإذا سمع حرساً صاح وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضاً أمر عجيب واعلم أن الاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب طبائع الحيوان والمقصود أن الأكياس من العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال إنها ملهمة من عند الله تعالى بمعرفته والثناء عليه وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس ولله در شهاب الإسلام السمعاني حيث قال جل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال
أما قوله سبحانه وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فهو مع وجازته فيه دلالة على تمام علم المبدأ والمعاد فقوله وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ تنبيه على أن الكل منه لأن كل ما سواه ممكن ومحدث والممكن والمحدث لا يوجدان إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب فدخل في هذه القضية جميع الأجرام والأعراض وأفعال العباد وأقوالهم وخواطرهم
وأما قوله وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فهو عبارة تامة في معرفة المعاد وهو أنه لا بد من مصير الكل إليه سبحانه وله وجه آخر وهو أن الوجود يبدأ من الأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأخس فالأخس ثم يأخذ من الأخس فالأخس مترقياً إلى الأشرف فالأشرف فإنه يكون جسماً ثم يصيره موصوفاً بالنباتية ثم الحيوانية ثم الإنسانية ثم الملكية ثم ينتهي إلى واجب الوجود لذاته فالاعتبار الأول هو قوله وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والثاني هو قوله وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الدلائل وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله خَالِدُونَ أَلَمْ تَرَ بعين عقلك والمراد التنبيه والإزجاء السوق قليلاً قليلاً ومنه البضاعة المزجاة التي يزجيها كل أحد وإزجاء السير في الإبل الرفق بها حتى تسير شيئاً فشيئاً ثم يؤلف بينه قال الفراء ( بين ) لا يصلح إلا مضافاً إلى اسمين فما زاد وإنما قال بَيْنَهُ لأن السحاب واحد في اللفظ ومعناه الجمع والواحد سحابة قال الله تعالى وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ ( الرعد 12 ) والتأليف ضم شيء إلى شيء أي يجمع بين قطع السحاب فيجعلها سحاباً واحداً ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً أي مجتمعاً والركم جمعك شيئاً فوق شيء حتى تجعله مركوماً والودق المطر قاله ابن عباس وعن مجاهد القطر وعن أبي مسلم الأصفهاني الماء مِنْ خِلاَلِهِ من ( شقوقه ومخارقه ) جمع خلل كجبال في جمع جبل وقرىء مِنْ(24/12)
المسألة الثانية اعلم أن قوله اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً يحتمل أنه سبحانه ينشئه شيئاً بعد شيء ويحتمل أن يغيره من سائر الأجسام لا في حالة واحدة فعلى الوجه الأول يكون نفس السحاب محدثاً ثم إنه سبحانه يؤلف بين أجزائه وعلى الثاني يكون المحدث من قبل الله تعالى تلك الصفات التي باعتبارها صارت تلك الأجسام سحاباً وفي قوله ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ دلالة على وجودها متقدماً متفرقاً إذ التأليف لا يصح إلا بين موجودين ثم إنه سبحانه يجعله ركاماً وذلك بتركب بعضها على البعض وهذا مما لا بد منه لأن السحاب إنما يحمل الكثير من الماء إذا كان بهذه الصفة وكل ذلك من عجائب خلقه ودلالة ملكه واقتداره قال أهل الطبائع إن تكون السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار وفي الأقل من تكاثف الهواء أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلاً وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فحينئذ ينحل وينقلب هواء وأما إن كان البخار كثيراً ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فتلك الأبخرة المتصاعدة إما أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ فإن بلغت فإما أن يكون البرد هناك قوياً أو لا يكون فإن لم يكن البرد هناك قوياً تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد واجتمع وتقاطر فالبخار المجتمع هو السحاب والمتقاطر هو المطر والديمة والوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم وأما إن كان البرد شديداً فلا يخلو إما أن يصل البرد إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كباراً أو بعد صيرورتها كذلك فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجاً وإن كان على الوجه الثاني نزل برداً وأما إذا لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة الباردة فهي إما أن تكون كثيرة أو تكون قليلة فإن كانت كثيرة فهي قد تنعقد سحاباً ماطراً وقد لا تنعقد أما الأول فذاك لأحد أسباب خمسة أحدها إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة وثانيها أن تكون الرياح ضاغطة إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الريح وثالثها أن تكون هناك رياح متقابلة متصادمة فتمنع صعود الأبخرة حينئذ ورابعها أن يعرض للجزء المتقدم وقوف لثقله وبطء حركته ثم يلتصق به سائر الأجزاء الكثيرة المدد وخامسها لشدة برد الهواء القريب من الأرض وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعوداً يسيراً حتى كأنه مكبة موضوعة على وهدة ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس وأما إذا كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة فإذا ضربها برد الليل كثفها وعقدها ماء محسوساً فنزل نزولاً متفرقاً لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به فإن لم يجمد كان طلاً وإن جمد كان صقيعاً ونسبة الصقيع إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر وأما تكون السحاب من انقباض الهواء فذلك عندما يبرد الهواء وينقبض وحينئذ يحصل منه الأقسام المذكورة والجواب أنا لما دللنا على حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادراً مختاراً يمكنه إيجاد الأجسام لم يمكنا القطع بما ذكرتموه لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه وأيضاً فهب أن الأمر كما ذكرتم ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر ثم إنها متماثلة فاختصاص كل واحد منها بصفته المعينة من الصعود والهبوط واللطافة والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص فإذا كان هو سبحانه خالقاً لتلك الطبائع وتلك الطبائع مؤثرة في هذه الأحوال وخالق السبب خالق المسبب فكان سبحانه هو الذي يزجي سحاباً لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جو الهواء ثم إن تلك الأبخرة إذا ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض فهو سبحانه(24/13)
هو الذي جعلها ركاماً فثبت على جميع التقديرات أن وجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة ظاهر بين
أما قوله سبحانه وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية قولان أحدهما أن في السماء جبالاً من برد خلقها الله تعالى كذلك ثم ينزل منها ما شاء وهذا القول عليه أكثر المفسرين قال مجاهد والكلبي جبال من برد في السماء والقول الثاني أن السماء هو الغيم المرتفع على رؤوس الناس سمي بذلك لسموه وارتفاعه وأنه تعالى أنزل من هذا الغيم الذي هو سماء البرد وأراد بقوله مِن جِبَالٍ السحاب العظام لأنها إذا عظمت أشبهت الجبال كما يقال فلان يملك جبالاً من مال ووصفت بذلك توسعاً وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله تعالى في السحاب ثم أنزله إلى الأرض وقال بعضهم إنما سمى الله ذلك الغيم جبالاً لأنه سبحانه خلقها من البرد وكل جسم شديد متحجر فهو من الجبال ومنه قوله تعالى وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّة َ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 184 ) ومنه فلان مجبول على كذا قال المفسرون والأول أولى لأن السماء اسم لهذا الجسم المخصوص فجعله اسماً للسحاب بطريقة الاشتقاق مجاز وكما يصح أن يجعل الله الماء فى السحاب ثم ينزله برداً فقد يصح أن يكون في السماء جبال من برد وإذا صح في القدرة كلا الأمرين فلا وجه لترك الظاهر
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قوله تعالى مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فمن الأولى لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء والثانية للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء والثالثة للتبيين لأن جنس تلك الجبال جنس البرد ثم قال ومفعول الإنزال محذوف والتقدير وينزل من السماء من جبال فيها من برد إلا أنه حذف للدلالة عليه
أما قوله فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ مَا يَشَاء فالظاهر أنه راجع إلى البرد ومعلوم من حاله أنه قد يضر ما يقع عليه من حيوان ونبات فبين سبحانه أنه يصيب به من يشاء على وفق المصلحة ويصرفه أي يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقط عليه ومن الناس من حمل البرد على الحجر وجعل نزوله جارياً مجرى عذاب الاستئصال وذلك بعيد
أما قوله تعالى يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاْبْصَارِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ على الإدغام وقرىء ( بُرَقه ) جمع بُرْقة وهي المقدار من البرق وبُرُقه بضمتين للاتباع كما قيل في جمع فعلة فعلات كظلمات و ( سناء برقه ) على المد والمقصور بمعنى الضوء والممدود بمعنى العلو والارتفاع من قولك سنى للمرتفع و يَذْهَبُ بِالاْبْصَارِ على زيادة الباء كقوله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ ( البقرة 195 ) عن أبي جعفر المدني
المسألة الثانية وجه الاستدلال بقوله يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاْبْصَارِ أن البرق الذي يكون صفته ذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة والنار ضد الماء والبرد فظهوره من البرد يقتضي ظهور الضد من الضد وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم
المسألة الثالثة اختلف النحويون في أنك إذا قلت ذهبت بزيد إلى الدار فهل يجب أن تكون ذاهباً معه(24/14)
إلى الدار فالمنكرون احتجوا بهذه الآية
أما قوله يُقَلّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ فقيل فيه وجوه منها تعاقبهما ومجيء أحدهما بعد الآخر وهو كقوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً ( الفرقان 62 ) ومنها ولوج أحدهما في الآخر وأخذ أحدهما من الآخر ومنها تغير أحوالهما في البرد والحر وغيرهما ولا يمتنع في مثل ذلك أن يريد تعالى معاني الكل لأنه في الإنعام والاعتبار أولى وأقوى
أما قوله تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ فالمعنى أن فيما تقدم ذكره دلالة لمن يرجع إلى بصيرة فمن هذا الوجه يدل أن الواجب على المرء أن يتدبر ويتفكر في هذه الأمور ويدل أيضاً على فساد التقليد
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الدلائل على الوحدانية وذلك لأنه لما استدل أولاً بأحوال السماء والأرض وثانياً بالآثار العلوية استدل ثالثاً بأحوال الحيوانات واعلم أن على هذه الآية سؤالات
السؤال الأول لم قال الله تعالى الاْبْصَارِ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء مع أن كثيراً من الحيوانات غير مخلوقة من الماء أما الملائكة فهم أعظم الحيوانات عدداً وهم مخلوقون من النور وأما الجن فهم مخلوقون من النار وخلق الله آدم من التراب لقوله خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) وخلق عيسى من الريح لقوله فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) وأيضاً نرى أن كثيراً من الحيوانات متولد لا عن النطفة والجواب من وجوه أحدها وهو الأحسن ما قاله القفال وهو أن قوله مِن مَّاء صلة كل دابة وليس هو من صلة خلق والمعنى أن كل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى وثانيها أن أصل جميع المخلوقات الماء على ما يروى ( أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور ) ولما كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة وكان الأصل الأول هو الماء لا جرم ذكره على هذا الوجه وثالثها أن المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنهم هناك فيخرج عنه الملائكة والجن ولما كان الغالب جداً من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء إما لأنها متولدة من النطفة وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء لا جرم أطلق لفظ الكل تنزيلاً للغالب منزلة الكل
السؤال الثاني لم نكر الماء في قوله مِن مَّاء وجاء معرفاً في قوله وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ(24/15)
( الأنبياء 30 ) والجواب إنما جاء ههنا منكراً لأن المعنى أنه خلق كل دابة من نوع من الماء يختص بتلك الدابة وإنما جاء معرفاً في قوله وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ لأن المقصود هناك كونهم مخلوقين من هذا الجنس وههنا بيان أن ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة
السؤال الثالث قوله فَمِنْهُمْ ضمير العقلاء وكذلك قوله مِنْ فلم استعمله في غير العقلاء والجواب أنه تعالى ذكر ما لا يعقل مع من يعقل وهم الملائكة والإنس والجن فغلب اللفظ اللائق بمن يعقل لأن جعل الشريف أصلاً والخسيس تبعاً أولى من العكس ويقال في الكلام من المقبلان لرجل وبعير
السؤال الرابع لم سمى الزحف على البطن مشياً ويبين صحة هذا السؤال أن الصبي قد يوصف بأنه يحبو ولا يقال إنه يمشي وإن زحف على حد ما تزحف الحية والجواب هذا على سبيل الاستعارة كما قالوا في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر ويقال فلان لا يتمشى له أمر أو على طريق المشاكلة ( لذلك ) الزاحف مع الماشين
السؤال الخامس أنه لم يستوف القسمة لأنا نجد ما يمشي على أكثر من أربع مثال العناكب والعقارب والرتيلات بل مثل الحيوان الذي له أربعة وأربعون رجلاً الذي يسمى دخال الأذن والجواب القسم الذي ذكرتم كالنادر فكان ملحقاً بالعدم ولأن الفلاسفة يقرون بأن ما له قوائم كثيرة فاعتماده إذا مشى على أربع جهاته لا غير فكأنه يمشي على أربع ولأن قوله تعالى يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء كالتنبيه على سائر الأقسام
السؤال السادس لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب والجواب قد قدم ما هو ( أعجب ) وهو الماشي بغير آله مشى من أجل أو قوائم ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع واعلم أن قوله يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء تنبيه على أن الحيوانات كما اختلفت بحسب كيفية المشي فكذا هي مختلفة بحسب أمور أخر فلنذكر ههنا بعض التقسيمات
التقسيم الأول الحيوانات قد تشترك في أعضاء وقد تتباين بأعضاء أما الشركة فمثل اشتراك الإنسان والفرس في أن لهما لحماً وعصباً وعظماً وأما التباين فإما أن يكون في نفس العضو أو في صفته أما التباين في نفس العضو فعلى وجهين أحدهما أن لا يكون العضو حاصلاً للآخر وإن كانت أجزاؤه حاصلة للثاني كالفرس والإنسان فإن الفرس له ذنب والإنسان ليس له ذنب ولكن أجزاء الذنب ليست إلا العظم والعصب واللحم والجلد والشعر وكل ذلك حاصل للإنسان والثاني أن لا يكون ذلك العضو حاصلاً للثاني لا بذاته ولا بأجزائه مثل أن للسلحفاة صدفاً يحيط به وليس للإنسان ذلك وكذا للسمك فلوس وللقنفذ شوك وليس شيء منها للإنسان وأما التباين في صفة العضو فإما أن يكون من باب الكمية أو الكيفية أو الوضع أو الفعل أو الانفعال أما الذي في الكم فإما أن يتعلق بالمقدار مثل أن عين البوم كبيرة وعين العقاب صغيرة أو بالعدد مثل أن أرجل ضرب من العناكب ستة وأرجل ضرب آخر ثمانية أو عشرة والذي في الكيف فكاختلافها في الألوان والأشكال والصلابة واللين والذي في الوضع فمثل اختلاف وضع ثدي الفيل فإنه يكون قريباً من الصدر وثدي الفرس فإنه عند السرة وأما الذي في الفعل فمثل كون أذن الفيل صالحاً للذب مع كونه آلة للسمع وليس كذلك في الإنسان وكون أنفه آلة للقبض دون أنف غيره وأما الذي في(24/16)
الانفعال فمثل كون عين الخفاش سريعة التحير في الضوء وعين الخطاف بخلاف ذلك
التقسيم الثاني الحيوان إما أن يكون مائياً بمعنى أن مسكنه الأصلي هو الماء أو أرضياً أو يكون مائياً ثم يصير أرضياً أما الحيوانات المائية فتغير أحوالها من وجوه الأول أنه إما أن يكون مكانه وغذاؤه ونفسه مائياً فله بدل التنفس في الهواء التنشق المائي فهو يقبل الماء إلى باطنه ثم يرده ولا يعيش إذا فارقه والسمك كله كذلك ومنه ما مكانه وغذاؤه مائي ولكنه يتنفس من الهواء مثل السلحفاة المائية ومنه ما مكانه وغذاؤه مائي وليس يتنفس ولا يستنشق مثل أصناف من الصدف لا تظهر للهواء ولا تستدخل الماء إلى باطنها الوجه الثاني الحيوانات المائية بعضها مأواها مياه الأنهار الجارية وبعضها مياه البطائح مثل الضفادع وبعضها مأواها مياه البحر الوجه الثالث منها لجية ومنها شطية ومنها طينية ومنها صخرية الوجه الرابع الحيوان المنتقل في الماء منه ما يعتمد في غوصه على رأسه وفي السباحة على أجنحته كالسمك ومنه ما يعتمد في السباحة على رجليه كالضفدع ومنه ما يمشي في قعر الماء كالسرطان ومنه ما يزحف مثل ضرب من السمك لا جناح له وكالدود أما الحيوانات البرية فتغير أحوالها أيضاً من وجهين الأول أن منها ما يتنفس من طريق واحد كالفم والخيشوم ومنها ما لا يتنفس كذلك بل على نحو آخر من مسامه مثل الزنبور والنحل الثاني أن الحيوانات الأرضية منها ما له مأوى معلوم ومنها ما مأواه كيف اتفق إلا أن يلد فيقيم للحضانة واللواتي لها مأوى فبعضها مأواه شق وبعضها حفر وبعضها مأواه قلة رابية وبعضها مأواه وجه الأرض الثالث الحيوان البري كل طائر منه ذو جناح فإنه يمشي برجليه ومن جملة ذلك ما مشيه صعب عليه كالخطاف الكبير الأسود والخفاش وأما الذي جناحه جلد أو غشاء فقد يكون عديم الرجل كضرب من الحيات الحبشية يطير الرابع الطير يختلف فبعضها يتعايش معاً كالكراكي وبعضها يؤثر التفرد كالعقاب وجميع الجوارح التي تتنازع على الطعم لاحتياجها إلى الاحتيال لتصيد ومنافستها فيه ومنها ما يتعايش زوجاً ويكون معاً كالقطا ومنه ما يجتمع تارة وينفرد أخرى والحيوانات المنفردة قد تكون مدنية وقد تكون برية صرفة وقد تكون بستانية والإنسان من بين الحيوان هو الذي لا يمكنه أن يعيش وحده فإن أسباب حياته ومعيشته تلتئم بالمشاركة المدنية والنحل والنمل وبعض الغرانيق يشارك الإنسان في ذلك لكن النحل والكراكي تطيع رئيساً واحداً والنمل له اجتماع ولا رئيس الخامس الطير منه آكل لحم ومنه لاقط حب ومنه آكل عشب وقد يكون لبعض الطير طعم معين كالنحل فإن غذاءه زهر والعنكبوت فإن غذاءه الذباب وقد يكون بعضه متفق الطعم أما القسم الثالث وهو الحيوان الذي يكون تارة مائياً وأخرى برياً فيقال إنه حيوان يكون في البحر ويعيش فيه ثم إنه يبرز إلى البر ويبقى فيه
التقسيم الثالث الحيوان منه ما هو إنسي بالطبع كالإنسان ومنه ما هو إنسي بالمولد كالهرة والفرس ومنه ما هو إنسي بالقسر كالفهد ومنه ما لا يأنس كالنمر والمستأنس بالقسر منه ما يسرع استئناسه ويبقى مستأنساً كالفيل ومنه ما يبطىء كالأسد ويشبه أن يكون من كل نوع صنف إنسي وصنف وحشي حتى من الناس
التقسيم الرابع من الحيوان ما هو مصوت ومنه ما لا صوت له وكل مصوت فإنه يصير عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتاً إلا الإنسان وأيضاً لبعض الحيوان شبق يشتد كل وقت كالديك ومنه عفيف له وقت معين(24/17)
التقسيم الخامس بحسب الأخلاق بعض الحيوانات هادىء الطبع قليل الغضب مثل البقرة وبعضه شديد الجهل حاد الغضب كالخنزير البري وبعضها حليم خدوع كالبعير وبعضها رديء الحركات مغتال كالحية وبعضها جريء قوي شهم كبير النفس كريم الطبع كالأسد ومنها قوي مغتال وحشي كالذئب وبعضها محتال مكار رديء الحركات كالثعلب وبعضها غضوب شديد الغضب سفيه إلا أنه ملق متودد كالكلب وبعضها شديد الكيس مستأنس كالفيل والقرد وبعضها حسود متباه بجماله كالطاووس وبعضها شديد التحفظ كالجمل والحمار
التقسيم السادس من الحيوان ما تناسله بأن تلد أنثاه حيواناً وبعضها ما تناسله بأن تلد أنثاه دوداً كالنحل والعنكبوت فإنها تلد دوداً ثم إن أعضاءه تستكمل بعد وبعضها تناسله بأن تبيض أنثاه بيضاً
واعلم أن العقول قاصرة عن الإحاطة بأحوال أصغر الحيوانات على سبيل الكمال ووجه الاستدلال بها على الصانع ظاهر لأنه لو كان الأمر بتركيب الطبائع الأربع فذلك بالنسبة إلى الكل على السوية فاختصاص كل واحد من هذه الحيوانات بأعضائها وقواها ومقادير أبدانها وأعمارها وأخلاقها لا بد وأن يكون بتدبير مدبر قاهر حكيم سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون وأحسن كلام في هذا الموضع قوله سبحانه يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ لأنه هو القادر على الكل والعالم بالكل فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات فأي عقل يقف عليها وأي خاطر يصل إلى ذرة من أسرارها بل هو الذي يخلق ما يشاء ولا يمنعه منه مانع ولا دافع
وأما قوله لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايَاتٍ مُّبَيّنَاتٍ فالأولى حمله على كل الأدلة والعبر ولما كان القرآن كالمشتمل على كل ذلك صح أن يكون هو المراد
أما قوله وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فاستدلال أصحابنا به كما تقدم والجواب أجاب القاضي عنه بأن المراد يهدي من بلغه حد التكليف دون غيره أو يكون المراد من أطاعه واستحق الثواب فيهديه إلى الجنة على ما تقدم في نظائره وجوابنا عن هذا الجواب أيضاً كما تقدم في نظائره والله أعلم
اعلم أنه سبحانه لما ذكر دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالدين بألسنتهم ولكنهم ل يقبلوه بقلوبهم وفيه مسائل(24/18)
المسألة الأولى قال مقاتل نزلت هذه الآية في بشر المنافق وكان قد خاصم يهودياً في أرض وكان اليهودي يجره إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليحكم بينهما وجعل المنافق يجره إلى كعب بن الأشرف ويقول إن محمداً يحيف علينا وقد مضت قصتهما في سورة النساء وقال الضحاك نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض فتقاسما فوقع إلى علي منها ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة بعني أرضك فباعها إياه وتقابضا فقيل للمغيرة أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعلي اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها فلا ينالها الماء فقال علي بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها لا أقبلها منك ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال المغيرة أما محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي فنزلت هذه الآية وقال الحسن نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر
المسألة الثانية قوله مُّسْتَقِيمٍ وَيِقُولُونَ امَنَّا إلى قوله وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يدل على أن الإيمان لا يكون بالقول إذ لو كان به لما صح أن ينفي كونهم مؤمنين وقد فعلوا ما هو إيمان في الحقيقة فإن قيل إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون آمنا ثم حكى عن فريق منهم التولي فكيف يصح أن يقول في جميعهم وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ مع أن الذي تولى منهم هو البعض قلنا إن قوله وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى وأيضاً فلو رجع إلى الأول يصح ويكون معنى قوله ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ أي يرجع هذا الفريق إلى الباقين منهم فيظهر بعضهم لبعض الرجوع عما أظهروه ثم بين سبحانه أنهم إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وهذا ترك للرضا بحكم الرسول ونبه بقوله تعالى وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أوشكوا فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض بل سارعوا إلى الحكم وأذعنوا ببذل الرضا وفي ذلك دلالة على أنه ليس بهم اتباع الحق وإنما يريدون النفع المعجل وذلك أيضاً نفاق
أما قوله تعالى أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ففيه سؤالات
السؤال الأول كلمة ( أم ) للاستفهام وهو غير جائز على الله تعالى والجواب اللفظ استفهام ومعناه الخبر كما قال جرير ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
السؤال الثاني أنهم لو خافوا أن يحيف الله عليهم فقد ارتابوا في الدين وإذ ارتابوا ففي قلوبهم مرض فالكل واحد فأي فائدة في التعديد الجواب قوله أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ إشارة إلى النفاق وقوله أَمِ ارْتَابُواْ إشارة إلى أنه حدث هذا الشك والريب بعد تقرير الإسلام في القلب وقوله أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه
السؤال الثالث هب أن هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة فكيف أدخل عليها كلمة ( أم )(24/19)
الجواب الأقرب أنه تعالى ذمهم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق وكان فيها شك وارتياب وكانوا يخافون الحيف من الرسول عليه الصلاة والسلام وكل واحد من ذلك كفر ونفاق ثم بين تعالى بقوله بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بطلان ما هم عليه لأن الظلم يتناول كل معصية كما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إذ المرء لا يخلو من أن يكون ظالماً لنفسه أو ظالماً لغيره ويمكن أن يقال أيضاً لما ذكر تعالى في الأقسام كونهم خائفين من الحيف أبطل ذلك بقوله بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي لا يخافون أن يحيف الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم لمعرفتهم بأمانته وصيانته وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم وهم له جحود وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يأبون المحاكمة إليه
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَة ٌ مَّعْرُوفَة ٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
اعلم أنه تعالى لما حكى قول المنافقين وما قالوه وما فعلوه أتبعه بذكر ما كان يجب أن يفعلوه وما يجب أن يسلكه المؤمنون فقال تعالى إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ بالرفع والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أوغلهما في التعريف و أَن يَقُولُواْ أوغل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ
المسألة الثانية قوله إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ معناه كذلك يجب أن يكون قولهم وطريقتهم إذا دعوا إلى حكم كتاب الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا فيكون إتيانهم إليه وانقيادهم له سمعاً وطاعة ومعنى سَمِعْنَا أجبنا على تأويل قول المسلمين سمع الله لمن حمده أي قبل وأجاب ثم قال وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فيما ساءه وسره وَيَخْشَ اللَّهَ فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي وَيَتَّقْهِ فيما بقي من(24/20)
عمره فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه
أما قوله وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ فقال مقاتل من حلف بالله فقد أجهد في اليمين ثم قال لما بين الله تعالى كراهية المنافقين لحكم رسول الله فقالوا والله لئن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا ثم إنه تعالى أمر رسوله أن ينهاهم عن هذا القسم بقوله قُل لاَّ تُقْسِمُواْ ولو كان قسمهم كما يجب لم يجز النهي عنه لأن من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه وإذا ثبت ذلك ثبت أن قسمهم كان لنفاقهم وأن باطنهم خلاف ظاهرهم ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه لا يكون إلا قبيحاً
أما قوله طَاعَة ٌ مَّعْرُوفَة ٌ فهو إما خبر مبتدأ محذوف أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا أيمان كاذبة أو مبتدأ خبره محذوف أي طاعة معروفة أمثل من قسمكم بما لا تصدقون فيه وقيل معناه دعوا القسم ولا تغتروا به وعليكم طاعة معروفة فتمسكوا بها وقرأ اليزيدي طَاعَة ٌ مَّعْرُوفَة ٌ بالنصب على معنى أطيعوا طاعة ( الله ) إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي بصير لا يخفى عليه شيء من سرائركم وإنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم
أما قوله قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ فاعلم أنه تعالى صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات وهو أبلغ في تبكيتهم فَإِن تَوَلَّوْاْ يعني إن تولوا عن طاعة الله وطاعة رسوله فإنما على الرسول ما حمل من تبليغ الرسالة وعليكم ما حملتم من الطاعة وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ أي تصيبوا الحق وإن عصيتموه فما على الرسول إلا البلاغ المبين والبلاغ بمعنى التبليغ والمبين الواضح والموضح لما بكم إليه الحاجة وعن نافع أنه قرأ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ بفتح الحاء والتخفيف أي فعليه إثم ما حمل من المعصية
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
اعلم أن تقدير النظم بلغ أيها الرسول وأطيعوه أيها المؤمنون فقد وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات أي الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح أن يستخلفهم في الأرض فيجعلهم الخلفاء والغالبين والمالكين كما استخلف عليها من قبلهم في زمن داود وسليمان عليهما السلام وغيرهما وأنه يمكن(24/21)
لهم دينهم وتمكينه ذلك هو أن يؤيدهم بالنصرة والإعزاز ويبدلهم من بعد خوفهم من العدو أمناً بأن ينصرهم عليهم فيقتلوهم ويأمنوا بذلك شرهم فيعبدونني آمنين لا يشركون بي شيئاً ولا يخافون وَمَن كَفَرَ أي من بعد هذا الوعد وارتد فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
واعلم أن هذه الآية مشتملة على بيان أكثر المسائل الأصولية الدينية فلنشر إلى معاقدها
المسألة الأولى قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ يدل على أنه سبحانه متكلم لأن الوعد نوع من أنواع الكلام والموصوف بالنوع موصوف بالجنس ولأنه سبحانه ملك مطاع والملك المطاع لا بد وأن يكون بحيث يمكنه وعد أوليائه ووعيد أعدائه فثبت أنه سبحانه متكلم
المسألة الثانية الآية تدل على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً لهشام بن الحكم فإنه قال لا يعلمها قبل وقوعها ووجه الاستدلال به أنه سبحانه أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إخباراً على التفصيل وقد وقع المخبر مطابقاً للخبر ومثل هذا الخبر لا يصح إلا مع العلم
المسألة الثالثة الآية تدل على أنه سبحانه حي قادر على جميع الممكنات لأنه قال لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وقد فعل كل ذلك وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل المقدورات
المسألة الرابعة الآية تدل على أنه سبحانه هو المستحق للعبادة لأنه قال يَعْبُدُونَنِى وقالت المعتزلة الآية تدل على أن فعل الله تعالى معلل بالغرض لأن المعنى لكي يعبدوني وقالوا أيضاً الآية دالة على أنه سبحانه يريد العبادة من الكل لأن من فعل فعلاً لغرض فلا بد وأن يكون مريداً لذلك الغرض
المسألة الخامسة دلت الآية على أنه تعالى منزه عن الشريك لقوله لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وذلك يدل على نفي الإله الثاني وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله تعالى سواء كان كوكباً كما تقوله الصابئة أو صنماً كما تقوله عبدة الأوثان
المسألة السادسة دلت الآية على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أخبر عن الغيب في قوله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وقد وجد هذا المخبر موافقاً للخبر ومثل هذا الخبر معجز والمعجز دليل الصدق فدل على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة السابعة دلت الآية على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان خلافاً للمعتزلة لأنه عطف العمل الصالح عن الإيمان والمعطوف خارج عن المعطوف عليه
المسألة الثامنة دلت الآية على إمامة الأئمة الأربعة وذلك لأنه تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو المراد بقوله ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وأن يمكن لهم دينهم المرضي وأن يبدلهم بعد الخوف أمناً ومعلوم أن المراد بهذا الوعد بعد الرسول هؤلاء لأن استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ومعلوم أنه لا نبي بعده لأنه خاتم الأنبياء فإذن المراد بهذا الاستخلاف طريقة الإمامة ومعلوم أن بعد الرسول الاستخلاف الذي هذا وصفه إنما كان في أيام أبي بكر وعمر وعثمان لأن في أيامهم كانت الفتوح العظيمة وحصل التمكين وظهور الدين والأمن ولم يحصل(24/22)
ذلك في أيام علي رضي الله عنه لأنه لم يتفرغ لجهاد الكفار لاشتغاله بمحاربة من خالفه من أهل الصلاة فثبت بهذا دلالة الآية على صحة خلافة هؤلاء فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي حصول الخلافة لكل من آمن وعمل صالحاً ولم يكن الأمر كذلك نزلنا عنه لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ هو أنه تعالى يسكنهم الأرض ويمكنهم من التصرف لا أن المراد منه خلافة الله تعالى ومما يدل عليه قوله كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ واستخلاف من كان قبلهم لم يكن بطريق الإمامة فوجب أن يكون الأمر في حقهم أيضاً كذلك نزلنا عنه لكن ههنا ما يدل على أنه لا يجوز حمله على خلافة رسول الله لأن من مذهبكم أنه عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحداً وروي عن علي عليه السلام أنه قال أترككم كما ترككم رسول الله نزلنا عنه لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه علياً عليه السلام والواحد قد يعبر عنه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم كقوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) وقال في حق علي عليه السلام وَالَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( المائدة 55 ) نزلنا عنه ولكن نحمله على الأئمة الإثني عشر والجواب عن الأول أن كلمة من للتبعيض فقوله مّنكُمْ يدل على أن المراد بهذا الخطاب بعضهم وعن الثاني أن الاستخلاف بالمعنى الذي ذكرتموه حاصل لجميع الخلق فالذكور ههنا في معرض البشارة لا بد وأن يكون مغايراً له
وأما قوله تعالى كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فالذين كانوا قبلهم كانوا خلفاء تارة بسبب النبوة وتارة بسبب الإمامة والخلافة حاصلة في الصورتين وعن الثالث أنه وإن كان من مذهبنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحداً بالتعيين ولكنه قد استخلف بذكر الوصف والأمر بالاختيار فلا يمتنع في هؤلاء الأئمة الأربعة أنه تعالى يستخلفهم وأن الرسول استخلفهم وعلى هذا الوجه قالوا في أبي بكر يا خليفة رسول الله فالذي قيل إنه عليه السلام لم يستخلف أريد به على وجه التعيين وإذا قيل استخلف فالمراد على طريقة الوصف والأمر وعن الرابع أن حمل لفظ الجمع على الواحد مجاز وهو خلاف الأصل وعن الخامس أنه باطل لوجهين أحدهما قوله تعالى مّنكُمْ يدل على أن هذا الخطاب كان مع الحاضرين وهؤلاء الأئمة ما كانوا حاضرين الثاني أنه تعالى وعدهم القوة والشوكة والنفاذ في العالم ولم يوجد ذلك فيه فثبت بهذا صحة إمامة الأئمة الأربعة وبطل قول الرافضة الطاعنين على أبي بكر وعمر وعثمان وعلى بطلان قول الخوراج الطاعنين على عثمان وعلي ولنرجع إلى التفسير
أما قوله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فلقائل أن يقول أين القسم المتلقى باللام والنون في لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ قلنا هو محذوف تقديره وعدهم الله ( وأقسم ) ليستخلفنهم أو نزل وعد الله في تحققه منزلة القسم فتلقى بما يتلقى به القسم كأنه قال اقسم الله ليستخلفنهم
أما قوله كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يعني كَمَا اسْتَخْلَفَ هارون ويوشع وداود وسليمان وتقدير النظم ليستخلفنهم استخلافاً كاستخلاف من قبلهم من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام وقرىء كما استخلف بضم التاء وكسر اللام وقرىء بالفتح
أما قوله تعالى وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ فالمعنى أنه يثبت لهم دينهم الذي ارتضى لهم وهو الإسلام وقرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ ومن الإبدال بالتخفيف والباقون بالتشديد وقد(24/23)
ذكرنا الفرق بينهما في قوله تعالى بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ( النساء 56 )
أما قوله يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً ففيه دلالة على أن الذين عناهم لا يتغيرون عن عبادة الله تعالى إلى الشرك وقال الزجاج يجوز أن يكون في موضع الحال على معنى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات في حال عبادتهم وإخلاصهم لله ليفعلن بهم كيت وكيت ويجوز أن يكون استئنافاً على طريق الثناء عليهم
أما قوله وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ أي جحد حق هذه النعم فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أي العاصون
وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَآتُواْ الزَّكَواة َ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ
أما تفسير إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ولفظة لعل ولفظة الرحمة فالكل قد تقدم مراراً
وأما قوله لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ فالمعنى لا تحسبن يا محمد الذين كفروا سابقين فائقين حتى يعجزونني عن إدراكهم وقرىء لا يَحْسَبَنَّ بالياء المعجمة من تحتها وفيه أوجه أحدها أن يكون معجزين في الأرض هما المفعولان والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا هم في مثل ذلك وثانيها أن يكون فيه ضمير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لتقدم ذكره في قوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( النور 54 ) والمعنى لا يحسبن الذين كفروا معجزين وثالثها أن يكون الأصل ولا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول
وأما قوله وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ فقال صاحب ( الكشاف ) النظم لا يحتمل أن يكون متصلاً بقوله لاَ تَحْسَبَنَّ لأن ذلك نفي وهذا إيجاب فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله تقديره لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض بل هم مقهورون ومأواهم النار
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلَواة ِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَة ِ وَمِن بَعْدِ صَلَواة ِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاٌّ يَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الاٌّ طْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلَاتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَة ٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ(24/24)
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي قوله تعالى الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وإن كان ظاهره الرجال فالمراد به الرجال والنساء لأن التذكير يغلب على التأنيث فإذا لم يميز فيدخل تحت قوله الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الكل ويبين ذلك قوله تعالى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ لأن ذلك يقال في الرجال والنساء والأولى عندي أن الحكم ثابت في النساء بقياس جلي وذلك لأن النساء في باب حفظ العورة أشد حالاً من الرجال فهذا الحكم لما ثبت في الرجال فثبوته في النساء بطريق الأولى كما أنا نثبت حرمة الضرب بالقياس الجلي على حرمة التأفيف
المسألة الثانية ظاهر قوله الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يدخل فيه البالغون والصغار وحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد الصغار واحتجوا بأن الكبير من المماليك ليس له أن ينظر من المالك إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه قال ابن المسيب لا يغرنكم قوله وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ لا ينبغي للمرأة أن ينظر عبدها إلى قرطها وشعرها وشيء من محاسنها وقال الآخرون بل البالغ من المماليك له أن ينظر إلى شعر مالكته وما شاكله وظاهر الآية يدل على اختصاص عبيد المؤمنين والأطفال من الأحرار بإباحة ما حظره الله تعالى من قبل على جماعة المؤمنين بقوله لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ( النور 27 ) فإنه أباح لهم إلا في الأوقات الثلاثة وجوز دخولهم مع من لم يبلغ بغير إذن ودخول الموالي عليهم بقوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوفُونَ عَلَيْكُمْ أي يطوف بعضكم على بعض فيما عدا الأوقات الثلاثة وأكد ذلك بأن أوجب على من بلغ الحلم الجري على سنة من قبلهم من البالغين في الاستئذان في سائر الأوقات وألحقهم بمن دخل تحت قوله لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا
المسألة الثالثة قوله لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إن أريد به العبيد والإماء إذا كانوا بالغين فغير ممتنع أن يكون أمراً لهم في الحقيقة وإن أريد الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ لم يجز أن يكون أمراً لهم ويجب أن يكون أمراً لنا بأن نأمرهم بذلك ونبعثهم عليه كما أمرنا بأمر الصبي وقد عقل الصلاة أن يفعلها لا على وجه التكليف لهم لكنه تكليف لنا لما فيه من المصلحة لنا ولهم بعد البلوغ ولا يبعد أن يكون لفظ الأمر وإن كان في الظاهر متوجهاً عليهم إلا أنه يكون في الحقيقة متوجهاً على المولى كقولك للرجل ليخفك أهلك(24/25)
وولدك فظاهر الأمر لهم وحقيقة الأمر له بفعل ما يخافون عنده
المسألة الرابعة قال ابن عباس رضي الله عنهما إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث غلاماً من الأنصار إلى عمر ليدعوه فوجده نائماً في البيت فدفع الباب وسلم فلم يستيقظ عمر فعاد ورد الباب وقام من خلفه وحركه فلم يستيقظ فقال الغلام اللهم أيقظه لي ودفع الباب ثم ناداه فاستيقظ وجلس ودخل الغلام فانكشف من عمر شيء وعرف عمر أن الغلام رأى ذلك منه فقال وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا في هذه الساعات إلا بإذن ثم انطلق معه إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فوجده قد نزل عليه الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فحمد الله تعالى عمر عند ذلك فقال عليه السلام وما ذاك يا عمر فأخبره بما فعل الغلام فتعجب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من صنعه وتعرف اسمه ومدحه وقال إن الله يحب الحليم الحي العفيف المتعفف ويبغض البذيء الجريء السائل الملحف ) فهذه الآية إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر وقال بعضهم نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قالت إنا لندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحاف واحد وقيل دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت الآية
المسألة الخامسة قال ابن عمر ومجاهد قوله لِيَسْتَأْذِنكُمُ عنى به الذكور دون الإناث لأن قوله الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ صيغة الذكور لا صيغة الإناث وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي في الرجال والنساء يستأذنون على كل حال بالليل والنهار والصحيح أنه يجب إثبات هذا الحكم في النساء لأن الإنسان كما يكره اطلاع الذكور على أحواله فقد يكره أيضاً اطلاع النساء عليها ولكن الحكم يثبت في النساء بالقياس لا بظاهر اللفظ على ما قدمناه
المسألة السادسة من العلماء من قال الأمر في قوله لِيَسْتَأْذِنكُمُ على الندب والاستحباب ومنهم من قال إنه على الإيجاب وهذا أولى لما ثبت أن ظاهر الأمر للوجوب
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عمر الْحُلُمَ بالسكون
المسألة الثانية اتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ واختلفوا إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة رحمه الله لا يكون الغلام بالغاً حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها وفي الجارية سبع عشرة سنة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله في الغلام والجارية خمس عشرة سنة قال أبو بكر الرازي قوله تعالى وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة إذا لم يحتلم لأن الله تعالى لم يفرق بين من بلغها وبين من قصر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من جهات كثيرة ( رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم ) ولم يفرق بين من بلغ خمس عشرة سنة وبين من لم يبلغها فإن قيل فهذا الكلام يبطل التقدير أيضاً بثماني عشرة سنة أجاب بأنا قد علمنا بأن العادة في البلوغ خمس عشرة سنة وكل ما كان مبنياً على طريق العادات فقد تجوز الزيادة فيه والنقصان منه وقد وجدنا من بلغ في اثنتي عشرة سنة وقد بينا أن الزيادة على المعتاد جائزة كالنقصان منه فجعل أبو حنيفة رحمه الله الزيادة كالنقصان وهي ثلاث سنين وقد(24/26)
حكى عن أبي حنيفة رحمه الله تسع عشرة سنة للغلام وهو محمول على استكمال ثماني عشرة سنة والدخول في التاسعة عشرة حجة الشافعي رحمه الله ما روى ابن عمر أنه عرض على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه اعترض أبو بكر الرازي عليه فقال هذا الخبر مضطرب لأن أحداً كان في سنة ثلاث والخندق في سنة خمس فكيف يكون بينهما سنة ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ لأنه قد يرد البالغ لضعفه ويؤذن غير البالغ لقوته ولطاقته حمل السلاح ويدل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام ما سأله عن الاحتلام والسن
البحث الثاني اختلفوا في الإنبات هل يكون بلوغاً فأبو حنيفة وأصحابه ما جعلوه بلوغاً والشافعي رحمه الله جعله بلوغاً قال أبو بكر الرازي رحمه الله ظاهر قوله وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ينفي أن يكون الإنبات بلوغاً إذا لم يحتلم كما نفى كون خمس عشرة سنة بلوغاً وكذلك قوله عليه السلام ( وعن الصبي حتى يحتمل ) حجة الشافعي رحمه الله تعالى ما روى عطية القرظي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت قال فنظروا إلى فلم أكن قد أنبت فاستبقاني قال أبو بكر الرازي هذا الحديث لا يجوز إثبات الشرع به وبمثله لوجوه أحدها أن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر لا سيما مع اعتراضه على الآية والخبر في نفي البلوغ إلا بالاحتلام وثانيها أنه مختلف الألفاظ ففي بعضها أنه أمر بقتل من جرت عليه الموسى وفي بعضها من اخضر عذاره ومعلوم أنه لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدم بلوغه ولا يكون قد جرت عليه الموسى إلا وهو رجل كبير فجعل الإنبات وجرى الموسى عليه كناية عن بلوغ القدر الذي ذكرنا من السن وهي ثماني عشرة سنة فأكثر وثالثها أن الإنبات يدل على القوة البدنية فالأمر بالقتل لذاك لا للبلوغ قال الشافعي رحمه الله هذه الاحتمالات مردودة بما روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سئل عن غلام فقال هل اخضر عذاره وهدا يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة
البحث الثالث ويروى عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار روي عن علي عليه السلام أنه قال إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتص له ويقتص منه وعن ابن سيرين عن أنس قال أتى أبو بكر بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلى عنه وهذا المذهب أخذ به الفرزدق في قوله ما زال مذ عقدت يداه إزاره
وسما فأدرك خمسة الأشبار
وأكثر الفقهاء لا يقولون بهذا المذهب لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلاً وفوق البلوغ ويكون قصيراً فلا عبرة به
المسألة الثالثة قال أبو بكر الرازي دلت هذه الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات وقال عليه السلام ( مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ) وعن ابن عمر رضي الله عنه قال نعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله وعن زين العابدين أنه كان يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً فقيل له يصلون الصلاة لغير وقتها فقال خير من أن يتناهوا عنها وعن ابن مسعود رض الله عنه إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات حتى يحتلم ثم قال أبو بكر(24/27)
الرازي إنما يؤمر بذلك على وجه التعليم وليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفوراً منه وكذلك يجنب شرب الخمر ولحم الخنزير وينهى عن سائر المحظورات لأنه لو لم يمنع منه في الصغر لصعب عليه الامتناع بعد الكبر وقال الله تعالى قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ( التحريم 6 ) قيل في التفسير أدبوهم وعلموهم
المسألة الرابعة قال الأخفش يقال في الحلم حلم الرجل بفتح اللام يحلم حلماً بضم اللام ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم حلماً بكسر اللام
أما قوله تعالى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مّن قَبْلِ صَلَواة ِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظَّهِيرَة ِ وَمِن بَعْدِ صَلَواة ِ الْعِشَاء ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يعني ثلاث أوقات لأنه تعالى فسرهن بالأوقات وإنما قيل ثلاث مرات للأوقات لأنه أراد مرة في كل وقت من هذه الأوقات لأنه يكفيهم أن يستأذنوا في كل واحد من هذه الأوقات مرة واحدة ثم بين الأوقات فقال مّن قَبْلِ صَلَواة ِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظَّهِيرَة ِ وَمِن بَعْدِ صَلَواة ِ الْعِشَاء يعني الغالب في هذه الأوقات الثلاثة أن يكون الإنسان متجرداً عن الثياب مكشوف العورة
المسألة الثانية قوله ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ قرأ أهل الكوفة ثَلَاثٍ بالنصب على البدل من قوله ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وكأنه قال في أوقات ثلاث عورات لكم فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه وقراءة الباقين بالرفع أي هي ثلاث عورات فارتفع لأنه خبر مبتدأ محذوف قال القفال فكأن المعنى ثلاث انكشافات والمراد وقت الانكشاف
المسألة الثالثة العورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان والأعور المختل العين فسمى الله تعالى كل واحدة من تلك الأحوال عورة لأن الناس يختل حفظهم وتسترهم فيها
المسألة الرابعة الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين أحدهما بقوله تعالى ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ والثاني بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة وبين ما عداها بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة وأنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات
المسألة الخامسة من الناس من قال إن قوله تعالى كَرِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ( النور 27 ) فهذا يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال وصار ذلك منسوخاً بهذه الآية في غير هذه الأحوال الثلاثة ومن الناس من قال الآية الأولى أريد بها المكلف لأنه خطاب لمن آمن وما ذكره الله تعالى في هذه الآية فهو فيمن ليس بمكلف فقيل فيه إن في بعض الأحوال لا يدخل إلا بإذن وفي بعضها بغير إذن فلا وجه لحمل ذلك على النسخ لأن ما تناولته الآية الأولى من المخاطبين لم تتناوله الآية الثانية أصلاً فإن قيل بتقدير أن يكون قوله تعالى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يدخل فيه من قد بلغ فالنسخ لازم قلنا لا يجب ذلك أيضاً لأن قوله كَرِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ لا(24/28)
يدخل إلا من يملك البيوت لحق هذه الإضافة وإذا صح ذلك لم يدخل تحت العبيد والإماء فلا يجب النسخ أيضاً على هذا القول فأما إن حمل الكلام على صغار المماليك فالقول فيه أبين
المسألة السادسة قال أبو حنيفة رحمه الله لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال ثلاث آيات من كتاب الله تركهن الناس ولا أرى أحداً يعمل بهن قال عطاء حفظت اثنتين ونسيت واحدة وقرأ هذه الآية وقوله رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( الحجرات 13 ) وذكر سعيد بن جبير أن الآية الثالثة قوله وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة َ أُوْلُواْ الْقُرْبَى ( النساء 8 ) الآية
أما قوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ففيه سؤالات
السؤال الأول أتقولون في قوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ أنه يقتضي الإباحة على كل حال الجواب قد بينا أن ذلك هو في الصغار خاصة فمباح لهم الدخول للخدمة بغير الإذن في غير الأوقات الثلاثة ومباح لنا تمكينهم من ذلك والدخول عليهم أيضاً
السؤال الثاني فهل يقتضي ذلك إباحة كشف العورة لهم الجواب لا وإنما أباح الله تعالى ذلك من حيث كانت العادة أن لا تكشف العورة في غير تلك الأوقات فمتى كشفت المرأة عورتها مع ظن دخول الخدم إليها فذلك يحرم عليها فإن كان الخادم ممن يتناوله التكليف فيحرم عليه الدخول أيضاً إذا ظن أن هناك كشف عورة فإن قيل أليس من الناس من جوز للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مولاته قلنا من جوز ذلك أخرج الشعر من أن يكون عورة لحق الملك كما يخرج من أن يكون عورة لحق الرحم إذ العورة تنقسم ففيه ما يكون عورة على كل حال وفيه ما يختلف حاله بالإضافة فيكون عورة مع الأجنبي غير عورة غيره على ما تقدم ذكره
السؤال الثالث أتقولون هذه الإباحة مقصورة على الخدم دون غيرهم الجواب نعم وفي قوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ دلالة عى أن هذا الحكم يختص بالصغار دون البالغين على ما تقدم ذكره وقد نص تعالى على ذلك من بعد فقال وَإِذَا بَلَغَ الاْطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ والمراد من تجدد منه البلوغ يجب أن يكون بمنزلة من تقدم بلوغه في وجوب الاستئذان فهذا معنى قوله كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وقد يجوز أن يظن ظان أن من خدم في حال الصغر فإذا بلغ يجوز له أن لا يستأذن ويفارق حاله حال من لم يخدم ولم يملك فبين تعالى أنه كما حظر على البالغين الدخول إلا بالاستئذان فكذلك على هؤلاء إذا بلغوا وإن تقدمت لهم خدمة أو ثبت فيهم ملك لهن
السؤال الرابع الأمر بالاستئذان هل هو مختص بالمملوك ومن لم يبلغ الحلم أو يتناول الكل من ذوي الرحم والأجنبي أيضاً لو كان المملوك من ذوي الرحم هل يجب عليه الاستئذان الجواب أما الصورة الأولى فنعم إما لعموم قوله تعالى لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ ( النور 27 ) أو بالقياس على المملوك ومن لم يبلغ الحلم بطريق الأولى وأما الصورة الثانية فيجب عليه الاستئذان لعموم الآية
السؤال الخامس ما محل لَيْسَ عَلَيْكُمْ الجواب إذا رفعت ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ كان ذلك في محل الرفع على الوصف والمعنى هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاماً(24/29)
مقرراً للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة
السؤال السادس ما معنى قوله طَوفُونَ عَلَيْكُمْ الجواب قال الفراء والزجاج إنه كلام مستأنف كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم والطوافون الذين يكثرون الدخول والخروج والتردد وأصله من الطواف والمعنى يطوف بعضكم على بعض بغير إذن
السؤال السابع بم ارتفع بَعْضُكُمْ الجواب بالابتداء وخبره عَلَى بَعْضٍ على معنى طائف على بعض وإنما حذف لأن طَوفُونَ يدل عليه
أما قوله وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَاء الَّلَاتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً ففيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن السكيت امرأة قاعد إذا قعدت عن الحيض والجمع قواعد وإذا أردت القعود قلت قاعدة وقال المفسرون القواعد هن اللواتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر ولا مطمع لهن في الأزواج والأولى أن لا يعتبر قعودهن عن الحيض لأن ذلك ينقطع والرغبة فيهن باقية فالمراد قعودهن عن حال الزوج وذلك لا يكون إلا إذا بلغن في السن بحيث لا يرغب فيهن الرجال
المسألة الثانية قوله تعالى في النساء لاَ يَرْجُونَ كقوله إَّلا أَن يَعْفُونَ ( البقرة 237 )
المسألة الثالثة لا شبهة أنه تعالى لم يأذن في أن يضعن ثيابهن أجمع لما فيه من كشف كل عورة فلذلك قال المفسرون المراد بالثياب ههنا الجلباب والبرد والقناع الذي فوق الخمار وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ أَن يَضَعْنَ جَلَابِيبِهِنَّ وعن السدي عن شيوخه ( أن يضعن خمرهن رؤوسهن ) وعن بعضهم أنه قرأ ( أن يضعن من ثيابهن ) وإنما خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن وقد بلغن هذا المبلغ فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع الثياب ولذلك قال وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وإنما جعل ذلك أفضل من حيث هو أبعد من المظنة وذلك يقتضي أن عند المظنة يلزمهن أن لا يضعن ذلك كما يلزم مثله في الشابة
المسألة الرابعة حقيقة التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم سفينة بارج لا غطاء عليها والبرج سعة العين التي يرى بياضها محيطاً بسوادها كله لا يغيب منه شيء إلا أنه اختص بأن تنكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها
لَّيْسَ عَلَى الاٌّ عْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاٌّ عْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّة ً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَة ً طَيِّبَة ً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(24/30)
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المراد من رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض فقال ابن زيد المراد أنه لا حرج عليهم ولا إثم في ترك الجهاد وقال الحسن نزلت الآية في ابن أم مكتوم وضع الله الجهاد عنه وكان أعمى وهذا القول ضعيف لأنه تعالى عطف عليه قوله أَن تَأْكُلُواْ فنبه بذلك على أنه إنما رفع الحرج في ذلك وقال الأكثرون المراد منه أن القوم كانوا يحظرون الأكل مع هؤلاء الثلاثة وفي هذه المنازل فالله تعالى رفع ذلك الحظر وأزاله واختلفوا في أنهم لأي سبب اعتقدوا ذلك الحظر أما في حق الأعمى والأعرج والمريض فذكروا فيه وجوهاً أحدها أنهم كانوا لا يأكلون مع الأعمى لأنه لا يبصر الطعام الجيد فلا يأخذه ولا مع الأعرج لأنه لا يتمكن من الجلوس فإلى أن يأكل لقمة يأكل غيره لقمتين وكذا المريض لأنه لا يتأتى له أن يأكل كما يأكل الصحيح قال الفراء فعلى هذا التأويل تكون ( على ) بمعنى في يعني ليس عليكم في مواكلة هؤلاء حرج وثانيها أن العميان والعرجان والمرضى تركوا مواكلة الأصحاء أما الأعمى فقال إني لا أرى شيئاً فربما آخذ الأجود وأترك الأردأ وأما الأعرج والمريض فخافا أن يفسدا الطعام على الأصحاء لأمور تعتري المرضى ولأجل أن الأصحاء يتكرهون منهم ولأجل أن المريض ربما حمله الشره على أن يتعلق نظره وقلبه بلقمة الغير وذلك مما يكرهه ذلك الغير فلهذه الأسباب احترزوا عن مواكلة الأصحاء فالله تعالى أطلق لهم في ذلك وثالثها روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبدالله في هذه الآية أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يسلمون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا فكانوا يتحرجون من ذلك قالوا لا ندخلها وهم غائبون فنزلت هذه الآية رخصة لهم وهذا قول عائشة رضي الله عنها فعلى هذا معنى الآية نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج إلى الغزو ورابعها نقل عن ابن عباس ومقاتل بن حيان نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو وذلك أنه خرج مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غازياً وخلف بن مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك وأما في حق سائر الناس فذكروا وجهين الأول كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وقراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها فلما نزل قوله تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً ( النساء 29 ) أي بيعاً فعند ذلك امتنع الناس أن يأكل بعضهم من طعام بعض فنزلت هذه الآية الثاني قال قتادة كانت الأنصار في أنفسها قزازة وكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا(24/31)
استغنوا قال السدي كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فيتحرج لأنه ليس ثم رب البيت فأنزل الله تعالى هذه الرخصة
المسألة الثانية قال الزجاج الحرج في اللغة الضيق ومعناه في الدين الإثم
المسألة الثالثة أنه سبحانه أباح الأكل للناس من هذه المواضع وظاهر الآية يدل على أن إباحة الأكل لا تتوقف على الاستئذان واختلف العلماء فيه فنقل عن قتادة أن الأكل مباح ولكن لا يجمل وجمهور العلماء أنكروا ذلك ثم اختلفوا على وجوه الأول كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ لك بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه ) ومما يدل على هذا النسخ قوله لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِى ّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ( الأحزاب 53 ) وكان في أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من لهن الآباء والأخوة والأخوات فعم بالنهي عن ذهول بيوتهن إلا بعد الإذن في الدخول وفي الأكل فإن قيل إنما أذن تعالى في هذا لأن المسلمين لم يكونوا يمنعون قراباتهم هؤلاء من أن يأكلوا من بيوتهم حضروا أو غابوا فجاز أن يرخص في ذلك قلنا لو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص هؤلاء الأقارب بالذكر معنى لأن غيرهم كهم في ذلك الثاني قال أبو مسلم الأصفهاني المراد من هؤلاء الأقارب إذا لم يكونوا مؤمنين وذلك لأنه تعالى نهى من قبل عن مخالطتهم بقوله لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المجادلة 22 ) ثم إنه سبحانه أباح في هذه الآية ما حظره هناك قال ويدل عليه أن في هذه السورة أمر بالتسليم على أهل البيوت فقال حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ( النور 27 ) وفي بيوت هؤلاء المذكورين لم يأمر بذلك بل أمر أن يسلموا على أنفسهم والحاصل أن المقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة لا إثبات الإباحة في جميع الأقات الثالث أنه لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب أنفسهم بأكل من يدخل عليهم والعادة كالإذن في ذلك فيجوز أن يقال خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأغلب توجد فيهم ولذلك ضم إليهم الصديق ولما علمنا أن هذه الإباحة إنما حصلت في هذه الصورة لأجل حصول الرضا فيها فلا حاجة إلى القول بالنسخ
المسألة الرابعة أن الله تعالى ذكر أحد عشر موضعاً في هذه الآية أولها قوله وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ وفيه سؤال وهو أن يقال أي فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه في بيته وجوابه المراد في بيوت أزواجكم وعيالكم أضافه إليهم لأن بيت المرأة كبيت الزوج وهذا قول الفراء وقال ابن قتيبة أراد بيوت أولادهم فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء لأن الولد كسب والده وماله كماله قال عليه السلام ( إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ) والدليل على هذا أنه سبحانه وتعالى عدد الأقارب ولم يذكر الأولاد لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة كان الذي هو أقرب منهم أولى وثانيها بيوت الآباء وثالثها بيوت الأمهات ورابعها بيوت الإخوان وخامسها بيوت الأخوات وسادسها بيوت الأعمام وسابعها بيوت العمات وثامنها بيوت الأخوال وتاسعها بيوت الخالات وعاشرها قوله تعالى أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ وقرىء مفتاحه وفيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته وملك المفاتح كونها في يده وفي حفظه الثاني قال الضحاك يريد الزمنى الذين كانوا يحرسون للغزاة الثالث المراد بيوت المماليك لأن(24/32)
مال العبد لمولاه قال الفضل المفاتح واحدها مفتح بفتح الميم وواحد المفاتيح مفتح بالكسر الحادي عشر قوله مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ والمعنى أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحداً وجمعاً وكذلك الخليط والقطين والعدو ويحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد ( أخرجوا ) سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة وعن ابن عباس رضي الله عنهما الصديق أكثر من الوالدين لأن أهل الجنة لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات بل بالأصدقاء فقالوا مالنا من شافعين ولا صديق حميم وحكي أن أخاً للربيع بن خيثم في الله دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل فلما عاد أخبرته بذلك فلسروره بذلك قال إن صدقت فأنت حرة
المسألة الخامسة احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع لإباحة الله تعالى بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم فلا يكون ماله محرزاً منهم فإن قيل فيلزم أن لا يقطع إذا سرق من مال صديقه قلنا من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له
أما قوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فقال أكثر المفسرين نزلت الآية في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فأعلم الله تعالى أن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال عكرمة وأبو صالح رحمهما الله كانت الأنصار إذا نزل بواحد منهم ضيف لم يأكل إلا وضيفه معه فرخص الله لهم أن يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين ومتفرقين وقال الكلبي كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً على حدة وكذلك للزمن والمريض فبين الله لهم أن ذلك غير واجب وقال آخرون كانوا يأكلون فرادى خوفاً من أن يحصل عند الجمعية ما ينفر أو يؤذي فبين الله تعالى أنه غير واجب وقوله جَمِيعاً نصب على الحال وأشتاتاً جمع شت وشتى جمع شتيت وشتان تثنية شت قاله المفضل وقيل الشت مصدر بمعنى التفرق ثم يوصف به ويجمع
أما قوله تعالى أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ فالمعنى أنه تعالى جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 29 ) قال ابن عباس فإن لم يكن أحد فعلى نفسه ليقل السلام علينا من قبل ربنا وإذا دخل المسجد فليقل السلام على رسول الله وعلينا من ربنا قال قتادة وحدثنا أن الملائكة ترد عليه قال القفال وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل السلام على من اتبع الهدى وقوله تَحِيَّة ً نصب على المصدر كأنه قال فحيوا تحية من عند الله أي مما أمركم الله به قال ابن عباس رضي الله عنهما من قال السلام عليكم معناه اسم الله عليكم وقوله مُبَارَكَة ً طَيّبَة ً قال الضحاك معنى البركة فيه تضعيف الثواب وقال الزجاج أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك ثابت لما فيه من الأجر والثواب وأنه إذا أطاع الله فيه أكثر خيره وأجزل أجره كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ أي يفصل الله شرائعه(24/33)
لكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لتفهموا عن الله أمره ونهيه وروى حميد عن أنس قال ( خدمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته لم فعلته ولا قال لي في شيء تركته لم تركته وكنت واقفاً على رأس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصب الماء على يديه فرفع رأسه إلي وقال ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بهن قلت بأبي وأمي أنت يا رسول الله بلى فقال من لقيت من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك وإذا دخلت بيتاً فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة ( الأبرار ) الأوابين )
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرىء عَلَى أَمْرٍ جَمِيعٌ ثم ذكروا في قوله عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ وجوهاً أحدها أن الأمر الجامع هو الأمر الموجب للاجتماع عليه فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز وذلك نحو مقاتلة عدو أو تشاور في خطب مهم أو الأمر الذي يعم ضرره ونفعه وفي قوله إِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ إشارة إلى أنه خطب جليل لا بد لرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أرباب التجارب والآراء ليستعين بتجاربهم فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يشق على قلبه وثانيها عن الضحاك في أمر جامع الجمعة والأعياد وكل شيء تكون فيه الخطبة وثالثها عن مجاهد في الحرب وغيره
المسألة الثانية اختلفوا في سبب نزوله قال الكلبي كان ( صلى الله عليه وسلم ) يعرض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم فينظر المنافقون يميناً وشمالاً فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً فنزلت هذه الآية فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته حتى يستأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان(24/34)
المنافقون يخرجون بغير إذن
المسألة الثالثة قال الجبائي هذا يدل على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ولولا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي الإيمان وإن تركوا الاستئذان وذلك يدل على أن كل فرض لله تعالى واجتناب محرم من الإيمان والجواب هذا بناء على أن كلمة إِنَّمَا للحصر وأيضاً فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافا ولا نزاع في أنه كفر
أما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ المعنى تعظيماً لك ورعاية للأدب أُولَائِكَ هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه قال الضحاك ومقاتل المراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك لأنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله فأذن له وقال له انطلق فوالله ما أنت بمنافق يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم وإذا استأذناه لم يأذن لنا فوالله ما نراه يعدل وقال ابن عباس رضي الله عنهما إن عمر استأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العمرة فأذن له ثم قال يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك وفي قوله وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ وجهان أحدهما أن يستغفر لهم تنبيهاً على أن الأولى أن لا يقع الاستئذان منهم وإن أذن لأن الاستغفار يدل على الذنب وربما ذكر عند بعض الرخص الثاني يحتمل أنه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة على تمسكهم بآداب الله تعالى في الاستئذان
المسألة الثانية قال قتادة نسخت هذه الآية قوله تعالى لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 )
المسألة الثالثة الآية تدل على أنه سبحانه فوض إلى رسوله بعض أمر الدين ليجتهد فيه برأيه
أما قوله تعالى لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً ففيه وجوه أحدها وهو اختيار المبرد والقفال ولا تجعلوا أمره إياكم ودعاءه لكم كما يكون من بعضكم لبعض إذ كان أمره فرضاً لازماً والذي يدل على هذا قوله عقيب هذا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ وثانيها لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً يا محمد ولكن قولوا يا رسول الله يا نبي الله عن سعيد بن جبير وثالثها لا ترفعوا أصواتكم في دعائه وهو المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ( الحجرات 3 ) عن ابن عباس ورابعها احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره والوجه الأول أقرب إلى نظم الآية
أما قوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فالمعنى ( يتسللون ) قليلاً قليلاً ونظير تسلل تدرج وتدخل واللواذ الملاوذة وهي أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا يعني ( يتسللون ) عن الجماعة ( على سبيل الخفية ) واستتار بعضهم ببعض و ( لواذاً ) حال أي ملاوذين وقيل كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيؤذن له فينطلق الذي لم يؤذن له معه وقرىء لِوَاذاً بالفتح ثم اختلفوا على وجوه أحدها قال مقاتل كان المنافقون تثقل عليهم خطبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحابه ويخرجون من غير استئذان وثانيها قال مجاهد يتسللون من الصف في القتال وثالثها قال ابن قتيبة هذا كان في حفر الخندق ورابعها يتسللون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعن كتابه وعن ذكره وقوله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ معناه التهديد بالمجازاة(24/35)
أما قوله فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الأخفش ( عن ) صلة والمعنى يخالفون أمره وقال غيره معناه يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته فدخلت ( عن ) لتضمين المخالفة معنى الإعراض
المسألة الثانية كما تقدم ذكر الرسول فقد تقدم ذكر الله تعالى لكن القصد هو الرسول فإليه ترجع الكناية وقال أبو بكر الرازي الأظهر أنها لله تعالى لأنه يليه وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها
المسألة الثالثة الآية تدل على أن ظاهر الأمر للوجوب ووجه الاستدلال به أن نقول تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ومخالف الأمر مستحق للعقاب فتارك المأمور به مستحق للعقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك إنما قلنا إن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والمخالفة ضد الموافقة فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه فثبت أن تارك المأمور به مخالف وإنما قلنا إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فأمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العقاب والأمر بالحذر عن العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضى لنزول العقاب فثبت أن مخالف أمر الله تعالى أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر قوله موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ومخالفته عبارة عن الإخلال بمقتضاه قلنا لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه فما الدليل عليه ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين أحدهما أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي به على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة للأمر الثاني أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقاً واجب القبول فمخالفته تكون عبارة عن إنكار كونه حقاً واجب القبول سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكنه معارض بوجوه أخر وهو أنه لو كان ترك المأمور به مخالفة للأمر لكان ترك المندوب لا محالة مخالفة لأمر الله تعالى وذلك باطل وإلا لاستحق العقاب على ما بينتموه في المقدمة الثانية سلمنا أن تارك المأمور به مخالف للأمر فلم قلت إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ قلنا لا نسلم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفاً للأمر بالحذر بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالفة الأمر فلم لا يجوز أن يكون كذلك سلمنا ذلك لكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر فلم قلت إن مخالف الأمر لا يلزمه الحذر فإن قلت لفظة ( عن ) صلة زائدة فنقول الأصل في الكلام لا سيما في كلام الله تعالى أن لا يكون زائداً سلمنا دلالة الآية على أن مخالف أمر الله تعالى مأمور بالحذر عن العذاب فلم قلت إنه يجب عليه الحذر عن العذاب أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به لكن لم قلت إن الأمر للوجوب وهذا أول المسألة فإن قلت هب أنه لا يدل على وجوب الحذر لكن لا بد وأن يدل على حسن الحذر وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب قلت لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام المقتضي لنزول العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب ولهذا يحسن الاحتياط وعندنا مجرد الاحتمال قائم لأن هذه المسألة احتمالية لا قطعية سلمنا دلالة الآية على وجود ما يقتضي نزول(24/36)
العقاب لكن لا في كل أمر بل في أمر واحد لأن قوله عَنْ أَمْرِهِ لا يفيد إلا أمراً واحداً وعندما أن أمراً واحداً يفيد الوجوب فلم قلت إن كل أمر كذلك سلمنا أن كل أمر كذلك لكن الضمير في قوله عَنْ أَمْرِهِ يحتمل عوده إلى الله تعالى وعوده إلى الرسول والآية لا تدل إلا على أن الأمر للوجوب في حق أحدهما فلم قلتم إنه في حق الآخر كذلك الجواب قوله لم قلتم إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال إن هذا العبد موافق للسيد ويجري على وفق أمره ولو لم يمتثل أمره يقال إنه ما وافقه بل خالفه وحسن هذا الإطلاق معلوم بالضرورة من أهل اللغة فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه قوله الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر قلنا لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر فنقول لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله افعل لا يدل إلا على اقتضاء الفعل وإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر فلا توجد الموافقة فوجب حصول المخالفة لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة قوله الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقاً واجب القبول قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر بل يكون موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق فإن موافقة الشيء عبارة عن الإتيان بما يقتضي تقرير مقتضاه فإذا دل على حقية الشيء كان الاعتراف بحقيته يقتضي تقرير مقتضى ذلك الدليل أما الأمر فلما اقتضى دخول الفعل في الوجود كانت موافقته عبارة عما يقرر ذلك الدخول وإدخاله في الوجود يقتضي تقرير دخوله في الوجود فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه قوله لو كان كذلك لكان تارك المندوب مخالفاً فوجب أن يستحق العقاب قلنا هذا الإلزام إنما يصح أن لو كان المندوب مأموراً به وهو ممنوع قوله لم لا يجوز أن يكون قوله فَلْيَحْذَرِ أمراً بالحذر عن المخالف لا أمراً للمخالف بالحذر قلنا لو كان كذلك لصار التقدير فليحذر المتسللون لواذاً عن الذين يخالفون أمره وحينئذ يبقى قوله أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ضائعاً لأن الحذر ليس فعلاً يتعدى إلى مفعولين قوله كلمة ( عن ) ليست بزائدة قلنا ذكرنا اختلاف الناس فيها في المسألة الأولى قوله لم قلتم إن قوله فَلْيَحْذَرِ يدل على وجوب الحذر عن العقاب قلا لا ندعي وجوب الحذر ولكن لا أقل من جواز الحذر وذلك مشروط بوجود ما يقتضي وقوع العقاب قوله لم قلت إن الآية تدل على أن كل مخالف للأمر يستحق العقاب قلنا لأنه تعالى رتب نزول العقاب على المخالفة فوجب أن يكون معللاً به فيلزم عمومه لعموم العلة قوله هب أن أمر الله أو أمر رسوله للوجوب فلم قلتم إن الأمر كذلك قلنا لأنه لا قائل بالفرق والله أعلم
المسألة الرابعة من الناس من قال لفظ الأمر مشترك بين الأمر القولي وبين الشأن والطريق كما يقال أمر فلان مستقيم وإذا ثبت ذلك كان قوله تعالى عَنْ أَمْرِهِ يتناول قول الرسول وفعله وطريقته وذلك يقتضي أن كل ما فعله عليه الصلاة والسلام يكون واجباً علينا وهذه المسألة مبنية على أن الكناية في قوله عَنْ أَمْرِهِ راجعة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أما لو كانت راجعة إلى الله تعالى فالبحث ساقط بالكلية وتمام تقرير ذلك ذكرناه في أصول الفقه والله أعلم
أما قوله تعالى أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فالمراد أن مخالفة الأمر توجب أحد هذين(24/37)
الأمرين والمراد بالفتنة العقوبة في الدنيا والعذاب الأليم عذاب الآخرة وإنما ردد الله تعالى حال ذلك المخالف بين هذين الأمرين لأن ذلك المخالف قد يموت من دون عقاب الدنيا وقد يعرض له ذلك في الدنيا فلهذا السبب أورده تعالى على سبيل الترديد ثم قال الحسن الفتنة هي ظهور نفاقهم وقال ابن عباس رضي الله عنهما القتل وقيل الزلازل والأهوال وعن جعفر بن محمد يسلط عليهم سلطان جائر
أما قوله تعالى أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فذاك كالدلالة على قدرته تعالى عليهما وعلى ما بينهما وما فيهما واقتداره على المكلف فيما يعامل به من المجازاة بثواب أو بعقاب وعلمه بما يخفيه ويعلنه وكل ذلك كالزجر عن مخالفة أمره
أما قوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ فإنما أدخل قَدْ لتوكيد علمه بما هم عليه من المخالفة في الدين والنفاق ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد وذلك لأن قد إذا أدخلت على المضارع كانت بمعنى ربما فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير كما في قوله الشاعر فإن يمس مهجور الفناء فربما
أقام به بعد الوفود وفود
والخطاب والغيبة في قوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يجوز أن يكونا جميعاً للمنافقين على طريق الالتفات ويجوز أن يكون ما أنتم عليه عاماً ويرجعون للمنافقين وقد تقدم في غير موضع أن الرجوع إليه هو الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له فلا وجه لإعادته والله أعلم
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم(24/38)
سورة الفرقان
سبع وسبعون آية مكية
تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
اعلم أن الله سبحانه وتعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة ثم ختمها بذكر صفات العباد المخلصين الموقنين ولما كان إثبات الصانع وإثبات صفات جلاله يجب أن يكون مقدماً على الكل لا جرم افتتح الله هذه السورة بذلك فقال تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج تبارك تفاعل من البركة والبركة كثرة الخير وزيادته وفيه معنيان أحدهما تزايد خيره وتكاثر وهو المراد من قوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) والثاني تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في ذاته وصفاته وأفعاله وهو المراد من قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) وأما تعاليه عن كل شيء في ذاته فيحتمل أن يكون المعنى جل بوجوب وجوده وقدمه عن جواز الفناء والتغير عليه وأن يكون المعنى جل بفردانيته ووحدانيته عن مشابهة شيء من الممكنات وأما تعاليه عن كل شيء في صفاته فيحتمل أن يكون المعنى جل أن يكون علمه ضرورياً أو كسبياً أو تصوراً أو تصديقاً وفي قدرته أن يحتاج إلى مادة ومدة ومثال وجلب غرض ومنال وأما في أفعاله فجل أن يكون الوجود والبقاء وصلاح حال الوجود إلا من قبله وقال آخرون أصل الكلمة تدل على البقاء وهو مأخوذ من بروك البعير ومن بروك الطير على الماء وسميت البركة بركة لثبوت الماء فيها والمعنى أنه سبحانه وتعالى باق في ذاته أزلاً وأبداً ممتنع التغير وباق في صفاته ممتنع التبدل ولما كان سبحانه وتعالى هو الخالق لوجوه المنافع والمصالح والمبقى لها وجب وصفه سبحانه بأنه تبارك وتعالى(24/39)
المسألة الثانية قال أهل اللغة كلمة ( الذي ) موضوعة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه بقضية معلومة وعند هذا يتوجه الإشكال وهو أن القوم ما كانوا عالمين بأنه سبحانه هو الذي نزل الفرقان فكيف حسن ههنا لفظ ( الذي ) وجوابه أنه لما قامت الدلالة على كون القرآن معجزاً ظهر بحسب الدليل كونه من عند الله فلقوة الدليل وظهوره أجراه سبحانه وتعالى مجرى المعلوم
المسألة الثالثة لا نزاع أن الفرقان هو القرآن وصف بذلك من حيث إنه سبحانه فرق به بين الحق والباطل في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبين الحلال والحرام أو لأنه فرق في النزول كما قال وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ( الإسراء 106 ) وهذا التأويل أقرب لأنه قال نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ولفظة ( نزل ) تدل على التفريق وأما لفظة ( أنزل ) فتدل على الجمع ولذلك قال في سورة آل عمران نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ ( آل عمران 3 ) واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال أولاً تَبَارَكَ ومعناه كثرة الخير والبركة ثم ذكر عقبه أمر القرآن دل ذلك على أن القرآن منشأ الخيرات وأعم البركات لكن القرآن ليس إلا منبعاً للعلوم والمعارف والحكم فدل هذا على أن العلم أشرف المخلوقات وأعظم الأشياء خيراً وبركة
المسألة الرابعة لا نزاع أن المراد من العبد ههنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعن ابن الزبير على عباده وهم رسول الله وأمته كما قال لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ( الأنبياء 10 ) قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ( البقرة 136 ) وقوله لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً فالمراد ليكون هذا العبد نذيراً للعالمين وقول من قال إنه راجع إلى الفرقان فأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى ( الأسراء 9 ) فبعيد وذلك لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف وإذا وصف به القرآن فهو مجاز وحمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن هو الواجب ثم قالوا هذه الآية تدل على أحكام الأول أن العالم كل ما سوى الله تعالى ويتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة لكنا أجمعنا أنه عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الملائكة فوجب أن يكون رسولاً إلى الجن والإنس جميعاً ويبطل بهذا قول من قال إنه كان رسولاً إلى البعض دون البعض الثاني أن لفظ الْعَالَمِينَ يتناول جميع المخلوقات فدلت الآية على أنه رسول للخلق إلى يوم القيامة فوجب أن يكون خاتم الأنبياء والرسل الثالث قالت المعتزلة دلت الآية على أنه سبحانه أراد الإيمان وفعل الطاعات من الكل لأنه إنما بعثه إلى الكل ليكون نذيراً للكل وأراد من الكل الاشتغال بالحسن والإعراض عن القبيح وعارضهم أصحابنا بقوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( لأعراف 179 ) الآية الرابع لقائل أن يقول إن قوله تَبَارَكَ كما دل على كثرة الخير والبركة لا بد وأن يكون المذكور عقيبه ما يكون سبباً لكثرة الخير والمنافع والإنذار يوجب الغم والخوف فكيف يليق هذا لهذا الموضع جوابه أن هذا الإنذار يجري مجرى تأديب الولد وكما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر كان الإحسان إليه أكثر لما أن ذاك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيراً كان رجوع الخلق إلى الله أكثر فكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة وذلك لأنه سبحانه لما وصف نفسه بأنه الذي يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ولم يذكر ألبتة شيئاً من منافع الدنيا(24/40)
ثم إنه سبحانه وصف ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء أولها قوله الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا كالتنبيه على الدلالة على وجوده سبحانه لأنه لا طريق إلى إثباته إلا بواسطة احتياج أفعاله إليه فكان تقديم هذه الصفة على سائر الصفات كالأمر الواجب وقوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والاْرْضِ إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه بزمان حدوثها وزمان بقائها في ماهيتها وفي وجودها وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء وثانيها قوله وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فبين سبحانه أنه هو المعبود أبداً ولا يصح أن يكون غيره معبوداً ووارثاً للملك عنه فتكون هذه الصفة كالمؤكدة لقوله تَبَارَكَ ولقوله الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا كالرد على النصارى وثالثها قوله وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ والمراد أنه هو المنفرد بالإلهية وإذا عرف العبد ذلك انقطع خوفه ورجاؤه عن الكل ولا يبقى مشغول القلب إلا برحمته وإحسانه وفيه الرد على الثنوية والقائلين بعبادة النجوم والقائلين بعبادة الأوثان ورابعها قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وفيه سؤالات
الأول هل في قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء دلالة على أنه سبحانه خالق لأعمال العباد والجواب نعم من وجهين الأول أن قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء يتناول جميع الأشياء فيتناول أفعال العباد والثاني وهو أنه تعالى بعد أن نفى الشريك ذكر ذلك والتقدير أنه سبحانه لما نفى الشريك كأن قائلاً قال ههنا أقوام يعترفون بنفي الشركاء والأنداد ومع ذلك يقولون إنهم يخلقون أفعال أنفسهم فذكر الله تعالى هذه الآية لتكون معينة في الرد عليهم قال القاضي الآية لا تدل عليه لوجوه أحدها أنه سبحانه صرح بكون العبد خالقاً في قوله وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ ( المائدة 110 ) وقال فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) وثانيها أنه سبحانه تمدح بذلك فلا يجوز أن يريد به خلق الفساد وثالثها أنه سبحانه تمدح بأنه قدره تقديراً ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره فثبت بهذه الوجوه أنه لا بد من التأويل لو دلت الآية بظاهرها عليه فكيف ولا دلالة فيها ألبتة لأن الخلق عبارة عن التقدير فهو لا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير وذلك إنما يظهر في الأجسام لا في الأعراض والجواب
أما قوله وَإِذْ تَخْلُقُ وقوله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فهما معارضان بقوله اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) وبقوله هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ( فاطر 3 ) وأما قوله لا يجوز التمدح بخلق الفساد قلنا لم لا يجوز أن يقع التمدح به نظراً إلى تقادير القدرة وإلى أن صفة الإيجاد من العدم والإعدام من الوجود ليست إلا له وأما قوله الخلق لا يتناول إلا الأجسام فنقول لو كان كذلك لكان قوله خَلَقَ كُلَّ شَى ْء خطأ لأنه يقتضي إضافة الخلق إلى جميع الأشياء مع أنه لا يصح في العقل إضافته إليها
السؤال الثاني في الخلق معنى التقدير ( فقوله ) وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( معناه ) وقدر كل شيء فقدره تقديراً والجواب المعنى ( أنه ) أحدث كل شيء إحداثاً يراعي فيه التقدير والتسوية فقدره تقديراً وهيأه لما يصلح له مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر ( المستوي ) الذي تراه فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة ( به في باب ) الدين والدنيا وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير فقدره لأمر ما ومصلحة ما مطابقاً لما قدر ( له ) غير ( متخلف ) عنه
السؤال الثالث هل في قوله فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً دلالة على مذهبكم الجواب نعم وذلك من وجوه(24/41)
أحدها أن التقدير في حقنا يرجع إلى الظن والحسبان أما في حقه سبحانه فلا معنى له إلا العلم به والإخبار عنه وذلك متفق عليه بيننا وبين المعتزلة فلما علم في الشيء الفلاني أنه لا يقع فلو وقع ذلك الشيء لزم انقلاب علمه جهلاً وانقلاب خبره الصدق كذباً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فإذن وقوع ذلك الشيء محال والمحال غير مراد فذلك الشيء غير مراد وإنه مأمور به فثبت أن الأمر والإرادة لا يتلازمان وظهر أن السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وثانيها أنه عند حصول القدرة والداعية الخالصة إن وجب الفعل كان فعل العبد يوجب فعل الله تعالى وحينئذ يبطل قول المعتزلة وإن لم يجب فإن استغنى عن المرجح فقد وقع الممكن لا عن مرجح وتجويزه يسد باب إثبات الصانع وإن لم يستغن عن المرجح فالكلام يعود في ذلك المرجح ولا ينقطع إلا عند الانتهاء إلى واجب الوجود وثالثها أن فعل العبد لو وقع بقدرته لما وقع إلا الشيء الذي أراد تكوينه وإيجاده لكن الإنسان لا يريد إلا العلم والحق فلا يحصل له إلا الجهل والباطل فلو كان الأمر بقدرته لما كان كذلك فإن قيل إنما كان لأنه اعتقد شبهة أوجبت له ذلك الجهل قلنا إن اعتقد تلك الشبهة لشبهة أخرى لزم التسلسل وهو محال فلا بد من الانتهاء إلى جهل أول ووقع في قلب الإنسان لا بسبب جهل سابق بل الإنسان أحدثه ابتداء من غير موجب وذلك محال لأن الإنسان قط لا يرضى لنفسه بالجهل ولا يحاول تحصيل الجهل لنفسه بل لا يحاول إلا العلم فوجب أن لا يحصل له إلا ما قصده وأراده وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الكل بقضاء سار وقدر نافذ وهو المراد من قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَة ً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاًّنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَواة ً وَلاَ نُشُوراً
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردف ذلك بتزييف مذهب عبدة الأوثان وبين نقصانها من وجوه أحدها أنها ليست خالقة للأشياء والإله يجب أن يكون قادراً على الخلق والإيجاد وثانيها أنها مخلوقة والمخلوق محتاج والإله يجب أن يكون غنياً وثالثها أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً ومن كان كذلك فهو لا يملك لغيره أيضاً نفعاً ومن كان كذلك فلا فائدة في عبادته ورابعها أنها لا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً أي لا تقدر على الإحياء والإماتة في زمان التكليف وثانياً في زمان المجازاة ومن كان كذلك كيف يسمى إلهاً وكيف يحسن عبادته مع أن حق من يحق له العبادة أن ينعم بهذه النعم المخصوصة وههنا سؤالات
الأول قوله وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً هل يختص بعبدة الأوثان أو يدخل فيه النصارى وعبدة الكواكب وعبدة الملائكة والجواب قال القاضي بعيد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع فالأقرب أن المراد به عباد الأصنام ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن(24/42)
لمعبودهم كثرة ولقائل أن يقول قوله وَاتَّخَذُواْ صيغة جمع وقوله ءالِهَة ً جمع والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل المفرد بالمفرد فلم يكن كون معبود النصارى واحداً مانعاً من دخوله تحت هذا اللفظ
السؤال الثاني احتج بعض أصحابنا بقوله وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقال إن الله تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئاً وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد فلو كان العبد خالقاً لكان معبوداً إلهاً أجاب الكعبي عنه بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى وقال بعض أصحابنا في الخلق إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب ولا يكون ذلك إلا لله تعالى ثم قال وقد قال تعالى أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ( الأعراف 195 ) في وصف الأصنام أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد فإذا قالوا لا قيل فكذلك ما ذكرتم وقد قال تعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) هذا كله كلام الكعبي والجواب قوله لا يطلق اسم الخالق على العبد قلنا بل يجب ذلك لأن الخلق في اللغة هو التقدير والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازاً في الله تعالى فكيف يمكنكم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد أما قوله تعالى أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا فالعيب إنما وقع عليهم بالعجز فلا جرم أن كل من تحقق العجز في حقه من بعض الوجوه لم يحسن عبادته وأما قوله تعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فقد تقدم الكلام عليه
واعلم أن هذه الآية لا يقوى استدلال أصحابنا بها لاحتمال أن العيب لا يحصل إلا بمجموع أمرين أحدهما أنهم ليسوا بخالقين والثاني أنهم مخلوقون والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه مخلوق فلزم أن لا يكون إلهاً معبوداً
السؤال الثالث هل تدل هذه الآية على البعث الجواب نعم لأنه تعالى ذكر النشور ومعناه أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين والعقاب إلى العصاة فمن لا يكون كذلك وجب أن لا يصلح للإلهية
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَاواتِ والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَقَالُواْ مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاٌّ سْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّة ٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاٌّ مْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً(24/43)
اعلم أنه سبحانه تكلم أولاً في التوحيد وثانياً في الرد على عبدة الأوثان وثالثاً في هذه الآية تكلم في مسألة النبوة وحكى سبحانه شبههم في إنكار نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الشبهة الأولى قولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانه عليه قوم آخرون ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ ( النحل 103 ) واعلم أنه يحتمل أن يريدوا به أنه كذب في نفسه ويحتمل أن يريدوا به أنه كذب في إضافته إلى الله تعالى ثم ههنا بحثان
الأول قال أبو مسلم الافتراء افتعال من فريت وقد يقال في تقدير الأديم فريت الأديم فإذا أريد قطع الإفساد قيل أفريت وافتريت وخلقت واختلقت ويقال فيمن شتم امرءاً بما ليس فيه افترى عليه
البحث الثاني قال الكلبي ومقاتل نزلت في النضر بن الحارث فهو الذي قال هذا القول وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ يعني عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار ( غلام عامر ) بن الحضرمي وجبر مولى عامر وهؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب وكانوا يقرأون التوراة ويحدثون أحاديث منها فلما أسلموا وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتعهدهم فمن أجل ذلك قال النضر ما قال واعلم أن الله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً وفيه أبحاث
الأول أن هذا القدر إنما يكفي جواباً عن الشبهة المذكورة لأنه قد علم كل عاقل أنه عليه السلام تحداهم بالقرآن وهم النهاية في الفصاحة وقد بلغوا في الحرص على إبطال أمره كل غاية حتى أخرجهم ذلك إلى ما وصفوه به في هذه الآيات فلو أمكنهم أن يعارضوه لفعلوا ولكان ذلك أقرب إلى أن يبلغوا مرادهم فيه مما أوردوه في هذه الآية وغيرها ولو استعان محمد عليه السلام في ذلك بغيره لأمكنهم أيضاً أن يستعينوا بغيرهم لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كأولئك المنكرين في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة فلما لم يفعلوا ذلك والحالة هذه علم أن القرآن قد بلغ النهاية في الفصاحة وانتهى إلى حد الإعجاز ولما تقدمت هذه الدلالة مرات وكرات في القرآن وظهر بسببها سقوط هذا السؤال ظهر أن إعادة هذا السؤال بعد تقدم هذه الأدلة الواضحة لا يكون إلا للتمادي في الجهل والعناد فلذلك اكتفى الله في الجواب بقوله فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً
البحث الثاني قال الكسائي قوله تعالى فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً أي أتوا ظلماً وكذباً وهو كقوله لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً فانتصب بوقوع المجيء عليه وقال الزجاج انتصب بنزع الخافض أي جاءوا بالظلم والزور
البحث الثالث أن الله تعالى وصف كلامهم بأنه ظلم وبأنه زور أما أنه ظلم فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه فقد وضعوا الشيء في غير موضعه وذلك هو الظلم وأما الزور فلأنهم كذبوا فيه وقال أبو مسلم الظلم تكذيبهم الرسول والرد عليه والزور كذبهم عليهم(24/44)
الشبهة الثانية لهم قوله تعالى وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً وفيه أبحاث
البحث الأول الأساطير ما سطره المتقدمون كأحاديث رستم واسفنديار جمع أسطار أو أسطورة كأحدوثة اكْتَتَبَهَا انتسخها محمد من أهل الكتاب يعني عامراً ويساراً وجبراً ومعنى اكتتب ههنا أمر أن يكتب له كما يقال احتجم وافتصد إذا أمر بذلك فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ أي تقرأ عليه والمعنى أنها كتبت له وهو أمي فهي تلقي عليه من كتابه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب
أما قوله بُكْرَة ً وَأَصِيلاً قال الضحاك ما يملى عليه بكرة يقرؤه عليكم عشية وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة
البحث الثاني قال الحسن قوله فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً كلام الله ذكره جواباً عن قولهم كأنه تعالى قال إن هذه الآيات تملى عليه بالوحي حالاً بعد حال فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين وأما جمهور المفسرين فقد اتفقوا على أن ذلك من كلام القوم وأرادوا به أن أهل الكتاب أملوا عليه في هذه الأوقات هذه الأشياء ولا شك أن هذا القول أقرب لوجوه أحدها شدة تعلق هذا الكلام بما قبله فكأنهم قالوا اكتتب أساطير الأولين فهي تملى عليه وثانيها أن هذا هو المراد بقولهم وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ وثالثها أنه تعالى أجاب بعد ذلك عن كلامهم بقوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ قال صاحب ( الكشاف ) وقول الحسن إنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار وحق الحسن أن يقف على الاْوَّلِينَ وأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وفيه أبحاث
البحث الأول في بيان أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة وتقريره ما قدمنا أنه عليه السلام تحداهم بالمعارضة وظهر عجزهم عنها ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن بأن استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد فيأتوا بمثل هذا القرآن فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه فلهذا قال قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ وذلك لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالماً بكل المعلومات ظاهرها وخافيها من وجوه أحدها أن مثل هذه الفصاحة لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات وثانيها أن القرآن مشتمل على الإخبار عن الغيوب وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات وثالثها أن القرآن مبرأ عن النقص وذلك لا يتأتى إلا من العالم على ما قال تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) ورابعها اشتماله على الأحكام التي هي مقتضية لمصالح العالم ونظام العباد وذلك لا يكون إلا من العالم بكل المعلومات وخامسها اشتماله على أنواع العلوم وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات فلما دل القرآن من هذه الوجوه على أنه ليس إلا كلام بكل المعلومات لا جرم اكتفى في جواب شبههم بقوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ
البحث الثاني اختلفوا في المراد بالسر فمنهم من قال المعنى أن العالم بكل سر في السموات والأرض هو الذي يمكنه إنزال مثل هذا الكتاب وقال أبو مسلم المعنى أنه أنزله من يعلم السر فلو كذب عليه لانتقم منه لقوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الحاقة 44 ) وقال آخرون المعنى(24/45)
أنه يعلم كل سر خفي في السموات والأرض ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله مع علمكم بأن ما يقوله حق ضرورة وكذلك باطن أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبراءته مما تتهمونه به وهو سبحانه مجازيكم ومجازيه على ما علم منكم وعلم منه
البحث الثالث إنما ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع لوجهين الأول قال أبو مسلم المعنى أنه إنما أنزله لأجل الإنذار فوجب أن يكون غفوراً رحيماً غير مستعجل في العقوبة الثاني أنه تنبيه على أنهم استوجبوا بمكايدتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً ولكن صرف ذلك عنهم كونه غفوراً رحيماً يمهل ولا يعجل
الشبهة الثالثة وهي في نهاية الركاكة ذكروا له صفات خمسة فزعموا أنها تخل بالرسالة إحداها قولهم مَّالِ هَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وثانيتها قولهم وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ يعني أنه لما كان كذلك فمن أين له الفضل علينا وهو مثلنا في هذه الأمور وثالثتها قولهم لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً يصدقه أو يشهد له ويرد على من خالفه ورابعتها قولهم أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي من السماء فينفقه فلا يحتاج إلى التردد لطلب المعاش وخامستها قولهم أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّة ٌ يَأْكُلُ مِنْهَا قرأ حمزة والكسائي نَّأْكُلَ مِنْهَا بالنون وقرأ الباقون بالياء والمعنى إن لم يكن لك كنز فلا أقل من أن تكون كواحد من الدهاقين فيكون لك بستان تأكل منه وسادستها قولهم إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا وقد تقدمت هذه القصة في آخر سورة بني إسرائيل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه أحدها قوله انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً وفيه أبحاث
الأول أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة وبيانه أن الذي يتميز الرسول به عن غيره هو المعجزة وهذه الأشياء التي ذكروها لا يقدح شيء منها في المعجزة فلا يكون شيء منها قادحاً في النبوة فكأنه تعالى قال انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلاً ألبتة إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول وفيه وجه آخر وهو أنهم لما ضلوا لم يبق فيهم استطاعة قبول الحق وهذا إنما يصح على مذهبنا وتقريره بالعقل ظاهر وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مستوى الداعي إلى الحق والباطل وإما أن يكون داعيته إلى أحدهما أرجح من داعيته إلى الثاني فإن كان الأول فحال الاستواء ممتنع الرجحان فيمتنع الفعل وإن كان الثاني فحال رجحان أحد الطرفين يكون حصول الطرف الآخر ممتنعاً فثبت أن حال رجحان الضلالة في قلبه استحال منه قبول الحق وما كان محالاً لم يكن عليه قدرة فثبت أنهم لما ضلوا ما كانوا مستطيعين(24/46)
تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَة ِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة فقوله تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذالِكَ أي من الله ذكروه من نعم الدنيا كالكنز والجنة وفسر ذلك الخير بقوله جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً نبه بذلك سبحانه على أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه ولكنه تعالى يدبر عباده بحسب الصالح أو على وفق المشيئة ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله فيفتح على واحد أبواب المعارف والعلوم ويسد عليه أبواب الدنيا وفي حس الآخر بالعكس وما ذاك إلا أنه فعال لما يريد وههنا مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس خير من ذلك مما عيروك بفقده الجنة لأنهم عيروك بفقد الجنة الواحدة وهو سبحانه قادر على أن يعطيك جنات كثيرة وقال في رواية عكرمة خَيْراً مّن ذالِكَ أي من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش
المسألة الثانية قوله إِن شَاء معناه أنه سبحانه قادر على ذلك لا أنه تعالى شاك لأن الشك لا يجوز على الله تعالى وقال قوم ءانٍ ههنا بمعنى إذا أي قد جعلنا لك في الآخرة جنات وبنينا لك قصوراً وإنما أدخل إن تنبيهاً للعباد على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته وأنه معلق على محض مشيئته وأنه ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة
المسألة الثالثة القصور جماعة قصر وهو المسكن الرفيع ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكناً ومتنزهاً ويجوز أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة وقال مجاهد إن شاء جعل لك جنات في الآخرة وقصوراً في الدنيا
المسألة الرابعة اختلف الفراء في قوله وَيَجْعَلَ فرفع ابن كثير وابن عامر وعاصم اللام وجزمه الآخرون فمن جزم فلأن المعنى إن شاء يجعل لك جنات ويجعل لك قصوراً ومن رفع فعلى الاستئناف والمعنى سيجعل لك قصوراً هذا قول الزجاج قال الواحدي وبين القراءتين فرق في المعنى فمن جزم فالمعنى إن شاء يجعل لك قصوراً في الدنيا ولا يحسن الوقوف على الأنهار ومن رفع حسن له الوقوف على الأنهار واستأنف أي ويجعل لك قصوراً في الآخرة وفي مصحف أبي وابن مسعود ( تبارك الذي إن شاء يجعل )
المسألة الخامسة عن طاوس عن ابن عباس قال ( بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس وجبريل عليه السلام عنده قال جبريل عليه السلام هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء الملك وسلم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطها أحداً قبلك ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئاً فقال عليه السلام بل يجمعها جميعاً لي في الآخرة فنزل قوله تبارك الذي إن شاء ) الآية وعن ابن عباس قال عليه السلام ( عرض عليَّ جبريل بطحاء(24/47)
مكة ذهباً فقلت بل شبعة وثلاث جوعات ) وذلك أكثر لذكري ومسألتي لربي وفي رواية صفوان بن سليم عن عبد الوهاب قال عليه السلام ( أشبع يوماً وأجوع ثلاثاً فأحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت ) وعن الضحاك ( لما عير المشركون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالفاقة حزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لذلك فنزل جبريل عليه السلام معزياً له وقال إن الله يقرؤك السلام ويقول وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ( الفرقان 20 ) الآية قال فبينما جبريل عليه السلام والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتحدثان إذ فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك ثم قال أبشر يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضا من ربك فسلم عليه وقال إن ربك يخيرك بين أن تكون نبياً ملكاً وبين أن تكون نبياً عبداً ومعه سفط من نور يتلألأ ثم قال هذه مفاتيح خزائن الدنيا فاقبضها من غير أن ينقصك الله مما أعد لك في الآخرة جناح بعوضة فنظر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جبريل كالمستشير فأومأ بيده أن تواضع فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل نبياً عبداً ) قال فكان عليه السلام بعد ذلك لم يأكل متكئاً حتى فارق الدنيا
أما قوله تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَة ِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً فهذا جواب ثالث عن تلك الشبهة كأنه سبحانه قال ليس ما تعلقوا به شبهة عيلمة في نفس المسألة بل الذي حملهم على تكذيبك تكذيبهم بالساعة استثقالاً للاستعداد لها ويحتمل أن يكون المعنى أنهم يكذبون بالساعة فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً ولا يتحملون كلفة النظر والفكر فلهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل ثم قال وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم وَأَعْتَدْنَا أي جعلناها عتيداً ومعدة لهم والسعير النار الشديدة الاستعار وعن الحسن أنه اسم من أسماء جهنم
المسألة الثانية احتج أصحابنا على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 ) وعلى أن النار التي هي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية وهي قوله وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً وقوله أَعْتَدْنَا إخبار عن فعل وقع في الماضي فدلت الآية على أن دار العقاب مخلوقة قال الجبائي يحتمل وأعتدنا النار في الدنيا وبها نعذب الكفار والفساق في قبورهم ويحتمل نار الآخرة ويكون معنى وَأَعْتَدْنَا أي سنعدها لهم كقوله وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ ( الأعراف 44 ) واعلم أن هذا السؤال في نهاية السقوط لأن المراد من السعير إما نار الدنيا وإما نار الآخرة فإن كان الأول فإما أن يكون المراد أنه تعالى يعذبهم في الدنيا بنار الدنيا أو يعذبهم في الآخرة بنار الدنيا والأول باطل لأنه تعالى ما عذبهم بالنار في الدنيا والتالي أيضاً باطل لأنه لم يقل أحد من الأمة أنه تعالى يعذب الكفرة في الآخرة بنيران الدنيا فثبت أن المراد نار الآخرة وثبت أنها معدة وحمل الآية على أن الله سيجعلها معدة ترك للظاهر من غير دليل وعلى أن الحسن قال السعير اسم من أسماء جهنم فقوله وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً صريح في أنه تعالى أعد جهنم
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن السعيد من سعد في بطن أمه فقالوا إن الذين أعد الله تعالى لهم السعير وأخبر عن ذلك وحكم به أن صاروا مؤمنين من أهل الثواب انقلب حكم الله بكونهم من أهل السعير كذباً وانقلب بذلك علمه جهلاً وهذا الانقلاب محال والمؤدي إلى المحال محال فصيرورة أولئك مؤمنين من أهل الثواب محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقياً والشقي لا ينقلب سعيداً ثم إنه(24/48)
سبحانه وتعالى وصف السعير بصفات إحداها قوله إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى السعير مذكر ولكن جاء ههنا مؤنثاً لأنه تعالى قال رَأَتْهُمْ وقال سَمِعُواْ لَهَا وإنما جاء مؤنثاً على معنى النار
المسألة الثانية مذهب أصحابنا أن البنية ليست شرطاً في الحياة فالنار على ما هي عليه يجوز أن يخلق الله الحياة والعقل والنطق فيها وعند المعتزلة ذلك غير جائز وهؤلاء المعتزلة ليس لهم في هذا الباب حجة إلا استقراء العادات ولو صدق ذلك لوجب التكذيب بانخراق العادات في حق الرسل فهؤلاء قولهم متناقض بل إنكار العادات لا يليق إلا بأصول الفلاسفة فعلى هذا قال أصحابنا قول الله تعالى في صفة النار إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً يجب إجراؤه على الظاهر لأنه لا امتناع في أن تكون النار حية رائية مغتاظة على الكفار أما المعتزلة فقد احتاجوا إلى التأويل وذكروا فيه وجوهاً أحدها قالوا معنى رأتهم ظهرت لهم من قولهم دورهم تتراءى وتتناظر وقال عليه السلام ( إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما ) أي لا تتقابلان لما يجب على المؤمن من مجانبة الكافر والمشرك ويقال دور فلان متناظرة أي متقابلة وثانيها أن النار لشدة اضطرامها وغليانها صارت ترى الكفار وتطلبهم وتتغيظ عليهم وثالثها قال الجبائي إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة الموكلة بتعذيب أهل النار لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار فهو كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أراد أهلها
المسألة الثالثة لقائل أن يقول التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعاً فكيف قال الله تعالى سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً والجواب عنه من وجوه أحدها أن التغيظ وإن لم يسمع فإنه قد يسمع ما يدل عليه من الصوت وهو كقوله رأيت غضب الأمير على فلان إذا رأى ما يدل عليه وكذلك يقال في المحبة فكذا ههنا والمعنى سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ وهو قول الزجاج وثانيها المعنى علموا لها تغيظاً وسمعوا لها زفيراً وهذا قول قطرب وهو كقول الشاعر مقلداً سيفاً ورمحاً وثالثها المراد تغيظ الخزنة
المسألة الرابعة قال عبيد بن عمير إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا وترعد فرائصه حتى إن إبراهيم عليه السلام يجثو على ركبتيه ويقول نفسي نفسي
الصفة الثانية للسعير قوله تعالى وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً واعلم أن الله سبحانه لما وصف حال الكفار حينما يكونون بالبعد من جهنم وصف حالهم عند ما يلقون فيها نعوذ بالله منه بما لا شيء أبلغ منه وفيه مسائل
المسألة الأولى في ضَيّقاً قراءتان التشديد والتخفيف وهو قراءة ابن كثير
المسألة الثانية نقل في تفسير الضيق أمور قال قتادة ذكر لنا عبدالله بن عمر قال ( إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج على الرمح ) وسئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال ( والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط ) قال الكلبي الأسفلون يرفعهم اللهيب والأعلون يخفضهم الداخلون(24/49)
فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة قال صاحب ( الكشاف ) الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض وجاء في الأحاديث ( إن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا ) ولقد جمع الله على أهل النار أنواع ( البلاء حيث ضم إلى العذاب الشديد الضيق )
المسألة الثالثة قالوا في تفسير قوله تعالى مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ إن أهل النار مع ما هم فيه من العذاب الشديد والضيق الشديد يكونون مقرنين في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم وقيل يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد ثم إنه سبحانه حكى عن أهل النار أنهم حين ما يشاهدون هذا النوع من العقاب الشديد دعوا ثبوراً والثبور الهلاك ودعاؤهم أن يقولوا واثبوراه أي يقولوا يا ثبور هذا حينك وزمانك وروى أنس مرفوعاً ( أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على جانبيه ويسحبها من خلفه ذريته وهو يقول يا ثبوراه وينادون يا ثبورهم حتى يردوا النار )
أما قوله لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً أي يقال لهم ذلك وهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن ثم قول ومعنى وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم منه واحداً إنما هو ثبور كثير إما لأن العذاب أنواع وألوان لكل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها أو لأن ذلك العذاب دائم خالص عن الشوب فلهم في كل وقت من الأوقات التي لا نهاية لها ثبور أو لأنهم ربما يجدون بسبب ذلك القول نوعاً من الخفة فإن المعذب إذا صاحب وبكى وجد بسببه نوعاً من الخفة فيزجرون عن ذلك ويخبرون بأن هذا الثبور سيزداد كل يوم ليزداد حزنهم وغمهم نعوذ بالله منه قال الكلبي نزل هذا كله في حق أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات
قُلْ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّة ُ الْخُلْدِ الَّتِى وَعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما وصف حال العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة فقال لرسوله قُلْ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّة ُ الْخُلْدِ أن يلتمسوها بالتصديق والطاعة فإن قيل كيف يقال العذاب خير أم جنة الخلد وهل يجوز أن يقول العاقل السكر أحلى أم الصبر قلنا هذا يحسن في معرض التفريع كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر فيضربه ضرباً وجيعاً ويقول على سبيل التوبيخ هذا أطيب أم ذاك
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله وُعِدَ الْمُتَّقُونَ على أن الثواب غير واجب على الله تعالى لأن من قال السلطان وعد فلاناً أن يعطيه كذا فإنه يحمل ذلك على التفضيل فأما لو كان ذلك الإعطاء واجباً لا يقال إنه وعده به أما المعتزلة فقد احتجوا به أيضاً على مذهبهم قالوا لأنه سبحانه أثبت ذلك الوعد للموصوفين بصفة التقوى وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فكذا يدل هذا على أن ذلك الوعد(24/50)
إنما حصل معللاً بصفة التقوى والتفضيل غير مختص بالمتقين فوجب أن يكون المختص بهم واجباً
المسألة الثالثة قال أبو مسلم جنة الخلد هي التي لا ينقطع نعيمها والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور قال الله تعالى لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً ( الإنسان 9 ) فإن قيل الجنة اسم لدار الثواب وهي مخلدة فأي فائدة في قوله جَنَّة ُ الْخُلْدِ قلنا الإضافة قد تكون للتمييز وقد تكون لبيان صفة الكمال كما يقال الله الخالق البارىء وما هنا من هذا الباب
أما قوله كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً ففيه مسائل
المسألة الأولى المعتزلة احتجوا بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين الأول أن اسم الجزاء لا يتناول إلا المستحق فأما الوعد بمحض التفضيل فإنه لا يسمى جزاء والثاني لو كان المراد من الجزاء الأمر الذي يصيرون إليه بمجرد الوعد فحينئذ لا يبقى بين قوله جَزَاء وبين قوله مَصِيراً تفاوت فيصير ذلك تكراراً من غير فائدة قال أصحابنا رحمهم الله لا نزاع في كونه جَزَاء إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق وليس في الآية ما يدل على التعيين
المسألة الثانية قالت المعتزلة الآية تدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة من وجهين الأول أن صاحب الكبيرة يستحق العقاب فوجب أن لا يكون مستحقاً للثواب لأن الثواب هو النفع الدائم الخالص عن شوب الضرر والعقاب هو الضرر الدائم الخالص عن شوب النفع والجمع بينهما محال وما كان ممتنع الوجود امتنع أن يحصل استحقاقه فإذن متى ثبت استحقاق العقاب وجب أن يزول استحقاق الثواب فنقول لو عفا الله عن صاحب الكبيرة لكان إما أن يخرجه من النار ولا يدخله الجنة وذلك باطل بالإجماع لأنهم أجمعوا على أن المكلفين يوم القيامة إما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار لأنه تعالى قال فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ ( الشورى 7 ) وإما أن يخرجه من النار ويدخله الجنة وذلك باطل لأن الجنة حق المتقين لقوله تعالى كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً فجعل الجنة لهم ومختصة بهم وبين أنها إنما كانت لهم لكونها جزاء لهم على أعمالهم فكانت حقاً لهم وإعطاء حق الإنسان لغيره لا يجوز ولما بطلت الأقسام ثبت أن العفو غير جائز أجاب أصحابنا لم لا يجوز أن يقال المتقون يرضون بإدخال الله أهل العفو في الجنة فحينئذ لا يمتنع دخولهم فيها الوجه الثاني قالوا المتقي في عرف الشرع مختص بمن اتقى الكفر والكبائر وإن اختلفنا في أن صاحب الكبيرة هل يسمى مؤمناً أم لا لكنا اتفقنا على أنه لا يسمى متقياً ثم قال في وصف الجنة إنها كانت لهم جزاء ومصيراً وهذا للحصر والمعنى أنها مصير للمتقين لا لغيرهم وإذا كان كذلك وجب أن لا يدخلها صاحب الكبيرة قلنا أقصى ما في الباب أن هذا العموم صريح في الوعيد فتخصه بآيات الوعد
المسألة الثالثة لقائل أن يقول إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيراً لكنها بعد ما صارت كذلك فلم قال الله تعالى كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً جوابه من وجهين الأول أن ما وعد الله فهو في تحققه كأنه قد كان والثاني أنه كان مكتوباً في اللوح قبل أن يخلقهم الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم(24/51)
أما قوله تعالى لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ خَالِدِينَ فهو نطير قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ( فصلت 31 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها فإذا سألوها ربهم فإن أعطاهم إياها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ وأيضاً فالأب إذا كان ولده في درجات النيران وأشد العذاب إذا اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه فإن فعل الله تعالى ذلك قدح في أن عذاب الكافر مخلد وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وفي قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ وجوابه أن الله تعالى يزيل ذلك الخاطر عن قلوب أهل الجنة بل يكون اشتغال كل واحد منهم بما فيه من اللذات شاغلاً عن الالتفات إلى حال غيره
المسألة الثانية شرط نعيم الجنة أن يكون دائماً إذ لو انقطع لكان مشوباً بضرب من الغم ولذلك قال المتنبي أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
ولذلك اعتبر الخلود فيه فقال لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ خَالِدِينَ
المسألة الثالثة قوله تعالى لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ كالتنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة فأما في غيرها فلا يحصل ذلك بل لا بد في الدنيا من أن تكون راحاتها مشوبة بالجراحات ولذلك قال عليه السلام ( من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق فقيل وما هو يا رسول الله فقال سرور يوم )
أما قوله كَانَ عَلَى رَبّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً ففيه مسائل
المسألة الأولى كلمة ( على ) للوجوب قال عليه السلام ( من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى ) فقوله كَانَ عَلَى رَبِّكَ يفيد أن ذلك واجب على الله تعالى والواجب هو الذي لو لم يفعل لاستحق تاركه بفعله الذم أو أنه الذي يكون عدمه ممتنعاً فإن كان الوجوب على التفسير الأول كان تركه محالاً لأن تركه لما استلزم استحقاق الذم واستحقاق الله تعالى الذم محال ومستلزم المحال محال كان ذلك الترك محالاً والمحال غير مقدور فلم يكن الله تعالى قادراً على أن لا يفعل فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل وإن كان الوجوب على التفسير الثاني وهو أن يقال الواجب ما يكون عدمه ممتنعاً يكون القول بالإلجاء لازماً فلم يكن الله قادراً فإن قيل إنه ثبت بحكم الوعد فنقول لو لم يفعل لانقلب خبره الصدق كذباً وعلمه جهلاً وذلك محال والمؤدي إلى المحال محال فالترك محال فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل والملجأ إلى الفعل لا يكون قادراً ولا يكون مستحقاً للثناء والمدح تمام السؤال وجوابه أن فعل الشيء متقدم على الإخبار عن فعله وعن العلم بفعله فيكون ذلك الفعل فعلاً لا على سبيل الإلجاء فكان قادراً ومستحقاً للثناء والمدح
المسألة الثانية قوله وَعْداً يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق وقد تقدم تقريره(24/52)
المسألة الثالثة قوله مَسْؤُولاً ذكروا فيه وجوهاً أحدها أن المكلفين سألوه بقولهم رَبَّنَا ءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ( آل عمران 194 ) وثانيها أن المكلفين سألوه بلسان الحال لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته كان ذلك قائماً مقام السؤال قال المتنبي وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي كلام عندها وخطاب
وثالثها الملائكة سألوا الله تعالى ذلك بقولهم رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ( غافر 8 ) ورابعها وَعْداً مَسْؤُولاً أي واجباً يقال لأعطينك ألفاً وعداً مسؤولاً أي واجباً وإن لم تسأل قال الفراء وسائر الوجوه أقرب من هذا لأن سائر الوجوه أقرب إلى الحقيقة وما قاله الفراء مجاز وخامسها مسؤولاً أي من حقه أن يكون مسؤولاً لأنه حق واجب إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة أو بحكم الوعد على قول أهل السنة
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَءَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَاؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاٌّ سْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
اعلم أن قوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ راجع إلى قوله وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً ( الفرقان 3 ) ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى يَحْشُرُهُمْ فنقول كلاهما بالنون والياء وقرىء نَحْشُرُهُمْ بكسر الشين
المسألة الثانية ظاهر قوله وَمَا يَعْبُدُونَ أنها الأصنام وظاهر قوله فَيَقُولُ أَءنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وغيرهما لأن الإضلال وخلافه منهم يصح فلأجل هذا اختلفوا(24/53)
فمن الناس من حمله على الأوثان فإن قيل لهم الوثن جماد فكيف خاطبه الله تعالى وكيف قدر على الجواب فعند ذلك ذكروا وجهين أحدهما أن الله تعالى يخلق فيهم الحياة فعند ذلك يخاطبهم فيردون الجواب وثانيها أن يكون ذلك الكلام لا بالقول اللساني بل على سبيل لسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات وكلام الأيدي والأرجل وكما قيل سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً وأما الأكثرون فزعموا أن المراد هو الملائكة وعيسى وعزير عليهم السلام قالوا ويتأكد هذا القول بقوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَة ِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) وإذا قيل لهم لفظة ( ما ) لا تستعمل في العقلاء أجابوا عنه من وجهين الأول لا نسلم أن كلمة ( ما ) لما لا يعقل بدليل أنهم قالوا ( من ) لما لا يعقل والثاني أريد به الوصف كأنه قيل ( ومعبودهم ) وقوله تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( لكافرون 3 ) لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين وكيف كان فالسؤال ساقط
المسألة الثالثة حاصل الكلام أن الله تعالى يحشر المعبودين ثم يقول لهم أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال عن طريق الحق أم هم ضلوا عنه بأنفسهم قالت المعتزلة وفيه كسر بين لقول من يقول إن الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقولوا إلهنا ههنا قسم ثالث غيرهما هو الحق وهو أنك أنت أضلتهم فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا إضلالهم إلى أنفسهم علمنا أن الله تعالى لا يضل أحداً من عباده فإن قيل لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه فإنهم قالوا وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم وهو أنه سبحانه وتعالى متعهم وآباءهم بنعيم الدنيا قلنا لو كان الأمر كذلك لكان يلزمهم أن يصير الله محجوباً في يد أولئك المعبودين ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملزماً هذا تمام تقرير المعتزلة في الآية أجاب أصحابنا بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله تعالى وإن صلحت له لم تترجح مصدريتها للإضلال على مصدريتها للاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى وعند لذلك يعود السؤال وأما ظاهر هذه الآية فهو وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظواهر المطابقة لقولنا
المسألة الرابعة ظاهر الآية يدل على أن هذا السؤال من الله تعالى وإن احتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى بقي على الآية سؤالات
الأول ما فائدة أنتم وهم وهلا قيل أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل الجواب ليس السؤال عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب وإنما هو عن فاعله فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسؤول عنه
السؤال الثاني أنه سبحانه كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال الجواب هذا استفهام على سبيل التقريع للمشركين كما قال لعيسى قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) ولأن أولئك المعبودين لما برؤا أنفسهم وأحالوا ذلك الضلال عليهم صار تبرؤ(24/54)
المعبودين عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم
السؤال الثالث قال تعالى أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ والقياس أن يقال ضل عن السبيل الجواب الأصل ذلك إلا أن الإنسان إذا كان متناهياً في التفريط وقلة الاحتياط يقال ضل السبيل
أما قوله سُبْحَانَكَ فاعلم أنه سبحانه حكى جوابهم وفي قوله سُبْحَانَكَ وجوه أحدها أنه تعجب منهم فقد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وثانيها أنهم نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون ( المقدسون المؤمنون ) بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده وثالثها قصدوا به تنزيهه عن الأنداد سواء كان وثناً أو نبياً أو ملكاً ورابعها قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إيذاء من كان بريئاً عن الجرم بل إنه إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم
أما قوله مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء ففيه مسائل
المسألة الأولى القراءة المعروفة أَن نَّتَّخِذَ بفتح النون وكسر الخاء وعن أبي جعفر وابن عامر برفع النون وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله قال الزجاج أخطأ من قرأ أَن نَّتَّخِذَ بضم النون لأن ( من ) إنما تدخل في هذا الباب في الأسماء إذا كان مفعولاً أولاً ولا تدخل على مفعول الحال تقول ما اتخذت من أحد ولياً ولا يجوز ما اتخذت أحداً من ولي قال صاحب ( الكشاف ) اتخذ يتعدى إلى مفعول واحد كقولك اتخذ ولياً وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلاناً ولياً قال الله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) والقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو مِنْ أَوْلِيَاء والأصل أن نتخذ أولياء فزيدت من لتأكيد معنى النفي والثانية من المتعدي إلى مفعولين فالأول ما بني له الفعل والثاني مِنْ أَوْلِيَاء من للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء وتنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام
المسألة الثانية ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً أولها وهو الأصح الأقوى أن المعنى إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك أولياء فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك وثانيها ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما يوليهم الكفار قال تعالى فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ( النساء 76 ) يريد الكفرة وقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ( البقرة 257 ) عن أبي مسلم وثالثها ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلناه والحاصل أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ورابعها قالت الملائك إنهم عبيدك فلا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك ولياً ولا حبيباً فضلاً عن أن يتخذ عبد عبداً آخر إلهاً لنفسه وخامسها أن على قراءة أبي جعفر الإشكال زائل فإن قيل هذه القراءة غير جائزة لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء قلنا المراد إنا لا نصلح لذلك فكيف ندعوهم إلى عبادتنا وسادسها أن هذا قول الأصنام وأنها قالت لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادعاؤنا أنا من المعبودين
المسألة الثالثة الآية تدل على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله فكل ولاية مبنية على ميل النفس ونصيب الطبع فذاك على خلاف الشرع
أما قوله تعالى وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً ففيه مسائل(24/55)
المسألة الأولى معنى الآية أنك يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم وهي توجب الشكر والإيمان لا الإعراض والكفران والمقصود من ذلك بيان أنهم ضلوا من عند أنفسهم لا بإضلالنا فإنه لولا عنادهم الظاهر وإلا فمع ظهور هذه الحجة لا يمكن الإعراض عن طاعة الله تعالى وقال آخرون إن هذا الكلام كالرمز فيما صرح به موسى عليه السلام في قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ( الأعراف 155 ) وذلك لأن المجيب قال إلهي أنت الذي أعطيته جميع مطالبه من الدنيا حتى صار كالغريق في بحر الشهوات واستغراقه فيها صار صاداً له عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك فإن هي إلا فتنتك
المسألة الثانية الذكر ذكر الله والإيمان به ( و ) القرآن والشرائع أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة
المسألة الثالثة قال أبو عبيدة يقال رجل بور ورجلان بور ورجال بور وكذلك الأنثى ومعناه هالك وقد يقال رجل بائر وقوم بور وهو مثل هائر وهور والبوار الهلاك وقد احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر ولا شك أن المراد منه وكانوا من الذين حكم عليهم في الآخرة بالعذاب والهلاك فالذي حكم الله عليه بعذاب الآخرة وعلم ذلك وأثبته في اللوح المحفوظ وأطلع الملائكة عليه لو صار مؤمناً لصار الخبر الصدق كذباً ولصار العلم جهلاً ولصارت الكتابة المثبتة في اللوح المحفوظ باطلة ولصار اعتقاد الملائكة جهلاً وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال فصدور الإيمان منه محال فدل على أن السعيد لا يمكنه أن ينقلب شقياً والشقي لا يمكنه أن ينقلب سعيداً ومن وجه آخر هو أنهم ذكروا أن الله تعالى آتاهم أسباب الضلال وهو إعطاء المرادات في الدنيا واستغراق النفس فيها ودلت الآية على أن ذلك السبب بلغ مبلغاً يوجب البوار فإن ذكر البوار عقيب ذلك السبب يدل على أن البوار إنما حصل لأجل ذلك السبب فرجع حاصل الكلام إلى أنه تعالى فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر وحينئذ ظهر أن السعيد لا ينقلب شقياً وأن الشقي لا ينقلب سعيداً
أما قوله تعالى فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فاعلم أنه قرىء يَقُولُونَ بالياء والتاء فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة أي كذبوكم في قولكم إنهم آلهة ومن قرأ بالياء المنقوطة من تحت فالمعنى أنهم كذبوكم ( بقولكم ) سُبْحَانَكَ ومثاله قولك كتبت بالقلم
أما قوله فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً فاعلم أنه قرىء يَسْتَطِيعُونَ بالياء والتاء أيضاً يعني فما تستطيعون أنتم يا أيها الكفار صرف العذاب عنكم وقيل الصرف التوبة وقيل الحيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب ( و ) أن يحتالوا لكم
أما قوله تعالى وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرىء يذقه بالياء وفيه ضمير الله تعالى أو ضمير ( الظلم )
المسألة الثانية أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في القطع بوعيد أهل الكبائر فقالوا ثبت أن ( من ) للعموم في معرض الشرط وثبت أن الكافر ظالم لقوله بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) والفاسق ظالم لقوله وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( الحجرات 11 ) فثبت بهذه الآية أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة(24/56)
والجواب أنا لا نسلم أن كلمة ( من ) في معرض الشرط للعموم والكلام فيه مذكور في أصول الفقه سلمنا أنه للعموم ولكن قطعاً أم ظاهراً ودعوى القطع ممنوعة فإنا نرى في العرف العام المشهور استعمال صيغ العموم مع أن المراد هو الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون والدليل عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع له إلا أن يقال قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وإن كان يفيد العموم لكن المراد منه الغالب أو المراد منه أقوام مخصوصون وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة وذلك لا ينفي تجويز العفو سلمنا دلالته قطعاً ولكنا أجمعنا على أن قوله وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ مشروط بأن لا يوجد ما يزيله وعند هذا نقول هذا مسلم لكن لم قلت بأن لم يوجد ما يزيله فإن العفو عندنا أحد الأمور التي تزيله وذلك هو أحد الثلاثة أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) فإن قيل آيات الوعيد أولى لأن السارق يقطع على سبيل التنكيل ومن لم يكن مستحقاً للعقاب لا يجوز قطع يده على سبيل التنكيل فإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب أحبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال قلنا لا نسلم أن السارق يقطع على سبيل التنكيل ألا ترى أنه لو تاب فإنه يقطع لا على سبيل التنكيل بل على سبيل المحنة نزلنا عن هذه المقامات ولكن قوله تعالى وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ إنه خطاب مع قوم مخصوصين معينين فهب أنه لا يعفو عنهم فلم قلت إنه لا يعفو عن غيرهم
أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاْسْوَاقِ ففيه مسائل
المسألة الأولى هذا جواب عن قولهم مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ ( الفرقان 7 ) بين الله تعالى أن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن
المسألة الثانية حق الكلام أن يقال أَلاَ إِنَّهُمْ بفتح الألف لأنه متوسط والمكسورة لا تليق إلا بالابتداء فلأجل هذا ذكروا وجوهاً أحدها قال الزجاج الجملة بعد ( إلا ) صفة لموصوف محذوف والمعنى وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين وإنما حذف لأن في قوله مِنَ الْمُرْسَلِينَ دليلاً عليه ونظيره قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) على معنى وما منا أحد وثانيها قال الفراء إنه صلة لاسم متروك اكتفى بقوله مِنَ الْمُرْسَلِينَ عنه والمعنى إلا من أنهم كقوله وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ أي من له مقام معلوم وكذلك قوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( مريم 71 ) أي إلا من يردها فعلى قول الزجاج الموصوف محذوف وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين وثالثها قال ابن الأنباري تكسر إن بعد الاستثناء بإضمار واو على تقدير إلا وإنهم ورابعها قال بعضهم المعنى إلا قيل إنهم
المسألة الثالثة قرىء يَمْشُونَ على البناء للمفعول أي تمشيهم حوائجهم أو الناس ولو قرىء يَمْشُونَ لكان أوجه لولا الرواية(24/57)
أما قوله تعالى وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً ففيه مسائل
المسألة الأولى فيه أقوال أحدها أن هذا في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أنف أن يسلم فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه ودليله قوله تعالى لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) وهذا قول الكلبي والفراء والزجاج وثانيها أن هذا عام في جميع الناس روى أبو الدرداء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ويل للعالم من الجاهل وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وويل للمالك من المملوك وويل للشديد من الضعيف وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة ) وقرأ هذه الآية وثالثها أن هذا في أصحاب البلاء والعافية هذا يقول لم لم أجعل مثله في الخلق والخلق وفي العقل وفي العلم وفي الرزق وفي الأجل وهذا قول ابن عباس والحسن ورابعها هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية وصفاتها فابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وأنواع أذاهم على ما قال وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( آل عمران 186 ) والمرسل إليهم يتأذون أيضاً من المرسل بسبب الحسد وصيرورته مكلفاً بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيساً مخدوماً والأولى حمل الآية على الكل لأن بين الجميع قدراً مشتركاً
المسألة الثانية قال أصحابنا الآية تدل على القضاء والقدر لأنه تعالى قال وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً قال الجبائي هذا الجعل هو بمعنى التعريف كما يقال فيمن سرق إن فلاناً لص جعله لصاً وهذا التأويل ضعيف لأنه تعالى أضاف الجعل إلى وصف كونه فتنة لا إلى الحكم بكونه كذلك بل العقل يدل على أن المراد غير ما ذكره وذلك لأن فاعل السبب فاعل للمسبب فمن خلقه الله تعالى على مزاج الصفراء والحرارة وخلق الغضب فيه ثم خلق فيه الإدراك الذي يطلعه على الشيء المغضب فمن فعل هذا المجموع كان هو الفاعل للغضب لا محالة وكذا القول في الحسد وسائر الأخلاق والأفعال وعند هذا يظهر أنه سبحانه هو الذي جعل البعض فتنة للبعض سلمنا أن المراد ما قاله الجبائي أن المراد من الجعل هو الحكم ولكن المجعول إن انقلب لزم انقلابه انقلاب حكم الله تعالى من الصدق إلى الكذب وذلك محال فانقلاب ذلك الجعل محال فانقلاب المجعول أيضاً محال وعند ذلك يظهر القول بالقضاء والقدر
المسألة الثالثة الوجه في تعلق هذه الآية بما قبلها أن القوم لما طعنوا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وبأنه فقير كانت هذه الكلمات جارية مجرى الخرافات فإنه لما قامت الدلالة على النبوة لم يكن لشيء من هذه الأشياء أثر في القدح فيها فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتأذى منهم من حيث إنهم كانوا يشتمونه ومن حيث إنهم كانوا يذكرون الكلام المعوج الفاسد وما كانوا يفهمون الجواب الجيد فلا جرم صبره الله تعالى على كل تلك الأذية وبين أنه جعل الخلق بعضهم فتنة للبعض
أما قوله تعالى أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ففيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة لو كان المراد من قوله وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً الخبر لما ذكر عقيبه أَتَصْبِرُونَ لأن أمر العاجز غير جائز
المسألة الثانية المعنى أتصبرون على البلاء فقد علمتم ما وعد الله الصابرين وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً(24/58)
أي هو العالم بمن يصبر ومن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب
المسألة الثالثة قوله أَتَصْبِرُونَ استفهام والمراد منه التقرير وموقعه بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَة َ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً
اعلم أن قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا هو الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وحاصلها لم لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمداً محق في دعواه أَوْ نَرَى رَبَّنَا حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا وتقرير هذه الشبهة أن من أراد تحصيل شيء وكان له إلى تحصيله طريقان أحدهما يفضي إليه قطعاً والآخر قد يفضي وقد لا يفضي فالحكيم يجب عليه في حكمته أن يختار في تحصيل ذلك المقصود الطريق الأقوى والأحسن ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا بصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر إفضاء إلى المقصود فلو أراد الله تعالى تصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لفعل ذلك وحيث لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أراد تصديقه هذا حاصل الشبهة ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قال الفراء قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا معناه لا يخافون لقاءنا ووضع الرجاء في موضع الخوف لغة تهامية إذا كان معه جحد ومثله قوله تعالى مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( نوح 13 ) أي لا تخافون له عظمة وقال القاضي لا وجه لذلك لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز ومعلوم أن من حال عباد الأصنام أنهم كما لا يخافون العقاب لتكذيبهم بالمعاد فكذلك لا يرجون لقاءنا ووعدنا على الطاعة من الجنة والثواب ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضاً فالخوف تابع لهذا الرجاء
المسألة الثانية المجسمة تمسكوا بقوله تعالى لِقَاءنَا أنه جسم وقالوا اللقاء هو الوصول يقال هذا الجسم لقي ذلك أي وصل إليه واتصل به وقال تعالى فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( القمر 12 ) فدلت الآية على أنه سبحانه جسم والجواب على طريقين الأول طريق بعض أصحابنا قال المراد من اللقاء هو الرؤية وذلك لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمى اللقاء أحد أنواع الرؤية والنوع الآخر الاتصال والمماسة فدلت الآية من هذا الوجه على جواز الرؤية الطريق الثاني وهو كلام المعتزلة قال(24/59)
القاضي تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة فيقال في الدعاء لقاك الله الخير وقد يقول القائل لم ألق الأمير وإن رآه من بعد أو حجب عنه ويقال في الضرير لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب وقد يلقاه في الليلة الظلماء ولا يراه بل المراد من اللقاء ههنا هو المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً لا أن رؤية البصر واعلم أن هذا الكلام ضعيف لأنا لا نفسر اللقاء برؤية البصر بل نفسره بمعنى مشترك بين رؤية البصر وبين الاتصال والمماسة وهو الوصول إلى الشيء وقد بينا أن الرائي يصل برؤيته إلى المرئي واللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ينطلق على كل واحد من تلك المعاني فيصح قوله لقاك الخير ويصح قول الأعمى لقيت الأمير ويصح قول البصير لقيته بمعنى رأيته وما لقيته بمعنى ما وصلت إليه وإذا ثبت هذا فنقول قوله وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا مذكور في معرض الذم لهم فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلاً ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني وبين الوصول بالرؤية وقد تعذر الأول فتعين الثاني وقوله المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل على وجوبها بل على أن إنكارها ليس إلا من دين الكفار
المسألة الثالثة قوله لَوْلا أُنزِلَ معناه هلا أنزل قال الكلبي ومقاتل نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما الذين كانوا منكرين للنبوة والبعث
أما قوله تعالى لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً فاعلم أن هذا هو الجواب عن تلك الشبهة وفيه مسائل
المسألة الأولى في تقرير كونه جواباً وذلك من وجوه أحدها أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد ثبتت دلالة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض الاستكبار والتعنت وثانيها أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضاً من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك بل لعموم كونه معجزاً فيكون قبول ذلك المعجز ورد ذلك المعجز الآخر ترجيحاً لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجح وهو محض الاستكبار والتعنت وثالثها أنهم بتقدير أن يروا الرب ويسألوه عن صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو سبحانه يقول نعم هو رسولي فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنا بينا أن المعجز يقوم مقام التصديق بالقول إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول اللهم إن كنت صادقاً فأحيى هذا الميت فيحييه الله تعالى والعادة لم تجر بمثله وبين أن يقول له صدقت وإذا كان التصديق الحاصل بالقول أو الحاصل بالمعجز في كونه تصديقاً للمدعى كان تعيين أحدهما محض الاستكبار والتعنت ورابعها وهو أنا نعتقد أن الله سبحانه وتعالى يفعل بحسب المصالح على ما يقوله المعتزلة أن نقول إن الله تعالى يفعل بحسب المشيئة عى ما يقوله أصحابنا فإن كان الأول لم يجز لهم أن يعينوا المعجز إذ ربما كان إظهار ذلك المعجز مشتملاً على مفسدة لا يعرفها إلا الله تعالى وكان التعيين استكباراً وعتواً من حيث إنه لما ظنه مصلحة قطع بكونه مصلحة فمن قال ذلك فقد اعتقد في نفسه أنه عالم بكل المعلومات وذلك استكبار عظيم وإن كان الثاني وهو قول أصحابنا فليس للعبد أن يقترح على ربه فإنه سبحانه فعال لما يريد فكان الاقتراح استكباراً وعتواً وخروجاً عن حد العبودية إلى مقام المنازعة والمعارضة وخامسها وهو أن المقصود من بعثة الأنبياء الإحسان إلى الخلق فالملك الكبير إذا أحسن إلى(24/60)
بعض الضعفاء رحمة عليه فأخذ ذلك الضعيف إلى اللجاج والنزاع ويقول لا أريد هذا بل أريد ذاك حسن أن يقال إن هذا المكدى قد استكبر في نفسه وعتا عتواً شديداً من حيث لا يعرف قدر نفسه ومنتهى درجته فكذا ههنا وسادسها يمكن أن يكون المراد أن الله تعالى قال لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به فلا جرم لا أعطيهم ذلك وهذا التأويل يعرف من اللفظ وسابعها لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل التعنت أو على سبيل الاستهزاء
المسألة الثانية قالت المعتزلة الآية دلت على أن الله تعالى لا تجوز رؤيته لأن رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً واستكباراً قالوا وقوله لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ليس إلا لأجل سؤال الرؤية حتى لو أنهم اقتصروا على نزول الملائكة لما خوطبوا بذلك والدليل عليه أن الله تعالى ذكر أمر الرؤية في آية أخرى على حدة وذكر الاستعظام وهو قوله لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ ( البقرة 55 ) وذكر نزول الملائكة على حدة في آية أخرى فلم يذكر الاستعظام وهو قولهم لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ وهل نرى الملائكة فثبت بهذا أن الاستكبار والعتو في هذه الآية إنما حصل لأجل سؤال الرؤية
واعلم أن الكلام على ذلك قد تقدم في سورة البقرة والذي نريده ههنا أنا بينا أن قوله وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا يدل على الرؤية وأما الاستكبار والعتو فلا يمكن أن يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة لأن من طلب شيئاً محالاً لا يقال إنه عتا واستكبر ألا ترى أنهم لما قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتواً واستكباراً بل قال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( الأعراف 138 ) بل العتو والاستكبار لا يثبت إلا إذا طلب الإنسان ما لا يليق به ممن فوقه أو كان لائقاً به ولكنه يطلبه على سبيل التعنت وبالجملة فقد ذكرنا وجوهاً كثيرة في تحقيق معنى الاستكبار والعتو سواء كانت الرؤية ممتنعة أو ممكنة ومما يدل عليه أن موسى لما سأل الرؤية ما وصفه الله تعالى بالاستكبار والعتو لأنه عليه السلام طلب الرؤية شوقاً وهؤلاء طلبوها امتحاناً وتعنتاً لا جرم وصفهم بذلك فثبت فساد ما قاله المعتزلة
المسألة الثالثة إنما قال فِى أَنفُسِهِمْ لأنهم أضمروا الاستكبار ( عن الحق وهو الكفر والعناد ) في قلوبهم واعتقدوه كما قال إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ( غافر 56 ) وقوله وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً أي تجاوزوا الحد في الظلم يقال عتا ( عتا ) فلان وقد وصف العتو بالكبر فبالغ في إفراطه يعني أنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو
أما قوله تعالى يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَة َ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً فهو جواب لقولهم لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ فبين تعالى أن الذي سألوه سيوجد ولكنهم يلقون منه ما يكرهون وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في انتصاب يَوْمٍ وجهين الأول أن العامل ما دل عليه لاَ بُشْرَى أي يوم يرون الملائكة(24/61)
( يبغون البشرى ) و يَوْمَئِذٍ للتكرير الثاني أن التقدير اذكر يوم يرون الملائكة
المسألة الثانية اختلفوا في ذلك اليوم فقال ابن عباس يريد عند الموت وقال الباقون يريد يوم القيامة
المسألة الثالثة إنما يقال للكافر لا بشرى لأن الكافر وإن كان ضالاً مضلاً إلا أنه يعتقد في نفسه أنه كان هادياً مهتدياً فكان يطمع في ذلك الثواب العظيم ولأنهم ربما عملوا ما رجوا فيه النفع كنصرة المظلوم وعطية الفقير وصلة الرحم ولكنه أبطلها بكفره فبين سبحانه أنهم في أول الأمر يشافهون بما يدل على نهاية اليأس والخيبة وذلك هو النهاية في الإيلام وهو المراد من قوله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 )
المسألة الرابعة حق الكلام أن يقال يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم لكنه قال لا بشرى للمجرمين وفيه وجهان أحدهما أنه ظاهر في موضع ضمير والثاني أنه عام فقد تناولهم بعمومه قالت المعتزلة تدل الآية على القطع بوعيد الفساق وعدم العفو لأن قوله لاَ بُشْرَى لّلْمُجْرِمِينَ نكرة في سياق النفي فيعم جميع أنواع البشرى في جميع الأوقات بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية قال بل له بشرى في الوقت الفلاني فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية علمنا أن قوله تعالى لاَ بُشْرَى يقتضي نفي جميع أنواع البشرى في كل الأوقات ثم إنه سبحانه أكد هذا النفي بقوله حِجْراً مَّحْجُوراً والعفو من الله من أعظم البشرى والخلاص من النار بعد دخولها من أعظم البشرى وشفاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم غير مرة قال المفسرون المراد بالمجرمين ههنا الكفار بدليل قوله إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّة َ ( المائدة 72 )
المسألة الخامسة في تفسير قوله حِجْراً مَّحْجُوراً ذكر سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو معاذ الله وقعدك ( الله ) وعمرك ( الله ) وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو ( موتور ) أو هجوم نازلة ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة قال سيبويه يقول الرجل للرجل ( يفعل ) كذا وكذا فيقول حجراً وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكان المعنى أسأل الله أن يمنع ذلك منعاً ويحجره حجراً ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد فإن قيل لما ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه بكونه محجوراً قلنا جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر كما قالوا ( ذبل ذابل فالذبل ) الهوان وموت مائت وحرام محرم
المسألة السادسة اختلفوا في أن الذين يقولون حجراً محجوراً من هم على ثلاثة أقوال القول الأول أنهم هم الكفار وذلك لأنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه ( ثم ) إذا رأوهم عند الموت ( و ) يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو ( الموتور ) ونزول الشدة القول الثاني أن القائلين هم الملائكة ومعناه حراماً محرماً عليكم الغفران والجنة والبشرى أي جعل الله ذلك حراماً عليكم ثم اختلفوا على هذا القول فقال بعضهم إن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم حجراً محجوراً وقال الكلبي الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين حجراً محجوراً وقال عطية إذا كان يوم القيامة يلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى(24/62)
فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم بشرونا فيقولون حجراً محجوراً القول الثالث وهو قول القفال والواحدي وروي عن الحسن أن الكفار يوم القيامة إذا شاهدوا ما يخافونه فيتعوذون منه ويقولون حجراً محجوراً فتقول الملائكة لا يعاذ من شر هذا اليوم
أما قوله تعالى وَقَدِمْنَا فقد استدلت المجسمة بقوله وَقَدِمْنَا لأن القدوم لا يصح إلا على الأجسام وجوابه أنه لما قامت الدلالة على امتناع القدوم عليه لأن القدوم حركة والموصوف بالحركة محدث ولذلك استدل الخليل عليها السلام بأفول الكواكب على حدوثها وثبت أن الله عز وجل لا يجوز أن يكون محدثاً فوجب تأويل لفظ القدوم وهو من وجوه أحدها وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ أي وقصدنا إلى أعمالهم فإن القادم إلى الشيء قاصد له فالقصد هو المؤثر في المقدوم إليه وأطلق المسبب على السبب مجازاً وثانيها المراد قدوم الملائكة إلى موضع الحساب في الآخرة ولما كانوا بأمره يقدمون جاز أن يقول وَقَدِمْنَا على سبيل التوسع ونظيره قوله فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ( الزخرف 55 ) وثالثها إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَة ً أَفْسَدُوهَا ( النمل 34 ) فلما أباد الله أعمالهم وأفسدها بالكلية صارت شبيهة بالمواضع التي يقدمها الملك فلا جرم قال وَقَدِمْنَا
أما قوله إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ يعني الأعمال التي اعتقدوها براً وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى والمعنى إلى ما عملوا من أي عمل كان
أما قوله فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً فالمراد أبطلناه وجعلناه بحيث لا يمكن الانتفاع به كالهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه ونظيره قوله تعالى كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ ( النور 39 ) كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ( إبراهيم 18 ) كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ( الفيل 5 ) قال أبو عبيدة والزجاج الهباء مثل الغبار يدخل من الكوة مع ضوء الشمس وقال مقاتل إنه الغبار الذي يستطير من حوافر الدواب
أما قوله أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً فاعلم أنه سبحانه لما بين حال الكفار في الخسار الكلي والخيبة التامة شرح وصف أهل الجنة تنبيهاً على أن الحظ كل الحظ في طاعة الله تعالى وههنا سؤالات
الأول كيف يكون أصحاب الجنة خيراً مستقراً من أهل النار ولا خير في النار ولا يقال في العسل هو أحل من الخل والجواب من وجوه الأول ما تقدم في قوله أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّة ُ الْخُلْدِ ( الفرقان 15 ) والثاني يجوز أن يريد أنهم في غاية الخير لأن مستقر خير من النار كقول الشاعر ف إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعز وأطول
الثالث التفاضل الذي ذكر بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه الرابع هذا التفاضل واقع على هذا التقدير أي لو كان لهم مستقر فيه خير لكان مستقر أهل الجنة خيراً منه
السؤال الثاني الآية دلت على أن مستقرهم غير مقيلهم فكيف ذلك والجواب من وجوه الأول أن المستقر مكان الاستقرار والمقيل زمان القيلولة فهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان ومن(24/63)
الزمان في أطيب زمان الثاني أن مستقر أهل الجنة غير مقيلهم فإنهم يقيلون في الفردوس ثم يعودون إلى مستقرهم الثالث أن بعد الفراغ من المحاسبة والذهاب إلى الجنة يكون الوقت وقت القيلولة قال ابن مسعود ( لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ) وقرأ ابن مسعود ( ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ) وقال سعيد بن جبير إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم بقدر ما بين صلاة الغداة إلى انتصاف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وقال مقاتل يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة
السؤال الثالث كيف يصح القيلولة في الجنة والنار وعندكم أن أهل الجنة في الآخرة لا ينامون وأهل النار أبداً في عذاب يعرفونه وأهل الجنة في نعيم يعرفونه والجواب قال الله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 62 ) وليس في الجنة بكرة وعشى لقوله تعالى لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) ولأنه إذا لم يكن هناك شمس لم يكن هناك نصف النهار ولا وقت القيلولة بل المراد منه بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع وأحسنها كما أن موضع القيلولة يكون أطيب المواضع والله أعلم
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَئِكَة ُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً
اعلم أن هذا الكلام مبني على ما استدعوه من إنزال الملائكة فبين سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له صفات
الصفة الأولى أن في ذلك اليوم تشقق السماء بالغمام وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الانفطار 1 ) يدل على التشقق وقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ ( البقرة 210 ) يدل على الغمام فقوله تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ جامع لمعنى الآيتين ونظيره قوله تعالى وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْواباً ( النبأ 19 ) وقوله فَهِى َ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة ٌ ( الحاقة 16 )
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بتخفيف الشين ههنا وفي سورة ق والباقون بالتشديد قال أبو عبيدة الاختيار التخفيف كما يخفف تساءلون ومن شدد فمعناه تتشقق(24/64)
المسألة الثالثة قال الفراء المراد من قوله بِالْغَمَامِ أي عن الغمام لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام وقال القاضي لا يمتنع أن يجعل تعالى الغمام بحيث تشقق السماء باعتماده عليه وهو كقوله السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ( المزمل 18 )
المسألة الرابعة لا بد من أن يكون لهذا التشقق تعلق بنزول الملائكة فقيل الملائكة في أيام الأنبياء عليهم السلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة والسماء على اتصالها ثم في ذلك اليوم تتشقق السماء فإذا انشقت خرج من أن يكون حائلاً بين الملائكة وبين الأرض فنزلت الملائكة إلى الأرض
المسألة الخامسة قوله وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ صيغة عموم فيتناول الكل ولأن السماء مقر الملائكة فإذا تشقق وجب أن ينزلوا إلى الأرض ثم قال مقاتل تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر من سكان الدنيا كذلك تتشقق سماء سماء ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش ثم ينزل الرب تعالى وروى الضحاك عن ابن عباس قال تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصيرون سبع صفوف حول العالم واعلم أن نزول الرب بالذات باطل قطعاً لأن النزول حركة والموصوف بالحركة محدث والإله لا يكون محدثاً وأما نزول الملائكة إلى الأرض فعليه سؤال وذلك لأنه ثبت أن الأرض بالقياس إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة فكيف بالقياس إلى الكرسي والعرش فملائكة هذه المواضع بأسرها كيف تتسع لهم الأرض جميعاً فلعل الله تعالى يزيد في طول الأرض وعرضها ويبلغها مبلغاً يتسع لكل هؤلاء ومن المفسرين من قال الملائكة يكونون في الغمام منه والله تعالى يسكن الغمام فوق أهل القيامة ويكون ذلك الغمام مقر الملائكة قال الحسن والغمام سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه بنسخ أعمال بني آدم والمحاسبة تكون في الأرض
المسألة السادسة أما نزول الملائكة فظاهر ومعنى تَنْزِيلاً توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه
المسألة السابعة الألف واللام في الغمام ليس للعموم فهو للمعهود والمراد ما ذكروه في قوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ ( البقرة 210 )
المسألة الثامنة قرىء وَنُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ وَنُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل قراءة أهل مكة
الصفة الثانية لذلك اليوم قوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ الرَّحْمَنُ قال الزجاج الحق صفة للملك وتقديره الملك الحق يومئذ للرحمن ويجوز الحق بالنصب على تقدير أعني ولم يقرأ به ومعنى وصفه بكونه حقاً أنه لا يزول ولا يتغير فإن قيل مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن فما الفائدة في قوله يَوْمَئِذٍ قلنا لأن في ذلك اليوم لا مالك سواه لا في الصورة ولا في المعنى فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام واعلم أن هذه الآية دالة على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على الله الثواب والعوض وذلك لأنه لو وجب لاستحق الذم بتركه فكان خائفاً من أن لا يفعل فلم يكن ملكاً مطلقاً وأيضاً فقوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ يفيد أنه ليس لغيره ملك وذلك لا يتم على قول المعتزلة لأن كل من استحق عليه شيئاً فإنه يكون مالكاً له ولا يكون هو سبحانه مالكاً لذلك المستحق لأنه سبحانه إذا استحق على أحد شيئاً أمكنه أن يعفو عنه أما غيره إذا استحق عليه شيئاً فإنه لا يصح إبراؤه عنه فكانت العبودية ههنا أتم ولأن من كفر بالله إلى آخر عمره ثم في آخر عمره عرف الله لحظة ومات فهو سبحانه لو أعطاه ألف ألف(24/65)
سنة أنواع الثواب وأراد بعد ذلك أن لا يعطيه لحظة واحدة صار سفيهاً وهذا نهاية العبودية والذل فكيف يليق بمن هذا حاله أن يقال له الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وأيضاً فكل من فعل فعلاً لو لم يفعله لكان مستوجباً للذم وكان بذلك الفعل مكتسباً للكمال وبتركه مكتسباً للنقصان فلم يكن ملكاً بل فقيراً مستحقاً فثبت أن قوله سبحانه الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ غير لائق بأصول المعتزلة
الصفة الثالثة قوله وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً فالمعنى ظاهر لأنه تعالى عالم بالأحوال قادر على كل ما يريده وأما غيره فالكل في ربقة العجز ولجام القهر فكان في نهاية العسر على الكافر
الصفة الرابعة قوله وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الألف واللام في الظالم فيه قولان أحدهما أنه للعموم والثاني أنه للمعهود والقائلون بالمعهود على قولين الأول قال ابن عباس المراد عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس كان لا يقدم من مقر إلا صنع طعاماً يدعو إليه جيرته من أهل مكة ويكثر مجالسة الرسول ويعجبه حديثه فصنع طعاماً ودعا الرسول فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين ففعل فأكل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من طعامه فبلغ أمية بن خلف فقال صبوت يا عقبة وكان خليله فقال إنما ذكرت ذلك ليأكل من طعامي فقال لا أرضى أبداً حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ على عنقه ففعل فقال عليه السلام لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فنزل وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ندامة يعني عقبة يقول يا ليتني لم أتخذ أمية خليلاً لقد أضلني عن الذكر أي صرفني عن الذكر وهو القرآن والإيمان بعد إذ جاءني مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبراً ولم يقتل يومئذ من الأسارى غيره وغير النضر بن الحارث الثاني قالت الرافضة هذا الظالم هو رجل بعينه وإن المسلمين غيروا اسمه وكتموه وجعلوا فلاناً بدلاً من اسمه وذكروا فاضلين من أصحاب رسول الله واعلم أن إجراء اللفظ على العموم ليس لنفس اللفظ لأنا بينا في أصول الفقه أن الألف واللام إذا دخل على الاسم المفرد لا يفيد العموم بل إنما يفيده للقرينة من حيث إن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف فدل ذلك على أن المؤثر في العض على اليدين كونه ظالماً وحينئذ يعم الحكم لعموم علته وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة لأن هذا الذي ذكرناه يقتضي العموم ونزوله في واقعة أخرى خاصة لا ينافي أن يكون المراد هو العموم حتى يدخل فيه تلك الصورة وغيرها ولأن المقصود من الآية زجر الكل عن الظلم وذلك لا يحصل إلا بالعموم وأما قول الرافضة فذلك لا يتم إلا بالطعن في القرآن وإثبات أنه غير وبدل ولا نزاع في أنه كفر
المسألة الثانية استدلت المعتزلة بقوله وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ قالوا الظالم يتناول الكافر والفاسق فدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة والكلام عليه تقدم
المسألة الثالثة قوله يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ قال الضحاك يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت وقال أهل التحقيق هذه اللفظة مشعرة بالتحسر والغم يقال عض أنامله وعض على يديه
المسألة الرابعة كما بينا أن الظالم غير مخصوص بشخص واحد بل يعم جميع الظلمة فكذا المراد بقوله فلاناً ليس شخصاً واحداً بل كل من أطيع في معصية الله واستشهد القفال بقوله وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً(24/66)
( الفرقان 55 ) وَيَقُولُ الْكَافِرُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ( النبأ 40 ) يعني به جماعة الكفار
المسألة الخامسة قرىء يا ويلتي بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها تعالى فهذا أوانك وإنما قلبت الياء ألفاً كما في صحارى و ( عذارى )
المسألة السادسة قوله لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ أي عن ذكر الله أو القرآن وموعظة الرسول ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق ( وغيرته ) على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله سماه شيطاناً لأنه أضله كما يضل الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة أو أراد إبليس فإنه هو الذي حمله على أن صار خليلاً لذلك المضل ومخالفة الرسول ثم خذله أو أراد الجنس وكل من تشيطن من الجن والإنس ويحتمل أن يكون وَكَانَ الشَّيْطَانُ حكاية كلام الظالم وأن يكون كلام الله
وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِى ٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً
اعلم أن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وشكاهم إلى الله تعالى وقال الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أكثر المفسرين أنه قول واقع من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال أبو مسلم بل المراد أن الرسول عليه السلام يقوله في الآخرة وهو كقوله فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) والأول أولى لأنه موافق للفظ ولأن ما ذكره الله تعالى من قوله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ ( الفرقان 31 ) تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يليق إلا إذا كان وقع ذلك القول منه
المسألة الثانية ذكروا في المهجور قولين الأول أنه من الهجران أي تركوا الإيمان به ولم يقبلوه وأعرضوا عن استماعه الثاني أنه من أهجر أي مهجورا فيه ثم حذف الجار ويؤكده قوله تعالى مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ( المؤمنون 67 ) ثم هجرهم فيه أنهم كانوا يقولون إنه سحر وشعر وكذب وهجر أي هذيان وروى أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من تعلم القرآن ( وعلمه ) وعلق مصحفاً لم يتعهده ولم ينطر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه ) ثم إنه تعالى قال مسلياً لرسوله عليه الصلاة والسلام ومعزياً له وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وبين بذلك أن له أسوة بسائر الرسل فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا ثم فيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر لأن قوله تعالى جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً يدل على أن تلك العداوة من جعل الله ولا شك أن تلك العداوة كفر قال الجبائي المراد من الجعل التبيين فإنه تعالى لما بين أنهم أعداؤه جاز أن يقول جعلناهم أعداءه كما إذا بين الرجل أن فلاناً(24/67)
لص يقال جعله لصاً كما يقال في الحاكم عدل فلاناً وفسق فلاناً وجرحه قال الكعبي إنه تعالى لما أمر الأنبياء بعداوة الكفار وعداوتهم للكفار تقتضي عداوة الكفار لهم فلهذا جاز أن يقول وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ لأنه سبحانه هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك العداوة وقال أبو مسلم يحتمل في العدو أنه البعيد لا القريب إذ المعاداة المباعدة كما أن النصر القرب والمظاهرة وقد باعد الله تعالى بين المؤمنين والكافرين والجواب عن الأول أن التبيين لا يسمونه ألبتة جعلاً لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال إنه جعل الصانع وجعل قدمه والجواب عن الثاني أن الذي أمره الله تعالى به هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم أو ليس له تأثير فإن كان الأول فقد تم الكلام لأن عداوتهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كفر فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك العداوة فقد أمره بما له أثر في وقوع الكفر وإن لم يكن فيه تأثير ألبتة كان منقطعاً عنه بالكلية فيمتنع إسناده إليه وهذا هو الجواب عن قول أبي مسلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن قول محمد عله السلام لِلإِنْسَانِ خَذُولاً وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ في المعنى كقول نوح عليه السلام رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 5 6 ) وكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا ههنا فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) جوابه أن نوحاً عليه السلام لما ذكر ذلك دعا عليهم وأما محمد عليه الصلاة والسلام فلما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر فلما قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فظهر الفرق
المسألة الثالثة قوله جَعَلْنَا صيغة العظماء والتعظيم إذا ذكر نفسه في كل معرض من التعظيم وذكر أنه يعطي فلا بد وأن تكون تلك العطية عظيمة كقوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي ( الحجر 87 ) وقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( الكوثر 1 ) فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي هي منشأ الضرر في الدين والدنيا وجوابه أن خلق العداوة سبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب والله أعلم
المسألة الرابعة يجوز أن يكون العدو واحداً وجمعاً كقوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ( الشعراء 77 ) وجاء في التفسير أن عدو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أبو جهل
أما قوله وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً فقال الزجاج الباء زائدة يعني كفى ربك وهادياً ونصيراً منصوبان على الحال هادياً إلى مصالح الدين والدنيا ونصيراً على الأعداء ونظيره حَكِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 )
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَة ً وَاحِدَة ً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً(24/68)
اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأن أهل مكة قالوا تزعم أنك رسول من عند الله أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة جملة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود وعن ابن جريج بين أوله وآخره اثنتان أو ثلاث وعشرون سنة وأجاب الله بقوله كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وبيان هذا الجواب من وجوه أحدها أنه عليه السلام لم يكن من أهل القراءة والكتابة فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه ولجاز عليه الغلط والسهو وإنما نزلت التوراة جملة لأنها مكتوبة يقرؤها موسى وثانيها أن من كان الكتاب عنده فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ فالله تعالى ما أعطاه الكتاب دفعة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ليكون حفظه له أكمل فيكون أبعد له عن المساهلة وقلة التحصيل وثالثها أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة على الخلق فكان يثقل عليهم ذلك أما لما نزل مفرقاً منجماً لا جرم نزلت التكاليف قليلاً قليلاً فكان تحملها أسهل ورابعها أنه إذا شاهد جبريل حالاً بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته فكان أقوى على أداء ما حمل وعلى الصبر على عوارض النبوة وعلى احتماله أذية قومه وعلى الجهاد وخامسها أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجماً ثبت كونه معجزاً فإنه لو كان ذلك في مقدور البشر لوجب أن يأتوا بمثله منجماً مفرقاً وسادسها كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم والوقائع الواقعة لهم فكانوا يزدادون بصيرة لأن بسبب ذلك كان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب وسابعها أن القرآن لما نزل منجماً مفرقاً وهو عليه السلام كان يتحداهم من أول الأمر فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن فلما عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكل أولى فبهذا الطريق ثبت في فؤاده أن القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة وثامنها أن السفارة بين الله تعالى وبين أنبيائه وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم فيحتمل أن يقال إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) دفعة واحدة لبطل ذلك المنصب على جبريل عليه السلام فلما أنزله مفرقاً منجماً بقي ذلك المنصب العالي عليه فلأجل ذلك جعله الله سبحانه وتعالى مفرقاً منجماً
أما قوله كَذالِكَ ففيه وجهان الأول أنه من تمام كلام المشركين أي جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل وعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار في الآية وهو أن يقول أنزلناه مفرقاً لتثبت به فؤادك الثاني أنه كلام الله تعالى ذكره جواباً لهم أي كذلك أنزلناه مفرقاً فإن قيل ذلك في كَذالِكَ يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه والذي تقدم فهو إنزاله جملة ( واحدة ) فكيف فسر به كذلك أنزلناه مفرقاً قلنا لأن قولهم لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ جُمْلَة ً واحِدَة ً معناه لم نزل مفرقاً فذلك إشارة إليه
أما قوله تعالى وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً فمعنى الترتيل في الكلام أن يأتي بعضه على أثر بعض على تؤدة وتمهل وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها يقال ثغر رتل وهو ضد المتراص ثم إنه سبحانه وتعالى لما بين فساد قولهم بالجواب الواضح قال وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ من الجنس الذي تقدم ذكره من الشبهات إلا جئناك بالحق الذي يدفع قولهم كما قال تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ( الأنبياء 18 )(24/69)
وبين أن الذي يأتي به أحسن تفسيراً لأجل ما فيه من المزية في البيان والظهور ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل معناه كذا وكذا
أما قوله الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ففيه مسائل
المسألة الأولى عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يحشر الناس على ثلاثة أصناف صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه ) وعنه عليه السلام ( إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن مشيهم على وجوههم )
المسألة الثانية الأقرب أنه صفة للقوم الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت وإن كان غيرهم من أهل النار يدخل معهم
المسألة الثالثة حمله بعضهم على أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين وجوههم إلى القرار وأرجلهم إلى فوق روي ذلك عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال آخرون المراد أنهم يحشرون ويسحبون على وجوههم وهذا أيضاً مروي عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أولى وقال الصوفية الذين تعلقت قلوبهم بما سوى الله فإذا ماتوا بقي ذلك التعلق فعبر عن تلك الحالة بأنهم يحشرون على وجوههم إلى جهنم ثم بين تعالى أنهم شر مكاناً من أهل الجنة وأضل سبيلاً وطريقاً والمقصود منه الزجر عن طريقهم والسؤال عليه كما ذكرناه على قوله أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( الفرقان 24 ) وقد تقدم الجواب عنه
واعلم أنه تعالى بعد أن تكلم في التوحيد ونفي الأنداد وإثبات النبوة والجواب عن شبهات المنكرين لها وفي أحوال القيامة شرع في ذكر القصص على السنة المعلومة
القصة الأولى قصة موسى عليه السلام
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً
اعلم أنه تعالى لما قال وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً ( الفرقان 31 ) أتبعه بذكر جماعة من الأنبياء وعرفه بما نزل بمن كذب من أممهم فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً والمعنى لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب وآتيناه الآيات فرد فقد آتينا موسى التوراة وقوينا عضده بأخيه هرون ومع ذلك فقد رد وفيه مسائل
المسألة الأولى كونه وزيراً لا يمنع من كونه شريكاً له في النبوة فلا وجه لقول من قال في قوله فَقُلْنَا اذْهَبَا إنه خطاب لموسى عليه السلام وحده بل يجري مجرى قوله اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( طه 43 )(24/70)
فإن قيل إن كونه وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً بل يجب أن يقال إنه لما صار شريكاً خرج عن كونه وزيراً قلنا لا منافاة بين الصفتين لأنه لا يمتنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيراً وظهيراً ومعيناً له
المسألة الثانية قال الزجاج الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويتحصن برأيه والوزر ما يعتصم به ومنه كَلاَّ لاَ وَزَرَ ( القيامة 11 ) أي لا منجى ولا ملجأ قال القاضي ولذلك لا يوصف تعالى بأن له وزيراً ولا يقال فيه أيضاً بأنه وزير لأن الالتجاء إليه في المشاورة والرأي على هذا الحد لا يصح
المسألة الثالثة دَمَّرْنَاهُمْ أهلكناهم إهلاكاً فإن قيل الفاء للتعقيب والإهلاك لم يحصل عقيب ذهاب موسى وهرون إليهم بل بعد مدة مديدة قلنا التعقيب محمول ههنا على الحكم لا على الوقوع وقيل إنه تعالى أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة بطولها أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم
المسألة الرابعة قوله تعالى اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا إن حملنا تكذيب الآيات على تكذيب آيات الإلهية فلا إشكال وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ وإن كان للماضي إلا أن المراد هو المستقبل
القصة الثانية قصة نوح عليه السلام
وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَة ً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً
اعلم أنه تعالى إنما قال كَذَّبُواْ الرُّسُلَ إما لأنهم كانوا من البراهمة المنكرين لكل الرسل أو لأنه كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيباً للجميع لأن تكذيب الواحد منهم لا يمكن إلا بالقدح في المعجز وذلك يقتضي تكذيب الكل أو لأن المراد بالرسل وإن كان نوحاً عليه السلام وحده ولكنه كما يقال فلان يركب الأفراس
أما قوله أَغْرَقْنَاهُمْ فقال الكلبي أمظر الله عليهم السماء أربعين يوماً وأخرج ماء الأرض أيضاً في تلك الأربعين فصارت الأرض بحراً واحداً وَجَعَلْنَاهُمْ أي وجعلنا إغراقهم أو قصتهم آية وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ أي لكل من سلك سبيلهم في تكذيب الرسل عذاباً أليماً ويحتمل أن يكون المراد قوم نوح
القصة الثالثة قصة عاد وثمود وأصحاب الرس
وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَالِكَ كَثِيراً وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاٌّ مْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً(24/71)
المسألة الأولى عطف عَاداً على ( هم ) في وَجَعَلْنَاهُمْ أو على ( الظالمين ) لأن المعنى ووعدنا الظالمين
المسألة الثانية قرىء و ثَمُودُ على تأويل القبيلة وأما على المنصرف فعلى تأويل الحي أو لأنه اسم للأب الأكبر
المسألة الثالثة قال أبو عبيدة الرس هو البئر غير المطوية قال أبو مسلم في البلاد موضع يقال له الرس فجائز أن يكون ذلك الوادي سكناً لهم والرس عند العرب الدفن ويسمى به الحفر يقال رس الميت إذا دفن وغيب في الحفرة وفي التفسير أنه البئر وأي شيء كان فقد أخبر الله تعالى عن أهل الرس بالهلاك انتهى
المسألة الرابعة ذكر المفسرون في أصحاب الرس وجوهاً أحدها كانوا قوماً من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش فبعث الله تعالى إليهم شعيباً عليه السلام فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه فبينما هم حول الرس خسف الله بهم وبدارهم وثانيها الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وثالثها أصحاب النبي حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا ورابعها هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود وخامسها الرس أنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار وقيل ( كذبوه ) ورسوه في بئر أي دسوه فيها وسادسها عن علي عليه السلام أنهم كانوا قوماً يعبدون شجرة الصنوبر وإنما سموا بأصحاب الرس لأنهم رسوا نبيهم في الأرض وسابعها أصحاب الرس قوم كانت لهم قرى على شاطىء نهر يقال له الرس من بلاد المشرق فبعث الله تعالى إليهم نبياً من ولد يهودا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمناً فشكى إلى الله تعالى منهم فحفروا بئراً ورسوه فيها وقالوا نرجو أن يرضى عنا إلهنا وكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم يقول إلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف قلبي وقلة حيلتي فعجل قبض روحي حتى مات فأرسل الله تعالى ريحاً عاصفة شديدة الحمرة فصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقد وأظلتهم سحابة سوداء فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص وثامنها روى ابن جرير عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا عبد أسود ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئراً فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه حجراً ضخماً وكان ذلك العبد يحتطب فيشتري له طعاماً وشراباً ويرفع الصخرة ويدليه إليه فكان ذلك ما شاء الله فاحتطب يوماً فلما أراد أن يحملها وجد نوماً فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر فنام سبع سنين أخرى ثم هب فحمل حزمته فظن أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته واشترى طعاماً وشراباً وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحداً وكان قومه قد استخرجوه وآمنوا به وصدقوه وكان ذلك النبي يسألهم عن الأسود فيقولون لا ندري حاله حتى قبض الله النبي وقبض ذلك الأسود فقال عليه السلام ( إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة )(24/72)
واعلم أن القول ما قاله أبو مسلم وهو أن شيئاً من هذه الروايات غير معلوم بالقرآن ولا بخبر قوي الإسناد ولكنهم كيف كانوا فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم أهلكوا بسبب كفرهم
المسألة الخامسة قال النخعي القرن أربعون سنة وقال علي عليه السلام بل سبعون سنة وقيل مائة وعشرون
المسألة السادسة قوله بين ذلك أي بَيْنَ ذالِكَ المذكور وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ويحسب الحاسب أعداداً متكاثرة ثم يقول فذلك كيت وكيت على معنى فذلك المحسوب أو المعدود
أما قوله وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاْمْثَالَ فالمراد بينا لهم وأزحنا عللهم فلما كذبوا تبرناهم تتبيراً ويحتمل وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاْمْثَالَ بأن أجبناهم عما أوردوه من الشبه في تكذيب الرسل كما أورده قومك يا محمد فلما لم ينجع فيه تبرناهم تتبيراً فحذر تعالى بذلك قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الاستمرار على تكذيبه لئلا ينزل بهم مثل الذي نزل بالقوم عاجلاً وآجلاً
المسألة السابعة ( كلاً ) الأول منصوب بما دل عليه ضَرَبْنَا لَهُ الاْمْثَالَ وهو أنذرنا أو حذرنا والثاني بتبرنا لأنه فارغ له
المسألة الثامنة التتبير التفتيت والتكسير ومنه التبر وهو كسارة الذهب والفضة والزجاج
القصة الرابعة قصة لوط عليه السلام
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَة ِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً
واعلم أنه تعالى أراد بالقرية سدوم من قرى قوم لوط عليه السلام وكانت خمساً أهلك الله تعالى أربعاً بأهلها وبقيت واحدة و ( مطر السوء ) الحجارة يعني أن قريشاً مروا مراراً كثيرة في متاجرهم إلى الشأم(24/73)
على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء أَفَلَمْ يَكُونُواْ في ( مرار ) مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله تعالى ونكاله ( ويذَّكرون ) بَلْ كَانُواْ قوماً كفرة لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً وذكروا في تفسير يَرْجُونَ وجوها أحدها وهو الذي قاله القاضي وهو الأقوى أنه محمول على حقيقة الرجاء لأن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف ومشاق النظر والاستدلال إلا لرجاء ثواب الآخرة فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها فلا يتحمل تلك المشاق والمتاعب وثانيها معناه لا يتوقعون نشوراً ( وعاقبة ) فوضع الرجاء موضع التوقع لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن وثالثها معناه لا يخافون على اللغة التهامية وهو ضعيف والأول هو الحق
وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاٌّ نْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً
اعلم أنه سبحانه لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته وفي إيراد الشبهات في ذلك بين بعد ذلك أنهم إدا رأوا الرسول اتخذوه هزواً فلم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار ويقول بعضهم لبعض أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ( إنْ ) الأولى نافية والثانية مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينهما
المسألة الثانية جواب ( إذا ) هو ما أضمر من القول يعني وإذا رأوك مستهزئين قالوا أبعث الله هذا رسولاً وقوله إِن يَتَّخِذُونَكَ جملة اعترضت بين ( إذا ) وجوابها
المسألة الثالثة اتخذوه هزواً في معنى استهزؤا به والأصل اتخذوه موضع هزء أو مهزوءاً به
المسألة الرابعة اعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول أتوا بنوعين من الأفعال أحدهما أنهم يستهزئون به وفسر ذلك الاستهزاء بقوله أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً وذلك جهل عظيم لأن الاستهزاء إما أن يقع بصورته أو بصفته أما الأول فباطل لأنه عليه الصلاة والسلام كان أحسن منهم صورة وخلقة وبتقدير أنه لم يكن كذلك لكنه عليه السلام ما كان يدعي التمييز عنهم بالصورة بل بالحجة وأما الثاني فباطل لأنه عليه السلام ادعى التميز عنهم في ظهور المعجز عليه دونهم وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ودلالته ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية واستهزؤا بالرسول عليه السلام وذلك يدل على أنه ليس للمبطل في كل الأوقات إلا السفاهة والوقاحة وثانيهما أنهم كانوا يقولون فيه إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وذلك يدل على أمور الأول أنهم سموا ذلك إضلالاً وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم وفي استعظام صنيعه ( صلى الله عليه وسلم ) في صرفهم عنه وذلك يدل على أنهم كانوا يعتقدون أن هذا هو الحق فمن هذا الوجه يبطل قول أصحاب المعارف في أنه لا يكفر إلا من يعرف الدلائل لأنهم جهلوه ثم نسبهم الله تعالى إلى الكفر واضلال وقولهم لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا يدل أيضاً على ذلك الثاني يدل هذا القول منهم على جد الرسول عليه السلام واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان ولولا ذلك لما قالوا إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا(24/74)
وهكذا كان عليه السلام فإنه في أول الأمر بالغ في إيراد الدلائل والجواب عن الشبهات وتحمل ما كانوا يفعلونه من أنواع السفاهة وسوء الأدب الثالث أن هذا يدل على اعتراف القوم بأنهم لم يعترضوا ألبتة على دلائل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وما عارضوها إلا بمحض الجحود والتقليد لأن قولهم لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا إشارة إلى الجحود والتقليد ولو ذكروا اعتراضاً على دلائل الرسول عليه السلام لكان ذكر ذلك أولى من ذكر مجرد الجحود والإصرار الذي هو دأب الجهال وذلك يدل على أن القوم كانوا مقهورين تحت حجته عليه السلام وأنه ما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة الرابع الآية تدل على أن القوم صاروا في ظهور حجته عليه السلام عليهم كالمجانين لأنهم استهزؤا به أولاً ثم وصفوه بأنه كاد يضلنا عن آلهتنا لولا أن قابلناه بالجحود والإصرار فهذا الكلام الأخير يدل على أن القوم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل والكلام الأول وهو السخرية والاستهزاء لا يليق إلا بالجاهل العاجز فالقوم لما جمعوا بين هذين الكلامين دل ذلك على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره فتارة بالوقاحة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل ثم إنه سبحانه لما حكى عنهم هذا الكلام زيف طريقتهم في ذلك من ثلاثة أوجه أولها قوله وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً لأنهم لما وصفوه بالإضلال في قولهم إِن كَانَ بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه فهو وعيد شديد لهم على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر وثانيها قوله تعالى سَبِيلاً أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً والمعنى أنه سبحانه بين أن بلوغ هؤلاء في جهالتهم وإعراضهم عن الدلائل إنما كان لاستيلاء التقليد عليهم وأنهم اتخذوا أهواءهم آلهة فكل ما دعاهم الهوى إليه انقادوا له سواء منع الدليل منه أو لم يمنع ثم ههنا أبحاث
الأول قوله أَرَأَيْتَ كلمة تصلح للإعلام والسؤال وههنا هي تعجيب من جهل من هذا وصفه ونعته
الثاني قوله اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ معناه اتخذ إلهه ما يهواه أو إلهاً يهواه وقيل هو مقلوب ومعناه اتخذ هواه إلهه وهذا ضعيف لأن قوله اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ يفيد الحصر أي لم يتخذ لنفسه إلهاً إلا هواه وهذا المعنى لا يحصل عند القلب قال ابن عباس الهوى إله يعبد وقال سعيد بن جبير كان الرجل من المشركين يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده
الثالث قوله أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أي حافظاً تحفظه من اتباع هواه أي لست كذلك
الرابع نظير هذه الآية قوله تعالى لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ( الغاشية 22 ) وقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( ق 45 ) وقوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( البقرة 256 ) قال الكلبي نسختها آية القتال وثالثها قوله أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ أم ههنا منقطعة معناه بل تحسب وذلك يدل على أن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول لأنهم لشدة عنادهم لا يصغون إلى الكلام وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه فكأنه ليس لهم عقل ولا سمع ألبتة فعند ذلك شبههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكر وإقبالهم على اللذات الحاضرة الحسية وإعراضهم عن طلب السعادات الباقية العقلية وها هنا سؤالات(24/75)
السؤال الأول لم قال أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ فحكم بذلك على الأكثر دون الكل والجواب لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل
السؤال الثاني لم جعلوا أضل من الأنعام الجواب من وجوه أحدها أن الأنعام تنقاد لأربابها وللذي يعلفها ويتعهدها وتميز بين من يحسن إليها وبين من يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يميزون بين إحسانه إليهم وبين إساءة الشيطان إليهم الذين هو عدو لهم ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يحترزون من العقاب الذي هو أعظم المضار وثانيها أن قلوب الأنعام كما أنها تكون خالية عن العلم فهي خالية عن الجهل الذي هو اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو عليه مع التصميم وأما هؤلاء فقلوبهم كما خلت عن العلم فقد اتصفت بالجهل فإنهم لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون بل هم مصرون على أنهم يعلمون وثالثها أن عدم علم الأنعام لا يضر بأحد أما جهل هؤلاء فإنه منشأ للضرر العظيم لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ورابعها أن الأنعام لا تعرف شيئاً ولكنهم عاجزون عن الطلب وأما هؤلاء الجهال فإنهم ليسوا عاجزين عن الطلب والمحروم عن طلب المراتب العالية إذا عجز عنه لا يكون في استحقاق الذم كالقادر عليه التارك له لسوء اختياره وخامسها أن البهائم لا تستحق عقاباً على عدم العلم أما هؤلاء فإنهم يستحقون عليه أعظم العقاب وسادسها أن البهائم تسبح الله تعالى على مذهب بعض الناس على ما قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الأسراء 44 ) وقال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ إلى قوله وَالدَّوَابّ ( الحج 18 ) وقال وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( النور 41 ) وإذا كان كذلك فضلال الكفار أشد وأعظم من ضلال هذه الأنعام
السؤال الثالث أنه سبحانه لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث الرسول إليهم فإن من شرط التكليف العقل الجواب ليس المراد أنهم لا يعقلون بل إنهم لا ينتفعون بذلك العقل فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم إنما أنت أعمى وأصم
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِى َّ كَثِيراً(24/76)
اعلم أنه تعالى لما بين جهل المعرضين عن دلائل الله تعالى وفساد طريقهم في ذلك ذكر بعده أنواعاً من الدلائل الدالة على وجود الصانع
النوع الأول الاستدلال بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَلَمْ تَرَ فيه وجهان أحدهما أنه من رؤية العين والثاني أنه من رؤية القلب يعني العلم فإن حلمناه على رؤية العين فالمعنى أم تر إلى الظل كيف مده ربك وإن كان تخريج لفظه على عادة العرب أفصح وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج فالمعنى ألم تعلم وهذا أولى وذلك أن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله تعالى في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه معلوم من حيث إن كل متغير جائز فله مؤثر فحمل هذا اللفظ على رؤية القلب أولى من هذا الوجه
المسألة الثانية المخاطب بهذا الخطاب وإن كان هو الرسول عليه السلام بحسب ظاهر اللفظ ولكن الخطاب عام في المعنى لأن المقصود من الآية بيان نعم الله تعالى بالظل وجميع المكلفين مشتركون في أنه يجب تنبههم لهذه النعمة وتمكنهم من الاستدلال بها على وجود الصانع
المسألة الثالثة الناس أكثروا في تأويل هذه الآية والكلام الملخص يرجع إلى وجهين
الأول أن الظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص وبين الظلمة الخالصة وهو ما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران وهذه الحالة أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس وأما الضوء الخالص وهو الكيفية الفائضة من الشمس فهي لقوتها تبهر الحس البصري وتفيد السخونة القوية وهي مؤذية فإذن أطيب الأحوال هو الظل ولذلك وصف الجنة به فقال وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( الواقعة 30 ) وإذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه بين أنه من النعم العظيمة والمنافع الجليلة ثم إن الناظر إلى الجسم الملون وقت الظل كأنه لا يشاهد شيئاً سوى الجسم وسوى اللون ونقول الظل ليس أمراً ثالثاً ولا يعرف به إلا إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم زال ذلك الظل فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً وماهية لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها فلولا الشمس لما عرف الظل ولولا الظلمة لما عرف النور فكأنه سبحانه وتعالى لما طلع الشمس على الأرض وزال الظل فحينئذ ظهر للعقول أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون فلهذا قال سبحانه ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً أي خلقنا الظل أولاً بما فيه من المنافع واللذات ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت الشمس دليلاً على وجود هذه النعمة ثم قبضناه أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيراً يسيراً فإن كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل في جانب المغرب ولما كان الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيراً يسيراً فكذا زوال الإظلال لا يكون دفعة بل يسيراً يسيراً ولأن قبض الظل لو حصل دفعة لاختلت المصالح ولكن قبضها يسيراً يسيراً يفيد معه أنواع مصالح العالم والمراد بالقبض الإزالة والإعدام هذا أحد التأويلين
التأويل الثاني وهو أنه سبحانه وتعالى لما خلق الأرض والسماء وخلق الكواكب والشمس والقمر وقع الظل على الأرض ثم إنه سبحانه خلق الشمس دليلاً عليه وذلك لأن بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فإنهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر وكما أن المهتدي(24/77)
يهتدي بالهادي والدليل ويلازمه فكذا الأظلال كأنها مهتدية وملازمة للأضواء فلهذا جعل الشمس دليلاً عليها
وأما قوله ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً فأما أن يكون المراد منه انتهاء الأظلال يسيراً يسيراً إلى غاية نقصاناتها فسمى إزالة الأظلال قبضاً لها أو يكون المراد من قبضها يسيراً قبضها عند قيام الساعة وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الأظلال وقوله يَسِيراً هو كقوله ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ق 44 ) فهذا هو التأويل الملخص
المسألة الرابعة وجه الاستدلال به على وجود الصانع المحسن أن حصول الظل أمر نافع للأحياء والعقلاء وأما حصول الضوء الخالص أو الظلمة الخالصة فهو ليس من باب المنافع فحصول ذلك الظل إما أن يكون من الواجبات أو من الجائزات والأول باطل وإلا لما تطرق التغير إليه لأن الواجب لا يتغير فوجب أن يكون من الجائزات فلا بد له في وجوده بعد العدم وعدمه بعد الوجود من صانع قادر مدبر محسن يقدره بالوجه النافع وما ذاك إلا من يقدر على تحريك الأجرام العلوية وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن والترتيب الأكمل وما هو إلا الله سبحانه وتعالى فإن قيل الظل عبارة عن عدم الضوء عما شأنه أن يضيء فكيف استدل بالأمر العدمي على ذاته وكيف عده من النعم قلنا الظل ليس عدماً محضاً بل هو أضواء مخلوطة بظلم والتحقيق أن الظل عبارة عن الضوء الثاني وهو أمر وجودي وفي تحقيقه وبسطه كلام دقيق يرجع فيه إلى كتبنا العقلية
النوع الثاني قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً اعمل أنه تعالى شبه الليل من حيث إنه يستر الكل ويغطي باللباس الساتر للبدن ونبه على ما لنا فيه من النفع بقوله وَالنَّوْمَ سُبَاتاً والسبات هو الراحة وجعل النوم سباتاً لأنه سبب للراحة قال أبو مسلم السبات الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت وقال صاحب ( الكشاف ) السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة قال وهذا كقوله وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ ( الأنعام 60 ) وإنما قلنا إن تفسيره بالموت أولى من تفسيره بالراحة لأن النشور في مقابلته يأباه قال أبو مسلم وجعل النهار نشوراً هو بمعنى الانتشار والحركة كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة فقال هو بمعنى الانتشار والحركة كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة فقال اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 ) والتي لم تمت في منامها كذلك وفق بين القيام من النوم والقيام من الموت في التسمية بالنشور وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمه على خلقه لأن الاحتجاب بستر الليل كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية والنوم واليقظة شبههما بالموت والحياة وعن لقمان أنه قال لابنه كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر
النوع الثالث قوله وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَحْمَتِهِ وقد تقدم تفسيره في سورة الأعراف ثم فيه مسائل
المسألة الأولى قرىء ( الريح ) و ( الرياح ) قال الزجاج وفي ( نشراً ) خمسة أوجه بفتح النون وبضمها وبضم النون والشين وبالباء الموحدة مع ألف والمؤنث وبشراً بالتنوين قال أبو مسلم في قرأ ( بشراً ) أراد جمع بشير مثل قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ ( الروم 46 ) وأما بالنون فهو في معنى قوله والنَّاشِراتِ نَشْراً ( المرسلات 3 )(24/78)
وهي الرياح والرحمة الغيث والماء والمطر
المسألة الثانية قوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً نص في أنه تعالى ينزل الماء من السماء لا من السحاب وقول من يقول السحاب سماء ضعيف لأن ذاك بحسب الاشتقاق وأما بحسب وضع اللغة فالسماء اسم لهذا السقف المعلوم فصرفه عنه ترك للظاهر
المسألة الثالثة اختلفوا في أن الطهور ما هو قال كثير من العلماء الطهور ما يتطهر به كالفطور ما يفطر به والسحور ما يتسحر به وهو مروي أيضاً عن ثعلب وأنكر صاحب ( الكشاف ) ذلك وقال ليس فعول من التفعيل في شيء والطهور على وجهين في العربية صفة واسم غير صفة فالصفة قولك ماء طهور كقولك طاهر والاسم قولك طهور لما يتطهر به كالوضوء والوقود لما يتوضأ به ويوقد به النار حجة القول الأول قوله عليه السلام ( التراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج ) ولو كان معنى الطهور الطاهر لكان معناه التراب طاهر للمسلم وحينئذ لا ينتظم الكلام وكذا قوله عليه السلام ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعاً ) ولو كان الطهور الطاهر لكان معناه طاهر إناء أحدكم وحينئذ لا ينتظم الكلام ولأنه تعالى قال وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) فبين أن المقصود من الماء إنما هو التطهر به فوجب أن يكون المراد من كونه طهوراً أنه هو المطهر به لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام فوجب حمله على الوصف الأكمل ولا شك أن المطهر أكمل من الطاهر
المسألة الرابعة اعلم أن الله تعالى ذكر من منافع الماء أمرين أحدهما ما يتعلق بالنبات والثاني ما يتعلق بالحيوان أما أمر النبات فقوله لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً وفيه سؤالات
السؤال الأول لم قال لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً ميتاً ولم يقل ميتة الجواب لأن البلدة في معنى البلد في قوله فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ ( فاطر 9 )
السؤال الثاني ما المراد من حياة البلد وموتها الجواب الناس يسمون ما لا عمارة فيه من الأرض مواتاً وسقيها المقتضي لعمارتها إحياء لها
السؤال الثالث أن جماعة الطبائعيين وكذا الكعبي من المعتزلة قالوا إن بطبع الأرض والماء وتأثير الشمس فيهما يحصل النبات وتمسكوا بقوله تعالى لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً فإن الباء في ( به ) تقتضي أن للماء تأثيراً في ذلك الجواب الظاهر وإن دل عليه لكن المتكلمون تركوه لقيام الدلالة على فساد الطبع وأما أمر الحيوان فقوله سبحانه وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِى َّ كَثِيراً وفيه سؤالات
السؤال الأول لم خص الإنسان والأنعام ههنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء الجواب لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام لأنها قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها فكأن الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم بسقيهم(24/79)
السؤال الثاني ما معنى تنكير الأنعام والأناسى ووصفهما بالكثرة الجواب معناه أن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار ( ومنافع ) المياه فهم في غنية ( في شرب المياه عن المطر ) وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وذلك قوله لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظان الماء ويحتمل في ( كثير ) أن يرجع إلى قوله وَنُسْقِيَهِ لأن الحي يحتاج إلى الماء حالاً بعد حال وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان إلى الضرر أقرب والحيوان يحتاج إليه حالاً بعد حال ما دام حياً
السؤال الثالث لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي الجواب لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا لأرضهم ومواشيهم فقد ظفروا أيضاً بسقياهم وأيضاً فقوله تعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ( الفرقان 50 ) يعني صرف المطر كل سنة إلى جانب آخر وإذا كان كذلك فلا يسقي الكل منه بل يسقي كل سنة أناسي كثيراً منه
السؤال الرابع ما الأناسي الجواب قال الفراء والزجاج الإنسي والأناسي كالكرسي والكراسي ولم يقل كثيرين لأنه قد جاء فعيل مفرداً ويراد به الكثرة كقوله وَقُرُوناً بَيْنَ ذالِكَ كَثِيراً ( الفرقان 38 ) وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 )
واعلم أن الفقهاء قد استنبطوا أحكام المياه من قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ونحن نشير إلى معاقد تلك المسائل فنقول ههنا نظران أحدهما أن الماء مطهر والثاني أن غير الماء هل هو مطهر أم لا النظر الأول أن نقول الماء إما أن لا يتغير أو يتغير القسم الأول وهو الذي لا يتغير فهو طاهر في ذاته مطهر لغيره إلا الماء المستعمل فإنه عند الشافعي طاهر وليس بمطهر وقال مالك والثوري يجوز الوضوء به وقال أبو حنيفة في رواية أبي يوسف إنه نجس فههنا مسائل
المسألة الأولى في بيان أنه ليس بمطهر ودليلنا قوله عليه السلام ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ) ولو بقي الماء كما كان طاهراً مطهراً لما كان للمنع منه معنى ومن وجه القياس أن الصحابة كانوا يتوضؤون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء ولو كان ذلك الماء مطهراً لحملوه ليوم الحاجة واحتج مالك بالآية والخبر والقياس أما الآية فمن وجهين الأول قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً وقوله وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) فدلت الآية على حصول وصف المطهرية للماء والأصل في الثابت بقاؤه فوجب الحكم ببقاء هذه الصفة للماء بعد صيرورته مستعملاً وأيضاً قوله طَهُوراً يقتضي جواز التطهر به مرة بعد أخرى والثاني أنه أمر بالغسل مطلقاً في قوله فاغْسِلُواْ ( المائدة 6 ) واستعمال كل المائعات غسل لأنه لا معنى للغسل إلا إمرار الماء على العضو قال الشاعر فياحسنها إذ يغسل الدمع كحلها
فمن اغتسل بالماء المستعمل فقد أتى بالغسل فوجب أن يكون مجزئاً له لأنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة وأما السنة فما روي أنه عليه السلام ( توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده ) وعنه عليه السلام ( أنه توضأ فأخذ من بلل لحيته فمسح به رأسه ) وعن ابن عباس أنه عليه السلام ( اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة ) وأما القياس فإنه ماء طاهر لقي(24/80)
جسداً طاهراً فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديداً وكذا الماء المستعمل في الكرة الرابعة والمستعمل في التبرد والتنظيف ولأنه لا خلاف أنه إذا وضع الماء على أعلى وجهه وسقط به فرض ذلك الموضع ثم نزل ذلك الماء بعينه إلى بقية الوجه فإنه يجزيه مع أن ذلك الماء صار مستعملاً في أعلى الوجه
المسألة الثانية الدليل على أن الماء المستعمل طاهر قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ومن السنة أنه عليه السلام أخذ من بلل لحيته ومسح به رأسه وقال ( خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه ) وقال الشافعي إنه عليه السلام توضأ ولا شك أنه أصابه ما تساقط منه ولم ينقل أنه غير ثوبه ولا أنه غسله ولا أحد من المسلمين فعل ذلك فثبت أنهم أجمعوا على أنه ليس بنجس ولأنه ماء طاهر لقي جسماً طاهراً فأشبه ما إذا لاقى حجارة
المسألة الثالثة الماء المستعمل إما أن يكون مستعملاً في أعضاء الوضوء أو في غسل الثياب أما المستعمل في أعضاء الوضوء فإما أن يكون مستعملاً فيما كان فرضاً وعبادة أو فيما كان فرضاً ولا يكون عبادة أو فيما كان عبادة ولا يكون فرضاً أو فيما لا يكون فرضاً ولا عبادة
أما القسم الأول وهو المستعمل فيما كان فرضاً وعبادة فهو غير مطهر باتفاق أصحاب الشافعي
وأما القسم الثاني فهو كالماء الذي استعملته الذمية التي تحت الزوج المسلم أي في غسل حيضها ليحل للزوج غشيانها وأما القسم الثالث فهو كالماء المستعمل في الكرة الثانية والثالثة والماء المستعمل في تجديد الوضوء والماء المستعمل في الأغسال المسنونة فلأصحاب الشافعي في هذين القسمين وجهان وأما القسم الرابع فهو كالماء المستعمل في الكرة الرابعة وفي التبرد والتنظف فذاك باتفاق أصحاب الشافعي غير مستعمل وهو طاهر مطهر أما الماء المستعمل في غسل الثياب فإذا غسل ثوباً من نجاسة وطهر بغسلة واحدة يستحب أن يغسله ثلاثاً فالمنفصل في الكرة الثانية والثالثة مطهر على الأصح القسم الثاني الماء الذي يتغير فنقول الماء إذا تغير فإما أن يتغير بنفسه أو بغيره أما الأول فكالمتغير بطول المكث فيجوز الوضوء به لأنه عليه السلام كان يتوضأ من بئر ( قضاعة ) وكان ماؤها كأنه نقاعة الحناء وأما المتغير بسبب غيره فذلك الغير إما أن لا يكون متصلاً به أو يكون متصلاً به أما الذي لا يكون متصلاً به فهو كما لو وقع بقرب الماء جيفة فصار الماء منتناً بسببها فهو أيضاً مطهر وأما إذا تغير بسبب شيء متصل به فذلك المتصل إما أن يكون طاهراً أو نجساً القسم الأول إذا كان طاهراً فهو إما أن لا يخالطه أو يخالطه فإن لم يخالطه فهو كالماء المتغير بسبب وقوع الدهن والطيب والعود والعنبر والكافور الصلب فيه وهذا أيضاً مطهر كما لو كان بقرب الماء جيفة ولأن الطهورية ثبتت بقوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً والأصل في الثابت بقاؤه وأما المتغير بسبب شيء يخالطه فذلك المخالط إما أن لا يمكن صون الماء عنه أو يمكن أما الذي لا يمكن فكالمتغير بالتراب والحمأة والأوراق التي تقع فيه والطحلب الذي يتولد فيه وهذا أيضاً مطهر لأن الطهورية ثبتت بالآية والاحتراز عن ذلك عسير فيكون مرفوعاً لقوله مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وكذا لو جرى الماء في طريقه على معدن زرنيخ أو نورة أو كحل أو وقع شيء منها فيه أو نبع من معادنها أما إذا تغير الماء بسبب مخالطة ما يستغنى الماء عن جنسه نظر إن كان التغير قليلاً بحيث لا يضاف الماء إليه بأن وقع فيه زعفران فاصفر قليلاً أو دقيق فابيض قليلاً جاز الوضوء به على الصحيح من(24/81)
المذهب لأنه لم يسلبه إطلاق اسم الماء وأما إن كان التغير كثيراً فإن استحدث اسماً جديداً كالمرقة لم يجز الوضوء به بالاتفاق وإن لم يستحدث اسماً جديدا فعند الشافعي لا يجوز الوضوء به وعند أبي حنيفة يجوز
حجة الشافعي من وجوه أحدها أنه عليه السلام توضأ ثم قال ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) فذلك الوضوء إن كان واقعاً بالماء المتغير وجب أن لا يجوز إلا به وبالاتفاق ليس الأمر كذلك فثبت أنه كان بماء غير متغير وهو المطلوب وثانيها أنه إذا اختلط ماء الورد بالماء ثم توضأ الإنسان به فيحتمل أن بعض الأعضاء قد انغسل بماء الورد دون الماء وإذا كان كذلك فقد وقع الشك في حصول الوضوء وكان تيقن الحدث قائماً والشك لا يعارض اليقين فوجب أن يبقى على الحدث بخلاف ما إذا كان قليلاً لا يظهر أثره فإنه صار كالمعدوم أما إذا ظهر أثره علمنا أنه باق فيتوجه ما ذكرناه وثالثها أن الوضوء تعبد لا يعقل معناه فإنه لو توضأ بماء الورد لا يصح وضوؤه ولو توضأ بالماء الكدر المتعفن صح وضوؤه وما لا يعقل معناه وجب الاقتصار فيه على مورد النص وترك القياس
حجة أبي حنيفة وجوه أحدها قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً دلت الآية على كون الماء مطهراً والأصل في الثابت بقاؤه فوجب بقاء هذه الصفة بعد التغير بالمخالطة وثانيها قوله تعالى فاغْسِلُواْ ( المائدة 6 ) أمر بمطلق الغسل وقد أتى به فوجب أن يخرج عن العهدة وقد بينا تقرير هذا الوجه فيما تقدم وثالثها قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( النساء 43 ) علق جواز التيمم بعدم وجدان الماء وواجد هذا الماء المتغير واجد للماء لأن الماء المتغير ماء مع صفة التغير والموصوف موجود حال وجود الصفة فوجب أن لا يجوز له التيمم ورابعها قوله عليه السلام في البحر ( هو الطهور ماؤه ) ظاهره يقتضي جواز الطهارة به وإن خالطه غيره لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أطلق ذلك وخامسها أنه عليه السلام أباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن خالطه شيء من لعابهما وسادسها لا خلاف في الوضوء بماء المدر والسيول مع تغير لونه بمخالطة الطين وما يكون في الصحارى من الحشيش والنبات ومن أجل مخالطة ذلك له يرى تارة متغيراً إلى السواد وأخرى إلى الحمرة والصفرة فصار ذلك أصلاً في جميع ما خالط الماء إذا لم يغلب عليه فيسلبه اسم الماء القسم الثاني إذا كان المخالط للماء شيئاً نجساً فمن الناس من زعم أن الماء لا ينجس ما لم يتغير بالنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً وهو قول الحسن البصري والنخعي ومالك وداود وإليه مال الشيخ الغزالي في كتاب ( الإحياء ) وقال أبو بكر الرازي مذهب أصحابنا أن كل ما تيقنا فيه جزأ من النجاسة أو غلب على الظن ذلك لم يجز استعماله ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في جهة تغليب الظن في بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر وليس هو كلامنا في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعمالها وبعضها لا يجوز استعماله هذا كله كلام أبي بكر وأقول من الناس من فرق بين القليل والكثير فعن عبدالله بن عمر ( إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شيء ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( الحوض لا يغتسل فيه جنب إلا أن يكون فيه أربعون غرباً ) وهو قول محمد بن كعب القرظي وقال(24/82)
مسروق وابن سيرين إذا كان الماء كثيراً لا ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال وقال الشافعي إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه وإن كان أقل ينجس لظهور النجاسة فيه
واعلم أنه يمكن التمسك لنصرة قول مالك بوجوه أحدها قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه فيبقى فيما عداه على الأصل وثانيها قوله عليه السلام ( خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه ) وهو نص في الباب وثالثها قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ( المائدة 6 ) المتوضىء بهذا الماء قد غسل وجهه فيكون آتياً بما أمر به فيخرج عن العهدة ورابعها أن من شأن كل مختلطين كان أحدهما غالباً على الآخر أن يتكيف المغلوب بكيفية الغالب فالقطرة من الخل لو وقعت في الماء الكثير بطلت صفة الخلية عنها واتصفت بصفة الماء وكون أحدهما غالباً على الآخر إنما يعرف بغلبة الخواص والآثار المحسوسة وهي الطعم أو اللون أو الريح فلا جرم مهما ظهر طعم النجاسة أو لونها أو ريحها كانت النجاسة غالبة على الماء وكان الماء مستهلكاً فيها فلا جرم يغلب حكم النجاسة فإذا لم يظهر شيء من ذلك كان الغالب هو الماء وكانت النجاسة مستهلكة فيه فيغلب حكم الطهارة وخامسها ما روي عن عمر ( أنه ) توضأ من جرة نصرانية مع أن نجاسة أواني النصارى معلومة بظن قريب من العلم وذلك يدل على أن عمر لم يعول إلا على عدم التغير وسادسها أن تقدير الماء بمقدار معلوم ولو كان معتبراً كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند أبي حنيفة رضي الله عنه لكان أولى المواضع بالطهارة مكة والمدينة لأنه لا تكثر المياه هناك لا الجارية وإلا الراكدة الكثيرة ومن أول عصر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى آخر عصر الصحابة لم ينقل أنهم خاضوا في تقدير المياه بالمقادير المعينة ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظ المياه عن النجاسات وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات وسابعها إصغاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الإناء للهرة وعدم منعهم الهرة من شرب الماء من أوانيهم بعد أن كانوا يرون أنه تأكل الفأرة ولم يكن في بلادهم حياض تلغ السنانير فيها وكانت لا تنزل إلى الآبار وثامنها أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسات طاهرة إذا لم تتغير ونجسة إذا تغيرت وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه وأي معنى لقول القائل إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم تمنع المخالطة وتاسعها أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة ولا خلاف أن مذهب الشافعي إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير أنه يجوز الوضوء به وإن كان قليلاً وأي فرق بين الجاري والراكد وليت شعري الحوالة على عدم التغير أولى أو على قوة الماء بسبب الجريان وعاشرها إذا وقع بول في قلتين ثم فرقتا فكل كوز يؤخذ منه فهو ظاهر على قول الشافعي ومعلوم أن البول منتشر فيه وهو قليل فأن فرق بينه إذا وقع ذلك القليل في ذلك القدر من الماء ابتداء وبينه إذا وصل إليه عند اتصال غيره به وحادي عشرها أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ فيها المتقشفون ويغمسون الأيدي والأواني في ذلك القليل من الماء من تلك الحياض مع علمهم بأن الأيدي الطاهرة والنجسة كانت تتوارد عليها ولو كان التقدير بالقلتين معتبراً لاشتهر ذلك ولبلغ ذلك إلى حد التواتر لأن الأمر الذي تشتد حاجة الجمهور إليه يجب بلوغ نقله إلى حد التواتر لما لم يكن كذلك علمنا أنه غير معتبر وثاني عشرها أنا لو حكمنا بنجاسة الماء فلا يمكننا أن نحكم بنجاسة الماء إن كان في غاية(24/83)
الكثرة مثل ماء الأودية العظيمة والغدران الكبار فإن ذلك بالإجماع باطل فلا بد من التقدير بمقدار معين وقد نقلنا عن الناس تقديرات مختلفة فليس بعضها أولى من بعض فوجب التعارض والتساقط أما تقدير أبي حنيفة بعشر في عشر فمعلوم أنه مجرد تحكم وأما تقدير الشافعي بالقلتين بناء على قوله عليه السلام ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) فضعيف أيضاً لأن الشافعي لما روى هذا الخبر قال أخبرني رجل فيكون الراوي مجهولاً ويكون الحديث مرسلاً وهو عنده ليس بحجة وأيضاً زعم كثير من المحدثين أنه موقوف على ابن عمر رضي الله عنه سلمنا صحة الرواية لكنه إحالة مجهول على مجهول لأن القلة غير معلومة فإنها تصلح للكوز والجرة ولكل ما نقل باليد وهو أيضاً اسم لهامة الرجل ولقلة الجبل سلمنا كون القلة معلومة لكن في متن الخبر اضطراب فإنه روي ( إذا بلغ الماء قلتين ) وروي ( إذا بلغ قلة ) وروي ( أربعين قلة ) وروي ( إذا بلغ قلتين أو ثلاثاً ) وروي ( إذا بلغ كوزين ) سلمنا صحة المتن ولكنه متروك الظاهر لأن قوله ( لم يحمل خبثاً ) لا يمكن إجراؤه على ظاهره فإن الخبث إذا ورد عليه فقد حمله سلمنا إمكان إجرائه على ظاهره لكن الخبث على قسمين خبث شرعي وخبث حقيقي والاسم إذا دار بين المسمى اللغوي والمسمى الشرعي كان حمله على المسمى اللغوي أولى لأن الاسم حقيقة في المسمى اللغوي مجاز في المسمى الشرعي دفعاً للاشتراك والنقل وإذا كان كذلك وجب حمله عليه والمسمى اللغوي للخبث المستقذر بالطبع قال عليه السلام ( ما استخبثته العرب فهو حرام ) إذا ثبت هذا فنقول معنى قوله ( لم يحمل خبثاً ) أي لا يصير مستقذراً طبعاً ونحن نقول بموجبه لكن لم قلت إنه لا ينجس شرعاً سلمنا أن المراد من الخبث النجاسة الشرعية لكن قوله ( لم يحمل خبثاً ) أي يضعف عن حمله ومعنى الضعف تأثره به فيكون هذا دليلاً على صيرورته نجساً لا على بقائه طاهراً لا يقال الجواب عن هذه الأسئلة أن يقال إن الشافعي وإن لم يذكر اسم الراوي في بعض المواضع فقد ذكره في سائر المواضع فخرج عن كونه مرسلاً ولأن سائر المحدثين قد عينوا اسم الراوي قوله إنه موقوف على ابن عمر قلنا لا نسلم فإن يحيى بن معين قال إنه جيد الإسناد فقيل له إن ابن علية وقفه على ابن عمر فقال إن كان ابن علية وقفه فحماد بن سلمة رفعه وقوله القلة مجهولة قلنا لا نسلم لأن ابن جريج قال في روايته ( بقلال هجر ) ثم قال وقد شاهدت قلال هجر فكانت القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً قوله في متنه اضطراب قلنا لا نسلم لأنا وأنتم توافقنا على أن سائر المقادير غير معتبرة فيبقى ما ذكرناه معتبراً قوله إنه متروك الظاهر قلنا إذا حملناه على الخبث الشرعي اندفع ذلك وذلك أولى لأن حمل كلام الشرع على الفائدة الشرعية أولى من حمله على المعنى العقلي لا سيما وفي حمله على المعنى العقلي يلزم التعطيل قوله المراد أنه يضعف عن حمله قلنا صح في بعض الروايات أنه قال ( إذا كان الماء قلتين لم ينجس ) ولأنه عليه السلام جعل القلتين شرطاً لهذا الحكم والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط وعلى ما ذكروه لا يبقى للقلتين فائدة لأنا نقول لا شك أن هذا الخبر بتقدير الصحة يقتضي تخصيص عموم قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً وعموم قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ ( المائدة 6 ) وعموم قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ( المائدة 6 ) وعموم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء ) وهذا المتخصص لا بد وأن يكون بعيداً عن الاحتمال والاشتباه وقلال هجر مجهولة وقول ابن جريج القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً ليس بحجة لأن القلة كما أنها مجهولة فكذا القربة مجهولة فإنها قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة ولأن الروايات أيضاً مختلفة فتارة قال ( إذا بلغ الماء قلتين ) وتارة ( أربعين قلة ) وتارة كرين فإذا تدافعت(24/84)
وتعارضت لم يجز تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر هذا تمام الكلام في نصرة قول مالك واحتج من حكم بنجاسة الماء الذي تقع النجاسة فيه بوجوه أولها قوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 157 ) والنجاسات من الخبائث وقال تعالى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ ( النحل 115 ) وقال في الخمر رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ( المائدة 90 ) ومر عليه السلام بقبرين فقال ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير إن أحدهما كان لا يستبرىء من البول والآخر كان يمشي بالنميمة ) فحرم الله هذه الأشياء تحريماً مطلقاً ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء فوجب تحريم استعمال كل ما يبقى فيه جزء من النجاسة أكثر ما في الباب أن الدلائل الدالة على كون الماء مطهراً تقتضي جواز الطهارة به ولكن تلك الدلائل مبيحة والدلائل التي ذكرناها حاظرة والمبيح والحاظر إذا اجتمعا فالغلبة للحاظر ألا ترى أن الجارية بين رجلين لو كان لأحدهما منها مائة جزء وللآخر جزء واحد أن جهة الحظر فيها أولى من جهة الإباحة وأنه غير جائز لواحد منهما وطؤها فكذا ههنا وثانيها قوله عليه السلام ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة ) ذكره على الإطلاق من غير فرق بين القليل والكثير وثالثها قوله عليه السلام ( إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثاً قبل أن يدخلها الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده ) فأمر بغسل اليد احتياطاً من نجاسة قد أصابته من موضع الاستنجاء ومعلوم أن مثلها إذا أدخلت الماء لم تغيره ولولا أنها تفسده ما كان للأمر بالاحتياط منها معنى ورابعها قوله عليه السلام ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) يدل بمفهومه على أنه إذا لم يبلغ قلتين وجب أن يحمل الخبث أجاب مالك عن الوجه الأول فقال لا نزاع في أنه يحرم استعمال النجاسة ولكن الجزء القليل من النجاسة المائعة إذا وقع في الماء لم يظهر فيه لونه ولا طعمه ولا رائحته فلم قلتم إن تلك النجاسة بقيت ولم لا يجوز أن يقال إنها انقلبت عن صفتها وتقريره ما قدمناه وأما قوله عليه السلام ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ) فلم قلتم إن هذا النهي ليس إلا لما ذكرتموه بل لعل النهي إنما كان لأنه ربما شربه إنسان وذلك مما ينفر طبعه عنه وليس الكلام في نفرة الطبع وأما قوله ( إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثاً ) فقد أجمعنا على أن هذا الأمر استحباب فالمرتب عليه كيف يكون أمر إيجاب ثم بتقدير أن يكون أمر إيجاب فلم قلتم إنه لم يوجه ذلك الإيجاب إلا لما ذكرتموه وأما قوله عليه السلام ( إذا بلغ الماء قلتين ) فقد سبق الكلام عليه ثم بعد النزول عن كل ما قلناه فهو تمسك بالمفهوم والنصوص التي ذكرناها منطوقة والمنطوق راجح على المفهوم والله أعلم
النظر الثاني في أن غير الماء هل هو طهور أم لا فقال الأصم والأوزاعي يجوز الوضوء بجميع المائعات وقال أبو حنيفة يجوز الوضوء بنبيذ التمر في السفر وقال أيضاً تجوز إزالة النجاسة بجميع المائعات التي تزيل أعيان النجاسات وقال الشافعي رضي الله عنه الطهورية مختصة بالماء على الإطلاق ودليله في صورة الحدث قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( النساء 43 ) أوجب التيمم عند عدم الماء ولو جاز الوضوء بالخل أو نبيذ التمر لما وجب التيمم عند عدم الماء وأما في صورة الخبث فلأن الخل لو أفاد طهارة الخبث لكان طهوراً لأنه لا معنى للطهور إلا المطهر ولو كان طهوراً لوجب أن يجوز به طهارة الحدث لقوله عليه السلام ( لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه ) وكلمة ( حتى ) لانتهاء الغاية فوجب انتهاء عدم القبول عند استعمال الطهور وانتهاء عدم القبول يكون بحصول القبول فلو كان الخل طهوراً لحصل باستعماله قبول الصلاة وحيث لم يحصل علمنا أن الطهورية في الخبث أيضاً مختصة بالماء(24/85)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَة ٍ نَّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً
المسألة الأولى اعلم أنهم اختلفوا في أن الهاء في قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ إلى أي شيء يرجع وذكروا فيه ثلاثة أوجه أحدها وهو الذي عليه الجمهور أنه يرجع إلى المطر ثم من هؤلاء من قال معنى ( صرفناه ) أنا أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب وبالزراعات وأنواع المعاش به وقال آخرون معناه أنه سبحانه ينزله في مكان دون مكان وفي عام دون عام ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام الأول قال ابن عباس ما عام بأكثر مطراً من عام ولكن الله يصرفه في الأرض ثم قرأ هذه الآية وروى ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما من عام بأمطر من عام ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي ) وثانيها وهو قول أبي مسلم أن قوله صَرَّفْنَاهُ راجع إلى المطر والرياح والسحاب والأظلال وسائر ما ذكر الله تعالى من الأدلة وثالثها وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ أي هذا القول بين الناس في القرآن وسائر الكتب والصحف التي أنزلت على رسل وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع والوجه الأول أقرب لأنه أقرب المذكورات إلى الضمير
المسألة الثانية قال الجبائي قوله تعالى لّيَذْكُرُواْ يدل على أنه تعالى مريد من الكل أن يتذكروا ويشكروا ولو أراد منهم أن يكفروا ويعرضوا لما صح ذلك وذلك يبطل قول من قال إن الله تعالى مريد للكفر ممن يكفر قال ودل قوله فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا على قدرتهم على فعل هذا التذكر إذ لو لم يقدروا لما جاز أن يقال أبوا أن يفعلوه كما لا يقال في الزَّمن أبى أن يسعى وقال الكعبي قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ حجة على من زعم أن القرآن وبال على الكافرين وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا لأن قوله لّيَذْكُرُواْ عام في الكل وقوله فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ يقتضي أن يكون هذا الأكثر داخلاً في ذلك العام لأنه لا يجوز أن يقال أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفوراً واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مراراً
المسألة الثالثة قوله فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا المراد كفران النعمة وجحودها من حيث لا يتفكرون فيها ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه وقيل المراد من الكفور هو الكفر وذلك الكفر إنما حصل لأنهم يقولون مطرنا بنوء كذا لأن من جحد كون النعم صادرة من المنعم وأضاف شيئاً من هذه النعمة إلى الأفلاك والكواكب فقد كفر واعلم أن التحقيق أن من جعل الأفلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره وأما من قال الصانع تعالى جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث فلعله لا يبلغ خطؤه إلى حد الكفر
المسألة الرابعة قالوا الآية دلت على أن خلاف معلوم الله مقدور له لأن كلمة لو دلت على أنه تعالى ما شاء أن يبعث في كل قرية نذيراً ثم إنه تعالى أخبر عن كونه قادراً على ذلك فدل ذلك على أن خلاف معلوم الله مقدور له(24/86)
أما قوله تعالى وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَة ٍ نَّذِيراً فالأقوى أن المراد من ذلك تعظيم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لوجوه أحدها كأنه تعالى بين له أنه مع القدرة على بعثة رسول ونذير في كل قرية خصه بالرسالة وفضله بها على الكل ولذلك أتبعه بقوله فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ أي لا توافقهم وثانيها المراد ولو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة إلى كل العالمين ولبعثنا في كل قرية نذيراً ولكنا قصرنا الأمر عليك وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل فقابل هذا الإجلال بالتشدد في الدين وثالثها أن الآية تقتضي مزج اللطف بالعنف لأنها تدل على القدرة على أن يبعث في كل قرية نذيراً مثل محمد وأنه لا حاجة بالحضرة الإلهية إلى محمد ألبتة وقوله وَلَوْ يدل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك فبالنظر إلى الأول يحصل التأديب وبالنظر إلى الثاني يحصل الإعزاز
أما قوله فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ فالمراد نهيه عن طاعتهم ودلت هذه الآية على أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلاً به
وأما قوله وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً فقال بعضهم المراد بذل الجهد في الأداء والدعاء وقال بعضهم المراد القتال وقال آخرون كلاهما والأقرب الأول لأن السورة مكية والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان وإنما قال جِهَاداً كَبيراً لأنه لو بعث في كل قرية نذيراً لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله تلك المجاهدات وكثر جهاده من أجل ذلك وعظم فقال له وَجَاهِدْهُمْ بسبب كونك نذير كافة القرى جِهَاداً كَبيراً جامعاً لكل مجاهدة
وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من دلائل التوحيد وقوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلاهما وأرسلهما يقال مرجت الدابة إذا خليتها ترعى وأصل المرج الإرسال والخلط ومنه قوله تعالى فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ ( ق 5 ) سمى الماءين الكبيرين الواسعين بحرين قال ابن عباس مرج البحرين أي أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج وهما يلتقيان وقوله هَاذَا عَذَابٌ فُرَاتٌ والمقصود من الفرات البليغ في العذوبة حتى ( يصير ) إلى الحلاوة والأجاج نقيضه وأنه سبحانه بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج وجعل من عظيم اقتداره برزخاً حائلاً من قدرته وههنا سؤالات
السؤال الأول ما معنى قوله وَحِجْراً مَّحْجُوراً الجواب هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها وهي ههنا واقعة على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له حجراً محجوراً كما قال لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 20 ) أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة فانتفاء البغي ( ثمة ) كالتعوذ وههنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهي من أحسن الاستعارات(24/87)
السؤال الثاني لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى ههنا لا يقال هذا مدفوع من وجهين الأول أن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون الثاني لعله جعل في البحار موضعاً يكون أحد جانبيه عذباً والآخر ملحاً لأنا نقول أما الأول فضعيف لأن هذه الأودية ليس فيها ملح والبحار ليس فيها ماء عذب فلم يحصل ألبتة موضع التعجب وأما الثاني فضعيف لأن موضع الاستدلال لا بد وأن يكون معلوماً فأما بمحض التجويز فلا يحسن الاستدلال لأنا نقول المراد من البحر العذب هذه الأودية ومن الأجاج البحار الكبار وجعل بينهما برزخاً أي حائلاً من الأرض ووجه الاستدلال ههنا بين لأن العذوبة والملوحة إن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة معينة
وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً
واعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد وفيه بحثان
الأول ذكروا في هذا الماء قولين أحدهما أنه الماء الذي خلق منه أصول الحيوان وهو الذي عناه بقوله وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء ( النور 45 ) والثاني أن المراد النطفة لقوله خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ( الطارق 6 ) مّن مَّاء مَّهِينٍ ( المرسلات 20 )
البحث الثاني المعنى أنه تعالى قسم البشر قسمين ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم فيقال فلان بن فلان وفلانة بنت فلان وذوات صهر أي إناثاً ( يصاهرن ) ونحوه قوله تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( القيامة 39 ) وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً حيث خلق من النطفة الواحدة نوعين من البشر الذكر والأنثى
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً
واعلم أنه تعالى لما شرح دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم في عبادة الأوثان وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قيل المراد بالكافر أبو جهل لأن الآية نزلت فيه والأولى حمله على العموم لأن(24/88)
خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ ولأنه أوفق بظاهر قوله وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
المسألة الثانية ذكروا في الظهير وجوهاً أحدها أن الظهير بمعنى المظاهر كالعوين بمعنى المعاون وفعيل بمعنى مفاعل غير ( غريب ) والمعنى أن الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة فإن قيل كيف يصح في الكافر أن يكون معاوناً للشيطان على ربه بالعداوة قلنا إنه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) وثانيها يجوز أن يريد بالظهير الجماعة كقوله وَالْمَلَئِكَة ُ بَعْدَ ذالِكَ ظَهِيرٌ ( التحريم 4 ) كما جاء الصديق والخليط وعلى هذا التفسير يكون المراد بالكافر الجنس وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور ( دين ) الله تعالى قال تعالى وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَى ِّ ( الأعراف 202 ) وثالثها قال أبو مسلم الأصفهاني الظهير من قولهم ظهر فلان بحاجتي إذا نبذها وراء ظهره وهو من قوله تعالى وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً ( هود 92 ) ويقال فيمن يستهين بالشيء نبذه وراء ظهره وقياس العربية أن يقال مظهور أي مستخف به متروك وراء الظهر فقيل فيه ظهير في معنى مظهور ومعناه هين على الله أن يكفر الكافر وهو تعالى مستهين بكفره
أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا فتعلق ذلك بما تقدم هو أن الكفار يطلبون العون على الله تعالى وعلى رسوله والله تعالى بعث رسوله لنفعهم لأنه بعثه ليبشرهم على الطاعة وينذرهم على المعصية فيستحقوا الثواب ويحترزوا عن العقاب فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرغ جهده في إصلاح مهماته ديناً ودنيا ولا يسألهم على ذلك ألبتة أجراً
أما قوله إِلاَّ مَن شَاء فذكروا فيه وجوهاً متقاربة أحدها لا يسألهم على الأداء والدعاء أجراً إلا أن يشاءوا أن يتقربوا بالإنفاق في الجهاد وغيره فيتخذوا به سبيلاً إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه وثانيها قال القاضي معناه لا أسألكم عليه أجراً لنفسي وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) مثال قوله إِلاَّ مَن شَاء والمراد إلا فعل من شاء واستثناؤه عن الأجر قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه فأفاد فائدتين إحداهما قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله كأنه يقول لك إن كان حفظك لمالك ثواباً فإني أطلب الثواب والثانية إظهار الشفقة البالغة وأن حفظك لمالك يجري مجرى الثواب العظيم الذي توصله إلي ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلاً تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة وقيل المراد التقرب بالصدقة والنفقة في سبيل الله
أما قوله وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ فالمعنى أنه سبحانه لما بين أن الكفار متظاهرون على إيذائه فأمره بأن لا يطلب منهم أجراً ألبتة أمره بأن يتوكل عليه في دفع جميع المضار وفي جلب جميع المنافع وإنما قال عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ لأن من توكل على الحي الذي يموت فإذا مات المتوكل عليه صار المتوكل ضائعاً أما هو سبحانه وتعالى فإنه حي لا يموت فلا يضيع المتوكل عليه ألبتة
أما قوله وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ فمنهم من حمله على نفس التسبيح بالقول ومنهم من حمله على الصلاة ومنهم من حمله على التنزيه لله تعالى عما لا يليق به في توحيده وعدله وهذا هو الظاهر ثم قال وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً(24/89)
وهذه كلمة يراد بها المبالغة يقال كفى بالعلم جمالاً وكفى بالأدب مالاً وهو بمعنى حسبك أي لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم وذلك وعيد شديد كأنه قال إن أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة
الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً
اعلم أنه سبحانه لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور أولها بأنه حي لا يموت وهو قوله وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ ( الفرقان 58 ) وثانيها أنه عالم بجميع المعلومات وهو قوله وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ( الفرقان 58 ) وثالثها أنه قادر على كل الممكنات وهو المراد من قوله الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فقوله الَّذِى خَلَقَ متصل بقوله الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ لأنه سبحانه لما كان هو الخالق للسموات والأرضين ولكل ما بينهما ثبت أنه هو القادر على جميع وجوه المنافع ودفع المضار وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه وفي الآية سؤالات
السؤال الأول الأيام عبارة عن حركات الشمس في السموات فقبل السموات لا أيام فكيف قال الله خلقها في ستة أيام الجواب يعني في مدة مقدارها هذه المدة لا يقال الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة لا يكون عدماً محضاً بل لا بد وأن يكون موجوداً فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان لأنا نقول هذا معارض بنفس الزمان لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل خمسة أيام والمدة المتوهمة التي تحتمل خمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى فلما لم يلزم هذا لم يلزم ما قلتموه وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولاً ثم السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام ومن الناس من قال في ستة أيام من أيام الآخرة وكل يوم ألف سنة وهو بعيد لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول
السؤال الثاني لم قدر الخلق والإيجاد بهذا التقدير الجواب أما على قولنا فالمشيئة والقدرة كافية في التخصيص قالت المعتزلة بل لا بد من داعي حكمة وهو أن تخصيص خلق العالم بهذا المقدار أصلح للمكلفين وهذا بعيد لوجهين أحدهما أن حصول تلك الحكمة إما أن يكون واجباً لذاته أو جائزاً فإن كان واجباً وجب أن لا يتغير فيكون حاصلاً في كل الأزمنة فلا يصلح أن يكون سبباً لتخصيص زمان معين وإن كان جائزاً افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر ويلزم التسلسل والثاني أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعوراً به كيف يقدح في حصول المصالح(24/90)
واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة فإنه بحر لا ساحل له من ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار بتسعة عشر وحملة العرش بالثمانية وشهور السنة باثني عشر والسموات السبع وكذا الأرض وكذا القول في عدد الصلوات ومقادير النصب في الزكوات وكذا مقادير الحدود والكفارات فالإقرار بأن كل ما قاله الله تعالى حق هو الدين وترك البحث عن هذه الأشياء هو الواجب وقد نص عليه تعالى في قوله وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ثم قال وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 ) وهذا هو الجواب أيضاً في أنه لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك وعن سعيد بن جبير أنه إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة تعليماً لخلقه الرفق والتثبت قيل تم خلقها يوم الجمعة فجعلها الله تعالى عيداً للمسلمين
السؤال الثالث ما معنى قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ولا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة لأن الاستيلاء والقدرة في أوصاف الله لم تزل ولا يصح دخول ( ثم ) فيه والجواب الاستقرار غير جائز لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث ويقتضي التركيب والبعضية وكل ذلك على الله محال بل المراد ثم خلق العرش ورفعه وهو مستول كقوله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ ( محمد 31 ) فإن المراد حتى يجاهد المجاهدون ونحن بهم عالمون فإن قيل فعلى هذا التفسير يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) قلنا كلمة ( ثم ) ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات
السؤال الرابع كيف إعراب قوله الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً الجواب الَّذِى خَلَقَ مبتدأ و الرَّحْمَنُ خبره أو هو صفة للحي والرحمن خبر مبتدأ محذوف ولهذا أجاز الزجاج وغيره أن يكون الوقف على قوله عَلَى الْعَرْشِ ثم يبتدىء بالرحمن أي هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له ويجوز أن يكون الرحمن مبتدأ وخبره قوله فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً
السؤال الخامس ما معنى قوله فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً الجواب ذكروا فيه وجوهاً أحدها قال الكلبي معناه فاسأل خبيراً به وقوله بِهِ يعود إلى ما ذكرنا من خلق السماء والأرض والاستواء على العرش والباء من صلة الخبير وذلك الخبير هو الله عز وجل لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق الله السموات والأرض فلا يعلمها أحد إلا الله تعالى وعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبريل عليه السلام وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم وثانيها قال الزجاج قوله بِهِ معناه عنه والمعنى فاسأل عنه خبيراً وهو قول الأخفش ونظيره قوله سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( المعارج 1 ) وقال علقمة بن عبدة فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
وثالثها قال ابن جرير الباء في قوله بِهِ صلة والمعنى فسله خبيراً وخبيراً نصب على الحال ورابعها أن قوله بِهِ يجري مجرى القسم كقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ ( النساء 1 )
أما قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ فهو خبر عن قوم قالوا هذا القول(24/91)
ويحتمل أنهم جهلوا الله تعالى ويحتمل أنهم إن عرفوه لكنهم جحدوه ويحتمل أنهم وإن اعترفوا به لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى وكثير من المفسرين على هذا القول الأخير قالوا الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة والعرب ما عرفوه قال مقاتل إن أبا جهل قال إن الذي يقوله محمد شعر فقال عليه السلام الشعر غير هذا إن هذا إلا كلام الرحمن فقال أبو جهل بخ بخ لعمري والله إنه لكلام الرحمن الذي باليمامة هو يعلمك فقال عليه السلام ( الرحمن الذي هو إله السماء ومن عنده يأتيني الوحي ) فقال يا آل غالب من يعذرني من محمد يزعم أن الله واحد وهو يقول الله يعلمني والرحمن ألستم تعلمون أنهما إلهان ثم قال ربكم الله الذي خلق هذه الأشياء أما الرحمن فهو مسيلمة قال القاضي والأقرب أن المراد إنكارهم لله لا للاسم لأن هذه اللفظة عربية وهم كانوا يعلمون أنها تفيد المبالغة في الإنعام ثم إن قلنا بأنهم كانوا منكرين لله كان قولهم وَمَا الرَّحْمَنُ سؤال طالب عن الحقيقة وهو يجري مجرى قول فرعون وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 23 ) وإن قلنا بأنهم كانوا مقرين بالله لكنهم جهلوا كونه تعالى مسمى بهذا الاسم كان قولهم وَمَا الرَّحْمَنُ سؤالاً عن الاسم
أما قوله أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا فالمعنى للذي تأمرنا بسجوده على قوله أمرتك بالخير أو لأمرك لنا وقرىء يأمرنا بالياء كأن بعضهم قال لبعض أنسجد لما يأمرنا محمد أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو وزادهم أمره نفوراً ومن حقه أن يكون باعثاً على الفعل والقبول قال الضحاك فسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي عثمان بن مظعون وعمرو بن عنبسة ولما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين فهذا هو المراد من قوله تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً أي فزادهم سجودهم نفوراً
تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً
اعلم أنه سبحانه لما حكى عن الكفار مزيد النفرة عن السجود ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعباد للرحمن فقال تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً أما تبارك فقد تقدم القول فيه وأما البروج فهي منازل السيارات وهي مشهورة سميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البروج من التبرج لظهوره وفيه قول آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن البروج هي الكواكب العظام والأول أولى لقوله تعالى وَجَعَلَ فِيهَا أي في البروج فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله فِيهَا راجعاً إلى السماء دون البروج قلنا لأن البروج أقرب فعود الضمير إليها أولى والسراج الشمس لقوله تعالى وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ( نوح 16 ) وقرىء سرجاً وهي الشمس والكواكب الكبار فيها وقرأ الحسن والأعمش سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وهي جمع ليلة قمراء كأنه قيل وذا قمراً منيراً لأن الليالي تكون قمراء بالقمر فأضافه إليها ولا يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب وأما(24/92)
الخلفة ففيها قولان الأول أنها عبارة عن كون الشيئين بحيث أحدهما يخلف الآخر ويأتي خلفه يقال بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيراً إلى متبرزه والمعنى جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه فمن فرط في عمل في أحدهما قضاه في الآخر قال أنس بن مالك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعمر بن الخطاب وقد فاتته قراءة القرآن بالليل ( يا ابن الخطاب لقد أنزل الله فيك آية وتلا وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ما فاتك من النوافل بالليل فاقضه في نهارك وما فاتك من النهار فاقضه في ليلك ) القول الثاني وهو قول مجاهد وقتادة والكسائي يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان فقوله خِلْفَة ً أي مختلفين وهذا أسود وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير والقول الأول أقرب
أما قوله تعالى أَن يَذَّكَّرَ فقراءة العامة بالتشديد وقراءة حمزة بالتخفيف وعن أبي بن كعب ( يتذكر ) والمعنى لينظر الناظر في اختلافهما فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال ( وتغيرهما ) من ناقل ومغير وقوله أَن يَذَّكَّرَ راجع إلى كل ما تقدم من النعم بين تعالى أن الذين قالوا وما الرحمن لو تفكروا في هذه النعم وتذكروها لاستدلوا بذلك على عظيم قدرته ولشكر الشاكرين على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( القصص 73 ) أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين من فاته في أحدهما ورد من العبادة قام به في الآخر والشكور مصدر شكر يشكر شكوراً
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً
اعلم أن قوله وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ مبتدأ خبره في آخر السورة كأنه قيل وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم أولئك يجزون الغرفة ويجوز أن يكون خبره الَّذِينَ يَمْشُونَ واعلم أنه سبحانه خص اسم العبودية بالمشتغلين بالعبودية فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوفات وقرىء وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ واعلم أنه سبحانه وصفهم بتسعة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً وهذا وصف سيرتهم بالنهار وقرىء يَمْشُونَ هَوْناً حال أو صفة للمشي بمعنى هينين أو بمعنى مشياً هيناً إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة(24/93)
والهون الرفق واللين ومنه الحديث ( أحبب حبيبك هوناً ما ) وقوله ( المؤمنون هينون لينون ) والمعنى أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع ولا يضربون بأقدامهم ( ولا يخفقون بنعالهم ) أشراً وبطراً ولا يتبخترون لأجل الخيلاء كما قال وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ( الإسراء 37 ) وعن زيد بن أسلم التمست تفسير هَوْناً فلم أجد فرأيت في النوم فقيل لي هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض وعن ابن زيد لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علواً في الأرض
الصفة الثانية قوله تعالى وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً معناه لا نجاهلكم ولا خير بيننا ولا شر أي نسلم منكم تسليماً فأقيم السلام مقام التسليم ثم يحتمل أن يكون مرادهم طلب السلامة والسكوت ويحتمل أن يكون المراد التنبيه على سوء طريقتهم لكي يمتنعوا ويحتمل أن يكون مرادهم العدول عن طريق المعاملة ويحتمل أن يكون المراد إظهار الحلم في مقابلة الجهل قال الأصم قَالُواْ سَلاَماً أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم لأبيه سَلَامٌ عَلَيْكَ ( مريم 47 ) ثم قال الكلبي وأبو العالية نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في العقل والشرع وسبب لسلامة العرض والورع
الصفة الثالثة قوله وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً واعلم أنه تعالى لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين أحدهما ترك الإيذاء وهو المراد من قوله يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً والآخر تحمل التأذي وهو المراد من قوله وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً فكأنه شرح سيرتهم مع الخلق في النهار فبين في هذه الآيات سيرتهم في الليالي عند الاشتغال بخدمة الخالق وهو كقوله تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ( السجدة 16 ) ثم قال الزجاج كل من أدركه الليل قيل بات وإن لم ينم كما يقال بات فلان قلقاً ومعنى يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ أن يكونوا في لياليهم مصلين ثم اختلفوا فقال بعضهم من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجداً وقائماً وقيل ركعتين بعد المغرب وأربعاً بعد العشاء الأخيرة والأولى أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره يقال فلان يظل صائماً ويبيت قائماً قال الحسن يبيتون لله على أقدمهم ويفرشون له وجوههم تجري دموعهم على خدودهم خوفاً من ربهم
الصفة الرابعة قوله وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً قال ابن عباس رضي الله عنهما يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول وقال الحسن خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرقاً من عذاب جهنم وقوله غَرَاماً أي هلاكاً وخسراناً ملحاً لازماً ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه ويقال فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الغرام فقال هو الموجع وعن محمد بن كعب في غَرَاماً أنه سأل الكفار ثمن نعمه فما أدوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار واعلم أنه تعالى وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم كقوله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ ( المؤمنون 60 )
أما قوله تعالى إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً فقوله سَاءتْ في حكم بئست وفيها ضمير مبهم تفسيره ( مستقراً ) والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقراً ومقاماً هي ( وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن وجعلها خبراً لها ويجوز أن يكون ساءت بمعنى أحزنت وفيها ضمير اسم إن ) ومستقراً حال أو تمييز فإن قيل دلت الآية على أنهم سألوا الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين إحداهما أن عذابها كان غراماً(24/94)
وثانيهما أنها ساءت مستقراً ومقاماً فما الفرق بين الوجهين وأيضاً فما الفرق بين المستقر والمقام قلنا المتكلمون ذكروا أن عقاب الكافر يجب أن يكون مضرة خالصة عن شوائب النفع دائمة فقوله إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إشارة إلى كونه مضرة خالصة عن شوائب النفع وقوله إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً إشارة إلى كونها دائمة ولا شك في المغايرة أما الفرق بين المستقر والمقام فيحتمل أن يكون المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون في النار ولا يقيمون فيها وأم الإقامة فللكفار واعلم أن قوله إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً يمكن أن يكون من كلام الله تعالى ويمكن أن يكون حكاية لقولهم
الصفة الخامسة قوله وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً قرىء يَقْتُرُواْ بكسر التاء وضمها ويقتروا بضم الياء وتخفيف القاف وكسر التاء وأيضاً بضم الباء وفتح القاف وكسر التاء وتشديدها وكلها لغات والقتر والإقتار والتقتير التضييق الذي هو نقيض الإسراف والإسراف مجاوزة الحد في النفقة وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوهاً أحدها وهو الأقوى أنه تعالى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير وبمثله أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) وعن وهيب بن الورد قال لعالم ما البناء الذي لا سرف فيه قال ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر فقال له فما الطعام الذي لا سرف فيه قال ما سد الجوعة فقال له في اللباس قال ما ستر عورتك ووقاك من البرد وروي أن رجلاً صنع طعاماً في إملاك فأرسل إلى الرسول عليه السلام فقال ( حق فأجيبوا ) ثم صنع الثانية فأرسل إليه فقال ( حق فمن شاء فليجب وإلا فليقعد ) ثم صنع الثالثة فأرسل إليه فقال ( رياء ولا خير فيه ) وثانيها وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك أن الإسراف الإنفاق في معصية الله تعالى والإقتار منع حق الله تعالى قال مجاهد لو أنفق رجل مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله تعالى لم يكن سرفاً ولو أنفق صاعاً في معصية الله تعالى كان سرفاً وقال الحسن لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي وذلك قد يكون في الإمساك عن حق الله وهو أقبح التقتير وقد يكون عما لا يجب ولكن يكون مندوباً مثل الرجل الغني الكثير المال إذا منع الفقراء من أقاربه وثالثها المراد بالسرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا وإن كان من حلال فإن ذلك مكروه لأنه يؤدي إلى الخيلاء والإقتار هو التضييق فالأكل فوق الشبع بحيث يمنع النفس عن العبادة سرف وإن أكل بقدر الحاجة فذاك إقتار وهذه الصفة صفة أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعهم ويعينهم على عبادة ربهم ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد وههنا مسألتان
المسألة الأولى القوام قال ثعلب القوام بالفتح العدل والاستقامة وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر قال صاحب ( الكشاف ) القوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء وقرىء قَوَاماً بالكسر وهو ما يقام به الشيء يقال أنت قوامنا يعني ما يقام به الحاجة لا يفضل عنه ولا ينقص
المسألة الثانية المنصوبان أعني بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً جائز أن يكونا خبرين معاً وأن يجعل بين ذلك لغواً وقواماً مستقراً وأن يكون الظرف خبراً وقواماً حالاً مؤكدة قال الفراء وإن شئت جعلت بَيْنَ ذالِكَ اسم(24/95)
كان كما تقول كان دون هذا كافياً تريد أقل من ذلك فيكون معنى بَيْنَ ذالِكَ أي كان الوسط من ذلك قواماً أي عدلاً وهذا التأويل ضعيف لأن القوام هو الوسط فيصير التأويل وكان الوسط وسطاً وهذا لغو
الصفة السادسة
وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً
اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن من صفة عباد الرحمن الاحتراز عن الشرك والقتل الزنا ثم ذكر بعد ذلك حكم من يفعل هذه الأشياء من العقاب ثم استثنى من جملتهم التائب وههنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى قبل ذكر هذه الصفة نزه عباد الرحمن عن الأمور الخفيفة فكيف يليق بعد ذلك أن يطهرهم عن الأمور العظيمة مثل الشرك والقتل والزنا أليس أنه لو كان الترتيب بالعكس منه كان أولى الجواب أن الموصوف بتلك الصفات السالفة قد يكون متمسكاً بالشرك تديناً ومقدماً على قتل الموءودة تديناً وعلى الزنا تديناً فبين تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يضاف إلى ذلك كونه مجانباً لهذه الكبائر وأجاب الحسن رحمه الله من وجه آخر فقال المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر وأنت تدعون وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وأنتم تقتلون الموءودة وَلاَ يَزْنُونَ وأنتم تزنون
السؤال الثاني ما معنى قوله وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ومعلوم أنه من يحل قتله لا يدخل في النفس المحرمة فكيف يصح هذا الاستثناء الجواب المقتضى لحرمة القتل قائم أبداً وجواز القتل إنما ثبت بالمعارض فقوله حَرَّمَ اللَّهُ إشارة إلى المقتضى وقوله إِلاَّ بِالْحَقّ إشارة إلى المعارض
السؤال الثالث بأي سبب يحل القتل الجواب بالردة وبالزنا بعد الإحصان وبالقتل قوداً على ما في الحديث وقيل وبالمحاربة وبالبينة وإن لم يكن لما شهدت به حقيقة(24/96)
السؤال الرابع منهم من فسر قوله وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ بالردة فهل يصح ذلك الجواب لفظ القتل عام فيتناول الكل وعن ابن مسعود ( قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك قلت ثم أي قال أن تزني بحليلة جارك ) فأنزل الله تصديقه
السؤال الخامس ما الأثام الجواب فيه وجوه أحدها أن الأثام جزاء الإثم بوزن الوبال والنكال وثانيها وهو قول أبي مسلم أن الأثام والإثم واحد والمراد ههنا جزاء الأثام فأطلق اسم الشيء على جزائه وثالثها قال الحسن الأثام اسم من أسماء جهنم وقال مجاهد أَثَاماً واد في جهنم ( وقرأ ابن مسعود أَثَاماً أي شديداً يقال يوم ذو أثام لليوم العصيب )
أما قوله يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ففيه مسائل
المسألة الأولى يُضَاعِفُ بدل من يَلْقَ لأنهما في معنى واحد وقرىء ( يضعف ) و ( نضعف له العذاب ) بالنون ونصب العذاب وقرىء بالرفع على الاستئناف أو على الحال وكذلك ( يخلد ) ( وقرىء ) ( ويخلد ) على البناء للمفعول مخففاً ومثقلاً من الإخلاد والتخليد وقرىء ( وتخلد ) بالتاء على الالتفات
المسألة الثانية سبب تضعيف العذاب أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعاً فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع
المسألة الثالثة قال القاضي بين الله تعالى أن المضاعفة والزيادة يكون حالهما في الدوام كحال الأصل فقوله وَيَخْلُدْ فِيهِ أي ويخلد في ذلك التضعيف ثم إن ذلك التضعيف إنما حصل بسبب العقاب على المعاصي فوجب أن يكون عقاب هذه المعاصي في حق الكافر دائماً وإذا كان كذلك وجب أن يكون في حق المؤمن كذلك لأن حاله فيما يستحق به لا يتغير سواء فعل مع غيره أو منفرداً والجواب لم لا يجوز أن يكون للإتيان بالشيء مع غيره أثر في مزيد القبح ألا ترى أن الشيئين قد يكون كل واحد منهما في نفسه حسناً وإن كان الجمع بينهما قبيحاً وقد يكون كل واحد منهما قبيحاً ويكون الجمع بينهما أقبح فكذا ههنا
المسألة الرابعة قوله وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إشارة إلى ما ثبت أن العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإذلال والإهانة كما أن الثواب هو المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم
أما قوله تعالى إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ففيه مسائل
المسألة الأولى دلت الآية على أن التوبة مقبولة والاستثناء لا يدل على ذلك لأنه أثبت أنه يضاعف له العذاب ضعفين فيكفي لصحة هذا الاستثناء أن لا يضاعف للتائب العذاب ضعفين وإنما الدال عليه قوله فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
المسألة الثانية نقل عن ابن عباس أنه قال توبة القاتل غير مقبولة وزعم أن هذه الآية منسوخة بقوله(24/97)
تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً ( النساء 93 ) وقالوا نزلت الغليظة بعد اللينة بمدة يسيرة وعن الضحاك ومقاتل بثمان سنين وقد تقدم الكلام في ذلك في سورة النساء
المسألة الثالثة فإن قيل العمل الصالح يدخل فيه التوبة والإيمان فكان ذكرهما قبل ذكر العمل الصالح حشواً قلنا أفردهما بالذكر لعلو شأنهما ولما كان لا بد معهما من سائر الأعمال لا جرم ذكر عقيبهما العمل الصالح
المسألة الرابعة اختلفوا في المراد بقوله فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ على وجوه أحدها قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة إن التبديل إنما يكون في الدنيا فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام فيبدلهم بالشرك إيماناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين وبالزنا عفة وإحصاناً فكأنه تعالى يبشرهم بأنه يوفقهم لهذه الأعمال الصالحة فيستوجبوا بها الثواب وثانيها قال الزجاج السيئة بعينها لا تصير حسنة ولكن التأويل أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات وثالثها قال قوم إن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة بحكم هذه الآية وهذا قول سعيد بن المسيب ومكحول ويحتجون بما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات قيل من هم يا رسول الله قال الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات ) وعلى هذا التبديل في الآخرة ورابعها قال القفال والقاضي أنه تعالى يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد ما يستحق بهما وإذا حمل على ذلك كانت الإضافة إلى الله حقيقة لأن الإثابة لا تكون إلا من الله تعالى
أما قوله تعالى وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً ففيه سؤالان
السؤال الأول ما فائدة هذا التكرير الجواب من وجهين الأول أن هذا ليس بتكرير لأن الأول لما كان في تلك الخصال بين تعالى أن جميع الذنوب بمنزلتها في صحة التوبة منها الثاني أن التوبة الأولى رجوع عن الشرك والمعاصي والتوبة الثانية رجوع إلى الله تعالى للجزاء والمكافأة كقوله تعالى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ( الرعد 30 ) أي مرجعي
السؤال الثاني هل تكون التوبة إلا إلى الله تعالى فما فائدة قوله فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً الجواب من وجوه الأول ما تقدم من أن التوبة الأولى الرجوع عن المعصية والثانية الرجوع إلى حكم الله تعالى وثوابه الثاني معناه أن من تاب إلى الله فقد أتى بتوبة مرضية لله مكفرة للذنوب محصلة للثواب العظيم الثالث قوله وَمَن تَابَ يرجع إلى الماضي فإنه سبحانه ذكر أن من أتى بهذه التوبة في الماضي على سبيل الإخلاص فقد وعده بأنه سيوفقه للتوبة في المستقبل وهذا من أعظم البشارات
الصفة السابعة
وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً
فيه مسائل
المسألة الأولى الزور يحتمل إقامة الشهادة الباطلة ويكون المعنى أنهم لا يشهدون شهادة الزور(24/98)
فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ويحتمل حضور مواضع الكذب كقوله تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( الأنعام 68 ) ويحتمل حضور كل موضع يجري فيه ما لا ينبغي ويدخل فيه أعياد المشركين ومجامع الفساق لأن من خالط أهل الشر ونظر إلى أفعالهم وحضر مجامعهم فقد شاركهم في تلك المعصية لأن الحضور والنظر دليل الرضا به بل هو سبب لوجوده والزيادة فيه لأن الذي حملهم على فعله استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه وقال ابن عباس رضي الله عنهما المراد مجالس الزور التي يقولون فيها الزور على الله تعالى وعلى رسوله وقال محمد بن الحنفية الزور الغناء واعلم أن كل هذه الوجوه محتملة ولكن استعماله في الكذب أكثر
المسألة الثانية الأصح أن اللغو كل ما يجب أن يلغى ويترك ومنهم من فسر اللغو بكل ما ليس بطاعة وهو ضعيف لأن المباحات لا تعد لغواً فقوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ أي بأهل اللغو
المسألة الثالثة لا شبهة فى أن قوله مَرُّواْ كِراماً معناه أنهم يكرمون أنفسهم عن مثل حال اللغو وإكرامهم لها لا يكون إلا بالإعراض وبالإنكار وبترك المعاونة والمساعدة ويدخل فيه الشرك واللغو في القرآن وشتم الرسول والخوض فيما لا ينبغي وأصل الكلمة من قولهم ناقة كريمة إذا كانت تعرض عند الحلب تكرماً كأنها لا تبالي بما يحلب منها للغزارة فاستعير ذلك للصفح عن الذنب وقال الليث يقال تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه ونظير هذه الآية قوله وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( القصص 55 ) وعن الحسن لم تسفههم المعاصي وقيل إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وقيل إذا ذكر النكاح كنوا عنه
الصفة الثامنة
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً
قال صاحب ( الكشاف ) قوله لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ليس بنفي للخرور وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى كما يقال لا يلقاني زيد مسلماً هو نفي للسلام لا للقاء والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصاً على استماعها وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية مبصرون بعيون راعية لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها مظهرين الحرص الشديد على استماعها وهم كالصم والعميان حيث لا ( يفهمونها ولا يبصرون ) ما فيها كالمنافقين(24/99)
الصفة التاسعة
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّة َ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم ذرياتنا بألف الجمع وحذفها الباقون على التوحيد والذرية تكون واحداً وجمعاً
المسألة الثانية أنه لا شبهة أن المراد أن يكون قرة أعين لهم في الدين لا في الأمور الدنيوية من المال والجمال ثم ذكروا فيه وجهان أحدهما أنهم سألوا أزواجاً وذرية في الدنيا يشاركونهم فأحبوا أن يكونوا معهم في التمسك بطاعة الله فيقوى طمعهم في أن يحصلوا معهم في الجنة فيتكامل سرورهم في الدنيا بهذا الطمع وفي الآخرة عند حصول الثواب والثاني أنهم سألوا أن يلحق الله أزواجهم وذريتهم بهم في الجنة ليتم سرورهم بهم
المسألة الثالثة فإن قيل ( من ) في قوله لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا ما هي قلنا يحتمل أن تكون بيانية كأنه قيل هب لنا قرة أعين ثم بينت القرة وفسرت بقوله مِنْ أَزْواجِنَا وهو من قولهم رأيت منك أسداً أي أنت أسد وأن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا من طاعة وصلاح فإن قيل لم قال قُرَّة ِ أَعْيُنٍ فنكر وقلل قلنا أما التنكير فلأجل تنكير القرة لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه كأنه قال هب لنا منهم سروراً وفرحاً وإنما قال ( أعين ) دون عيون لأنه أراد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قال تعالى وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 )
المسألة الرابعة قال الزجاج أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يحبه وقال المفضل في قرة العين ثلاثة أقوال أحدها يرد دمعتها وهي التي تكون مع الضحك والسرور ودمعة الحزن حارة والثاني نومها لأنه يكون مع ذهاب الحزن والوجع والثالث حضور الرضا
المسألة الخامسة قوله وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً الأقرب أنهم سألوا الله تعالى أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم قال بعضهم في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها قال الخليل عليه الصلاة والسلام وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) وقيل نزلت هذه الآيات في العشرة المبشرين بالجنة
المسألة السادسة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا لأن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل فدل على أن العلم والعمل إنما يكون بجعل الله تعالى وخلقه وقال القاضي المراد من السؤال الألطاف التي إذا كثرت صاروا مختارين لهذه الأشياء فيصيرون أئمة والجواب أن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثاً
المسألة السابعة قال الفراء قال ( إماماً ) ولم يقل أئمة كما قال للاثنين إِنّى رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الزخرف 46 ) ويجوز أن يكون المعنى اجعل كل واحد منا إماماً كما قال يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 ) وقال الأخفش الإمام جمع واحده آم كصائم وصيام وقال القفال وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل اجعلنا حجة للمتقين ومثله البينة يقال هؤلاء بينة فلان واعلم أنه سبحانه وتعالى لما عدد صفات(24/100)
المتقين المخلصين بين بعد ذلك أنواع إحسانه إليهم وهي مجموعة في أمرين المنافع والتعظيم
أُوْلَائِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَة َ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّة ً وَسَلَاماً
أما المنافع فهي قوله
والمراد أولئك يجزون الغرفات والدليل عليه قوله وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءامِنُونَ ( سبأ 37 ) وقال لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ ( الزمر 20 ) والغرفة في اللغة العلية وكل بناء عال فهو غرفة والمراد به الدرجات العالية وقال المفسرون الغرفة اسم الجنة فالمعنى يجزون الجنة وهي جنات كثيرة وقرأ بعضهم ( أولئك يجزون في الغرفة ) وقوله بِمَا صَبَرُواْ فيه بحثان
البحث الأول احتج بالآية من ذهب إلى أن الجنة بالاستحقاق فقال الباء في قوله بِمَا صَبَرُواْ تدل على ذلك ولو كان حصولها بالوعد لما صدق ذلك
البحث الثاني ذكر الصبر ولم يذكر المصبور عنه ليعم كل نوع فيدخل فيه صبرهم على مشاق التفكر والاستدلال في معرفة الله تعالى وعلى مشاق الطاعات وعلى مشاق ترك الشهوات وعلى مشاق أذى المشركين وعلى مشاق الجهاد والفقر ورياضة النفس فلا وجه لقول من يقول المراد الصبر على الفقر خاصة لأن هذه الصفات إذا حصلت مع الغنى استحق من يختص بها الجنة كما يستحقه بالفقر
وثانيهما التعظيم وهو قوله تعالى
( ويلقون فيها تحية وسلاماً )
قرىء يُلْقُون كقوله وَلَقَّاهُمْ نَضْرَة ً وَسُرُوراً ( الأنسان 11 ) و يُلْقُون كقوله يَلْقَ أَثَاماً ( الفرقان 68 ) والتحية الدعاء بالتعمير والسلام الدعاء بالسلامة فيرجع حاصل التحية إلى كون نعيم الجنة باقياً غير منقطع ويرجع السلام إلى كون ذلك النعيم خالصاً عن شوائب الضرر ثم هذه التحية والسلام يمكن أن يكون من الله تعالى لقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ويمكن أن يكون من الملائكة لقوله وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) ويمكن أن يكون من بعضهم على بعض أماقوله
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً
فالمراد أنه سبحانه لما وعد بالمنافع أولاً وبالتعظيم ثانياً بين أن من صفتهما الدوام وهو المراد من قوله خَالِدِينَ فِيهَا ومن صفتهما الخلوص أيضاً وهو المراد من قوله حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وهذا في مقابلة قوله سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً أي ما أسوأ ذلك وما أحسن هذا أما قوله
قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً
فاعلم أنه سبحانه لما شرح صفات المتقين وشرح حال ثوابهم أمر رسوله أن يقول قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فدل بذلك على أنه تعالى غني عن عبادتهم وأنه تعالى إنما كلفهم لينتفعوا بطاعتهم وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الخليل ما أعبأ بفلان أي ما أصنع به كأنه ( يستقله ) ويستحقره وقال أبو عبيدة ما(24/101)
أعبأ به أي وجوده وعدمه عندي سواء وقال الزجاج معناه أي لا وزن لكم عند ربكم والعبء في اللغة الثقل وقال أبو عمرو بن العلاء ما يبالي بكم ربي
المسألة الثانية في مَا قولان أحدهما أنها متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر كأنه قيل وأي عبء يعبأ بكم لولا دعاؤكم والثاني أن تكون ما نافية
المسألة الثالثة ذكروا في قوله لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ وجهين أحدهما لولا دعاؤه إياكم إلى الدين والطاعة والدعاء على هذا مصدر مضاف إلى المفعول وثانيهما أن الدعاء مضاف إلى الفاعل وعلى هذا التقدير ذكروا فيه وجوهاً أحدها لولا دعاؤكم لولا إيمانكم وثانيها لولا عبادتكم وثالثها لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كقوله فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ ( العنكبوت 65 ) ورابعها دعاؤكم يعني لولا شكركم له على إحسانه لقوله مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ ( النساء 147 ) وخامسها ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم
أما قوله فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فالمعنى أني إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم وهو عقاب الآخرة ونظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني وقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك فإن قيل إلى من يتوجه هذا الخطاب قلنا إلى الناس على الإطلاق ومنهم ( مؤمنون ) عابدون ومكذبون عاصون فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب وقرىء ( فقد كذب الكافرون ) ( فسوف ) يكون العذاب لزاماً وقرىء لِزَاماً بالفتح بمعنى اللزوم كالثبات والثبوت والوجه أن ترك اسم كان غير منطوق به بعد ما علم أنه مما توعد به لأجل الإبهام ويتناول ما لا يحيط به الوصف ثم قيل هذا العذاب في الآخرة وقيل كان يوم بدر وهو قول مجاهد رحمه الله والله أعلم
تم تفسير هذه السورة والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين(24/102)
سورة الشعراء
مكية إلا أربع آيات فإنها مدنية وهي وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إلى آخرها
وهي مايتان أو ست أو سبع وعشرون آية
طس م تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَة ً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
الطاء إشارة إلى طرب قلوب العارفين والسين سرور المحبين والميم مناجاة المريدين وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ قتادة بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على الإضافة وقرىء فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا
المسألة الثانية البخع أن يبلغ بالذبح البخاع وهو الخرم النافذ في ثقب الفقرات وذلك أقصى حد الذابح ولعل للإشفاق
المسألة الثالثة قوله طسم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ معناه آيات هذه السورة تلك آيات الكتاب المبين وتمام تقريره ما مر في قوله تعالى ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 2 ) ولا شبهة في أن المراد بالكتاب هو القرآن والمبين وإن كان في الحقيقة هو المتكلم فقد يضاف إلى الكلام من حيث يتبين به عند النظر فيه فإن قيل القوم لما كانوا كفاراً فكيف تكون آيات القرآن مبينة لهم ما يلزمهم وإنما يتبين بذلك الأحكام قلنا ألفاظ القرآن من حيث تعذر عليهم أن يأتوا بمثله يمكن أن يستدل به على فاعل مخالف لهم كما يستدل بسائر ما لا يقدر العباد على مثله فهو دليل التوحيد من هذا الوجه ودليل النبوة من حيث الإعجاز ويعلم به بعد ذلك أنه إذا كان من عند الله تعالى فهو دلالة الأحكام أجمع وإذا ثبت هذا صارت آيات القرآن كافية في كل الأصول والفروع أجمع ولما ذكر الله تعالى أنه بين الأمور قل بعده لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ منبهاً بذلك على أن الكتاب وإن بلغ في البيان كل غاية فغير مدخل لهم في الإيمان لما أنه سبق حكم الله(24/103)
بخلافه فلا تبالغ في الحزن والأسف على ذلك لأنك إن بالغت فيه كنت بمنزلة من يقتل نفسه ثم لا ينتفع بذلك أصلاً فصبره وعزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا نفع فيه كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه لا نفع لهم فيه ثم بين تعالى أنه قادر على أن ينزل آية يذلون عندها ويخضعون فإن قيل كيف صح مجيء خَاضِعِينَ خبراً عن الأعناق قلنا أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فذكرت الأعناق لبيان موضع الخضوع ثم ترك الكلام على أصله ولما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خَاضِعِينَ كقوله لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) وقيل أعناق الناس رؤساؤهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما يقال هم الرؤوس والصدور وقيل هم جماعات الناس يقال جاءنا عنق من الناس لفوج منهم
المسألة الرابعة نظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الكهف فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ وقوله فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 )
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
المسألة الأولى قوله وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ من تمام قوله إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ ( الشعراء 4 ) فنبه تعالى على أنه مع قدرته على أن يجعلهم مؤمنين بالإلجاء رحيم بهم من حيث يأتيهم حالاً بعد حال بالقرآن وهو الذكر ويكرره عليهم وهم مع ذلك على حد واحد في الإعراض والتكذيب والاستهزاء ثم عند ذلك زجر وتوعد لأن المرء إذا استمر على كفره فليس ينفع فيه إلا الزجر الشديد فلذلك قال فَقَدْ كَذَّبُواْ أي بلغوا النهاية في رد آيات الله تعالى فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ وذلك إما عند نزول العذاب عليهم في الدنيا أو عند المعاينة أو في الآخرة فهو كقوله تعالى وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ وقد جرت العادة فيمن يسيء أن يقال له سترى حالك من بعد على وجه الوعيد ثم إنه تعالى بين أنه مع إنزاله القرآن حالاً بعد حال قد أظهر أدلة تحدث حالاً بعد حال فقال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ والزوج هو الصنف ( من النبات ) والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه يقال وجه كريم إذا كان مرضياً في حسنه وجماله وكتاب كريم إذا كان مرضياً في فوائده ومعانيه والنبات الكريم هو المرضي فيما يتعلق به من المنافع وفي وصف الزوج بالكريم وجهان أحدهما أن النبات على نوعين نافع وضار فذكر سبحانه كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع وترك ذكر الضار والثاني أنه عم جميع النبات نافعه وضاره ووصفهما جميعاً بالكرم ونبه على أنه ما أنبت شيئاً إلا وفيه فائدة وإن غفل عنها الغافلون(24/104)
أما قوله إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ فهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والمعنى أن في ذلك دلالة لمن يتفكر ويتدبر وما كان أكثرهم مؤمنين أي مع كل ذلك يستمر أكثرهم على كفرهم فأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فإنما قدم ذكر العزيز على ذكر الرحيم لأنه لو لم يقدمه لكان ربما قيل إنه رحمهم لعجزه عن عقوبتهم فأزال هذا الوهم بذكر العزيز وهو الغالب القاهر ومع ذلك فإنه رحيم بعباده فإن الرحمة إذا كانت عن القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً والمراد أنهم مع كفرهم وقدرة الله على أن يعجل عقابهم لا يترك رحمتهم بما تقدم ذكره من خلق كل زوج كريم من النبات ثم من إعطاء الصحة والعقل والهداية
المسألة الثانية أنه تعالى وصف الكفار بالإعراض أولاً وبالتكذيب ثانياً وبالاستهزاء ثالثاً وهذه درجات من أخذ يترقى في الشقاوة فإنه يعرض أولاً ثم يصرح بالتكذيب والإنكار إلى حيث يستهزىء به ثالثاً
المسألة الثالثة فإن قلت ما معنى الجمع بين كم وكل ولم لم يقل كم أنبتنا فيها من زوج كريم قلت قد دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة فهذا معنى الجمع ( رتبه ) على كمال قدرته فإن قلت فحين ذكر الأزواج ودل عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة وكانت بحيث لا يحصيها إلا عالم الغيب فكيف قال إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً وهلا قال لآيات قلت فيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك مشاراً به إلى مصدر أنبتنا فكأنه قال إن في ذلك الإنبات لآية أي آية والثاني أن يراد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية
المسألة الرابعة احتجت المعتزلة على خلق القرآن بقوله تعالى وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ فقالوا الذكر هو القرآن لقوله تعالى وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ ( الأنبياء 50 ) وبين في هذه الآية أن الذكر محدث فيلزم من هاتين الآيتين أن القرآن محدث وهذا الاستدلال بقوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً ( الزمر 23 ) وبقوله فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( المرسلات 50 ) وإذا ثبت أنه محدث فله خالق فيكون مخلوقاً لا محالة والجواب أن كل ذلك يرجع إلى هذه الألفاظ ونحن نسلم حدوثها إنما ندعي قدم أمر آخر وراء هذه الحروف وليس في الآية دلالة على ذلك
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ
اختلف أهل السنة في النداء الذي سمعه موسى عليه السلام من الله تعالى هل هو كلامه القديم أو هو ضرب من الأصوات فقال أبو الحسن الأشعري المسموع هو الكلام القديم وكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الأشياء مع أن الدليل دل على أنها معلومة ومرتبة فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحروف والأصوات مع أنه مسموع وقال أبو منصور الماتريدي الذي سمعه موسى عليه السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات وذلك لأن الدليل لما دل على أنا رأينا الجوهر والعرض ولا بد من علة مشتركة بينهما لصحة الرؤية ولا علة إلا الوجود حكمنا بأن كل موجود يصح أن يرى ولم يثبت عندنا أنا نسمع الأصوات والأجسام حتى يحكم بأنه لا بد من مشترك بين الجسم والصوت فلم يلزم صحة كون كل موجود مسموعاً(24/105)
فظهر الفرق أما المعتزلة فقد اتفقوا على أن ذلك المسموع ما كان إلا حروفاً وأصواتاً فعند هذا قالوا إن ذلك النداء وقع على وجه علم به موسى عليه السلام أنه من قبل الله تعالى فصار معجزاً علم به أن الله مخاطب له فلم يحتج مع ذلك إلى واسطة وكفى في الوقت أن يحمله الرسالة التي هي أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لأن في بدء البعثة يجب أن يأمره بالدعاء إلى التوحيد ثم بعده يأمره بالأحكام ولا يجوز أن يأمره تعالى بذلك إلا وقد عرفه أنه ستظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك
أما قوله تعالى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فالمعنى أنه تعالى سجل عليهم بالظلم وقد استحقوا هذا الاسم من وجهين من وجه ظلمهم أنفسهم بكفرهم ومن وجه ظلمهم لبني إسرائيل
أما قوله قَوْمِ فِرْعَونَ فقد عطف ( قوم فرعون ) على ( القوم الظالمين ) عطف بيان كأن القوم الظالمين وقوم فرعون لفظان يدلان على معنى واحد
وأما قوله أَلا يَتَّقُونَ فقرىء ( ألا يتقون ) بكسر النون بمعنى ألا يتقونني فحذفت النون لاجتماع النونين والياء للاكتفاء بالكسرة وقوله أَلا يَتَّقُونَ كلام مستأنف أتبعه تعالى إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيباً لموسى عليه السلام من حالهم ( التي شفت ) في الظلم والعسف ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم ( وحذرهم من أيام الله ) ( 1 ) ويحتمل أن يكون أَلا يَتَّقُونَ حالاً من الضمير في ( الظالمين ) أي يظلمون غير متقين الله وعقابه فأدخلت همزة الإنكار على الحال ووجه ثالث وهو أن يكون المعنى ألا يا ناس اتقون كقوله ( ألا يسجدوا ) وأما من قرأ ( ألا تتقون ) على الخطاب فعلى طريقة الالتفات إليهم وصرف وجوههم بالإنكار والغضب عليهم كما يرى من يشكو ممن ركب جناية والجاني حاضر فإذا اندفع في الشكاية وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه به ويقول له ألا تتقي الله ألا تستحي من الناس فإن قلت فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى عليه السلام في وقت المناجاة والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون قلت إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم لأنه ( مبلغهم ) ( 2 ) ومنهيه إليهم وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى وكم من آية نزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبراً لها واعتباراً بمواردها
قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَى َّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى قوم فرعون طلب موسى عليه السلام أن يبعث معه هرون إليهم ثم ذكر الأمور الداعلية له إلى ذلك السؤال وحاصلها أنه لو لم يكن هرون لاختلت المصلحة المطلوبة من بعثة موسى عليه السلام وذلك من وجهين الأول أن فرعون ربما كذبه والتكذيب سبب لضيق القلب وضيق القلب سبب لتعسر الكلام على من يكون في لسانه حبسة لأن(24/106)
عند ضيق القلب تنقبض الروح والحرارة الغريزية إلى باطن القلب وإذا انقبضا إلى الداخل وخلا منهما الخارج ازدادت الحبسة في اللسان فالتأذي من التكذيب سبب لضيق القلب وضيق القلب سبب للحبسة فلهذا السبب بدأ بخوف التكذيب ثم ثنى بضيق الصدر ثم ثلث بعدم انطلاق اللسان وأما هرون فهو أفصح لساناً مني وليس في حقه هذا المعنى فكان إرساله لائقاً الثاني أن لهم عندي ذنباً فأخاف أن يبادروا إلى قتلي وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة وأما هرون فليس كذلك فيحصل المقصود من البعثة
المسألة الثانية قرىء ( يضيق ) و ( ينطلق ) بالرفع لأنهما معطوفان على خبر ( إن ) وبالنصب لعطفهما على صلة أن والمعنى أخاف أن يكذبون وأخاف أن يضيق صدري وأخاف أن لا ينطلق لساني والفرق أن الرفع يفيد ثلاث علل في طلب إرسال هرون والنصب يفيد علة واحدة وهي الخوف من هذه الأمور الثلاثة فإن قلت الخوف غم يحصل لتوقع مكروه سيقع وعدم انطلاق اللسان كان حاصلاً فكيف جاز تعلق الخوف به قلت قد بينا أن التكذيب الذي سيقع يوجب ضيق القلب وضيق القلب يوجب زيادة الاحتباس فتلك الزيادة ما كانت حاصلة في الحال بل كانت متوقعة فجاز تعليق الخوف عليها
أما قوله تعالى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ فليس في الظاهر ذكر من الذي يرسل إليه وفي الخبر أن الله تعالى أرسل موسى عليه السلام إليه قال السدي إن موسى عليه السلام سار بأهله إلى مصر والتقى بهرون وهو لا يعرفه فقال أنا موسى فتعارفا وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة فصاحت أمهما لخوفهما عليهما فذهبا إليه ويحتمل أن يكون المراد أرسل إليه جبريل لأن رسول الله إلى الأنبياء جبريل عليه السلام فلما كان هو متعيناً لهذا الأمر حذف ذكره لكونه معلوماً وأيضاً ليس في الظاهر أنه يرسل لماذا لكن فحوى الكلام يدل على أنه طلبه للمعونة فيما سأل كما يقال إذا نابتك نائبة فأرسل إلى فلان أي ليعينك فيها وليس في الظاهر أنه التمس كون هرون نبياً معه لكن قوله فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ يدل عليه
أما قوله وَلَهُمْ عَلَى َّ ذَنبٌ فأراد بالذنب قتله القبطي وقد ذكر الله تعالى هذه القصة مشروحة في سورة القصص
واعلم أنه ليس في التماس موسى عليه السلام أن يضم إليه هرون ما يدل على أنه استعفى من الذهاب إلى فرعون بل مقصوده فيما سأل أن يقع ذلك الذهاب على أقوى الوجوه في الوصول إلى المراد واختلفوا فقال بعضهم إنه وإن كان نبياً فهو غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة لأنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين وهذا قول الكعبي وغيره من البغداديين لأنهم يجوزون دخول الشرط في تكليف الله تعالى العبد والذي ذهب إليه الأكثرون أن ذلك لا يجوز لأنه تعالى إذا أمر فهو عالم بما يتمكن منه المأمور وبأوقات تمكنه فإذا علم أنه غير متمكن منه فإنه لا يأمره به وإذا صح ذلك فالأقرب في الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أنه تعالى يمكنهم من أدائها وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت ومثل ذلك لا يكون إغراء في الأنبياء وإن جاز أن يكون إغراء في غيرهم
المسألة الثالثة لقائل أن يقول قول موسى عليه السلام وَلَهُمْ عَلَى َّ ذَنبٌ هل يدل على صدور الذنب منه جوابه لا والمراد لهم عليَّ ذنب في زعمهم(24/107)
قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِأايَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ
اعلم أن موسى عليه السلام طلب أمرين الأول أن يدفع عنه شرهم والثاني أن يرسل معه هرون فأجابه الله تعالى إلى الأول بقوله كَلاَّ ومعناه ارتدع يا موسى عما تظن وأجابه إلى الثاني بقوله فَاذْهَبَا أي اذهب أنت والذي طلبته وهو هرون فإن قيل علام عطف قوله فَاذْهَبَا قلنا على الفعل الذي يدل عليه ( كلا ) كأنه قال ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهرون
وأما قوله إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فمن مجاز الكلام يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذاً أحضر وأستمع ما يجري بينكما فأظهركما عليه وأعليكما وأكسر شوكته عنكما وإنما جعلنا الاستماع مجازاً لأن الاستماع عبارة عن الإصغاء وذلك على الله تعالى محال
وأما قوله إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ففيه سؤال وهو أنه هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ جوابه من وجوه أحدها أن الرسول اسم للماهية من غير بيان أن تلك الماهية واحدة أو كثيرة والألف واللام لا يفيدان إلا الوحدة لا الاستغراق بدليل أنك تقول الإنسان هو الضحاك ولا تقول كل إنسان هو الضحاك ولا أيضاً هذا الإنسان هو الضحاك وإذا ثبت أن لفظ الرسول لا يفيد إلا الماهية وثبت أن الماهية محمولة على الواحد وعلى الاثنين ثبت صحة قوله إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ وثانيها أن الرسول قد يكون بمعنى الرسالة قال الشاعر لقد كذب الواشون ما فهت عندهم
بسر ولا أرسلتهم برسول
فيكون المعنى إنا ذو رسالة رب العالمين وثالثها أنهما لاتفاقهما على شريعة واحدة واتحادهما بسبب الأخوة كأنهما رسول واحد ورابعها المراد كل واحد منا رسول وخامسها ما قاله بعضهم أنه إنما قال ذلك لا بلفظ التثنية لكونه هو الرسول خاصة وقوله أَنَاْ فكما في قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ( يوسف 2 ) وهو ضعيف
وأما قوله أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ فالمراد من هذا الإرسال التخلية والإطلاق كقولك أرسل البازي يريد خلهم يذهبوا معنا
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
اعمل أن في الكلام حذفاً وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به فعند ذلك قال فرعون ما قال يروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب إن ههنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين(24/108)
فقال ائذن له لعلنا نضحك منه فأديا إليه الرسالة فعرف موسى عليه السلام فعدد عليه نعمه أولاً ثم إساءة موسى إليه ثانياً أما النعم فهي قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً والوليد الصبي لقرب عهده من الولادة وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ وعن أبي عمرو بسكون الميم سِنِينَ قيل لبث عندهم ثلاثين سنة وقيل وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة وفر منهم ( على أثرها ) والله أعلم بصحيح ذلك وعن الشعبي فَعْلَتَكَ بالكسر وهي قتله القبطي لأنه قتله بالوكز وهو ضرب من القتل وأما الفعلة فلأنها ( كانت ) ( 1 ) وكزة واحدة عدد عليه نعمه من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه وعظم ذلك ( وفظعه ) ( 1 ) بقوله وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ
وأما قوله وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ففيه وجوه أحدها يجوز أن يكون حالاً أي قتلته وأنت بذاك من الكافرين بنعمتي وثانيها وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة وقد افترى عليه أو جهل أمره لأنه كان ( يعاشرهم ) بالتقية فإن الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة وثالثها وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ معناه وأنت ممن عادته كفران النعم ومن كان هذا حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمته ورابعها وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ بفرعون وإلهيته أو من الذين ( كانوا ) يكفرون في دينهم فقد كانت لهم آلهة يعبدونها يشهد بذلك قوله تعالى وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ ( الأعراف 127 )
قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَة ٌ تَمُنُّهَا عَلَى َّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرَاءِيلَ
اعلم أن فرعون لما دكر التربية وذكر القتل وقد كانت تربيته له معلومة ظاهرة لا جرم أن موسى عليه السلام ما أنكرها ولم يشتغل بالجواب عنها لأنه تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجز وحجة لم يتغير حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم يفعل ذلك فصار قول فرعون لما قاله غير مؤثر ألبتة ومثل هذا الكلام الإعراض عنه أولى ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب وهو قوله فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ والمراد بذلك الذاهلين عن معرفة ما يؤول إليه من القتل لأنه فعل الوكزة على وجه التأديب ومثل ذلك ربما حسن وإن أدى إلى القتل فبين له أنه فعله على وجه لا يجوز معه أن يؤاخذ به أو يعد منه كافراً أو كافراً لنعمه فأما قوله فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فالمراد أني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً وكان مني في حكم السهو فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار ومع ذلك فررت منكم عند قولكم إِنَّ الْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ( القصص 20 ) فبين بذلك أنه لا نعمة له عليه في باب تلك الفعلة بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب من حيث خوف تخويفاً أوجب الفرار ثم بين نعمة الله تعالى عليه بعد الفرار فكأنه قال أسأتم وأحسن الله إلي بأن وهب لي حكماً وجعلني من المرسلين واختلفوا في الحكم والأقرب أنه غير النبوة لأن المعطوف غير المعطوف عليه والنبوة مفهومة من قوله وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ فالمراد بالحكم العلم ويدخل في العلم العقل والرأي والعلم بالدين الذي هو التوحيد وهذا أقرب لأنه لا يجوز أن يبعثه تعالى إلا مع كماله في العقل والرأي والعلم بالتوحيد وقوله فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً(24/109)
كالتنصيص على أن ذلك الحكم من خلق الله تعالى وقالت المعتزلة المراد منه الألطاف وهو ضعيف جداً لأن الألطاف مفعولة في حق الكل من غير بخس ولا تقصير فالتخصيص لا بد فيه من فائدة فأما قوله وَتِلْكَ نِعْمَة ٌ تَمُنُّهَا عَلَى َّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْراءيلَ فهو جواب قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً يقال عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبداً فإن قيل كيف يكون ذلك جوابه ولا تعلق بين الأمرين قلنا بيان التعلق من وجوه أحدها أنه إنما وقع في يده وفي تربيته لأنه قصد تعبيد بني إسرائيل وذبح أبنائهم فكأنه عليه السلام قال له كنت مستغنياً عن تربيتك لو لم يكن منك ذلك الظلم المتقدم علينا وعلى أسلافنا وثانيها أن هذا الإنعام المتأخر صار معاضاً بذلك الظلم العظيم على أسلافنا وإذا تعارضا تساقطا وثالثها ما قاله الحسن إنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت علي فلا نعمة لك بالتربية ورابعها المراد أن الذي تولى تربيتي هم الذين قد استعبدتهم فلا نعمة لك علي لأن التربية كانت من قبل أمي وسائر من هو من قومي ليس لك إلا أنك ما قتلتني ومثل هذا لا يعد إنعاماً وخامسها أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في أن يطعمه ويعطيه ما يحتاج إليه
واعلم أن في الآية دلالة على أن كفر الكافر لا يبطل نعمته على من يحسن إليه ولا يبطل منته لأن موسى عليه السلام إنما أبطل ذلك بوجه آخر على ما بينا واختلف العلماء فقال بعضهم إذا كان كافراً لا يستحق الشكر على نعمه على الناس إنما يستحق الإهانة بكفره فلو استحق الشكر بإنعامه والشكر لا يوجد إلا مع التعظيم فيلزم كونه مستحقاً للإهانة وللتعظيم معاً واستحقاق الجمع بين الضدين محال وقال آخرون لا يبطل الشكر بالكفر وإنما يبطل بالكفر الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان والآية تدل على هذا القول الثاني
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) إنما جمع الضمير في مّنكُمْ و خِفْتُكُمْ مع إفراده في ثمنها و أَنْ عَبَّدتَّ لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملائه المؤتمرين بقتله بدليل قوله إِنَّ الْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ( القصص 20 ) وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد فإن قلت تِلْكَ إشارة إلى ماذا و أَنْ عَبَّدتَّ ما محلها من الإعراب قلت ( تلك ) إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها وهي أَنْ عَبَّدتَّ فإن أَنْ عَبَّدتَّ عطف بيان ونظيره قوله تعالى وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( الحجر 66 ) والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي وقال الزجاج ويحوز أن يكون ( أن ) في موضع نصب والمعنى إنما صارت نعمة علي لأن عبدت بني إسرائيل أي لو لم تفعل ذلك لكفاني أهلي
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَى ءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(24/110)
اعلم أن فرعون لم يقل لموسى وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين يبين ذلك ما تقدم من قوله فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 16 ) فلا بد عند دخولهما عليه أنهما قالا ذلك فعند ذلك قال فرعون وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ثم ههنا بحثان
الأول أن فرعون يحتمل أن يقال إنه كان عارفاً بالله ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة وقد ذكر الله تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله وهو قوله قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الإسراء 102 ) فإذا قرىء بفتح التاء من عَلِمَتِ فالمراد أن فرعون علم ذلك وذلك يدل على أنه كان عارفاً بالله لكنه كان يستأكل قومه بما يظهره من إلهيته والقراءة الأخرى برفع التاء من عَلِمَتِ فهي تقتضي أن موسى عليه السلام هو الذي عرف ذلك وأيضاً فإن فرعون إن لم يكن عاقلاً لم يجز من الله تعالى بعثة الرسول إليه وإن كان عاقلاً فهو يعلم بالضرورة أنه ما كان موجوداً ولا حياً ولا عاقلاً ثم صار كذلك وبالضرورة يعلم أن كل ما كان كذلك فلا بد له من مؤثر فلا بد وأن يتولد له من هذين العلمين علم ثالث بافتقاره في تركيبه وفي حياته وعقله إلى مؤثر موجد ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود في ذواتها ومتحركة لذواتها وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث في هذا العالم أو يقال إنه كان من الفلاسفة القائلين بالعلة الموجبة لا بالفاعل المختار ثم اعتقد أنه بمنزلة الإله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك ذماتهم وزمام أمرهم ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الحلولية القائلين بأن ذات الإله يتدرع بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه لذلك الجسد بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهاً
البحث الثاني وهو أنه قال لموسى عليه السلام وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ واعلم أن السؤال بما طلب لتعريف حقيقة الشيء وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة أو بشيء من أجزائها أو بأمر خارج عنها أو بما يتركب من الداخل والخارج أما تعريفها بنفسها فمحال لأن المعرف معلوم قبل المعرف فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوماً قبل أن يكون معلوماً وهو محال وأما تعريفها بالأمور الداخلة فيها فههنا في حق واجب الوجود محال لأن التعريف بالأمور الدخلة لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركباً وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركباً لأن كل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه فهو غيره فكل مركب محتاج إلى غيره وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته وكل مركب فهو ممكن فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركباً فواجب الوجود ليس بمركب وإذا لم يكن مركباً استحال تعريفه بأجزائه ولما بطل هذان القسمان ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود إلا بلوازمه وآثاره ثم إن اللوازم قد تكون خفية وقد تكون جلية ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية وأظهر آثار ذات واجب الوجود هو هذا العالم المحسوس وهو السموات(24/111)
والأرض وما بينهما فقد ثبت أنه لا جواب ألبتة لقول فرعون وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ إلا ما قاله موسى عليه السلام وهو أنه رب السموات والأرض وما بينهما فأما قوله إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ فمعناه إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته ثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال إلا هذا الجواب ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق قال فرعون لمن حوله ألا تستمعون وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى يعني أنا أطلب منه الماهية وخصوصية الحقيقة وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء إنه الذي يلزمه اللازم الفلاني فهذا المذكور إما أن يكون معروفاً لمجرد كونه أمراً ما يلزمه ذلك اللازم أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزومية والأول محال لأن كونه أمراً يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفاً فلو كان المكشوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معروفاً لنفسه وهو محال والثاني محال لأن العلم بأنه أمر ما يلزمه اللازم الفلاني لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزومة لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية فثبت أن التعريف بالوصف الخارجي لا يفيد معرفة نفس الحقيقة فلم يكن كونه رباً للسموات والأرض وما بينهما جواباً عن قوله وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ فأجاب موسى عليه السلام بأن قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات والأرضين واجبة لذواتها فهي غنية عن الخالق والمؤثر ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده كونهم واجبين لذواتهم لم أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم ثم عدموا بعد الوجود وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته وما لم يكن واجباً لذاته استحال وجوده إلا لمؤثر فكان التعريف بهذا الأثر أظهر فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه فقال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ يعني المقصود من سؤال ما طلب الماهية وخصوصية الحقيقة والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد ألبتة تلك الخصوصية فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه فقال موسى عليه السلام رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة وهو الذي ذكره موسى عليه السلام ههنا بقوله رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ فأجابه نمروذ بقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى ( البقرة 258 ) فقال فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ ( البقرة 258 ) وهو الذي ذكره موسى عليه السلام ههنا بقوله رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وأما قوله إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فكأنه عليه السلام قال إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت لأنك طلبت مني تعريف حقيقته(24/112)
بنفس حقيقته وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته فقد ثبت أن كل من كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته
واعلم أنا قد بينا في سورة الأنعام ( 18 ) في تفسير قوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي هي غير معقولة للبشر وإذا كان كذلك استحال من موسى عليه السلام أن يذكر ما تعرف به تلك الحقيقة إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة فكان حاصل كلام موسى عليه السلام أن ادعاء رسالة رب العالمين تتوقف صحته على إثبات أن للعالمين رباً وإلهاً ولا تتوقف على العلم بخصوصية الرب تعالى وماهيته المعينة فكأن موسى عليه السلام يقيم الدلالة على إثبات القدر المحتاج إليه في صحة دعوى الرسالة وفرعون يطالبه ببيان الماهية وموسى عليه السلام كان يعرض عن سؤاله لعلمه بأنه لا تعلق لذلك السؤال نفياً ولا إثباتاً في هذا المطلوب فهذا تمام القول في هذا البحث والله أعلم ثم إن موسى عليه السلام لما خشن في آخر الكلام بقوله إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فعند ذلك قال فرعون لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ فإنه لما عجز عن الحجاج عدل إلى التخويف فعند ذلك ذكر موسى عليه السلام كلاماً مجملاً ليعلق قلبه به فيعدل عن وعيده فقال أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ أي هل تستجيز أن تسجنني مع اقتداري على أن آتيك بأمر بين في باب الدلالة على وجود الله تعالى وعلى أني رسوله فعند ذلك قال فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وههنا فروع الفرع الأول الآية تدل على أنه تعالى ليس بجسم لأنه لو كان جسماً وله صورة لكان جواب موسى عليه السلام بذكر حقيقته ولكان كلام فرعون لازماً له لعدوله عن الجواب الحق الثاني الواجب على من يدعو غيره إلى الله تعالى أن لا يجيب عن السفاهة لأن موسى عليه السلام لما قال له فرعون إنه مجنون لم يعدل عن ذكر الدلالة وكذلك لما توعده أن يسجنه الثالث أنه يجوز للمسؤول أن يعدل في حجته من مثال إلى مثال لإيضاح الكلام ولا يدل ذلك على الانقطاع الرابع إن قيل كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول وهو قوله أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ والمعجز لا يدل على الله تعالى كدلالة سائر ما تقدم قلنا بل يدل ما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حية على الله تعالى وعلى توحيده وعلى أنه صادق في الرسالة فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم وأجمع الخامس فإن قيل كيف قال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا على التثنية والمرجوع إليه مجموع جوابه أريد ما بين الجهتين فإن قيل ذكر السموات والأرض وما بينهما قد استوعب الخلائق كلهم فما معنى ذكرهم وذكر آبائهم بعد ذلك وذكر المشرق والمغرب جوابه قد عمم أولاً ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم لأن أقرب الأشياء من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد من انتقاله من وقت ميلاده إلى وقت وفاته من حالة إلى حالة أخرى ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها على تقدير مستقيم في فصول السنة من أظهر الدلائل السادس فإن قيل لم قال لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ولم يقل لأسجننك مع أنه أخصر جوابه لأنه لو قال لأسجننك لا يفيد إلا صيرورته مسجوناً أما قوله لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ فمعناه أني أجعلك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني وكان من عادته أن يأخذ من يريد أن يسجنه فيطرحه في بئر عميقة فرداً لا يبصر فيها ولا يسمع فكان ذلك أشد من القتل السابع الواو في قوله أَوْ لَوْ جِئْتُكَ واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام معناه أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي جائياً بالمعجزة(24/113)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِى َ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الأعمش بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
المسألة الثانية اعلم أن قوله أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ ( الشعراء 30 ) يدل على أن الله تعالى قبل أن ألقى العصا عرفه بأنه يصيرها ثعباناً ولولا ذلك لما قال ما قال فلما ألقى عصاه ظهر ما وعده الله به فصار ثعباناً مبيناً والمراد أنه تبين للناظرين أنه ثعبان بحركاته وبسائر العلامات روي أنه لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون يا موسى أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها فعادت عصا فإن قيل كيف قال ههنا ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وفي آية أخرى فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى ( طه 20 ) وفي آية ثالثة كَأَنَّهَا جَانٌّ ( القصص 31 ) والجان مائل إلى الصغر والثعبان مائل إلى الكبر جوابه أما الحية فهي اسم الجنس ثم إنها لكبرها صارت ثعباناً وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها فصح الكلامان ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) ويحتمل أنها كانت أولاً صغيرة كالجان ثم عظمت فصارت ثعباناً ثم إن موسى عليه السلام لما أتى بهذه الآية قال له فرعون هل غيرها قال نعم فأراه يده ثم أدخلها جيبه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء يضيء الوادي من شدة بياضها من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر فيها أموراً ثلاثة أحدها قوله إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ وذلك لأن الزمان كان زمان السحرة وكان عند كثير منهم أن الساحر قد يجوز أن ينتهي بسحره إلى هذا الحد فلهذا روج عليهم هذا القول وثانيها قوله يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ وهذا يجري مجرى التنفير عنه لئلا يقبلوا قوله والمعنى يريد أن يخرجكم من أرضكم بما يلقيه بينكم من العداوات فيفرق جمعكم ومعلوم أن مفارقة الوطن أصعب الأمور فنفرهم عنه بذلك وهذا نهاية ما يفعله المبطل في التنفير عن المحق وثالثها قوله لهم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ أي فما رأيكم فيه وما الذي أعمله يظهر من نفسه أني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم ومثل هذا الكلام يوجب جذب القلوب وانصرافها عن العدو فعند هذه الكلمات اتفقوا على جواب واحد وهو قوله أَرْجِهْ قرىء ( أرجئه ) و ( أرجه ) بالهمز والتخفيف وهما لغتان يقال أرجأته وأرجيته إذا أخرته والمعنى أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة وقيل احبسه وذلك محتمل لأنك إذا حبست الرجل عن حاجته فقد أخرته روي أن فرعون أراد قتله ولم يكن يصل إليه فقالوا له لا تفعل فإنك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهة ولكن أرجئه وأخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه فلا يثبت له عليك حجة ثم أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون(24/114)
السحرة ظناً منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله وعارضوا قوله إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ بقولهم بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فجاءوا بكلمة الإحاطة وبصيغة المبالغة ليطيبوا قلبه وليسكنوا بعض قلقه قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت قوله تعالى قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ ما العامل في ( حوله ) قلت هو منصوب نصبين نصب في اللفظ ونصب في المحل والعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال
فَجُمِعَ السَّحَرَة ُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَة َ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَة ُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لاّجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اليوم المعلوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى عليه السلام من يوم الزينة في قوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَة ِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ( طه 59 ) والميقات ما وقت به أي حدد من مكان وزمان ومنه مواقيت الإحرام
المسألة الثانية اعلم أن القوم لما أشاروا بتأخير أمره وبأن يجمع له السحرة ليظهر عند حضورهم فساد قول موسى عليه السلام رضي فرعون بما قالوه وعمي عما شاهده وحب الشيء يعمي ويصم فجمع السحرة ثم أراد أن تقع تلك المناظرة يوم عيد لهم ليكون ذلك بمحضر الخلق العظيم وكان موسى عليه السلام يطلب ذلك لتظهر حجته عليهم عند الخلق العظيم وكان هذا أيضاً من لطف الله تعالى في ظهور أمر موسى عليه السلام
أما قوله وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ فالمراد أنهم بعثوا على الحضور ليشاهدوا ما يكون من الجانبين
وأما قوله لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَة َ فالمراد إنا نرجو أن يكون الغلبة لهم فنتبعهم فلما جاء السحرة ابتدأوا بطلب الجزاء وهو إما المال وإما الجاه فبذل لهم ذلك وأكده بقوله وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ لأن نهاية مطلوبهم منه البذل ورفع المنزلة فبذل كلا الأمرين
قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّة ِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(24/115)
اعلم أنهم لما اجتمعوا كان لا بد من أن يبدأ موسى أو يبدأوا ثم إنهم تواضعوا له فقدموه على أنفسهم وقالوا إِمَّا أَن تُلْقِى َ وَإِمَّا أَن تَكُونُ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ( طه 65 ) فلما تواضعوا له تواضع هو أيضاً لهم فقدمهم على نفسه وقال أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ فإن قيل كيف جاز لموسى عليه السلام أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصي وذلك سحر وتلبيس وكفر والأمر بمثله لا يجوز الجواب لا شبهة في أن ذلك ليس بأمر لأن مراد موسى عليه السلام منهم كان أن يؤمنوا به ولا يقدموا على ما يجري مجرى المغالبة وإذا ثبت هذا وجب تأويل صيغة الأمر وفيه وجوه أحدها ذلك الأمر كان مشروطاً والتقدير ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين كما في قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( البقرة 23 ) وثانيها لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار جائزاً وثالثها أن هذا ليس بأمر بل هو تهديد أي إن فعلتم ذلك أتينا بما تبطله كقول القائل لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن ثم يفوق له السهم فيقول له ارم فيكون ذلك منه تهديداً ورابعها ما ذكرنا أنهم لما تواضعوا له وقدموه على أنفسهم فهو قدمهم على نفسه على رجاء أن يصير ذلك التواضع سبباً لقبول الحق ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب وهذا تنبيه على أن اللائق بالمسلم في كل الأحوال التواضع لأن مثل موسى عليه السلام لما لم يترك التواضع مع أولئك السحرة فبأن يفعل الواحد منا أولى
أما قوله تعالى فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فروي عن ابن عباس أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق فلما حميت اشتدت حركتها فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض فهاب موسى عليه السلام ذلك فقيل له ألق ما في يمينك فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ثم فتحت فاها فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم حتى أكلت الكل ثم أخد موسى عصاه فإذا هي كما كانت فلما رأت السحرة ذلك قالت لفرعون كنا نساحر الناس فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي وكذلك إن غلبونا ولكن هذا حق فسجدوا وآمنوا برب العالمين
واعلم أن في الآثار اختلافاً فمنهم من كثر الحبال والعصي ومنهم من توسط والله أعلم بعدد ذلك والذي يدل القرآن عليه أنها كثيرة من حيث حشروا من كل بلد ولأن الأمر بلغ عند فرعون وقومه في العظم مبلغاً يبعد أن يدخر عنه ما يمكن من جمع السحرة
وأما قوله وَقَالُواْ بِعِزَّة ِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فالمراد أنهم أظهروا ما يجري مجرى القطع على أنهم يغلبون وكل ذلك لما ظهر كان أقوى لأمر موسى عليه السلام
أما قوله فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فالمراد من قوله مَا يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم ( ويزورونه ) فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى ( بالتمويه على الناظرين أو إفكهم ) وسمى تلك الأشياء إفكاً مبالغة
أما قوله فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ فالمراد خروا سجداً لأنهم كانوا في الطبقة العالية من علم السحر(24/116)
فلا جرم كانوا عالمين بمنتهى السحر فلما رأوا ذلك وشاهدوه خارجاً عن حد السحر علموا أنه ليس بسحر وما كان ذلك إلا ببركة تحقيقهم في علم السحر ثم إنهم عند ذلك لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحاً فإن قيل فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به جوابه هو الله تعالى بما ( حصل في قلوبهم من الدواعي الجازمة الخالية عن المعارضات ولكن الأولى ) أن لا نقدر فاعلاً لأن ألقى بمعنى خر وسقط
أما قوله رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ فهو عطف بيان لرب العالمين لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام أنه الذي دعا موسى وهرون عليهما السلام إليه
قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أنهم لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول الناس إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وتظاهرهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى عليه السلام فيسلكون مثل طريقهم فلبس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى عليه السلام من وجوه أولها قوله قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ وهذا فيه إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على أنكم كنتم مائلين إليه وذلك يطرق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله وثانيها قوله إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ وهذا تصريح بما رمز به أولاً وغرضه منه أنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى عليه السلام وقصروا في السحر ليظهر أمر موسى عليه السلام وإلا ففي قوة السحرة أن يفعلوا مثل ما فعل موسى عليه السلام وهذه شبهة قوية في تنفير من يقبل قوله وثالثها قوله فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وهو وعيد مطلق وتهديد شديد ورابعها قوله لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وهذا هو الوعيد المفصل وقطع اليد والرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والصلب معلوم وليس في الإهلاك أقوى من ذلك وليس في الآية أنه فعل ذلك أو لم يفعل ثم إنه أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين الأول قولهم لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ الضر والضير واحد وليس المراد أن ذلك إن وقع لم يضر وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عرفوه من دار الجزاء
واعلم أن قولهم إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ فيه نكتة شريفة وهي أنهم قد بلغوا في حب الله تعالى أنهم ما أرادوا شيئاً سوى الوصول إلى حضرته وأنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب وإنما مقصودهم محض الوصول إلى مرضاته والاستغراق في أنوار معرفته وهذا أعلى درجات الصديقين الجواب الثاني قولهم إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا فهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما والطمع في هذا(24/117)
الموضع يحتمل اليقين كقول إبراهيم وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) ويحتمل الظن لأن المرء لا يعلم ما سيجيء من بعد
أما قوله أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فالمراد لأن كنا أول المؤمنين من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف أو يكون المراد من السحرة خاصة أو من رعية فرعون أو من أهل زمانهم وقرىء ( إن كنا ) بالكسر وهو من الشرط الذي يجيء به المدل ( بأمره لصحته وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين ) ونظيره قول ( القائل ) لمن يؤخر جعله إن كنت عملت لك فوفني حقي
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَاؤُلا ءِ لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَآءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِى َ رَبِّى سَيَهْدِينِ
قرىء أَسَرَّ بقطع الهمزة ووصلها وسر لما ظهر أمر موسى عليه السلام بما شاهدوه من الآية أمره الله تعالى بأن يخرج ببني إسرائيل لما كان في المعلوم من تدبير الله تعالى في موسى وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم ولم يأمن وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع من فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل وهم الذين آمنوا وكانوا من قوم موسى ولا شبهة أن في الكلام حذفاً وهو أنه أسرى بهم كما أمره الله تعالى ثم إن قوم موسى عليه السلام قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيداً ثم استعاروا منهم حليهم وحللهم بهذا السبب ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر فلما سمع ذلك فرعون أرسل في المدائن حاشرين ثم إنه قوى نفسه ونفس أصحابه بأن وصف قوم موسى بوصفين من أوصاف الذم ووصف قوم نفسه بصفة المدح أما وصف قوم موسى عليه السلام بالذم
فالصفة الأولى قوله إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ والشرذمة الطائفة القليلة ومنه قولهم ثوب شراذم للذي بلي وتقطع قطعاً ذكرهم بالاسم الدال على القلة ثم جعلهم قليلاً بالوصف ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً واختار جمع السلامة الذي هو للقلة ( وقد يجمع القليل على أقلة وقلل ) ويجوز أن يريد بالقلة الذلة ( والقماءة ) لا قلة العدد والمعنى أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم ثم اختلف المفسرون في عدد تلك الشرذمة فقال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة ولا شيخ يوفي على الستين(24/118)
سوى الحشم وفرعون يقللهم لكثرة من معه وهذا الوصف قد يستعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حصان وفي عسكره على لون فرسه ثلثمائة ألف
الصفة الثانية قوله وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ يعني يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا واختلفوا في تلك الأفعال على وجوه أحدها ما تقدم من أمر الحلي وغيره وثانيها خروج بني إسرائيل عن عبودية فرعون واستقلالهم بأنفسهم وثالثها مخالفتهم لهم في الدين وخروجهم عليهم ورابعها ليس إلا أنهم لم يتخذوا فرعون إلهاً أما الذي وصف فرعون به قومه فهو قوله وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ وفيه ثلاث قراءات ( حذرون ) و ( حاذرون ) و ( حادرون ) بالدال غير المعجمة
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهي اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث وإذا لم تكن كذلك وهي الشبهة أفادت الثبوت فمن قرأ حَاذِرُونَ ذهب إلى إنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ حَاذِرُونَ فكأنه ذهب إلى معنى إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا وأما من قرأ حادرون بالدال غير المعجمة فكأنه ذهب إلى نفي الحذر أصلاً لأن الحادر هو المشمر فأراد إنا قوم أقوياء أشداء أو أراد إنا مدججون في السلاح والغرض من هذه المعاذير أن لا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى أو خائف منهم
أما قوله تعالى حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ فالمراد إنا جعلنا في قلوبهم داعية الخروج فاستوجبت الداعية الفعل فكان الفعل مضافاً إلى الله تعالى لا محالة
وأما قوله مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ فقال مجاهد سماها كنوزاً لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى والمقام الكريم يريد المنازل الحسنة والمجالس البهية والمعنى إنا أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة والمواضع التي كانوا يتنعمون فيها لنسلمها إلى بني إسرائيل أما قوله كذلك فيحتمل ثلاثة أوجه النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه والجر على أنه وصف لمقام كريم أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك
أما قوله فَأَتْبَعُوهُم أي فلحقوهم وقرىء ( فاتبعوهم ) مُشْرِقِينَ داخلين في وقت الشروق من أشرقت الشمس شروقاً إذا طلعت
أما قوله فَلَمَّا تَرَاءا الْجَمْعَانِ أي رأى بعضهم بعضاً قال أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي لملحقون وَقَالُواْ يأَيُّهَا مُوسَى أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا كانوا يذبحون أبناءنا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا يدركوننا أي في الساعة فيقتلوننا وقرىء فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ بتشديد الدال وكسر الراء من أدرك الشيء إذا تتابع ففنى ومنه قوله تعالى بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاْخِرَة ِ ( النمل 66 ) قال الحسن جهلوا علم الآخرة والمعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد فعند ذلك قال لهم كلا وذلك كالمنع مما توهموه ثم قوى نفوسهم بأمرين أحدهما إِنَّ مَعِى َ رَبّى وهذا دلالة النصرة والتكفل بالمعونة والثاني قوله سَيَهْدِينِ والهدى هو طريق النجاة والخلاص وإذا دله على طريق نجاته وهلاك أعدائه فقد بلغ النهاية في النصرة(24/119)
فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاٌّ خَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاٌّ خَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام قوله إِنَّ مَعِى َ رَبّى سَيَهْدِينِ ( الشعراء 62 ) بين تعالى بعده كيف هداه ونجاه وأهلك أعداءه بذلك التدبير الجامع لنعم الدين والدنيا فقال فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ولا شبهة في أن المراد فضرب فانفلق لأنه كالمعلوم من الكلام إذ لا يجوز أن ينفلق من غير ضرب ومع ذلك يأمره بالضرب لأنه كالعبث ولأنه تعالى جعله من معجزاته التي ظهرت بالعصا ولأن انفلاقه بضربه أعظم في النعمة عليه وأقوى لعلمهم أن ذلك إنما حصل لمكان موسى عليه السلام واختلفوا في البحر روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر مع بني إسرائيل أمرهم أن يخوضوا البحر فامتنعوا إلا يوشع بن نون فإنه ضرب دابته وخاض في البحر حتى عبر ثم رجع إليهم فأبوا أن يخوضوا فقال موسى للبحر انفرق لي فقال ما أمرت بذلك ولا يعبر عن العصاة فقال موسى يا رب قد أبى البحر أن ينفرق فقيل له اضرب بعصاك البحر فضربه فانفرق فكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل العظيم وصار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط منهم طريق فقال كل سبط قتل أصحابنا فعند ذلك دعا موسى عليه السلام ربه فجعلها مناظر كهيئة الطبقات حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة وعن عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون وكان يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل القبط فيقول رويدكم ليلحق آخركم وروي أن موسى عليه السلام قال عند ذلك ( يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء )
فأما قوله فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ فالفرق الجزء المنفرق منه وقرىء ( كل فلق ) والمعنى واحد والطود الجبل المتطاول أي المرتفع في السماء وهو معجز من وجوه أحدها أن تفرق ذلك الماء معجز وثانيها أن اجتماع ذلك الماء فوق كل طرف منه حتى صار كالجبل من المعجزات أيضاً لأنه كان لا يمتنع في الماء الذي أزيل بذلك التفريق أن يبدده الله تعالى حتى يصير كأنه لم يكن فلما جمع على الطرفين صار مؤكداً لهذا الإعجاز وثالثها أنه إن ثبت ما روي في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم فاحتبسوا القدر الذي يتكامل معه عبور بني إسرائيل فهو معجز ثالث ورابعها أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر منها بعضهم إلى بعض فهو معجز رابع وخامسها أن أبقى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب منها آل فرعون وطمعوا أن يتخلصوا من البحر كما تخلص قوم موسى عليه السلام فهو معجز خامس(24/120)
أما قوله تعالى وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاْخَرِينَ ففيه بحثان
البحث الأول قال ابن عباس وابن جريج وقتادة والسدي وَأَزْلَفْنَا أي وقربنا ثم أي حيث انفلق البحر للآخرين قوم فرعون ثم فيه ثلاثة أوجه أحدها قربناهم من بني إسرائيل وثانيها قربنا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد وثالثها قدمناهم إلى البحر ومن الناس من قال وَأَزْلَفْنَا أي حبسنا فرعون وقومه عنذ طلبهم موسى عليه السلام بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم فوقفوا حيارى وقرىء وأزلقنا بالقاف أي أزللنا أقدامهم والمعنى أذهبنا عزهم ويحتمل أن يجعل الله طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبساً وأزلقهم
البحث الثاني أنه تعالى أضاف ذلك الإزلاف إلى نفسه مع أن اجتماعهم هنالك في طلب موسى كفر أجاب الجبائي عنه من وجهين الأول أن قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل وبنو إسرائيل إنما فعلوا ذلك بأمر الله تعالى فلما كان مسيرهم بتدبيره وهؤلاء تبعوا ذلك أضافه إلى نفسه توسعاً وهذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيجوز أن يقول أتعبني الغلام لما حدث ذلك فعله الثاني قيل الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاْخَرِينَ أي أزلفناهم إلى الموت لأجل أنهم في ذلك الوقت قربوا من أجلهم وأنشد وكل يوم مضى أو ليلة سلفت
فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
وأجاب الكعبي عنه من وجهين الأول أنه تعالى لما حلم عنهم وترك البحر لهم يبساً وطمعوا في عبوره جازت الإضافة كالرجل يسفه عليه صاحبه مراراً فيحلم عنه فإذا تمادى في غيه وأراه قدرته عليه قال له أنا أحوجتك إلى هذا وصيرتك إليه بحلمي لا يريد بذلك أنه أراد ما فعل الثاني يحتمل أنه أزلفهم أي جمعهم ليغرقهم عند ذلك ولكي لا يصلوا إلى موسى وقومه والجواب عن الأول أن الذي فعله بنو إسرائيل هل له أثر في استجلاب داعية قوم فرعون إلى الذهاب خلفهم أوليس له أثر فيه فإن كان الأول فقد حصل المقصود لأن لفعل الله تعالى أثراً في حصول الداعية المستلزمة لذلك الإزلاف وإن لم يكن له فيه أثر ألبتة فقد زال التعلق فوجب أن لا تحسن الإضافة وأما إذا تعب أحدنا في طلب غلام له فإنما يجوز أن يقول أتعبني ذلك الغلام لما أن فعل ذلك الغلام صار كالمؤثر في حصول ذلك التعب لأنه متى فعل ذلك الفعل فالظاهر أنه يصير معلوماً للسيد ومتى علمه صار علمه داعياً له إلى ذلك التعب ومؤثراً فيه فصحت الإضافة وبالجملة فعندنا القادر لا يمكنه الفعل إلا بالداعي فالداعي مؤثر في صيرورة القادر مؤثراً في ذلك الفعل فلا جرم حسنت الإضافة والجواب عن الثاني وهو أنه أزلفهم ليغرقهم فهو أنه تعالى ما أزلفهم بل هم بأنفسهم ازدلفوا ثم حصل الغرق بعده فكيف يجوز إضافة هذا الإزلاف إلى الله تعالى أما على قولنا فإنه جائز لأنه تعالى هو الذي خلق الداعية المستعقبة لذلك الازدلاف والجواب عن الثالث وهو أن حلمه تعالى عنهم وحملهم على ذلك فنقول ذلك الحلم هل له أثر في استجلاب هذه الداعية أم لا وباقي التقرير كما تقدم والجواب عن الرابع هو بعينه الجواب عن الثاني والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاْخَرِينَ فالمعنى أنه تعالى جعل البحر يبساً في حق موسى وقومه حتى خرجوا منه وأغرق فرعون وقومه لأنه لما تكامل دخولهم البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا في ذلك الماء(24/121)
أما قوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً فالمعنى أن الذي حدث في البحر آية عجيبة من الآيات العظام الدالة على قدرته لأن أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته من حيث وقع ما كان مصلحة في الدين والدنيا وعلى صدق موسى عليه السلام من حيث كان معجزة له وعلى اعتبار المعتبرين به أبداً فيصير تحذيراً من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله ويكون فيه اعتبار لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه قال عقيب ذلك وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وفي ذلك تسلية له فقد كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات عليه فنبهه الله تعالى بهذا الذكر على أن له أسوة بموسى وغيره فإن الذي ظهر على موسى من هذه المعجزات العظام التي تبهر العقول لم يمنع من أن أكثرهم كذبوه وكفروا به مع مشاهدتهم لما شاهدوه في البحر وغيره فكذلك أنت يا محمد لا تعجب من تكذيب أكثرهم لك واصبر على إيذائهم فلعلهم أن يصلحوا ويكون في هذا الصبر تأكيد الحجة عليهم
وأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فتعلقه بما قبله أن القوم مع مشاهدة هذه الآية الباهرة كفروا ثم إنه تعالى كان عزيزاً قادراً على أن يهلكهم ثم إنه تعالى ما أهلكهم بل أفاض عليهم أنواع رحمته فدل ذلك على كمال رحمته وسعة جوده وفضله
القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ الاٌّ قْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة شدة حزن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب كفر قومه ثم إنه ذكر قصة موسى عليه السلام ليعرف محمد أن مثل تلك المحنة كانت حاصلة لموسى ثم ذكر عقبها قصة إبراهيم عليه السلام ليعرف محمد أيضاً أن حزن إبراهيم عليه السلام بهذا السبب كان أشد من حزنه لأن من عظيم المحنة على إبراهيم عليه السلام أن يرى أباه وقومه في النار وهو لا يتمكن من إنقاذهم إلا بقدر الدعاء والتنبيه فقال لهم مَا تَعْبُدُونَ وكان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء كما تقول لتاجر الرقيق ما مالك وأنت تعلم أن ماله الرقيق ثم تقول الرقيق جمال وليس بمال فأجابوا إبراهيم عليه السلام بقولهم نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ والعكوف الإقامة(24/122)
على الشيء وإنما قالوا نظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل واعلم أنه كان يكفيهم في الجواب أن يقولوا نعبد أصناماً ولكنهم ضموا إليه زيادة على الجواب وهي قولهم أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ وإنما ذكروا هذه الزيادة إظهاراً لما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار بعبادة الأصنام فقال إبراهيم عليه السلام منبهاً على فساد مذهبهم هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قال صاحب ( الكشاف ) لا بد في يسمعونكم من تقدير حذف المضاف معناه هل يسمعون دعاءكم وقرأ قتادة هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ أي هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم وهل يقدرون على ذلك وتقرير هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام أن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة فقال لهم فإذا كان من تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرر فكيف تستجيزون أن تعبدوا ما هذا وصفه فعند هذه الحجة القاهرة لم يجد أبوه وقومه ما يدفعون به هذه الحجة فعدلوا إلى أن قالوا وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا الاستدلال لكان ذلك مدحاً لطريقة الكفار التي ذمها الله تعالى وذماً لطريقة إبراهيم عليه السلام التي مدحها الله تعالى فأجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً ولا بأن يكون في فاعلية كثرة أو قلة
أما قوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ففيه أسئلة
السؤال الأول كيف يكون الصنم عدواً مع أنه جماد جوابه من وجهين أحدهما أنه تعالى قال في سورة مريم ( 82 ) في صفة الأوثان كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً فقيل في تفسيره إن الله يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يقع منهم التوبيخ لهم والبراءة منهم فعلى هذا الوجه أن الأوثان ستصير أعداء لهؤلاء الكفار في الآخرة فأطلق إبراهيم عليه السلام لفظ العداوة عليهم على هذا التأويل وثانيها أن الكفار لما عبدوها وعظموها ورجوها في طلب المنافع ودفع المضار نزلت منزلة الأحياء العقلاء في اعتقاد الكفار ثم إنها صارت أسباباً لانقطاع الإنسان عن السعادة ووصوله إلى الشقاوة فلما نزلت هذه الأصنام منزلة الأحياء وجرت مجرى الدافع للمنفعة والجالب للمضرة لا جرم جرت مجرى الأعداء فلا جرم أطلق إبراهيم عليه السلام عليها لفظ العدو وثالثها المراد في قوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى عداوة من يعبدها فإن قيل فلم لم يقل إن من يعبد الأصنام عدو لي ليكون الكلام حقيقة جوابه لأن الذي تقدم ذكره ما عبدوه دون العابدين
السؤال لثاني لم قال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ولم يقل فإنها عدو لكم جوابه أنه عليه السلام صور المسألة في نفسه على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها ( وآثرت عبادة من الخير كله منه ) وأراهم ( بذلك ) أنها نصيحة نصح بها نفسه فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى للقبول(24/123)
السؤال الثالث لم لم يقل فإنهم أعدائي جوابه العدو والصديق يجيئان في معنى الواحد والجماعة قال ف وقوم عليَّ ذوي ( مرة ) < / 1 }
أراهم عدواً وكانوا صديقاً
ومنه قوله تعالى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ( الكهف 50 ) وتحقيق القول فيه ما تقدم في قوله إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 16 )
السؤال الرابع ما هذا الاستثناء جوابه أنه استثناء منقطع كأنه قال لكن رب العالمين
الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنه أنه استثنى رب العالمين حكى عنه أيضاً ما وصفه به مما يستحق العبادة لأجله ثم حكى عنه ما سأله عنه أما الأوصاف فأربعة أولها قوله الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ
واعلم أنه سبحانه أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ( الأعلى 2 3 ) واعلم أن الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع عليه فلنتكلم في الإنسان فنقول إنه مخلوق فمنهم من قال هو من عالم الخلق والجسمانيات ومن قال هو من عالم الأمر الروحانيات وتركيب البدن الذي هو من عالم الخلق مقدم على إعطاء القلب الذي هو من عالم الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( ص 72 ) فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج وتركيب الأمشاج ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربانية النورانية التي هي من عالم الأمر وأيضاً قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) ولما تمم مراتب تغيرات الأجسام قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ( المؤمنون 14 ) وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية
أما تحقيقه بحسب المباحث الحقيقية فهو أن بدن الإنسان إنما يتولد عند امتزاج المني بدم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية المتولدة من تركب العناصر الأربعة وتفاعلها فإذا امتزج المني بالدم فلا يزال ما فيها من الحار والبارد والرطب واليابس متفاعلاً وما في كل واحد منها من القوى كاسراً سورة كيفية الآخر فحينئذ يحصل من تفاعلهما كيفية متوسطة تستحر بالقياس إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار وكذا القول في الرطب واليابس وحينئذ يحصل الاستعداد لقبول قوى مدبرة لذلك المركب فبعضها قوى نباتية وهي التي(24/124)
تجذب الغذاء ثم تمسكه ثم تهضمه ثم تدفع الفضلة المؤذية ثم تقيم تلك الأجزاء بدل ما تحلل منها ثم تزيد في جوهر الأعضاء طولاً وعرضاً ثم يفضل عن تلك المواد فضلة يمكن أن يتولد عنها مثل ذلك ومنها قوى حيوانية بعضها مدركة كالحواس الخمس والخيال والحفظ والذكر وبعضها فاعلة إما آمرة كالشهوة والغضب أو مأمورة كالقوى المركوزة في العضلات ومنها قوى إنسانية وهي إما مدركة أو عاملة والقوى المدركة هي القوى القوية على إدراك حقائق الأشياء الروحانية والجسمانية والعلوية والسفلية ثم إنك إذا فتشت عن كل واحدة من مركبات هذا العالم الجسماني ومفرداتها وجدت لها أشياء تلائمها وتكمل حالها وأشياء تنافرها وتفسد حالها ووجدت فيها قوى جذابة للملائم دفاعة للمنافي فقد ظهر أن صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتم إلا بالخلق والهداية أما الخلق فبتصييره موجوداً بعد أن كان معدوماً وأما الهداية فبتلك القوى الجذابة للمنافع والدفاعة للمضار فثبت أن قوله خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدنيا والدين ثم ههنا دقيقة وهو أنه قال خَلَقَنِى فذكره بلفظ الماضي وقال يَهْدِينِ ذكره بلفظ المستقبل والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم أما هدايته تعالى فهي مما يتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدنيوية وذلك بأن تحكم الحواس بتمييز المنافع عن المضار أو في المنافع الدينية وذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر فبين بذلك أنه سبحانه هو الذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة وأنه يهديه إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة وثانيها قوله وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وقد دخل فيه كل ما يتصل بنافع الرزق وذلك لأنه سبحانه إذا خلق له الطعام وملكه فلو لم يكن معه ما يتمكن به من أكله والاغتذاء به نحو الشهوة والقوة والتمييز لم تكمل هذه النعمة وذكر الطعام والشراب ونبه بذكرهما على ما عداهما وثالثها قوله وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وفيه سؤال وهو أنه لم قال مَرْضَاتِ دون أمرضني وجوابه من وجوه الأول أن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك ومن ثم قالت الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا التخم الثاني أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي أما الصحة فهي إنما تحصل عند بقاء الأخلاط على اعتدالها وبقاؤها على اعتدالها إنما يكون بسبب قاهر يقهرها على الاجتماع وعودها إلى الصحة إنما يكون أيضاً بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع والاعتدال بعد أن كانت بطباعها مشتاقة إلى التفرق والنزاع فلهذا السبب أضاف الشفاء إليه سبحانه وتعالى وما أضاف المرض إليه وثالثها وهو أن الشفاء محبوب وهو من أصول النعم والمرض مكروه وليس من النعم وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إليه تعالى فإن نقضته بالإماتة فجوابه أن الموت ليس بضرر لأن شرط كونه ضرراً وقوع الإحساس به وحال حصول الموت لا يقع الإحساس به إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض وأيضاً فلأنك قد عرفت أن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصتها عنها عين السعادة بخلاف المرض ورابعها قوله وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ والمراد منه الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها وعقوباتها والمراد من الإحياء المجازاة وخامسها قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ فهو إشارة إلى(24/125)
ما هو مطلوب كل عاقل من الخلاص عن العذاب والفوز بالثواب
واعلم أن إبراهيم عليه السلام جمع في هذه الألفاظ جميع نعم الله تعالى من أول الخلق إلى آخر الأبد في الدار الآخرة ثم ههنا أسئلة
السؤال الأول لم قال وَالَّذِى أَطْمَعُ والطمع عبارة عن الظن والرجاء وإنه عليه السلام كان قاطعاً بذلك جوابه أن هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهبنا حيث قلنا إنه لا يجب على الله لأحد شيء وأنه يحسن منه كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله وأجاب الجبائي عنه من وجهين الأول أن قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى أراد به سائر المؤمنين لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به الثاني المراد من الطمع اليقين وهو مروي عن الحسن وأجاب صاحب ( الكشاف ) بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً منه لأمته كيفية الدعاء
واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة أما الأول فلأن الله تعالى حكى عنه الثناء أولاً والدعاء ثانياً ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم عليه السلام فجعل الشيء الواحد وهو قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ كلام غيره مما يبطل نظم الكلام ويفسده وأما الثاني وهو أن الطمع هو اليقين فهذا على خلاف اللغة وأما الثالث وهو أن الغرض منه تعليم الأمة فباطل أيضاً لأن حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة وهو باطل قطعاً
السؤال الثاني لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزعون عن الخطايا قطعاً وفي جوابه ثلاثة وجوه أحدها أنه محمول على كذب إبراهيم عليه السلام في قوله فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ( الأنبياء 63 ) وقوله إِنّى سَقِيمٌ ( الصافات 89 ) وقوله لسارة ( إنها أختي ) وهو ضعيف لأن نسبة الكذب إليه غير جائزة وثانيها أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس وهذا ضعيف لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به لأجل تنزيهه عن المعصية وثالثها وهو الجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى وقد يسمى ذلك خطأ فإن من ملك جوهرة وأمكنه أن يبيعها بألف ألف دينار فإن باعها بدينار قيل إنه أخطأ وترك الأولى على الأنبياء جائز
السؤال الثالث لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين وإنما تغفر في الدنيا جوابه لأن أثرها يظهر يوم الدين وهو الآن خفي لا يعلم
السؤال الرابع ما فائدة ( لي ) في قوله يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى وجوابه من وجوه أحدها أن الأب إذا عفا عن ولده والسيد عن عبده والزوج عن زوجته فذلك في أكثر الأمر إنما يكون طلباً للثواب وهرباً عن العقاب أو طلباً لحسن الثناء والمحمدة أو دفعاً للألم الحاصل من الرقة الجنسية وإذا كان كذلك لم يكن المقصود من ذلك العفو رعاية جانب المعفو عنه بل رعاية جانب نفسه إما لتحصيل ما ينبغي أو لدفع ما لا ينبغي أما الإله سبحانه فإنه كامل لذاته فيستحيل أن تحدث له صفات كمال لم تكن أو يزول عنه نقصان كان وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه فقوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى يعني هو الذي إذا غفر كان غفرانه لي ولأجلي لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة وثانيها كأنه قال خلقتني لا لي فإنك حين خلقتني ما كنت موجوداً وإذا لم أكن موجوداً استحال تحصيل شيء لأجلي ثم مع هذا فأنت خلقتني أما لو عفوت كان(24/126)
ذلك العفو لأجلي فلما خلقتني أولاً مع أني كنت محتاجاً إلى ذلك الخلق فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى وثالثها أن إبراهيم عليه السلام كان لشدة استغراقه في بحر المعرفة شديد الفرار عن الالتفات إلى الوسائط ولذلك لما قال له جبريل عليه السلام ( ألك حاجة قال أما إليك فلا ) فههنا قال أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ أي لمجرد عبوديتي لك واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي لا أن تغفرها لي بواسطة شفاعة شافع
رَبِّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاٌّ خِرِينَ وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَة ِ جَنَّة ِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لاًّبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
اعلم أن الله تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام ثناءه على الله تعالى ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته وذلك تنبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات وتحقيق الكلام فيه أن هذه الأرواح البشرية من جنس الملائكة فكلما كان اشتغالها بمعرفة الله تعالى ومحبته والانجذاب إلى عالم الروحانيات أشد كانت مشاكلتها للملائكة أتم فكانت أقوى على التصرف في أجسام هذا العالم وكلما كان اشتغالها بلذات هذا العالم واستغراقها في ظلمات هذه الجسمانيات أشد كانت مشاكلتها للبهائم أشد فكانت أكثر عجزاً وضعفاً وأقل تأثيراً في هذا العالم فمن أراد أن يشتغل بالدعاء يجب أن يقدم عليه ثناء الله تعالى وذكر عظمته وكبريائه حتى أنه بسبب ذلك الذكر يصير مستغرقاً في معرفة الله ومحبته ويصير قريب المشاكلة من الملائكة فتحصل له بسبب تلك المشاكلة قوة إلهية سماوية فيصير مبدأ لحدوث ذلك الشيء الذي هو المطلوب بالدعاء فهذا هو الكشف عن ماهية الدعاء وظهر أن تقديم الثناء على الدعاء من الواجبات وطهر به تحقيق قوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) فإن قال قائل لم لم يقتصر إبراهيم عليه السلام على الثناء لا سيما ويروى عنه أيضاً أنه قال حسبي من سؤالي علمه بحالي فالجواب أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين كان مشتغلاً بدعوة الخلق إلى الحق ألا ترى أنه قال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 ) ثم ذكر الثناء ثم ذكر الدعاء لأن الشارع لا بد له من تعليم الشرع فأما حين ما خلا بنفسه ولم يكن غرضه تعليم الشرع كان يقتصر على قوله حسبي من سؤالي علمه بحالي
البحث الثاني في الأمور التي طلبها في الدعاء وهي مطاليب
المطلوب الأول قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ولقد أجابه الله تعالى حيث قال وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( البقرة 130 ) وفيه مطالب أحدها أنه لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأن(24/127)
النبوة كانت حاصلة فلو طلب النبوة لكانت النبوة المطلوبة أما عين النبوة الحاصلة أو غيرها والأول محال لأن تحصيل الحاصل محال والثاني محال لأنه يمتنع أن يكون الشخص الواحد نبياً مرتين بل المراد من الحكم ما هو كمال القوة النظرية وذلك بإدراك الحق ومن قوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ كمال القوة العملية وذلك بأن يكون عاملاً بالخير فإن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وإنما قدم قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً على قوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ لما أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف وبالذات وأيضاً فإنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعلم بالخير وعكسه غير ممكن ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن ولما كان الروح أشرف من البدن كان العلم أفضل من العمل وإنما فسرنا معرفة الأشياء بالحكم وذلك لأن الإنسان لا يعرف حقائق الأشياء إلا إذا استحضر في ذهنه صور الماهيات ثم نسب بعضها إلى بعض بالنفي أو بالإثبات وتلك النسبة وهي الحكم ثم إن كانت النسب الذهنية مطابقة للنسب الخارجية كانت النسب الذهنية ممتنعة التغير فكانت مستحكمة قوية فمثل هذا الإدراك يسمى حكمة حكماً وهو المراد من قوله عليه السلام ( أرنا الأشياء كما هي ) وأما الصلاح فهو كون القوة العاقلة متوسطة بين رذيلتي الإفراط والتفريظ وذلك لأن الإفراط في أحد الجانبين تفريط في الجانب الآخر وبالعكس فالصلاح لا يحصل إلا بالاعتدال ولما كان الاعتدال الحقيقي شيئاً واحداً لا يقبل القسمة ألبتة والأفكار البشرية في هذا العالم قاصرة على إدراك أمثال هذه الأشياء لا جرم لا ينفك البشر عن الخروج عن ذلك الحد وإن قل إلا أن خروج المقربين عنه يكون في القلة بحيث لا يحس به وخروج العصاة عنه يكون متفاحشاً جداً فقد ظهر من هذا تحقيق ما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين وظهر احتياج إبراهيم عليه السلام إلى أن يقول وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ
المطلب الثاني لما ثبت أن المراد من الحكم العلم ثبت أنه عليه السلام طلب من الله أن يعطيه العلم بالله تعالى وبصفاته وهذا يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل في قلب العبد إلا بخلق الله تعالى وقوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ يدل على أن كون العبد صالحاً ليس إلا بخلق الله تعالى وحمل هذه الأشياء على الألطاف بعيد لأن عند الخصم كل ما في قدرة الله تعالى من الألطاف فقد فعله فلو صرفنا الدعاء إليه لكان ذلك طلباً لتحصيل الحاصل وهو فاسد
المطلب الثالث أن الحكم المطلوب في الدعاء إما أن يكون هو العلم بالله أو بغيره والثاني باطل لأن الإنسان حال كونه مستحضراً للعلم بشيء لا يمكنه أن يكون مستحضراً للعلم بشيء آخر فلو كان المطلوب بهذا الدعاء العلم بغير الله تعالى والعلم بغير الله تعالى شاغل عن الاستغراق في العلم بالله كان هذا السؤال طلباً لما يشغله عن الاستغراق في العلم بالله تعالى وذلك غير جائز لأنه لا كمال فوق ذلك الاستغراق فإذن المطلوب بهذا الدعاء هو العلم بالله ثم إن ذلك العلم إما أن يكون هو العلم بالله تعالى الذي هو شرط صحة الإيمان أو غيره والأول باطل لأنه لما وجب أن يكون حاصلاً لكل المؤمنين فكيف لا يكون حاصلاً عند إبراهيم عليه السلام وإذا كان حاصلاً عنده امتنع طلب تحصيله فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء درجات في معرفة الله تعالى أزيد من العلم بوجوده وبأنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وبأنه عالم قادر حي وما ذاك إلا الوقوف على صفات الجلال أو الوقوف على حقيقة الذات أو ظهور نور تلك المعرفة(24/128)
في القلب ثم هناك أحوال لا يعبر عنها المقال ولا يشرحها الخيال ومن أراد أن يصل إليها فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر
المطلوب الثاني قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ وفيه ثلاث تأويلات
التأويل الأول أنه عليه السلام ابتدأ بطلب ما هو الكمال الذاتي للإنسان في الدنيا والآخرة وهو طلب الحكم الذي هو العلم ثم طلب بعده كمالات الدنيا وبعد ذلك طلب كمالات الآخرة فأما كمالات الدنيا فبعضها داخلية وبعضها خارجية أما الداخلية فهي الخلق الظاهر والحلق الباطن والحلق الظاهر أشد جسمانية والخلق الباطن أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو الخلق الظاهر وطلب الأمر الروحاني وهو الخلق الباطن وهو المراد بقوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وأما الخارجية فهي المال والجاه والمال أشد جسمانية والجاه أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو المال وطلب الأمر الروحاني وهو الجاه والذكر الجميل الباقي على وجه الدهر وهو المراد بقوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما وقد أعطاه ذلك بقوله وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ فإن قيل وأي غرض له في أن يثني عليه ويمدح جوابه من وجهين الأول وهو على لسان الحكمة أن الأرواح البشرية قد بينا أنها مؤثرة في الجملة إلا أن بعضها قد يكون ضعيفاً فيعجز عن التأثير فإذا اجتمعت طائفة منها فربما قوي مجموعها على ما عجزت الآحاد عنه وهذا المعنى مشاهد في المؤثرات الجسمانية إذا ثبت هذا فالإنسان الواحد إذا كان بحيث يثنى عليه الجمع العظيم ويمدحونه ويعظمونه فربما صار انصراف هممهم عند الاجتماع إليه سبباً لحصول زيادة كمال له الثاني وهو على لسان الكمال أن من صار ممدوحاً فيما بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل فإنه يصير ذلك المدح وتلك الشهرة داعياً لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل
التأويل الثاني أنه سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى الله تعالى وذلك هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالمراد من قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
التأويل الثالث قال بعضهم المراد اتفاق أهل الأديان على حبه ثم إن الله تعالى أعطاه ذلك لأنك لا ترى أهل دين إلا ويتوالون إبراهيم عليه السلام وقدح بعضهم فيه بأنه لا تقوى الرغبة في مدح الكافر وجوابه أنه ليس المقصود مدح الكافر من حيث هو كافر بل المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحبوب كل قلب
المطلوب الثالث قوله وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَة ِ جَنَّة ِ النَّعِيمِ اعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة وهي جنة النعيم وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا
المطلوب الرابع قوله وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ واعلم أنه لما فرغ من طلب السعادات الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقاً به وهو أبوه فقال وَاغْفِرْ لاِبِى ثم فيه وجوه الأول أن المغفرة مشروطة بالإسلام وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط فقوله وَاغْفِرْ لاِبِى يرجع حاصله إلى أنه دعاء لأبيه بالإسلام الثاني أن أباه وعده الإسلام كما قال تعالى وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ(24/129)
( التوبة 114 ) فدعا له لهذا الشرط ولا يمتنع الدعاء للكافر على هذا الشرط فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) وهذا ضعيف لأن الدعاء بهذا الشرط جائز للكافر فلو كان دعاؤه مشروطاً لما منعه الله عنه الثالث أن أباه قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً تقية وخوفاً فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه لذلك قال في دعائه إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك
المطلوب الخامس قوله وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ قال صاحب ( الكشاف ) الإخزاء من الخزي وهو الهوان أو من الخزاية وهي الحياء وههنا أبحاث
أحدها أن قوله وَلاَ تُخْزِنِى يدل على أنه لا يجب على الله تعالى شيء على ما بيناه في قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 )
وثانيها أن لقائل أن يقول لما قال أولاً وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَة ِ جَنَّة ِ النَّعِيمِ ومتى حصلت الجنة امتنع حصول الخزي فكيف قال بعده وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ وأيضاً فقد قال تعالى إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ ( النحل 27 ) فما كان نصيب الكفار فقط فكيف يخافه المعصوم جوابه كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذا درجات الأبرار دركات المقربين وخزي كل واحد بما يليق به
وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) في ( يبعثون ) ضمير العباد لأنه معلوم أو ضمير الضالين
أما قوله إِلاَّ مَنْ اتِى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فاعلم أنه تعالى أكرمه بهذا الوصف حيث قال وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْراهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الصافات 83 84 )
ثم في هذا الاستثناء وجوه أحدها أنه إذا قيل لك هل لزيد مال وبنون فتقول ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك فكذا في هذه الآية وثانيها أن نحمل الكلام على المعنى ونجعل المال والبنين في معنى الغنى كأنه قيل يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه وثالثها أن نجعل ( من ) مفعولاً لينفع أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله تعالى ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين ويجوز على هذا إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من فتنة المال والبنين أما السليم ففي ثلاثة أوجه الأول وهو الأصح أن المراد منه سلامة القلب عن الجهل والأخلاق الرذيلة وذلك لأنه كما أن صحة البدن وسلامته عبارة عن حصول ما ينبغي من المزاج والتركيب والاتصال ومرضه عبارة عن زوال أحد تلك الأمور فكذلك سلامة القلب عبارة عن حصول ما ينبغي له وهو العلم والخلق الفاضل ومرضه عبارة عن زوال أحدهما فقوله إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أن يكون خالياً عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها فإن قيل فظاهر هذه الآية يقتضي أن من سلم قلبه كان ناجياً وأنه لا حاجة فيه إلى سلامة اللسان واليد جوابه أن القلب مؤثر واللسان والجوارح تبع فلو كان القلب سليماً لكانا سليمين لا محالة وحيث لم يسلما ثبت عدم سلامة القلب التأويل الثاني أن السليم هو اللديغ من خشية الله تعالى التأويل الثالث أن السليم هو الذي سلم وأسلم وسالم واستسلم والله أعلم(24/130)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة ً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
اعلم أن إبراهيم عليه السلام ذكر في وصف هذا اليوم أموراً أحدها قوله وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ والمعنى أن الجنة قد تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم يتحسرون على أنهم المسوقون إليها قال الله تعالى في صفة أهل الثواب وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( ق 31 ) وقال في صفة أهل العقاب فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الملك 27 ) وإنما يفعل الله تعالى ذلك ليكون سروراً معجلاً للمؤمنين وغماً عظيماً للكافرين ثانيها قوله وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ إلى قوله وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ والمعنى أين آلهتكم هل ينفعونكم بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وهو قوله فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ أي الآلهة وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها وَجُنُودُ إِبْلِيسَ متبعوه من عصاة الإنس والجن وثالثها قوله قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ
واعلم أن ظاهر ذلك أن من عبد خاصم المعبود وخاطبه بهذا الكلام فليس يخلو حال الأصنام من وجهين إما أن يخلقها الله تعالى في الآخرة جماداً يعذب بها أهل النار فحينئذ لا يصح أن تخاطب ويجب حمل قولهم إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ على أنه ليس بخطاب لهم أو يقال إنه تعالى يحييها في النار وذلك أيضاً غير جائز لأنه لا ذنب لها بأن عبدها غيرها فالأقرب أنهم ذكروا ذلك لما رأوا صورها على وجه الاعتراف بالخطأ العظيم وعلى وجه الندامة لا على سبيل المخاطبة والذي يحمل على أنه خطاب في(24/131)
الحقيقة قولهم وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ وأرادوا بذلك من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس وهو كقولهم رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ( الأحزاب 67 ) فأما قولهم فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين وَلاَ صَدِيقٍ كما نرى لهم أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض قال تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) أو فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( الشعراء 100 101 ) من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس أو أرادوا أنهم إن وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم فقصدوا بنفيهم نفي ما تعلق بهم من النفع لأن مالا ينفع فحكمه حكم المعدوم والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام وهو الذي يهمه ما يهمك أو من الحامة بمعنى الخاصة وهو الصديق الخالص وإنما جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق فإن الرجل الممتحن بإرهاق الظالم قد ينهض جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة له وأما الصديق وهو الصادق في ودادك فأعز من بيض الأنوق ويجوز أن يريد بالصديق الجمع ثم حكى تعالى عنهم قولهم فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة ً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وأنهم تمنوا الرجعة إلى الدنيا ولو في مثل هذا الوضع في معنى التمني كأنه قيل فليت لنا كرة وذلك لما بين معنى لو وليت من التلاقي في التقدير ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب وهو لفعلنا كيت وكيت قال الجبائي إن قولهم فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ليس بخبر عن إيمانهم لكنه خبر عن عزمهم لأنه لو كان خبراً عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقاً لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) وقد تقدم في سورة الأنعام بيان فساد هذا الكلام ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ والأكثرون من المفسرين حملوه على قوم إبراهيم ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به فيكون هذا تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يجده من تكذيب قومه
فأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فمعناه أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا
القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاٌّ رْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(24/132)
اعلم أنه تعالى لما قص على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خبر موسى وإبراهيم تسلية له فيما يلقاه من قومه قص عليه أيضاً نبأ نوح عليه السلام فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره لأنه كان يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ومع ذلك كذبه قومه فقال كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ وإنما قال ( كذبت ) لأن القوم مؤنث وتصغيرها قويمة وإنما حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين أحدهما أنهم وإن كذبوا نوحاً لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف فمن حيث المعنى حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين وثانيهما أن قوم نوح كذبوا بجميع رسل الله تعالى إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة
وأما قوله أَخُوهُمْ فلأنه كان منهم من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم ثم إنه سبحانه حكى عن نوح عليه السلام أنه أولاً خوفهم وثانياً أنه وصف نفسه أما التخويف فهو قوله أَلاَ تَتَّقُونَ
واعلم أن القوم إنما قبلوا تلك الأديان للتقليد والمقلد إذا خوف خاف وما لم يحصل الخوف في قلبه لا يشتغل بالاستدلال فلهذا السبب قدم على جميع كلماته قوله أَلاَ تَتَّقُونَ وأما وصفه نفسه فذاك بأمرين أحدهما قوله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وذلك لأنه كان فيهم مشهوراً بالأمانة كمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قريش فكأنه قال كنت أميناً من قبل فكيف تتهموني اليوم وثانيهما قوله وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة لئلا يظن به أنه دعاهم للرغبة فإن قيل ولماذا كرر الأمر بالتقوى جوابه لأنه في الأول أراد ألا تتقون مخالفتي وأنا رسول الله وفي الثاني ألا تتقون مخالفتي ولست آخذ منكم أجراً فهو في المعنى مختلف ولا تكرار فيه وقد يقول الرجل لغيره ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً وإنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته فقدم العلة على المعلول ثم إن نوحاً عليه السلام لما قال لهم ذلك أجابوه بقولهم أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ
قال صاحب ( الكشاف ) وقرى وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ جمع تابع كشاهد وأشهاد أو جمع تبع كبطل وأبطال(24/133)
والواو للحال وحقها أن يضمر بعدها قد في وَاتَّبَعَكَ وقد جمع ألأرذل على الصحة وعلى التكسير في قولهم الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ( هود 27 ) والرذالة الخسة وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا وقيل كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة
واعلم أن هذه الشبهة في نهاية الركاكة لأن نوحاً عليه السلام بعث إلى الخلق كافة فلا يختلف الحال في ذلك بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب ودناءتها فأجابهم نوع عليه السلام بالجواب الحق وهو قوله وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وهذا الكلام يدل على أنهم نسبوهم مع ذلك إلى أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة وإنما آمنوا بالهوى والطمع كما حكى الله تعالى عنهم في قوله الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى ( هود 27 ) ثم قال إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبّى معناه لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى ولما قال إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبّى وكانوا لا يصدقون بذلك أردفه بقوله لَوْ تَشْعُرُونَ ثم قال وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم لكي يتبعوه أو ليكونوا أقرب إلى ذلك فبين أن الذي يمنعه عن طردهم أنهم آمنوا به ثم بين أن غرضه بما حمل من الرسالة يمنع من ذلك بقوله إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ والمراد إني أخوف من كذبني ولم يقبل مني فمن قبل فهو القريب ومن رد فهو البعيد ثم إن نوحاً عليه السلام لما تمم هذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد فقالوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ نُوحٌ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ والمعنى أنهم خوفوه بأن يقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم وقال رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم ولكنه أراد إني لا أدعوك عليهم لما آذوني وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ أي فاحكم بيني وبينهم والفتاحة الحكومة والفتاح الحاكم لأنه يفتح المستغلق والمراد من هذا الحكم إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه وَنَجّنِى ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى وقد تقدم القول في قصته مشروحاً في سورة الأعراف وسورة هود
ثم قال تعالى فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ قال صاحب ( الكشاف ) الفلك السفينة وجمعه فلك قال تعالى وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ( فاطر 12 ) فالواحد بوزن قفل والجمع بوزن أسد والمشحون المملوء يقال شحنها عليهم خيلاً ورجالاً فدل ذلك على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم وبين تعالى أنه بعد أن أنجاهم أغرق الباقين وأن إغراقه لهم كان كالمتأخر عن نجاتهم
القصة الرابعة قصة هود عليه السلام
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَة ً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُواْ الَّذِى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاٌّ وَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(24/134)
اعلم أن فاتحة هذه القصة وفاتحة قصة نوح عليه السلام واحدة فلا فائدة في إعادة التفسير ثم إنه تعالى ذكر الأمور التي تكلم فيها هود عليه السلام معهم وهي ثلاثة فأولها قوله أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَة ً تَعْبَثُونَ قرىء بِكُلّ رِيعٍ بالكسر والفتح وهو المكان المرتفع ومنه قوله كم ريع أرضك وهو ارتفاعها والآية العلم ثم فيه وجوه أحدها عن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل ريع علماً يعبئون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود عليه السلام والثاني أنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخراً فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث والثالث أنهم كانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم فاتخذوا في طريقهم أعلاماً طوالاً فكان ذلك عبثاً لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم الرابع بنوا بكل ريع بروج الحمام وثانيها قوله وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ المصانع مآخذ الماء وقيل القصور المشيدة والحصون لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلد في الدنيا أو يشبه حالكم حال من يخلد وفي مصحف أبي ( كأنكم ) وقرىء ( تخلدون ) بضم التاء مخففاً ومشدداً واعلم أن الأول إنما صار مذموماً لدلالته إما على السرف أو على الخيلاء والثاني إنما صار مذموماً لدلالته على الأمل الطويل والغفلة عن أن الدنيا دار ممر لا دار مقر وثالثها قوله وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ بين أنهم مع ذلك السرف والحرص فإن معاملتهم مع غيرهم معاملة الجبارين وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا الوصف في العباد ذم وإن كان في وصف الله تعالى مدحاً فكأن من يقدم على الغير لا على طريق الحق ولكن على طريق الاستعلاء يوصف بأن بطشه بطش جبار وحاصل الأمر في هذه الأمور الثلاثة أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب العلو واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو فيرجع الحاصل إلى أنهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو وهذه صفات الإلهية وهي ممتنعة الحصول للعبد فدل ذلك على أن حب الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه(24/135)
وخرجوا عن حد العبودية وحاموا حول ادعاء الربوبية وكل ذلك ينبه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وعنوان كل كفر ومعصية ثم لما ذكر هود عليه السلام هذه الأشياء قال فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ زيادة في دعائهم إلى الآخرة وزجراً لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالسرف والحرص والتجبر ثم وصل بهذا الوعظ ما يؤكد القبول وهو التنبيه على نعم الله تعالى عليهم بالإجمال أولاً ثم التفصيل ثانياً فأيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حيث قال أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ثم فصلها من بعد بقوله أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فبلغ في دعائهم بالوعظ والترغيب والتخويف والبيان النهاية فكان جوابهم سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْواعِظِينَ أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه واستخفافهم بما أورده فإن قيل لو قال أوعظت أم لم تعظ كان أخصر والمعنى واحد جوابه ليس المعنى بواحد ( وبينهما فرق ) لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ( ومباشرته ) فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ ثم احتجوا على قلة اكتراثهم بكلامه بقولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ فمن قرأ خُلُقُ الاْوَّلِينَ بالفتح فمعناه أن ما جئت به اختلاق الأولين وتخرصهم كما قالوا أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( الأنعام 25 ) أو ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية نحيا كحياتهم ونموت كمماتهم ولا بعث ولا حساب ومن قرأ خُلِقَ بضمتين وبواحدة فمعناه ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم كانوا به يدينون ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله ويسطرونه ثم قالوا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكار المعاد فعند هذا بين الله تعالى أنه أهلكهم وقد سبق شرح كيفية الهلاك في سائر السور والله أعلم
القصة الخامسة قصة صالح عليه السلام
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَآ ءَامِنِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِأايَة ٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَاذِهِ نَاقَة ٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُو ءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(24/136)
اعلم أن صالحاً عليه السلام خاطب قومه بأمور أحدها قوله أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هَاهُنَا ءامِنِينَ أي أتظنون أنكم تتركون في دياركم آمنين وتطمعون في ذلك وأن لا دار للمجازاة
وقوله فِيمَا هَاهُنَا ءامِنِينَ في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ثم فسره بقوله فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وهذا أيضاً إجمال ثم تفصيل فإن قيل لم قال وَنَخْلٍ بعد قوله فِي جَنَّاتِ والجنة تتناول النخل جوابه من وجهين الأول أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهاً على فضله على سائر الأشجار والثاني أن يراد بالجنات غيرها من الشجر لأن اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل والطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ والهضيم اللطيف أيضاً من قولهم كشح هضيم وقيل الهضيم اللين النضيج كأنه قال ونخل قد أرطب ثمره وثانيها قوله تعالى وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ قرأ الحسن وَتَنْحِتُونَ بفتح الحاء وقرىء فَارِهِينَ و فَارِهِينَ والفراهة الكيس والنشاط فقوله فَارِهِينَ حال من الناحيتين
واعلم أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن الغالب على قوم هود هو اللذات الحالية وهي طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة وثالثها قوله تعالى وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ وهذا إشارة إلى أنه يجب الاكتفاء من الدنيا بقدر الكفاف ولا يجوز التوسع في طلبها والاستكثار من لذاتها وشهواتها فإن قيل ما فائدة قوله وَلاَ يُصْلِحُونَ جوابه فائدته بيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح ثم إن القوم أجابوه من وجهين أحدهما قولهم إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وفيه وجوه أحدها المسحر هو الذي سحر كثيراً حتى غلب على عقله وثانيها مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي من له سحر وكل دابة تأكل فهي مسحرة والسحر أعلى البطن وعن الفراء المسحر من له جوف أراد أنك تأكل الطعام وتشرب الشراب وثالثها عن المؤرج المسحر هو المخلوق بلغة بجيلة وثانيهما قولهم مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَة ٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وهذا يحتمل أمرين الأول أنك بشر مثلنا فكيف تكون نبياً وهذا بمنزلة ما كانوا يذكرون في الأنبياء أنهم لو كانوا صادقين لكانوا من جنس الملائكة الثاني أن يكون مرادهم إنك بشر مثلنا فلا بد لنا في إثبات نبوتك من الدليل فقال صالح عليه السلام هَاذِهِ نَاقَة ٌ لَّهَا شِرْبٌ وقرىء بالضم روي أنهم قالوا نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقباً فقعد صالح يتفكر فقال له جبريل عليه السلام صل ركعتين وسل ربك(24/137)
الناقة ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم وحصل لها سقب مثلها في العظم ووصاهم صالح عليه السلام بأمرين الأول قوله لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ قال قتادة إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله وشربهم في اليوم الذي لا تشرب هي والثاني قوله وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء أي بضرب أو عقر أو غيرهما فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عظم اليوم لحلول العذاب فيه ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد ثم إن الله تعالى حكى عنهم أنهم عقروها روي أن ( مصدعاً ) ألجأها إلى مضيق ( في شعب ) فرماها بسهم ( فأصاب رجلها ) ( 2 ) فسقطت ثم ضربها قدار فإن قيل لم أخذهم العذاب وقد ندموا جوابه من وجهين الأول أنه لم يكن ندمهم ندم التائبين لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل الثاني أن الندم وإن كان ندم التائبين ولكن كان ذلك في غير وقت التوبة بل عند معاينة العذاب وقال تعالى وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( النساء 18 ) الآية واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم
القصة السادسة قصة لوط عليه السلام
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاٌّ خَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
أما قوله تعالى أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ فيحتمل عوده إلى الآتي أي أنتم من جملة العالمين صرتم مخصوصين بهذه الصفة وهي إتيان الذكران ويحتمل عوده إلى المأتي أي أنتم اخترتم الذكران من العالمين لا الإناث منهم(24/138)
وأما قوله تعالى مّنْ أَزْواجِكُمْ فيصلح أن يكون تبييناً لما خلق وأن يكون للتبعيض ويراد بما خلق العضو المباح منهن وكأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم والعادي هو المتعدي في ظلمه ومعناه أترتكبون هذه المعصية على عظمها بل أنتم قوم عادون في جميع المعاصي فهذا من جملة ذاك أو بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم مثل هذه الفاحشة فقالوا له عليه السلام لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لُوطٍ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي لتكونن من جملة من أخرجناه من بلدنا ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوإ الأحوال فقال لهم لوط عليه السلام إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ الْقَالِينَ القلي البغض الشديد كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد وقوله مّنَ الْقَالِينَ أبلغ من أن يقول إني لعملكم قال كما يقال فلان من العلماء فهو أبلغ من قولك فلان عالم ويجوز أن يراد من الكاملين في قلاكم ثم قال تعالى فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ والمراد فنجيناه وأهله من عقوبة عملهم إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ فإن قيل فِى الْغَابِرِينَ صفة لها كأنه قيل إلا عجوزاً غابرة ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم جوابه معناه إلا عجوزاً مقدراً غبورها قيل إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة قال القاضي عبد الجبار في ( تفسيره ) في قوله تعالى وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْواجِكُمْ دلالة على بطلان الجبر من جهات أحدها أنه لا يقال تذرون إلا مع القدرة على خلافه ولذلك لا يقال للمرء لم تذر الصعود إلى السماء كما يقال له لم تذر الدخول والخروج وثانيها أنه قال مَا خَلَقَ لَكُمْ ولو كان خلق الفعل لله تعالى لكان الذي خلق لهم ما خلقه فيهم وأوجبه لا ما لم يفعلوه وثالثها قوله تعالى بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ فإن كان تعالى خلق فيهم ما كانوا يعملون فكيف ينسبون إلى أنهم تعدوا وهل يقال للأسود إنك متعد في لونك فنقول حاصل هذه الوجوه يرجع إلى أن العبد لو لم يكن موجداً الأفعال نفسه لما توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه ولهذه الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة موسى عليه السلام وإبراهيم ونوح وسائر القصص فكيف خص هذه القصة بهذه الوجوه دون سائر القصص وإذا ثبت بطلان هذه الوجوه بقي ذلك الوجه المشهور فنحن نجيب عنها بالجوابين المشهورين الأول أن الله تعالى لما علم وقوع هذه الأشياء فعدمها محال لأن عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال وإذا كان عدمها محالاً كان التكليف بالترك تكليفاً بالمحال الثاني أن القادر لما كان قادراً على الضدين امتنع أن يترجح أحد المقدورين على الآخر إلا لمرجح وهو الداعي أو الإرادة وذلك المرجح محدث فله مؤثر وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل وهو محال وإن كان هو الله تعالى فذلك هو الجبر على قولك فثبت بهذين البرهانين القاطعين سقوط ما قاله والله أعلم
القصة السابعة قصة شعيب عليه السلام
كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأيْكَة ِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّة َ الاٌّ وَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّة ِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاّيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(24/139)
قرىء كَذَّبَ أَصْحَابُ بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الإضافة وهو الوجه ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد يعرف فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة ص بغير ألف لكن قد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة على أن ليكة اسم لا يعرف روي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وتلك الشجر هي التي حملها المقل فإن قيل هلا قال أخوهم شعيب كما في سائر المواضع جوابه أن شعيباً لم يكن من أصحاب الأيكة وفي الحديث ( إن شعيباً أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة ) ثم إن شعيباً عليه السلام أمرهم بأشياء أحدها قوله أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وذلك لأن الكيل على ثلاثة أضرب واف وطفيف وزائد فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله أَوْفُواْ الْكَيْلَ ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ ولم يذكر الزائد لأنه بحيث إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا إثم عليه ثم إنه لما أمر بالإيفاء بين أنه كيف يفعل فقال وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ قرىء بِالْقِسْطَاسِ مضموماً ومكسوراً وهو الميزان وقيل القرسطون وثانيها قوله تعالى وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه وهذا عام في كل حق يثبت لأحد أن لا يهضم وفي كل ملك أن لا يغصب ( علية ) مالكه ( ولا يتحيف منه ) ( 1 ) ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفاً شرعياً وثالثها قوله تعالى وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ يقال عثا في الأرض وعثى وعاث وذلك نحو قطع الطريق والغارة وإهلاك الزرع وكانوا يفعلون ذلك مع توليتهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك ورابعها قوله تعالى وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّة َ الاْوَّلِينَ وقرىء ( الجبلة ) بوزن الأبلة وقرىء ( الجبلة ) بوزن الخلقة ومعناهن واحد أي ذوي الجبلة والمراد أنه المتفضل بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لولا خلقهم لما كانوا مخلوقين(24/140)
فلم يكن للقوم جواب إلا ما لو تركوه لكان أولى بهم وهو من وجهين الأول قولهم إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فإن قيل هل اختلف المعنى بإدخال الواو ههنا وتركها في قصة ثمود جوابه إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم السحر والبشرية وإذا تركت الواو فلم يقصدوا إلا معنى واحداً وهو كونه مسحراً ثم قرره بكونه بشراً مثلهم الثاني قولهم وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ومعناه ظاهر ثم إن شعيباً عليه السلام كان يتوعدهم بالعذاب إن استمروا على التكذيب فقالوا فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السَّمَاء قرىء كِسَفًا بالسكون والحركة وكلاهما جمع كسفة وهي القطعة والسماء السحاب أو الظلة وهم إنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فظنوا أنه إذا لم يقع ظهر كذبه فعنده قال شعيب عليه السلام رَبّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فلم يدع عليهم بل فوض الأمر فيه إلى الله تعالى فلما استمروا على التكذيب أنزل الله عليهم العذاب على ما اقترحوا من عذاب يوم الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب وإن أرادوا الظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم يروى أنه حبس عنهم الريح سبعاً وسلط عليهم الرمل فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها برداً ونسيماً فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا وروي أن شعيباً بعث إلى أمتين أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلكت مدين بصيحة جبريل عليه السلام وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة وههنا آخر الكلام في هذه القصص السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة تسلية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيما ناله من الغم الشديد بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول لم لا يجوز أن يقال إن العذاب النازل بعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ما كان ذلك بسبب كفرهم وعنادهم بل كان ذلك بسبب قرانات الكواكب واتصالاتها على ما اتفق عليه أهل النجوم وإذا قام هذا الاحتمال لم يحصل الاعتبار بهذه القصص لأن الاعتبار إنما يحصل أن لو علمنا أن نزول هذا العذاب كان بسبب كفرهم وعنادهم
الثاني أن الله تعالى قد ينزل العذاب محنة للمكلفين وابتلاء لهم على ما قال وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ ( محمد 31 ) ولأنه تعالى قد ابتلى المؤمنين بالبلاء العظيم في مواضع كثيرة وإذا كان كذلك لم يدل نزول البلاء بهم على كونهم مبطلين والجواب أن الله تعالى أنزل هذه القصص على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تسلية وإزالة للحزن عن قلبه فلما أخبر الله تعالى محمداً أنه هو الذي أنزل العذاب عليهم وأنه إنما أنزله عليهم جزاء على كفرهم على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن الأمر كذلك فحينئذ يحصل به التسلية والفرح له عليه السلام واحتج بعض الناس على القدح في علم الأحكام بأن قال المؤثر في هذه الأشياء إما الكواكب أو البروج أو كون الكوكب في البرج المعين والأول باطل وإلا لحصلت هذه الآثار أين حصل الكوكب والثاني أيضاً باطل وإلا لزم دوام الأثر بدوام البرج والثالث أيضاً باطل لأن الفلك على قولهم بسيط لا مركب فيكون طبع كل برج مساوياً لطبع البرج الآخر في تمام الماهية فيكون حال الكوكب وهو في برجه كحاله وهو في برج آخر فيلزم أن يدوم ذلك الأثر بدوام الكوكب وللقوم أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون صدور الأثر عن الكوكب المعين موقوفاً على كونه مسامتاً مسامتة مخصوصة لكوكب آخر فإذا فقدت تلك المسامتة فقد شرط التأثير فلا يحصل التأثير ولهم أن يقولوا هذه الدلالة إنما تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب ذواتها وطبائعها ولكنها لا تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب جري العادة فإذا أجرى الله تعالى(24/141)
عادته بحصول تأثيرات مخصوصة عقيب اتصالات الكواكب وقراناتها وأدوارها لم يلزم من حصول هذه الآثار القطع بأن الله تعالى إنما خلقها لأجل زجر الكفار بل لعله تعالى خلقها تكريراً لتلك العادات والله أعلم
القول فيما ذكره الله تعالى من أحوال محمد عليه الصلاة والسلام
وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاٌّ مِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِى ٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أن الله تعالى لما ختم مااقتصه من خبر الأنبياء ذكر بعد ذلك ما يدل على نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) وهو من وجهين الأول قوله وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ وذلك لأنه لفصاحته معجز فيكون ذلك من رب العالمين أو لأنه إخبار عن القصص الماضية من غير تعليم ألبتة فلا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى وقوله بعده وَأَنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ كأنه مؤكد لهذا الاحتمال وذلك لأنه عليه السلام لما ذكر هذه القصص السبع على ما هي موجودة في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستعداد دل ذلك على أنه ليس إلا من عند الله تعالى فهذا هو المقصود من الآية
فأما قوله تعالى وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ فالمراد بالتنزيل المنزل ثم قد كان يجوز في القرآن وهذه القصص أن يكون تنزيلاً من الله تعالى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بلا واسطة فقال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ والباء في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ و نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ على القراءتين للتعدية ومعنى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ جعل الله الروح نازلاً به عَلَى قَلْبِكَ ( حفظكه و ) أي فهمك إياه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى كقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) والروح الأمين جبريل عليه السلام وسماه روحاً من حيث خلق من الروح وقيل لأنه نجاة الخلق في باب الدين فهو كالروح الذي تثبت معه الحياة وقيل لأنه روح كله لا كالناس الذين في أبدانهم روح وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه إلى الأنبياء عليهم السلام وإلى غيرهم
وأما قوله عَلَى قَلْبِكَ ففيه قولان الأول أنه إنما قال عَلَى قَلْبِكَ وإن كان إنما أنزله عليه ليؤكد به أن ذلك المنزل محفوظ للرسول متمكن في قلبه لا يجوز عليه التغيير فيوثق بالإنذار الواقع منه الذي بين الله تعالى أنه هو المقصود ولذلك قال لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ الثاني أن القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختبار وأما سائر الأعضاء فمسخرة له والدليل عليه القرآن والحديث والمعقول أما القرآن فآيات إحداها قوله تعالى في سورة البقرة ( 97 ) فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ وقال ههنا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ وقال إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ق 37 ) وثانيها أنه ذكر أن استحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب من المساعي فقال لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( البقرة 225 ) وقال لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ( الحج 37 ) والتقوى في القلب لأنه تعالى قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( الحجرات 3 ) وقال تعالى وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ(24/142)
( العاديات 10 ) وثالثها قوله حكاية عن أهل النار لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( الملك 10 ) ومعلوم أن العقل في القلب والسمع منفذ إليه وقال إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ( الإسراء 36 ) ومعلوم أن السمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب فكان السؤال عنهما في الحقيقة سؤالاً عن القلب وقال تعالى يَعْلَمُ خَائِنَة َ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ ( غافر 19 ) ولم تخف الأعين إلا بما تضمر القلوب عند التحديق بها ورابعها قوله وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالاْفْئِدَة َ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( السجدة 9 ) فخص هذه الثلاثة بإلزام الحجة منها واستدعاء الشكر عليها وقد قلنا لا طائل في السمع والأبصار إلا بما يؤديان إلى القلب ليكون القلب هو القاضي فيه والمتحكم عليه وقال تعالى وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَة ً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ ( الأحقاف 26 ) فجعل هذه الثلاثة تمام ما ألزمهم من حجته والمقصود من ذلك هو الفؤاد القاضي فيما يؤدي إليه السمع والبصر وخامسها قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ ( البقرة 7 ) فجعل العذاب لازماً على هذه الثلاثة وقال لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ( الأعراف 179 ) وجه الدلالة أنه قصد إلى نفي العلم عنهم رأساً فلو ثبت العلم في غير القلب كثباته في القلب لم يتم الغرض فهذه الآيات ومشاكلها ناطقة بأجمعها أن القلب هو المقصود بإلزام الحجة وقد بينا أن ما قرن بذكره من ذكر السمع والبصر فذلك لأنهما آلتان للقلب في تأدية صور المحسوسات والمسموعات
وأما الحديث فما روى النعمان بن بشير قال سمعته عليه السلام يقول ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) وأما المعقول فوجوه أحدها أن القلب إذا غشي عليه فلو قطع سائر الأعضاء لم يحصل الشعور به وإذا أفاق القلب فإنه يشعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات فدل ذلك على أن سائر الأعضاء تبع للقلب ولذلك فإن القلب إذا فرح أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك وكذا القول في سائر الأعراض النفسانية وثانيها أن القلب منبع المشاق الباعثة على الأفعال الصادرة من سائر الأعضاء وإذا كانت المشاق مبادىء للأفعال ومنبعها هو القلب كان الآمر المطلق هو القلب وثالثها أن معدن العقل هو القلب وإذا كان كذلك كان الآمر المطلق هو القلب
أما المقدمة الأولى ففيها النزاع فإن طائفة من القدماء ذهبوا إلى أن معدن العقل هو الدماغ والذي يدل على قولنا وجوه الأول قوله تعالى أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الاْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ( الحج 46 ) وقوله لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ( الأعراف 179 ) وقوله إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ق 37 ) أي عقل أطلق عليه اسم القلب لما أنه معدنه الثاني أنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب وقال فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( البقرة 10 ) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( البقرة 7 ) وقولهم قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ( النساء 155 ) يَحْذَرُ الْمُنَافِقِينَ إِن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة ٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ( التوبة 64 ) يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( الفتح 11 ) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( المطففين 14 ) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24/143)
( محمد 24 ) فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 ) فدلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضاً هو القلب الثالث وهو أنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا علومنا حاصلة في ناحية القلب ولذلك فإن الواحد منا إذا أمعن في الفكر وأكثر منه أحس من قلبه ضيقاً وضجراً حتى كأنه يتألم بذلك وكل ذلك يدل على أن موضع العقل هو القلب وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم الرابع وهو أن القلب أول الأعضاء تكوناً وآخرها موتاً وقد ثبت ذلك بالتشريح ولأنه متمكن في الصدر الذي هو أوسط الجسد ومن شأن الملوك المحتاجين إلى الخدم أن يكونوا في وسط المملكة لتكتنفهم الحواشي من الجوانب فيكونوا أبعد من الآفات واحتج من قال العقل في الدماغ بأمور أحدها أن الحواس التي هي الآلات للإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب وثانيها أن الأعصاب التي هي الآلات في الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب وثالثها أن الآفة إذا حلت في الدماغ اختل العقل ورابعها أن في العرف كل من أريد وصفه بقلة العقل قيل إنه خفيف الدماغ خفيف الرأس وخامسها أن العقل أشرف فيكون مكانه أشرف والأعلى هو الأشرف وذلك هو الدماغ لا القلب فوجب أن يكون محل العقل هو الدماغ والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يقال الحواس تؤدي آثارها إلى الدماغ ثم إن الدماغ يؤدي تلك الآثار إلى القلب فالدماغ آلة قريبة للقلب للقلب والحواس آلات بعيدة فالحس يخدم الدماغ ثم الدماغ يخدم القلب وتحقيقه أنا ندرك من أنفسنا أنا إذا عقلنا أن الأمر الفلاني يجب فعله أو يجب تركه فإن الأعضاء تتحرك عند ذلك ونحن نجد التعقلات من جانب القلب لا من جانب الدماغ وعن الثاني أنه لا يبعد أن يتأدى الأثر من القلب إلى الدماغ ثم الدماغ يحرك الأعضاء بواسطة الأعصاب النابتة منه وعن الثالث لا يبعد أن يكون سلامة الدماغ شرطاً لوصول تأثير القلب إلى سائر الأعضاء وعن الرابع أن ذلك العرف إنما كان لأن القلب إنما يعتدل مزاحه بما يستمد من الدماغ من برودته فإذا لحق الدماغ خروج عن الاعتدال خرج القلب عن الاعتدال أيضاً إما لازدياد حرارته عن القدر الواجب أو لنقصان حراراته عن ذلك القدر فحينئذ يختل العقل وعن الخامس أنه لو صح ما قالوه لوجب أن يكون موضع العقل هو القحف ولما بطل ذلك ثبت فساد قولهم والله أعلم
فرع اعلم أن المعاني التي بينا كونها مختصة بالقلوب قد تضاف إلى الصدر تارة وإلى الفؤاد أخرى أما الصدر فلقوله تعالى وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ ( العاديات 10 ) وقوله وَلِيَبْتَلِى َ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ ( آل عمران 154 ) وقوله تعالى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( هود 5 ) وَأَنْ تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ ( آل عمران 29 ) وأما الفؤاد فقوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ومن الناس من فرق بين القلب والفؤاد فقال القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد دون ما يكتنفها من اللحم والشحم ومجموع ذلك هو الفؤاد ومنهم من قال القلب والفؤاد لفظان مترادفان وكيف كان فيجب أن يعلم أن من جملة العضو المسمى قلباً وفؤاداً موضعاً هو الموضع في الحقيقة للعقل والاختيار وأن معظم جرم هذا العضو مسخر لذلك الموضع كما أن سائر الأعضاء مسخرة للقلب فإن العضو قد تزيد أجزاؤه من غير ازدياد المعاني المنسوبة إليه أعني العقل والفرح والحزن وقد ينقص من غير نقصان في تلك المعاني فيشبه أن يكون اسم القلب اسماً للأجزاء التي تحل فيها هذه المعاني بالحقيقة واسم الفؤاد يكون اسماً لمجموع العضو فهذا(24/144)
هو الكلام في هذا الباب والله الموفق للصواب
وأما قوله تعالى لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ فيدخل تحت الإنذار الدعاء إلى كل واجب من علم وعمل والمنع من كل قبيح لأن في الوجهين جميعاً يدخل الخوف من العقاب
وأما قوله تعالى بِلِسَانٍ عَرَبِى ّ مُّبِينٍ فالباء إما أن تتعلق بالمنذرين فيكون المعنى لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم السلام وإما أن تتعلق بنزل فيكون المعنى نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجمي ( لتجافوا عنه أهلاً و ) لقالوا له ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك لأنك تفهمه ويفهمه قومك ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها
وأما قوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ فيحتمل هذه الأخبار خاصة ويحتمل أن يكون المراد صفة القرآن ويحتمل صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحتمل أن يكون المراد وجوه التخويف لأن ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم
أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَة ً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاٌّ عْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أن قوله تعالى أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَة ً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِى إِسْراءيلَ المراد منه ذكر الحجة الثانية على نبوته عليه السلام وصدقه وتقريره أن جماعة من علماء بني إسرائيل أسلموا ونصوا على مواضع في التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بصفته ونعته وقد كان مشركو قريش يذهبون إلى اليهود ويتعرفون منهم هذا الخبر وهذا يدل دلالة ظاهرة على نبوته لأن تطابق الكتب الإلهية على نعته ووصفه يدل قطعاً على نبوته واعلم أنه قرىء يَكُنِ بالتذكير وآية النصب على أنها خبره و ( أن يعلمه ) هو الاسم وقرىء تَكُنْ بالتأنيث وجعلت ( آية ) اسماً و ( أن يعلمه ) خبراً وليست كالأولى لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً ويجوز مع نصب الآية تأنيث ( يكن ) كقوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ( الأنعام 23 )
وأما قوله وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاْعْجَمِينَ فاعلم أنه تعالى لما بين بالدليلين المذكورين نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصدق لهجته بين بعد ذلك أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين فقال وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاْعْجَمِينَ يعني إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين فسمعوه وفهموه وعرفوا(24/145)
فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به فلم يؤمنوا به وجحدوه وسموه شعراً تارة وسحراً أخرى فلو نزلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية لكفروا به أيضاً ولتمحلوا لجحودهم عذراً ثم قال كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وهكذا مكناه وقررناه فيها وكيفما فعل بهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار وهذا أيضاً مما يفيد تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه إذا عرف رسول الله إصرارهم على الكفر وأنه قد جرى القضاء الأزلي بذلك حصل اليأس وفي المثل اليأس إحدى الراحتين
المسألة الرابعة قوله كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يدل على أن الكل بقضاء الله وخلقه قال صاحب ( الكشاف ) أراد به أنه صار ذلك التكذيب متكمناً في قلوبهم أشد التمكن فصار ذلك كالشيء الجبلي والجواب أنه إما أن يكون قد فعل الله فيهم ما يقتضي رجحان التكذيب على التصديق أو ما فعل ذلك فيهم فإن كان الأول فقد دللنا في سورة الأنعام على أن الترجيح لا يتحقق ما لم ينته إلى حد الوجوب وحينئذ يحصل المقصود فإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح ألبتة امتنع قوله كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ كما أن طيران الطائر لما لم يكن له تعلق بكفرهم امتنع إسناد الكفر إلى ذلك الطيران
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت ما موقع لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ من قوله سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ قلت موقعه منه موقع الموضح ( والمبين ) لأنه مسوق ( لبيانه مؤكد للجحود ) في قلوبهم فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به حتى يعاينوا الوعيد
فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم وأنه يأتيهم العذاب بغتة أتبعه بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة فقال فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ كما يستغيث المرء عند تعذر الخلاص لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجأ لكنهم يذكرون ذلك استرواحاً
فأما قوله تعالى أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فالمراد أنه تعالى بين أنهم كانوا في الدنيا يستعجلون العذاب مع أن حالهم عند نزول العذاب طلب النظرة ليعرف تفاوت الطريقين فيعتبر به ثم بين تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يقع منهم ليتمتعوا في الدنيا إلا أن ذلك جهل وذلك لأن مدة التمتع في الدنيا متناهية قليلة ومدة العذاب الذي يحصل بعد ذلك غير متناهية وليس في العقل ترجيح لذات متناهية(24/146)
قليلة على آلام غير متناهية وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف فقال له عظني فلم يزد على تلاوة هذه الآية فقال ميمون لقد وعظت فأبلغت وقرىء يُمَتَّعُونَ بالتخفيف ثم بين أنه لم يهلك قرية إلا وهناك نذير يقيم عليهم الحجة
أما قوله تعالى ذِكْرِى فقال صاحب ( الكشاف ) ذكرى منصوبة بمعنى تذكرة إما لأن أنذر وذكر متقاربان فكأنه قيل مذكرون تذكرة وإما لأنها حال من الضمير في مُنذِرُونَ أي ينذرونهم ذوي تذكرة وإما لأنها مفعول له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة أو مرفوعة عل أنها خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى وجعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها ووجه آخر وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له والمعنى وما أهلكنا من أهل قرية قوم ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ فنهلك قوماً غير ظالمين وهذا الوجه عليه المعول فإن قلت كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنه في قوله وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( الحجر 4 ) قلت الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ
اعلم أنه تعالى لما احتج على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بكون القرآن تنزيل رب العالمين وإنما يعرف ذلك لوقوعه من الفصاحة في النهاية القصوى ولأنه مشتمل على قصص المتقدمين من غير تفاوت مع أنه عليه السلام لم يشتغل بالتعلم والاستفادة فكان الكفار يقولون لم لا يجوز أن يكون هذا من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة فأجاب الله تعالى عنه بأن ذلك لا يتسهل للشياطين لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء ولقائل أن يقول العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بواسطة خبر النبي الصادق فإذا أثبتنا كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً بفصاحة القرآن وإخباره عن الغيب ولا يمكن إثبات كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزاً إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك لزم الدور وهو باطل وجوابه لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يستفاد إلا من قول النبي وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى من الاهتمام بشأن العدو ونعلم بالضرورة أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم فلو كان هذا الغيب إنما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم فكان يجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى فلما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون عن ذلك وأنهم معزولون عن تعرف الغيوب ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب ابتدأ بخطاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ وذلك في الحقيقة خطاب(24/147)
لغيره لأن من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد خطاب الغير أن يوجهه إلى الرؤساء في الظاهر وأن كان المقصود بذلك هم الأتباع ولأنه تعالى أراد أن يتبعه ما يليق بذلك فلهذه العلة أفرده بالمخاطبة
وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاٌّ قْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تسلية رسوله أولاً ثم أقام الحجة على نبوته ثانياً ثم أورد سؤال المنكرين وأجاب عنه ثالثاً أمره بعد ذلك بما يتعلق بباب التبليغ والرسالة وهو ههنا أمور ثلاثة الأول قوله وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعده إن دعا مع الله إلهاً آخر ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب وذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولاً ثم بالأقرب فالأقرب ثانياً لم يكن لأحد فيه طعن ألبتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع وروي ( أنه لما نزلت هذه الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب وقال يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عباس عم محمد يا صفية عمة محمد إني لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من المال ما شئتم ) وروي ( أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً على رجل شاة وقعب من لبن وكان الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس فأكلوا وشربوا ثم قال يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي قالوا نعم فقال إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )
الثاني قوله وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلاً في التواضع ولين الجانب فإن قيل المتبعون للرسول هم المؤمنون وبالعكس فلم قال لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جوابه لا نسلم أن المتبعين للرسول هم المؤمنون فإن كثيراً منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين
فأما قوله فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ فمعناه ظاهر قال الجبائي هذا يدل على أنه عليه السلام كان بريئاً من معاصيهم وذلك يوجب أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم كالرسول وإلا كان مخالفاً لله كما لو رضي عمن سخط الله عليه لكان كذلك وإذا كان تعالى بريئاً من عملهم فكيف يكون فاعلاً له ومريداً له الجواب أنه تعالى بريء من المعاصي بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم والدليل عليه أنه علم وقوعها وعلم أن ما هو معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع وإلا لانقلب علمه جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال وعلم أن ما هو واجب الوقوع فإنه لا يراد عدم وقوعه فثبت ما قلناه والثالث قوله وَتَوَكَّلْ والتوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر(24/148)
على نفعه وضره وقوله عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته ثم أتبع كونه رحيماً على رسوله ما هو كالسبب لتلك الرحمة وهو قيامه وتقلبه في الساجدين وفيه وجوه أحدها المراد ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد وتقلبه في تصفح أحوال ( المجتهدين ) ليطلع على أسرارهم كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه على ما يوجد منهم من الطاعات فوجدها كبيوت الزنابير لما يسمع منها من دندنتهم بذكر الله تعالى والمراد بالساجدين المصلين وثانيها المعنى يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة وتقلبه في الساجدين تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذ كان إماماً لهم وثالثها أنه لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين ورابعها المراد تقلب بصره فيمن ( يلي ) خلفه من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي ) ثم قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لما تقوله الْعَلِيمُ أي بما تنويه وتعمله وهذا يدل عى أن كونه سميعاً أمر مغاير لعلمه بالمسموعات وإلا لكان لفظ العليم مفيداً فائدته واعلم أنه قرىء ونقلبك
واعلم أن الرافضة ذهبوا إلى أن آباء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا مؤمنين وتمسكوا في ذلك بهذه الآية وبالخبر أما هذه الآية فقالوا قوله تعالى تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ يحتمل الوجوه التي ذكرتم ويحتمل أن يكون المراد أن الله تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد كما نقوله نحن وإذا احتمل كل هذه الوجوه وجب حمل الآية على الكل ضرورة أنه لا منافاة ولا رجحان وأما الخبر فقوله عليه السلام ( لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) وكل من كان كافراً فهو نجس لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) قالوا فإن تمسكتم على فساد هذا المذهب بقوله تعالى وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ ( الأنعام 74 ) قلنا الجواب عنه أن لفظ الأب قد يطلق على العم كما قال أبناء يعقوب له نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 ) فسموا إسماعيل أباً له مع أنه كان عماً له وقال عليه السلام ( ردوا على أبي ) يعني العباس ويحتمل أيضاً أن يكون متخذاً لأصنام أب أمه فإن هذا قد يقال له الأب قال تعالى وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ إلى قوله وَعِيسَى ( الأنعام 84 85 ) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم كان جده من قبل الأم
واعلم أنا نتمسك بقوله تعالى لاِبِيهِ ءازَرَ وما ذكروه صرف للفظ عن ظاهره وأما حمل قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ على جميع الوجوه فغير جائز لما بينا أن حمل المشترك على كل معانيه غير جائز وأما الحديث فهو خبر واحد فلا يعارض القرآن
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(24/149)
اعلم أن الله تعالى أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين الأول قوله تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ وذلك هو الذي قررناه فيما تقدم أن الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان ومحمداً عليه السلام كان يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة عنه والثاني قوله يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ والمراد أنهم كان يقيسون حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على حال سائر الكهنة فكأنه قيل لهم إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب فيجب أن يكون حال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كذلك أيضاً فلما لم يظهر في إخبار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن المغيبات إلا الصدق علمنا أن حاله بخلاف حال الكهنة ثم إن المفسرين ذكروا في الآية وجوهاً أحدها أنهم الشياطين روي أنهم كانوا قبل أن حجبوا بالرجم يسمعون إلى الملأ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به ممااطلعوا عليه من الغيوب ثم يوحون به إلى أوليائهم وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ فيما ( يوحى ) به إليهم لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا وثانيها يلقون إلى أوليائهم السمع أي المسموع من الملائكة وثالثها الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيلقون وحيهم إليهم ورابعها يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم فإن قلت يُلْقُون ما محله قلت يجوز أن يكون في محل النصب على الحال أي تنزل ملقين السمع وفي محل الجر صفة لكل أفاك لأنه في معنى الجمع وأن لا يكون له محل بأن يستأنف كأن قائلاً قال لم ننزل على الأفاكين فقيل يفعلون كيت وكيت فإن قلت كيف قال وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ بعدما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك قلت الأفاكون هم الذين يكثرون الكذب لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الجن وأكثرهم يفتري عليهم
وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَى َّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
اعلم أن الكفار لما قالوا لم لا يجوز أن يقال إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء ثم إنه سبحانه فرق بين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبين الكهنة فذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه عليه السلام وبين الشعراء وذلك هو أن الشعراء يتبعهم الغاوون أي الضالون ثم بين تلك الغواية بأمرين الأول أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ والمراد منه الطرق المختلفة كقولك أنا في واد وأنت في واد وذلك لأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق بخلاف أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى والترغيب في الآخرة والإعراض عن الدنيا(24/150)
الثاني أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وذلك أيضاً من علامات الغواة فإنهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه وينفرون عن البخل ويصرون عليه ويقدحون في الاس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش وذلك يدل على الغواية والضلالة
وأما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه بدأ بنفسه حيث قال الله تعالى له فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ( الشعراء 213 ) ثم بالأقرب فالأقرب حيث قال الله تعالى له وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) وكل ذلك على خلاف طريقة الشعراء فقد ظهر بهذا الذي بيناه أن حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يشبه حال الشعراء ثم إن الله تعالى لما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بياناً لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين بأمور أربعة أحدها الإيمان وهو قوله إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وثانيها العمل الصالح وهو قوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وثالثها أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق وهو قوله وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً ورابعها أن لا يذكروا هجو أحد إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم وهو قوله وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ قال الله تعالى لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ( النساء 148 ) ثم إن الشرط فيه ترك الاعتداء لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 ) وقيل المراد بهذا الاستثناء عبدالله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشاً وعن كعب بن مالك ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له أهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل ) وكان يقول لحسان بن ثابت ( قل وروح القدس معك )
فأما قوله تعلى وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَى َّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ فالذي عندي فيه والله أعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من الدلائل العقلية ومن أخبار الأنبياء المتقدمين ثم ذكر الدلائل على نبوته عليه السلام ثم ذكر سؤال المشركين في تسميتهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) تارة بالكاهن وتارة بالشاعر ثم إنه تعالى بين الفرق بينه وبين الكاهن أولاً ثم بين الفرق بينه وبين الشاعر ثانياً ختم السورة بهذا التهديد العظيم يعني إن الذين ظلموا أنفسهم وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات والتأمل في هذه البينات فإنهم سيعلمون بعد ذلك أي منقلب ينقلبون وقال الجمهور المراد منه الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء والأول أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها والله أعلم
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين(24/151)
سورة النمل
تسعون وثلاث أو أربع أو خمس آيات مكية
طس تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُم بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ
اعلم أن قوله تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ وإبانته أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فالملائكة الناظرون فيه يبينون الكائنات وإنما نكر الكتاب المبين ليصير مبهماً بالتنكير فيكون أفخم له كقوله فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) وقرأ ابن أبي عبلة وَكِتَابٌ مُّبِينٌ بالرفع على تقدير وآيات كتاب مبين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فإن قلت ما الفرق بين هذا وبين قوله الرَ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ ( الحجر 1 ) قلت لا فرق لأن واو العطف لا تقتضي الترتيب
أما قوله هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ فهو في محل النصب أو الرفع فالنصب على الحال أي هادية ومبشرة والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة والرفع على ثلاثة أوجه على معنى هي هدى وبشرى وعلى البدل من الآيات وعلى أن يكون خبراً بعد خبر أي جمعت آياتها آيات الكتاب وأنها هدى وبشرى واختلفوا في وجه تخصيص الهدى بالمؤمنين على وجهين الأول المراد أنه يهديهم إلى الجنة وبشرى لهم كقوله تعالى فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَة ٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( النساء 175 ) فلهذا اختص به المؤمنون الثاني المراد بالهدى الدلالة ثم ذكروا في تخصيصه بالمؤمنين وجوهاً أحدها أنه إنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى والبشرى إنما تكون للمؤمنين وثانيها أن وجه الاختصاص أنهم تمسكوا به فخصهم بالذكر كقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) وثالثها المراد من كونها هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ أنها زائدة في هداهم قال تعالى وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( مريم 76 )(24/152)
أما قوله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ فالأقرب أنها الصلوات الخمس لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك وإقامة الصلاة أن يؤتى بها بشرائطها وكذا القول في الزكاة فإنها هي الواجبة وإقامتها وضعها في حقها
أما قوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ ففيه سؤال وهو أن المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لا بد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة فما الوجه من ذكره مرة أخرى جوابه من وجهين الأول أن يكون من جملة صلة الموصول ثم فيه وجهان الأول أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخبر لأجل العمل به وأما عرفان الحق فأقسام كثيرة لكن الذي يستفاد منه طريق النجاة معرفة المبدأ ومعرفة المعاد وأما الخير الذي يعمل به فأقسام كثيرة وأشرفها قسمان الطاعة بالنفس والطاعة بالمال فقوله لِلْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى معرفة المبدأ وقوله يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال وقوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ إشارة إلى علم المعاد فكأنه سبحانه وتعالى جعل معرفة المبدأ طرفاً أولاً ومعرفة المعاد طرفاً أخيراً وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطاً بينهما الثاني أن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة منهم من هو جازم بالحشر والنشر ومنهم من يكون شاكاً فيه إلا أنه يأتي بهذه الطاعات للاحتياط فيقول إن كنت مصيباً فيها فقد فزت بالسعادة وإن كنت مخطئاً فيها لم يفتني إلا خيرات قليلة في هذه المدة اليسيرة فمن يأتي بالصلاة والزكاة على هذا الوجه لم يكن في الحقيقة مهتدياً بالقرآن أما من كان حازماً بالآخرة كان مهتدياً به فلهذا السبب ذكر هذا القيد الثاني أن يجعل قوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ جملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة وهذا هو الأقرب ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هُمْ حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُو ءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ هُمُ الاٌّ خْسَرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما على الكفار من سوء العذاب فقال إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ واختلف الناس في أنه كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ ( النحل 63 ) فأما أصحابنا فقد أجروا الآية على ظاهرها وذلك لأن الإنسان لا يفعل شيئاً ألبتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم والاعتقاد والظن بكون الفعل مشتملاً على منفعة وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل الله تعالى لوجهين الأول أنه لو كان من فعل العبد لافتقر فيه إلى داع آخر ويلزم التسلسل وهو محال الثاني وهو أن العلم إما أن يكون ضرورياً أو كسبياً فإن كان ضرورياً فلا بد فيه من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسباً لأن المكتسب إن كان شاعراً به فهو متصور له وتحصيل الحاصل محال وإن لم يكن شاعراً به كان(24/153)
غافلاً عنه والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالباً له فإن قلت هو مشعور به من وجه دون وجه قلت فالمشعور به غير ما هو غير مشعور به فيعود التقسيم المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب ألبتة والعلم الضروري هو الذي يكون حضور كل واحد من تصوريه كافياً في حصول التصديق فالتصورات غير كسبية وهي مستلزمة للتصديقات فإذن متى حصلت التصورات حصل التصديق لا محالة ومتى لم تحصل لم يحصل التصديق ألبتة فحصول هذه التصديقات البديهية ليس بالكسب ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة للتصديقات النظرية لم تكن التصديقات النظرية كسبية لأن لازم الضروري ضروري وإن لم تكن مستلزمة لها لم تكن تلك الأشياء التي فرضناها علوماً نظرية كذلك بل هي اعتقادات تقليدية لأنه لا معنى لاعتقاد المقلد إلا اعتقاد تحسيني يفعله ابتداء من غير أن يكون له موجب فثبت بهذا أن العلوم بأسرها ضرورية وثبت أن مبادىء الأفعال هي العلوم فأفعال العباد بأسرها ضرورية والإنسان مضطر في صورة مختار فثبت أن الله تعالى هو الذي زين لكل عامل عمله والمراد من التزيين هو أنه يخلق في قلبه العلم بما فيه من المنافع واللذات ولا يخلق في قلبه العلم بما فيه من المضار والآفات فقد ثبت بهذه الدلائل القاطعة العقلية وجوب إجراء هذه الآية على ظاهرها أما المعتزلة فإنهم ذكروا في تأويلها وجوهاً أحدها أن المراد بينا لهم أمر الدين وما يلزمهم أن يتمسكوا به وزيناه بأن بينا حسنه وما لهم فيه من الثواب لأن التزيين من الله تعالى للعمل ليس إلا وصفه بأنه حسن وواجب وحميد العاقبة وهو المراد من قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 7 ) ومعنى فَهُمْ يَعْمَهُونَ يدل على ذلك لأن المراد فهم يعدلون وينحرفون عما زينا من أعمالهم وثانيها أنه تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق جعلوا إنعام الله تعالى بذلك عليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وعدم الانقياد لما يلزمهم من التكاليف فكأنه تعالى زين بذلك أعمالهم وإليه إشارة الملائكة عليهم السلام في قولهم وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ ( الفرقان 18 ) وثالثها أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند إليه والجواب عن الأول أن قوله تعالى أَعْمَالَهُمْ صيغة عموم توجب أن يكون الله تعالى قد زين لهم كل أعمالهم حسناً كان العمل أو قبيحاً ومعنى التزيين قد قدمناه وعن الثاني أن الله تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق فهل لهذه الأمور أثر في ترجيح فاعلية المعصية على تركها أوليس لها فيه أثر فإن كان الأول فقد دللنا على أن الترجيح متى حصل فلا بد وأن ينتهي إلى حد الاستلزام وحينئذ يحصل الغرض وإن لم يكن فيه أثر صارت هذه الأشياء بالنسبة إلى أعمالهم كصرير الباب ونعيق الغراب وذلك يمنع من إسناد فعلهم إليها وهذا بعينه هو الجواب عن التأويل الثالث الذي ذكروه والله أعلم
أما قوله تعالى فَهُمْ يَعْمَهُونَ فالعمه التحير والتردد كما يكون حال الضال عن الطريق
أما قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوء الْعَذَابِ ففيه وجهان الأول أنه القتل والأسر يوم بدر والثاني مطلق العذاب سواء كان في الدنيا أو في الآخرة والمراد بالسوء شدته وعظمه
وأما قوله هُمُ الاْخْسَرُونَ ففيه وجهان الأول أنه لا خسران أعظم من أن يخسر المرء نفسه بأن يسلب عنه الصحة والسلامة في الدنيا ويسلم في الآخرة إلى العذاب العظيم الثاني المراد أنهم خسروا منازلهم في الجنة لو أطاعوا فإنه لا مكلف إلا وعين له منزل في الجنة لو أطاع فإذا عصى عدل به إلى غيره فيكون قد خسر ذلك المنزل(24/154)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لاًّهْلِهِ إِنِّى آنَسْتُ نَاراً سَأاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ءَاتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِى َ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
أما قوله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ فمعناه لتؤتاه ( وتلقاه ) من عند أي حكيم وأي عليم وهذا معنى مجيئهما نكرتين وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص و ( إذ ) منصوب بمضمر وهو اذكر كأنه قال على أثر ذلك خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى ويجوز أن ينتصب بعليم فإن قيل الحكمة أما أن تكون نفس العلم والعلم إما أن يكون داخلاً فيها فلما ذكر الحكمة فلم ذكر العلم جوابه الحكمة هي العلم بالأمور العملية فقط والعلم أعم منه لأن العلم قد يكون عملياً وقد يكون نظرياً والعلوم النظرية أشرف من العلوم العملية فذكر الحكمة المشتملة على العلوم العملية ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم وكمال العلم يحصل من جهات ثلاثة وحدته وعموم تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصوناً عن كل التغيرات وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه سبحانه وتعالى
واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة أنواعاً من القصص
القصة الأولى قصة موسى عليه الصلاة والسلام
أما قوله إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ فيدل على أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته ابنة شعيب عليه السلام وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله امْكُثُواْ ( القصص 29 )
أما قوله إِنّى آنَسْتُ نَاراً فالمعنى أنهما كانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء فلذلك بشرها فقال إِنّى آنَسْتُ نَاراً وقد اختلفوا فقال بعضهم المراد أبصرت ورأيت وقال آخرون بل المراد صادفت ووجدت فآنست به والأول أقرب لأنهم لا يفرقون بين قول القائل آنست ببصري ورأيت ببصري
أما قوله إِذْ قَالَ مُوسَى فالخبر ما يخبر به عن حال الطريق لأنه كان قد ضل ثم في الكلام حذف وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها وقال إِذْ قَالَ مُوسَى يعرف به الطريق(24/155)
أما قوله إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ فالشهاب الشعلة والقبس النار المقبوسة وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبساً وغير قبس ومن قرأ بالتنوين جعل القبس بدلاً أو صفة لما فيه من معنى القبس ثم ههنا أسئلة
السؤال الأول إِذْ قَالَ مُوسَى و فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ ( القصص 29 ) كالمتدافعين لأن أحدهما ترج والآخر تيقن نقول جوابه قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة
السؤال الثاني كيف جاء بسين التسويف جوابه عدة منه لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ أو كانت المسافة بعيدة
السؤال الثالث لماذا أدخل ( أو ) بين الأمرين وهلا جمع بينهما لحاجته إليهما معاً جوابه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين ظفر بأحدهما إما هداية الطريق وإما اقتباس النار ثقة بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده
وأما قوله تعالى لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فالمعنى لكي تصطلون وذلك يدل على حاجة بهم إلى الاصطلاء وحينئذ لا يكون ذلك إلا في حال برد
أما قوله تعالى نُودِى َ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ففيه أبحاث
البحث الأول ءانٍ أن هي المفسرة لأن النداء فيه معنى القول والمعنى قيل له بورك
البحث الثاني اختلفوا فيمن في النار على وجوه أحدها أَن بُورِكَ بمعنى تبارك والنار بمعنى النور والمعنى تبارك من في النور وذلك هو الله سبحانه وَمَنْ حَوْلَهَا يعني الملائكة وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وإن كنا نقطع بأن هذه الرواية موضوعة مختلفة وثانيها مَن فِى النَّارِ هو نور الله وَمَنْ حَوْلَهَا الملائكة وهو مروي عن قتادة والزجاج وثالثها أن الله تعالى ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة فكانت الشجرة محلاً للكلام والله هو المكلم له بأن فعله فيه دون الشجرة ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها ملائكة فلذلك قال بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وهو قول الجبائي ورابعها مَن فِى النَّارِ هو موسى عليه السلام لقربه منها مِنْ حَوْلَهَا يعني الملائكة وهذا أقرب لأن القريب من الشيء قد يقال إنه فيه وخامسها قول صاحب ( الكشاف ) بُورِكَ مَن فِى النَّارِ أي من في مكان النار ومن حول مكانها هي البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى مِن شَاطِىء الْوَادِى الايْمَنِ فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ ( القصص 30 ) ويدل عليه قراءة أبي ( تباركت الأرض ومن حولها ) وعنه أيضاً ( بوركت النار )
البحث الثالث السبب الذي لأجله بوركت البقعة وبورك من فيها وحواليها حدوث هذا الأمر(24/156)
العظيم فيها وهو تكليم الله موسى عليه السلام وجعله رسولاً وإظهار المعجزات عليه ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الاْرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 71 ) وحقت أن تكون كذلك فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ومهبط الوحي وكفاتهم أحياء وأمواتاً
البحث الرابع أنه سبحانه جعل هذا القول مقدمة لمناجاة موسى عليه السلام فقوله بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا يدل على أنه قد قضى أمر عظيم تنتشر البركة منه في أرض الشام كلها وقوله وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فيه فائدتان إحداهما أنه سبحانه نزه نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام الثانية أن يكون ذلك إيذاناً بأن ذلك الأمر مريده ومكونه رب العالمين تنبيهاً على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الوقائع
أما قوله إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فقال صاحب ( الكشاف ) الهاء في ( إنه ) يجوز أن يكون ضمير الشأن و أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر و العَزِيزُ الحَكِيمُ صفتان للخبر وأن يكون راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله يعني أن مكلمك أنا والله بيان لأنا والعزيز الحكيم صفتان ( للتعيين ) وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية الفاعل ( كل ) ما أفعله بحكمة وتدبير فإن قيل هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى فكيف علم موسى عليه السلام أنه من الله جوابه لأهل السنة فيه طريقان الأول أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات فعلم بالضرورة أنه صفة الله تعالى الثاني قول أئمة ما وراء النهر وهو أنه عليه السلام سمع الصوت من الشجرة فنقول إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور أحدها أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة علم أنه من قبل الله تعالى لأن أحداً منا لا يقدر عليه وهو ضعف لاحتمال أن يقال الشيطان دخل في النار والشجرة ثم نادى وثانيها يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً وهو أيضاً ضعيف لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم وثالثها أنه قد اقترن به معجز دل على ذلك فقيل إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق فصار ذلك كالمعجز وهذا هو الأصح والله أعلم
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَى َّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُو ءٍ فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُو ءٍ فِى تِسْعِ ءَايَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَة ً قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ(24/157)
اعلم أن أكثر ما في هذا الآيات قدر مر شرحه ولنذكر ما هو من خواص هذا الموضع يقال علام عطف قوله وَأَلْقِ عَصَاكَ جوابه على بُورِكَ مَن فِى النَّارِ ( النمل 8 ) ( وأن ألق عصاك كلاهما تفسير لنودي )
أما قوله كَأَنَّهَا جَانٌّ فالجان الحية الصغيرة سميت جاناً لأنها تستتر عن الناس وقرأ الحسن جَانٌّ على لغة من يهرب من التقاء الساكنين فيقول شأبة ودأبة
أما قوله وَلَمْ يُعَقّبْ معناه لم يرجع يقال عقب المقاتل إذا ( مر ) بعد الفرار وإنما خاف لظنه أن ذلك لأمر أريد به ويدل عليه إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَى َّ الْمُرْسَلُونَ وقال بعضهم المراد إني إذا أمرتهم بإظهار معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة
أما قوله تعالى إَلاَّ مَن ظَلَمَ معناه لكن من ظلم وهو محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل أو الصغيرة ويحتمل أن يكون المقصود منه التعريض بما وجد من موسى وهو من التعريضات اللطيفة قال الحسن رحمه الله كان والله موسى ممن ظلم بقتل القبطي ثم بدل فإنه عليه السلام قال رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى ( القصص 16 ) وقرىء ( ألا من ظلم ) بحرف التنبيه
أما قوله تعالى ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فالمراد حسن التوبة وسوء الذنب وعن أبي بكر في رواية عاصم ( حسناً ) أما قوله وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى فهو كلام مستأنف وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف والمعنى اذهب في تسع آيات إلى فرعون ولقائل أن يقول كانت الآيات إحدى عشرة اثنتان منها اليد والعصا والتسع الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم
أما قوله فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءايَاتُنَا مُبْصِرَة ً فقد جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأملها وذلك بسبب نظرهم وتفكرهم فيها أو جعلت كأنها لظهورها تبصر فتهتدي وقرأ علي بن الحسين وقتادة مُبْصِرَة ً وهو نحو مجبنة ومبخلة أي مكاناً يكثر فيه التبصر
أما قوله وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ فالواو فيها واو الحال وقد بعدها مضمرة وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم والاستيقان أبلغ من الإيقان
أما قوله ظُلْماً وَعُلُوّاً فأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله تعالى ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً وأما العلو فهو التكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى كقوله فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ ( المؤمنون 46 ) وقرىء ( علياً ) و ( علياً ) بالضم والكسر كما قرىء ( عتياً ) عِتِيّاً ( مريم 8 69 ) والله أعلم
القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَى ْءٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَة ٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وَعَلَى وَالِدَى َّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(24/158)
أما قوله تعالى عِلْمًا فالمراد طائفة من العلم أو علماً سنياً ( عزيزاً ) فإن قيل أليس هذا موضع الفاء دون الواو كقولك أعطيته فشكر ( ومنعته ) ( 1 ) فصبر جوابه أن الشكر باللسان إنما يحسن موقعه إذا كان مسبوقاً بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات ولما كان الشكر باللسان يجب كونه مسبوقاً بهما فلا جرم صار كأنه قال ولقد آتيناهما علماً فعملا به قلباً وقالباً وقالا باللسان الحمد لله الذي فعل كذا وكذا
وأما قوله تعالى الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ففيها أبحاث
أحدها أن الكثير المفضل عليه هو من لم يؤت علماً أو من لم يؤت مثل علمهما وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وثانيها في الآية دليل على علو مرتبة العلم لأنهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم وثالثها أنهم لم يفضلوا أنفسهم على الكل وذلك يدل على حسن التواضع ورابعها أن الظاهر يقتضي أن تلك الفضيلة ليست إلا ذلك العلم ثم العلم بالله وبصفاته أشرف من غيره فوجب أن يكون هذا الشكر ليس إلا على هذا العلم ثم إن هذا العلم حاصل لجميع المؤمنين فيستحيل أن يكون ذلك سبباً لفضيلتهم على المؤمنين فإذن الفضيلة هو أن يصير العلم بالله وبصفاته جلياً بحيث يصير المرء مستغرقاً فيه بحيث لا يخطر بباله شيء من الشبهات ولا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان ولا ساعة من الساعات(24/159)
أما قوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ فقد اختلفوا فيه فقال الحسن المال لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث وقال غيره بل النبوة وقال آخرون بل الملك والسياسة ولو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمناً ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً لكن الله تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط وليس كذلك النبوة لأن الموت لا يكون سبباً لنبوة الولد فمن هذا الوجه يفترقان وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته ومما يبين ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال وورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله وَقَالَ يأَبَتِ أَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ معنى وإذا قلنا وورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك لأن تعليم منطق الطير يكون داخلاً في جملة ما ورثه وكذلك قوله تعالى وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء لأن وارث الملك يجمع ذلك ووارث المال لا يجمعه وقوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ لا يليق أيضاً إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل والناقص وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلا بما ذكرناه فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال فأما إذا قيل ورث المال والملك معاً فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها بل بظاهر قوله عليه السلام ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث )
فأما قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فالمقصود منه تشهير نعمة الله تعالى والتنويه بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير قال صاحب ( الكشاف ) المنطق كل ما يصوّت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد وقد ترجم يعقوب كتابه ( بإصلاح المنطق ) وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم وقالت العرب نطقت الحمامة ( وكل صنف من ) الطير يتفاهم أصواته فالذي علم سليمان عليه السلام من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من مقاصده وأغراضه
أما قوله تعالى وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء فالمراد كثرة ما أوتي وذلك لأن الكل والبعض الكثير يشتركان في صفة الكثرة والمشاركة سبب لجواز الاستعارة فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثير ومثله قوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 )
أما قوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ فهو تقرير لقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا والمقصود منه الشكر والمحمدة كما قال عليه السلام ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) فإن قيل كيف قال عَلِمْنَا وَأُوتِينَا وهو من كلام المتكبرين جوابه من وجهين الأول أن يريد نفسه وأباه والثاني أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح فيصير ذلك التعظيم واجباً
وأما قوله وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فالحشر هو الإحضار والجمع من الأماكن المختلفة والمعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده ولا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده ولا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف فلذلك قلنا إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل وغيره(24/160)
وأما قوله تعالى فَهُمْ يُوزَعُونَ معناه يحبسون وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع ويكون له تسلط على من يرده ويكفه ويصرفه فالظاهر يشهد بهذا القدر والذي جاء في الخبر من أنهم كانوا يمنعون من يتقدم ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب فغير ممتنع
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ فقيل هو واد بالشام كثير النمل ويقال لم عدي أَتَوْا بعلى فجوابه من وجهين الأول أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء والثاني أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا ( أنفذه و ) بلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي وقرىء نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا أَيُّهَا النَّمْلِ بضم الميم وبضم النون والميم وكان الأصل النمل بوزن الرجل والنمل الذي عليه الاستعمال تخفيف عنه ( كقولهم السبع في السبع ) ( 1 )
أما قوله تعالى قَالَتْ نَمْلَة ٌ فالمعنى أنها تكلمت بذلك وهذا غير مستبعد فإن الله تعالى قادر على أن يخلق فيها العقل والنطق وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضراً وهو غلام حدث فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة رضي الله عنه كانت أنثى فقيل له من أين عرفت فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله قَالَتْ نَمْلَة ٌ ولو كان ذكراً لقال ( قال نملة ) وذلك لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي
أما قوله تعالى ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ فاعلم أن النملة لما قاربت حد العقل لا جرم ذكرت بما يذكر به العقلاء فلذلك قال تعالى ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ فإن قلت لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ما هو قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر والمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة لا أرينك ههنا وفي هذه الآية تنبيه على أمور أحدها أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز وإنما يلزم من في الطريق التحرز وثانيها أن النملة قالت وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ كأنها عرفت أن النبي معصوم فلا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء عليهم السلام وثالثها ما رأيت في بعض الكتب أن تلك النملة إنما أمرت غيرها بالدخول لأنها خافت على قومها أنها إذا رأت سليمان في جلالته فربما وقعت في كفران نعمة الله تعالى وهذا هو المراد بقوله لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ فأمرتها بالدخول في مساكنها لئلا ترى تلك النعم فلا تقع في كفران نعمة الله تعالى وهذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة ورابعها قرىء ( مسكنكم ) و ( لا يحطمنكم ) بتخفيف النون وقرىء ( لا يحطمنكم ) بفتح الطاء وكسرها وأصلها يحطمنكم
أما قوله تعالى فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مّن قَوْلِهَا يعني تبسم شارعاً في الضحك ( وآخذاً فيه ) بمعنى أنه قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك وإنما ضحك لأمرين أحدهما إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده ( وشفقتهم ) وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى وذلك قولها وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ والثاني سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً من سماعه لكلام النملة وإحاطته بمعناه(24/161)
أما قوله تعالى رَبّ أَوْزِعْنِى فقال صاحب ( الكشاف ) حقيقة أوزعنى اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأكفه عن أن ينقلب عني حتى أكون شاكراً لك أبداً وهذا يدل على مذهبنا فإن عند المعتزلة كل ما أمكن فعله من الألطاف فقد صارت مفعولة وطلب تحصيل الحاصل عبث
وأما قوله تعالى وَعَلَى وَالِدَى َّ فذلك لأنه عد نعم الله تعالى على والديه نعمة عليه ومعنى قوله وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ طلب الإعانة في الشكر وفي العمل الصالح ثم قال وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ فلما طلب في الدنيا الإعانة على الخيرات طلب أن يجعل في الآخرة من الصالحين وقوله بِرَحْمَتِكَ يدل على أن دخول الجنة برحمته وفضله لا باستحقاق من جانب العبد واعلم أن سليمان عليه السلام طلب ما يكون وسيلة إلى ثواب الآخرة أولاً ثم طلب ثواب الآخرة ثانياً أما وسيلة الثواب فهي أمران أحدهما شكر النعمة السالفة والثاني الاشتغال بسائر أنواع الخدمة أما الاشتغال بشكر النعمة السالفة فهي قوله تعالى رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ ولما كان الإنعام على الآباء إنعاماً على الأبناء لأن انتساب الابن إلى أب شريف نعمة من الله تعالى على الابن لا جرم اشتغل بشكر نعم الله على الآباء بقوله وَعَلَى وَالِدَى َّ وأما الاشتغال بسائر أنواع الخدمة فقوله وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وأما طلب ثواب الآخرة فقوله وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ فإن قيل درجات الأنبياء أعظم من درجات الأولياء والصالحين فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين فقال يوسف تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وقال سليمان أَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ جوابه الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية والله أعلم
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاّذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَة ً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَى ْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ
اعلم أن سليمان عليه السلام لما تفقد الطير أوهم ذلك أنه إنما تفقده لأمر يختص به ذلك الطير واختلفوا فيما لأجله تفقده على وجوه أحدها قول وهب أنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها فلذلك تفقده(24/162)
وثانيها أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه وكان يعرف الفصل بين قريبه وبعيده فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه وتفقده وثالثها أنه كان يظله من الشمس فلما فقد ذلك تفقده
أما قوله فَقَالَ مَالِيَ لِى َ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ فأم هي المنقطعة نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال ما لي لا أراه على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول أهو غائب كأنه يسأل عن صحة ما لاح له ومثله قولهم إنها لإبل أم شاء
أما قوله لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فهذا لا يجوز أن يقوله إلا فيمن هو مكلف أو فيمن قارب العقل فيصلح لأن يؤدب ثم اختلفوا في قوله لاعَذّبَنَّهُ فقال ابن عباس إنه نتف الريش والإلقاء في الشمس وقيل أن يطلى بالقطران ويشمس وقيل أن يلقى للنمل فتأكله وقيل إيداعه القفص وقيل التفريق بينه وبين إلفه وقيل لألزمنه صحبة الأضداد وعن بعضهم أضيق السجون معاشرة الأضداد وقيل لألزمنه خدمة أقرانه
أما قوله فَمَكَثَ فقد قرىء بفتح الكاف وضمها غَيْرَ بَعِيدٍ ( غير زمان بعيد ) كقولك عن قريب ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان وليعلم كيف كان الطير مسخراً له
أما قوله أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ففيه تنبيه لسليمان على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علماً بما لم يحط به فيكون ذلك لطفاً في ترك الإعجاب والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته
أما قوله وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ فاعلم أن سبأ قرىء بالصرف ومنعه وقد روي بسكون الباء وعن ابن كثير في رواية سبا بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فمن جعله اسماً للقبيلة لم يصرف ومن جعله اسماً للحي أو للأب الأكبر صرف ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام والنبأ الخبر الذي له شأن
وقوله مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ وشرط حسنه صحة المعنى ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة فحسن لفظاً ومعنى ألا ترى أنه لو وضع مكان ( بنبأ ) بخبر لكان المعنى صحيحاً ولكن لفظ النبأ أولى لما فيه من الزيادة التي يطابقها وصف الحال
أما قوله إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَة ً تَمْلِكُهُمْ فالمرأة بلقيس بنت شراحيل وكان أبوها ملك أرض اليمن وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس والضمير في تملكهم راجع إلى سبأ فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر وإن أريدت المدين فمعناه تملك أهلها
وأما قوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ففيه سؤال وهو أنه كيف قال وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء مع قول سليمان وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 16 ) فكأن الهدهد سوى بينهما جوابه أن قول سليمان عليه السلام يرجع إلى ما أوتي من النبوة والحكمة ثم إلى الملك وأسباب الدنيا وأما قول الهدهد فلم يكن إلا إلى ما يتعلق بالدنيا
وأما قوله وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ففيه سؤال وهو أنه كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان وأيضاً فكيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الله تعالى في الوصف بالعظيم والجواب عن(24/163)
الأول يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش ويجوز أن لا يكون لسليمان مع جلالته مثله كما قد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله عند السلطان وعن الثاني أن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض واعلم أن ههنا بحثين
البحث الأول أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجوه أحدها أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء وذلك يجر إلى السفسطة فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس وبالنحو من سيبويه وكذا القول في القملة والصئبان ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب وثانيها أن سليمان عليه السلام كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ثم رجع إليه وثالثها كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان وإنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية وكان تحت راية بلقيس على ما يقال اثنا عشر ألف ملك تحت راية كل واحد منهم مائة ألف ومع أنه يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ورابعها من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه والجواب عن الأول أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل وإنما يدفع ذلك بالإجماع وعن البواقي أن الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك
البحث الثاني قالت المعتزلة قوله يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ يدل على أن فعل العبد من جهته لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ولأنه أورده مورد الذم ولأنه بين أنهم لا يهتدون والجواب من وجوه أحدها أن هذا قول الهدهد فلا يكون حجة وثانيها أنه متروك الظاهر فإنه قال فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وعندهم الشيطان ما صد الكافر عن السبيل إذ لو كان مصدوداً ممنوعاً لسقط عنه التكليف فلم يبق ههنا إلا التمسك بفصل المدح والذم والجواب قد تقدم عنه مراراً فلا فائدة في الإعادة والله أعلم
أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في قوله تعالى أَلاَّ يَسْجُدُواْ قراءات أحدها قراءة من قرأ بالتخفيف ( ألا )(24/164)
للتنبيه ويا حرف النداء ومناداه محذوف كما حذفه من قال ألا يا اسلمى يا دار ميَّ على البلى
ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
وثانيها بالتشديد أراد فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن ويجوز أن تكون لا مزيدة ويكون المعنى فهم لا يهتدون ( إلا ) أن يسجدوا وثالثها وهي حرف عبدالله و ( هي ) قراءة الأعمش هلا بقلب الهمزة هاء وعن عبدالله هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب ورابعها قراءة أبي إِلا يَسْجُدُونَ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَيَعْلَمَ سِرَّكُمْ وَمَا تُعْلِنُونَ
المسألة الثانية قال أهل التحقيق قوله أَلاَّ يَسْجُدُواْ يجب أن يكون بمعنى الأمر لأنه لو كان بمعنى المنع من السجدة لم يكن لوصفه تعالى بما يوجب أن يكون السجود له وهو كونه قادراً على إخراج الخبء عالماً بالأسرار معنى
المسألة الثالثة الآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم أما القدرة فقوله يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وسمي المخبوء بالمصدر وهو يتناول جميع أنواع الأرزاق والأموال وإخراجه من السماء بالغيث ومن الأرض بالنبات وأما العلم فقوله وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
واعلم أن المقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وتحرير الدلالة هكذا الإله يجب أن يكون قادراً على إخراج الخبء وعالماً بالخفيات والشمس ليست كذلك فهي لا تكون إلهاً وإذا لم تكن إلهاً لم يجز السجود لها أما أنه سبحانه وتعالى يجب أن يكون قادراً عالماً على الوجه المذكور فلما أنه واجب لذاته فلا تختص قادريته وعالميته ببعض المقدورات والمعلومات دون البعض وأما أن الشمس ليست كذلك فلأنها جسم متناه وكل ما كان متناهياً في الذات كان متناهياً في الصفات وإذا كان كذلك فحينئذ لا يعلم كونها قادرة على إخراج الخبء عالمة بالخفيات فإذا لم يعلم من حالها ذلك لم يعلم من حالها كونها قادرة على جلب المنافع ودفع المضار فرجع حاصل الدلالة إلى ما ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وفي قوله للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وجه آخر وهو أن هذا إشارة إلى ما استدل به إبراهيم عليه السلام في قوله رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) وفي قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ( البقرة 258 ) وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخرج الشمس من المشرق بعد أفولها في المغرب فهذا هو إخراج الخبء في السموات وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ومن قوله فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ومن قوله موسى عليه السلام رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( الشعراء 28 ) وحاصله يرجع إلى أن أفول الشمس وطلوعها يدلان على كونها تحت تدبير مدبر قاهر فكانت العبادة لقاهرها والمتصرف فيها أولى وأما إخراج الخبء من الأرض فهو يتناول إخراج النطفة من الصلب والترائب وتكوين الجنين منه فإن قيل إن إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق فإن إبراهيم قال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ثم قال فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ وموسى عليه السلام قال رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 26 ) ثم قال رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فلم كان الأمر ههنا بالعكس فقدم خبء السموات على خبء الأرض جوابه أن إبراهيم وموسى عليهما السلام ناظراً مع من ادعى إلهية البشر فلا جرم ابتدأ بإبطال إلهية البشر ثم انتقلا إلى إبطال إلهية السموات وههنا المناظرة مع من ادعى إلهية الشمس لقوله وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ(24/165)
فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات ثم بالأرضيات
أما قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فالمراد منه أنه سبحانه لما بين افتقار السموات والأرض وما بينهما إلى المدبر ذكر بعد ذلك أن ما هو أعظم الأجسام فهي مخلوقة ومربوبة وذلك يدل على أنه سبحانه هو المنتهى في القدرة والربوبية إلى ما لا يزيد عليه والله أعلم
المسألة الرابعة قيل من أَحَطتُ إلى الْعَظِيمِ كلام الهدهد وقيل كلام رب العزة
المسألة الخامسة الحق أن سجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً وهو قول الشافعي وأبي حنيفة رحمة الله عليهما لأنهم أجمعوا على أن سجدات القرآن أربع عشرة سجدة وهذا واحد منها ولأن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذم لمن تركها وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك فثبت أن الذي ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد غير ملتفت إليه
المسألة السادسة يقال هل يفرق الواقف بين القراءتين جوابه نعم إذا خفف وقف على فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( النمل 24 ) ثم ابتدأ بألا يسجدوا وإن شاء وقف على ألا يا ثم ابتدأ اسجدوا وإذا شدد لم يقف إلا على ( العرش العظيم )
أما قوله سَنَنظُرُ فمن النظر الذي هو التأمل وأراد صدقت أم كذبت إلا أن أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ أبلغ لأنه إذا كان معروفاً بالكذب كان متهماً بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به وإنما قال فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ على لفظ الجمع لأنه قال وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ ( النمل 24 ) فقال فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أي إلى الذين هذا دينهم
أما قوله ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك و يَرْجِعُونَ من قوله تعالى يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ( سبأ 30 ) ويقال دخل عليها من كوة وألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة
قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنَّى أُلْقِى َ إِلَى َّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَى َّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَة ً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّة ٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالاٌّ مْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ
اعلم أن قوله قَالَتْ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الْمَلا إِنّى أُلْقِى َ إِلَى َّ كِتَابٌ كَرِيمٌ بمعنى أن يقال إن الهدهد ألقى إليها الكتاب فهو محذوف كأنه ثابت روي أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية وقيل نقرها فانتبهت فزعة(24/166)
أما قوله كِتَابٌ كَرِيمٌ ففيه ثلاثة أوجه أحدها حسن مضمونه وما فيه وثانيها وصفته بالكريم لأنه من عند ملك كريم وثالثها أن الكتاب كان مختوماً وقال عليه السلام ( كرم الكتاب ختمه ) وكان عليه السلام ( يكتب إلى العجم فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم فاتخذ لنفسه خاتماً )
أما قوله إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ففيه أبحاث
البحث الأول أنه استئناف وتبيين لما ألقى إليها كأنها لما قالت إني ألقي إليَّ كتاب كريم قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه من سليمان وإنه كيت وكيت وقرأ عبدالله إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ عطفاً على إِنّى وقرىء إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بالفتح وفيه وجهان أحدهما أنه بدل من كتاب كأنه قيل ألقي إليَّ أنه من سليمان وثانيهما أن يريد أن من سليمان ولأنه بسم الله كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله وقرأ أبي ( أن من سليمان وأن بسم الله ) على أن المفسرة وأن في ( ألا تعلوا ) مفسرة أيضاً ومعنى لا تعلوا لا تتكبروا كما تفعل الملوك وقرأ ابن عباس بالغين معجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد
البحث الثاني يقال لما قدم سليمان اسمه على قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جوابه حاشاه من ذلك بل ابتدأ هو ببسم الله الرحمن الرحيم وإنما ذكرت بلقيس أن هذا الكتاب من سليمان ثم حكت ما في الكتاب والله تعالى حكى ذلك فالتقديم واقع في الحكاية
البحث الثالث أن الأنبياء عليهم السلام لا يطيلون بل يقتصرون على المقصود وهذا الكتاب مشتمل على تمام المقصود وذلك لأن المطلوب من الخلق إما العلم أو العمل والعلم مقدم على العمل فقوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مشتمل على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً
وأما قوله أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَى َّ فهو نهي عن الانقياد لطاعة النفس والهوى والتكبر
وأما قوله وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ فالمراد من المسلم إما المنقاد أو المؤمن فثبت أن هذا الكتاب على وجازته يحوي كل ما لا بد منه في الدين والدنيا فإن قيل النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولاً حقاً يدل على الاكتفاء بالتقليد جوابه معاذ الله أن يكون هناك تقليد وذلك لأن رسول سليمان إلى بلقيس كان الهدهد ورسالة الهدهد معجز والمعجز يدل على وجود الصانع وعلى صفاته ويدل على صدق المدعي فلما كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة لا جرم لم يذكر في الكتاب دليلاً آخر
أما قوله قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى فالفتوى هي الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن أي أجيبوني في الأمر الفتى وقصدت بالانقطاع إليهم واستطلاع رأيهم تطييب قلوبهم مَا كُنتُ قَاطِعَة ً أَمْراً أَيُّ لا لَكَ أمْراً إلا بمحضركم
أما قوله قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّة ٍ فالمراد قوة الأجسام وقوة الآلات ( والعدد ) والمراد بالبأس النجدة ( والثبات ) في الحرب وحاصل الجواب أن القوم ذكروا أمرين أحدهما إظهار القوة الذاتية والعرضية ليظهر أنها إن أرادتهم للدفع والحرب وجدتهم بحيث تريد والآخر قولهم وَالاْمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ وفي ذلك إظهار الطاعة لها إن أرادت السلم ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا والله أعلم(24/167)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَة ً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّة َ أَهْلِهَآ أَذِلَّة ً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّى مُرْسِلَة ٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّة ٍ فَنَاظِرَة ٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ ءَاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّة ً وَهُمْ صَاغِرُونَ
اعلم أنها لما عرضت الواقعة على أكابر قومها وقالوا ما تقدم أظهرت رأيها وهو أن الملوك إذا دخلوا قرية بالقهر أفسدوها أي خربوها وأذلوا أعزتها فذكرت لهم عاقبة الحرب
وأما قوله وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ فقد اختلفوا أهو من كلامها أو من كلام الله تعالى كالتصويب لها والأقرب أنه من كلامها وأنها ذكرته تأكيداً لما وصفته من حال الملوك أما الكلام في صفة الهدية فالناس أكثروا فيها لكن لا ذكر لها في الكتاب وقولها فَنَاظِرَة ٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فيه دلالة على أنها لم تثق بالقبول وجوزت الرد وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان ولما وصلت الهدايا إلى سليمان عليه السلام ذكر أمرين الأول قوله أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فأظهر بهذا الكلام قلة الاكتراث بذلك المال
أما قوله بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن الهدية اسم للمهدي كما أن العطية اسم للمعطي فتضاف إلى المهدي وإلى المهدى إليه والمضاف إليه ههنا هو المهدى إليه والمعنى أن الله تعالى آتاني الدين الذي هو السعادة القصوى وآتاني من الدنيا ما لا مزيد عليه فكيف يستمال مثلي بمثل هذه الهدية بل أنتم تفرحون بما يهدى إليكم لكن حالي خلاف حالكم وثانيها بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثلها وثالثها كأنه قال بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها الثاني قوله ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فقيل ارجع خطاب للرسول وقيل للهدهد محملاً كتاباً آخر
أما قوله تعالى لاَّ قِبَلَ أي لا طاقة وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة أي لا يقدرون أن يقابلوهم وقرأ ابن مسعود ( لا قبل لهم بهم ) والضمير في ( منها ) لسبأ والذل أن يذهب عنهم ما كان عندهم من العز والملك والصغار أن يقعوا في أسر واستعباد ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً
قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِى ٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى أَءَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِى ٌّ كَرِيمٌ(24/168)
اعلم أن في قوله تعالى قَالَ يَاءادَمُ أَيُّهَا الْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا دلالة على أنها عزمت على اللحوق بسليمان ودلالة على أن أمر ذلك العرش كان مشهوراً فأحب أن يحصل عنده قبل حضورها واختلفوا في غرض سليمان عليه السلام من إحضار ذلك العرض على وجوه أحدها أن المراد أن يكون ذلك دلالة لبلقيس على قدرة الله تعالى وعلى نبوة سليمان عليه السلام حتى تنضم هذه الدلالة إلى سائر الدلائل التي سلفت وثانيها أراد أن يؤتى بذلك العرش فيغير وينكر ثم يعرض عليها حتى أنها هل تعرفه أو تنكره والمقصود اختبار عقلها وقوله تعالى قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى ( النمل 41 ) كالدلالة على ذلك وثالثها قال قتادة أراد أن يأخذه قبل إسلامها لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها ورابعها أن العرش سرير المملكة فأراد أن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه
أما قوله قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ فالعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه ومن الشياطين الخبيث المارد
أما قوله قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ فالمعنى من مجلسك ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت فقيل المراد مجلس الحكم بين الناس وقيل الوقت الذي يخطب فيه الناس وقيل إلى انتصاف النهار
وأما قوله لَقَوِى ٌّ أي على حمله أَمِينٌ آتي به كما هو لا أختزل منه شيئاً
أما قوله قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ ففيه بحثان
الأول اختلفوا في ذلك الشخص على قولين قيل كان من الملائكة وقيل كان من الإنس فمن قال بالأول اختلفوا قيل هو جبريل عليه السلام وقيل هو ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام ومن قال بالثاني اختلفوا على وجوه أحدها قول ابن مسعود إنه الخضر عليه السلام وثانيها وهو المشهور من قول ابن عباس إنه آصف بن برخيا وزير سليمان وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم إذا دعا به أجيب وثالثها قول قتادة رجل من الإنس كان يعلم اسم الله الأعظم ورابعها قول ابن زيد كان رجلاً صالحاً في جزيرة في البحر خرج ذلك اليوم ينظر إلى سليمان وخامسها بل هو سليمان نفسه والمخاطب هو العفريت الذي كلمه وأراد سليمان عليه السلام إظهار معجزة فتحداهم أولاً ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت وهذا القول أقرب لوجوه أحدها أن لفظة ( الذي ) موضوعة(24/169)
في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفه بقصة معلومة والشخص المعروف بأنه عنده علم الكتاب هو سليمان عليه السلام فوجب انصرافه إليه أقصى ما في الباب أن يقال كان آصف كذلك أيضاً لكنا نقول إن سليمان عليه السلام كان أعرف بالكتاب منه لأنه هو النبي فكان صرف هذا اللفظ إلى سليمان عليه السلام أولى الثاني أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك تفضيل آصف على سليمان عليه السلام وأنه غير جائز الثالث أن سليمان عليه السلام لو افتقر في ذلك إلى آصف لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق الرابع أن سليمان قال هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان
البحث الثاني اختلفوا في الكتاب فقيل اللوم المحفوظ والذي عنده علم منه جبريل عليه السلام وقيل كتاب سليمان أو كتاب بعض الأنبياء ومعلوم في الجملة أن ذلك مدح وأن لهذا الوصف تأثيراً في نقل ذلك العرش فلذلك قالوا إنه الاسم الأعظم وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات
أما قوله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ ففيه بحثان
الأول ( آتيك ) في الموضعين يجوز أن يكون فعلاً واسم فاعل
الثاني اختلفوا في قوله قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ على وجهين الأول أنه أراد المبالغة في السرعة كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وهذا قول مجاهد الثاني أن نجريه على ظاهره والطرف تحريك الأجفان عند النظر فإذا فتحت الجفن فقد يتوهم أن نور العين امتد إلى المرئي وإذا أغمضت الجفن فقد يتوهم أن ذلك النور ارتد إلى العين فهذا هو المراد من ارتداد الطرف وههنا سؤال وهو أنه كيف يجوز والمسافة بعيدة أن ينقل العرش في هذا القدر من الزمان وهذا يقتضي إما القول بالطفرة أو حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في مكانين جوابه أن المهندسين قالوا كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة ثم إن زمان طلوعها زمان قصير فإذا قسمنا زمان طلوع تمام القرص على زمان القدر الذي بين الشام واليمن كانت اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلاً إمكان وجود هذه الحركة السريعة وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال ثم إنه عليه السلام لما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر والكلام في تفسير الابتلاء قد مر غير مرة ثم إنه عليه السلام بين أن نفع الشكر عائد إلى الشاكر لا إلى الله تعالى أما أنه عائد إلى الشاكر فلوجوه أحدها أنه يخرج عن عهدة ما وجب عليه من الشكر وثانيها أنه يستمد به المزيد على ما قال لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ( إبرهيم 7 ) وثالثها أن المشتغل بالشكر مشتغل باللذات الحسية وفرق ما بينهما كفرق ما بين المنعم والنعمة في الشرف ثم قال وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِى ٌّ كَرِيمٌ غني عن شكره لا يضره كفرانه كريم لا يقطع عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر
قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ(24/170)
اعلم أن قوله نَكّرُواْ معناه اجعلوا العرش منكراً مغيراً عن شكله كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه وذلك لأنه لو ترك على ما كان لعرفته لا محالة وكان لا تدل معرفتها به على ثبات عقلها وإذا غير دلت معرفتها أو توقفها فيه على فضل عقل ولا يمتنع صحة ما قيل إن سليمان عليه السلام ألقى إليه أن فيها نقصان عقل لكي لا يتزوجها أو لا تحظى عنده على وجه الحسد فأراد بما ذكرنا اختبار عقلها
أما قوله نَنظُرْ فقرىء بالجزم على الجواب وبالرفع على الاستئناف واختلفوا في أَتَهْتَدِى على وجهين أحدهما أتعرف أنه عرشها أم لا كما قدمنا الثاني أتعرف به نبوة سليمان أم لا ولذلك قال أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ وذلك كالذم ولا يليق إلا بطريقة الدلالة فكأنه عليه السلام أحب أن تنظر فتعرف به نبوته من حيث صار متنقلاً من المكان البعيد إلى هناك وذلك يدل على قدرة الله تعالى وعلى صدق سليمان عليه السلام ويعرف بذلك أيضاً فضل عقلها لأغراض كانت له فعند ذلك سألها
أما قوله أَهَكَذَا عَرْشُكِ فاعلم أن هكذا ثلاث كلمات حرف التنبيه وكاف التشبيه واسم الإشارة ولم يقل أهذا عرشك ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً فقالت كَأَنَّهُ هُوَ ولم تقل هو هو ولا ليس به وذلك من كمال عقلها حيث توقفت في محل التوقف
أما قوله وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا ففيه سؤالان وهو أن هذا الكلام كلام من وأيضاً فعلى أي شيء عطف هذا الكلام وعنه جوابان الأول أنه كلام سليمان وقومه وذلك لأن بلقيس لما سئلت عن عرشها ثم إنها أجابت بقولها كَأَنَّهُ هُوَ فالظاهر أن سليمان وقومه قالوا إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام ثم عطفوا على ذلك قولهم وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته قبل علمها ويكون غرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزية التقدم في الإسلام الثاني أنه من كلام بلقيس موصولاً بقولها كَأَنَّهُ هُوَ والمعنى وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة ثم أن قوله وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إلى آخر الآية يكون من كلام رب العزة
أما قوله تعالى وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ففيه وجهان الأول المراد وصدها عبادتها لغير الله عن الإيمان الثاني وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل وقرىء أنها بالفتح على أنه بدل من فاعل صد وبمعنى لأنها واحتجت المعتزلة بهذه الآية فقالوا لو كان تعالى خلق الكفر فيها لم يكن الصاد لها كفرها المتقدم ولا كونها من جملة الكفار بل كان يكون الصاد لها عن الإيمان تجدد خلق الله الكفر فيها والجواب أما على التأويل الثاني فلا شك في سقوط الاستدلال وأما على الأول فجوابنا أن كونها من جملة الكفار صار سبباً لحصول الداعية المستلزمة للكفر وحينئذ يبقى ظاهر الآية موافقاً لقولنا والله أعلم
قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّة ً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(24/171)
اعلم أنه تعالى لما حكى إقامتها على الكفر مع كل ما تقدم من الدلائل ذكر أن سليمان عليه السلام أظهر من الأمر ما صار داعياً لها إلى الإسلام وهو قوله قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ والصرح القصر كقوله فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً وقيل صحن الدار وقرأ ابن كثير عن سَاقَيْهَا بالهمز ووجهه أنه سمع سؤقاً فأجرى عليه الواحد والممرد المملس روي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض كالماء بياضاً ثم أرسل الماء تحته وألقى فيه السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الإنس والجن والطير وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية وقيل خافوا أن يولد له منها ولد فيجتمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا إن في عقلها نقصاناً وإنها شعراء الساقين ورجلها كحافر حمار فاختبر سليمان عقلها بتنكير العرش واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ومعلوم من حال الزجاج الصافي أنه يكون كالماء فلما أبصرت ذلك ظنته ماءاً راكداً فكشفت عن ساقيها لتخوضه فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً وهذا على طريقة من يقول تزوجها وقال آخرون كان المقصود من الصرح تهويل المجلس وتعظيمه وحصل كشف الساق على سبيل التبع فلما قيل لها هو صرح ممرد من قوارير استترت وعجبت من ذلك واستدلت به على التوحيد والنبوة فقالت رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فيما تقدم بالثبات على الكفر ثم قالت وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة فقالت ظلمت نفسي بسوء ظني سليمان واختلفوا في أنه هل تزوجها أم لا وأنه تزوجها في هذه الحال أو قبل أن كشفت عن ساقيها والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها وليس لذلك ذكر في الكتاب ولا في خبر مقطوع بصحته ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها اختاري من قومك من أزوجك منه فقالت مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني فقال النكاح من الإسلام فقالت إن كان كذلك فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن ولم يزل بها ملكاً والله أعلم
القصة الثالثة قصة صالح عليه السلام
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ ياقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِى الْمَدِينَة ِ تِسْعَة ُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَة ً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذالِكَ لاّيَة ً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ(24/172)
قرىء أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ بالضم على اتباع النون الباء
أما قوله فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ ففيه قولان أحدهما المراد فريق مؤمن وفريق كافر الثاني المراد قوم صالح قبل أن يؤمن منهم أحد
أما قوله يَخْتَصِمُونَ فالمعنى أن الذين آمنوا إنما آمنوا لأنهم نظروا في حجته فعرفوا صحتها وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون خصماً لمن لم يقبلها وإذا كان هذا الاختصام في باب الدين دل ذلك على أن الجدال في باب الدين حق وفيه إبطال التقليد
أما قوله قَالَ ياقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ففيه بحثان الأول في تفسير استعجال السيئة قبل الحسنة وجهان أحدهما أن الذين كذبوا صالحاً عليه السلام لما لم ينفهم الحجاج توعدهم صالح عليه السلام بالعذاب فقالوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( العنكبوت 29 ) على وجه الاستهزاء فعنده قال صالح لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ والمراد أن الله تعالى قد مكنكم من التوصل إلى رحمة الله تعالى وثوابه فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه وثانيهما أنهم كانوا يقولون لجهلهم إن العقوبة التي يعدها صالح إن وقعت على زعمه أتينا حينئذ واستغفرنا فحينئذ يقبل الله توبتنا ويدفع العذاب عنا فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وقال هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر(24/173)
البحث الثاني أن المراد بالسيئة العقاب وبالحسنة الثواب فأما وصف العذاب بأنه سيئة فهو مجاز وسبب هذا التجويز إما لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً وأما وصف الرحمة بأنها حسنة فمنهم من قال إنه حقيقة ومنهم من قال إنه مجاز والأول أقرب ثم إن صالحاً عليه السلام لما قرر هذا الكلام الحق أجابوه بكلام فاسد وهو قولهم اطَّيَّرْنَا بِكَ أي تشاءمنا بك لأن الذي يصيبنا من شد وقحط فهو بشؤمك وبشؤم من معك
قال صاحب ( الكشاف ) كان الرجل يخرج مسافراً فيمر بطائر فيزجره فإن مر سانحاً تيمن وإن مر بارحاً تشاءم فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان للخير والشر وهو قدر الله وقسمته فأجاب صالح عليه السلام بقوله طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ أي السبب الذي منه يجيء خيركم وشركم عند الله وهو قضاؤه وقدره إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم وقيل بل المراد إن جزاء الطيرة منكم عند الله وهو العقاب والأقرب الوجه الأول لأن القوم أشاروا إلى الأمر الحاصل فيجب في جوابه أن يكون فيه لا في غيره ثم بين أهذا جهل منهم بقوله بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ فيحتمل أن غيرهم دعاهم إلى هذا القول ويحتمل أن يكون المراد أن الشيطان يفتنكم بوسوسته ثم إنه سبحانه قال وَكَانَ فِى الْمَدِينَة ِ تِسْعَة ُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ والأقرب أن يكون المراد تسعة جمع إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد لاختلاف صفتهم وأحوالهم لا لاختلاف السبب فبين تعالى أنهم يفسدون في الأرض ولا يمزجون ذلك الفساد بشيء من الصلاح فلهذا قال يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ ثم بين تعالى أن من جملة ذلك ما هموا به من أمر صالح عليه السلام
أما قوله تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ فيحتمل أن يكون أمراً أو خبراً في محل الحال بإضمار قد أي قالوا متقاسمين والبيات متابعة العدو ليلاً
أما قوله ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ يعني لو اتهمنا قومه حلفنا لهم أنا لم نحضر وقرىء ( مهلك ) بفتح الميم واللام وكسرها من هلك ومهلك بضم الميم من أهلك ويحتمل المصدر والمكان والزمان ثم إنه سبحانه قال وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وقد اختلفوا في مكر الله تعالى على وجوه أحدها أن مكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة روي أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فهلكوا وهلك الباقون بالصيحة وثانيها جاؤا بالليل شاهرين سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة يرون الأحجار ولا يرمون رامياً وثالثها أن الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرز عنهم فذاك مكر الله تعالى في حقهم
أما قوله أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ استئناف ومن قرأ بالفتح رفعه بدلاً من العاقبة أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هي تدمرهم أو نصبه على معنى لأنا أو على أنه خبر كان أي كان عاقبة مكرهم الدمار(24/174)
أما قوله خَاوِيَة ٍ فهو حال عمل فيها ما دل عليه تلك وقرأ عيسى بن عمر ( خاوية ) بالرفع على خبر المبتدأ المحذوف والله أعلم
القصة الرابعة قصة لوط عليه السلام
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَءِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَة ً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ
قال صاحب ( الكشاف ) واذكر لوطاً أو أرسلنا لوطاً بدلالة وَلَقَدْ أَرْسَلنَا ( النمل 45 ) عليه و ( إذ ) بدل على الأول ظرف على الثاني
أما قوله أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ فهو على وجه التنكير وإن كان بلفظ الاستفهام وربما كان التوبيخ بمثل هذا اللفظ أبلغ
أما قوله وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ففيه وجوه أحدها أنهم كانوا لا يتحاشون من إظهار ذلك على وجه الخلاعة ولا يتكاتمون وذلك أحد ما لأجله عظم ذلك الفعل منهم فذكر في توبيخه لهم ماله عظم ذلك الفعل وثانيها أن المراد بصر القلب أي تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها وأن الله تعالى لم يخلق الذكر للذكر فهي مضادة لله في حكمته وثالثها تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم فإن قلت فسرت ( تبصرون ) بالعلم وبعده بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فكيف يكونون علماء وجهلاء قلت أراد تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك أو تجهلون العاقبة أو أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها ثم إنه تعالى بين جهلهم بأن حكى عنهم أنهم أجابوا عن هذا الكلام بما لا يصلح أن يكون جواباً له فقال فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(24/175)
فجعلوا الذي لأجله يخرجون أنهم يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش وهذا يوجب تنعيمهم وتعظيمهم أولى لكن في المفسرين من قال إنما قالوا ذلك على وجه الهزء ثم بين تعالى أنه نجاه وأهله إلا امرأته وأهلك الباقين وقد تقدم كل ذلك مشروحاً والله أعلم وههنا آخر القصص في هذه السورة والله أعلم
القول في خطاب الله عز وجل مع محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
في هذه الآية قولان الأول أنه متعلق بما قبله من القصص والمعنى الحمد لله على إهلاكهم وسلام على عباده الذين اصطفى بأن أرسلهم ونجاهم الثاني أنه مبتدأ فإنه تعالى لما ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام وكان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كالمخالف لمن قبله في أمر العذاب لأن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه أمره تعالى بأن يشكر ربه على ما خصه بهذه النعم وبأن يسلم على الأنبياء عليهم السلام الذين صبروا على مشاق الرسالة
فأما قوله اللَّهِ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ فهو تبكيت للمشركين وتهكم بحالهم وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة فقيل لهم هذا الكلام تنبيهاً على نهاية ضلالهم وجهلهم وقرىء يُشْرِكُونَ بالياء والتاء عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا قرأها قال ( بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم )
ثم اعلم أنه سبحانه وتعالى تكلم بعد ذلك في عدة فصول
الفصل الأول في الرد على عبدة الأوثان ومدار هذا الفصل على بيان أنه سبحانه وتعالى هو الخالق لأصول النعم وفروعها فكيف تحسن عبادة ما لا منفعة منه ألبتة ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر أنواعا
النوع الأول ما يتعلق بالسموات
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَة ٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الفرق بين أم وأم في أَمَّا يُشْرِكُونَ و أَمَّنْ خَلَقَ أن الأولى متصلة لأن المعنى أيهما خير وهذه منقطعة بمعنى بل والحديقة البستان عليه سور من الإحداق وهو الإحاطة وقيل ذَاتُ لأن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة كما يقال النساء ذهبت والبهجة الحسن لأن الناظر يبتهج به مَّعَ الله بَلْ أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له وقرىء أَنَّ مَعَ اللَّهِ بمعنى ( تدعون أو تشركون )
المسألة الثانية أنه تعالى بين أنه الذي اختص بأن خلق السموات والأرض وجعل السماء مكاناً للماء والأرض للنبات وذكر أعظم النعم وهي الحدائق ذات البهجة ونبه تعالى على أن هذا الإنبات في الحدائق لا يقدر عليه إلا الله تعالى لأن أحدنا لو قدر عليه لما احتاج إلى غرس ومصابرة على ظهور الثمرة وإذا كان تعالى هو المختص بهذا الإنعام وجب أن يخص بالعبادة ثم قال بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ وقد(24/176)
اختلفوا فيه فقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر وقيل يعدلون بالله سواه ونظير هذه الآية أول سورة الإنعام
المسألة الثالثة يقال ما حكمة الالتفات في قوله فَأَنبَتْنَا جوابه أنه لا شبهة للعاقل في أن خالق السموات والأرض ومنزل الماء من السماء ليس إلا الله تعالى وربما عرضت الشبهة في أن منبت الشجرة هو الإنسان فإن الإنسان يقول أنا الذي ألقى البذر في الأرض الحرة وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها وفاعل السبب فاعل للمسبب فإذن أنا المنبت للشجرة فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم أزال هذا الاحتمال فرجع من لفظ الغيبة إلى قوله فَأَنبَتْنَا وقال مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا لأن الإنسان قد يأتي بالبذر والسقي والكرب والتشميس ثم لا يأتي على وفق مراده والذي يقع على وفق مراده فإنه يكون جاهلاً بطبعه ومقداره وكيفيته فكيف يكون فاعلاً لها فلهذه النكتة حسن الالتفات ههنا
النوع الثاني ما يتعلق بالأرض
أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِى َ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلاهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
قال صاحب ( الكشاف ) أَمَّن جَعَلَ وما بعده بدل من أَمَّنْ خَلَقَ ( النمل 6 ) فكان ( حكمها ) حكمه
واعلم أنه تعالى ذكر من منافع الأرض أموراً أربعة
المنفعة الأولى كونها قراراً وذلك لوجوه الأول أنه دحاها وسواها للاستقرار الثاني أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة والرخاوة فليست في الصلابة كالحجر الذي يتألم الإنسان بالاضطجاع عليه وليست في الرخاوة كالماء الذي يغوص فيه الثالث أنه تعالى جعلها كثيفة غبراء ليستقر عليها النور ولو كانت لطيفة لما استقر النور عليها ولو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات الرابع أنه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكل بحيث تبعد تارة وتقرب أخرى من سمت الرأس ولولا ذلك لما اختلفت الفصول ولما حصلت المنافع الخامس أنه سبحانه وتعالى جعلها ساكنة فإنها لو كانت متحركة لكانت إما متحركة على الاستقامة أو على الاستدارة وعلى التقديرين لا يحصل الانتفاع بالسكنى على الأرض السادس أنه سبحانه جعلها كفاتاً للأحياء والأموات وأنه يطرح عليها كل قبيح ويخرج منها كل مليح
المنفعة الثانية الأرض قوله وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً فاعلم أن أقسام المياه المنبعثة عن الأرض أربعة الأول ماء العيون السيالة وهي تنبعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة ثم لا يزال يستتبع جزء منها جزءاً الثاني ماء العيون الراكدة وهي تحدث من أبخرة بلغت من قوتها أن اندفعت(24/177)
إلى وجه الأرض ولم تبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد تاليها سابقها الثالث مياه القنى والأنهار وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة على أن تشق الأرض فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صادفت حينئذ تلك الأبخرة منفذاً تندفع إليه بأدنى حركة الرابع مياه الآبار وهي نبعية كمياه الأنهار إلا أنه لم يجعل له سيل إلى موضع يسيل إليه ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون الراكدة فقد ظهر أنه لولا صلابة الأرض لما اجتمعت تلك الأبخرة في باطنها إذ لولا اجتماعها في باطنها لما حدثت هذه العيون في ظاهرها
المنفعة الثالثة للأرض قوله وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِى َ والمراد منها الجبال فنقول أكثر العيون والسحب والمعدنيات إنما تكون في الجبال أو فيما يقرب منها أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فإذن هذه الأبخرة لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرض فلا جرم كانت أقواها على حبس هذا البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءاً ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئاً من البخار يتحلل ونفس الأرض التي تحته كالقرعة والعيون كالأذناب والبخار كالقوابل ولذلك فإن أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وذلك الأقل لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة وأما أن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه ثلاثة أحدها أن في باطن الجبال من النداوات مالا يكون في باطن الأرضين الرخوة وثانيها أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء ومن الثلوج ما لا يبقى على ظهر سائر الأرضين وثالثها أن الأبخرة الصاعدة تكون محبوسة بالجبال فلا تتفرق ولا تتحلل وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب كثرة السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهراً وباطناً أكثر والاحتقان أشد السبب المحلل وهو الحر أقل فلذلك كانت السحب في الجبال أكثر وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة يكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإلى بقاء مدة طويلة يتم النضج فيها فلا شيء لها في هذا المعنى كالجبال
المنفعة الرابعة للأرض قوله وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً فالمقصود منه أن لا يفسد العذب بالاختلاط وأيضاً فلينتفع بذلك الحاجز وأيضاً المؤمن في قلبه بحران بحر الإيمان والحكمة وبحر الطغيان والشهوة وهو بتوفيقه جعل بينهما حاجزاً لكي لا يفسد أحدهما بالآخر وقال بعض الحكماء في قوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 19 20 ) قال عند عدم البغي يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( الرحمن 22 ) فعند عدم البغي في القلب يخرج الدين والإيمان بالشكر فإن قيل ولم جعل البحر ملحاً قلنا لولا ملوحته لأجن وانتشر فساد أجونته في الأرض وأحدث الوباء العام واعلم أن اختصاص البحر بجانب من الأرض دون جانب أمر غير واجب بل الحق أن البحر ينتقل في مدد لا تضبطها التواريخ المنقولة من قرن إلى قرن لأن استمداد البحر في الأكثر من الأنهار والأنهار تستمد في الأكثر من العيون وأما مياه السماء فإن حدوثها في فصل بعينه دون فصل ثم لا العيون ولا مياه السماء يجب أن تتشابه أحوالها في بقاع واحدة بأعيانها تشابهاً مستمراً فإن كثيراً من العيون يغور وكثيراً ما تقحط السماء فلا بد حينئذ من نضوب الأودية والأنهار فيعرض بسبب ذلك نضوب البحار وإذا حدثت العيون من جانب آخر حدثت(24/178)
الأنهار هناك فحصلت البحار من ذلك الجانب ثم إنه سبحانه لما بين أنه هو المختص بالقدرة على خلق الأرض التي فيها هذه المنافع الجليلة وجب أن يكون هو المختص بالإلهية ونبه بقوله تعالى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ على عظم جهلهم بالذهاب عن هذا التفكر
النوع الثالث ما يتعلق باحتياج الخلق إليه سبحانه
أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّو ءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرض أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
اعلم أنه سبحانه نبه في هذه الآية على أمرين أحدهما قوله أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ قال صاحب ( الكشاف ) الضرورة الحالة المحوجة إلى الالتجاء والاضطرار افتعال منها يقال اضطره إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر واعلم أن المضطر هو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى التضرع إلى الله تعالى وعن السدي الذي لا حول له ولا قوة وقيل المذنب إذا استغفر فإن قيل قد عم المضطرين بقوله أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وكم من مضطر يدعو فلا يجاب جوابه قد بينا في أصول الفقه أن المفرد المعرف لا يفيد العموم وإنما يفيد الماهية فقط والحكم المثبت للماهية يكفي في صدقه ثبوته في فرد واحد من أفراد الماهية وأيضاً فإنه تعالى وعد بالاستجابة ولم يذكر أنه يستجيب في الحال وتمام القول في شرائط الدعاء والإجابة مذكور في قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) فأما قوله تعالى وَيَكْشِفُ السُّوء فهو كالتفسير للاستجابة فإنه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة وضيق إلى سعة إلا القادر الذي لا يعجز والقاهر الذي لا ينازع وثانيهما قوله وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الاْرْضِ فالمراد توارثهم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن وأراد بالخلافة الملك والتسلط وقرىء يَذَّكَّرُونَ بالياء مع الإدغام وبالتاء مع الإدغام وبالحذف وما مزيدة أي يذكرون تذكرا قليلاً والمعنى نفي التذكر والقلة تستعمل في معنى النفي
النوع الرابع ما يتعلق أيضاً باحتياج الخلق ولكنه حاجة خاصة في وقت خاص
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(24/179)
اعلم أنه تعالى نبه في هذه الآية على أمرين الأول قوله أَمَّن يَهْدِيكُمْ والمراد يهديكم بالنجوم في السماء والعلامات في الأرض إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر الثاني قوله وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ فإنه سبحانه هو الذي يحرك الرياح فتثير السحاب ثم تسوقه إلى حيث يشاء فإن قيل لا نسلم أنه تعالى هو الذي يحرك الرياح فإن الفلاسفة قالت الرياح إنما تتولد عن الدخان وليس الدخان كله هو الجسم الأسود المرتفع مما احترق بالنار بل كل جسم أرضي يرتفع بتصعيد الحرارة سواء كانت الحرارة حرارة النار أو حرارة الشمس فهو دخان قالوا وتولد الرياح من الأدخنة على وجهين أحدهما أكثري والآخر أقلي أما الأكثري فهو أنه إذا صعدت أدخنة كثيرة إلى فوق فعند وصولها إلى الطبقة الباردة إما أن ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء أو لا ينكسر فإن انكسر فلا محالة يثقل وينزل فيحصل من نزولها تموج الهواء فتحدث الريح وإن لم ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء فلا بد وأن يتصاعد إلى أن يصل إلى كرة النار المتحركة بحركة الفلك وحينئذ لا يتمكن من الصعود بسبب حركة النار فترجع تلك الأدخنة وتصير ريحاً لا يقال لو كان اندفاع هذه الأدخنة بسبب حركة الهواء العالي لما كانت حركتها إلى أسفل بل إلى جهة حركة الهواء العالي لأنا نقول الجواب من وجهين أحدهما أنه ربما أوجبت هيئة صعود تلك الأدخنة وهيئة لحوق المادة بها أن يتحرك إلى خلاف جهة المتحرك المانع كالسهم يصيب جسماً متحركاً فيعطفه تارة إلى جهته إن كان الحابس كما يقدر على صرف المتحرك عن متوجهه يقدر أيضاً على صرفه إلى جهة حركة نفسه وتارة إلى خلاف تلك الجهة إذا كان المفارق يقدر على الحبس ولا يقدر على الصرف الثاني أنه ربما كان صعود بعض الأدخنة من تحت مانعاً للأدخنة النازلة من فوق إلى أن يتسفل ذلك فلأجل هذا السبب يتحرك إلى سائر الجوانب واعلم أن لأهل الإسلام ههنا مقامين الأول أن يقيم الدلالة على فساد هذه العلة وبيانه من وجهين الأول أن الأجزاء الدخانية أرضية فهي أثقل من الأجزاء البخارية المائية ثم إن البخار لما يبرد ينزل على الخط المستقيم مطراً فالدخان لما برد فلماذا لم ينزل على الخط المستقيم بل ذهب يمنة ويسرة الثاني أن حركة تلك الأجزاء إلى أسفل طبيعية وحركتها يمنة ويسرة عرضية والطبيعية أقوى من العرضية وإذا لم يكن أقوى فلا أقل من المساواة ثم إن الريح عند حركتها يمنة ويسرة ربما تقوى على قلع الأشجار ورمي الجدار بل الجبال فتلك الأجزاء الدخانية عندما تحركت حركتها الطبيعية التي لها وهي الحركة إلى السفل وجب أن تهدم السقف ولكنا نرى الغبار الكثير ينزل من الهواء ويسقط على السقف ولا يحس بنزوله فضلاً عن أن يهدمه فثبت فساد ما ذكروه المقام الثاني هب أن الأمر كما ذكروه ولكن الأسباب الفاعلية والقابلية لها مخلوقة لله سبحانه وتعالى فإنه لولا الشمس وتأثيرها في تصعيد الأبخرة والأدخنة ولولا طبقات الهواء وإلا لما حدثت هذه الأمور ومعلوم أن من وضع أسباباً فأدته إلى منافع عجيبة وحكم بالغة فذلك الواضع هو الذي فعل تلك المنافع فعلى جميع الأحوال لا بد من شهادة هذه الأمور على مدبر حكيم واجب لذاته قطعاً لسلسلة الحاجات(24/180)
النوع الخامس ما يتعلق بالحشر والنشر
أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا أتبع ذلك بنعم الآخرة بقوله أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ لأن نعم الآخرة بالثواب لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء والإبلاغ إلى حد التكليف فقد تضمن الكلام كل هذه النعم ومعلوم أنها لا تتم إلا بالأرزاق فلذلك قال وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء والاْرْضِ ثم قال مَّعَ الله بَلْ منكراً لما هم عليه ثم بين بقوله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أن لا برهان لكم فإذن هم مبطلون وهذا يدل على أنه لا بد في الدعوى من وعلى فساد التقليد فإن قيل كيف قيل لهم أَم مَّنْ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهم منكرون للإعادة جوابه كانوا معترفين بالابتداء ودلالة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار وههنا آخر الدلائل المذكورة على كمال قدرة الله تعالى
قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاواتِ والأرض الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه المختص بالقدرة فكذلك بين أنه هو المختص بعلم الغيب وإذا ثبت ذلك ثبت أنه هو الإله المعبود لأن الإله هو الذي يصح منه مجازاة من يستحق الثواب على وجه لا يلتبس بأهل العقاب فإن قيل الاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت المستثنى منه ودلت الآية ههنا على استثناء الله سبحانه وتعالى عمن في السموات والأرض فوجب كونه ممن في السموات والأرض وذلك يوجب كونه تعالى في المكان والجواب هذه الآية متروكة الظاهر لأن من قال إنه تعالى في المكان زعم أنه فوق السموات ومن قال إنه ليس في مكان فقد نزهه عن كل الأمكنة فثبت بالإجماع أنه تعالى ليس في السموات والأرض فإذن وجب تأويله فنقول إنه تعالى ممن في السموات والأرض كما يقول المتكلمون الله تعالى في كل مكان على معنى أن علمه في الأماكن كلها لا يقال إن كونه في السموات والأرض مجاز وكونهم فيهن حقيقة وإرادة المتكلم بعبارة واحدة ومجازاً غير جائزة لأنا نقول كونهم في السموات والأرض كما أنه حاصل حقيقة وهو حصول ذواتهم في الأحياز فكذلك حاصل مجازاً وهو كونهم عالمين(24/181)
بتلك الأمكنة فإذا حملنا هذه الغيبة على المعنى المجازي وهو الكون فيها بمعنى العلم دخل الرب سبحانه وتعالى والعبيد فيه فصح الاستثناء
أما قوله وَمَا يَشْعُرُونَ فهو صفة لأهل السموات والأرض نفى أن يكون لهم علم الغيب وذكر في جملة الغيب متى البعث بقوله أَيَّانَ يُبْعَثُونَ فأيان بمعنى متى وهي كلمة مركبة من أي والآن وهو الوقت وقرىء أَيَّانَ بكسر الهمزة
أما قوله بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاْخِرَة ِ فاعلم أن كلام صاحب ( الكشاف ) فيه مرتب على ثلاثة أبحاث
البحث الأول فيه اثنتا عشرة قراءة بل أدرك بل أدرك بل ادارك بل تدارك بل أأدرك بهمزتين بل آأدرك بألف بينهما بل آدرك بالتخفيف والنقل بل ادرك بفتح اللام وتشديد الدال وأصله بل أدرك على الاستفهام بلى أدرك بلى أأدرك أم تدارك أو أدرك
البحث الثانث ادارك أصله تدارك فأدغمت التاء في الدال وادَّرك افتعل
البحث الثالث معنى ادَّرك علمهم انتهى وتكامل وأدرك تتابع واستحكم ثم فيه وجوه أحدها أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفتها وهم شاكون جاهلون وذلك قوله بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ يريد المشركين ممن في السماوات والأرض لأنهم لما كانوا من جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع كما يقال بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم فإن قيل الآية سيقت لاختصاص الله تعالى بعلم الغيب وإن العباد لا علم لهم بشيء منه وإن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به فكيف ناسب هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة والجواب كأنه سبحانه قال كيف يعلمون الغيب مع أنهم شكوا في ثبوت الآخرة التي دلت الدلائل الظاهرة القاهرة عليها فمن غفل عن هذا الشيء الظاهر كيف يعلم الغيب الذي هو أخفى الأشياء الوجه الثاني أن وصفهم باستحكام العلم تهكم بهم كما تقول لأجهل الناس ما أعلمك على سبيل الهزء وذلك حيث شكوا في إثبات ما الطريق إليه واضح ظاهر الوجه الثالث أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى من قولك أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك أما وجه قراءة من قرأ بل أأدرك على الاستفهام فهو أنه استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم وكذا من قرأ أم أدرك وأم تدارك لأنها أم هي التي بمعنى بل والهمزة وأما من قرأ بلى أدرك فإنه لما جاء ببلى بعد قوله وَمَا يَشْعُرُونَ كان معناه بلى يشعرون ثم فسر الشعور بقوله أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم فكأنه قال شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون وأما من قرأ بلى أأدرك على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون ثم أنكر علمهم بكونها وإذ أنكر علمهم بكونها وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها فإن قلت هذه الإضرابات الثلاث ما معناها قلت ماهي إلا بيان درجاتهم وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم بأنهم لا يعلون أن القيامة كائنة ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى وفيه نكتة وهي أنه تعالى جعل الآخرة مبدأ(24/182)
عماهم فلذلك عداه بمن دون عن لأن الفكر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَآؤُنَآ أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَآئِبَة ٍ فِى السَّمَآءِ والأرض إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في حال المبدأ تكلم بعده في حال المعاد وذلك لأن الشك في المعاد لا ينشأ إلا من الشك في كمال القدرة أو في كمال العلم فإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات ثبت أنه تعالى يمكنه تمييز أجزاء بدن كل واحد من المكلفين عن أجزاء بدن غيره وثبت أنه قادر على أن يعيد التركيب والحياة إليها وإذا ثبت إمكان ذلك ثبت صحة القول بالحشر فلما بين الله تعالى هذين الأصلين فيما قبل هذه الآية لا جرم لم يحكه في هذه الآية فحكى عنهم أنهم تعجبوا من إخراجهم أحياء وقد صاروا تراباً وطعنوا فيه من وجهين الأول قولهم لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا أي هذا كلام كما قيل لنا فقد قيل لمن قبلنا ولم يظهر له أثر فهو إذن من أساطير الأولين يريدون ما لا يصح من الأخبار فإن قيل ذكر ههنا لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا وفي آية أخرى لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هَاذَا ( المؤمنون 83 ) فما الفرق قلنا التقديم دليل على أن المقدم هو المقصود الأصلي وأن الكلام سيق لأجله ثم إنه سبحانه لما كان قد بين الدلالة على هذين الأصلين ومن الظاهر أن كل من أحاط بهما فقد عرف صحة الحشر والنشر ثبت أنهم أعرضوا عنها ولم يتأملوها وكان سبب ذلك الإعراض حب الدنيا وحب الرياسة والجاه وعدم الانقياد للغير لا جرم اقتصر على بيان أن الدنيا فانية زائلة فقال قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ وفيه سؤالان(24/183)
السؤال الأول لم لم يقل كيف كانت عاقبة المجرمين جوابه لأن تأنيثها غير حقيقي ولأن المعنى كيف كان آخر أمرهم
السؤال الثاني لم لم يقل عاقبة الكافرين جوابه الغرض أن يحصل التخويف لكل العصاة ثم إنه تعالى صبر رسوله على ما يناله من هؤلاء الكفار فقال وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ فجمع بين إزالة الغم عنه بكفرهم وبين إزالة الخوف من جانبهم وصار ذلك كالتكفل بنصرته عليهم وقوله وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ أي في حرج قلب يقال ضاق الشيء ضيقاً وضيقاً بالفتح والكسر والضيق تخفيف الضيق ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم الوجه الثاني للكفار قولهم مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ وقوله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ دل على أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية فأجاب الله تعالى بقوله عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ( البقرة 195 ) أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو دنا لكم وأزف لكم ومعناه تبعكم ولحقكم وقرأ الأعرج رَدِفَ لَكُم بوزن ذهب وهما لغتان والكسر أفصح وههنا بحثان
البحث الأول أن عسى ولعل في وعد الملوك ووعيدهم يدلان على صدق الأمر وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام لوثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده
الثاني أنه قد ثبت بالدلائل العقلية أن عذاب الحجاب أشد من عذاب النار ولذلك قال كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ( المطففين 15 16 ) فقدم الحجاب على الجحيم ثم إنهم كانوا محجوبين في الحال فكان سبب العذاب بكماله حاصلاً إلا أن الاشتغال بالدنيا ولذاتها كالعائق عن إدراك ذلك الألم كما أن العضو الخدر إذا مسته النار فإن سبب الألم حاصل في الحال لكنه لا يحصل الشعور بذلك الألم لقيام العائق فإذا زال العائق عظم البلاء فكذا ههنا إذا زال البدن عظم عذاب الحجاب فقوله سبحانه عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ يعني المقتضي له والمؤثر فيه حاصل وتمامه إنما يحصل بعد الموت ثم إنه سبحانه بين السبب في ترك تعجيل العذاب فقال وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ والفضل الإفضال ومعناه أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة وأكثرهم لا يعرفون هذه النعمة ولا يشكرونها وهذه الآية تبطل قول من قال إنه لا نعمة لله على الكفار ثم بين سبحانه أنه مطلع على ما في قلوبهم فقال وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وههنا بحث عقلي وهو أنه قدم ما تكنه صدورهم على ما يعلنون من العلم والسبب أن ما تكنه صدورهم هو الدواعي والقصود وهي أسباب لما يعلنون وهي أفعال الجوارح والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول فهذا هو السبب في ذلك التقديم قرىء ( تكن ) يقال كننت الشيء وأكننته إذا سترته وأخفيته يعني أنه تعالى يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة الرسول ومكايدهم
أما قوله وَمَا مِنْ غَائِبَة ٍ فقال صاحب ( الكشاف ) سمى الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية فكانت التاء فيها بمنزلتها في العاقبة والعافية والنطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة كالراوية في قولهم ويل للشاعر من راوية السوء كأنه تعالى قال وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى وأحاط به وأثبته في اللوح المحفوظ والمبين الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة(24/184)
إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لِّلْمُؤمِنِينَ إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِأايَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ
اعلم أنه سبحانه لما تمم الكلام في إثبات المبدإ والمعاد ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالنبوة ولما كانت العمدة الكبرى في إثبات نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو القرآن لا جرم بين الله تعالى أولاً كونه معجزة من وجوه أحدها أن الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة لما كانت مذكورة في التوراة والإنجيل مع العلم بأنه عليه الصلاة والسلام كان أمياً وأنه لم يخالط أحداً من العلماء ولم يشتغل قط بالاستفادة والتعلم فإذن لا يكون ذلك إلا من قبل الله تعالى واختلفوا فقال بعضهم أراد به ما اختلفوا فيه وتباينوا وقال آخرون أراد به ما حرفه بعضهم وقال بعضهم بل أراد به أخبار الأنبياء والأول أقرب وثانيها قوله وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤمِنِينَ وذلك لأن بعض الناس قال إنا لما تأملنا القرآن فوجدنا فيه من الدلائل العقلية على التوحيد والحشر والنبوة وشرح صفات الله تعالى وبيان نعوت جلاله ما لم نجده في شيء من الكتب ووجدنا ما فيه من الشرائع مطابقة للعقول موافقة لها وجدناه مبرأ عن التناقض والتهافت فكان هدى ورحمة من هذه الجهات ووجدنا القوى البشرية قاصرة على جمع كتاب على هذا الوجه فعلمنا أنه ليس إلا من عند الله تعالى فكان القرآن معجزاً من هذه الجهة وثالثها أنه هدى ورحمة للمؤمنين لبلوغه في الفصاحة إلى حيث عجزوا عن معارضته وذلك معجز ثم إنه تعالى لما بين كونه معجزاً دالاً على الرسالة ذكر بعده أمرين الأول قوله إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ والمراد أن القرآن وإن كان يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون لكن لا تكن أنت في قيدهم فإن ربك هو الذي يقضي بينهم أي بين المصيب والمخطىء منهم وذلك كالزجر للكفار فلذلك قال وَهُوَ الْعَزِيزُ أي القادر الذي لا يمنع العليم بما يحكم فلا يكون إلا الحق فإن قيل القضاء والحكم شيء واحد فقوله يَقْضِى بِحُكْمِهِ كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه والجواب معنى قوله بِحُكْمِهِ أي بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل أو أراد بحكمه ويدل عليه قراءة من قرأ ( بحكمه ) جمع حكمة الثاني أنه تعالى أمره بعد ظهور حجة رسالته بأن يتوكل على الله ولا يلتفت إلى أعداء الله ويشرع في تمشية مهمات الرسالة بقلب قوي فقال فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثم علل ذلك بأمرين أحدهما قوله إِنَّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ وفيه بيان أن المحق حقيق بنصرة الله تعالى وأنه لا يخذل وثانيهما قوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وإنما حسن جعله سبباً للأمر بالتوكل وذلك(24/185)
لأن الإنسان ما دام يطمع في أحد أن يأخذ منه شيئاً فإنه لا يقوى قلبه على إظهار مخالفته فإذا قطع طمعه عنه قوي قلبه على إظهار مخالفته فالله سبحانه وتعالى قطع محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عنهم بأن بين له أنهم كالموتى وكالصم وكالعمى فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل وهذا سبب لقوة قلبه عليه الصلاة والسلام على إظهار الدين كما ينبغي فإن قيل ما معنى قوله إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ جوابه هو تأكيد لحال الأصم لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته
أما قوله تعالى وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ فالمعنى ما يجدي إسماعك إلا الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته أي يصدقون بها فهم مسلمون أي مخلصون من قوله بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ( البقرة 112 ) يعني جعله سالماً لله تعالى خالصاً له والله أعلم
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّة ً مِّنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِأايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّة ٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِأايَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِأايَاتِى وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن الله تعالى بين بالدلائل القاهرة كمال القدرة وكمال العلم ثم فرع عليهما القول بإمكان الحشر ثم بين الوجه في كون القرآن معجزاً ثم فرع عليه نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم تكلم الآن في مقدمات قيام القيامة وإنما أخر تعالى الكلام في هذا الباب عن إثبات النبوة لما أن هذه الاْشياء لا يمكن معرفتها إلا بقول النبي الصادق وهذا هو النهاية في جودة الترتيب واعلم أنه تعالى ذكر تارة ما يكون كالعلامة لقيام القيامة وتارة الأمور التي تقع عند قيام القيامة فذكر أولاً من علامات القيامة دابة الأرض والناس تكلموا فيها من وجوه أحدها في مقدار جسمها وفي الحديث أن طولها ستون ذراعاً وروي أيضاً أن رأسها تبلغ السحاب وعن أبي هريرة ما بين قرنيها فرسخ للراكب وثانيها في كيفية خلقتها فروي أن لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان وعن ابن جريج في وصفها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن إيَّل وصدر أسد ولون نمر وخاصرة ( بقرة ) وذنب كبش وخف بعير وثالثها في كيفية خروجها عن علي عليه السلام أنه تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها وعن الحسن لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام ورابعها في موضع خروجها ( سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أين تخرج الدابة فقال من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى المسجد(24/186)
الحرام ) وقيل تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية وخامسها في عدد خروجها فروي أنها تخرج ثلاث مرات تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية ثم تكمن دهراً طويلاً فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد فقوم يهربون وقوم يقفون ( نظارة )
واعلم أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور فإن صح الخبر فيه عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قبل وإلا لم يلتفت إليه
أما قوله تعالى وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم فالمراد من القول متعلقه وهو ما وعدوا به من قيام الساعة ووقوعه حصوله والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها أما دابة الأرض فقد عرفتها
وأما قوله تُكَلّمُهُمْ فقرىء ( تكْلِمهم ) من الكلم وهو الجرح روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا موسى عليه السلام وخاتم سليمان فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى عليه السلام فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه وتنكت الكافر في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه واعلم أنه يجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضاً على معنى التكثير يقال فلان مكلم أي مجرح وقرأ أبي ( تنبئهم ) وقرأ ابن مسعود تكلمهم بأن الناس والقراءة بإن مكسورة حكاية لقول الدابة ذلك أو هي حكاية لقول الله تعالى بين به أنه أخرج الدابة لهذه العلة فإن قيل إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف يقول ( بآياتنا ) جوابه أن قولها حكاية لقول الله تعالى أو على معنى بآيات ربنا أو لاختصاصها بالله تعالى أضافت آيات الله إلى نفسها كما يقال بعض خاصة الملك خيلنا وبلادنا وإنما هي خيل مولاه وبلاده ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار أي تكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون
وأما قوله وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّة ٍ فَوْجاً مّمَّن يُكَذّبُ بِئَايَاتِنَا فاعلم أن هذا من الأمور الواقعة بعد قيام القيامة فالفرق بين من الأولى والثانية أن الأولى للتبعيض والثانية للتبيين كقوله مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 )
أما قوله فَهُمْ يُوزَعُونَ معناه يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه كما وصفت جنود سليمان بذلك وقوله حَتَّى إِذَا جَاءوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِئَايَاتِى فهذا وإن احتمل معجزات الرسل كما قاله بعضهم فالمراد كل الآيات فيدخل فيه سائر الكفار الذين كذبوا بآيات الله أجمع أو بشيء منها
أما قوله وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً فالواو للحال كأنه قال أكذبتم بها بادي الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها
أما قوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فالمراد لما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ا كأنه قال كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل ثم قال وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب تكذيبهم بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار كقوله هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ( المرسلات 35 ) ثم إنه سبحانه بعد أن خوفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً(24/187)
أما وجه دلالته على التوحيد فلما ظهر في العقول أن التقليب من النور إلى الظلمة ومن الظلمة إلى النور لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية وإما وجه دلالته على الحشر فلأنه لما ثبتت قدرته تعالى في هذه الصورة على القلب من النور إلى الظلمة وبالعكس فأي امتناع في ثبوت قدرته على القلب من الحياة إلى الموت مرة ومن الموت إلى الحياة أخرى وأما وجه دلالته على النبوة فلأنه تعالى يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين وفي بعثة الأنبياء والرسل إلى الخلق منافع عظيمة فما المانع من بعثتهم إلى الخلق لأجل تحصيل تلك المنافع فقد ثبت أن هذه الكلمة الواحدة كافية في إقامة الدلالة على تصحيح الأصول الثلاثة التي منها منشؤ كفرهم واستحقاقهم العذاب ثم في الآية سؤالان
السؤال الأول ما السبب في أن جعل الإبصار للنهار وهو لأهله جوابه تنبيهاً على كمال هذه الصفة فيه
السؤال الثاني لما قال جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ فلم لم يقل والنهار لتبصروا فيه جوابه لأن السكون في الليل هو المقصود من الليل وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود بل هو وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية
وأما قوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خص المؤمنين بالذكر وإن كانت أدلة للكل من حيث اختصوا بالقبول والانتفاع على ما تقدم في نظائره
وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ
اعلم أن هذا هو العلامة الثانية لقيام القيامة
أما قوله وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ ففيه وجوه أحدها أنه شيء شبيه بالقرن وأن إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه بإذن الله تعالى فإذا سمع الناس ذلك الصوت وهو في الشدة بحيث لا تحتمله طبائعهم يفزعون عنده ويصعقون ويموتون وهو كقوله تعالى فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ ( المدثر 8 ) وهذا قول الأكثرين وثانيها يجوز أن يكون تمثيلاً لدعاء الموت فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش عند سماع صوت الآلة وثالثها أن الصور جمع الصور وجعلوا النفخ فيها نفخ الروح والأول أقرب لدلالة الظاهر عليه ولا مانع يمنع منه
أما قوله فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ فاعلم أنه إنما قال ( ففزع ) ولم يقل فيفزع للإشعار بتحقيق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به والمراد فزعهم عند النفخة الأولى(24/188)
أما قوله إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ فالمراد إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة قالوا هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وقيل الشهداء وعن الضحاك الحور وخزنة النار وحملة العرش وعن جابر موسى منهم لأنه صعق مرة ومثله قوله تعالى وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) وليس فيه خبر مقطوع والكتاب إنما يدل على الجملة
أما قوله وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ فقرىء ( أتوه ) و ( أتاه ) ودخرين وداخرين فالجمع على المعنى والتوحيد على اللفظ والداخر والدخر الصاغر وقيل معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمر الله وانقيادهم له
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَة ً وَهِى َ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَى ْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
اعلم أن هذا هو العلامة الثالثة لقيام القيامة وهي تسيير الجبال والوجه في حسبانهم أنها جامدة فلأن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر إليها أنها واقفة مع أنها تمر مراً حثيثاً
أما قوله صُنْعَ اللَّهِ فهو من المصادر المؤكدة كقوله وَعَدَ اللَّهُ ( النساء 95 ) و صِبْغَة َ اللَّهِ ( البقرة 138 ) إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ والمعنى أنه لما قدم ذكر هذه الأمور التي لا يقدر عليها سواه جعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب قال القاضي عبد الجبار فيه دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه والجواب أن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات فيمتنع وصف الأعراض بها والله أعلم
مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَة ِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما تكلم في علامات القيامة شرح بعد ذلك أحوال المكلفين بعد قيام القيامة والمكلف إما أن يكون مطيعاً أو عاصياً أما المطيع فهو الذي جاء بالحسنة وله أمران أحدهما أن له ما هو خير منها وذلك هو الثواب فإن قيل الحسنة التي جاء العبد بها يدخل فيها معرفة الله تعالى والإخلاص في الطاعات والثواب إنما هو الأكل والشرب فكيف يجوز أن يقال الأكل والشرب خير من معرفة الله جوابه من جوابه(24/189)
أحدها أن ثواب المعرفة النظرية الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة ولذة النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة ولو لم تحمل الآية على ذلك لزم أن يكون الأكل والشرب خيراً من معرفة الله تعالى وأنه باطل وثانيها أن الثواب خير من العمل من حيث إن الثواب دائم والعمل منقضي ولأن العمل فعل العبد والثواب فعل الله تعالى وثالثها فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا أي له خير حاصل من جهتها وهو الجنة
السؤال الثاني الحسنة لفظة مفردة معرفة وقد ثبت أنها لا تفيد العموم بل يكفي في تحققها حصول فرد وإذا كان كذلك فلنحملها على أكمل الحسنات شأناً وأعلاها درجة وهو الإيمان فلهذا قال ابن عباس من أفراد الحسنة كلمة الشهادة وهذا يوجب القطع بأن لا يعاقب أهل الإيمان وجوابه ذلك الخير هو أن لا يكون عقابه مخلداً الأمر الثاني للمطيع هو أنهم آمنون من كل فزع لا كما قال بعضهم إن أهوال القيامة تعم المؤمن والكافر فإن قيل أليس أنه تعالى قال في أول الآية فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( النمل 87 ) فكيف نفى الفزع ههنا جوابه أن الفزع الأول هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس لشدة تقع وهو يفجأ من رعب وهيبة وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه كما قيل يدخل الرجل بصدر هياب وقلب وجاب وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة وأما الثاني فالخوف من العذاب أما قراءة من قرأ من فزع بالتنوين فهي تحتمل معنيين من فزع واحد وهو خوف العقاب وأما ما يلحق الإنسان من الهيبة والرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد وفي الأخبار ما يدل عليه ومن فزع شديد مفرط الشدة لا يكتنهه الوصف وهو خوف النار وأمن يعدي بالجار وبنفسه كقوله تعالى أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ ( الأعراف 99 ) فهذا شرح حال المطيعين أما شرح حال العصاة فهو قوله وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ قيل السيئة الإشراك وقوله فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ فاعلم أنه يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة فكأنه قيل فكبوا في النار كقوله فَكُبْكِبُواْ ( الشعراء 94 ) ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذاناً بأنهم يلقون على وجوههم فيها ( مكبوبين )
أما قوله هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فيجوز فيه الالتفات وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول
إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَة ِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَى ءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين المبدأ والمعاد والنبوة ومقدمات القيامة وصفة أهل القيامة من الثواب(24/190)
والعقاب وذلك كمال ما يتعلق ببيان أصول الدين ختم الكلام بهذه الخاتمة اللطيفة فقال قل يا محمد إني أمرت بأشياء الأول أني أمرت أن أخص الله وحده بالعبادة ولا أتخذ له شريكاً وأن الله تعالى لما قدم دلائل التوحيد فكأنه أمر محمداً بأن يقول لهم هذه الدلائل التي ذكرتها لكم إن لم تفد لكم القول بالتوحيد فقد أفادت لي ذلك فسواء قبلتم هذه الدعوة أو أعرضتم عنها فإني مصر عليها غير مرتاب فيها ثم إنه وصف الله تعالى بأمرين أحدهما أنه رب هذه البلدة والمراد مكة وإنما اختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه وأشار إليها إشارة تعظيم لها دالاً على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه
أما قوله الَّذِى حَرَّمَهَا فقرىء ( التي حرمها ) وإنما وصفها بالتحريم لوجوه أحدها أنه حرم فيها أشياء على من يحج وثانيها أن اللاجيء إليها آمن وثالثها لا ينتهك حرمتها إلا ظالم ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها وإنما ذكر ذلك لأن العرب كانوا معترفين بكون مكة محرمة وعلموا أن تلك الفضيلة ليست من الأصنام بل من الله تعالى فكأنه قال لما علمت وعلمتم أنه سبحانه هو المتولي لهذه النعم وجب عليَّ أن أخصه بالعبادة وثانيها وصف الله تعالى بقوله وَلَهُ كُلُّ شَىء وهذا إشارة إلى ما تقدم من الدلائل المذكورة في هذه السورة على التوحيد من كونه تعالى خالقاً لجميع النعم فأجمل ههنا تلك المفصلات وهذا كمن أراد صفة بعض الملوك بالقوة فيعد تلك التفاصيل ثم بعد التطويل يقول إن كل العالم له وكل الناس في طاعته الثاني أمر بأن يكون من المسلمين الثالث أمر بأن يتلو القرآن عليهم ولقد قام بكل ذلك صلوات الله عليه أتم قيام فمن اهتدى في هذه المسائل الثلاث المتقدمة وهي التوحيد والحشر والنبوة فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ أي منفعة اهتدائه راجعة إليه وَمَن ضَلَّ فلا علي وما أنا إلا رسول منذر ثم إنه سبحانه ختم هذه ( السورة ) بخاتمة في نهاية الحسن وهي قوله وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أعطاني من نعمة العلم والحكمة والنبوة أو على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة وبالإنذار سَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ القاهرة فَتَعْرِفُونَهَا لكن حين لا ينفعكم الإيمان وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ لأنه من وراء جزاء العاملين والله أعلم
تم تفسير السورة والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي الأمي
وعلى آله وصحبه أجمعين على أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين
والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين(24/191)
سورة القصص
مكية كلها إلا قوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ إِلَى قَوْلُهُ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ وقيل إلا آية وهي إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ الآية وهي سبع
أو ثمان وثمانون آية
طس م تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَة ً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْى ِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة ً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأرض وَنُرِى َ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ
اعلم أن قوله تعالى طسم كسائر الفواتح وقد تقدم القول فيها و تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة و الْكِتَابِ الْمُبِينِ هو إما اللوح وإما الكتاب الذي وعد الله إنزاله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فبين أن آيات هذه السورة هي آيات ذلك الكتاب ووصفه بأنه مبين لأنه بين فيه الحلال والحرام أو لأنه بين بفصاحته أنه من كلام الله دون كلام العباد أو لأنه يبين صدق نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو لأنه يبين خبر الأولين والآخرين أو لأنه يبين كيفية التخلص عن شبهات أهل الضلال
أما قوله تعالى نَقُصُّ عَلَيْكَ أي على لسان جبريل عليه السلام لأنه كان يتلو على محمد حتى يحفظه وقوله مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فهو مفعول نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نتلو عليك بعض خبرهما بالحق محقين كقوله تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( المؤمنون 20 ) وقوله لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيه وجهان أحدهما أنه تعالى قد أراد(24/192)
بذلك من لا يؤمن أيضاً لكنه خص المؤمنين بالذكر لأنهم قبلوا وانتفعوا فهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والثاني يحتمل أنه تعالى علم أن الصلاح في تلاوته هو إيمانهم وتكون إرادته لمن لا يؤمن كالتبع قوله تعالى إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ قرىء فرعون بضم الفاء وكسرها والكسر أحسن وهو كالقسطاس والقسطاس عَلاَ استكبر وتجبر وتعظم وبغى والمراد به قوة الملك والعلو في الأرض يعني أرض مملكته ثم فصل الله تعالى بعض ذلك بقوله وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً أي فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم مخالفته أو يشيع بعضهم بعضاً في استخدامه أو أصنافاً في استخدامه أو فرقاً مختلفة قد أغرى بينهم العداوة ليكونوا له أطوع أو المراد ما فسره بقوله يَسْتَضْعِفُ طَائِفَة ً مّنْهُمْ أي يستخدمهم يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فهذا هو المراد بالشيع قوله يَسْتَضْعِفُ طَائِفَة ً مّنْهُمْ تلك الطائفة بنو إسرائيل وفي سبب ذبح الأبناء وجوه أحدها أن كاهناً قال له يولد مولود في بني إسرائيل في ليلة كذا يذهب ملكك على يده فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً فقتلهم وعند أكثر المفسرين بقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة قال وهب قتل القبط في طلب موسى عليه السلام تسعين ألفاً من بني إسرائيل قال بعضهم في هذا دليل على حمق فرعون فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن وإن كذب فما وجه القتل وهذا السؤال قد يذكر في تزييف علم الأحكام من علم النجوم ونظيره ما يقوله نفاة التكليف إن كان زيد في علم الله وفي قضائه من السعداء فلا حاجة إلى الطاعة وإن كان من الأشقياء فلا فائدة في الطاعة وأيضاً فهذا السؤال لو صح لبطل علم التعبير ومنفعته وأيضاً فجواب المنجم أن النجوم دلت على أنه يولد ولد لو لم يقتل لصار كذا وكذا وعلى هذا التقدير لا يكون السعي في قتله عبثاً
واعلم أن هذا الوجه ضعيف لأن إسناد مثل هذا الخبر إلى الكاهن اعتراف بأنه قد يخبر عن الغيب على سبيل التفصيل ولو جوزناه لبطلت دلالة الأخبار عن الغيب على صدق الرسل وهو بإجماع المسلمين باطل وثانيها وهو قول السدي أن فرعون رأى في منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس واشتملت على مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل فسأل عن رؤياه فقالوا يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يده هلاك مصر فأمر بقتل الذكور وثالثها أن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه وفرعون كان قد سمع ذلك فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل وهذا الوجه هو الأولى بالقبول قال صاحب ( الكشاف ) يَسْتَضْعِفُ حال من الضمير في وَجَعَلَ أو صفة لشيعا أو كلام مستأنف و يُذَبّحُ بدل من يَسْتَضْعِفُ وقوله إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يدل على أن ذلك القتل ما حصل منه إلا الفساد وأنه لا أثر له في دفع قضاء الله تعالى
أما قوله وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ فهو جملة معطوفة على قوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى عليه السلام وفرعون واقتصاصاً له واللفظ في قوله وَنُرِيدُ للاستقبال ولكن أريد به حكاية حال ماضية ويجوز أن يكون حالاً من يَسْتَضْعِفُ أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم فإن قيل كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله تعالى المن عليهم وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يتوقف إلى وقت آخر قلنا لما كان منة الله عليهم بتخليصهم من فرعون قريبة الوقوع جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم(24/193)
أما قوله وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة ً أي متقدمين في الدنيا والدين وعن مجاهد دعاة إلى الخير وعن قتادة ولاة كقوله وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ( المائدة 20 ) وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ يعني لملك فرعون وأرضه وما في يده
أما قوله وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الاْرْضِ فاعلم أنه يقال مكن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه ( أو يرقد ) فوطأه ومهده ونظيره أرض له ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام أن ينفذ أمرهم ويطلق أيديهم وقوله وَنُرِى َ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ قرىء وَيَرَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا أي يرون منهم ما كانوا خائفين منه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود بني إسرائيل
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمِّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّة ُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ ( القصص 5 ) ابتدأ بذكر أوائل نعمه في هذا الباب بقوله وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى والكلام في هذا الوحي ذكرناه في سورة طه ( 37 38 ) في قوله وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّة ً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى وقوله أَنْ أَرْضِعِيهِ كالدلالة على أنها أرضعته وليس في القرآن حد ذلك فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ أن يفطن به جيرانك ويسمعون صوته عند البكاء فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ قال ابن جريج إنه بعد أربعة أشهر صاح فألقى في اليم والمراد باليم ههنا النيل وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى والخوف غم يحصل بسبب مكروه يتوقع حصوله في المستقبل والحزن غم يلحقه بسبب مكروه حصل في الماضي فكأنه قيل ولا تخافي من هلاكه ولا تحزني بسبب فراقه أَنَاْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ لتكوني أنت المرضعة له وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلى أهل مصر والشام وقصة الإلقاء في اليم قد تقدمت في سورة طه وقال ابن عباس إن أم موسى عليه السلام لما تقارب ولادها كانت قابلة من القوابل التي وكلهم فرعون بالحبالى مصافية لأم موسى عليه السلام فلما أحست بالطلق أرسلت إليها وقالت لها قد نزل بي ما نزل ولينفعني اليوم حبك إياي فجلست القابلة فلما وقع موسى عليه السلام إلى الأرض هالها نور بين عينيه فارتعش كل مفصل منها ودخل حب موسى عليه السلام قلبها فقالت يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك ولكني وجدت لابنك هذا حباً شديداً فاحتفظي بابنك فإنه أراه عدونا فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل(24/194)
على أم موسى فقالت أخته يا أماه هذا الحرس فلفته ووضعته في تنور مسجور فطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا لم دخلت القابلة عليك قالت إنها حبيبة لي دخلت للزيارة فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى أين الصبي قالت لا أدري فسمعت بكاء في التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً فأخذته ثم إن أم موسى عليه السلام لما رأت فرعون جد في طلب الولدان خافت على ابنها فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتاً ثم تقذف التابوت في النيل فذهبت إلى نجار من أهل مصر فاشترت منه تابوتاً فقال لها ما تصنعين به فقالت ابن لي أخشى عليه كيد فرعون أخبؤه فيه وما عرفت أنه يفشي ذلك الخبر فلما انصرفت ذهب النجار ليخبر به الذباحين فلما جاءهم أمسك الله لسانه وجعل يشير بيده فضربوه وطردوه فلما عاد إلى موضعه رد الله عليه نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم به فضربوه وطردوه فلما عاد إلى موضعه رد الله نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم به فضربوه وطردوه فأخذ الله بصره ولسانه فجعل لله تعالى أنه إن رد عليه بصره ولسانه فإنه لا يد لهم عليه فعلم الله تعالى منه الصدق فرد عليه بصره ولسانه وانطلقت أم موسى وألقته في النيل وكان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها فقالوا أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه آسية بنت مزاحم وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطىء إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأمواج وتعلق بشجرة فقال فرعون ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه فنظرت آسية فرأت نوراً في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته وفتحته فإذا هي بصبي صغير في المهد وإذا نور بين عينيه فألقى الله محبته في قلوب القوم وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت وضمته إلى صدرها فقالت الغواة من قوم فرعون إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر فرقاً منك فهم فرعون بقتله فاستوهبته امرأة فرعون وتبنته فترك قتله
أما قوله ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ فالالتقاط إصابة الشيء من غير طلب والمراد بآل فرعون جواريه
أما قوله لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً فالمشهور أن هذه اللام يراد بها العاقبة قالوا وإلا نقض قوله وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّة ُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ ونقض قوله وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّة ً مّنّى ( طه 39 ) ونظير هذه اللام قوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( الأعراف 179 ) وقوله الشاعر لدوا للموت وابنوا للخراب
واعلم أن التحقيق ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن هذه اللام هي لام التعليل على سبيل المجاز وذلك لأن مقصود الشيء وغرضه يؤول إليه أمره فاستعملوا هذه اللام فيما يؤول إليه الشيء على سبيل التشبيه كإطلاق لفظ الأسد على الشجاع والبليد على الحمار قرأ حمزة والكسائي ( حزناً ) بضم الحاء وسكون الزاي والباقون بالفتح وهما لغتان مثل السقم والسقم
أما قوله كانوا خاطئين ففيه وجهان أحدهما قال الحسن معنى كَانُواْ خَاطِئِينَ ليس من الخطيئة(24/195)
بل المعنى وهم لا يشعرون أنه الذي يذهب بملكهم وأما جمهور المفسرين فقالوا معناه كانوا خاطئين فيما كانوا عليه من الكفر والظلم فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم وقرىء خاطين تخفيف خاطئين أي خاطين الصواب إلى الخطأ وبين تعالى أنها التقطته ليكون قرة عين لها وله جميعاً قال ابن إسحق إن الله تعالى ألقى محبته في قلبها لأنه كان في وجهه ملاحة كل من رآه أحبه ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور ولأنها لما فتحت التابوت رأته يمتص إصبعه ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال برصها ويقال ما كان لها ولد فأحبته قال ابن عباس لما قالت فِرْعَوْنَ قُرَّة ُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ فقال فرعون يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه فقال عليه السلام ( والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت لهداه الله تعالى كما هداها ) قال صاحب ( الكشاف ) قُرَّة ُ عَيْنٍ خبر مبتدأ محذوف ولا يقوى أن يجعل مبتدأ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ خبراً ولو نصب لكان أقوى وقراءة ابن مسعود دليل على أنه خبر قرأ لاَ تَقْتُلُوهُ قُرَّة ُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ وذلك لتقديم لا تقتلوه ثم قالت المرأة عَسَى أَن يَنفَعَنَا فنصيب منه خيراً أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا لأنه أهل للتبني
أما قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فأكثر المفسرين على أنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وعلى يده وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل وقال ابن عباس يريد لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه السلام وقال آخرون هذا من تمام كلام المرأة أي لا يشعر بنو إسرائيل وأهل مصر أن التقطناه وهذا قول الكلبي
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
ذكروا في قوله فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغاً وجوهاً أحدها قال الحسن فارغاً من كل هم إلا من هم موسى عليه السلام وثانيها قال أبو مسلم فراغ الفؤاد هو الخوف والإشفاق كقوله وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ( إبراهيم 43 ) وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) فارغاً صفراً من العقل والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والخوف ورابعها قال الحسن ومحمد بن إسحق فارغاً من الوحي الذي أوحينا إليها أن ألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك فجاءها الشيطان فقال لها كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجر فتوليت إهلاكه ولما أتاها خبر موسى عليه السلام أنه وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها وخامسها قال أبو عبيدة فارغاً من الحزن لعلمها بأنه لا يقتل اعتماداً على تكفل الله بمصلحته قال ابن قتيبة وهذا من العجائب كيف يكون فؤادها فارغاً من الحزن والله تعالى يقول لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يمتنع(24/196)
أنها لشدة ثقتها بوعد الله لم تخف عند إظهار اسمه وأيقنت أنها وإن أظهرت فإنه يسلم لأجل ذلك الوعد إلا أنه كان في المعلوم أن الإظهار يضر فربط الله على قلبها ويحتمل قوله إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا بالوحي فأمنت وزال عن قلبها الحزن فعلى هذا الوجه يصح أن يتأول على أن قلبها سلم من الحزن على موسى أصلاً وفيه وجه ثالث وهو أنها سمعت أن امرأة فرعون عطفت عليه وتبنته إن كادت لتبدي به بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحاً بما سمعت لولا أن سكنا ما بها من شدة الفرح والابتهاج لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الواثقين بوعد الله تعالى لا يتبنى امرأة فرعون اللعين وبعطفها وقرىء ( قرعاً ) أي خالياً من قولهم أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء وفرغاً من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر يعني بطل قلبها من شدة ما ورد عليها
أما قوله إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ فاعلم أن على قول من فسر الفراغ بالفراغ من الحزن قد ذكرنا تفسير قوله إِن كَادَتْ لَتُبْدِى وأما على قول من فسر الفراغ بحصول الخوف فذكروا وجوهاً أحدها قال ابن عباس كادت تخبر بأن الذي وجدتموه ابني وقال في رواية عكرمة كادت تقول واإبناه من شدة وجدها به وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع وقال الكلبي ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون وقال السدي لما أخذ ابنها كادت تقول هو ابني فعصمها الله تعالى ثم قال لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من المصدقين بوعد الله وهو قوله إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ( القصص 7 )
أما قوله وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ أي اتبعي أثره وانظري إلى أن وقع وإلى من صار وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم فَبَصُرَتْ بِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما أبصرته قال المبرد أبصرته وبصرت به بمعنى واحد وقوله عَن جُنُبٍ أي عن بعد وقرىء عن جانب وعن جنب والجنب الجانب أي نظرت نظرة مزورة متجانبة وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بحالها وغرضها
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَى ْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن قوله وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ يقتضي تحريمها من قبله فإذا لم يصح بالتعبد والنهي لتعذر التمييز فلا بد من فعل سواه وذلك الفعل يحتمل أنه تعالى مع حاجته إلى اللبن أحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء فلذلك لم يرضع أو أحدث في لبنهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه أو وضع في لبن أمه(24/197)
لذة فلما تعودها لا جرم كان يكره لبن غيرها وعن الضحاك كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها والمراضع جمع مرضع وهي المرأة التي ترضع أو جمع مرضع وهو موضع الرضاع أي الثدي أو الرضاع وقوله مِن قَبْلُ أي من قبل أن رددناه إلى أمه ومن قبل مجيء أخت موسى عليه السلام ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا فعند ذلك قالت أخته هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه وهم له ناصحون لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وإغذائه ولا يخونونكم فيه والنصح إخلاص العمل من شائبة الفساد وقال السدي إنها لما قالت وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ دل ظاهر ذلك على أن أهل البيت يعرفونه فقال لها هامان قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله فقالت ما أعرفه ولكني إنما قلت هم للملك ناصحون ليزول شغل قلبه وكل ما روي في هذا الباب يدل على أن فرعون كان بمنزلة آسية في شدة محبته لموسى عليه السلام لا على ما قال من زعم أنها كانت مختصة بذلك فقط ثم قال تعالى فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمّهِ بهذا الضرب من اللطف كَى ْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فيما كان وعدها من أنه يرده إليها ولقد كانت عالمة بذلك ولكن ليس الخبر كالعيان فتحققت بوجود الموعود وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فيه وجوه أربعة أحدها ولكن أكثر الناس في ذلك العهد وبعد لا يعلمون لإعراضهم عن النظر في آيات الله وثانيها قال الضحاك ومقاتل يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعدها برده إليها وثالثها هذا كالتعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى عليه السلام فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً ورابعها أن يكون المعنى إنا إنما رددناه إليها لَتَعْلَمُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ والمقصود الأصلي من ذلك الرد هذا الغرض الديني ولكن الأكثر لا يعلمون أن هذا هو الغرض الأصلي وأن ما سواه من قرة العين وذهاب الحزن تبع قال الضحاك لما قبل ثديها قال هامان إنك لأمه قالت لا قال فما بالك قبل ثديك من بين النسوة قالت أيها الملك إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن ما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي قالوا صدقت فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءَاتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَة َ عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَب إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَى َّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ
اعلم أن في قوله بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى قولين أحدهما أنهما بمعنى واحد وهو استكمال القوة(24/198)
واعتدال المزاج والبنية والثاني وهو الأصح أنهما معنيان متغايران ثم اختلفوا على وجوه أحدها وهو الأقرب أن الأشد عبارة عن كمال القوة الجسمانية البدنية والاستواء عبارة عن كمال القوة العقلية وثانيها الأشد عبارة عن كمال القوة والاستواء عبارة عن كمال البنية والخلقة وثالثها الأشد عبارة عن البلوغ والاستواء عبارة عن كمال الخلقة ورابعها قال ابن عباس الأشد ما بين الثمان عشرة سنة إلى الثلاثين ثم من الثلاثين سنة إلى الأربعين يبقى سواء من غير زيادة ولا نقصان ومن الأربعين يأخذ في النقصان وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما حق لأن الإنسان يكون في أول العمر في النمو والتزايد ثم يبقى من غير زيادة ولا نقصان ثم يأخذ في الانتقاص فنهاية مدة الازدياد من أول العمر إلى العشرين ومن العشرين إلى الثلاثين يكون التزايد قليلاً والقوة قوية جداً ثم من الثلاثين إلى الأربعين يقف فلا يزداد ولا ينتقص ومن الأربعين إلى الستين يأخذ في الانتقاص الخفي ومن الستين إلى آخر العمر يأخذ في الانتقاص البين الظاهر ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة والحكمة فيه ظاهرة لأن الإنسان يكون إلى رأس الأربعين قواه الجسمانية من الشهوة والغضب والحس قوية مستكلمة فيكون الإنسان منجذباً إليها فإذا انتهى إلى الأربعين أخذت القوى الجسمانية في الانتقاص والقوة العقلية في الازدياد فهناك يكون الرجل أكمل ما يكون فلهذا السر اختار الله تعالى هذا السن للوحي
المسألة الثانية اختلفوا في واحد الأشد قال الفراء الأشد واحدها شد في القياس ولم يسمع لها بواحد وقال أبو الهيثم واحد الأشد شدة كما أن واحدة الأنعم نعمة والشدة القوة والجلادة
أما قوله اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ففيه وجهان الأول أنها النبوة وما يقرن بها من العلوم والأخلاق وعلى هذا التقدير ليس في الآية دليل على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده لأن الواو في قوله وَدَخَلَ الْمَدِينَة َ لا تفيد الترتيب الثاني آتيناه الحكمة والعلم قال تعالى وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة ِ ( الأحزاب 34 ) وهذا القول أولى لوجوه أحدها أن النبوة أعلى الدرجات البشرية فلا بد وأن تكون مسبوقة بالكمال في العلم والسيرة المرضية التي هي أخلاق الكبراء والحكماء وثانيها أن قوله وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ يدل على أنه إنما أعطاه الحكم والعلم مجازاة على إحسانه والنبوة لا تكون جزاء على العمل وثالثها أن المراد بالحكم والعلم لو كان هو النبوة لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين لقوله وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ لأن قوله وَكَذالِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الحكم والعلم ثم بين إنعامه عليه قبل قتل القبطي وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المدينة فالجمهور على أنها هي المدينة التي كان يسكنها فرعون وهي قرية على رأس فرسخين من مصر وقال الضحاك هي عين شمس
المسألة الثانية اختلفوا في معنى قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ مّنْ أَهْلِهَا على أقوال فالقول الأول أن موسى عليه السلام لما بلغ أشده واستوى وآتاه الله الحكم والعلم في دينه ودين آبائه علم أن فرعون وقومه على الباطل فتكلم بالحق وعاب دينهم واشتهر ذلك منه حتى آل الأمر إلى أن أخافوه وخافهم وكان له من بني(24/199)
إسرائيل شيعة يقتدون به ويسمعون منه وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفاً فدخلها يوماً على حين غفلة من أهلها ثم الأكثرون على أنه عليه السلام دخلها نصف النهار وقت ما هم قائلون وعن ابن عباس يريد بين المغرب والعشاء والأول أولى لأنه تعالى أضاف الغفلة إلى أهلها وإذا دخل المرء مستتراً لأجل خوف لا تضاف الغفلة إلى القوم القول الثاني قال السدي إن موسى عليه السلام حين كبر كان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ما يلبس ويدعى موسى ابن فرعون فركب يوماً في أثره فأدركه المقيل في موضع فدخلها نصف النهار وقد خلت الطرق فهو قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ القول الثالث قال ابن زيد ليس المراد من قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ مّنْ أَهْلِهَا حصول الغفلة في تلك الساعة بل المراد الغفلة من ذكر موسى وأمره فإن موسى حين كان صغيراً ضرب رأس فرعون بالعصا ونتف لحيته فأراد فرعون قتله فجيء بجمر فأخذه وطرحه في فيه فمنه عقدة لسانه فقال فرعون لا أقتله ولكن أخرجوه عن الدار والبلد فأخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر والقوم نسوا ذكره وذلك قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ ولا مطمع في ترجيح بعض هذه الروايات على بعض لأنه ليس في القرآن ما يدل على شيء منها
المسألة الثالثة قال تعالى فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ قال الزجاج قال هذا وهذا وهما غائبان على وجه الحكاية أي وجد فيها رجلين يقتتلان إذا نظر الناظر إليهما قال هذا من شيعته وهذا من عدوه ثم اختلفوا فقال مقاتل الرجلان كانا كافرين إلا أن أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط واحتج عليه بأن موسى عليه السلام قال له في اليوم الثاني إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ ( القصص 18 ) والمشهور أن الذي من شيعته كان مسلماً لأنه لا يقال فيمن يخالف الرجل في دينه وطريقه إنه من شيعته وقيل إن القبطي الذي سخر الإسرائيلي كان طباخ فرعون استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه وقيل الرجلان المقتتلان أحدهما السامري وهو الذي من شيعته والآخر طباخ فرعون والله أعلم بكيفية الحال فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه أي سأله أن يخلصه منه واستنصره عليه فوكزه موسى عليه السلام الوكز الدفع بأطراف الأصابع وقيل بجمع الكف وقرأ ابن مسعود ( فلكزه موسى ) وقال بعضهم الوكز في الصدر واللكز في الظهر وكان عليه السلام شديد البطش وقال بعض المفسرين فوكزه بعصاه قال المفضل هذا غلط لأنه لا يقال وكزه بالعصا فَقَضَى عَلَيْهِ أي أماته وقتله
المسألة الرابعة احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء عليه السلام من وجوه أحدها أن ذلك القبطي إما أن يقال إنه كان مستحق القتل أو لم يكن كذلك فإن كان الأول فلم قال هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ولم قال رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ ولم قال في سورة أخرى فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ ( الشعراء 20 ) وإن كان الثاني وهو أن ذلك القبطي لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنباً وثانيها أن قوله وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ يدل على أنه كان كافراً حربياً فكان دمه مباحاً فلم استغفر عنه والاستغفار عن الفعل المباح غير جائز لأنه يوهم في المباح كونه حراماً وثالثها أن الوكز لا يقصد به القتل ظاهراً فكان ذلك القتل قتل خطأ فلم استغفر منه والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يقال إنه كان لكفره مباح الدم
أما قوله هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ففيه وجوه أحدها لعل الله تعالى وإن أباح قتل الكافر إلا أنه قال(24/200)
الأولى تأخير قتلهم إلى زمان آخر فلما قتل فقد ترك ذلك المندوب فقوله هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان وثانيها أن قوله ( هذا ) إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه فقوله هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أي عمل هذا المقتول من عمل الشيطان المراد منه بيان كونه مخالفاً لله تعالى مستحقاً للقتل وثالثها أن يكون قوله ( هذا ) إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه يقال فلان من عمل الشيطان أي من أحزابه
أما قوله رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فعلى نهج قول آدم عليه السلام رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) والمراد أحد وجهين إما على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإن لم يكن هناك ذنب قط أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب
أما قوله فَاغْفِرْ لِى أي فاغفر لي ترك هذا المندوب وفيه وجه آخر وهو أن يكون المراد رب إني ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الملعون فإن فرعون لو عرف ذلك لقتلني به فَاغْفِرْ لِى أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون فَغَفَرَ لَهُ أي ستره عن الوصول إلى فرعون ويدل على هذا التأويل أنه على عقبه قال رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى َّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ولو كانت إعانة المؤمن ههنا سبباً للمعصية لما قال ذلك
وأما قوله فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ فلم يقل إني صرت بذلك ضالاً ولكن فرعون لما ادعى أنه كان كافراً في حال القتل نفى عن نفسه كونه كافراً في ذلك الوقت واعترف بأنه كان ضالاً أي متحيراً لا يدري ما يجب عليه أن يفعله وما يدبر به في ذلك أما قوله إن كان كافراً حربياً فلم استغفر عن قتله قلنا كون الكافر مباح الدم أمر يختلف باختلاف الشرائع فلعل قتلهم كان حراماً في ذلك الوقت أو إن كان مباحاً لكن الأولى تركه على ما قررنا قوله ذلك القتل كان قتل خطأ قلنا لا نسلم فلعل الرجل كان ضعيفاً وموسى عليه السلام كان في نهاية الشدة فوكزه كان قاتلاً قطعاً ثم إن سلمنا ذلك ولكن لعله عليه السلام كان يمكنه أن يخلص الإسرائيلي من يده بدون ذلك الوكز الذي كان الأولى تركه فلهذا أقدم على الاستغفار على أنا وإن سلمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية لكنا بينا أنه لا دليل ألبتة على أنه كان رسولاً في ذلك الوقت فيكون ذلك صادراً منه قبل النبوة وذلك لا نزاع فيه
المسألة الخامسة قالت المعتزلة الآية دلت على بطلان قول من نسب المعاصي إلى الله تعالى لأنه عليه السلام قال هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فنسب المعصية إلى الشيطان فلو كانت بخلق الله تعالى لكانت من الله لا من الشيطان وهو كقول يوسف عليه السلام مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى ( يوسف 100 ) وقول صاحب موسى عليه السلام وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ( الكهف 63 ) وقوله تعالى لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 27 )
أما قوله رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى َّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ففيه وجوه أحدها أن ظاهره يدل على أنه قال إنك لما أنعمت علي بهذا الإنعام فإني لا أكون معاوناً لأحد من المجرمين بل أكون معاوناً للمسلمين وهذا يدل على أن ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي كان طاعة لا معصية إذ لو كانت معصية لنزل الكلام منزلة ما إذا قيل إنك لما أنعمت علي بقبول توبتي عن تلك المعصية فإني أكون مواظباً على مثل تلك المعصية وثانيها قال القفال كأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً والباء للقسم أي(24/201)
بنعمتك علي وثالثها قال الكسائي والفراء إنه خبر ومعناه الدعاء كأنه قال فلا تجعلني ظهيراً قال الفراء وفي حرف عبدالله فَلاَ تَجْعَلْنِى ظَهِيرًا واعلم أن في الآية دلالة على أنه لا يجوز معاونة الظلمة والفسقة وقال ابن عباس لم يستثن ولم يقل فلن أكون ظهيراً إن شاء الله فابتلي به في اليوم الثاني وهذا ضعيف لأنه في اليوم الثاني ترك الإعانة وإنما خاف منه ذلك العدو فقال إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ ( القصص 19 ) لا أنه وقع منه
فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَة ِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالاٌّ مْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يامُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاٌّ مْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ يَسْعَى قَالَ يامُوسَى إِنَّ الْمَلاّ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
اعلم أن عند موت ذلك الرجل من الوكز أصبح موسى عليه السلام من غد ذلك اليوم خائفاً من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب به وخرج على استتار فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ وهو الإسرائيلي بِالاْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ يطلب نصرته بصياح وصراخ قال له موسى إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ قال أهل اللغة الغوي يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعل أي إنك لمغو لقومي فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه بسببك ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي واحتج به من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام فقال كيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول لرجل من شيعته يستصرخه إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ الجواب من وجهين الأول أن قوم موسى عليه السلام كانوا غلاظاً جفاة ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) فالمراد بالغوي المبين ذلك الثاني أنه عليه السلام إنما سماه غوياً لأن من تكثر منه المخاصمة على وجه يتعذر عليه دفع خصمه عما يرومه من ضرره يكون خلاف طريقة الرشد واختلفوا في قوله تعال قَالَ يَاءادَمُ مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ أهو من كلام الإسرائيلي أو القبطي فقال بعضهم لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غوي ورآه على غضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده فقال هذا القول وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس للرجل إلا هو وصار ذلك سبباً لظهور القتل ومزيد الخوف وقال آخرون بل هو قول القبطي وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي والظاهر هذا الوجه لأنه تعالى قال فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يامُوسَى مُوسَى(24/202)
فهذا القول إذن منه لا من غيره وأيضاً فقوله إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ لا يليق إلا بأن يكون قولاً للكافر
واعلم أن الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن وقيل المتعظم الذي لا يتواضع لأمر أحد ولما وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وانتهى إلى فرعون وهموا بقتله
أما قوله وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ يَسْعَى قال صاحب ( الكشاف ) يسعى يجوز ارتفاعه وصفاً لرجل وانتصابه حالاً عنه لأنه قد تخصص بقوله مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ والائتمار التشاور يقال الرجلان ( يتآمران ) يأتمران لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر والمعنى يتشاورون بسببك وأكثر المفسرين على أن هذا الرجل مؤمن آل فرعون فعلى وجه الإشفاق أسرع إليه ليخوفه بأن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك
أما قوله فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ أي خائفاً على نفسه من آل فرعون ينتظر هل يلحقه طلب فيؤخذ ثم التجأ إلى الله تعالى لعلمه بأنه لا ملجأ سواه فقال رَبّ نَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهذا يدل على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنباً وإلا لكان هو الظالم لهم وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم إياه ليقتلوه قصاصاً
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّة ً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَأجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجَرْتَ الْقَوِى ُّ الأَمِينُ قَالَ إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى َّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى َ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاٌّ جَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَى َّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ(24/203)
اعلم أن الناس اختلفوا في قوله وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ فال بعضهم إنه خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة فأوصله الله تعالى إلى مدين وهذا قول ابن عباس وقال آخرون لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى ومن الناس من قال بل جاءه جبريل عليه السلام وعلمه الطريق وذكر ابن جرير عن السدي لما أخذ موسى عليه السلام في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين واحتج من قال إنه خرج وما قصد مدين بأمرين أحدهما قوله وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ ولو كان قاصداً للذهاب إلى مدين لقال ولما توجه إلى مدين فلما لم يقل ذلك بل قال تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ علمنا أنه لم يتوجه إلا إلى ذلك الجانب من غير أن يعلم أن ذلك الجانب إلى أين ينتهي والثاني قوله عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السَّبِيلِ وهذا كلام شاك لا عالم والأقرب أن يقال إنه قصد الذهاب إلى مدين وما كان عالماً بالطريق ثم إنه كان يسأل الناس عن كيفية الطريق لأنه يبعد من موسى عليه السلام في عقله وذكائه أن لا يسأل ثم قال ابن إسحاق خرج من مصر إلى مدين بغير زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر
أما قوله عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السَّبِيلِ فهو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ ( الصافات 99 ) وموسى عليه السلام قلما يذكر كلاماً في الاستدلال والجواب والدعاء والتضرع إلا ما ذكره إبراهيم عليه السلام وهكذا الخلف الصدق للسلف الصالح صلوات الله عليهم وعلى جميع الطيبين المطهرين وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وهو الماء الذي يسقون منه وكان بئراً فيما روي ووروده مجيئه والوصول إليه وَجَدَ عَلَيْهِ أي فوق شفيره ومستقاه أُمَّة ٍ جماعة كثيرة العدد مِنَ النَّاسِ من أناس مختلفين وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ والذود الدفع والطرد فقوله ( تذودان ) أي تحبسان ثم فيه أقوال الأول تحبسان أغنامهما واختلفوا في علة ذلك الحبس على وجوه أحدها قال الزجاج لأن على الماء من كان أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي وثانيها كانتا تكرهان المزاحمة على الماء وثالثها لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ورابعها لئلا تختلطا بالرجال القول الثاني كانتا تذودان عن وجوههما نظراً الناظر ليراهما والقول الثالث تذودان الناس عن غنمهما القول الرابع قال الفراء تحبسانها عن أن تتفرق وتتسرب قَالَ مَا خَطْبُكُمَا أي ما شأنكما وحقيقته ما مخطوبكما أي مطلوبكما من الذياد فسمى المخطوب خطباً كما يسمى المشئون شأناً في قولك ما شأنك قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ(24/204)
وذلك يدل على ضعفهما عن السقي من وجوه أحدها أن العادة في السقي للرجال والنساء يضعفن عن ذلك وثانيها ما ظهر من ذودهما الماشية على طريق التأخير وثالثها قولهما حتى يصدر الرعاء ورابعها انتظارهما لما يبقى من القوم من الماء وخامسها قولهما وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ودلالة ذلك على أنه لو كان قوياً حضر ولو حضر لم يتأخر السقي فعند ذلك سقى لهما قبل صدر الرعاء وعادتا إلى أبيهما قبل الوقت المعتاد قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الدال فالمعنى في القرارة الأولى حتى ينصرفوا عن الماء ويرجعوا عن سقيهم وصدر ضد ورد ومن قرأ بضم الياء فالمعنى في القراءة حتى يصدر القوم مواشيهم
أما قوله فَسَقَى لَهُمَا أي سقى غنمهما لأجلهما وفي كيفية السقي أقوال أحدها أنه عليه السلام سأل القوم أن يسمحوا فسمحوا وثانيهما قال قوم عمد إلى بئر على رأسه صخرة لا يقلها إلا عشرة وقيل أربعون وقيل مائة فنحاها بنفسه واستقى الماء من ذلك البئر وثالثها أن القوم لما زاحمهم موسى عليه السلام تعمدوا إلقاء ذلك الحجر على رأس البئر فهو عليه السلام رمى ذلك الحجر وسقى لهما وليس بيان ذلك في القرآن والله أعلم بالصحيح منه لكن المرأة وصفت موسى عليه السلام بالقوة فدل ذلك على أنها شاهدت منه ما يدل على فضل قوته وقال تعالى ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظّلّ وفيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر وفيه دلالة أيضاً على كمال قوة موسى عليه السلام قال الكلبي أتى موسى أهل الماء فسألهم دلواً من ماء فقالوا له إن شئت ائت الدلو فاستق لهما قال نعم وكان يجتمع على الدلو أربعون رجلاً حتى يخرجوه من البئر فأخذ موسى عليه السلام الدلو فاستقى به وحده وصب في الحوض ودعا بالبركة ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما فإن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب أن يرضى لابنتيه بسقي الماشية قلنا ليس في القرآن ما يدل على أن أباهما كان شعيباً والناس مختلفون فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما إن أباهما هو بيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعدما عمي وهو اختيار أبي عبيد وقال الحسن إنه رجل مسلم قبل الدين عن شعيب على أنا وإن سلمنا أنه كان شعيباً عليه السلام لكن لا مفسدة فيه لأن الدين لا يأباه وأما المروءة فالناس فيها مختلفون وأحوال أهل البادية غير أحوال أهل الحضر لا سيما إذا كانت الحالة حالة الضرورة
وأما قوله قَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فالمعنى إني لأي شيء أنزلت إلي من خير قليل أو كثير غث أو سمين لفقير وإنما عدى فقيراً باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب
واعلم أن هذا الكلام يدل على الحاجة إما إلى الطعام أو إلى غيره إلا أن المفسرين حملوه على الطعام قال ابن عباس يريد طعاماً يأكله وقال الضحاك مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وروي أن موسى عليه السلام لما قال ذلك رفع صوته ليسمع المرأتين ذلك فإن قيل إنه عليه السلام لما بقي معه من القوة ما قدر بها على حمل ذلك الدلو العظيم فكيف يليق بهمته العالية أن يطلب الطعام أليس أنه عليه السلام قال ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي قوة سوي ) قلنا أما رفع الصوت بذلك لإسماع المرأتين وطلب الطعام فذاك لا يليق بموسى عليه السلام ألبتة فلا تقبل تلك الرواية ولكن لعله عليه السلام قال ذلك في نفسه مع ربه تعالى وفي الآية وجه آخر كأنه قال رب إني بسبب ما أنزلت إلي من خير الدين صرت فقيراً(24/205)
في الدنيا لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة فقال ذلك رضي بهذا البدل وفرحاً به وشكراً له وهذا التأويل أليق بحال موسى عليه السلام
أما قوله تعالى فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء فقوله عَلَى اسْتِحْيَاء في موضع الحال أي مستحيية قال عمر بن الخطاب قد استترت بكم قميصها وقيل ماشية على بعد مائلة عن الرجال وقال عبد العزيز بن أبي حازم على إجلال له ومنهم من يقف على قوله تَمْشِى ثم يبتدىء فيقول عَلَى اسْتِحْيَاء قالت إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ يعني أنها على الاستحياء قالت هذا القول لأن الكريم إذا دعا غيره إلى الضيافة يستحيي لا سيما المرأة وفي ذلك دلالة على أن شعيباً لم يكن له معين سواهما وروي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس قال لهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي أما الاختلاف في أن ذلك الشيخ كان شعيباً عليه السلام أو غيره فقد تقدم والأكثرون على أنه شعيب وقال محمد بن إسحاق في البنتين اسم الكبرى صفورا والصغرى ليا وقال غيره صفرا وصفيرا وقال الضحاك صافورا والتي جاءت إلى موسى عليه السلام هي الكبرى على قول الأكثرين وقال الكلبي الصغرى وليس في القرآن دلالة على شيء من هذه التفاصيل
أما قوله قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ففيه إشكالات أحدها كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية فإن ذلك يورث التهمة العظيمة وقال عليه السلام ( اتقوا مواضع التهم ) وثانيها أنه سقى أغنامهما تقرباً إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه فإن ذلك غير جائز في المروءة ولا في الشريعة وثالثها أنه عرف فقرهن وفقر أبيهن وعجزهم وأنه عليه السلام كان في نهاية القوة بحيث كان يمكنه الكسب الكثير بأقل سعي فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من السقي من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة ورابعها كيف يليق بشعيب النبي عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون ذلك الرجل عفيفاً أو فاسقاً والجواب عن الأول أن نقول أما العمل بقول امرأة فكما نعمل بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى في الأخبار وما كانت إلا مخبرة عن أبيها وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع والجواب عن الثاني أن المرأة وإن قالت ذلك فلعل موسى عليه السلام ما ذهب إليهم طلباً للأجرة بل للتبرك برؤية ذلك الشيخ وروي أنها لما قالت ليجزيك كره ذلك ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمناً حتى قال شعيب عليه السلام هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق تحمله فقبل ذلك على سبيل الاضطرار وهذا هو الجواب عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات والجواب عن الرابع لعله عليه السلام كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها فكان يعتمد عليها
أما قوله فَلَمَّا جَاءهُ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فكشفت عنها فقال موسى عليه السلام إني من عنصر إبراهيم عليه السلام فكوني من خلفي حتى لا ترفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحل لي فلما دخل على شعيب فإذا الطعام موضوع فقال شعيب تناول يا فتى فقال موسى عليه السلام أعوذ بالله قال شعيب ولم قال لأنا من أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً(24/206)
فقال شعيب ولكن عادتي وعادة آبائي إطعام الضيف فجلس موسى عليه السلام فأكل وإنما كره أكل الطعام خشية أن يكون ذلك أجرة له على عمله ولم يكره ذلك مع الخضر حين قال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ( الكهف 77 ) والفرق أن أخذ الأجر على الصدقة لا يجوز أما الاستئجار ابتداء فغير مكروه
أما قوله وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ فالقصص مصدر كالعلل سمي به المقصوص قال الضحاك لما دخل عليه قال له من أنت يا عبدالله فقال أنا موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي وأنهم يطلبونه ليقتلوه فقال شعيب لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا سلطان له بأرضنا فلسنا في مملكته وليس في الآية دلالة على أنه قال ذلك عن الوحي أو على ما تقتضيه العادة فإن قيل المفسرون قالوا إن فرعون يوم ركب خلف موسى عليه السلام ركب في ألف ألف وستمائة ألف فالملك الذي هذا شأنه كيف يعقل أن لا يكون في ملكه قرية على بعد ثمانية أيام من دار مملكته قلنا هذا وإن كان نادراً إلا أنه ليس بمحال
أما قوله قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ الْقَوِى ُّ الامِينُ ففيه مسائل
المسألة الأولى وصفته بالقوة لما شاهدت من كيفية السقي وبالأمانة لما حكينا من غض بصره حال ذودهما الماشية وحال سقيه لهما وحال مشيه بين يديها إلى أبيها
المسألة الثانية إنما جعل خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ اسماً و الْقَوِى ُّ الامِينُ خبراً مع أن العكس أولى لأن العناية هي سبب التقديم
المسألة الثالثة القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما الفطنة والكياسة فلم أهمل أمر الكياسة ويمكن أن يقال إنها داخلة في الأمانة عن ابن مسعود رضي الله ( أفرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف وأبو بكر في عمر )
أما قوله قَالَ إِنّى أُرِيدُ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى َّ فلا شبهة في أن هذا اللفظ وإن كان على الترديد لكنه عند التزويج عين ولا شبهة في أن العقد وقع على أقل الأجلين فكانت الزيادة كالتبرع والفقهاء ربما استدلوا به على أن العمل قد يكون مهراً كالمال وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز ولكنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا ويدل على أنه قد كان جائزاً في تلك الشريعة أن يشرط للولي منفعة وعلى أنه كان جائزاً في تلك الشريعة نكاح المرأة بغير بدل تستحقه المرأة وعلى أن عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد ثم قال هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى َ حِجَجٍ تأجرني من أجرته إذا كنت له أجيراً وثماني حجج ظرفه أو من أجرته كذا إذا أثبته إياه ومنه أجركم الله ورحمكم وثماني حجج مفعول به ومعناه رعية ثماني حجج ثم قال وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ وفيه وجهان الأول لا أريد أن أشق عليك بإلزام أثم الرجلين فإن قيل ما حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر قلنا حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين تقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه الثاني لا أريد أن أشق عليك في الرعي ولكني أساهلك فيها وأسامحك بقدر الإمكان ولا أكلفك الاحتياط الشديد في كيفية الرعي وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس ومنه الحديث ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شريكي فكان خير شريك لا يداري ولا يشاري ولا يماري ) ثم قال سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وفيه وجهان الأول يريد بالصلاح حسن المعاملة(24/207)
ولين الجانب والثاني يريد الصلاح على العموم ويدخل تحته حسن المعاملة وإنما قال إن شاء الله للاتكال على توفيقه ومعونته
فإن قيل فالعقد كيف ينعقد مع هذا الشرط فإنك لو قلت امرأتي طالق إن شاء الله لا تطلق قلنا هذا مما يختلف بالشرائع
أما قوله تعالى قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ فاعلم أن ذلك مبتدأ وبيني وبينك خبره وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب عليه السلام يريد ذلك الذي قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعاً لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما شرطت علي ولا أنت عما شرطت على نفسك ثم قال أَيَّمَا الاْجَلَيْنِ قَضَيْتُ من الأجلين أطولهما الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان فَلاَ عُدْوَانَ عَلَى َّ أي لا يعتدي عليَّ في طلب الزيادة أراد بذلك تقرير أمر الخيار يعني إن شاء هذا وإن شاء هذا ويكون اختيار الأجل الزائد موكولاً إلى رأيه من غير أن يكون لأحد عليه إجبار ثم قال وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر ولما استعمل الوكيل في معنى الشاهد عدي بعلي لهذا السبب
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاٌّ جَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لاًّهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى ءَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَة ٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِى َ مِن شَاطِى ءِ الْوَادِى الأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ مِنَ الشَّجَرَة ِ أَن يامُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاٌّ مِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُو ءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
اعلم أنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( تزوج صغراهما وقضى أوفاهما ) أي قضى أوفى الأجلين وقال مجاهد قضى الأجل عشر سنين ومكث بعد ذلك عنده عشر سنين وقوله فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءانَسَ(24/208)
يدل على أن ذلك الإيناس حصل عقيب مجموع الأمرين ولا يدل على أنه حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل فبطل ما قاله القاضي من أن ذلك يدل على أنه لم يزد عليه وقوله وَسَارَ بِأَهْلِهِ ليس فيه دلالة على أنه خرج منفرداً معها وقوله امْكُثُواْ فيه دلالة على الجمع
أما قوله إِنّى آنَسْتُ نَاراً فقد مر تفسيره في سورة طه والنمل
أما قوله فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ ففيه أبحاث
الأول قال صاحب ( الكشاف ) الجذوة باللغات الثلاث وقد قرىء بهن جميعاً وهو العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن قال الزجاج الجذوة القطعة الغليظة من الحطب
الثاني قد حكينا في سورة طه أنه أظلم عليه الليل في الصحراء وهبت ريح شديدة فرقت ماشيته وضل وأصابهم مطر فوجدوا برداً شديداً فعنده أبصر ناراً بعيدة فسار إليها يطلب من يدله على الطريق وهو قوله مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ أو آتيكم من هذه النار بجذوة من الحطب لعلكم تصطلون وفي قوله فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ دلالة على إنه ضل وفي قوله لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ دلالة على البرد
أما قوله فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِى َ مِن شَاطِىء الْوَادِى الايْمَنِ فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ مِنَ الشَّجَرَة ِ أَن يامُوسَى مُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فاعلم أن شاطىء الوادي جانبه وجاء النداء عن يمين موسى من شاطىء الوادي من قبل الشجرة وقوله مِنَ الشَّجَرَة ِ بدل من قوله مِن شَاطِىء الْوَادِى بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء كقوله لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ ( الزخرف 33 ) وإنما وصف البقعة بكونها مباركة لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة وتكليم الله تعالى إياه وههنا مسائل
المسألة الأولى احتجت المعتزلة على قولهم إن الله تعالى متكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله مِنَ الشَّجَرَة ِ فإن هذا صريح في أن موسى عليه السلام سمع النداء من الشجرة والمتكلم بذلك النداء هو الله سبحانه وهو تعالى منزه أن يكون في جسم فثبت أنه تعالى إنما يتكلم بخلق الكلام في جسم أجاب القائلون بقدم الكلام فقالوا لنا مذهبان الأول قول أبي منصور الماتريدي وأئمة ما وراء النهر وهو أن الكلام القديم القائم بذات الله تعالى غير مسموع إنما المسموع هو الصوت والحرف وذلك كان مخلوقاً في الشجرة ومسموعاً منها وعلى هذا التقدير زال السؤال الثاني قول أبي الحسن الأشعري وهو أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعاً كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية فعلى هذا القول لا يبعد أنه سمع الحرف والصوت من الشجرة وسمع الكلام القديم من الله تعالى لا من الشجرة فلا منافاة بين الأمرين واحتج أهل السنة بأن محل قوله إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لو كان هو الشجرة لكان قد قالت الشجرة إني أنا الله والمعتزلة أجابوا بأن هذا إنما يلزم لو كان المتكلم بالكلام هو محل الكلام لا فاعله وهذا هو أصل المسألة أجاب أهل السنة بأن الذراع المسموم قال لا تأكل مني فإني مسموم ففاعل ذلك الكلام هو الله تعالى فإن كان المتكلم بالكلام هو فاعل ذلك الكلام لزم أن يكون الله قد قال لا تأكل مني فإني مسموم وهذا باطل وإن كان المتكلم هو محل الكلام لزم أن تكون الشجرة قد قالت إني أنا الله وكل ذلك باطل
المسألة الثانية يحتمل أن يقال إنه تعالى خلق فيه علماً ضرورياً بأن ذلك الكلام كلام الله والمعتزلة لا يرضون بذلك قالوا لأنه لو علم بالضرورة أن ذلك الكلام كلام الله لوجب أن يعلم بالضرورة وجود الله تعالى(24/209)
لأنه يستحيل أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلومة بالنظر ولو علم موسى أنه الله تعالى بالضرورة لزال التكليف ويحتمل أن يقال إنه تعالى لما أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت عرف أن مثل ذلك الكلام لا يمكن أن يكون كلام الخلق ويحتمل أن يقال إن ظهور الكلام من الشجرة كظهور التسبيح من الحصى في أنه يعلم أن مثل ذلك لا يكون إلا من الله تعالى ويحتمل أن يكون المعجز هو أنه رأى النار في الشجرة الرطبة فعلم أنه لا يقدر على الجمع بين النار وبين خضرة الشجرة إلا الله تعالى ويحتمل أن يصح ما يروى أن إبليس لما قال له كيف عرفت أنه نداء الله تعالى قال لأني سمعته بجميع أجزائي فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء علم أن ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى وهذا إنما يصح على مذهبنا حيث قلنا البنية ليست شرطاً
المسألة الثالثة قال في سورة النمل ( 8 ) نُودِى َ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وقال ههنا يامُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقال في طه ( 11 12 ) نُودِى َ إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء
المسألة الرابعة قال الحسن إن موسى عليه السلام نودي نداء الوحي لا نداء الكلام والدليل عليه قوله تعالى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى قال الجمهور إن الله تعالى كلمه من غير واسطة والدليل عليه قوله تعالى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) وسائر الآيات وأما الذي تمسك به الحسن فضعيف لأن قوله فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى لم يكن بالوحي لأنه لو كان ذلك أيضاً بالوحي لانتهى آخر الأمر إلى كلام يسمعه المكلف لا بالوحي وإلا لزم التسلسل بل المراد من قوله فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى وصيته بأن يتشدد في الأمور التي تصل إليه في مستقبل الزمان بالوحي
أما قوله وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يامُوسَى مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاْمِنِينَ فقد تقدم تفسير كل ذلك وقوله كَأَنَّهَا جَانٌّ صريح في أنه تعالى شبهها بالجان ولم يقل إنه في نفسه جان فلا يكون هذا مناقضاً لكونه ثعباناً بل شبهها بالجان من حيث الاهتزاز والحركة لا من حيث المقدار وقد تقدم الكلام في خوفه ومعنى وَلَمْ يُعَقّبْ لم يرجع يقال عقب المقاتل إذا كر بعد الفر وقال وهب إنها لم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعتها حتى سمع موسى عليه السلام صرير أسنانها وسمع قعقعة الصخر في جوفها فحينئذ ولى واختلفوا في العصا على وجوه أحدها قالوا إن شعيباً كانت عنده عصي الأنبياء عليهم السلام فقال لموسى بالليل إذا دخلت ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي فأخذ عصا هبط بها آدم عليه السلام من الجنة ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب عليه السلام فقال أرني العصا فلمسها وكان مكفوفاً فضن بها فقال خذ غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له معها شأناً وروي أيضاً أن شعيباً عليه السلام أمر ابنته أن تأتي بعصا لأجل موسى عليه السلام فدخلت البيت وأخذت العصا وأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلم يقع في يدها غيرها فلما رأى الشيخ ذلك رضي به ثم ندم بعد ذلك وخرج يطلب موسى عليه السلام فلما لقيه قال أعطني العصا قال موسى هي عصاي فأبى أن يعطيه إياها فاختصما ثم توافقا على أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما فأتاهما ملك يمشي فقضى بينهما فقال ضعوها على الأرض فمن حملها فهي له فعالجها الشيخ فلم(24/210)
يطق وأخذها موسى عليه السلام بسهولة فتركها الشيخ لع ورعى له عشر سنين وثانيها روى ابن صالح عن ابن عباس قال كان في دار بيرون ابن أخي شعيب بيت لا يدخله إلا بيرون وابنته التي زوجها من موسى عليه السلام وأنها كانت تكنسه وتنطفه وكان في ذلك البيت ثلاث عشرة عصا وكان لبيرون أحد عشر ولداً من الذكور فكلما أدرك منهم ولد أمره بدخول البيت وإخراج عصا من تلك العصي فرجع موسى ذات يوم إلى منزله فلم يجد أهله واحتج إلى عصا لرعيه فدخل ذلك البيت وأخذ عصا من تلك العصي وخرج بها فلما علمت المرأة ذلك انطلقت إلى أبيها وأخبرته بذلك فسر بذلك بيرون وقال لها إن زوجك هذا لنبي وإن له مع هذه العصا لشأناً وثالثها في بعض الأخبار أن موسى عليه السلام لما عقد العقد مع شعيب وأصبح من الغد وأراد الرعي قال له شعيب عليه السلام اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ بها أكثر فإن بها تنيناً عظيماً فأخشى عليك وعلى الأغنام منه فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يردها فلم يقدر فسار على أثرها فرأى عشباً كثيراً ثم إن موسى عليه السلام نام والأغنام ترعى وإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى عليه السلام فقاتلته حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى وهي دامية فلما استيقظ موسى عليه السلام رأى العصا دامية والتنين مقتولاً فارتاح لذلك وعلم أن لله تعالى في تلك العصا قدرة وآية وعاد إلى شعيب عليه السلام وكان ضريراً فمس الأغنام فإذا هي أحسن حالاً مما كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى عليه السلام بالقصة ففرح بذلك وعلم أن لموسى عليه السلام وعصاه شأناً فأراد أن يجازي موسى عليه السلام على حسن رعيه إكراماً وصلة لابنته فقال إني وهبت لك من السخال التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقي الغنم منه ففعل ثم سقى الأغنام منه فما أخطت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى عليه السلام وامرأته فوفى له شرطه ورابعها قال بعضهم تلك العصا هي عصا آدم عليه السلام وإن جبريل عليه السلام أخذ تلك العصا بعد موت آدم عليه السلام فكانت معه حتى لقي بها موسى عليه السلام ربه ليلاً وخامسها قال الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً أي أخذها من عرض الشجر يقال اعترض إذا لم يتخير وعن الكلبي الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه ولا مطمع في ترجيح بعض هذه الوجوه على بعض لأنه ليس في القرآن ما يدل عليها والأخبار متعارضة والله أعلم بها
أما قوله تعالى اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء فاعلم أن الله تعالى قد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات أحدها هذه وثانيها قوله في طه ( 22 ) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء وثالثها قوله في النمل ( 12 ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ قال العزيزي في غريب القرآن اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ أدخلها فيه
أما قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فأحسن الناس كلاماً فيه قال صاحب ( الكشاف ) فيه معنيان أحدهما أن موسى عليه السلام لما قلب الله له العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار(24/211)
معجزة أخرى والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه الثاني أن يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعاره من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران ومعنى قوله مِنَ الرَّهْبِ من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك وقوله اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني إخفاء الرهب فإن قيل قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه وذلك قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ وقوله وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ( طه 22 ) فما التوفيق بينهما قلنا المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى وبالمضموم إليه اليد اليسرى وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح هذا كله كلام صاحب ( الكشاف ) وهو في نهاية الحسن
أما قوله تعالى فَذَانِكَ قرىء مخففاً ومشدداً فالمخفف مثنى ( ذا ) والمشدد مثنى ( ذان ) قوله بُرْهَانَانِ مِن رَّبّكَ حجتان نيرتان على صدقه في النبوة وصحة ما دعاهم إليه من التوحيد وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون حتى عرف ما الذي يظهره عنده من المعجزات لأنه تعالى حكى بعد ذلك عن موسى عليه السلام أنه قال إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ( القصص 33 ) قال القاضي وإذا كان كذلك فيجب أن يكون في حال ظهور البرهانين هناك من دعاه إلى رسالته من أهله أو غيرهم إذا المعجزات إنما تظهر على الرسل في حال الإرسال لا قبله وإنما تظهر لكي يستدل بها غيرهم على الرسالة وهذا ضعيف لأنه ثبت أنه لا بد في إظهار المعجزة من حكمة ولا حكمة أعظم من أن يستدل بها الغير على صدق المدعي وأما كونه لا حكمة ههنا فلا نسلم فلعل هناك أنواعاً من الحكم والمقاصد سوى ذلك لا سيما وهذه الآيات متطابقة على أنه لم يكن هناك مع موسى عليه السلام أحد
قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِأايَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِأايَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى ءَابَآئِنَا الاٌّ وَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّى أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(24/212)
اعلم أنه تعالى لما قال فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ( القصص 32 ) تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه فعند ذلك طلب من الله تعالى ما يقوي قلبه ويزيل خوفه فقال رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً لأنه كان في لسانه حبسة إما في أصل الخلقة وإما لأجل أنه وضع الجمرة في فيه عندما نتف لحية فرعون
أما قوله فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ رِدْءاً يُصَدّقُنِى ففيه أبحاث
البحث الأول الردء اسم ما يستعان به فعل بمعنى مفعول به كما أن الدفء اسم لما يدفأ به يقال ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشب أو غيره لئلا يسقط
البحث الثاني قرأ نافع ( رداً ) بغير همز والباقون بالهمز وقرأ عاصم وحمزة ( يصدقني ) برفع القاف ويروى ذلك أيضاً عن أبي عمرو والباقون بجزم القاف وهو المشهور عن أبي عمرو فمن رفع فالتقدير ردءاً مصدقاً لي ومن جزم كان على معنى الجزاء يعني أن أرسلته صدقني ونظيره قوله فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى ( مريم 5 6 ) بجزم الثاء من يرثني وروى السدي عن بعض شيوخه ردءاً كيما يصدقني
البحث الثالث الجمهور على أن التصديق لهرون وقال مقاتل المعنى كي يصدقني فرعون والمعنى أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان فعند اجتماع البرهانين ربما حصل المقصود من تصديق فرعون
البحث الرابع ليس الغرض بتصديق هرون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى وإنما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ألا ترى إلى قوله وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا في مجرد قوله صدقت
البحث الخامس قال الجبائي إنما سأل موسى عليه السلام أن يرسل هرون بأمر الله تعالى وإن كان لا يدري هل يصلح هرون للبعثة أم لا فلم يكن ليسأل مالا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة ويحتمل أيضاً أن يقال إنه سأله لا مطلقاً بل مشروطاً على معنى إن اقتضت الحكمة ذلك كما يقوله الداعي في دعائه
البحث السادس قال السدي إن نبيين وآيتين أقوى من نبي يواحد وآية واحدة قال القاضي والذي قاله من جهة العادة أقوى فأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ونبي ونبيين لأن المبعوث إليه إن نظر في أيهما كان علم وإن لم ينظر فالحالة واحدة هذا إذا كانت طريقة الدلالة في المعجزتين واحدة فإما إذا اختلفت وأمكن في إحداهما إزالة الشبهة ما لا يمكن في الأخرى فغير ممتنع أن يختلفا ويصلح عند ذلك أن يقال إنهما بمجموعهما أقوى من إحداهما على ما قاله السدي لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهرون عليهما السلام لأن معجزتهما كانت واحدة لا متغايرة(24/213)
أما قوله سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ فاعلم أن العضد قوام اليد وبشدتها تشتد يقال في دعاء الخير شد الله عضدك وفي ضده فت الله في عضدك ومعنى سنشد عضدك بأخيك سنقويك به فإما أن يكون ذلك لأن اليد تشتد لشدة العضد والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور وإما لأن الرجل شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة
أما قوله وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا فالمقصود أن الله تعالى آمنه مما كان يحذر فإن قيل بين تعالى أن السلطان هو بالآيات فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة وإن كانت هذه الآيات ظاهرة قلنا إن الآية التي هي قلب العصا حية كما أنها معجزة فهي أيضاً تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهرون عليهما السلام لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره وصارت آية ومعجزة فجمعت بين الأمرين فأما صلب السحرة ففيه خلاف فمنهم من قال ما صلبوا وليس في القرآن ما يدل عليه وإن سلمنا ذلك ولكنه تعالى قال فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا فالمنصوص أنهم لا يقدرون على إيصال الضرر إليهما وإيصال الضرر إلى غيرهما لا يقدح فيه ثم قال أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ والمراد إما الغلبة بالحجة والبرهان في الحال أو الغلبة في الدولة والمملكة في ثاني الحال والأول أقرب إلى اللفظ
أما قوله فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِئَايَاتِنَا بَيّنَاتٍ فقد بينا في سورة طه أنه كيف أطلق لفظ الآيات وهو جمع على العصا واليد
أما قوله قَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى فقد اختلفوا في مفترى فقال بعضهم المراد أنه إذا كان سحراً وفاعله يوهم خلافه فهو المفترى وقال الجبائي المراد أنه منسوب إلى الله تعالى وهو من قبله فكأنهم قالوا هو كذب من هذا الوجه ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم وهو قولهم وَمَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى ءابَائِنَا الاْوَّلِينَ أي ما حدثنا بكونه فيهم ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا مثله أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى عليه السلام ومجيئه بما جاء به
واعلم أن هذه الشبهة ساقطة لأن حاصلها يرجع إلى التقليد ولأن حال الأولين لا يخلو من وجهين إما أن لا يورد عليهم بمثل هذه الحجة فحينئذ الفرق ظاهر أو أورد عليهم فدفعوه فحينئذ لا يجوز جعل جهلهم وخطئهم حجة فعند ذلك قال موسى عليه السلام وقد عرف منهم العناد رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ فإن من أظهر الحجة ولم يجد من الخصم اعتراضاً عليها وإنما لما وجد منه العناد صح أن يقول ربي أعلم بمن معه الهدى والحجة منا جميعاً ومن هو على الباطل ويضم إليه طريق الوعيد والتخويف وهو قوله وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ من ثواب على تمسكه بالحق أو من عقاب وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة والدليل عليه قوله تعالى أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتِ عَدْنٍ ( الرعد 22 23 ) وقوله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ( البلد 42 ) والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها وعقباها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت فإن قيل العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار لأن الدنيا قد تكون خاتمتها بخير في حق البعض وبشر في حق البعض الآخر فلم(24/214)
اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر قلنا إنه قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأمر عباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليبلغوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق فمن عمل فيها خلاف ما وضعها الله له فقد حرف فإذن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله بِئَايَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ والمراد أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع بل يحصلون على ضد ذلك وهذا نهاية في زجرهم عن العناد الذي ظهر منهم
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأَيُّهَا الْملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحاً لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنِّى لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَة ِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ القِيَامَة ِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاٍّ ولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
اعلم أن فرعون كانت عادته متى ظهرت حجة موسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروجها على أغمار قومه وذكر ههنا شبهتين الأولى قوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى وهذا في الحقيقة يشتمل على كلامين أحدهما نفى إله غيره والثاني إثبات إلهية نفسه فأما الأول فقد كان اعتماده على أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته أما أنه لا دليل عليه فلأن هذه الكواكب والأفلاك كافية في اختلاف أحوال هذا العالم السفلي فلا حاجة إلى إثبات صانع وأما أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته فالأمر فيه ظاهر
واعلم أن المقدمة الأولى كاذبة فإنا لا نسلم أنه لا دليل على وجود الصانع وذلك لأنا إذا عرفنا بالدليل حدوث الأجسام عرفنا حدوث الأفلاك والكواكب وعرفنا بالضرورة أن المحدث لا بد له من محدث فحينئذ(24/215)
نعرف بالدليل أن هذا العالم له صانع والعجب أن جماعة اعتمدوا في نفي كثير من الأشياء على أن قالوا لا دليل عليه فوجب نفيه قالوا وإنما قلنا إنه لا دليل لأنا بحثنا وسبرنا فلم نجد عليه دليلاً فرجع حاصل كلامهم بعد التحقيق إلى أن كل ما لا يعرف عليه دليل وجب نفيه وإن فرعون لم يقطع بالنفي بل قال لا دليل عليه فلا أثبته بل أظنه كاذباً في دعواه ففرعون على نهاية جهله أحسن حالاً من هذا المستدل أما الثاني وهو إثباته إلهية نفسه فاعلم أنه ليس المراد منه أنه كان يدعي كونه خالقاً للسموات والأرض والبحار والجبال وخالقاً لذوات الناس وصفاتهم فإن العلم بامتناع ذلك من أوائل العقول فالشك فيه يقتضي زوال العقل بل الإله هو المعبود فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره فهذا هو المراد من ادعائه الإلهية لا ما ظنه الجمهور من ادعائه كونه خالقاً للسماء والأرض لا سيما وقد دللنا في سورة طه ( 49 ) في تفسير قوله فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى على أنه كان عارفاً بالله تعالى وأنه كان يقول ذلك ترويجاً على الأغمار من الناس الشبهة الثانية قوله فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّى صَرْحاً لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وههنا أبحاث
الأول تعلقت المشبهة بهذه الآية في أن الله تعالى في السماء قالوا لولا أن موسى عليه السلام دعاه إلى ذلك لما قال فرعون هذا القول والجواب أن موسى عليه السلام دل فرعون بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الشعراء 24 ) ولم يقل هو الذي في السماء دون الأرض فأوهم فرعون أنه يقول إن إلهه في السماء وذلك أيضاً من خبث فرعون ومكره ودهائه
الثاني اختلفوا في أن فرعون هل بنى هذا الصرح فال قوم إنه بناه قالوا إنه لما أمر ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل وقطعة وقعت في البحر وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك ويروى في هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه ورمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردت إليهم وهي ملطوخة بالدم فقال قد قتلت إله موسى فعند ذلك بعث الله تعالى جبريل عليه السلام لهدمه ومن الناس من قال إنه لم يبن ذلك الصرح لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها حين كان على قرار الأرض ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء ورجوعه متلطخاً بالدم فإن كل من كان كامل العقل يعلم أنه لا يمكنه إيصال السهم إلى السماء وأن من حاول ذلك كان من المجانين فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها الله تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل فيصير ذلك مشرعاً قوياً لمن أحب الطعن في القرآن فالأقرب أنه كان أوهم البناء ولم يبن أو كان هذا من تتمة قوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى يعني لا سبيل إلى إثباته بالدليل فإن حركات الكواكب كافية في تغير هذا العالم ولا سبيل إلى إثباته بالحس فإن الإحساس به لا يمكن إلا بعد صعود السماء وذلك مما لا سبيل إليه ثم قال عند ذلك لهامان ابْنِ لِى صَرْحاً أَبْلُغُ بِهِ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ وإنما قال ذلك على سبيل التهكم فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع ثم إنه رتب النتيجة عليه فقال وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ(24/216)
فهذا التأويل أولى مما عداه
الثالث إنما قال غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ ولم يقل اطبخ لي الآجر واتخذه لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة ولأن هذه العبارة أليق بفصاحة القرآن وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان وهو وزيره بالإيقاد على الطين فنادى باسمه بيافي وسط الكلام دليل على التعظم والتجبر والطلوع والاطلاع الصعود يقال طلع الجبل واطلع بمعنى واحد
أما قوله وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ فاعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وهو المتكبر في الحقيقة أي المبالغ في كبرياء الشأن قال عليه السلام فيما حكى عن ربه ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار ) وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق
المسألة الثانية قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى ما أعطاه الملك وإلا لكان ذلك بحق وهكذا كل متغلب لا كما ادعى ملوك بني أمية عند تغلبهم أن ملكهم من الله تعالى فإن الله تعالى قد بين في كل غاصب لحكم الله أنه أخذ ذلك بغير حق واعلم أن هذا ضعيف لأن وصول ذلك الملك إليه إما أن يكون منه أو من الله تعالى أو لا منه ولا من الله تعالى فإن كان منه فلم لم يقدر عليه غيره فربما كان العاجز أقوى وأعقل بكثير من المتولي للأمر وإن كان من الله تعالى فقد صح الغرض وإن كان من سائر الناس فلم اجتمعت دواعي الناس على نصرة أحدهما وخذلان الآخر واعلم أن هذا أظهر من أن يرتاب فيه العاقل
أما قوله وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين بالله تعالى إلا أنهم كانوا ينكرون البعث فلأجل ذلك تمردوا وطغوا
أما قوله فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ فهو من الكلام المفحم الذي دل به على عظم شأنه وكبرياء سلطانه شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم وإن كانوا الكبير الكثير والجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر ونحو ذلك وقوله وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ ( المرسلات 27 ) وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّة ً واحِدَة ً ( الحاقة 14 ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( الزمر 67 ) سبحانه وتعالى وليس الغرض منه إلا تصوير أن كل مقدور وإن عظم فهو حقير بالقياس إلى قدرته
أما قوله وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فقد تمسك به الأصحاب في كونه تعالى خالقاً للخير والشر قال الجبائي المراد بقوله وَجَعَلْنَاهُمْ أي بينا ذلك من حالهم وسميناهم به ومنه قوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وتقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله جعله فاسقاً وبخيلاً لا أنه خلقهم أئمة لأنهم حال خلقهم لهم كانوا أطفالاً وقال الكعبي إنما قال وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً من حيث خلى بينهم وبين ما فعلوه ولم يعاجل بالعقوبة ومن حيث كفروا ولم يمنعهم بالقسر وذلك كقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا ( التوبة 125 ) لما زادوا عندها ونظير ذلك أن الرجل يسأل ما يثقل عليه وإن أمكنه فإذا(24/217)
بخل به قيل للسائل جعلت فلاناً بخيلاً أي قد بخلته وقال أبو مسلم معنى الإمامة التقدم فلما عجل الله تعالى لهم العذاب صاروا متقدمين لمن وراءهم من الكافرين واعلم أن الكلام فيه قد تقدم في سورة مريم ( 83 ) في قوله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ومعنى دعوتهم إلى النار دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي فإن أحداً لا يدعو إلى النار ألبتة وإنما جعلهم الله تعالى أئمة في هذا الباب لأنهم بلغوا في هذا الباب أقصى النهايات ومن كان كذلك استحقق أن يكون إماماً يقتدى به في ذلك الباب ثم بين تعالى أن ذلك العقاب سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه وهو معنى قوله وَيَوْمَ الْقِيامَة ِ لاَ يُنصَرُونَ أو يكون معناه ويوم القيامة لاينصرون كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة
أما قوله وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً معناه لعنة الله والملائكة لهم وأمره تعالى بذلك فيها للمؤمنين وبين أنهم يوم القيامة من المقبوحين أي المبعدين الملعونين والقبح هو الإبعاد قال الليث يقال قبحه الله أي نحاه عن كل خير وقال ابن عباس رضي الله عنهما من المشئومين بسواد الوجه وزرقة العين وعلى الجملة فالأولون حملوا القبح على القبح الروحاني وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى والباقون حملوه على القبح في الصور وقيل فيه إنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم ويجمع بين الفضيحتين ثم بين تعالى أن الذي يجب التمسك به ما جاء به موسى عليه السلام فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاْولَى والكتاب هو التوراة ووصفه تعالى بأنه بصائر للناس من حيث يستبصر به في باب الدين وهدى من حيث يستدل به ومن حيث إن المتمسك به يفوز بطلبته من الثواب ووصفه بأنه رحمة لأنه من نعم الله تعالى على من تعبد به وروى أبو سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما أهلك الله تعالى قرناً من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها قردة )
أما قوله لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فالمراد لكي يتذكروا قال القاضي وذلك يدل على إرادة التذكر من كل مكلف سواء اختار ذلك أو لم يختره ففيه إبطال مذهب المجبرة الذين يقولون ما أراد التذكر إلا ممن يتذكر فأما من لا يتذكر فقد كره ذلك منه ونص القرآن دافع لهذا القول قلنا أليس أنكم حملتم قوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( الأعراف 179 ) على العاقبة فلم لا يجوز حمله ههنا على العاقبة فإن عاقبة الكل حصول هذا التذكر له وذلك في الآخرة
وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الاٌّ مْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(24/218)
اعلم أن في الآية سؤالات
السؤال الأول الجانب موصوف والغربي صفة فكيف أضاف الموصوف إلى الصفة الجواب هذه مسألة خلافية بين النحويين فعند البصريين لا يجوز إضافة الموصوف إلى الصفة إلا بشرط خاص سنذكره وعند الكوفيين يجوز ذلك مطلقاً حجة البصريين أن إضافة الموصوف إلى الصفة تقتضي إضافة الشيء إلى نفسه وهذا غير جائز فذاك أيضاً غير جائز بيان الملازمة أنك إذا قلت جاءني زيد الظريف فلفظ الظريف يدل على شيء معين في نفسه مجهول بحسب هذا اللفظ حصلت له الظرافة فإذا نصصت على زيد عرفنا أن ذلك الشيء الذي حصلت له الظرافة هو زيد إذا ثبت هذا فلو أضفت زيداً إلى الظريف كنت قد أضفت زيداً إلى زيد وإضافة الشيء إلى نفسه غير جائزة فإضافة الموصوف إلى صفته وجب أن لا تجوز إلا أنه جاء على خلاف هذه القاعدة ألفاظ وهي قوله تعالى في هذه الآية وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ وقوله وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ ( البينة 5 ) وقوله حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ ( النحل 30 ) ويقال صلاة الأولى ومسجد الجامع وبقلة الحمقاء فقالوا التأويل فيه جانب المكان الغربي ودين الملة القيمة وحق الشيء اليقين ودار الساعة الآخرة وصلاة الساعة الأولى ومسجد المكان الجامع وبقلة الحبة الحمقاء ثم قالوا في هذه المواضع المضاف إليه ليس هو النعت بل المنعوت إلا أنه حذف المنعوت وأقيم النعت مقامه فههنا ينظر إن كان ذلك النعت كالمتعين لذلك المنعوت حسن ذلك وإلا فلا ألا ترى أنه ليس لك أن تقول عندي جيد على معنى عندي درهم جيد ويجوز مررت بالفقيه على معنى مررت بالرجل الفقيه لأن الفقيه يعلم أنه لا يكون إلا من الناس والجيد قد يكون درهماً وقد يكون غيره وإذا كان كذلك حسن قوله جانب الغربي لأن الشيء الموصوف بالغربي الذي يضاف إليه الجانب لا يكون إلا مكاناً أو ما يشبهه فلا جرم حسنت هذه الإضافة وكذا القول في البواقي والله أعلم
السؤال الثاني ما معنى قوله إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ الجواب الجانب الغربي هو المكان الواقع في شق الغرب وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور وكتب الله ( له ) في الألواح والأمر المقضي إلى موسى عليه السلام الوحي الذي أوحى إليه والخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه أو على ( الموحى ) إليه ( وهي لأن الشاهد لا بد وأن يكون حاضراً ) وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات
السؤال الثالث لما قال وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ثبت أنه لم يكن شاهداً لأن الشاهد لا بد أن يكون حاضراً فما الفائدة في إعادة قوله وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الجواب قال ابن عباس رضي الله عنهما التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى(24/219)
السؤال الرابع كيف يتصل قوله وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً بهذا الكلام ومن أي وجه يكون استدراكاً له الجواب معنى الآية ولكنا أنشأنا بعد عهد موسى عليه السلام إلى عهدك قروناً كثيرة فتطاول عليهم العمر وهو القرن الذي أنت فيه فاندرست العلوم فوجب إرسالك إليهم فأرسلناك وعرفناك أحوال الأنبياء وأحوال موسى فالحاصل كأنه قال وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ولكنا أوحيناه إليك فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب فإذن هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده واعلم أن هذا تنبيه على المعجز كأنه قال إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله دلالة ظاهرة على نبوتك كما قال أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى ( طه 133 )
أما قوله وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ فالمعنى ما كنت مقيماً فيه
وأما قوله تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا ففيه وجهان الأول قال مقاتل يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك لما علمتها الثاني قال الضحاك يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولاً فأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء
أما قوله وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه وَلَاكِن رَّحْمَة ً مّن رَّبِكَ أي علمناك رحمة وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي هي رحمة وذكر المفسرون في قوله إِذْ نَادَيْنَا وجوهاً أخر أحدها إذ نادينا أي قلنا لموسى وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء إلى قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( الأعراف 156 157 ) وثانيها قال ابن عباس إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم ( يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ) قال وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى عليه السلام سبعين رجلاً لميقات ربه وثالثها قال وهب ( لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال رب أرنيهم قال إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم قال بلى يا رب فقال سبحانه يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فأسمعه الله تعالى أصواتهم ثم قال أجبتكم قبل أن تدعوني ) الحديث كما ذكره ابن عباس ورابعها روى سهل بن سعد قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا قال كتب الله كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى ( يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله أدخلته الجنة )
أما قوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ فالإنذار هو التخويف بالعقاب على المعصية واعلم أنه تعالى لما بين قصة موسى عليه السلام قال لرسوله وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ فجمع تعالى بين كل ذلك لأن هذه الأحوال الثلاثة هي الأحوال العظيمة التي اتفقت لموسى عليه السلام إذ المراد بقوله إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ إنزال التوراة حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله وَمَا كُنتَ ثَاوِياً أول أمره والمراد ناديناه وسط أمره وهو ليلة المناجاة ولما بين تعالى أنه عليه السلام لم يكن في هذه الأحوال حاضراً بين تعالى أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال رحمة للعالمين(24/220)
ثم فسر تلك الرحمة بأن قال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ واختلفوا فيه فقال بعضهم لم يبعث إليهم نذير منهم وقال بعضهم حجة الأنبياء كانت قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجد تلك الحجة عليهم وقال بعضهم لا يبعد وقوع الفترة في التكاليف فبعثه الله تعالى تقريراً للتكاليف وإزالة لتلك الفترة
أما قوله وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَة ٌ الآية فقال صاحب ( الكشاف ) ( لولا ) الأولى امتناعية وجوابها محذوف والثانية تحضيضية والفاء في قوله فَيَقُولُواْ للعطف ( وفي قوله للعطف ) وفي قوله فَنَتَّبِعَ جواب ( لولا ) لكونها في حكم الأمر من قبل أن الأمر باعث على الفعل والباعث والمحضض من واد واحد والمعنى لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولاً محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم يعني إنما أرسلنا الرسول إزالة لهذا العذر وهو كقوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ( المائدة 19 ) لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ واعلم أنه تعالى لم يقل ولولا أن يقولوا هذا العذر لما أرسلنا بل قال وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَة ٌ فَيَقُولُواْ هذا العدو لما أرسلنا وإنما قال ذلك لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً وقد عرفوا بطلان دينهم لما قالوا ذلك بل إنما يقولون ذلك إذا نالهم العقاب فيدل ذلك على أنهم لم يذكروا هذا العذر تأسفاً على كفرهم بل لأنهم ما أطاقوا وفيه تنبيه على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم كقوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج الجبائي على وجوب فعل اللطف قال لو لم يجب ذلك لم يكن لهم أن يقولوا هلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك إذ من الجائز أن لا يبعث إليهم وإن كانوا لا يختارون الإيمان إلا عنده على قول من خالف في وجوب اللطف كما مر أن الجائز إذا كان في المعلوم لو خلق له لم يمكن إلا أن يفعل ذلك
المسألة الثانية احتج الكعبي به على أن الله تعالى يقبل حجة العباد وليس الأمر كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا يقبل الحجة وظهر بهذا أنه ليس المراد من قوله لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ( الأنبياء 23 ) ما يظنه أهل السنة وإذا ثبت أنه يقبل الحجة وجب أن لا يكون فعل العبد بخلق الله تعالى وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى
المسألة الثالثة قال القاضي فيه إبطال القول بالجبر من جهات إحداها أن اتباعهم وإيمانهم موقوف على أن يخلق الله ذلك فيهم سواء أرسل الرسول إليهم أم لا وثانيتها أنه إذا خلق القدرة على ذلك فيهم وجب سواء أرسل الرسول أم لا وثالثتها إذا أراد ذلك وجب أرسل الرسول إليهم أم لا فأي فائدة في قولهم هذا لو كانت أفعالهم خلقاً لله تعالى فيقال للقاضي هب أنك نازعت في الخلق والإرادة ولكنك وافقت في العلم فإذا علم الكفر منهم فهل يجب أم لا فإن لم يجب أمكن أن لا يوجد الكفر مع حصول العلم بالكفر وذلك جمع بين الضدين وإن وجب لزمك ما أوردته علينا واعلم أن الكلام وإن كان قوياً حسناً إلا أنه إذا توجه عليه النقض الذي لا محيص عنه فكيف يرضى العاقل بأن يعول عليه
فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلا أُوتِى َ مِثْلَ مَآ أُوتِى َ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِى َ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَائِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيِّئَة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ(24/221)
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عند الخوف قالوا هلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك بين أيضاً أنه بعد الإرسال إلى أهل مكة قالوا لَوْلا أُوتِى َ مِثْلَ مَا أُوتِى َ مُوسَى فهؤلاء قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى فظهر أنه لا مقصود لهم سوى الزيغ والعناد
أما قوله فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا أي جاءهم الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر وتظليل الغمام وانفجار الحجر بالماء والمن والسلوى ومن أن الله كلمه وكتب له في الألواح وغيرها من الآيات فجاؤا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد كما قالوا لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ ( هود 12 ) وما أشبه ذلك
واعلم أن الذي اقترحوه غير لازم لأنه لا يجب في معجزات الأنبياء عليهم السلام أن تكون واحدة ولا فيما ينزل إليهم من الكتب أن يكون على وجه واحد إذ الصلاح قد يكون في إنزاله مجموعاً كالتوراة ومفرقاً كالقرآن ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى مِن قَبْلُ واختلفوا في أن الضمير في قوله أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ إلى من يعود وذكروا وجوهاً أحدها أن اليهود أمروا قريشاً أن يسألوا محمداً أن يؤتى مثل ما أوتي موسى عليه السلام فقال تعالى أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى يعني أو لم(24/222)
تكفروا يا هؤلاء اليهود الذين استخرجوا هذا السؤال بموسى عليه السلام مع تلك الآيات الباهرة وثانيها أن الذين أوردوا هذا الاقتراح كفار مكة والذين كفروا بموسى هم الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لأنهم في الكفر والتعنت كالشيء الواحد وثالثها قال الكلبي إن مشركي مكة بعثوا رهطاً إلى يهود المدينة ليسألهم عن محمد وشأنه فقالوا إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الرهط إليهم وأخبروهم بقول اليهود قالوا إنه كان ساحراً كما أن محمداً ساحر فقال تعالى أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى ورابعها قال الحسن قد كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام فمعناه على هذا أو لم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهرون ساحران وخامسها قال قتادة أو لم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام فقالوا ساحران وسادسها وهو الأظهر عندي أن كفار قريش ومكة كانوا منكرين لجميع النبوات ثم إنهم لما طلبوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) معجزات موسى عليه السلام قال الله تعالى أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى مِن قَبْلُ بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل فعلمنا أنه لا غرض لكم في هذا الاقتراح إلا التعنت ثم إنه تعالى حكى كيفية كفرهم بما أوتي موسى من وجهين الأول قولهم وَإِن تَظَاهَرَا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة ( ساحران ) بالألف وقرأ أهل الكوفة بغير ألف وذكروا في تفسير الساحرين وجوهاً أحدها المراد هرون وموسى عليهما السلام تظاهرا أي تعاونا وقرىء ( اظاهرا ) على الإدغام وسحران بمعنى ذوي سحر وجعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر وكثير من المفسرين فسروا قوله سِحْرَانِ بأن المراد هو القرآن والتوراة واختار أبو عبيدة القراءة بالألف لأن المظاهرة بالناس وأفعالهم أشبه منها بالكتب وجوابه إنا بينا أن قوله سِحْرَانِ يمكن حمله على الرجلين وبتقدير أن يكون المراد الكتابين لكن لما كان كل واحد من الكتابين يقوي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما تقول تظاهرت الأخبار وهذه التأويلات إنما تصح إذا حملنا قوله أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى إما على كفار مكة أو على الكفار الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام ولا شك أن ذلك أليق بمساق الآية الثاني قولهم إِنَّا بِكُلّ كَافِرُونَ أي بما أنزل على محمد وموسى وسائر الأنبياء عليهم السلام ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق إلا بالمشركين لا باليهود وذلك مبالغة في أنهم مع كثرة آيات موسى عليه السلام كذبوه فما الذي يمنع من مثله في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإن ظهرت حجته ولما أجاب الله تعالى عن شبههم ذكر الحجة الدالة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله قال الزجاج ( أتبعه ) بالجزم على الشرط ومن قرأ ( أتبعه ) بالرفع فالتقدير أنا أتبعه ثم قال فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ قال ابن عباس يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج وقال مقاتل فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما وهذا أشبه بالآية فإن قيل الاستجابة تقتضي دعاء فأين الدعاء ههنا قلنا قوله فَأْتُواْ بِكِتَابٍ أمر والأمر دعاء إلى الفعل ثم قال فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ يعني قد صاروا ملزمين ولم يبق لهم شيء إلا اتباع الهوى ثم زيف طريقتهم بقوله وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد وأنه لا بد من الحجة والاستدلال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وهو عام يتناول الكافر لقوله إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ واحتج الأصحاب به في أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمنين
وقالت المعتزلة الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقاً ومنها ما لا يحسن إلا بعد الإيمان والدليل عليه(24/223)
قوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) فقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ محمول على القسم الثاني ولا يجوز حمله على القسم الأول لأنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن عدم بعثة الرسول جار مجرى العذر لهم فبأن يكون عدم الهداية عذراً لهم أولى ولما بين تعالى نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الدلالة قال وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ وتوصيل القول هو إتيان بيان بعد بيان وهو من وصل البعض بالبعض وهذا القول الموصل يحتمل أن يكون المراد منه إنا أنزلنا القرآن منجماً مفرقاً يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكير والتنبيه فإنهم كل يوم يطلعون على حكمة أخرى وفائدة زائدة فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر وعلى هذا التقدير يكون هذا جواباً عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة كما أوتي موسى كتابه كذلك ويحتمل أن يكون المراد وصلنا أخبار الأنبياء بعضها ببعض وأخبار الكفار في كيفية هلاكهم تكثيراً لمواضع الاتعاظ والانزجار ويحتمل أن يكون المراد بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزاً مرة بعد أخرى لعلهم يتذكرون ثم إنه تعالى لما أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بأن قال الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ أي من قبل القرآن أسلموا بمحمد فمن لا يعرف الكتب أولى بذلك واختلفوا في المراد بقوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وذكروا فيه وجوهاً أحدها قال قتادة إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها فلما بعث الله تعالى محمداً آمنوا به من جملتهم سلمان وعبدالله بن سلام وثانيها قال مقاتل نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإنجيل وهم أصحاب السفينة جاؤا من الحبشة مع جعفر وثالثها قال رفاعة بن قرظة نزلت في عشرة أنا أحدهم وقد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكل من حصل في حقه تلك الصفة كان داخلاً في الآية ثم حكى عنهم ما يدل على تأكيد إيمانهم وهو قولهم بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ فقوله إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا يدل على التعليل يعني أن كونه حقاً من عند الله يوجب الإيمان به وقوله إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ بيان لقوله بِهِ إِنَّهُ لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده فأخبروا أن إيمانهم به متقادم وذلك لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدمه ثم إنه تعالى لما مدحهم بهذا المدح العظيم قال أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وذكروا فيه وجوهاً أحدها أنهم يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل بعثته وبعد بعثته وهذا هو الأقرب لأنه تعالى لما بين أنهم آمنوا به بعد البعثة وبين أيضاً أنهم كانوا به قبل مؤمنين البعثة ثم أثبت الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك وثانيها يؤتون الأجر مرتين مرة بإيمانهم بالأنبياء الذي كانوا قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومرة أخرى بإيمانهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها قال مقاتل هؤلاء لما آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران أجر على الصف وأجر على الإيمان يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه قال السدي اليهود عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول سلام عليكم ثم قال وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ والمعنى ( يدفعون ) بالطاعة المعصية المتقدمة ويحتمل أن يكون المراد دفعوا بالعفو والصفح الأذى ويحتمل أن يكون المراد من الحسنة امتناعهم من المعاصي لأن نفس الامتناع حسنة ويدفع به ما لولاه لكان سيئة ويحتمل التوبة والإنابة والاستقرار عليها ثم قال وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
واعلم أنه تعالى مدحهم أولاً بالإيمان ثم(24/224)
بالطاعات البدنية في قوله وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ ثم بالطاعات المالية في قوله وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ قال القاضي دل هذا المدح على أن الحرام لا يكون رزقاً جوابه أن كلمة من للتبعيض فدل على أنهم استحقوا المدح بإنفاق بعض ما كان رزقاً وعلى هذا التقدير يسقط استدلاله ثم لما بين كيفية اشتغالهم بالطاعات والأفعال الحسنة بين كيفية إعراضهم عن الجهال فقال وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ واللغو ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وغيره وكانوا يسمعون ذلك فلا يخوضون فيه بل يعرضون عنه إعراضاً جميلاً فلذلك قال تعالى وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وما أحسن ما قال الحسن رحمه الله في أن هذه الكلمة تحية بين المؤمنين وعلامة الاحتمال من الجاهلين ونظير هذه الآية قوله تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) ثم أكد تعالى ذلك بقوله حاكياً عنهم لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ والمراد لا نجازيهم بالباطل على باطلهم قال قوم نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأن ترك المسافهة مندوب وإن كان القتال واجباً(24/225)
بداية الجزء الخامس والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(25/2)
إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَى ْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
إعلم أن في قوله تعالى إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء مسائل
المسألة الأولى هذه الآية لا دلالة في ظاهرها على كفر أبي طالب ثم قال الزجاج أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وذلك أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بني عبد مناف أطيعوا محمداً وصدقوه تفلحوا وترشدوا فقال عليه السلام ( يا عم تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسكا قال فما تريد يا ابن أخي قال أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى قال يا أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني إبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصحك ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف )
المسألة الثانية أنه تعالى قال في هذه الآية إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وقال في آية أخرى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الشورى 52 ) ولا تنافي بينهما فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والبيان والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدر وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال سبحانه أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا ( الأنعام 122 ) الآية
المسألة الثالثة احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال فقالوا قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء يقتضي أن تكون الهداية في الموضعين بمعنى واحد لأنه لو كان المراد من(25/3)
الهداية في قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى شيئاً وفي قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء شيئاً آخر لاختل النظم ثم إما أن يكون المراد من الهداية بيان الدلالة أو الدعوة إلى الجنة أو تعريف طريق الجنة أو خلق المعرفة في القلوب على سبيل الإلجاء أو خلق المعرفة في القلوب لا على سبيل الإلجاء لا جائز أن يكون المراد بيان الأدلة لأنه عليه السلام هدى الكل بهذا المعنى فهي غير الهداية التي نفى الله عمومها وكذا القول في الهداية بمعنى الدعوة إلى الجنة وأما الهداية بمعنى تعريف طريق الجنة فهي أيضاً غير مرادة من الآية لأنه تعالى علق هذه الهداية على المشيئة وتعريف طريق الجنة غير معلق على المشيئة لأنه واجب على الله تعالى والواجب لا يكون معلقاً على المشيئة فمن وجب عليه أداء عشرة دنانير لا يجوز أن يقول إني أعطي عشرة دنانير إن شئت وأما الهداية بمعنى الإلجاء والقسر فغير جائز لأن ذلك عندهم قبيح من الله تعالى في حق المكلف وفعل القبيح مستلزم للجهل أو الحاجة وهما محالان ومستلزم المحال محال فذلك محال من الله تعالى والمحال لا يجوز تعليقه في المشيئة ولما بطلت الأقسام لم يبق إلا أن المراد أنه تعالى يخص البعض بخلق الهداية والمعرفة ويمنع البعض منها ولا يسأل عما يفعل ومتى أوردت الكلام على هذا الوجه سقط كل ما أورده القاضي عذراً عن ذلك
أما قوله وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فالمعنى أنه المختص بعلم الغيب فيعلم من يهتدي بعد ومن لا يهتدي ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر شبههم وأجاب عنها بالأجوبة الواضحة وبين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله تعالى حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ( القصص 57 ) قال المبرد الخطف الانتزاع بسرعة روى أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكن يمنعنا من ذلك تخطفنا من أرضنا أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا من أرضنا فأجاب الله سبحانه وتعالى عنها من وجوه الأول قوله أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً أي أعطيناكم مسكناً لا خوف لكم فيه إما لأن العرب كانوا يحترمون الحرم وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكانه فإنه يروى أن العرب خارج الحرم كانوا مشتغلين بالنهب والغارة وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكان الحر أو لقوله تعالى وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً ( آل عمران 97 ) وأما قوله يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَى ْء فهو تعالى كما بين كون ذلك الموضع خالياً عن المخاوف والآفات بين كثرة النعم فيه ومعنى يُجْبَى يجمع من قولهم جبيت الماء في الحوض إذا جمعته قرأ أهل المدينة تجبى بالتاء وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء وذلك أن تأنيث الثمرات تأنيث جمع وليس بتأنيث حقيقي فيجوز تأنيثه على اللفظ وتذكيره على المعنى ومعنى الكلية الكثرة كقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) وحاصل الجواب أنه تعالى لما جعل الحرم آمناً وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان فلو آمنوا لكان بقاء هذه الحالة أولى قال القاضي ولو أن الرسول قال لهم إن الذي ذكرتم من التخطف لو كان حقاً لم يكن عذراً لكم في أن لا تؤمنوا وقد ظهرت الحجة لانقطعوا أو قال لهم إن تخطفهم لكن بالقتل وغيره وقد آمنتم كالشهادة لكم فهو نفع عائد علكيم لانقطعوا أيضاً ولو قال لهم ما قدر مضرة التخطف في جنب العقاب الدائم الذي أخوفكم منه إن بقيتم على كفركم لانقطعوا لكنه تعالى احتج بما هو أقوى من حيث بين كذبهم في أنهم يتخطفون من حيث عرفوا من حال البقعة بالعادة أن ذلك لا يجري إن آمنوا ومثل ذلك إذا أمكن بيانه للخصم فهو أولى من سائر ما ذكرنا فلذلك قدمه الله تعالى(25/4)
والآية دالة على صحة الحجاج الذي يتوصل به إلى إزالة شبهة المبطلين بقي ههنا بحثان
الأول قال صاحب ( الكشاف ) في انتصاب رزقاً إن جعلته مصدراً جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله لأن معنى يجبى إليه ثمرات كل شيء ويرزق ثمرات كل شيء واحد وأن يكون مفعولاً له وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالاً من الثمرات لتخصيصها بالإضافة كما ينتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة
الثاني احتج الأصحاب بقوله رّزْقاً مّن لَّدُنَّا في أن فعل العبد خلق الله تعالى وبيانه أن تلك الأرزاق إنما كانت تصل إليهم لأن الناس كانوا يحملونها إليهم فلو لم يكن فعل العبد خلقاً لله تعالى لما صحت تلك الإضافة فإن قيل سبب تلك الإضافة أنه تعالى هو الذي ألقى تلك الدواعي في قلوب من ذهب بتلك الأرزاق إليهم قلنا تلك الدواعي إن اقتضت الرجحان فقد بينا في غير موضع أنه متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب وحينئذ يحصل المقصود وإن لم يحصل الرجحان انقطعت الإضافة بالكلية واعلم أنه تعالى إنما بين أن تلك الأرزاق ما وصلت إليهم إلا من الله تعالى لأجل أنهم متى علموا ذلك صاروا بحيث لا يخافون أحداً سوى الله تعالى ولا يرجون أحداً غير الله تعالى فيبقى نظرهم منقطعاً عن الخلق متعلقاً بالخالق وذلك يوجب كمال الإيمان والإعراض بالكلية عن غير الله تعالى والإقبال بالكلية على طاعة الله تعالى
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة وذلك لأنه تعالى لما بين لأهل مكة ما خصوا به من النعم أتبعه بما أنزله الله تعالى بالأمم الماضية الذين كانوا في نعم الدنيا فلما كذبوا الرسل أزال الله عنهم تلك النعم والمقصود أن الكفار لما قالوا إنا لا نؤمن خوفاً من زوال نعمة الدنيا فالله تعالى بين لهم أن الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم لا الإقدام على الإيمان قال صاحب ( الكشاف ) البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه وانتصبت معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كقوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( الأعراف 155 ) أو بتقدير حذف الزمان المضاف وأصله بطرت أيام معيشتها وإما تضمين بطرت معنى كفرت
فأما قوله فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً ففي هذا الاستثناء وجوه أحدها قال ابن عباس رضي الله عنهما لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوماً أو ساعة وثانيها يحتمل أن شؤم معاصي(25/5)
المهلكين بقي أثره في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين لها بعد هلاك أهلها وإذا لم يبق للشيء مالك معين قيل إنه ميراث الله لأنه الباقي بعد فناء خلقه ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه أهلك تلك القرى بسبب بطر أهلها فكأن سائلاً أورد السؤال من وجهين الأول لماذا ما أهلك الله الكفار قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم كانوا مستغرقين في الكفر والعناد الثاني لماذا ما أهلكهم بعد مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع تمادي القوم في الكفر بالله تعالى والتكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأجاب عن السؤال الأول بقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا وحاصل الجواب أنه تعالى قدم بيان أن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم فوجب أن لا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة ثم ذكر المفسرون وجهين أحدهما وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً أي في القرية التي هي أمها وأصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها رسولاً لإلزام الحجة وقطع المعذرة الثاني وما كان ربك مهلك القرى التي في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعني مكة رسولاً وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم الأنبياء ومعنى يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا يؤدي ويبلغ وأجاب عن السؤال الثاني بقوله وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ أنفسهم بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فإن بعضهم قد آمن وبعضهم علم الله منهم أنهم سيؤمنون وبعض آخرون علم الله أنهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يكون مؤمناً
وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَى ْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
اعلم أن هذا هو الجواب الثالث عن تلك الشبهة لأن حاصل شبهتهم أن قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى أما أنه خير فلوجهين أحدهما أن المنافع هناك أعظم وثانيهما أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار فيها أكثر وأما أنها أبقى فلأنها دائمة غير منقطعة ومنافع الدنيا منقطعة ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً فكيف ونصيب كل أحد بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر فظهر من هذا أن منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة ألبتة فكان من الجهل العظيم ترك منافع الآخرة لاستبقاء منافع الدنيا ولما نبه سبحانه على ذلك قال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يعني أن من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجاً عن حد العقل ورحم الله الشافعي حيث قال من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بالطاعة فكأنه رحمه الله إنما أخذه من هذه الآية ثم إنه تعالى أكد هذا الترجيح من وجه آخر وهو أنا لو قدرنا أن نعم الله كانت تنتهي إلى الانقطاع والفناء وما كانت تتصل بالعذاب الدائم لكان صريح العقل يقتضي ترجيح نعم الآخرة(25/6)
على نعم الدنيا فكيف إذا اتصلت نعم الدنيا بعقاب الآخرة فأي عقل يرتاب في أن نعم الآخرة راجحة عليها وهذا هو المراد بقوله أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ ( الصافات 57 ) فهو يكون كمن أعطاه الله قدراً قليلاً من متاع الدنيا ثم يكون في الآخرة من المحضرين للعذاب والمقصود أنهم لما قالوا تركنا الدين للدنيا فقال الله لهم لو لم يحصل عقيب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقتضي ترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا فكيف وهذه الدنيا يحصل بعدها العقاب الدائم وأورد هذا الكلام على لفظ الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بالترجيح وتخصيص لفظ المحضرين بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن قال تعالى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( الصافات 57 ) فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( الصافات 127 ) وفي لفظه إشعار به لأن الإحضار مشعر بالتكليف والإلزام وذلك لا يليق بمجالس اللذة إنما يليق بمجالس الضرر والمكاره
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَاؤُلا ءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاٌّ نبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية أنه يسأل الكفار يوم القيامة عن ثلاثة أشياء أحدها قوله وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ لما ثبت أن الكفار يوم القيامة قد عرفوا بطلان ما كانوا عليه وعرفوا صحة التوحيد والنبوة بالضرورة فيقول لهم أين ما كنتم تعبدونه وتجعلونه شريكاً في العبادة وتزعمون أنه يشفع أين هو لينصركم ويخلصكم من هذا الذي نزل بكم ثم بين تعالى ما يقوله من حق عليه القول والمراد من القول هو قوله لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( هود 119 ) ومعنى حق عليه القول أي حق عليه مقتضاه واختلفوا في أن الذين حق عليهم هذا القول من هم فقال بعضهم الرؤساء الدعاة إلى الضلال وقال بعضهم الشياطين قوله رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والراجع إلى الموصوف محذوف وأغويناهم الخبر والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا والمراد كما أن غينا باختيارنا فكذا غيهم باختيارهم يعني أن أغواءنا لهم ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين بالإقدام على تلك العقائد والأعمال وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تلوموني ولوموا أنفسكم إبراهيم 22(25/7)
وقال تعالى لإبليس إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ( إبراهيم 22 ) فقوله إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ ( الحجر 42 ) يدل على أن ذلك الاتباع لهم من قبل أنفسهم لا من قبل إلجاء الشيطان إلى ذلك ثم قال تبرأنا إليك منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أهواءهم والحاصل أنهم يتبرءون منهم كما قال تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ( البقرة 166 ) وأيضاً فلا يمتنع في قوله تعالى أَيْنَ شُرَكَائِى َ ( النحل 27 ) أن يريد به هؤلاء الرؤساء والشياطين فإنهم لما أطاعوهم فقد صيروهم لمكان الطاعة بمنزله الشريك لله تعالى وإذا حمل الكلام على هذا الوجه كان جوابهم أن يقولوا إلهنا هؤلاء ما عبدونا إنما عبدوا أهواءهم الفاسدة وثانيها قوله تعالى وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ والأقرب أن هذا على سبيل التقرير لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم لهم فالمراد أنهم لو دعوهم لم يوجد منهم إجابة في النصرة وأن العذاب ثابت فيهم وكل ذلك على وجه التوبيخ وفي ذكره ردع وزجر في دار الدنيا فأما قوله تعالى لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ فكثير من المفسرين زعموا أن جواب لو محذوف وذكروا فيه وجوهاً أحدها قال الضحاك ومقاتل يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة وثانيها لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أن العذاب حق وثالثها ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون ورابعها لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب وخامسها قد آن لهم أن يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذا رأوا العذاب ويؤكد ذلك قوله تعالى لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( الشعراء 201 ) وعندي أن الجواب غير محذوف وفي تقريره وجوه أحدها أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله ادْعُواْ فههنا يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار ويصيرون بحيث لا يبصرون شيئاً فقال تعالى لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ شيئاً أما لما صاروا من شدة الخوف بحيث لا يبصرون شيئاً لا جرم ما رأوا العذاب وثانيها أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الأصنام أنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين ولكنها ليست كذلك فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل قوله وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ ضمير لا يليق إلا بالعقلاء فكيف يصح عوده إلى الأصنام قلنا هذا كقوله فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وإنما ورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا ههنا وثالثها أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك النظم من الآية الأمر الثالث من الأمور التي يسأل الله الكفار عنها قوله وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاْنبَاء ( القصص 65 66 ) أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدي إليهم فهم لا يتساءلون لا يسأل بعضهم بعضاً كما يتساءل الناس في المشكلات لأنهم يتساوون جميعاً في عمي الأنباء عليهم والعجز عن الجواب وقرىء فعميت وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك يتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال ويفوضون الأمر إلى علم الله وذلك قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( المائدة 109 ) فما ظنك بهؤلاء الضلال قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان القول بالجبر لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله تعالى ويجب وقوعه بالقدرة والإرادة لما عميت عليهم الأنباء ولقالوا إنما أتينا في تكذيب الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم والقدرة(25/8)
الموجبة لذلك فكانت حجتهم على الله تعالى طاهرة وكذلك القول فيما تقدم لأن الشيطان كان له أن يقول إنما أغويت بخلقك في الغواية وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك فتكون الحجة لهم في ذلك قوية والعذر ظاهراً والجواب أن القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والثواب والعقاب إلا ويعيد استدلاله بها وكما أن وجه استدلاله في الكل هذا الحرف فكذا وجه جوابنا حرف واحد وهو أن علم الله تعالى بعدم الإيمان مع وقوع الإيمان متنافيان لذاتيهما فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمر بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمر بالجمع بين الضدين والذي اعتمد القاضي عليه في دفع هذا الحرف في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن بل الواجب السكوت ولو أورد الكافر هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهراً فثبت أن الإشكال مشترك والله أعلم
فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة ُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاٍّ ولَى وَالاٌّ خِرَة ِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين حال المعذبين من الكفار وما يجري عليهم من التوبيخ أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيباً في التوبة وزجراً عن الثبات على الكفر فقال فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وفي عسى وجوه أحدها أنه من الكرام تحقيق والله أكرم الأكرمين وثانيها أن يراد ترجي التائب وطمعه كأنه قال فليطمع في الفلاح وثالثها عسى أن يكونوا كذلك إن داموا على التوبة والإيمان لجواز أن لا يدوموا واعلم أن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى ويقولون لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) يعنون الوليد بن المغيرة أو أبا مسعود الثقفي فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ والمراد أنه المالك المطلق وهو منزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء لا اعتراض عليه ألبتة وعلى طريقة المعتزلة لما ثبت أنه حكيم مطلق علم أنه كل ما فعله كان حكمة وصواباً فليس لأحد أن يعترض عليه وقوله مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة ُ والخيرة اسم من الاختيار قام مقام المصدر والخيرة أيضاً اسم للمختار يقال محمد خيرة الله في خلقه إذا عرفت هذا فنقول في الآية وجهان الأول وهو الأحسن أن يكون تمام الوقف على قوله وَيَخْتَارُ ويكون ما نفياً والمعنى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ ليس لهم الخيرة إذ ليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل والثاني أن يكون ما بمعنى الذي فيكون الوقف عند قوله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء ثم يقول وَيَخْتَارُ ما كان لهم الخيرة قال(25/9)
أبو القاسم الانصاري وهذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه وأي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله فإن قيل لما كلفه استوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا إذا علم قطعاً إنه لا يحصل ذلك الأفضل فتوريطه في العقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة ثم قولهم المستحق خير من المتفضل به جهل لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله أما الذي ما حصل الذات والصفات إلا بخلقه وبفضله وإحسانه فكيف يستنكف من تفضله ثم قال سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ والمقصود أن يعلم أن الخلق والاختيار والاعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة ثم أكد ذلك بأنه يعلم ما تكن صدورهم من عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما يعلنون من مطاعنهم فيه وقولهم هلا اختير غيره في النبوة ولما بين علمه بما هم عليه من الغل والحسد والسفاهة قال وَهُوَ اللَّهُ لا إله هُوَ وفيه تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات يجازي المحسنين على طاعتهم ويعاقب العصاة على عصيانهم وفيه نهاية الزجر والردع للعصاة ونهاية تقوية القلب للمطيعين ويحتمل أيضاً أن لما بين فساد طريق المشركين من قوله يَوْمٍ يُنَادِيهِمْ فيقول أَيْنَ شُرَكَائِى َ ( النحل 27 ) ختم الكلام في ذلك بإظهار هذا التوحيد وبيان أن الحمد والثناء لا يليق إلا به
أما قوله لَهُ الْحَمْدُ فِى الاْولَى وَالاْخِرَة ِ فو ظاهر على قولنا لأن الثواب غير واجب عليه بل هو سبحانه يعطيه فضلاً وإحساناً فله الحمد في الأولى والآخرة ويؤكد ذلك قول أهل الجنة الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ( فاطر 34 ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ ( الزمر 74 ) ءاخَرَ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( يونس 10 ) أما المعتزلة فعندهم الثواب مستحق فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة وأما أهل النار فما أنعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم قال القاضي إنه يستحق الحمد والشكر من أهل النار أيضاً بما فعله بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والإلطاف وسائر النعم لأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله عليهم من أن يوجب الشكر وهذا فيه نظر لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا بالضرورة أن التوبة عن القبائح يجب على الله قبولها وعلموا بالضرورة أن الاشتغال بالشكر الواجب عليهم يوجب على الله الثواب وهم قادرون على ذلك وعالمون بأن بذلك مما يخلصهم عن العذاب ويدخلهم في استحقاق الثواب أفترى أن الإنسان مع العلم بذلك والقدرة عليه يترك هذه التوبة كلا بل لا بد أن يتوبوا وأن يشتغلوا بالشكر ومتى فعلوا ذلك فقد بطل العقاب
أما قوله وَلَهُ الْحُكْمُ فهو إما في الدنيا أو في الآخرة فأما في الدنيا فحكم كل أحد سواه إنما نفذ بحكمه فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده ولا على الزوجة حكم زوجها ولا على الابن حكم أبيه ولا على الرعية حكم سلطانهم ولا على الأمة حكم الرسول فهو الحاكم في الحقيقة وأما في الآخرة فلا شك أنه هو الحاكم لأنه الذي يتولى الحكم بين العباد في الآخرة فينتصف للمظلومين من الظالمين
أما قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فالمعنى وإلى محل حكمه وقضائه ترجعون فإن كلمة إلى لانتهاء الغاية وهو تعالى منزه من المكان والجهة(25/10)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين من قبل استحقاقه للحمد على وجه الإجمال بقوله وَهُوَ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاْولَى وَالاْخِرَة ِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( القصص 70 ) فصل عقيب ذلك ببعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه فقال لرسوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ فنبه على أن الوجه في كون الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان لأن المرء في الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار ولأجله يحصل الاجتماع فيمكن المعاملات ومعلوم أن ذلك لا يتم لولا الراحة والسكون بالليل فلا بد منهما والحالة هذه فأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات فبين تعالى أنه لا قادر على ذلك إلا الله تعالى وإنما قال أَفَلاَ تَسْمَعُونَ أَفلاَ تُبْصِرُونَ لأن الغرض من ذلك الانتفاع بما يسمعون ويبصرون من جهة التدبر فلما لم ينتفعوا نزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر قال الكلبي قوله أَفَلاَ تَسْمَعُونَ معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك وقوله أَفلاَ تُبْصِرُونَ معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال قال صاحب ( الكشاف ) السرمد الدائم المتصل من السرد وهو المتابعة ومنه قولهم في الأشهر الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد فإن قيل هلا قال بنهار تتصرفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه قلنا ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة وإنما قرن بالضياء أفلا تسمعون لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده وقرن بالليل أفلا تبصرون لأن غيرك يدرك من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه ومن رحمته زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة لتسكنوا في أحدهما وهو الليل ولتبتغوا من فضله في الآخر وهو النهار ولأداء الشكر على المنفعتين معاً
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّة ٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(25/11)
اعلم أنه سبحانه لما هجن طريقة المشركين أولاً ثم ذكر التوحيد ودلائله ثانياً عاد إلى تهجين طريقتهم مرة أخرى وشرح حالهم في الآخرة فقال وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أي القيامة فيقول أَيْنَ شُرَكَائِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ والمعنى أين الذين ادعيتم إلهيتهم لتخلصكم أو أين قولكم تقربنا إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله فيكون ذلك زائداً في غمهم إذا خوطبوا بهذا القول
أما قوله وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّة ٍ شَهِيداً فالمراد ميزنا واحداً ليشهد عليهم ثم قال بعضهم هم الأنبياء يشهدون بأنهم بلغوا القوم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زائداً في غمهم وقال آخرون بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب لأنه تعالى عم كل أمة وكل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه الأحوال التي لم يوجد فيها النبي وهي أزمنة الفترات والأزمنة التي حصلت بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعلموا حينئذٍ أن الحق لله ولرسله وَضَلَّ عَنْهُم غاب عنهم غيبة الشىء الضائع مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ من الباطل والكذب
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَة ِ أُوْلِى الْقُوَّة ِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاٌّ خِرَة َ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرض إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّة ً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
اعلم أن نص القرآن يدل على أن قارون كان من قوم موسى عليه السلام وظاهر ذلك يدل على أنه كان ممن قد أمن به ولا يبعد أيضاً حمله على القرابة قال الكلبي إنه كان ابن عم موسى عليه السلام لأنه كان قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى وموسى بن عمران بن قاهث بن لاوى وقال محمد بن إسحق إنه كان عم موسى عليه السلام لأن موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث وقارون بن يصهر بن قاهث وعن ابن(25/12)
عباس أنه كان ابن خالته ثم قيل إنه كان يسمى المنور لحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلا أنه نافق كما نافق السامري
أما قوله فَبَغَى عَلَيْهِمْ ففيه وجوه أحدها أنه بغى بسبب ماله وبغيه أنه استخف بالفقراء ولم يرع لهم حق الإيمان ولا عظمهم مع كثرة أمواله والثاني أنه من الظلم قيل ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم الثالث قال القفال بغى عليهم أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده الرابع قال الضحاك طغى عليهم واستطال عليهم فلم يوفقهم في أمر الخامس قال ابن عباس تجبر وتكبر عليهم وسخط عليهم السادس قال شهر بن حوشب بغيه عليهم أنه زاد عليهم في الثياب شبراً وهذا يعود إلى التكبر السابع قال الكلبي بغيه عليهم أنه حسد هرون على الحبورة يروى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر وأغرق الله تعالى فرعون جعل الحبورة لهرون فحصلت له النبوة والحبورة وكان صاحب القربان والمذبح وكان لموسى الرسالة فوجد قارون من ذلك في نفسه فقال يا موسى لك الرسالة ولهرون الحبورة ولست في شيء ولا أصبر أنا على هذا فقال موسى عليه السلام والله ما صنعت ذلك لهرون ولكن الله جعله له فقال والله لا أصدقك أبداً حتى تأتيني بآية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهرون قال فأمر موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل أن يجىء كل رجل منهم بعصاه فجاءوا بها فألقاها موسى عليه السلام في قبة له وكان ذلك بأمر الله تعالى فدعا ربه أن يريهم بيان ذلك فباتوا يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هرون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى يا قارون أما ترى ما صنع الله لهرونا فقال والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر فاعتزل قارون ومعه ناس كثير وولى هرون الحبورة والمذبح والقربان فكان بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هرون فيضعها في المذبح وتنزل النار من السماء فتأكلها واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل فما كان يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كان قارون من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى )
أما قوله إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ أُوْلِى الْقُوَّة ِ ففيه أبحاث
الأول قال الكعبي ألستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف الله مال قارون إلى نفسه بقوله وَءاتَيْنَاهُ وأجاب بأنه لا حجة في أنه كان حراماً ويجوز أن من تقدمه من الملوك جمعوا وكنزوا فظفر قارون بذلك وكان هذا الظفر طريق التملك أو وصل إليه بالإرث من جهات ثم بالتكسب من جهة المضاربات وغيرها وكان الكل محتملاً
البحث الثاني المفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به وقيل هي الخزائن وقياس واحدها مفتح بفتح الميم ويقال ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله والعصبة الجماعة الكثيرة والعصابة مثلها فالعشرة عصبة بدليل قوله تعالى في إخوة يوسف عليه السلام وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ ( يوسف 8 ) وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم
إذا عرفت معنى الألفاظ فنقول ههنا قولان أحدهما أن المراد بالمفاتح المفاتيح وهي التي يفتح بها الباب قالوا كانت مفاتيحه من جلود الإبل وكل مفتاح مثل إصبع وكان لكل خزانة مفتاح وكان إذا ركب(25/13)
قارون حملت المفاتيح على ستين بغلاً ومن الناس من طعن في هذا القول من وجهين الأول أن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح الثاني أن الكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض فلا يجوز أن يكون لها مفاتيح والجواب عن الأول أن المال إذا كان من جنس العروض لا من جنس النقد جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد وأيضاً فهذا الذي يقال إن تلك المفاتيح بلغت ستين حملاً ليس مذكوراً في القرآن فلا تقبل هذه الرواية وتفسير القرآن أن تلك المفاتيح كانت كثيرة وكان كل واحد منها معيناً لشيء آخر فكان يثقل على العصبة ضبطها ومعرفتها بسبب كثرتها وعلى هذا الوجه يزول الاستبعاد وعن الثاني أن ظاهر الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق القول الثاني وهو اختيار ابن عباس والحسن أن تحمل المفاتح على نفس المال وهذا أبين وعن الشبهة أبعد قال ابن عباس كانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء وكانت خزائنه أربعمائة ألف فيحمل كل رجل عشرة آلاف القول الثالث وهو اختيار أبي مسلم أن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( الأنعام 59 ) والمراد آتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أولي القوة والهداية أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها والقائمين عليها أن يحفظوها ثم إنه تعالى بين أنه كان في قومه من وعظه بأمور أحدها قوله لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة أصلاً وقال بعضهم إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح بها وما أحسن ما قال المتنبي أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( الحديد 23 ) قال ابن عباس كان فرحه ذلك شركاً لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى وثانيها قوله وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاْخِرَة َ والظاهر أنه كان مقراً بالآخرة والمراد أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة ويسلك طريقة التواضع وثالثها قوله وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وفيه وجوه أحدها لعله كان مستغرق الهم في طلب الدنيا فلأجل ذلك ما كان يتفرغ للتنعم والالتذاذ فنهاه الواعظ عن ذلك وثانيها لما أمره الواعظ بصرف المال إلى الآخرة بين له بهذا الكلام أنه لا بأس بالتمتع بالوجوه المباحة وثالثها المراد منه الإنفاق في طاعة الله فإن ذلك هو نصيب المرء من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب قال عليه السلام ( فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الموت فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار ) ورابعها قوله وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ لما أمره بالإحسان بالمال أمره بالإحسان مطلقاً ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر وإنما قال كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ تنبيهاً على قوله لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ( إبراهيم 7 ) وخامسها قوله وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاْرْضِ والمراد ما كان عليه من الظلم والبغي وقيل إن هذا القائل هو موسى عليه السلام وقال آخرون بل مؤمنو قومه وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما لو قيل لم يكن عليه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل زاد عليه بكفر النعمة فقال إنما أوتيته على علم عندي وفيه وجوه أحدها قال(25/14)
قتادة ومقاتل والكلبي كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك وثانيها قال سعيد بن المسيب والضحاك كان موسى عليه السلام أنزل عليه علم الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وكالب ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة والنحاس فيجعله ذهباً وثالثها أراد به علمه بوجوه المكاسب والتجارات ورابعها أن يكون قوله إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى أي الله أعطاني ذلك مع كونه عالماً بي وبأحوالي فلو لم يكن ذلك مصلحة لما فعل وقوله عِندِى أي عندي أن الأمر كذلك كما يقول المفتى عندي أن الأمر كذلك أي مذهبي واعتقادي ذلك ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّة ً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وفيه وجهان الأول يجوز أن يكون هذا إثباتاً لعلمه بأن الله تعالى قد أهلك قبله من القرون من هو أقوى منه وأغنى لأنه قد قرأه في التوراة وأخبر به موسى عليه السلام وسمعه من حفاظ التواريخ كأنه قيل له أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته الثاني يجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك كأنه لما قال أوتيته على علم عندي فتصلف بالعلم وتعظم به قيل أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين
أما قوله وَأَكْثَرُ جَمْعاً فالمعنى أكثر جمعاً للمال أو أكثر جماعة وعدداً وحاصل الجواب أن اغتراره بماله وقوته وجموعه من الخطأ العظيم وأنه تعالى إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك ولا ما يزيد عليه أضعافاً
فأما قوله وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فالمراد أن الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة به إلى السؤال فإن قيل كيف الجمع بينه وبين قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) قلنا يحمل ذلك على وقتين على ما قررناه وذكر أبو مسلم وجهاً آخر فقال السؤال قد يكون للمحاسبة وقد يكون للتقرير والتبكيت وقد يكون للاستعتاب وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( النحل 84 ) هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( المرسلات 35 36 )
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِى َ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَة ٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ(25/15)
أما قوله فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ فيدل على أنه خرج بأظهر زينة وأكملها وليس في القرآن إلا هذا القدر إلا أن الناس ذكروا وجوهاً مختلفة في كيفية تلك الزينة قال مقاتل خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف فارس على الخيول وعليها الثياب الأرجوانية ومعه ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلى والثياب الحمر على البغال الشهب وقال بعضهم بل خرج في تسعين ألفاً هكذا وقال آخرون بل على ثلثمائة والأولى ترك هذه التقريرات لأنها متعارضة ثم إن الناس لما رأوه على تلك الزينة قال من كان منهم يرغب في الدنيا الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِى َ قَارُونُ من هذه الأمور والأموال والراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبون الدنيا وأما العلماء وأهل الدين فقالوا للذين تمنوا هذا ويلكم ثواب الله خير من هذه النعم لأن للثواب منافع عظيمة وخالصة عن شوائب المضار ودائمة وهذه النعم العاجلة على الضد من هذه الصفات الثلاث قال صاحب ( الكشاف ) ويلك أصله الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى
أما قوله وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ فقال المفسرون لا يوفق لها والضمير في يلقاها إلى ماذا يعود فيه وجهان أحدهما إلى ما دل عليه قوله وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يعني هذه الأعمال لا يؤتاها إلا الصابرون والثاني قال الزجاج يعني ولا يلقى هذه الكلمة وهي قولهم ثواب الله خير إلا الصابرون على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرمات وعلى الرضا بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار
وأما قوله فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ ففيه وجهان أحدهما أنه لما أشر وبطر وعتا خسف الله به وبداره الأرض جزاء على عتوه وبطره والفاء تدل على ذلك لأن الفاء تشعر بالعلية وثانيها قيل إن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار وعن كل ألف درهم على درهم فحسبه فاستكثره فشحت نفسه فجمع بني إسرائيل وقال إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا أنت سيدنا وكبيرنا فمرنا بما شئت قال نبرطل فلانة البغي حتى تنسبه إلى نفسها فيرفضه بنو إسرائيل فجعل لها طستاً من ذهب مملوءاً ذهباً فلما كان يوم عيد قام موسى فقال يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ومن زنى وهو ( غير ) محصن جلدناه وإن أحصن رجمناه فقال قارون وإن كنت أنت قال وإن كنت أنا قال فإن بني إسرائيل يقولون إنك فجرت بفلانة فأحضرت فناشدها موسى بالله الذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله تعالى فقالت كذبوا بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجداً يبكي وقال يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله عز وجل إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك فقال يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعاً غير رجلين ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ثم قال خذيهم فانطبقت الأرض عليهم فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام ما أفظك استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم أما وعزتي لودعوني مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون(25/16)
بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله ثم إن قارون يخسف به كل يوم مائة قامة قال القاضي إذا هلك بالخسف فسواء نزل عن ظاهر الأرض إلى الأرض السابعة أو دون ذلك فإنه لا يمتنع ما روى على وجه المبالغة في الزجر وأما قولهم إنه تعالى قال لو استغاث بي لأغثته فإن صح حمل على استغاثة مقرونة بالتوبة فأما وهو ثابت على ما هو عليه مع أنه تعالى هو الذي حكم بذلك الخسف لأن موسى عليه السلام ما فعله إلا عن أمره فبعيد وقولهم إنه يتجلجل في الأرض أبداً فبعيد لأنه لا بد له من نهاية وكذا القول فيما ذكر من عدد القامات والذي عندي في أمثال هذه الحكايات أنها قليلة الفائدة لأنها من باب أخبار الآحاد فلا تفيد اليقين وليست المسألة مسألة عملية حتى يكتفى فيها بالظن ثم إنها في أكثر الأمر متعارضة مضطربة فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب
أما قوله وَمَا كَانَ مِنَ فالمراد من المنتقمين من موسى أو من الممتنعين من عذاب الله تعالى يقال نصره من عدوه فانتصر أي منعه منه فامتنع
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالاٌّ مْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرض وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ
اعلم أن القوم الذين شاهدوا قارون في زينته لما شاهدوا ما نزل به من الخسف صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى عليه السلام وداعياً إلى الرضا بقضاء الله تعالى وقسمته وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبياء الله ورسله
أما قوله يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ فاعلم أن وي كلمة مفصولة عن كأن وهي كلمة مستعملة عند التنبه للخطأ وإظهار التندم فلما قالوا الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِى َ قَارُونُ ( القصص 79 ) ثم شاهدوا الخسف تنبهوا لخطئهم فقالوا وي ثم قالوا كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه ويضيق على من يشاء لا لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وقضائه ابتلاء وفتنة قال سيبويه سألت الخليل عن هذا الحرف فقال إن وي مفصولة من كان وأن القوم تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم وي وذكر الفراء وجهين أحدهما أن المعنى ويلك فحذف اللام وإنما جاز هذا الحذف لكثرتها في الكلام وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال ويلك اعلم أن الله وهذا قول قطرب حكاه عن يونس الثاني وي منفصلة من كأن وهو للتعجب يقول الرجل لغيره وي أما ترى ما بين يديك فقال الله وي ثم استأنف كان الله يبسط فالله تعالى إنما ذكرها تعجيباً لخلقه قال الواحدي وهذا وجه مستقيم غير أن العرب لم تكتبها منفصلة ولو كان على ما قالوه لكتبوها(25/17)
منفصلة وأجاب الأولون بأن خط المصحف لا يقاس عليه ثم قالوا لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وهذا تأكيد لما قبله
أما قوله تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَة ُ فتعظيم لها وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما وعن علي عليه السلام إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها قال صاحب ( الكشاف ) ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون لقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ ( القصص 4 ) والفساد لقارون لقوله وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاْرْضِ ( القصص القصص 77 ) ويقول من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ كما تدبره علي بن أبي طالب عليه السلام
مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّى أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَى ْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علواً في الأرض ولا فساداً بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل لهم فقال مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وفيه وجوه أحدهما المعنى من جاء بالحسنة حصل له من تلك الكلمة خير وثانيها حصل له شيء هو أفضل من تلك الحسنة ومعناه أنهم يزادون على ثوابهم وقد مر تفسيره في آخر النمل وأما قوله وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فظاهره أن لا يزادوا على ما يستحقون وإذا صح ذلك في السيئات دل أن المراد في الحسنات بما هو خير منها ما ذكرناه من مزيد الفضل على الثواب قال صاحب ( الكشاف ) تقدير الآية ومن جاء بالسيئة فلا يجزون إلا ما كانوا يعملون لكنه كرر ذلك لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً فضل تهجين لحالهم وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها ويجزي بالحسنة عشر أمثالها وههنا سؤالان(25/18)
السؤال الأول قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) كرر ذلك الإحسان واكتفى بذكر الإساءة بمرة واحدة وفي هذه الآية كرر ذكر الإساءة مرتين واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة فما السبب الجواب لأن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في الزجر عن المعصية لائقة بهذا الباب لأن المبالغة في الزجر عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة وأما الآية الآخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى
السؤال الثاني كيف قال لا تجزي السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد والجواب لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه قال الجبائي وهذا يدل على بطلان مذهب من يجوز على الله تعالى أن يعذب الأطفال عذاباً دائماً بغير جرم قلنا لا يجوز أن يفعله وليس في الآية ما يدل عليه ثم إنه سبحانه لما شرح لرسوله أمر القيامة واستقصى في ذلك شرح له ما يتصل بأحواله فقال إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قال أبو علي الذي فرض عليك أحكامه وفرائضه لرادك بعد الموت إلى معاد وتنكير المعاد لتعظيمه كأنه قال إلى معاد وأي معاد أي ليس لغيرك من البشر مثله وقيل المراد به مكة ووجهه أن يراد برده إليها يوم الفتح ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأن عظيم لاستيلاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليها وقهره لأهلها وإظهار عز الإسلام وإذلال حزب الكفر والسورة مكية فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهراً ظافراً وقال مقاتل إنه عليه السلام خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن رجع إلى الطريق ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه فنزل جبريل عليه السلام وقال تشتاق إلى بلدك ومولدك فقال عليه السلام نعم فقال جبريل عليه السلام فإن الله تعالى يقول إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ يعني إلى مكة ظاهراً عليهم وهذا أقرب لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل العود وذلك لا يليق إلا بمكة وإن كان سائر الوجوه محتملاً لكن ذلك أقرب قال أهل التحقيق وهذا أحد ما يدل على نبوته لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزاً ثم قال قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ووجه تعلقه بما قبله أن الله تعالى وعد رسوله الرد إلى معاد قال قُلْ للمشركين رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ يعنيهم وما يستحقون من العقاب في معادهم ثم قال لرسوله وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ ففي كلمة إلا وجهان أحدهما أنها للاستثناء ثم قال صاحب ( الكشاف ) هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل ( وما ألقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) ويمكن أيضاً إجراؤه على ظاهره أي وما كنت ترجو إلا أن يرحمك الله برحمته فينعم عليك بذلك أي ما كنت ترجو إلا على هذا والوجه الثاني أن إلا بمعنى لكن للاستدراك أي ولكن رحمة من ربك ألقى إليك ونظيره قوله وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَة ً مّن رَّبِكَ ( القصص 46 ) خصصك به ثم إنه كلفه بأمور أحدها كلفه بأن لا يكون مظاهراً للكفار فقال فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لّلْكَافِرِينَ وثانيها أن قال وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ الميل إلى المشركين قال الضحاك وذلك حين دعوه إلى دين آبائه ليزوجوه ويقاسموه شطراً من مالهم أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله وثالثها قوله وَادْعُ إِلَى رَبّكَ أي(25/19)
إلى دين ربك وأراد التشدد في دعاء الكفار والمشركين فلذلك قال وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم ورابعها قوله وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ وهذا وإن كان واجباً على الكل إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصاً لأجل التعظيم فإن قيل الرسول كان معلوماً منه أن لا يفعل شيئاً من ذلك ألبتة فما فائدة هذا النهي قلنا لعل الخطاب معه ولكن المراد غيره ويجوز أن يكون المعنى لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلاً في أمورك فإن من وثق بغير الله تعالى فكأنه لم يكمل طريقه في التوحيد ثم بين أنه لا إله إلا هو أي لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو كقوله رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ( المزمل 9 ) فلا يجوز اتخاذ إله سواء ثم قال كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم والمعنى أن الله تعالى يعدم كل شيء سواه ومنهم من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعاً به إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء وإن كانت أجزاؤه باقية فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريدون به فناء أجزائه بل خروجه عن كونه منتفعاً به ومنهم من قال معنى كونه هالكاً كونه قابلاً للهلاك في ذاته فإن كل ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكن الوجود كان قابلاً للعدم فكان قابلاً للهلاك فأطلق عليه اسم الهلاك نظراً إلى هذا الوجه
واعلم أن المتكلمين لما أرادوا إقامة الدلالة على أن كل شيء سوى الله تعالى يقبل العدم والهلاك قالوا ثبت أن العالم محدث وكل ما كان محدثاً فإن حقيقته قابلة للعدم والوجود وكل ما كان كذلك وجب أن يبقى على هذه الحالة أبداً لأن الإمكان من لوازم الماهية ولازم الماهية لا يزول قط إلا أنا لما نظرنا في هذه الدلالة ما وجدناها وافية بهذا الغرض لأنهم إنما أقاموا الدلالة على حدوث الأجسام والأعراض فلو قدروا على إقامة الدلالة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز أو قائم بالمتحيز لتم غرضهم إلا أن الخصم يثبت موجودات لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز فالدليل الذي يبين حدوث المتحيز والقائم بالمتحيز لا يبين حدوث كل ما سوى الله تعالى إلا بعد قيام الدلالة على نفي ذلك القسم الثالث ولهم في نفي هذا القسم الثالث طريقان أحدهما قولهم لا دليل عليه فوجب نفيه وهذه طريقة ركيكة بينا سقوطها في الكتب الكلامية والثاني قولهم لو وجد موجود هكذا لكان مشاركاً لله تعالى في نفي المكان والزمان والإمكان ولو كان كذلك لصار مثلاً لله تعالى وهو ضعيف لاحتمال أن يقال إنهما وإن اشتركا في هذا السلب إلا أنه يتميز كل واحد منهما عن الآخر بماهية وحقيقة وإذا كان كذلك ظهر أن دليلهم العقلي لا يفي بإثبات أن كل شيء هالك إلا وجهه والذي يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول ثبت أن صانع العالم واجب الوجود لذاته فيستحيل وجود موجود آخر واجب لذاته وإلا لاشتركا في الوجوب وامتاز كل واحد منهما عن الآخر بخصوصيته وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً عما به المشاركة وعما به الممايزة وكل مركب ممكن مفتقر إلى جزئه ثم إن الجزأين إن كانا واجبين كانا مشتركين في الوجوب ومتمايزين باعتبار آخر فيلزم تركب كل واحد منهما أيضاً ويلزم التسلسل وهو محال وإن لم يكونا واجبين فالمركب عنهما المفتقر إليهما أولى أن لا يكون واجباً فثبت أن واجب الوجود واحد وأن كل ما عداه فهو ممكن وكل ممكن فلا بد له من مرجح وافتقاره إلى المرجح إما حال عدمه أو حال وجوده فإن كان الأول(25/20)
ثبت أنه محدث وإن كان الثاني فافتقار الموجود إلى المؤثر إما حال حدوثه أو حال بقائه والثاني باطل لأنه يلزم إيجاد الموجود وهو محال فثبت أن الافتقار لا يحصل إلا حال الحدوث وثبت أن كل ما سوى الله تعالى محدث سواء كان متحيزاً أو قائماً بالمتحيز أو لا متحيزاً ولا قائماً بالمتحيز فإن نقضت هذه الدلالة بذات الله وصفاته فاعلم أن هناك فرقاً قوياً وإذا ثبت حدوث كل ما سواه وثبت أن كل ما كان محدثاً كان قابلاً للعدم ثبت بهذا البرهان الباهر أن كل شيء هالك إلا وجهه بمعنى كونه قابلاً للهلاك والعدم ثم إن الذين فسروا الآية بذلك قالوا هذا أولى وذلك لأنه سبحانه حكم بكونها هالكة في الحال وعلى ما قلناه فهي هالكة في الحال وعلى ما قلتموه أنها ستهلك لا إنها هالكة في الحال فكان قولنا أولى وأيضاً فالممكن إذا وجد من حيث هو لم يكن مستحقاً لا للوجود ولا للعدم من ذاته فهذه الاستحقاقية مستحقة له من ذاته وأما الوجود فوارد عليه من الخارج فالوجود له كالثوب المستعار له وهو من حيث هو هو كالإنسان الفقير الذي استعار ثوباً من رجل غني فإن الفقير لا يخرج بسبب ذلك عن كونه فقيراً كذا الممكنات عارية عن الوجود من حيث هي هي وإنما الوجود ثوب حصل لها بالعارية فصح أنها أبداً هالكة من حيث هي هي أما الذين حملوه على أنها ستعدم فقد احتجوا بأن قالوا الهلاك في اللغة له معنيان أحدهما خروج الشيء عن أن يكون منتفعاً به الثاني الفناء والعدم لا جائز حمل اللفظ على الأول لأن هلاكها بمعنى خروجها عن حد الانتفاع محال لأنها وإن تفرقت أجزاؤها فإنها منتفع بها لأن النفع المطلوب كونها بحيث يمكن أن يستدل بها على وجود الصانع القديم وهذه المنفعة باقية سواء بقيت متفرقة أو مجتمعة وسواء بقيت موجودة أو صارت معدومة وإذا تعذر حمل الهلاك على هذا الوجه وجب حمله على الفناء أجاب من حمل الهلاك على التفرق قال هلاك الشيء خروجه عن المنفعة التي يكون الشيء مطلوباً لأجلها فإذا مات الإنسان قيل هلك لأن الصفة المطلوبة منه حياته وعقله وإذا تمزق الثوب قيل هلك لأن المقصود منه صلاحيته للبس فإذا تفرقت أجزاء العالم خرجت السموات والكواكب والجبال والبحار عن صفاتها التي لأجلها كانت منتفعاً بها انتفاعاً خاصاً فلا جرم صح إطلاق اسم الهالك عليها فأما صحة الاستدلال بها على الصانع سبحانه فهذه المنفعة ليست منفعة خاصة بالشمس من حيث هي شمس والقمر من حيث هو قمر فلم يلزم من بقائها أن لا يطلق عليها اسم الهالك ثم احتجوا على بقاء أجزاء العالم بقوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وهذا صريح بأن تلك الأجزاء باقية إلا أنها صارت متصفة بصفة أخرى فهذا ما في هذا الموضع
المسألة الثانية احتج أهل التوحيد بهذه الآية على أن الله تعالى شيء قالوا لأنه استثنى من قوله كُلّ شَى ْء استثناء يخرج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت اللفظ فوجب كونه شيئاً يؤكده ما ذكرناه في سورة الأنعام وهو قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 ) واحتجاجهم على أنه ليس بشيء بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والكاف معناه المثل فتقدير الآية ليس مثل مثله شيء ومثل مثل الله هو الله فوجب أن لا يكون الله شيئاً جوابه أن الكاف صلة زائدة
المسألة الثالثة استدلت المجسمة بهذه الآية على أن الله تعالى جسم من وجهين الأول قالوا الآية صريحة في إثبات الوجه وذلك يقتضي الجسمية والثاني قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وكلمة إلى لانتهاء الغاية وذلك لا يعقل إلا في الأجسام والجواب لو صح هذا الكلام يلزم أن يفنى جميع أعضائه وأن لا يبقى منه(25/21)
إلا الوجه وقد التزم ذلك بعض المشبهة من الرافضة وهو بيان ابن سمعان وذلك لا يقول به عاقل ثم من الناس من قال الوجه هو الوجود والحقيقة يقال وجه هذا الأمر كذا أي حقيقته ومنهم من قال الوجه صلة والمراد كل شيء هالك إلا هو وأما كلمة إلى فالمعنى وإلى موضع حكمه وقضائه ترجعون
المسألة الرابعة استدلت المعتزلة به على أن الجنة والنار غير مخلوقتين قالوا لأن الآية تقتضي فناء الكل فلو كانتا مخلوقتين لفنيتا وهذا يناقض قوله تعالى في صفة الجنة أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 ) والجواب هذا معارض بقوله تعالى في صفة الجنة أُعِدَّتْ ( آل عمران 133 ) وفي صفة النار الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( البقرة 24 ) ثم إما أن يحمل قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ على الأكثر كقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) أو يحمل قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ على أن زمان فنائهما لما كان قليلاً بالنسبة إلى زمان بقائهما لا جرم أطلق لفظ الدوام عليه
المسألة الخامسة قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ يدل على أن الذات ذات بالفعل لأنه حكم بالهلاك على الشيء فدل على أن الشيء في كونه شيئاً قابل للهلاك فوجب أن لا يكون المعدوم شيئاً والله أعلم والحمد لله رب العالمين(25/22)
سورة العنكبوت
مكية وقيل مدنية وقيل نزلت من أولها إلى رأس عشر بمكة
وباقيها بالمدينة أو نزل إلى آخر العشر بالمدينة
وباقيها بمكة وبالعكس وهي سبعون أو تسع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
ال م أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ
المسألة الأولى في تعلق أول هذه السورة بما قبلها وفيه وجوه الأول لما قال الله تعالى قبل هذه السورة إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ( القصص 85 ) وكان المراد منه أن يرده إلى مكة ظاهراً غالباً على الكفار ظافراً طالباً للثأر وكان فيه احتمال مشاق القتال صعب على البعض ذلك فقال الله تعالى الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا ولا يؤمروا بالجهاد الوجه الثاني هو أنه تعالى لما قال في أواخر السورة المتقدمة وَادْعُ إِلَى رَبّكَ ( القصص 87 ) وكان في الدعاء إليه الطعان والحراب والضراب لأن النبي عليه السلام وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن الكفار بمجرد الدعاء فشق على البعض ذلك فقال أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ الوجه الثالث هو أنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) ذكر بعده ما يبطل قول المنكرين للحشر فقال لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يعني ليس كل شيء هالكاً من غير رجوع بل كل هالك وله رجوع إلى الله إذا تبين هذا فاعليم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف فإنها مشاق في الحال ولا فائدة لها في المآل إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوال فلا فائدة فيها فلما بين الله أنهم إليه يرجعون بين أن الأمر ليس على ما حسبوه بل حسن التكليف ليثيب الشكور ويعذب الكفور فقال أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم(25/23)
المسألة الثانية في حكمة افتتاح هذه السورة بحروف من التهجي ولنقدم عليه كلاماً كلياً في افتتاح السور بالحروف فنقول الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال يقدم على الكلام المقصود شيئاً غيره ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه ثم يشرع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول ذلك المقدم على المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفعوم كقول القائل اسمع واجعل بالك إلى وكن لي وقد يكون شيئاً هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل أزيد ويازيد وألا يازيد وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتاً غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم كان المقدم على المقصود أكثر ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال أزيد والبعيد بيا فيقال يا زيد والغافل ينبه أولاً فيقال ألا يا زيد إذا ثبت هذا فنقول إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبهات ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك فإذا كان ذلك المقدم كلاماً منظوماً وقولا مفهوماً فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الإلتفات عنه أما إذا سمع منه صوتاً بلا معنى يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود فاذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في الوضع على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة فإن قال قائل فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف فنقول عقل البشر عن إدراك الأشياء الجزئية على تفاصيلها عاجز والله أعلم بجميع الأشياء لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كقوله تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 ) الم اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( آل عمران 1 3 ) المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ( الأعراف 1 2 ) يس وَالْقُرْءانِ ( ي س 1 2 ) ص وَالْقُرْءانِ ( ص 1 ) ق وَالْقُرْءانِ ( ق 1 ) الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( السجدة 1 2 ) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( الجاثية 1 2 ) إلا ثلاث سور كهعيص ( مريم 1 ) الضَّالّينَ الم أَحَسِبَ النَّاسُ الم غُلِبَتِ الرُّومُ ( الروم 1 2 ) والحكمة في افتتاح السور التي فيها القرآن أو التنزيل أو الكتاب بالحروف هي أن القرآن عظيم والإنزال له ثقل والكتاب له عبء كما قال تعالى إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ( المزمل 5 ) وكل سورة في أولها ذكر القرآن والكتاب والتنزيل قدم عليها منبه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه لا يقال كل سورة قرآن واستماعه استماع القرآن سواء كان فيها ذكر القرآن لفظاً أو لم يكن فكان الواجب أن يكون في أوائل كل سورة منبه وأيضاً فقد وردت سورة فيها ذكر الإنزال والكتاب ولم يذكر قلبها حروف كقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وقوله سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا ( النور 1 ) وقوله تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ( الفرقان 1 ) وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) لأنا نقول جواباً عن الأول لا ريب في أن كل سورة من القرآن لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب مع أنها من القرآن تنبه على كل القرآن فإن قوله تعالى طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( ط 1 2 ) مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن فيصير مثاله مثال كتاب يرد من ملك على مملوكه فيه شغل ما وكتاب آخر يرد منه عليه فيه إنا كتبنا إليك كتباً إليك كتباً فيها أوامرنا فامتثلها لا شك(25/24)
أن عبء الكتاب الآخر أكثر من ثقل الأول وعن الثاني أن قوله الْحَمْدُ اللَّهِ وَتَبَارَكَ الَّذِى تسبيحات مقصودة وتسبيح الله لا يغفل عنه العبد فلا يحتاج إلى منبه بخلاف الأوامر والنواهي وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمة من له التسبيح سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا قد بينا أنها من القرآن فيها ذكر انزالها وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم في النفس وأثقل
وأما قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فنقول هذا ليس وارداً على مشغول القلب بشيء غيره بدليل أنه ذكر الكناية فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ الهاء راجع إلى معلوم عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكان متنبهاً له فلم ينبه واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كما في قوله تعالى تَصِفُونَ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) وقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( لأحزاب 1 ) عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ لِمَ تُحَرّمُ ( التحريم 1 ) لأنها أشياء هائلة عظيمة فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها تنبيهاً وأما هذه السورة افتتحت بالحروف وليس فيها الإبتداء بالكتاب والقرآن وذلك لأن القرآن ثقله وعبئه بما فيه من التكاليف والمعاني وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا يعني لا يتركون بمجرد ذلك بل يؤمرون بأنواع من التكاليف فوجد المعنى الذي في السور التي فيها ذكر القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي فإن قيل مثل هذا الكلام وفي معناه ورد في سورة التوبة وهو قوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ( التوبة 16 ) ولم يقدم عليه حروف التهجي فنقول الجواب عنه في غاية الظهور وهو أن هذا ابتداء كلام ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة فقال أَحَسِبَ وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام بأم والتنبيه يكون في أول الكلام لا في أثنائه وأما الم غُلِبَتِ الرُّومُ ( الروم 1 2 ) فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى هذا تمام الكلام في الحروف
المسألة الثالثة في إعراب الم وقد ذكر تمام ذلك في سورة البقرة مع الوجوه المنقولة في تفسيره ونزيد ههنا على ما ذكرناه أن الحروف لا إعراب لها لأنها جارية مجرى الأصوات المنبهة
المسألة الرابعة في سبب نزول هذه الآيات وفيه أقوال الأول أنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة الثاني أنها نزلت في أقوام بمكة هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون الثالث أنها نزلت في مهجع بن عبد الله قتل يوم بدر
المسألة الخامسة في التفسير قوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ يعني أظنوا أنهم يتركون بمجرد قولهم وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ لا يبتلون بالفرائض البدنية والمالية واختلف أئمة النحو في قوله أَن يَقُولُواْ فقال بعضهم أن يتركوا بأن يقولوا وقال بعضهم أن يتركوا يقولون آمنا ومقتضى ظاهر هذا أنهم يمنعون من قولهم آمنا كما يفهم من قول القائل تظن أنك تترك أن تضرب زيد أن تمنع من ذلك وهذا بعيد فإن الله لا يمنع أحداً من أن يقول آمنت ولكن مراد هذا المفسر هو أنهم لا يتركون يقولون آمنا من غير ابتلاء فيمنعون من هذا المجموع بإيجاب الفرائض عليهم
المسألة السادسة في الفوائد المعنوية وهي أن المقصود الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى(25/25)
في العبادة حصول محبة الله كما ورد في الخبر ( لا يزال العبد يتقرب إلي بالعبادة حتى أحبه وكل من كان قلبه أشد امتلأ من محبة الله فهو أعظم درجة عند الله لكن للقلب ترجمان وهو اللسان وللسان مصدقات هي الأعضاء ولهذه المصدقات مزكيات فإذا قال الإنسان آمنت باللسان فقد ادعى محبة الله في الجنان فلا بد له من شهود فإذا استعمل الأركان في الاتيان بما عليه بنيان الإيمان حصل له على دعواه شهود مصدقات فإذا بذل في سبيل الله نفسه وماله وزكى بترك ما سواه أعماله زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله فيحرر في جرائد المحبين اسمه ويقرر في أقسام المقربين قسمه وإليه الإشارة بقوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا يعني أظنوا أن تقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهودهم بلا مزكين بل لا بد من ذلك جميعه ليكونوا من المحبين
فائدة ثانية وهي أن أدنى درجات العبد أن يكون مسلماً فإن ما دونه دركات الكفر فالإسلام أول درجة تحصل للعبد فإذا حصل له هذه المرتبة كتب اسمه وأثبت قسمه لكن المستخدمين عند الملوك على أقسام منهم من يكون ناهضاً في شغله ماضياً في فعله فينقل من خدمة إلى خدمة أعلى منها مرتبة ومنهم من يكون كسلاناً متخلفاً فينقل من خدمة إلى خدمة أدنى منها ومنهم من يترك على شغله من غير تغيير ومنهم من يقطع رسمه ويمحى من الجرائد اسمه فكذلك عباد الله قد يكون المسلم عابداً مقبلاً على العبادة مقبولاً للسعادة فينقل من مرتبة المؤمنين إلى درجة الموقنين وهي درجة المقربين ومنهم من يكون قليل الطاعة مشتغلاً بالخلاعة فينقل إلى مرتبة دونه وهي مرتبة العصاة ومنزلة القساة وقد يستصغر العيوب ويستكثر الذنوب فيخرج من العبادة محروماً ويلحق بأهل العناد مرجوماً ومنهم من يبقى في أول درجة الجنة وهم البله فقال الله بشارة للمطيع الناهض أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ يعني أظنوا أنهم يتركون في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات كما قال تعالى وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ( المجادلة 11 ) فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَة ً ( النساء 95 ) وقال بضده للكسلان أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا يعني إذا قال آمنت ويتخلف بالعصيان يترك ويرضى منه لا بل ينقل إلى مقام أدنى وهو مقام العاصي أو الكافر
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
ذكر الله ما يوجب تسليتهم فقال كذلك فعل الله بمن قبلكم ولم يتركهم بمجرد قولهم مِنَ بل فرض عليهم الطاعات وأوجب عليهم وفي قوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وجوه الأول قول مقاتل فليرين الله الثاني فليظهرن الله الثالث فليميزن الله فالحاصل على هذا هو أن المفسرين ظنوا أن حمل الآية على ظاهرها يوجب تجدد علم الله والله عالم بالصادق والكاذب قبل الامتحان فكيف يمكن أن يقال بعلمه عند الامتحان فنقول الآية محمولة على ظاهرها وذلك أن علم الله صفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع فقبل التكليف كان الله يعلم أن زيداً مثلا سيطيع وعمراً سيعصي ثم وقت التكليف والاتيان يعلم أنه مطيع والآخر عاص وبعد الاتيان يعلم أنه أطاع والآخر عصى ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال وإنما(25/26)
المتغير المعلوم ونبين هذا بمثال من الحسيات ولله المثل الأعلى وهو أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت من موضع وقوبل بوجهها جهة ولم تحرك ثم عبر عليها زيد لابساً ثوباً أبيض ظهر فيها زيد في ثوب أبيض وإذا عبر عليها عمرو في لباس أصفر يظهر فيها كذلك فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديداً تغيرت أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت أو يذهب فهمه إلى أنها في صقالتها اختلفت أو يخطر بباله أنها عن سكانها انتقلت لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير الخارجات فافهم علم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال فإن المرآة ممكنة التغير وعلم الله غير ممكن عليه ذلك فقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ يعني يقع ممن يعلم الله أن يطيع الطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ يعني من قال أنا مؤمن وكان صادقاً عند فرض العبادات يظهر منه ذلك ويعلم ومن قال ذلك وكان منافقاً كذلك يبين وفي قوله الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل وقوله الْكَاذِبِينَ باسم الفاعل فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال فلان شرب الخمر وفلان شارب الخمر وفلان نفذ أمره وفلان نافذ الأمر فإنه لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ ومن اسم الفاعل يفهم ذلك إذا ثبت هذا فنقول وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أوائل ايجاب التكاليف وعن قوم مستديمين للكفر مستمرين عليه فقال في حق المؤمنين الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل أي وجد منهم الصدق وقال في حق الكافر الْكَاذِبِينَ بالصيغة المنبئة عن الثبات والدوام ولهذا قال يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( المائدة 119 ) بلفظ اسم الفاعل وذلك لأن في اليوم المذكور الصدق قد يرسخ في قلب المؤمن وهو اليوم الآخر ولا كذلك في أوائل الإسلام
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
لما بين حسن التكليف بقوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الإستقبال ولا يفوت الله شيء في الحال ولا في المآل وهذا إبطال مذهب من يقول التكاليف إرشادات والإيعاد عليه ترغيب وترهيب ولا يوجد من الله تعذيب ولو كان يعذب ما كان عاجزاً عن العذاب عاجلاً فلم كان يؤخر العقاب فقال تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا يعني ليس كما قالوا بل يعذب من يعذب ويثيب من يثيب بحكم الوعد والإيعاد والله لا يخلف الميعاد وأما الإمهال فلا يفضي إلى الإهمال والتعجيل في جزاء الأعمال شغل من يخاف الفوت لولا الإستعجال
ثم قال تعالى سَاء مَا يَحْكُمُونَ يعني حكمهم بأنهم يعصون ويخالفون أمر الله ولا يعاقبون حكم سيء فإن الحكم الحسن لا يكون إلا حكم العقل أو حكم الشرع والعقل لا يحكم على الله بذلك فإن الله له أن يفعل ما يريد والشرع حكمه بخلاف ما قالوه فحكمهم حكم في غاية السوء والرداءة(25/27)
ثم قال مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
لما بين بقوله أحسب الناس أن العبد لا يترك في الدنيا سدى وبين في قوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أن من ترك ما كلف به يعذب كذا بين أن يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله ولا يخيب أمله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنا ذكرنا في مواضع أن الأصول الثلاثة وهي الأول وهو الله تعالى ووحدانيته والأصل الآخر وهو اليوم الآخر والأصل المتوسط وهو النبي المرسل من الأول الموصل إلا الآخر لا يكاد ينفصل في الذكر الإلهي بعضها عن بعض فقوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا ( العنكبوت 2 ) فيه إشارة إلى الأصل الأول يعني أظنوا أنه يكفي الأصل الأول وقوله وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( العنكبوت 2 3 ) يعني بإرسال الرسل وإيضاح السبل فيه إشارة إلى الأصل الثاني وقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ مع قوله مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فيه إشارة إلى الأصل الثالث وهو الآخر
المسألة الثانية ذكر بعض المفسرين في تفسير لقاء الله أنه الرؤية وهو ضعيف فإن اللقاء والملاقاة بمعنى وهو في اللغة بمعنى الوصول حتى أن جمادين إذا تواصلا فقد لاقى أحدهما الآخر
المسألة الثالثة قال بعض المفسرين المراد من الرجاء الخوف والمعنى من قوله مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ من كان يخاف الله وهو أيضاً ضعيف فإن المشهور في الرجاء هو توقع الخير لا غير ولأنا أجمعنا على أن الرجاء ورد بهذا المعنى يقال أرجو فضل الله ولا يفهم منه أخاف فضل الله وإذا كان وارداً لهذا لا يكون لغيره دفعاً للاشتراك
المسألة الرابعة يمكن أن يكون المراد بأجل الله الموت ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بالحشر فإن كان هو الموت فهذا ينبىء عن بقاء النفوس بعد الموت كما ورد في الأخبار وذلك لأن القائل إذا قال من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل يفهم منه أن متصلاً بوصول السلطان يكون هو الخير حتى أنه لو وصل هو وتأخر الخير يصح أن يقال للقائل أما قلت ما قلت ووصل السلطان ولم يظهر الخير فلو لم يحصل اللقاء عند الموت لما حسن ذلك كما ذكرنا في المثال وإذا تبين هذا فلولا البقاء لما حصل اللقاء
المسألة الخامسة قوله مَن كَانَ يَرْجُو شرط وجزاؤه فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتياً له وهذا باطل فما الجواب عنه نقول المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما بعده من الثواب يعني من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت بثواب الله يثاب على طاعته عنده ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتياً على وجه يثاب هو
المسألة السادسة قال وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ولم يذكر صفة غيرهما كالعزيز الحكيم وغيرهما وذلك لأنه سبق القول في قوله أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ وسبق الفعل بقوله وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وبقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وبقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما لا يدرك بالبصر ومنه ما يدرك به كالقصود والعلم يشملهما وهو السميع يسمع ما قالوه وهو العليم يعلم من صدق فيما قال ممن كذب وأيضاً عليم يعلم ما يعمل فيثيب ويعاقب وههنا لطيفة(25/28)
وهي أن العبد له ثلاثة أمور هي أصناف حسناته أحدها عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم وعمل لسانه وهو يسمع وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت ولمرئيه ما لا عين رأت ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد كما وصف في الخبر في وصف الجنة
وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
لما بين أن التكليف حسن واقع وأن عليه وعداً وإيعاداً ليس لهما دافع بين أن طلب الله ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إليه فإنه غني مطلقاً ليس شيء غيره يتوقف كما له عليه ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ( فصلت 46 ) وقوله تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ ( الإسراء 7 وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الآية السابقة مع هذه الآية يوجبان إكثار العبد من العمل الصالح وإتقانه له وذلك لأن من يفعل فعلاً لأجل ملك ويعلم أن الملك يراه ويبصره يحسن العمل ويتقنه وإذا علم أن نفعه له ومقدر بقدر عمله يكثر منه فإذا قال الله إنه سميع عليم فالعبد يتقن عمله ويخلصه له وإذا قال بأن جهاده لنفسه يكثر منه
المسألة الثانية لقائل أن يقول هذا يدل على أن الجزاء على العمل لأن الله تعالى لما قال مِنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ فهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح فنقول هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق وبيانه هو أن الله تعالى لما بين أن المكلف إذا جاهد يثيبه فإذا أتى به هو يكون جهاداً نافعاً له ولا نزاع فيه وإنما النزاع في أن الله يجب عليه أن يثيب على العمل لولا الوعد ولا يجوز أن يحسن إلى أحد إلا بالعمل ولا دلالة للآية عليه
المسألة الثالثة قوله فَإِنَّمَا يقتضي الحصر فينبغي أن يكون جهاد المرء لنفسه فحسب ولا ينتفع به غيره وليس كذلك فإن من جاهد ينتفع به ومن يريد هو نفعه حتى أن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعان فنقول ذلك نفع له فإن انتفاع الولد انتفاع للأب والحصر ههنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع ويدل عليه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وفيه مسائل
الأولى تدل الآية على أن رعاية الأصلح لا يجب على الله لأنه بالأصلح لا يستفيد فائدة وإلا لكان مستكملاً بتلك الفائدة وهي غيره وهي من العالم فيكون مستكملاً بغيره فيكون محتاجاً إليه وهو غني عن العالمين وأيضاً أفعاله غير معللة لما بينا
المسألة الثانية تدل الآية على أنه ليس في مكان وليس على العرش على الخصوص فإنه من العالم والله غني عنه والمستغني عن المكان لا يمكن دخوله في مكان لأن الداخل في المكان يشار إليه بأنه ههنا أو هناك على سبيل الاستقلال وما يشار إليه بأنه ههنا أو هناك يستحيل أن لا يوجد لا ههنا ولا هناك وإلا لجوز(25/29)
العقل إدراك جسم لا في مكان وإنه محال
المسألة الثالثة لو قال قائل ليست قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم وإلا لكان هو في قادريته محتاجاً إلى قدرة هي غيره وكل ما هو غيره فهو من العالم فيكون محتاجاً وهو غني نقول لم قلتم إن قدرته من العالم وهذا لأن العالم كل موجود سوى الله بصفاته أي كل موجود هو خارج عن مفهوم الإله الحي القادر المريد العالم السميع البصير المتكلم والقدرة ليست خارجة عن مفهوم القادر والعلم ليس خارجاً عن مفهوم العالم
المسألة الرابعة الآية فيها بشارة وفيها إنذار أما الإنذار فلأن الله إذا كان غنياً عن العالمين فلو أهلك عباده بعذابه فلا شيء عليه لغناه عنهم وهذا يوجب الخوف العظيم وأما البشارة فلأنه إذا كان غنياً فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده لا شيء عليه لاستغنائه عنه وهذا يوجب الرجاء التام
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ
لما بين إجمالاً أن من يعمل صالحاً فلنفسه بين مفصلاً بعض التفصيل أن جزاء المطيع الصالح عمله فقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنها تدل على أن الأعمال مغايرة للإيمان لأن العطف يوجب التغاير
المسألة الثانية أنها تدل على أن الأعمال داخلة فيما هو المقصود من الإيمان لأن تكفير السيئات والجزاء بالأحسن معلق عليها وهي ثمرة الإيمان ومثال هذا شجرة مثمرة لا شك في أن عروقها وأغصانها منها والماء الذي يجري عليها والتراب الذي حواليها غير داخل فيها لكن الثمرة لا تحصل إلا بذلك الماء والتراب الخارج فكذلك العمل الصالح مع الإيمان وأيضاً الشجرة لو احتفت بها الحشائش المفسدة والأشواك المضرة ينقص ثمرة الشجرة وإن غلبتها عدمت الثمرة بالكلية وفسدت فكذلك الذنوب تفعل بالإيمان
المسألة الثالثة الإيمان هو التصديق كما قال وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ( يوسف 17 ) أي بمصدق واختص في استعمال الشرع بالتصديق بجميع ما قال الله وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التفصيل إن علم مفصلاً أنه قول الله أو قول الرسول أو على سبيل الإجمال فيما لم يعلم والعمل الصالح عندنا كل ما أمر الله به صار صالحاً بأمره ولو نهى عنه لما كان صالحاً فليس الصلاح والفساد من لوازم الفعل في نفسه وقالت المعتزلة ذلك من صفات الفعل ويترتب عليه الأمر والنهي فالصدق عمل صالح في نفسه ويأمر الله به لذلك فعندنا الصلاح والفساد والحسن والقبح يترتب على الأمر والنهي وعندهم الأمر والنهي يترتب على الحسن والقبح والمسألة بطولها في ( كتب ) الأصول(25/30)
المسألة الرابعة العمل الصالح باق لأن الصالح في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف يقال فسدت الزروع إذا هلكت أو خرجت عن درجة الانتفاع ويقال هي بعد صالحة أي باقية على ما ينبغي إذا علم هذا فنقول العمل الصالح لا يبقى بنفسه لأنه عرض ولا يبقى بالعامل أيضاً لأنه هالك كما قال تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ فبقاؤه لا بد من أن يكون بشيء باق لكن الباقي هو وجه الله لقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) فينبغي أن يكون العمل لوجه الله حتى يبقى فيكون صالحاً وما لا يكون لوجهه لا يبقى لا بنفسه ولا بالعامل ولا بالمعمول له فلا يكون صالحاً فالعمل الصالح هو الذي أتى به المكلف مخلصاً لله
المسألة الخامسة هذا يقتضي أن تكون النية شرطاً في الصالحات من الأعمال وهي قصد الإيقاع لله ويندرج فيها النية في الصوم خلافاً لزفر وفي الوضوء خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله
المسألة السادسة العمل الصالح مرفوع لقوله تعالى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) لكنه لا يرتفع إلا بالكلم الطيب فإنه يصعد بنفسه كما قال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) وهو يرفع العمل فالعمل من غير المؤمن لا يقبل ولهذا قدم الإيمان على العمل وههنا لطيفة وهي أن أعمال المكلف ثلاثة عمل قلبه وهو فكره واعتقاده وتصديقه وعمل لسانه وهو ذكره وشهادته وعمل جوارحه وهو طاعته وعبادته فالعبادة البدنية لا ترتفع بنفسها وإنما ترتفع بغيرها والقول الصادق يرتفع بنفسه كما بين في الآية وعمل القلب وهو الفكر ينزل إليه كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ويقول هل من تائب ) والتائب النادم بقلبه وكذلك قوله عليه السلام ( يقول الله عز وجل أنا عند المنكسرة قلوبهم ) يعني بالفكرة في عجزه وقدرتي وحقارته وعظمتي ومن حيث العقل من تفكر في آلاء الله وجد الله وحضر ذهنه فعلم أن لعمل القلب يأتي الله وعمل اللسان يذهب إلى الله وعمل الأعضاء يوصل إلى الله وهذا تنبيه على فضل عمل القلب
المسألة السابعة ذكر الله من أعمال العبد نوعين الإيمان والعمل الصالح وذكر في مقابلتهما من أفعال الله أمرين تكفير السيئات والجزاء بالأحسن حيث قال لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح وهذا يقتضى أموراً الأول المؤمن لا يخلد في النار لأن بإيمانه تكفر سيئاته فلا يخلد في العذاب الثاني الجزاء الأحسن المذكور ههنا غير الجنة وذلك لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة إذ تكفر سيئاته ومن كفرت سيئاته أدخل الجنة فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا يبعد أن يكون هو الرؤية
الأمر الثالث هو أن الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا فيستر الله عيوبه في الأخرى والعمل الصالح يحسن حال الصالح في الدنيا فيجزيه الله الجزاء الأحسن في العقبى فالإيمان إذن لا يبطله العصيان بل هو يغلب المعاصي ويسترها ويحمل صاحبها على الندم والله أعلم
المسألة الثامنة قوله لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ يستدعي وجود السيئات حتى تكفر وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بأسرها من أين يكون لهم سيئة فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أن وعد(25/31)
الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء مثاله إذا قال الملك لأهل بلد إذا أطعتموني أكرم آباءكم واحترم أبناءكم وأنعم عليكم وأحسن إليكم لا يقتضي هذا أنه يكرم آباء من توفى أبوه أو يحترم ابن من لم يولد له ولد بل مفهومه أنه يكرم أب من له أب ويحترم ابن من له ابن فكذلك يكفر سيئة من له سيئة الجواب الثاني ما من مكلف إلا وله سيئة أما غير الأنبياء فظاهر وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم ولهذا قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 )
المسألة التاسعة قوله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ يحتمل وجهين أحدهما لنجزينهم بأحسن أعمالهم وثانيهما لنجزينهم أحسن من أعمالهم وعلى الوجه الأول معناه نقدر أعمالهم أحسن ما تكون ونجزيهم عليها لا أنه يختار منها أحسنها ويجزى عليه ويترك الباقي وعلى الوجه الثاني معناه قريب من معنى قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( الأنعام 160 ) وقوله فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا ( النمل 89 )
المسألة العاشرة ذكر حال المسيء مجملاً بقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا إشارة إلى التعذيب مجملاً وذكر حال المحسن مجملاً بقوله وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ومفصلاً بهذه الآية ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه وفضله أعم من عدله
وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَى َّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
الأولى ما وجه تعلق الآية بما قبلها نقول لما بين الله حسن التكاليف ووقوعها وبين ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها تحريضاً للمكلف على الطاعة ذكر المانع ومنعه من أن يختار اتباعه فقال الإنسان إن انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه ومع هذا لو أمراه بالمعصية لا يجوز اتباعهما فضلاً عن غيرهما فلا يمنعن أحدكم شيء من طاعة الله ولا يتبعن أحد من يأمر بمعصية الله
المسألة الثانية في القراءة قرىء حسناً وإحساناً وحسناً أظهر ههنا ومن قرأ إحساناً فمن قوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً البقرة 83 ) والتفسير على القراءة المشهورة هو أن الله تعالى وصى الإنسان بأن يفعل مع والديه حسن التأبي بالفعل والقول ونكر حسناً ليدل على الكمال كما يقال إن لزيد مالاً
المسألة الثالثة في قوله وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً دليل على أن متابعتهم في الكفر لا يجوز وذلك لأن الإحسان بالوالدين وجب بأمر الله تعالى فلو ترك العبد عبادة الله تعالى بقول الوالدين لترك طاعة الله تعالى فلا ينقاد لما وصاه به فلا يحسن إلى الوالدين فاتباع العبد أبويه لأجل الإحسان إليهم يفضي إلى ترك الإحسان إليهما وما يفضي وجوده إلى عدمه باطل فالاتباع باطل وأما إذا امتنع من الشرك بقي على الطاعة والإحسان إليهما من الطاعة فيأتي به فترك هذا الإحسان صورة يفضي إلى الإحسان حقيقة
المسألة الرابعة الإحسان بالوالدين مأمور به لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية(25/32)
المعتادة فهما سبب مجازاً والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة وسبب بقائه بالإعادة للسعادة فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه ثم قال تعالى وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا فقوله مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يعني التقليد في الإيمان ليس بجيد فضلاً عن التقليد في الكفر فإذا امتنع الإنسان من التقليد فيه ولا يطيع بغير العلم لا يطيعهما أصلاً لأن العلم بصحة قولهما محال الحصول فإذا لم يشرك تقليداً ويستحيل الشرك مع العلم فالشرك لا يحصل منه قط
ثم قال تعالى إِلَى َّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يعني عاقبتكم ومآلكم إلي وإن كان اليوم مخالطتكم ومجالستكم مع الآباء والأولاد والأقارب والعشائر ولا شك أن من يعلم أن مجالسته مع واحد خالية منقطعة وحضوره بين يدي غيره دائم غير منقطع لا يترك مراضي من تدوم معه صحبته لرضا من يتركه في زمان آخر
ثم قوله تعالى فَأُنَبِئُكُم فيه لطيفة وهي أن الله تعالى يقول لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتماداً على غيبتي وعدم علمي بمخالفتكم إياي فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ولا أنسى فأنبئكم بجميعه
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في إعادة الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مرة أخرى نقول الله تعالى ذكر من المكلفين قسمين مهتدياً وضالاً بقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 3 ) وذكر حال الضال مجملاً وحال المهتدي مفصلاً بقوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ ولما تمم ذلك ذكر قسمين آخرين هادياً ومضلاً فقوله وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( العنكبوت 8 ) يقتضي أن يهتدي بهما وقوله وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بيان إضلالهما وقوله إِلَى َّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بطريق الإجمال تهديد المضل وقوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ على سبيل التفصيل وعد الهادي فذكر الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مرة لبيان حال المهتدي ومرة أخرى لبيان حال الهادي والذي يدل عليه هو أنه قال أولاً لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وقال ثانياً لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ والصالحون هم الهداة لأنه مرتبة الأنبياء ولهذا قال كثير من الأنبياء وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( يوسف 101 )
المسألة الثانية قد ذكرنا أن الصالح باق والصالحون باقون وبقاؤهم ليس بأنفسهم بل بأعمالهم الباقية فأعمالهم باقية والمعمول له وهو وجه الله باق والعاملون باقون ببقاء أعمالهم وهذا على خلاف الأمور الدنيوية فإن في الدنيا بقاء الفعل بالفاعل وفي الآخرة بقاء الفاعل بالفعل
المسألة الثالثة قيل في معنى قوله لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ لندخلنهم في مقام الصالحين أو في دار الصالحين والأولى أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل يدخلهم في الصالحين أي يجعلهم منهم ويدخلهم في عدادهم كما يقال الفقيه داخل في العلماء(25/33)
المسألة الرابعة قال الحكماء عالم العناصر عالم الكون والفساد وما فيه يتطرق إليه الفساد فإن الماء يخرج عن كونه ماء ويفسد ويتكون منه هواء وعالم السموات لا كون فيه ولا فساد بل يوجد من عدم ولا يعدم ولا يصير الملك تراباً بخلاف الإنسان فإنه يصير تراباً أو شيئاً آخر وعلى هذا فالعالم العلوي ليس بفاسد فهو صالح فقوله تعالى لندخلهم في الصالحين أي في المجردين الذين لا فساد لهم
أي في المجردين الذين لا فساد لهم
وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِى َ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ
نقول أقسام المكلفين ثلاثة مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده وكافر مجاهر بكفره وعناده ومذبذب بينهما يظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده والله تعالى لما بين القسمين بقوله تعالى فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 3 ) وبين أحوالهما بقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( العنكبوت 4 ) إلى قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( العنبكوت 7 ) بين القسم الثالث وقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا ولم يقل آمنت مع أنه وحد الأفعال التي بعده كقوله تعالى فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ وقوله جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ وذلك لأن المنافق كان يشبه نفسه بالمؤمن ويقول إيماني كإيمانك فقال مِنَ يعني أنا والمؤمن حقاً آمنا إشعاراً بأن إيمانه كإيمانه وهذا كما أن الجبان الضعيف إذا خرج مع الأبطال في القتال وهزموا خصومهم يقول الجبان خرجنا وقاتلناهم وهزمناهم فيصح من السامع لكلامه أن يقول وماذا كنت أنت فيهم حتى تقول خرجنا وقاتلنا وهذا الرد يدل على أنه يفهم من كلامه أن خروجه وقتاله كخروجهم وقتالهم لأنه لا يصح الإنكار عليه في دعوى نفس الخروج والقتال وكذا قول القائل أنا والملك ألفينا فلاناً واستقبلناه ينكر لأن المفهوم منه المساواة فهم لما أرادوا إظهار كون إيمانهم كإيمان المحقين كان الواحد يقول مِنَ أي أنا والمحق
المسألة الثانية قوله فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ هو في معنى قوله وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى ( آل عمران 195 ) غير أن المراد بتلك الآية الصابرون على أذية الكافرين والمراد ههنا الذين لم يصبروا عليها فقال هناك وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى ( آل عمران 195 ) وقال ههنا أُوذِى َ فِى اللَّهِ ولم يقل في سبيل الله واللطيفة فيه أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر وخسة المنافق الكافر فقال هناك أوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم إن بلغ الإيذاء إلى حد الإكراه ويكون قلبه مطمئناً بالإيمان فلا يترك الله ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية والمؤمن أوذي ولم يترك(25/34)
سبيل الله بل أظهر كلمتي الشهادة وصبر على الطاعة والعبادة
المسألة الثالثة قوله جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ قال الزمخشري جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف عن الكفر وقيل جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم حتى ترددوا في الأمر وقالوا إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد عليه الصلاة والسلام واختاروا الاحتراز عن التأذي العاجل ولا يكون التردد إلا عند التساوي ومن أين إلى أين تعذيب الناس لا يكون شديداً ولا يكون مديداً لأن العذاب إن كان شديداً كعذاب النار وغيره يموت الإنسان في الحال فلا يدوم التعذيب وإن كان مديداً كالحبس والحصر لا يكون شديداً وعذاب الله شديد وزمانه مديد وأيضاً عذاب الناس له دافع وعذاب الله ماله من دافع وأيضاً عذاب الناس عليه ثواب عظيم وعذاب الله بعده عذاب أليم والمشقة إذا كانت مستعقبة للراحة العظيمة تطيب ولا تعد عذاباً كما تقطع السلعة المؤذية ولا تعد عذاباً
المسألة الرابعة قال فِتْنَة َ النَّاسِ ولم يقل عذاب الناس لأن فعل العبد ابتلاء وامتحان من الله وفتنته تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فتبين منزلته كما جعل التكاليف ابتلاءً وامتحاناً وهذا إشارة إلى أن الصبر على البلية الصادرة ابتلاء وامتحاناً من الإنسان كالصبر على العبادات
المسألة الخامسة لو قال قائل هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه احترازاً عن التعذيب العاجل يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله فنقول ليس كذلك لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً وهذا المؤمن المكره لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله بحيث يترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً بل في باطنه الإيمان ثم قال تعالى وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ( العنكبوت 10 ) يعني دأب المنافق أنه إن رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر وأظهر المعية وادعى التبعية وفيه فوائد نذكرها في مسائل
المسألة الأولى قال وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ ولم يقل من الله مع أن ما تقدم كان كله بذكر الله كقوله أُوذِى َ فِى اللَّهِ وقوله كَعَذَابِ اللَّهِ وذلك لأن الرب اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة والله اسم مدلوله الهيبة والعظمة فعند النصر ذكر اللفظ الدال على الرحمة والعاطفة وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة
المسألة الثانية لم يقل ولئن جاءكم أو جاءك بل قال وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء نصر سواء جاءهم أو جاء المؤمنين فنقول هذا الكلام يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء النصر لكن النصر لا يجىء إلا للمؤمن كما قال تعالى وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ( الروم 47 ) ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة بدليل أن أحد الجيشين إن انهزم في الحال ثم كر المنهزم كرة أخرى وهزموا الغالبين لا يطلق اسم المنصور إلا على من كان له العاقبة فكذلك المسلم وإن كسر في(25/35)
الحال فالعاقبة للمتقين فالنصر لهم في الحقيقة
المسألة الثالثة في ليقولن قراءتان إحداهما الفتح حملاً على قوله مَن يِقُولُ ءامَنَّا يعني من يقول آمنا إذا أوذي يترك ذلك القول وإذا جاء النصر يقول إنا كنا معكم وثانيتهما الضم على الجمع إسناداً للقول إلى الجميع الذين دل عليهم المفهوم فإن المنافقين كانوا جماعة ثم بين الله تعالى أنهم أرادوا التلبيس ولا يصح ذلك لهم لأن التلبيس إنما يكون عندما يخالف القول القلب فالسامع يبني الأمر على قوله ولا يدري ما في قلبه فيلتبس الأمر عليه وأما الله تعالى فهو عليم بذات الصدور وهو أعلم بما في صدر الإنسان من الإنسان فلا يلتبس عليه الأمر وهذا إشارة إلى أن الاعتبار بما في القلب فالمنافق الذي يظهر الإيمان ويضمر الكفر كافر والمؤمن المكره الذي يظهر الكفر ويضمر الإيمان مؤمن والله أعلم بما في صدور العالمين ولما بين أنه أعلم بما في قلوب العالمين بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم والمنافق وإن تكلم فقال وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ وقد سبق تفسيره لكن فيه مسألة واحدة وهي أن الله قال هناك فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وقال ههنا وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ فنقول لما كان الذكر هناك للمؤمن والكافر والكافر في قوله كاذب فإنه يقول الله أكثر من واحد والمؤمن في قوله صادق فإنه كان يقول الله واحد ولم يكن هناك ذكر من يضمر خلاف ما يظهر فكان الحاصل هناك قسمين صادقاً وكاذباً وكان ههنا المنافق صادقاً في قوله فإنه كان يقول الله واحد فاعتبر أمر القلب في المنافق فقال وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ واعتبر أمر القلب في المؤمن وهو التصديق فقال وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَى ْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
لما بين الله تعالى الفرق الثلاثة وأحوالهم وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة وبين أن عذاب الله فوقها وكان الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل وعلى الإيذاء لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا فكان جواب المؤمن أن يقول خوفاً من عذاب الله على خطيئة مذهبكم فقالوا لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطيئة فعلينا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ولنحمل صيغة أمر والمأمور غير الآمر فكيف يصح أمر النفس من الشخص فنقول الصيغة أمر والمعنى شرط وجزاء أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم قال صاحب ( الكشاف ) هو في معنى قول من يريد اجتماع أمرين في الوجود فيقول ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء فقوله ولنحمل أي ليكن منا الحمل وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب
المسألة الثانية قال وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ وقال بعد هذا وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ(25/36)
( العنكبوت 13 ) فهناك نفى الحمل وههنا أثبت الحمل فكيف الجمع بينهما فنقول قول القائل فلان حمل عن فلان يفيد أن حمل فلان خف وإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئاً فكذلك ههنا ما هم بحاملين من خطاياهم يعني لا يرفعون عنهم خطيئة وهم يحملون أوزاراً بسبب إضلالهم ويحملون أوزاراً بسبب ضلالتهم كما قال النبي عليه السلام ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء )
المسألة الثالثة الصيغة أمر والأمر لا يدخله التصديق والتكذيب فكيف يفهم قوله إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ نقول قد تبين أن معناه شرط وجزاء فكأنهم قالوا إن تتبعونا نحمل خطاياكم وهم كذبوا في هذا فإنهم لا يحملون شيئاً
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْألُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
في الذي كانوا يفترونه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها كان قولهم وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ( العنكبوت 12 ) صادراً لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك فيسألون عن ذلك الافتراء وثانيها أن قولهم وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ كان عن اعتقاد أن لا حشر فإذا جاء يوم القيامة ظهر لهم خلاف ذلك فيسألون ويقال لهم أما قلتم أن لا حشر وثالثها أنهم لما قالوا إن تتبعونا نحمل يوم القيامة خطاياكم يقال لهم فاحملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون ويقال لهم لم افتريتم
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة ٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما بين التكليف وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق يالثواب العظيم وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم وكان قد ذكر أن هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم ذلك بل قبله كان كذلك كما قال تعالى وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( العنكبوت 3 ) ذكر من جملة من كلف جماعة منهم نوح النبي عليه السلام وقومه ومنهم إبراهيم عليه السلام وغيرهما ثم قال تعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة ٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في ذكر مدة لبثه نقول كان النبي عليه السلام يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام وإصرارهم على الكفر فقال إن نوحاً لبث ألف سنة تقريباً في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل وصبر وما ضجر فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك وأيضاً كان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر ومع ذلك ما نجوا فبهذا المقدار من التأخير لا ينبغي أن يغتروا فإن العذاب يلحقهم(25/37)