للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل قوله تعالى مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم قوم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد ولا ذرية المملكة حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وفي هذه الآية المذكورة الأقرب هو ذكر أولئك الكفار وهو قوله تعالى بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً والمراد بالظالمين أولئك الكفار وثالثها أن يكون المراد من قوله مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ كون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة فكأنه قيل لهم السعيد من حكم الله بسعادته في الأزل والشقي من حكم الله بشقاوته في الأزل وأنتم غافلون عن أحوال الأزل كأنه تعالى قال مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلو والكمال ولغيركم بالدناءة والذل بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس فيما حكمتم به
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وما كنت بالفتح والخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم وما ينبغي لك أن تعتز بهم وقرأ علي رضوان الله عليه مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ بالتنوين على الأصل وقرأ الحسن عَضُداً بسكون الضاد ونقل ضمتها إلى العين وقرىء عَضُداً بالفتح وسكون الضاد وعضداً بضمتين وعضداً بفتحتين جمع عاضد كخادم وخدم وراصد ورصد من عضده إذا قواه وأعانه واعلم أنه تعالى لما قرر أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتداء بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأحوال يوم القيامة فقال عَضُداً وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَائِى َ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ وفيه أبحاث
البحث الأول قرأ حمزة ( نقول ) بالنون عطفاً على قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ و أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَمَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً والباقون قرأوا بالياء
البحث الثاني واذكر يوم نقول عطفاً على قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ
البحث الثالث المعنى واذكر لهم يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ يقول الله لهم نَادُواْ شُرَكَائِى َ أي ادعوا من زعمتم أنهم شركاء لي حيث أهلتموهم للعبادة ادعوهم يشفعوا لكم وينصروكم والمراد بالشركاء الجن فدعوهم ولم يذكر تعالى في هذه الآية أنهم كيف دعوا الشركاء لأنه تعالى بين ذلك في آية أخرى وهو أنهم قالوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا ( غافر 47 ) ثم قال تعالى فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ أي لم يجيبوهم إلى ما دعوهم إليه ولم يدفعوا عنهم ضرراً وما أوصلوا إليهم نفعاً ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً وفيه وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) الموبق المهلك من وبق يبق وبوقاً ووبقاً إذا هلك وأوبقه غيره فيجوز أن يكون مصدراً كالمورد والموعد وتقرير هذا الوجه أن يقال إن هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة كالملائكة وعيسى دعوا هؤلاء فلم يستجيبوا لهم(21/118)
ثم حيل بينهم وبينهم فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنم وأدخل عيسى الجنة وصار الملائكة إلى حيث أراد الله من دار الكرامة وحصل بين أولئك الكفار وبين الملائكة وعيسى عليه السلام هذا الموبق وهو ذلك الوادي في جهنم الوجه الثاني قال الحسن ( موبقاً ) أي عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها هلاك ومنه قوله لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً الوجه الثالث قال الفراء البين المواصلة أي جعلنا مواصلتهم في الدنيا هلاكاً في يوم القيامة الوجه الرابع الموبق البرزخ البعيد أي جعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً يهلك فيه الساري لفرط بعده لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان ثم قال تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وفي هذا الظن قولان الأول أن الظن ههنا بمعنى العلم واليقين والثاني وهو الأقرب أن المعنى أن هؤلاء الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها كما قال إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ( الفرقان 12 ) وقوله مُّوَاقِعُوهَا أي مخالطوها فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامة يقال لها مواقعة ثم قال تعالى وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا أي لم يجدوا عن النار معدلاً إلى غيرها لأن الملائكة تسوقهم إليها
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَى ءٍ جَدَلاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّة ُ الاٌّ وَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا ءايَاتِى وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً
اعلم أن أولئك الكفرة لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم وبين تعالى بالوجوه الكثيرة أن قولهم فاسد وشبهتهم باطلة وذكر فيه المثلين المتقدمين قال بعده وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءانِ لِلنَّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وهو إشارة إلى ما سبق والتصريف يقتضي التكرير والأمر كذلك لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوه كثيرة ومع تلك الجوابات الشافية والأمثلة المطابقة فهؤلاء الكفار لا يتركون المجادلة الباطلة فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل وانتصاب قوله جدلاً على التمييز قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم السلام جادلوهم في الدين حتى صاروا هم مجادلين لأن المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل ثم قال وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ وفيه بحثان(21/119)
البحث الأول قالت المعتزلة الآية دالة على أنه لم يوجد ما يمنع من الإقدام على الإيمان وذلك يدل على فساد قول من يقول إنه حصل المانع قال أصحابنا العلم بأنه لا يؤمن مضاد لوجود الإيمان فإذا كان ذلك العلم قائماً كان المانع قائماً وأيضاً حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما وجب لأن الفعل الاختياري بدون الداعي محال ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان وإذا ثبت هذا ظهر أن المراد مقدار الموانع المحسوسة
البحث الثاني المعنى أنه لما جاءهم الهدى وهو الدليل الدال على صحة الإسلام وثبت أنه لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة والتخلية حاصلة والأعذار زائلة فلم لم يقدموا على الإيمان ثم قال تعالى إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّة ُ الاْوَّلِينَ وهو عذاب الاستئصال أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً قرأ حمزة وعاصم والكسائي قبلاً بضم القاف والباء جميعاً وهو جمع قبيل بمعنى ضروب من العذاب تتواصل مع كونهم أحياء وقيل مقابلة وعياناً والباقون قبلاً بكسر القاف وفتح الباء أي عياناً أيضاً وروى صاحب الكشاف قبلاً بفتحتين أي مستقبلاً والمعنى أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول عذاب الاستئصال فيهلكوا أو أن يتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا واعلم أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا على هذين الشرطين لأن العاقل لا يرضى بحصول هذين الأمرين إلا أن حالهم شبيه بحال من وقف العمل على هذين الشرطين ثم بين تعالى أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعاً وبين مع هذه الأحوال أنه يوجد من الكفار المجادلة بالباطل لغرض دحض الحق وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا يجادلونهم لما بينا أن المجادلة إنما تحصل من الجانبين وبين تعالى أيضاً أنهم اتخذوا آيات الله وهي القرآن وإنذارات الأنبياء هزواً وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة قال النحويون ما في قوله وَمَا أُنْذِرُواْ يجوز أن تكون موصولة ويكون العائد من الصلة محذوفاً ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إنذارهم
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِأايِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا(21/120)
إعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار جدالهم بالباطل وصفهم بعده بالصفات الموجبة للخزي والخذلان الصفة الأولى قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ أي لا ظلم أعظم من كفر من ترد عليه الآيات والبينات فيعرض عنها وينسى ما قدمت يداه أي مع إعراضه عن التأمل في الدلائل والبينات يتناسى ما قدمت يداه من الأعمال المنكرة والمذاهب الباطلة والمراد من النسيان التشاغل والتغافل عن كفره المتقدم الصفة الثانية ( قوله ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن وقد مر تفسير هذه الآية على الاستقصاء في سورة الأنعام والعجب أن قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ متمسك القدرية وقوله إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ إلى آخر الآية متمسك الجبرية وقلما نجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر والتجربة تكشف عن صدق قولنا وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين ثم قال تعالى وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ِ الغفور البليغ المغفرة وهو إشارة إلى دفع المضار ذو الرحمة الموصوف بالرحمة وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة لا في الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار وهو تعالى قد ترك مضار لا نهاية لها مع كونه قادراً عليها أما فعل الرحمة فهو متناه لأن ترك ما لا نهاية له ممكن أما فعل ما لا نهاية له فمحال ويمكن أن يقال المراد أنه يغفر كثيراً لأنه ذو الرحمة ولا حاجة به إليها فيهبها من المحتاجين كثيراً ثم استشهد بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلاً من غير إمهال مع إفراطهم في عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ وهو إما يوم القيامة وإما في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح ( وقوله ) لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ( أي ) منجى ولا ملجأ يقال وأل إذا لجأ ووأل إليه إذا لجأ إليه ثم قال تعالى وَتِلْكَ الْقُرَى يريد قرى الأولين من ثمود وقوم لوط وغيرهم أشار إليها ليعتبروا وتلك مبتدأ والقرى صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأصناف الأجناس وأهلكناهم خبر والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم لما ظلموا مثل ظلم أهل مكة وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا أي وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر والمهلك الإهلاك أو وقته وقرىء لمهلكهم بفتح الميم واللام مفتوحة أو مكسورة أي لهلاكهم أو وقت هلاكهم والموعد وقت أو مصدر والمراد إنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتاً ليكونوا إلى التوبة أقرب
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِى َ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَاذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَة ِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا(21/121)
اعلم أن هذا ابتداء قصة ثالثة ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي أن موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر عليه السلام ليتعلم منه العلم وهذا وإن كان كلاماً مستقلاً في نفسه إلا أنه يعين على ما هو المقصود في القصتين السابقتين أما نفع هذه القصة في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه واستجماع موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له وذلك يدل على أن التواضع خير من التكبر وأما نفع هذه القصة في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا لكفار مكة إن أخبركم محمد عن هذه القصة فهو نبي وإلا فلا وهذا ليس بشيء لأنه لا يلزم من كونه نبياً من عند الله تعالى أن يكون عالماً بجميع القصص والوقائع كما أن كون موسى عليه السلام نبياً صادقاً من عند الله لم يمنع من أمر الله إياه بأن يذهب إلى الخضر ليتعلم منه فظهر مما ذكرنا أن هذه القصة قصة مستقلة بنفسها ومع ذلك فهي نافعة في تقرير المقصود في القصتين المتقدمتين
المسألة الثانية أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس صاحب موسى بن عمران وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب وقيل هو كان نبياً قبل موسى بن عمران فقال ابن عباس كذب عدو الله واعلم أنه كان ليوسف عليه السلام ولدان أفرائيم وميشا فولد افرائيم نون وولد نون يوشع بن نون وهو صاحب موسى وولي عهده بعد وفاته وأما ولد ميشا فقيل إنه جاءته النبوة قبل موسى بن عمران ويزعم أهل التوراة أنه هو الذي طلب هذا العلم ليتعلم والخضر هو الذي خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار وموسى بن ميشا معه هذا هو قول جمهور اليهود واحتج القفال على صحة قولنا إن موسى هذا هو صاحب التوراة قال إن الله تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلا وأراد به صاحب التوراة فاطلاق هذا الإسم يوجب الإنصراف إليه ولو كان المراد شخصاً آخر مسمى بموسى غيره لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وإزالة الشبهة كما أنه لما كان المشهور في العرف من أبي حنيفة رحمه الله هو الرجل المعين فلو ذكرنا هذا الاسم وأردنا به رجلاً سواء لقيدناه مثل أن نقول قال أبو حنيفة الدينوري وحجة الذين قالوا موسى هذا غير صاحب التوراة أنه تعالى بعد أن أنزل التوراة عليه وكلمه بلا واسطة وحج خصمه بالمعجزات القاهرة العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء يبعد أن(21/122)
يبعثه بعد ذلك لتعلم الاستفادة وأجيب عنه بأنه لا يبعد أن العالم الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء فيحتاج في تعلمها إلى من دونه وهذا أمر متعارف معلوم
المسألة الثالثة اختلفوا في فتى موسى فالأكثرون على أنه يوشع بن نون وروى القفال عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي هريرة عن أبي بن كعب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول فتاه يوشع بن نون والقول الثاني أن فتى موسى أخو يوشع وكان صاحباً لموسى عليه السلام في هذا السفر والقول الثالث روى عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ قال يعني عبده قال القفال واللغة تحتمل ذلك روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ) وهذا يدل على أنهم كانوا يسمون العبد فتى والأمة فتاة
المسألة الرابعة قيل إن موسى عليه السلام لما أعطي الألواح وكلمه الله تعالى قال من الذي أفضل مني وأعلم فقيل عبد لله يسكن جزائر البحر وهو الخضر وفي رواية أخرى أن موسى عليه السلام لما أوتي من العلم ما أوتي ظن أنه لا أحد مثله فأتاه جبريل عليه السلام وهو بساحل البحر قال يا موسى انظر إلى هذا الطير الصغير يهوي إلى البحر يضرب بمنقاره فيه ثم يرتفع فأنت فيما أوتيت من العلم دون قدر ما يحمل هذا الطير بمنقاره من البحر قال الأصوليون هذه الرواية ضعيفة لأن الأنبياء يجب أن يعلموا أن معلومات الله لا نهاية لها وأن يعلموا أن معلومات الخلق يجب كونها متناهية وكل قدر متناه فإن الزائد عليه ممكن فلا مرتبة من مراتب العلم إلا وفوقها مرتبة ولهذا قال تعالى وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ وإذا كانت هذه المقدمات معلومة فمن المستبعد جداً أن يقطع العاقل بأنه لا أحد أعلم مني لا سيما موسى عليه السلام مع علمه الوافر بحقائق الأشياء وشدة براءته عن الأخلاق الذميمة كالعجب والتيه والصلف والرواية الثالثة قيل إن موسى عليه السلام سأل ربه أي عبادك أحب إليك قال الذي يذكرني ولا ينساني قال فأي عبادك أقضى قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال فأي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردي فقال موسى عليه السلام إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه فقال اعلم منك الخضر قال فأين أطلبه قال على الساحل عند الصخرة قال يا رب كيف لي به قال تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان ورقد موسى واضطرب الحوت وطفر إلى البحر فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فرجع من ذلك الموضع إلى الموضع الذي طفر الحوت فيه إلى البحر فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال وأني بأرضك السلاما فعرفه نفسه فقال يا موسى أنا على علم علمني الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمك الله لا أعلمه أنا فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر أقول نسبة ذلك القدر القليل الذي أخذه ذلك العصفور من ذلك الماء إلى كلية ماء البحر نسبة متناه إلى متناه ونسبة معلومات جميع المخلوقات إلى معلومات الله تعالى نسبة متناه إلى غير متناه فأين إحدى النسبتين من(21/123)
الأخرى والله العالم بحقائق الأمور ونرجع إلى التفسير أما قوله تعالى لا أَبْرَحُ قال الزجاج قوله لا أَبْرَحُ ليس معناه لا أزول لأنه لو كان كذلك لم يقطع أرضاً أقول يمكن أن يجاب عنه بأن الزوال عن الشيء عبارة عن تركه والإعراض عنه يقال زال فلان عن طريقته في الجود أي تركها فقوله لا أبرح بمعنى لا أزول عن السير والذهاب بمعنى لا أترك هذا العمل وهذا الفعل وأقول المشهور عند الجمهور أن قوله لا أبرح معناه لا أزول والعرب تقول لا أبرح ولا أزال ولا انفك ولا افتأ بمعنى واحد قال القفال وقالوا أصل قولهم لا أبرح من البراح كما أن أصل لا أزال من الزوال يقال زال يزال ويزول كما يقال دام يدام ويدوم ومات يمات ويموت إلا أن المستعمل في هذه اللفظة يزال فقوله لا أبرح أي أقيم لأن البراح هو العدم فقوله لا أبرح يكون عدماً للعدم فيكون ثبوتاً فقوله لا أزال ولا أبرح يفيد الدوام والثبات على العمل فإن قيل إذا كان قوله لا أبرح بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر قلنا حذف الخبر لأن الحال والكلام يدلان عليه أما الحال فلأنها كانت حال سفر وأما الكلام فلأن قوله حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ غاية مضروبة تستدعي شيئاً هي غاية له فيكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ويحتمل أن يكون المعنى لا أبرح مما أنا عليه يعني ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ كما تقول لا أبرح المكان وأما مجمع البحرين فهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر عليهما السلام وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق وقيل غيره وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح بالخبر الصحيح شيء فذاك وإلا فالأولى السكوت عنه ومن الناس من قال البحران موسى والخضر لأنهما كانا بحري العلم وقرىء مجمع بكسر الميم ثم قال أو أمضى حقباً أي أسير زماناً طويلاً وقيل الحقب ثمانون سنة وقد تكلمنا في هذا اللفظ في قوله تعالى لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ( النبأ 23 ) وحاصل الكلام أن الله عز وجل كان أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه موضعه بعينه فقال موسى عليه السلام لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحراً واحداً أو أمضي دهراً طويلاً حتى أجد هذا العالم وهذا إخبار من موسى بأنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم في السفر لأجل طلب العلم وذلك تنبيه على أن المتعلم لو سافر من المشرق إلى المغرب لطلب مسألة واحدة لحق له ذلك ثم قال تعالى فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا والمعنى فانطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما والضمير في قوله بينهما إلى ماذا يعود فيه قولان الأول مجمع بينهما أي مجمع البحرين وهو كأنه إشارة إلى ( قول ) موسى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أي فحقق ( الله ) ما قاله والقول الثاني أن المعنى فلما بلغ الموضع الذي يجتمع ( فيه ) موسى وصاحبه الذي كان يقصده لأن ذلك الموضع الذي وقع فيه نسيان الحوت هو الموضع الذي كان يسكنه الخضر أو يسكن بقربه ولأجل هذا المعنى لما رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت صار إليه وهو معنى حسن والمفسرون على القول الأول ثم قال تعالى نَسِيَا حُوتَهُمَا وفيه مباحث
البحث الأول الروايات تدل على أنه تعالى بين لموسى عليه السلام أن هذا العالم موضعه مجمع البحرين إلا أنه تعالى جعل انقلاب الحوت حياً علامة على مسكنه المعين كمن يطلب إنساناً فيقال له إن موضعه محلة كذا من الري فإذا انتهيت إلى المحلة فسل فلاناً عن داره وأين ما ذهب بك فاتبعه فإنك تصل إليه فكذا ههنا قيل له إن موضعه مجمع البحرين فإذا وصلت إليه رأيت الحوت انقلب حياً وطفر إلى البحر فيحتمل أنه قيل له فهنالك موضعه ويحتمل أنه قيل له فاذهب على موافقة ذهاب ذلك الحوت فإنك تجده(21/124)
إذا عرفت هذا فنقول إن موسى وفتاه لما بلغا مجمع بينهما طفرت السمكة إلى البحر وسارت وفي كيفية طفرها روايات أيضاً قيل إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملحة فطفرت وسارت وقيل إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب في الماء وقيل انفجر ( ت ) هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر فهذا هو الكلام في صفة الحوت
البحث الثاني المراد من قوله نَسِيَا حُوتَهُمَا أنهما نسيا كيفية الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب فإن قيل انقلاب السمكة المالحة حية حالة عجيبة فلما جعل الله حصول هذه الحالة العجيبة دليلاً على الوصول إلى المطلوب فكيف يعقل حصول النسيان في هذا المعنى أجاب العلماء عنه بأن يوشع كان قد شاهد المعجزات القاهرة من موسى عليه السلام كثيراً فلم يبق لهذه المعجزة عنده وقع عظيم فجاز حصول النسيان وعندي فيه جواب آخر وهو أن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيهاً لموسى عليه السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على القلب والخاطر أما قوله فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً ففيه وجوه الأول أن يكون التقدير سرب في البحر سرباً إلا أنه أقيم قوله فاتخذ مقام قوله سرب والسرب هو الذهاب ومنه قوله وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ( الرعد 10 ) الثاني أن الله تعالى أمسك إجراء الماء على البحر وجعله كالطاق والكوة حتى سرى الحوت فيه فلما جاوز أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الوصول إلى الصخرة بسبب النسيان المذكور وذهبا كثيراً وتعبا وجاعا قَالَ لِفَتَاهُ ءاتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَاذَا نَصَباً قَالَ الفتى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَة ِ الهمزة في أرأيت همزة الاستفهام ورأيت على معناه الأصلي وقد جاء هذا الكلام على ما هو المتعارف بين الناس فإنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب قال لصاحبه أرأيت ما حدث لي كذلك ههنا كأنه قال أرأيت ما وقع لي منه إذ أوينا إلى الصخرة فحذف مفعول أرأيت لأن قوله فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ يدل عليه ثم قال وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وفيه مباحث
البحث الأول أنه اعتراض وقع بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير فإني نسيت الحوت واتخذ سبيله في البحر عجباً والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى العذر والعلة لوقوع ذلك النسيان
البحث الثاني قال الكعبي وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ يدل على أنه تعالى ما خلق ذلك النسيان وما أراده وإلا كانت إضافته إلى الله تعالى أوجب من إضافته إلى الشيطان لأنه تعالى إذا خلقه فيه لم يكن لسعي الشيطان في وجوده ولا في عدمه أثر قال القاضي والمراد بالنسيان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر لأن ذلك لا يصح أن يكون إلا من قبل الله تعالى
البحث الثالث قوله أن اذكره بدل من الهاء في أنسانيه أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان ثم قال وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا وفيه وجوه الأول أن قوله عجباً صفة لمصدر محذوف كأنه قيل واتخذ سبيله في البحر اتخاذاً عجباً ووجه كونه عجباً انقلابه من المكتل وصيرورته حياً وإلقاء نفسه في البحر على غفلة منهما والثاني أن يكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطاق وكالسرب الثالث قيل إنه تم الكلام عند قوله وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ ثم قال بعده عجباً والمقصود منه تعجبه من تلك العجيبة(21/125)
التي رآها ومن نسيانه لها وقيل إن قوله عجباً حكاية لتعجب موسى وهو ليس بقوله ثم قال تعالى قَالَ ذالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب وهو لقاء الخضر وقوله نبغ أصله نبغي فحذفت الياء طلباً للتخفيف لدلالة الكسرة عليه وكان القياس أن لا يحذف لأنهم إنما يحذفون الياء في الأسماء وهذا فعل إلا أنه قد يجوز على ضعف القياس حذفها لأنها تحذف مع الساكن الذي يكون بعدها كقولك ما نبغي اليوم فلما حذفت مع الساكن حذفت أيضاً مع غير الساكن ثم قال فارتدا على آثارهما أي فرجعا وقوله قَصَصًا فيه وجهان أحدهما أنه مصدر في موضع الحال أي رجعا على آثارهما مقتصين آثارهما والثاني أن يكون مصدراً لقوله فارتدا على آثارهما لأن معناه فاقتصا على آثارهما وحاصل الكلام أنهما لما عرفا أنهما تجاوزا عن الموضع الذي يسكن فيه ذلك العالم رجعا وعادا إليه والله أعلم
فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَة ً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَى ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا فيه بحثان
البحث الأول قال الأكثرون إن ذلك العبد كان نبياً واحتجوا عليه بوجوه الأول أنه تعالى قال رَحْمَة ً مّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ والرحمة هي النبوة بدليل قوله تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة َ رَبّكَ ( الزخرف 32 ) وقوله وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ ( القصص 86 ) والمراد من هذه الرحمة النبوة ولقائل أن يقول نسلم أن النبوة رحمة أما لا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة
الحجة الثانية قوله تعالى وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه الله لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبياً يعلم الأمور بالوحي من الله وهذا الاستدلال ضعيف لأن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله وذلك لا يدل على النبوة
الحجة الثالثة أن موسى عليه السلام قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن ( الكهف 66 ) والنبي لا يتبع غير النبي في التعليم وهذا أيضاً ضعيف لأن النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبياً أما في غير تلك العلوم فلا(21/126)
الحجة الرابعة أن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال له صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وأما موسى فإنه أظهر التواضع له حيث قال لا أَعْصِى لَكَ أمْراً وكل ذكل يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى ومن لا يكون نبياً لا يكون فوق النبي وهذا أيضاً ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها فلم قلتم إن ذلك لا يجوز فإن قالوا لأنه يوجب التنفير قلنا فارسال موسى إلى التعلم منه بعد إنزال الله عليه التوراة وتكليمه بغير واسطة يوجب التنفير فإن قالوا إن هذا لا يوجب التنفير فكذا القول فيما ذكروه
الحجة الخامسة احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ومعناه فعلته بوحي الله وهو يدل على النبوة وهذا أيضاً دليل ضعيف وضعفه ظاهر
الحجة السادسة ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال السلام عليك فقال وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال موسى عليه السلام من عرفك هذا قال الذي بعثك إلي قالوا وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات
البحث الثاني قال الأكثرون إن ذلك العبد هو الخضر وقالوا إنما سمي بالخضر لأنه كان لا يقف موقفاً إلا أخضر ذلك الموضع قال الجبائي قد ظهرت الرواية أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل فإن صح ذلك لم يجز أن يكون هذا العبد هو الخضر وأيضاً فبتقدير أن يكون هذا العبد هو الخضر وقد ثبت أنه يجب أن يكون نبياً فهذا يقتضي أن يكون الخضر أعلى شأناً من موسى صاحب التوراة لأنا قد بينا أن الألفاظ المذكورة في هذه الآيات تدل على أن ذلك كان يترفع على موسى وكان موسى يظهر التواضع له إلا أن كون الخضر أعلى شأناً من موسى غير جائز لأن الخضر إما أن يقال إنه كان من بني إسرائيل أو ما كان من بني إسرائيل فإن قلنا إنه كان من بني إسرائيل ( فقد ) كان من أمة موسى لقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء 17 ) والأمة لا تكون أعلى حالاً من النبي وإن قلنا إنه ما كان من بني إسرائيل لم يجز أن يكون أفضل من موسى لقوله تعالى لبني إسرائيل وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) وهذه الكلمات تقوي قول من يقول إن موسى هذا غير موسى صاحب التوراة
المسألة الثالثة قوله وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا يفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند الله من غير واسطة والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية وللشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم اللدنية وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول إذا أدركنا أمراً من الأمور وتصورنا حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم وهو التصديق أو لا نحكم وهو التصور وكل واحد من هذين القسمين فإما أن يكون نظرياً حاصلاً من غير كسب وطلب وإما أن يكون كسبياً أم العلوم النظرية فهي تحصل في النفس والعقل من غير كسب وطلب مثل تصورنا الألم واللذة والوجود والعدم ومثل تصديقنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الواحد نصف الإثنين وأما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم وهذا الطريق(21/127)
على قسمين أحدهما أن يتكلف الإنسان تركب تلك العلوم البديهية النظرية حتى يتوصل بتركبها إلى استعلام المجهولات وهذا الطريق هو المسمى بالنظر والتفكر والتدبر والتأمل والتروي والاستدلال وهذا النوع من تحصيل العلوم هو الطريق الذي لا يتم إلا بالجهد والطلب والنوع الثاني أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضات والمجاهدات في أن تصير القوى الحسية والخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهر العقل وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمل وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية إذا عرفت هذا فنقول جواهر النفس الناطقة مختلفة بالماهية فقد تكون النفس نفساً مشرقة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالجواذب البدنية والنوازع الجسمانية فلا جرم كانت أبداً شديدة الاستعداد لقبول الجلايا القدسية والأنوار الإلهية فلا جرم فاضت عليها من عالم الغيب تلك الأنوار على سبيل الكمال والتمام وهذا هو المراد بالعلم اللدني وهو المراد من قوله رَحْمَة ً مّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ وأما النفس التي ما بلغت في صفاء الجوهر وإشراق العنصر فهي النفس الناقصة البليدة التي لا يمكنها تحصيل المعارف والعلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه وتعلمه والقسم الأول بالنسبة إلى القسم الثاني كالشمس بالنسبة إلى الأضواء الجزئية وكالبحر بالنسبة إلى الجداول الجزئية وكالروح الأعظم بالنسبة إلى الأرواح الجزئية فهذا تنبيه قليل على هذا المأخذ ووراءه أسرار لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب ثم قال تعالى قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو ويعقوب رَشَدًا بفتح الراء والشين وعن ابن عباس رضي الله عنهما بضم الراء والشين والباقون بضم الراء وتسكين الشين قال القفال وهي لغات في معنى واحد يقال رَشَد ورُشْد مثل نكر ونكر كما يقال سقم وسقم وشغل وشغل وبخل وبخل وعدم وعدم وقوله رَشَدًا أي علماً ذا رشد قال القفال قوله رَشَدًا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الرشد راجعاً إلى الخضر أي مما علمك الله وأرشدك به والثاني أن يرجع ذلك إلى موسى ويكون المعنى على أن تعلمني وترشدني مما علمت
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر فأحدها أنه جعل نفسه تبعاً له لأنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ وثانيها أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع وثالثها أنه قال على أن تعلمني وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم ورابعها أنه قال تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله وهذا أيضاً مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك بل أطلب منك أن تعطيني جزأً من أجزاء علمك كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأً من أجزاء ماله وخامسها أن قوله مِمَّا عُلّمْتَ اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم وسادسها أن قوله رَشَدًا طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال وسابعها أن قوله تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا(21/128)
التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفاً وثامنها أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير فإنا إذا قلنا لا إله إلا الله فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنما أتينا بها لأجل أنه عليه السلام أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا ثبت هذا فنقول قوله هَلْ أَتَّبِعُكَ يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض وتاسعها أن قوله اتَّبَعَكَ يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء وعاشرها أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولاً أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد والحادي عشر أنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن فأثبت كونه تبعاً له أولاً ثم طلب ثانياً أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم والثاني عشر أنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئاً كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المتعلم على قسمين متعلم ليس عنده شيء من العلم ولم يمارس القيل والقال ولم يتعود التقرير والاعتراض ومتعلم حصل العلوم الكثيرة ومارس الاستدلال والاعتراض ثم إنه يريد أن يخالط إنساناً أكمل منه ليبلغ درجة التمام والكمال والتعلم في هذا القسم الثاني شاق شديد وذلك لأنه إذا رأى شيئاً أو سمع كلاماً فربما كان ذلك بحسب الظاهر منكراً إلا أنه كان في الحقيقة حقاً صواباً فهذا المتعلم لأجل أنه ألف القيل والقال وتعود الكلام والجدال يغتر ظاهره ولأجل عدم كماله لا يقف على سره وحقيقته وحينئذ يقدم على النزاع والاعتراض والمجادلة وذلك مما يثقل سماعه على الأستاذ الكامل المتبحر فإذا اتفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة حصلت النفرة التامة والكراهة الشديدة وهذا هو الذي أشار إليه الخضر بقوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً إشارة إلى أنه ألف الكلام وتعود الإثبات والإبطال والاستدلال والاعتراض وقوله وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً إشارة إلى كونه غير عالم بحقائق الأشياء كما هي وقد ذكرنا أنه متى حصل الأمران صعب السكوت وعسر التعليم وانتهى الأمر بالآخرة إلى النفرة والكراهية وحصول التقاطع والتنافر
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً على أن الاستطاعة لا تحصل قبل(21/129)
الفعل قالوا لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة لموسى عليه السلام قبل حصول الصبر فيلزم أن يصير قوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً كذباً ولما بطل ذلك علمنا أن الاستطاعة لا توجد قبل الفعل أجاب الجبائي عنه أن المراد من هذا القول أنه يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه يقال في العرف إن فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً و ( لا ) أن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ونظيره قوله تعالى مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أي كان يشق عليهم الاستماع فيقال له هذا عدول عن الظاهر من غير دليل وإنه لا يجوز وأقول مما يؤكد هذا الاستدلال الذي ذكره الأصحاب قوله تعالى وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً استبعد حصول الصبر على ما لم يقف الإنسان على حقيقته ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على العلم حاصلة قبل حصول ذلك العلم ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعداً لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ولما حكم الله باستبعاده علمنا أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل ثم حكى الله تعالى عن موسى أنه قال سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج الطاعنون في عصمة الله الأنبياء بهذه الآية فقالوا إن الخضر قال لموسى إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وقال موسى سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً وكل واحد من هذين القولين يكذب الآخر فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما وعلى التقديرين فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء عليهم السلام والجواب أن يحمل قوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً على الأكثر الأغلب وعلى هذا التقدير فلا يلزم ما ذكروه
المسألة الثانية لفظة إن كان كذا تفيد الشك فقوله سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا معناه ستجدني صابراً إن شاء الله كوني صابراً وهذا يقتضي وقوع الشك في أن الله هل يريد كونه صابراً أم لا ولا شك أن الصبر في مقام التوقف واجب فهذا يقتضي أن الله تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه وهذا يدل على صحة قولنا إن الله تعالى قد يأمر بالشيء مع أنه لا يريده قالت المعتزلة هذه الكلمة إنما تذكر رعاية للأدب فيما يريد الإنسان أن يفعله في المستقبل فيقال لهم هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب وإن فسد فأي أدب في ذكر هذا الكلام الباطل
المسألة الثالثة قوله تعالى وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب لأن تارك المأمور به عاص بدلالة هذه الآية والعاصي يستحق العقاب لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( الجن 23 ) وهذا يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب
المسألة الرابعة قول الخضر لموسى عليه السلام وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً نسبة إلى قلة العلم والخبر وقول موسى له سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً تواضع شديد وإظهار للتحمل التام والتواضع الشديد وكل ذلك يدل على أن الواجب على المتعلم إظهار التواضع بأقصى الغايات وأما المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم ثم قال فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي لا تستخبرني عما تراه مني مما لا تعلم وجهه حتى أكون أنا(21/130)
المبتدىء لتعليمك إياه وإخبارك به وفي قراءة ابن عامر فلا تسألن محركة اللام مشددة النون بغير ياء وروى عنه لا تسألني مثقلة مع الياء وهي قراءة نافع وفي قراءة الباقين لا تسألن خفيفة والمعنى واحد
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَة ِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً
اعلم أن موسى وذلك العالم لما تشارطا على الشرط المذكور وسارا فانتهيا إلى موضع احتاجا فيه إلى ركوب السفينة فركباها وأقدم ذلك العالم على خرق السفينة وأقول لعله أقدم على خرق جدار السفينة لتصير السفينة بسبب ذلك الخرق معيبة ظاهرة العيب فلا يتسارع الغرق إلى أهلها فعند ذلك قال موسى له أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا وفيه بحثان
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي أَعِزَّة َ أَهْلِهَا بفتح الياء على إسناد الغرق إلى الأهل والباقون لتغرق أهلها على الخطاب والتقدير لتغرق أنت أهل هذه السفينة
البحث الثاني أن موسى عليه السلام لما شاهد ذلك الأمر المنكر بحسب الظاهر نسي الشرط المتقدم فلهذا المعنى قال ما قال واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجهين الأول أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان من الأنبياء ثم قال موسى عليه السلام أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا فإن صدق موسى في هذا القول دل ذلك على صدور الذنب العظيم عن ذلك النبي وإن كذب دل على صدور الكذب عن موسى عليه السلام الثاني أنه التزم أن لا يعترض على ذلك العالم وجرت العهود المؤكدة لذلك ثم إنه خالف تلك العهود وذلك ذنب والجواب عن الأول أنه لما شاهد موسى عليه السلام منه الأمر الخارج عن العادة قال هذا الكلام لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحاً بل لأنه أحب أن يقف على وجهه وسببه وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه إنه أمر يقال أمر الأمر إذا عظم وقال الشاعر
داهية دهياء
وعلى الثاني أنه فعل بناء على النسيان ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه لما خالف الشرط لم يزد على أن قال أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً فعند هذا اعتذر موسى عليه السلام بقوله لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي بشيء وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً يقال رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه أي ولا تغشني من أمري عسراً وهو اتباعه إياه يعني ولا تعسر على متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة وقرىء عُسْراً بضمتين
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْراً(21/131)
اعلم أن لفظ الغلام قد يتناول الشاب البالغ بدليل أنه يقال رأى الشيخ خير من مشهد الغلام جعل الشيخ نقيضاً للغلام وذلك يدل على أن الغلام هو الشاب وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون في الشباب وأما تناول هذا اللفظ للصبي الصغير فظاهر وليس في القرآن كيف لقياه هل كان يلعب مع جمع من الغلمان الصبيان أو كان منفرداً وهل كان مسلماً أو كان كافراً وهل كان منعزلاً وهل كان بالغاً أو كان صغيراً وكان اسم الغلام بالصغير أليق وإن احتمل الكبير إلا أن قوله بِغَيْرِ نَفْسٍ أليق بالبالغ منه بالصبي لأن الصبي لا يقتل وإن قتل وأيضاً فهل قتله بأن حز رأسه أو بأن ضرب رأسه بالجدار أو بطريق آخر فليس في لفظ القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقسام فعند هذا قال موسى عليه السلام أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً وفيه مباحث
البحث الأول قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف والباقون زكية بغير ألف قال الكسائي الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة وقال أبو عمرو الزاكية التي لم تذنب والزكية التي أذنبت ثم تابت
البحث الثاني ظاهر الآية يدل على أن موسى عليه السلام استبعد أن يقتل النفس إلا لأجل القصاص بالنفس وليس الأمر كذلك لأنه قد يحل دمه بسبب من الأسباب وجوابه أن السبب الأقوى هو ذلك
البحث الثالث النكر أعظم من الإمر في القبح وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة لأن ذلك ما كان اتلافاً للنفس لأنه كان يمكن أن لا يحصل الغرق أما ههنا حصل الإتلاف قطعاً فكان أنكر وقيل إن قوله لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا أي عجباً والنكر أعظم من العجب وقيل النكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس فهو أبلغ في تقبيح الشيء من الإمر ومنهم من قال الإمر أعظم قال لأن خرق السفينة يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذ القتل ليس إلا إتلاف شخص واحد وأيضاً الإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر وأنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه ما زاد على أن ذكره ما عاهده عليه فقال أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه زاد ههنا لفظة لك لأن هذه اللفظة تؤكد التوبيخ فعند هذا قال موسى إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى مع العلم بشدة حرصه على مصاحبته وهذا كلام نادم شديد الندامة ثم قال قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً والمراد منه أنه يمدحه بهذه الطريقة من حيث احتمله مرتين أولاً وثانياً مع قرب المدة وبقي مما يتعلق بالقراءة في هذه الآية ثلاثة مواضع الأول قرأ نافع برواية ورش وقالون وابن عامر وأبو بكر عن عاصم نكراً بضم الكاف في جميع القرآن والباقون ساكنة الكاف حيث كان وهما لغتان الثاني الكل قرأوا لا تُصَاحِبْنِى بالألف إلا يعقوب(21/132)
فإنه قرأ ( لا تصحبني ) من صحب والمعنى واحد الثالث في لَّدُنّى قراءات الأولى قراءة نافع وأبي بكر في بعض الروايات عن عاصم مِن لَّدُنّى بتخفيف النون وضم الدال الثانية قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم لندي مشددة النون وضم الدال الثالثة قرأ أبو بكر عن عاصم بالإشمام وغير إشباع الرابعة مِن لَّدُنّى بضم اللام وسكون الدال في بعض الروايات عن عاصم وهذه القراءات كلها لغات في هذه اللفظة
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَة ٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً
اعلم أن تلك القرية هي أنطاكية وقيل هي الأيلة وههنا سؤالات الأول إن الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدم عليه موسى وذلك العالم لأن موسى كان من عادته عرض الحاجة وطلب الطعام ألا ترى أنه تعالى حكى عنه أنه قال في قصة موسى عند ورود ماء مدين رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( القصص 24 ) الجواب أن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند خوف الضرر الشديد السؤال الثاني لم قال حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَة ٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا وكان من الواجب أن يقال استطعما منهم والجواب أن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر ليت الغراب غداة ينعب دائما
كان الغراب مقطع الأوداج
السؤال الثالث إن الضيافة من المندوبات فتركها ترك للمندوب وذلك أمر غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى وأيضاً مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلاً عن كليم الله الجواب أما قوله الضيافة من المندوبات قلنا قد تكون من المندوبات وقد تكون من الواجبات بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل لهلك وإذا كان التقدير ما ذكرناه لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل يوماً فإن قالوا ما بلغ في الجوع إلى حد الهلاك بدليل أنه قال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وكان يطلب على إصلاح ذلك الجدار أجرة ولو كان قد بلغ في الجوع إلى حد الهلاك لما قدر على ذلك العمل فكيف يصح منه طلب الأجرة قلنا لعل ذلك الجوع كان شديداً إلا أنه ما بلغ حد الهلاك ثم قال تعالى فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا وفيه بحثان
البحث الأول يضيفوهما يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض ونظيره زاره من الإزورار وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا أهل قرية لئاماً(21/133)
البحث الثاني رأيت في كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحمل من الذهب وقالوا يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاءاً حتى تصير القراءة هكذا فأتوا أن يضيفوهما أي أتوا لأن يضيفوهما أي كان إتيان أهل تلك القرية إليهما لأجل الضيافة وقالوا غرضنا منه أن يندفع عنا هذا اللؤم فامتنع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إن تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله وذلك يوجب القدح في الإلهية فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية ثم قال تعالى فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ أي فرأيا في القرية حائطاً مائلاً فإن قيل كيف يجوز وصف الجدار بالإرادة مع أن الإرادة من صفات الأحياء قلنا هذا اللفظ ورد على سبيل الاستعارة وله نظائر في الشعر قال يريد الرمح صدر أبي براء
ويرغب عن دماء بني عقيل
وأنشد الفراء إن دهراً يلف شملي بجمعل
لزمان يهم بالإحسان
في مهمة فلقت به هاماتها
فلق الفؤوس إذا أردن نصولا
ونظيره من القرآن قوله تعالى وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ وقوله أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ وقوله قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ وقوله أَن يَنقَضَّ يقال انقض إذا أسرع سقوطه من انقضاض الطائر وهو انفعل مطاوع قضضته وقيل انقض فعل من النقض كأحمر من الحمرة وقرىء أن ينقض من النقض وأن ينقاض من انقاضت العين إذا انشقت طولاً وأما قوله فَأَقَامَهُ قيل نقضه ثم بناه وقيل أقامه بيده وقيل مسحه بيده فقام واستوى وكان ذلك من معجزاته واعلم أن ذلك العالم لما فعل ذلك وكانت الحالة حالة اضطرار وافتقار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى ما قاله من قوله إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى فلا جرم قال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي طلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات وقرىء لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً والتاء تخذت أصل كما في تبع واتخذ افتعل منه كقولنا اتبع من قولنا تبع واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذا الكلام قال العالم هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ وههنا سؤالات السؤال الأول قوله هذه إشارة إلى ماذا والجواب من وجهين الأول أن موسى عليه السلام قد شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالاً آخر يحصل الفراق حيث قال إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم وقال هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ أي هذا الفراق الموعود الثاني أن يكون قوله هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض هو سبب الفراق السؤال الثاني ما معنى قوله هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ الجواب معناه هذا فراق حصل بيني وبينك فأضيف المصدر إلى الظرف حكى القفال عن بعض أهل العربية أن البين هو الوصل لقوله تعالى لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فكان المعنى هذا فراق بيننا أي اتصالنا كقول القائل أخزى الله الكاذب مني ومنك أي أحدنا هكذا قاله الزجاج ثم قال العالم لموسى عليه السلام سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاثة وأصل التأويل راجع إلى قولهم آل الأمر إلى كذا أي صار إليه فإذا قيل ما تأويله فالمعنى ما مصيره(21/134)
أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة ٍ غَصْباً وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَواة ً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَة ِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء صلوات الله عليهم مبنية على الظواهر كما قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر وذلك لأن الظاهر أنه يحرم التصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن تخريق السفينة تنقيص لملك الإنسان من غير سبب ظاهر وقتل الغلام تفويت لنفس معصومة من غير سبب ظاهر والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل التعب والمشقة من غير سبب ظاهر وفي هذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنياً عن الأسباب الظاهرة المعلومة بل كان ذلك الحكم مبنياً على أسباب معتبرة في نفس الأمر وهذا يدل على أن ذلك العالم كان قد آتاه الله قوة عقلية قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور ويطلع بها على حقائق الأشياء فكانت مرتبة موسى عليه السلام في معرفة الشرائع والأحكام بناء الأمر على الظواهر وهذا العالم كانت مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائق الأمور والإطلاع على أسرارها الكامنة فبهذا الطريق ظهر أن مرتبته في العلم كانت فوق مرتبة موسى عليه السلام إذا عرفت هذا فنقول المسائل الثلاثة مبنية على حرف واحد وهو أن عند تعارض الضررين يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة
أما المسألة الأولى فلأن ذلك العالم علم أنه لو لم يعب تلك السفينة بالتخريق لغصبها ذلك الملك وفاتت منافعها عن ملاكها بالكلية فوقع التعارض بين أن يخرقها ويعيبها فتبقى مع ذلك على ملاكها وبين أن لا يخرقها فيغصبها الملك فتفوت منافعها بالكلية على ملاكها ولا شك أن الضرر الأول أقل فوجب تحمله لدفع الضرر الثاني الذي هو أعظمهما(21/135)
وأما المسألة الثانية فكذلك لأن بقاء ذلك الغلام حياً كان مفسدة للوالدين في دينهم وفي دنياهم ولعله علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسد للأبوين فهلذا السبب أقدم على قتله
والمسألة الثالثة أيضاً كذلك لأن المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على إقامة ذلك الجدار ضررها أقل من سقوطه لأنه لو سقط لضاع مال تلك الأيتام وفيه ضرر شديد فالحاصل أن ذلك العالم كان مخصوصاً بالوقوف على بواطن الأشياء وبالأطلاع على حقائقها كما هي عليها في أنفسها وكان مخصوصاً ببناء الأحكام الحقيقية على تلك الأحوال الباطنة وأما موسى عليه السلام فما كان كذلك بل كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور فلا جرم ظهر التفاوت بينهما في العلم فإن قال قائل فحاصل الكلام أنه تعالى أطلعه على بواطن الأشياء وحقائقها في نفسها وهذا النوع من العلم لا يمكن تعلمه وموسى عليه السلام إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم فكان من الواجب على ذلك العالم أن يظهر له علماً يمكن له تعلمه وهذه المسائل الثلاثة علوم لا يمكن تعلمها فما الفائدة في ذكرها وإظهارها والجواب أن العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة وأما العلم ببواطن الأشياء فإنما يمكن تحصيله بناء على تصفية الباطن وتجريد النفس وتطهير القلب عن العلائق الجسدانية ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( الكهف 65 ) ثم إن موسى عليه السلام لما كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم ليعلم موسى عليه السلام أن كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على البواطن والتطلع على حقائق الأمور
المسألة الثانية اعلم أن ذلك العالم أجاب عن المسألة الأولى بقوله أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة ٍ غَصْباً وفيه فوائد الفائدة الأولى أن تلك السفينة كانت لأقوام محتاجين متعيشين بها في البحر والله تعالى سماهم مساكين واعلم أن الشافعي رحمه الله احتج بهذه الآية على أن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين لأنه تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة الفائدة الثانية أن مراد ذلك العالم من هذا الكلام أنه ما كان مقصودي من تخريق تلك السفينة تغريق أهلها بل مقصودي أن ذلك الملك الظالم كان يغصب السفن الخالية عن العيوب فجعلت هذه السفينة معيبة لئلا يغصبها ذلك الظالم فإن ضرر هذا التخريق أسهل من الضرر الحاصل من ذلك الغصب فإن قيل وهل يجوز للأجنبي أن يتصرف في ملك الغير لمثل هذا الغرض قلنا هذا مما يختلف أحواله بحسب اختلاف الشرائع فلعل هذا المعنى كان جائزاً في تلك الشريعة وأما في شريعتنا فمثل هذا الحكم غير بعيد فإنا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق ويأخذون جميع ملك الإنسان فإن دفعنا إلى قاطع الطريق بعض ذلك المال سلم الباقي فحينئذ يحسن منا أن ندفع بعض مال ذلك الإنسان إلى قاطع الطريق ليسلم الباقي وكان هذا منا يعد إحساناً إلى ذلك المالك الفائدة الثالثة أن ذلك التخريق وجب أن يكون واقعاً على وجه لا تبطل به تلك السفينة بالكلية إذ لو كان كذلك لم يكن الضرر الحاصل من غصبها أبلغ من الضرر الحاصل من تخريقها وحينئذ لم يكن تخريقها جائزاً الفائدة الرابعة لفظ الوراء على قوله وَكَانَ وَرَاءهُم فيه قولان الأول أن المراد منه وكان أمامهم ملك يأخذ هكذا قاله الفراء(21/136)
وتفسيره قوله تعالى مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ( الجاثية 10 ) أي أمامهم وكذلك قوله تعالى وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ( الإنسان 27 ) وتحقيقه أن كل ما غاب عنك فقد توارى عنك وأنت متوار عنه فكل ما غاب عنك فهو وراءك وأمام الشيء وقدامه إذا كان غائباً عنه متوارياً عنه فلم يبعد إطلاق لفظ وراء عليه والقول الثاني يحتمل أن يكون الملك كان من وراء الموضع الذي يركب منه صاحبه وكان مرجع السفينة عليه
وأما المسألة الثانية وهي قتل الغلام فقد أجاب العالم عنها بقوله وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ قيل إن ذلك الغلام كان بالغاً وكان يقطع الطريق ويقدم على الأفعال المنكرة وكان أبواه يحتاجان إلى دفع شر الناس عنه والتعصب له وتكذيب من يرميه بشيء من المنكرات وكان يصير ذلك سبباً لوقوعهما في الفسق وربما أدى ذلك الفسق إلى الكفر وقيل إنه كان صبياً إلا أن الله تعالى علم منه أنه لو صار بالغاً لحصلت منه هذه المفاسد وقوله فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً الخشية بمعنى الخوف وغلبة الظن والله تعالى قد أباح له قتل من غلب على ظنه تولد مثل هذا الفساد منه وقوله أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً فيه قولان الأول أن يكون المراد أن ذلك الغلام يحمل أبويه على الطغيان والكفر كقوله وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً ( الكهف 73 ) أي لا تحملني على عسر وضيق وذلك لأن أبويه لأجل حب ذلك الولد يحتاجان إلى الذب عنه وربما احتاجا إلى موافقته في تلك الأفعال المنكرة والثاني أن يكون المعنى أن ذلك الولد كان يعاشرهما معاشرة الطغاة الكفار فإن قيل هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان لمثل هذا الظن قلنا إذا تأكد ذلك الظن بوحي الله جاز ثم قال تعالى فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَواة ً أي أردنا أن يرزقهما الله تعالى ولداً خيراً من هذا الغلام زكاة أي ديناً وصلاحاً وقيل إن ذكره الزكاة ههنا على مقابلة قول موسى عليه السلام أَقَتَلْتَ نَفْسًا نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ فقال العالم أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيراً بدلاً عن ابنهما هذا ولداً يكون خيراً منه كما ذكرته من الزكاة ويكون المراد من الزكاة الطهارة فكأن موسى عليه السلام قال أقتلت نفساً طاهرة لأنها ما وصلت إلى حد البلوغ فكانت زاكية طاهرة من المعاصي فقال العالم إن تلك النفس وإن كانت زاكية طاهرة في الحال إلا أنه تعالى علم منها أنها إذا بلغت أقدمت على الطغيان والكفر فأردنا أن يجعل لهما ولداً أعظم زكاة وطهارة منه وهو الذي يعلم الله منه أنه عند البلوغ لا يقدم على شيء من هذه المحظورات ومن قال إن ذلك الغلام كان بالغاً قال المراد من صفة نفسه بكونها زاكية أنه لم يظهر عليه ما يوجب قتله ثم قال وَأَقْرَبَ رُحْماً أي يكون هذا البدل أقرب عطفاً ورحمة بأبويه بأن يكون أبر بهما وأشفق عليهما والرحم الرحمة والعطف روى أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة عظيمة
بقي من مباحث هذه الآية موضعان في القراءة الأول قرأ نافع وأبو عمرو يبدلهما بفتح الباء وتشديد الدال وكذلك في التحريم أَن يُبْدِلَهُ أَزْواجاً وفي القلم عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا والباقون ساكنة الباء خفيفة الدال وهما لغتان أبدل يبدل وبدل يبدل الثاني قراءة ابن عامر في إحدى الروايتين عن أبي عمرو رحماً بضم الحاء والباقون بسكونها وهما لغتان مثل نكر ونكر وشغل وشغل
وأما المسألة الثالثة وهي إقامة الجدار فقد أجاب العالم عنها بأن الداعي له إليها أنه كان تحت ذلك الجدار كنز وكان ذلك ليتيمين في تلك المدينة وكان أبوهما صالحاً ولما كان ذلك الجدار مشرفاً على السقوط(21/137)
ولو سقط لضاع ذلك الكنز فأراد الله إبقاء ذلك الكنز على ذينك اليتيمين رعاية لحقهما ورعاية لحق صلاح أبيهما فأمرني بإقامة ذلك الجدار رعاية لهذه المصالح وفي الآية فوائد الفائدة الأولى أنه تعالى سمى ذلك الموضع قرية حيث قال إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَة ٍ وسماه أيضاً مدينة حيث قال وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَة ِ الفائدة الثانية اختلفوا في هذا الكنز فقيل إنه كان مالاً وهذا هو الصحيح لوجهين الأول أن المفهوم من لفظ الكنز هو المال والثاني أن قوله وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا يدل على أن ذلك الكنز هو المال وقيل إنه كان علماً بدليل أنه قال وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً والرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال إذ كنز المال لا يليق بالصلاح بدليل قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( التوبة 34 ) وقيل كان لوحاً من ذهب مكتوب فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله الفائدة الثالثة قوله وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً يدل على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء وعن جعفر بن محمد كان بين الغلامين وبين الأب الصالح سبعة آباء وعن الحسن ابن علي أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله مال الغلامين قال بصلاح أبيهما قال فأبي وجدي خير منه قال قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون وذكروا أيضاً أن ذلك الأب الصالح كان الناس يضعون الودائع إليه فيردها إليهم بالسلامة فإن قيل اليتيمان هل عرف أحد منهما حصول الكنزل تحت ذلك الجدار أو ما عرف أحد منهما فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز والانتفاع به الجواب لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالماً به ثم ( إن ) ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط ولما قرر العالم هذه الجوابات قال رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ يعني إنما فعلت هذه الفعال لغرض أن تظهر رحمة الله تعالى لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما قررناه ثم قال وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى يعني ما فعلت ما رأيت من هذه الأحوال عن أمري واجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر الله ووحيه لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم لا يجوز إلا بالوحي والنص القاطع بقي في الآية سؤال وهو أنه قال فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وقال فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَواة ً وقال فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا كيف اختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاث وهي كلها في قصة واحدة وفعل واحد والجواب أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه فقال أردت أن أعيبها ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى لأن المتكفل بمصالح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا الله سبحانه وتعالى
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَى ْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً(21/138)
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيها مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح فالمراد من قوله وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ ( الكهف 83 ) هو ذلك السؤال
المسألة الثانية اختلف الناس في أن ذا القرنين من هو وذكروا فيه أقوالاً الأول أنه هو الاسكندر بن فيلبوس اليوناني قالوا والدليل عليه أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب بدليل قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ ( الكهف 86 ) وأيضاً بلغ ملكه أقصى المشرق بدليل قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ( الكهف 90 ) وأيضاً بلغ ملكه أقصى الشمال بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال وبدليل أن السد المذكور في القرآن يقال في كتب التواريخ إنه مبني في أقصى الشمال فهذا الإنسان المسمى بذي القرنين في القرآن قد دل القرآن على أن ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق وهذا هو تمام القدر المعمور من الأرض ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر وأن لا يبقى مخفياً مستتراً والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف ثم جمع ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر ثم توجه نحو دارا بن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض بالكلية أو ما يقرب منها وثبت بعلم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني ثم ذكروا في سبب تسميته بهذا الإسم وجوهاً الأول أنه لقب بهذا اللقب لأجل بلوغه قرني الشمس أي مطلعها ومغربها كما لقب أردشير بن بهمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد والثاني أن الفرس قالوا إن دارا الأكبر كان قد تزوج بابنة فيلبوس فلما قرب منها وجد منها رائحة منكرة فردها على أبيها فيلبوس وكانت قد حملت منه بالإسكندر فولدت الإسكندر بعد عودها إلى أبيها فبقي الإسكندر عند فيلبوس وأظهر فيلبوس أنه ابنه وهو في الحقيقة ابن دارا الأكبر قالوا والدليل عليه أن الإسكندر لما أدرك دارا بن دارا وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال لدارا يا أبي أخبرني عمن فعل هذا لأنتقم لك منها فهذا ما قاله الفرس قالوا وعلى هذا التقدير فالإسكندر أبوه دارا الأكبر وأمه بنت فيلبوس فهو إنما تولد من أصلين(21/139)
مختلفين الفرس والروم وهذا الذي قاله الفرس إنما ذكروه لأنهم أرادوا أن يجعلوه من نسل ملوك العجم حتى لا يكون ملك مثله من نسب غير نسب ملوك العجم وهو في الحقيقة كذب وإنما قال الإسكندر لدارا يا أبي على سبيل التواضع وأكرم دارا بذلك الخطاب والقول الثاني قال أبو الريحان الهروي المنجم في كتابه الذي سماه بالآثار الباقية عن القرون الخالية قيل إن ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عبير بن أفريقش الحميري فإنه بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال قد كان ذو القرنين قبلي مسلما
ملكاً علا في الأرض غير مفندي
بلغ المشارق والمغارب يبتغي
أسباب ملك من كريم سيد
ثم قال أبو الريحان ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلو أساميهم من ذي كذا كذي النادي وذي نواس وذي النون وغير ذلك والقول الثالث أنه كان عبداً صالحاً ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة وإن كنا لا نعرف أنه من هو ثم ذكروا في تسميته بذي القرنين وجوهاً الأول سأل ابن الكوا علياً رضي الله عنه عن ذي القرنين وقال أملك هو أم نبي فقال لا ملك ولا نبي كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمى بذي القرنين وملك ملكه الثاني سمي بذي القرنين لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس الثالث قيل كان صفحتاً رأسه من نحاس الرابع كان على رأسه ما يشبه القرنين الخامس ( كان ) لتاجه قرنان السادس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا يعني شرقها وغربها السابع كان له قرنان أي ضفيرتان الثامن أن الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمده الظلمة من ورائه التاسع يجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه العاشر رأى في المنام كأنه صعد الفلك فتعلق بطرفي الشمس وقرنيها وجانبيها فسمي لهذا السبب بذي القرنين الحادي عشر سمي بذلك لأنه دخل النور والظلمة والقول الرابع أن ذا القرنين ملك من الملائكة عن عمر أنه سمع رجلاً يقول يا ذا القرنين فقال اللهم اغفر أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسموا بأسماء الملائكة ا فهذا جملة ما قيل في هذا الباب والقول الأول أظهر لأجل الدليل الذي ذكرناه وهو أن مثل هذا الملك العظيم يجب أن يكون معلوم الحال عند أهل الدنيا والذي هو معلوم الحال بهذا الملك العظيم هو الإسكندر فوجب أن يكون المراد بذي القرنين هو هو إلا أن فيه إشكالاً قوياً وهو أنه كان تلميذ أرسططاليس الحكيم وكان على مذهبه فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسططاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في ذي القرنين هل كان من الأنبياء أم لا منهم من قال إنه كان نبياً واحتجوا عليه بوجوه الأول قوله إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ والأولى حمله على التمكين في الدين والتمكين الكامل في الدين هو النبوة والثاني قوله وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً ومن جملة الأشياء النبوة فمقتضى العموم في(21/140)
قوله وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً هو أنه تعالى آتاه في النبوة سبباً الثالث قوله تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبياً ومنهم من قال إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً
المسألة الرابعة في دخول السين في قوله سَأَتْلُواْ معناه إني سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى عليه وأنزل فيه وحياً وأخبرني عن كيفية تلك الحال وأما قوله تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ فهذا التمكين يحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب النبوة ويحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب الملك من حيث إنه ملك مشارق الأرض ومغاربها والأول أولى لأن التمكين بسبب النبوة أعلى من التمكين بسبب الملك وحمل كلام الله على الوجه الأكمل الأفضل أولى ثم قال وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً قالوا السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود وهو يتناول العلم والقدرة والآلة فقوله وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً معناه أعطيناه من كل شيء من الأمور التي يتوصل بها إلى تحصيل ذلك الشيء ثم إن الذين قالوا إنه كان نبياً قالوا من جملة الأشياء النبوة فهذه الآية تدل على أنه تعالى أعطاه الطريق الذي به يتوصل إلى تحصيل النبوة والذين أنكروا كونه نبياً قالوا المراد به وآتيناه من كل شيء يحتاج إليه في إصلاح ملكه سبباً إلا أن لقائل أن يقول إن تخصيص العموم خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل ثم قال فَأَتْبَعَ سَبَباً ومعناه أنه تعالى لما أعطاه من كل شيء سببه فإذا أراد شيئاً أتبع سبباً يوصله إليه ويقربه منه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو فاتبع بتشديد التاء وكذلك ثم اتبع أي سلك وسار والباقون فأتبع بقطع الألف وسكون التاء مخففة
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
اعلم أن المعنى أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً يوصله إليه حتى بلغه أما قوله وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ ففيه مباحث
الأول قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في عين حامية بالألف من غير همزة أي حارة وعن أبي ذر قال كنت رديف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تغرب في عين حامية وهي قراءة ابن مسعود وطلحة(21/141)
وابن عامر والباقون حمئة وهي قراءة ابن عباس واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية بألف فقال ابن عباس حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمر كيف تقرأ قال كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب قال في ماء وطين كذلك نجده في التوراة والحمئة ما فيه ماء وحمأة سوداء واعلم أنه لا تنافي بين الحمئة والحامية فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعاً
البحث الثاني أنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها ولا شك أن الشمس في الفلك وأيضاً قال وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض إذا ثبت هذا فنقول تأويل قوله تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ من وجوه الأول أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره الثاني أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء فقوله تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة الثالث قال أهل الأخبار إن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة وهذا في غاية البعد وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفاً قمرياً فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا حصل هذا الكسوف في أول الليل ورأينا المشرقيين قالوا حصل في أول النهار فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد ووقت الظهر في بلد آخر ووقت الضحوة في بلد ثالث ووقت طلوع الشمس في بلد رابع ونصف الليل في بلد خامس وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال إنها تغيب في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين وكلام الله تعالى مبرأ عن هذه التهمة فلم يبق إلا أن يصار إلى التأويل الذي ذكرناه ثم قال تعالى وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً الضمير في قوله عندها إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى الشمس ويكون التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس والقول الثاني أن يكون الضمير عائداً إلى العين الحامية وعلى هذا القول فالتأويل ما ذكرناه ثم قال تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وفيه مباحث
الأول أن قوله تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يدل على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة وذلك يدل على أنه كان نبياً وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء فهو عدول عن الظاهر
البحث الثاني قال أهل الأخبار في صفة ذلك الموضع أشياء عجيبة قال ابن جريج هناك مدينة لها إثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجبة الشمس حين تغيب
البحث الثالث قوله تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يدل على أن(21/142)
سكان آخر المغرب كانوا كفاراً فخير الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب لهم إن أقاموا على كفرهم وبين المن عليهم والعفو عنهم وهذا التخيير على معنى الإجتهاد في أصلح الأمرين كما خير نبيه عليه السلام بين المن على المشركين وبين قتلهم وقال الأكثرون هذا التعذيب هو القتل وأما اتخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء ثم قال ذو القرنين أَمَّا مَن ظَلَمَ نَفْسَهُ أي ظلم نفسه بالإقامة على الكفر والدليل على أن هذا هو المراد أنه ذكر في مقابلته وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثم قال فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ أي بالقتل في الدنيا ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً أي منكراً فظيعاً وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم جَزَاء الْحُسْنَى بالنصب والتنوين والباقون بالرفع والإضافة فعلى القراءة الأولى يكون التقدير فله الحسنى جزاء كما تقول لك هذا الثوب هبة وأما على القراءة الثانية ففي التفسير وجهان الأول فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح والثاني أن يكون التقدير فله جزاء المثوبة الحسنى ويكون المعنى فله ذا الجزاء الذي هو المثوبة الحسنى والجزاء موصوف بالمثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ ( الأنعام 32 ) و حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) ثم قال وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل الميسر من الزكاة والخراج وغيرهما وتقدير هذا يسر كقوله قَوْلاً مَّيْسُورًا ( الإسراء 28 ) وقرىء يسراً بضمتين
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً
اعلم أنه تعالى لما بين أولاً أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مغرب الشمس أتبعه ببيان أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مطلع الشمس فبين الله تعالى أنه وجد الشمس تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً وفيه قولان الأول أنه ليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم فلهذا السبب إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب واغلة في الأرض أو غاصوا في الماء فيكون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش حالهم بالضد من أحوال سائر الخلق والقول الثاني أن معناه أنه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبداً ويقال في كتب الهيئة إن حال أكثر الزنج كذلك وحال كل من يسكن البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك وذكر في كتب التفسير أن بعضهم قال سافرت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم فقيل بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه الواحدة ويلبس الأخرى ولما قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرباً لهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج ثم قال تعالى كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً وفيه وجوه الأول أي كذلك فعل ذو القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به والثاني كذلك جعل(21/143)
الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسوله عليه السلام في هذا الذكر والثالث كذلك كانت حالته مع أهل المطلع كما كانت مع أهل المغرب قضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين والرابع أنه تم الكلام عند قوله كذلك والمعنى أنه تعالى قال أمر هؤلاء القوم كما وجدهم عليه ذو القرنين ثم قال بعده وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً أي كنا عالمين بأن الأمر كذلك
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّة ٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا
اعلم أن ذا القرنين لما بلغ المشرق والمغرب أتبع سبباً آخر وسلك الطريق حتى بلغ بين السدين وقد آتاه الله من العلم والقدرة ما يقوم بهذه الأمور وههنا مباحث
الأول قرأ حمزة والكسائي السدين بضم السين وسداً بفتحها حيث كان وقرأ حفص عن عاصم بالفتح فيهما في كل القرآن وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالضم فيهما في كل القرآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو السدين وسداً ههنا بفتح السين فيهما وضمها في يس في الموضعين قال الكسائي هما لغتان وقيل ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بفتح السين وما كان من صنع الله فهو السد بضم السين والجمع سدد وهو قول أبي عبيدة وابن الأنباري قال صاحب الكشاف السد بالضم فعل بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه والسد بالفتح مصدر حدث يحدثه الناس
البحث الثاني الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال وقيل جبلان بين أرمينية وبين أذربيجان وقيل هذا المكان في مقطع أرض الترك وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً إليه من ناحية الخزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع وذكر ابن خردا ( ذبة ) في كتاب المسالك والممالك أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند قال أبو الريحان مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة والله أعلم بحقيقة الحال
البحث الثالث أن ذا القرنين لما بلغ ما بين السدين وجد من دونهما أي من ورائهما مجاوزاً عنهما قَوْماً أي أمة من الناس لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قرأ حمزة والكسائي يفقهون بضم الياء وكسر القاف(21/144)
على معنى لا يمكنهم تفهيم غيرهم والباقون بفتح الياء والقاف والمعنى أنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم وما كانوا يفهمون اللسان الذي يتكلم به ذو القرنين ثم قال تعالى قَالُواْ يأَبَانَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ فإن قيل كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام بعد أن وصفهم الله بقوله لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً والجواب أن نقول كاد فيه قولان الأول أن إثباته نفي ونفيه إثبات فقوله لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً لا يدل على أنهم لا يفهمون شيئاً بل يدل على أنهم قد يفهمون على مشقة وصعوبة والقول الثاني أن كاد معناه المقاربة وعلى هذا القول فقوله لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً أي لا يعلمون وليس لهم قرب من أن يفقهوا وعلى هذا القول فلا بد من إضمار وهو أن يقال لا يكادون يفهمونه إلا بعد تقريب ومشقة من إشارة ونحوها وهذه الآية تصلح أن يحتج بها على صحة القول الأول في تفسير كاد
البحث الرابع في يأجوج ومأجوج قولان الأول أنهما إسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف والقول الثاني أنهما مشتقان وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز وقرأ الباقون ياجوج وماجوج وقرىء في رواية آجوج ومأجوج والقائلون بكون هذين الإسمين مشتقين ذكروا وجوهاً الأول قال الكسائي يأجوج مأخوذ من تأجج النار وتلهبها فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ومأجوج من موج البحر الثاني أن يأجوج مأخوذ من تأجج الملح وهو شدة ملوحته فلشدتهم في الحركة سموا بذلك الثالث قال القتيبي هو مأخوذ من قولهم أج الظليم في مشيه يئج أجاً إذا هرول وسمعت حفيفه في عدوه الرابع قال الخليل الأج حب كالعدس والمج مج الريق فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما واختلفوا في أنهما من أي الأقوام فقيل إنهما من الترك وقيل يَأْجُوجَ من الترك وَمَأْجُوجَ من الجيل والديلم ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة بكون طول أحدهم شبراً ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبتوا لهم مخاليب في الأظفار وأضراساً كأضراس السباع واختلفوا في كيفية إفسادهم في الأرض فقيل كانوا يقتلون الناس وقيل كانوا يأكلون لحوم الناس وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون لهم شيئاً أخضر وبالجملة فلفظ الفساد محتمل لكل هذه الأقسام والله أعلم بمراده ثم إنه تعالى حكى عن أهل ما بين السدين أنهم قالوا لذي القرنين فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا قرأ حمزة والكسائي خراجاً والباقون خرجاً قيل الخراج والخرج واحد وقيل هما أمران متغايران وعلى هذا القول اختلفوا قيل الخرج بغير ألف هو الجعل لأن الناس يخرج كل واحد منهم شيئاً منه فيخرج هذا أشياء وهذا أشياء والخراج هو الذي يجبيه السلطان كل سنة وقال الفراء الخراج هو الإسم الأصلي والخرج كالمصدر وقال قطرب الخرج الجزية والخراج في الأرض فقال ذو القرنين مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى أي ما جعلني مكيناً من المال الكثير واليسار الواسع خير مما تبذلون من الخراج فلا حاجة بي إليه وهو كما قال سليمان عليه السلام فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ ( النمل 36 ) قرأ ابن كثير ( ما مكنني ) بنونين على الإظهار والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام ثم قال ذو القرنين فَأَعِينُونِى بِقُوَّة ٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا أي لا حاجة لي في مالكم ولكن أعينوني برجال وآلة أبني بها السد وقيل المعنى أعينوني بمال أصرفه إلى هذا المهم ولا أطلب المال لآخذه لنفسي والردم هو السد يقال ردمت الباب أي سددته وردمت الثوب رقعته لأنه يسد الخرق بالرقعة والردم أكثر من السد من قولهم ثوب مردوم أي وضعت عليه رقاع(21/145)
ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْبًا قَالَ هَاذَا رَحْمَة ٌ مِّن رَّبِّى فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقّاً
اعلم أن ءاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ قطعة قال الخليل الزبرة من الحديد القطعة الضخمة قراءة الجميع آتوني بمد الألف إلا حمزة فإنه قرأ ائتوني من الإتيان وقد روى ذلك عن عاصم والتقدير ائتوني بزبر الحديد ثم حذف الباء كقوله شكرته وشكرت له وكفرته وكفرت له وقوله حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ فيه إضمار أي فأتوه بها فوضع تلك الزبر بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً واعلم أن هذا معجز قاهر لأن هذه الزبر الكثيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان على القرب منها والنفخ عليها لا يمكن إلا مع القرب منها فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها قال صاحب الكشاف قيل بعدما بين السَّدَّيْنِ مائة فرسخ والصدفان بفتحتين جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان وقرىء بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ بضمتين والصدفين بضمة وسكون والقطر النحاس المذاب لأنه يقطر وقوله عَلَيْهِ قِطْراً منصوب بقوله أَفْرِغْ وتقديره آتوني قطراً أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ثم قال فَمَا اسْطَاعُواْ فحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء وقرىء فَمَا بقلب السين صاداً اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ أن يعلوه أي ما قدروا على الصعود عليه لأجل ارتفاعه وملاسته ولا على نقبه لأجل صلابته وثخانته ثم قال ذو القرنين هَاذَا رَحْمَة ٌ مّن رَّبّى فقوله هذا إشارة إلى السد أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده أو هذا الاقتدار والتمكين من تسويته فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى يعني فإذا دنا مجيء القيامة جعل السد دكاً أي مدكوكاً مسوى بالأرض وكل ما انبسط بعد الارتفاع فقد اندك وقرىء دكاء بالمد أي أرضاً مستوية وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً وههنا آخر حكاية ذي القرنين
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً
اعلم أن الضمير في قوله بعضهم عائد إلى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وقوله يَوْمَئِذٍ فيه وجوه الأول أن يوم السد(21/146)
ماج بعضهم في بعض خلفه لما منعوا من الخروج الثاني أن عند الخروج يموج بعضهم في بعض قيل إنهم حين يخرجون من وراء السد يموجون مزدحمين في البلاد يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ويأكلون لحوم الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس ثم يبعث الله عليهم حيوانات فتدخل آذانهم فيموتون والقول الثالث أن المراد من قوله يَوْمَئِذٍ يوم القيامة وكل ذلك محتمل إلا أن الأقرب أن المراد الوقت الذي جعل الله ذلك السد دكاً فعنده ماج بعضهم في بعض وبعده نفخ في الصور وصار ذلك من آيات القيامة والكلام في الصور قد تقدم وسيجيء من بعد وأما عرض جهنم وإبرازه حتى يصير مكشوفاً بأهواله فذلك يجري مجرى عقاب الكفار لما يتداخلهم من الغم العظيم وبين تعالى أنه يكشفه للكافرين الذين عموا وصموا أما العمى فهو المراد من قوله كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى والمراد منه شدة انصرافهم عن قبول الحق وأما الصمم فهو المراد من قوله وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً يعني أن حالتهم أعظم من الصمم لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء زالت عنهم تلك الاستطاعة واحتج الأصحاب بقوله وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً على أن الاستطاعة مع الفعل وذلك لأنهم لما لم يسمعوا لم يستطيعوا قال القاضي المراد منه نفرتهم عن سماع ذلك الكلام واستثقالهم إياه كقول الرجل لا أستطيع النظر إلى فلان
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاٌّ خْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُوا ءَايَاتِى وَرُسُلِى هُزُواً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين من حال الكافرين أنهم أعرضوا عن الذكر وعن استماع ما جاء به الرسول أتبعه بقوله أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء والمراد أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر الآيات وتمردهم عن قبول أمره وأمر رسوله وهو استفهام على سبيل التوبيخ
المسألة الثانية قرأ أبو بكر ولم يرفعه إلى عاصم أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بسكون السين ورفع الباء وهي من الأحرف التي خالف فيها عاصماً وذكر أنه قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلى هذا التقدير فقوله حسب مبتدأ أن يتخذوا خبر والمعنى أفكافيهم وحسبهم أن يتخذوا كذا وكذا وأما الباقون(21/147)
فقرأوا فحسب على لفظ الماضي وعلى هذا التقدير ففيه حذف والمعنى أفحسب الذين كفروا اتخاذ عبادي أولياء نافعاً
المسألة الثالثة في العباد أقوال قيل أراد عيسى والملائكة وقيل هم الشياطين يوالونهم ويطيعونهم وقيل هي الأصنام سماهم عباداً كقوله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ثم قال تعالى إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً وفي النزل قولان الأول قال الزجاج إنه المأوى والمنزل والثاني أنه الذي يقام للنزيل وهو الضيف ونظيره قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ثم ذكر تعالى ما نبه به على جهل القوم فقال قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا قيل إنهم هم الرهبان كقوله تعالى عَامِلَة ٌ نَّاصِبَة ٌ وعن مجاهد أهل الكتاب وعن علي أن ابن الكواء سأله عنهم فقال هم أهل حروراء والأصل أن يقال هو الذي يأتي بالأعمال يظنها طاعات وهي في أنفسها معاصي وإن كانت طاعات لكنها لا تقبل منهم لأجل كفرهم فأولئك إنما أتوا بتلك الأعمال لرجاء الثواب وإنما أتبعوا أنفسهم فيها لطلب الأجر والفوز يوم القيامة فإذا لم يفوزوا بمطالبهم بين أنهم كانوا ضالين ثم إنه تعالى بين صنعهم فقال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى لقاء الله عبارة عن رؤيته بدليل أنه يقال لقيت فلاناً أي رأيته فإن قيل اللقاء عبارة عن الوصول قال تعالى فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( القمر 12 ) وذلك في حق الله تعالى محال فوجب حمله على لقاء ثواب الله والجواب أن لفظ اللقاء وإن كان في الأصل عبارة عن الوصول والملاقاة إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور والذي يقولونه من أن المراد منه لقاء ثواب الله فهو لا يتم إلا بالإضمار ومن المعلوم أن حمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج معه إلى الإضمار
المسألة الثانية استدلت المعتزلة بقوله تعالى فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ على أن القول بالإحباط والتكفير حق وهذه المسألة قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة البقرة فلا نعيدها ثم قال تعالى فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً وفيه وجوه الأول أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار الثاني لا نقيم لهم ميزاناً لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين لتمييز مقدار الطاعات ومقدار السيئات الثالث قال القاضي إن من غلبت معاصيه صار ما في فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعته وهذا التفسير بناء على قوله بالإحباط والتكفير ثم قال تعالى ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ فقوله ذالِكَ أي ذلك الذي ذكرناه وفصلناه من أنواع الوعيد هو جزاؤهم على أعمالهم الباطلة وقوله جَهَنَّمَ عطف بيان لقوله جَزَآؤُهُمْ ثم بين تعالى أن ذلك الجزاء جزاء على مجموع أمرين أحدهما كفرهم الثاني أنهم أضافوا إلى الكفر أن اتخذوا آيات الله واتخذوا رسله هزواً فلم يقتصروا على الرد عليهم وتكذيبهم حتى استهزأوا بهم
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً(21/148)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد ولما ذكر في الكفار أن جهنم نزلهم أتبعه بذكر ما يرغب في الإيمان والعمل الصالح فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً
المسألة الثانية عطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه وذلك يدل على أن الأعمال الصالحة مغايرة للإيمان
المسألة الثالثة عن قتادة الفردوس وسط الجنة وأفضلها وعن كعب ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعن مجاهد الفردوس هو البستان بالرومية وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة ومنها الأنهار الأربعة والفردوس من فوقها فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنها تتفجر أنهار الجنة )
المسألة الرابعة قال بعضهم إنه تعالى جعل الجنة بكليتها نزلاً للمؤمنين والكريم إذا أعطى النزل أولاً فلا بد أن يتبعه بالخلعة وليس بعد الجنة بكليتها إلا رؤية الله فإن قالوا أليس أنه تعالى جعل في الآية الأولى جملة جهنم نزلا الكافرين ولم يبق بعد جملة جهنم عذاب آخر فكذلك ههنا جعل جملة الجنة نزلاً للمؤمنين مع أنه ليس له شيء آخر بعد الجنة والجواب قلنا للكافر بعد حصول جهنم مرتبة أعلى منها وهو كونه محجوباً عن رؤية الله كما قال تعالى كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ( المطففين 15 16 ) فجعل الصلاء بالنار متأخر في المرتبة عن كونه محجوباً عن الله ثم قال تعالى لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً الحول التحول يقال حال من مكانه حولاً كقوله عاد في حبها عوداً يعني لا مزيد على سعادات الجنة وخيراتها حتى يريد أشياء غيرها وهذا الوصف يدل على غاية الكمال لأن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت في السعادات فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها
قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَة ِ رَبِّهِ أَحَدَا
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص(21/149)
الأولين نبه على كمال حال القرآن فقال قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّى والمداد اسم لما تمد به الدواة من الحبر ولما يمد به السراج من السليط والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وكان البحر مداداً لها والمراد بالبحر الجنس لنفد قبل أن تنفد الكلمات تقرير الكلام أن البحار كيفما فرضت في الاتساع والعظمة فهي متناهية ومعلومات الله غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي قرأ حمزة والكسائي ينفد بالياء لتقدم الفعل على الجمع والباقون بالتاء لتأنيث كلمات وروي أن حيي بن أخطب قال في كتابكم وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) ثم تقرأون وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) فنزلت هذه الآية يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله
المسألة الثانية احتج المخالفون على الطعن في قول أصحابنا أن كلام الله تعالى واحد بهذه الآية وقالوا إنها صريحة في إثبات كلمات الله تعالى وأصحابنا حملوا الكلمات على متعلقات علم الله تعالى قال الجبائي وأيضاً قوله قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّى يدل على أن كلمات الله تعالى قد تنفد في الجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه وأيضاً قال لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مِدَاداً وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه والذي يجاء به يكون محدثاً والذي يكون المحدث مثلاً له فهو أيضاً محدث وجواب أصحابنا أن المراد منه الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية واعلم أنه تعالى لما بين كمال كلام الله أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يسلك طريقة التواضع فقال قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أي لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد والآية تدل على مطلوبين الأول أن كلمة إِنَّمَا تفيد الحصر وهي قوله أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ والثاني أن كون الإله تعالى إِلَهاً واحِداً يمكن إثباته بالدلائل السمعية وقد قررنا هذين المطلوبين في سائر السور بالوجوه القوية ثم قال فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ والرجاء هو ظن المنافع الواصلة إليه والخوف ظن المضار الواصلة إليه وأصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله وهذه المناظرة قد تقدمت والعجب أنه تعالى أورد في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات أولها قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ ( الكهف 105 ) وثانيها قوله كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) وثالثها قوله فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ ولا بيان أقوى من ذلك ثم قال فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً أي من حصل له رجاء لقاء الله فليشتغل بالعمل الصالح ولما كان العمل الصالح قد يؤتي به لله وقد يؤتى به للرياء والسمعة لا جرم اعتبر فيه قيدان أن يؤتى به لله وأن يكون مبرأ عن جهات الشرك فقال وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَة ِ رَبّهِ أَحَدَا قيل نزلت هذه الآية في جندب بن زهير قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه أحد سرني ) فقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله لا يقبل ما شورك فيه ) وروي أيضاً أنه قال له ( لك أجران أجر السر وأجر العلانية ) فالرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدى به والمقام الأول مقام المبتدئين والمقام الثاني مقام الكاملين والحمد ( صلى الله عليه وسلم ) رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين(21/150)
سورة مريم عليها السلام
( وهي ثمان وتسعون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص
قبل الخوض في القراءات لا بد من مقدمات ثلاثة المقدمة الأولى أن حروف المعجم على نوعين ثنائي وثلاثي وقد جرت عادة العرب أن ينطقوا بالثنائيات مقطوعة ممالة فيقولوا با تا ثا وكذلك أمثالها وأن ينطقوا بالثلاثيات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة فيقولوا دال ذال صاد ضاد وكذلك أشكالها أما الزاي وحده من بين حروف المعجم فمعتاد فيه الأمران فإن من أظهر ياءه في النطق حتى يصير ثلاثياً لم يمله ومن لم يظهر ياءه في النطق حتى يشبه الثنائي يمله أما المقدمة الثانية ينبغي أن يعلم أن إشباع الفتحة في جميع المواضع أصل والإمالة فرع عليه ولهذا يجوز إشباع كل ممال ولا يجوز إمالة كل مشبع من الفتحات المقدمة الثالثة للقراء في القراءات المخصوصة بهذا الموضع ثلاثة طرق أحدها أن يتمسكوا بالأصل وهو إشباع فتحة الهاء والياء وثانيها أن يميلوا الهاء والياء وثالثها أن يجمعوا بين الأصل والفرع فيقع الاختلاف بين الهاء والياء فيفتحوا أحدهما أيهما كان ويكسروا الآخر ولهم في السبب الموجب لهذا الاختلاف قولان الأول أن الفتحة المشبعة أصل والإمالة فرع مشهور كثير الاستعمال فأشبع أحدهما وأميل الآخر ليكون جامعاً لمراعاة الأصل والفرع وهو أحسن من مراعاة أحدهما وتضييع الآخر القول الثاني أن الثنائية من حروف المعجم إذا كانت مقطوعة كانت بالإمالة وإذا كانت موصولة كانت بالإشباع وها ويا في قوله تعالى كهيعص مقطوعان في اللفظ موصولان في الخط فأميل أحدهما وأشبع الآخر ليكون كلا الجانبين مرعياً جانب القطع اللفظي وجانب الوصل الخطي إذا عرفت هذا فنقول فيه قراءات إحداها وهي القراءة المعروفة فيه فتحة الهاء والياء جميعاً وثانيها كسر الهاء وفتح الياء وهي قراءة أبي عمرو وابن مبادر والقطعي عن أيوب وإنما كسروا الهاء دون الياء ليكون فرقاً بينه وبين الهاء الذي للتنبيه فإنه لا يكسر قط وثالثها فتح الهاء وكسر الياء وهو قراءة حمزة والأعمش وطلحة والضحاك عن(21/151)
عاصم وإنما كسروا الياء دون الهاء لأن الياء أخت الكسرة وإعطاء الكسرة أختها أولى من إعطائها إلى أجنبية مفتوحة للمناسبة ورابعها إمالتهما جميعاً وهي قراءة الكسائي والمفضل ويحيى عن عاصم والوليد بن أسلم عن ابن عامر والزهري وابن جرير وإنما أمالوهما للوجهين المذكورين في إمالة الهاء وإمالة الياء وخامسها قراءة الحسن وهي ضم الهاء وفتح الياء وعنه أيضاً فتح الهاء وضم الياء وروى صاحب ( الكشاف ) عن الحسن بضمهما فقيل له لم تثبت هذه الرواية عن الحسن لأنه أورد ابن جنى في كتاب ( المكتسب ) أن قراءة الحسن ضم أحدهما وفتح الآخر لا على التعيين وقال بعضهم إنما أقدم الحسن على ضم أحدهما لا على التعيين لأنه تصور أن عين الفعل في الهاء والياء ألف منقلب عن الواو كالدار والمال وذلك لأن هذه الألفات وإن كانت مجهولة لأنها لا اشتقاق لها فإنها تحمل على ما هو مشابه لها في اللفظ والألف إذا وقع عيناً فالواجب أن يعتقد أنه منقلب عن الواو لأن الغالب في اللغة ذلك فلما تصور الحسن أن ألف الهاء والياء منقلب عن الواو جعله في حكم الواو وضم ما قبله لأن الواو أخت الضمة وسادسها ها يا بإشمامهما شيئاً من الضمة
المسألة الثالثة قرأ أبو جعفر كهيعص يفصل الحروف بعضها من بعض بأدنى سكتة مع إظهار نون العين وباقي القراء يصلون الحروف بعضها ببعض ويخفون النون
المسألة الثالثة القراءة المعروفة صاد ذكر بالإدغام وعن عاصم ويعقوب بالإظهار
البحث الثاني المذاهب المذكورة في هذه الفواتح قد تقدمت لكن الذي يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى كهيعص ثناء من الله على نفسه فمن الكاف وصفه بأنه كاف ومن الهاء هاد ومن العين عالم ومن الصاد صادق وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أنه حمل الكاف على الكبير والكريم ويحكى أيضاً عنه أنه حمل الياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى وعن الربيع بن أنس في الياء أنه من مجير وعن ابن عباس رضي الله عنهما في العين أنه من عزيز ومن عدل وهذه الأقوال ليست قوية لما بينا أنه لا يجوز من الله تعالى أن يودع كتابه ما لا تدل عليه اللغة لا بالحقيقة ولا بالمجاز لأنا إن جوزنا ذلك فتح علينا قول من يزعم أن لكل ظاهر باطناً واللغة لا تدل على ما ذكروه فإنه ليست دلالة الكاف أولى من دلالته على الكريم أو الكبير أو على اسم آخر من أسماء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو الملائكة أو الجنة أو النار فيكون حمله على بعضها دون البعض تحكماً لا تدل عليه اللغة أصلاً
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
فيه مسائل
المسألة الأولى في لفظة ذكر أربع قراءات صيغة المصدر أو الماضي مخففة أو مشددة أو الأمر أما صيغة المصدر فلا بد فيها من كسر رحمة ربك على الإضافة ثم فيها ثلاثة أوجه أحدها نصب الدال من عبده والهمزة من زكرياء وهو المشهور وثانيها برفعهما والمعنى وتلك الرحمة هي عبده زكرياء عن ابن عامر(21/152)
وثالثها بنصب الأول وبرفع الثاني والمعنى رحمة ربك عبده وهو زكرياء وأما صيغة الماضي بالتشديد فلا بد فيها من نصب رحمة وأما صيغة الماضي بالتخفيف ففيها وجهان أحدهما رفع الباء من ربك والمعنى ذكر ربك عبده زكرياء وثانيها نصب الباء من ربك والرفع في عبده زكرياء وذلك بتقديم المفعول على الفاعل وهاتان القراءتان للكلبي وأما صيغة الأمر فلا بد من نصب رحمة وهي قراءة ابن عباس واعلم أن على تقدير جعله صيغة المصدر والماضي يكون التقدير هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد من قوله رحمة ربك أعني عبده زكرياء ثم في كونه رحمة وجهان أحدهما أن يكون رحمة على أمته لأنه هداهم إلى الإيمان والطاعات والآخر أن يكون رحمة على نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أمة محمد لأن الله تعالى لما شرح لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) طريقه في الإخلاص والإبتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى صار ذلك لفظاً داعياً له ولأمته إلى تلك الطريقة فكان زكرياء رحمة ويحتمل أن يكون المراد أن هذه السورة فيها ذكر الرحمة التي رحم بها عبدة زكرياء
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
قوله تعالى إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً راعى سنة الله في إخفاء دعوته لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الإخفاء أولى لأنه أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص وثانيها أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في زمان الشيخوخة وثالثها أسره من مواليه الذين خافهم ورابعها خفي صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ صوته خفات وسمعه تارات فإن قيل من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء وخفياً والجواب من وجهين الأول أنه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلا أن الصوت كان ضعيفاً لنهاية الضعف بسبب الكبر فكان نداء نظراً إلى قصده وخفياً نظراً إلى الواقع الثاني أنه دعا في الصلاة لأن الله تعالى أجابه في الصلاة لقوله تعالى فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى ( آل عمران 39 ) فكون الإجابة في الصلاة يدل على كون الدعاء في الصلاة فوجب أن يكون النداء فيها خفياً
قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
القراءة فيها مسائل
المسألة الأولى قرىء وَهَنَ بالحركات الثلاث
المسألة الثانية إدغام السين في الشين ( من الرأس شيباً ) عن أبي عمرو
المسألة الثالثة وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ بفتح الياء وعن الزهري بإسكان الياء من الموالي وقرأ عثمان(21/153)
وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وسعيد بن جبير وزيد بن ثابت وابن عباس خفت بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر التاء وهذا يدل على معنيين أحدهما أن يكون ورائي بمعنى بعدي والمعنى أنهم قلوا وعجزوا عن إقامة الدين بعده فسأل ربه تقويتهم بولي يرزقه والثاني أن يكون بمعنى قدامي والمعنى أنهم خفوا قدامه ودرجوا ولم يبق من به تقو واعتضاد
المسألة الرابعة القراءة المعروفة مِن وَرَائِى بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة وعن حميد بن مقسم كذلك لكن بفتح الياء وقرأ ابن كثير وراي كعصاي
المسألة الخامسة من يرثني ويرث وجوه أحدها القراءة المعروفة بالرفع فيهما صفة وثانيها وهي قراءة أبي عمرو والكسائي والزهري والأعمش وطلحة بالجزم فيهما جواباً للدعاء وثالثها عن علي ابن أبي طالب وابن عباس وجعفر بن محمد والحسن وقتادة وَلِيّاً يَرِثُنِى جزم وارث بوزن فاعل ورابعها عن ابن عباس يَرِثُنِى وارث من آل يعقوب وخامسها عن الجحدري وَيَرِثُ تصغير وارث على وزن أفيعل ( اللغة ) الوهن ضعف القوة قال في ( الكشاف ) شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وأنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه كل مأخذ كاشتعال النار ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا فمن ثم فصحت هذه الجملة وأما الدعاء فطلب الفعل ومقابله الإجابة كما أن مقابل الأمر الطاعة وأما أصل التركيب في ( ولي ) فيدل على معنى القرب والدنو يقال وليته أليه ولياً أي دنوت وأوليته أدنيته منه وتباعد ما بعده وولي ومنه قول ساعدة ( ابن جؤبة )
وعدت عواد دون وليك تشغب
وكل مما يليك وجلست مما ايليه ومنه الولي وهو المطر الذي يلي الوسمي والولية البرذعة لأنها تلي ظهر الدابة وولي اليتيم والقتيل وولي البلد لأن من تولى أمراً فقد قرب منه وقوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ من قولهم ولاه بركنه أي جعله مما يليه أما ولي عني إذا أدبر فهو من باب تثقيل الحشو للسلب وقولهم فلان أولى من فلان أي أحق أفعل التفضيل من الوالي أو الولي كالأدنى والأقرب من الداني والقريب وفيه معنى القرب أيضاً لأن من كان أحق بالشيء كان أقرب إليه والمولى اسم لموضع الولي كالمرمى والمبني اسم لموضع والمرمي والبناء وأما العاقر فهي التي لا تلد والعقر في اللغة الجرح ومنه أخذ العاقر لأنه نقص أصل الخلقة وعقرت الفرس بالسيف إذا ضربت قوائمه وأما الآل فهم خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم إليه ثم قد يؤول أمرهم إليه للقرابة تارة وللصحبة أخرى كآل فرعون وللموافقة في الدين كآل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واعلم أن زكرياء عليه السلام قدم على السؤال أموراً ثلاثة أحدها كونه ضعيفاً والثاني أن الله تعالى ما رد دعاءه البتة والثالث كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين ثم بعد تقرير هذه الأمور الثلاثة صرح بالسؤال(21/154)
أما المقام الأول وهو كونه ضعيفاً فأثر الضعف إما أن يظهر في الباطن أو في الظاهر والضعف الذي يظهر في الباطن يكون أقوى مما يظهر في الظاهر فلهذا السبب ابتدأ ببيان الضعف الذي في الباطن وهو قوله وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وتقريره هو أن العظام أصلب الأعضاء التي في البدن وجعلت كذلك لمنفعتين إحداهما لأن تكون أساساً وعمداً يعتمد عليها سائر الأعضاء الأخر إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام والحامل يجب أن يكون أقوى من المحمول والثانية أنه احتيج إليها في بعض المواضع لأن تكون جنة يقوى بها ما سواها من الأعضاء بمنزلة قحف الرأس وعظام الصدر وما كان كذلك فيجب أن يكون صلباً ليكون صبوراً على ملاقاة الآفات بعيداً من القبول لها إذا ثبت هذا فنقول إذا كان العظم أصلب الأعضاء فمتى وصل الأمر إلى ضعفها كان ضعف ما عداها مع رخاوتها أولى ولأن العظم إذا كان حاملاً لسائر الأعضاء كان تطرق الضعف إلى الحامل موجباً لتطرقه إلى المحمول فلهذا السبب خص العظم بالوهن من بين سائر الأعضاء وأما أثر الضعف في الظاهر فذلك استيلاء الشيب على الرأس فثبت أن هذا الكلام يدل على استيلاء الضعف على الباطن والظاهر وذلك مما يزيد الدعاء توكيداً لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة المقام الثاني أنه ما كان مردود الدعاء ألبتة ووجه التوسل به من وجهين أحدهما ما روي أن محتاجاً سأل واحداً من الأكابر وقال أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا فقال مرحباً بمن توسل بنا إلينا ثم قضى حاجته وذلك أنه إذا قبله أولا فلو أنه رده ثانياً لكان الرد محبطاً للأنعام الأول والمنعم لا يسعى في إحباط أنعامه والثاني وهو أن مخالفة العادة شاقة على النفس فإذا تعود الإنسان إجابة الدعاء فلو صار مردوداً بعد ذلك لكان في غاية المشقة ولأن الجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشق فقال زكرياء عليه السلام إنك ما رددتني في أول الأمر مع أني ما تعودت لطفك وكنت قوي البدن قوي القلب فلو رددتني الآن بعد ما عودتني القبول مع نهاية ضعفي لكان ذلك بالغاً إلى الغاية القصوى في ألم القلب واعلم أن العرب تقول سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي بها إذا خاب ولم ينلها ومعنى بدعائك أي بدعائي إياك فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى المقام الثالث بيان كون المطلوب منتفعاً به في الدين وهو قوله وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ مِن وَرَائِى وفيه أبحاث الأول قال ابن عباس والحسن إني خفت الموالي أي الورثة من بعدي وعن مجاهد العصبة وعن أبي صالح الكلالة وعن الأصم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب وعن أبي مسلم المولي يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو ههنا من يقوم بميراثه مقام الولد والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين فقد كانت العادة جارية أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب فإنه كان متعيناً في الحياة الثاني اختلفوا في خوفه من الموالي فقال بعضهم خافهم على إفساد الدين وقال بعضهم بل خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في مال وغيره مع أنه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام بذلك المنصب وفيه قول ثالث وهو أنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد اعلمه أنه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبي له أب إلا واحد فخاف أن يكون ذلك من بني عمه إذ لم يكن له ولد فسأل الله تعالى أن يهب له ولداً يكون هو ذلك النبي وذلك يقتضي أن(21/155)
يكون خائفاً من أمر يهتم بمثله الأنبياء وإن لم يدل على تفصيل ذلك ولا يمتنع أن زكرياء كان إليه مع النبوة السياسة من جهة الملك وما يتصل بالإمامة فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما أما قوله وَإِنّي خِفْتُ فهو وإن خرج على لفظ الماضي لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً كذلك يقول الرجل قد خفت أن يكون كذا وخشيت أن يكون كذا أي أنا خائف لا يريد أنه قد زال الخوف عنه وهكذا قوله وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا أي أنها عاقر في الحال وذلك لأن العاقر لا تحول ولوداً في العادة ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلام بتقادم العهد في ذلك وغرض زكرياء من هذا الكلام بيان استبعاد حصول الولد فكان إيراده بلفظ الماضي أقوى وإلى هذا يرجع الأمر في قوله وإني خفت الموالي من ورائي لأنه إنما قصد به الإخبار وعن تقادم الخوف ثم استغنى بدلالة الحال وما يوجب مسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال وأيضاً فقد يوضع الماضي مكان المستقبل وبالعكس قال الله تعالى وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( المائدة 116 ) والله أعلم وأما قوله من ورائي ففيه قولان الأول قال أبو عبيدة أي قدامي وبين يدي وقال آخرون أي بعد موتي وكلاهما محتمل فإن قيل كيف خافهم من بعده وكيف علم أنهم يبقون بعده فضلاً من أن يخاف شرهم قلنا إن ذلك قد يعرف بالأمارات والظن وذلك كاف في حصول الخوف فربما عرف ببعض الإمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد والشر واختلف في تفسير قوله فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً فالأكثرون على أنه طلب الولد وقال آخرون بل طلب من يقوم مقامه ولداً كان أو غيره والأقرب هو الأول لثلاثة أوجه الأول قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً ( آل عمران 38 ) والثاني قوله في هذه السورة هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ والثالث قوله تعالى في سورة الأنبياء وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً ( الأنبياء 89 ) وهذا يدل على أنه سأل الولد لأنه قد أخبر في سورة مريم أن له موالي وأنه غير منفرد عن الورثة وهذا وإن أمكن حمله على وارث يصلح أن يقوم مقامه لكن حمله على الولد أظهر واحتج أصحاب القول الثالث بأنه لما بشر بالولد استعظم على سبيل التعجب فقال أنى يكون لي غلام ولو كان دعاؤه لأجل الولد لما استعظم ذلك ( الجواب ) أنه عليه السلام سأل عما يوهب له أيوهب له وهو وامرأته على هيئتهما أو يوهب بأن يحولا شابين يكون لمثلهما ولد وهذا يحكي عن الحسن وقال غيره إن قول زكرياء عليه السلام في الدعاء وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا إنما هو على معنى مسألته ولداً من غيرها أو منها بأن يصلحها الله للولد فكأنه عليه السلام قال إني أيست أن يكون لي منها ولد فهب لي من لدنك ولياً كيف شئت إما بأن تصلحها فيكون الولد منها أو بأن تهب لي من غيرها فلما بشر بالغلام سأل أيرزق منها أو من غيرها فأخبر بأنه يرزق منها واختلفوا في المراد بالميراث على وجوه أحدها أن المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال وهذا قول ابن عباس والحسن والضحاك وثانيها أن المراد به في الموضعين وراثة النبوة وهو قول أبي صالح وثالثها يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوة وهو قول السدي ومجاهد والشعبي وروي أيضاً عن ابن عباس والحسن والضحاك ورابعها يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوة وهو مروي عن مجاهد واعلم أن هذه الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة وهي المال ومنصب الحبورة والعلم والنبوة والسيرة الحسنة ولفظ الإرث مستعمل في كلها أما في المال(21/156)
فلقوله تعالى وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمولَهُمْ وأما في العلم فلقوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ ( غافر 53 ) وقال عليه السلام ( العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم ) وقال تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ ( النمل 15 6 ) وهذا يحتمل وراثة الملك ووراثة النبوة وقد يقال أورثني هذا غماً وحزناً وقد ثبت أن اللفظ محتمل لتلك الوجوه واحتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر والمعقول أما الخبر فقوله عليه السلام ( رحم الله زكريا ما كان له من يرثه ) وظاهره يدل على أن المراد إرث المال وأما المعقول فمن وجهين الأول أن العلم والسيرة والنبوة لا تورث بل لا تحصل إلا بالاكتساب فوجب حمله على المال الثاني أنه قال وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً ولو كان المراد من الإرث إرث النبوة لكان قد سأل جعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رضياً وهو غير جائز لأن النبي لا يكون إلا رضياً معصوماً وأما قوله عليه السلام ( إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) فهذا لا يمنع أن يكون خاصاً به واحتج من حمله على العلم أو المنصب والنبوة بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد بأمر المال كما يشتد بأمر وقيل لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين فلهذا كان مهتماً به أما قوله النبوة كيف تورث قلنا المال إنما يقال ورثه الابن بمعنى قام فيه مقام أبيه وحصل له من فائدة التصرف فيه ما حصل لأبيه وإلا فملك المال من قبل الله لا من قبل المورث فكذلك إذا كان المعلوم في الإبن أن يصير نبياً بعده فيقوم بأمر الدين بعده جاز أن يقال ورثه أما قوله عليه السلام ( إنا معشر الأنبياء ) فهذا وإن جاز حمله على الواحد كما في قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) لكنه مجاز وحقيقته الجمع والعدول عن الحقيقة من غير موجب لا يجوز لا سيما وقد روي قوله ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ) والأولى أن يحمل ذلك على كل ما فيه نفع وصلاح في الدين وذلك يتناول النبوة والعلم والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدين والمال الصالح فإن كل هذه الأمور مما يجوز توفر الدواعي على بقائها ليكون ذلك النفع دائماً مستمراً السابع اتفق أكثر المفسرين على أن يعقوب ههنا هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام لأن زوجة زكرياء هي أخت مريم وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب وأما زكرياء عليه السلام فهو من ولد هرون أخى موسى عليه السلام وهرون وموسى عليهما السلام من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحق وكانت النبوة في سبط يعقوب لأنه هو إسرائيل ( صلى الله عليه وسلم ) وقال بعض المفسرين ليس المراد من يعقوب ههنا ولد إسحق بن إبراهيم عليه السلام بل يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكرياء وهذا قول الكلبي ومقاتل وقال الكلبي كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا رأس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده حبورته ويرث من بني ماثان ملكهم واعلم أنهم ذكروا في تفسير الرضى وجوهاً أحدها أن المراد واجعله رضياً من الأنبياء وذلك لأن كلهم مرضيون فالرضي منهم مفضل على جملتهم فائق لهم في كثير من أمورهم فاستجاب الله تعالى له ذلك فوهب له سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعص ولم يهم بمعصية وهذا غاية ما يكون به المرء رضياً وثانيها المراد بالرضي أن يكون رضياً في أمته لا يتلقى بالتكذيب ولا يواجه بالرد وثالثها المراد بالرضي أن لا يكون متهماً في شيء ولا(21/157)
يوجد فيه مطعن ولا ينسب إليه شيء من المعاصي ورابعها أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قالا في الدعاء رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ( البقرة 182 ) وكانا في ذلك الوقت مسلمين وكأن المراد هناك ثبتنا على هذا أو المراد اجعلنا فاضلين من أنبيائك المسلمين فكذا ههنا واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأفعال بهذه الآية لأنه إنما يكون رضياً بفعله فلما سأل الله تعالى جعله رضياً دل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فإن قيل المراد منه أن يلطف له بضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضياً فينسب ذلك إلى الله تعالى والجواب من وجهين الأول أن جعله رضياً لو حملناه على جعل الألطاف وعندها يصير المرء باختياره رضياً لكان ذلك مجازاً وهو خلاف الأصل والثاني أن جعل تلك الألطاف واجبة على الله تعالى لا يجوز الإخلال به وما كان واجباً لا يجوز طلبه بالدعاء والتضرع
يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً
فيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في من المنادي بقوله يا زكريا فالأكثرون على أنه هو الله تعالى وذلك لأن ما قبل هذه الآية يدل على أن زكريا عليه السلام إنما كان يخاطب الله تعالى ويسأله وهو قوله رَبّ إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى ( مريم 4 ) وقوله وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( مريم 4 ) وقوله فَهَبْ لِى ( مريم 5 ) وما بعدها يدل على أنه كان يخاطب الله تعالى وهو يقول رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ إذا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاباً مع الله تعالى وجب أن يكون النداء من الله تعالى وإلا لفسد النظم ومنهم من قال هذا نداء الملك واحتج عليه بوجهين الأول قوله تعالى في سورة آل عمران فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى ( آل عمران 39 ) الثاني أن زكريا عليه السلام لما قال أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ ( مريم 8 9 ) وهذا لا يجوز أن يكون كلام الله فوجب أن يكون كلام الملك والجواب عن الأول أنه يحتمل أن يقال حصل النداءان نداء الله ونداء الملائكة وعن الثاني أنا نبين إن شاء تعالى أن قوله قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ يمكن أن يكون كلام الله
المسألة الثانية فإن قيل إن كان الدعاء بإذن فما معنى البشارة وإن كان بغير إذن فلماذا أقدم عليه والجواب هذا أمر يخصه فيجوز أن يسأل بغير إذن ويحتمل أنه أذن له فيه ولم يعلم وقته فبشر به
المسألة الثالثة اختلف المفسرون في قوله لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً على وجهين أحدهما وهو قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة أنه لم يسم أحد قبله بهذا الاسم الثاني أن المراد بالسمي النظير كما في قوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) واختلفوا في ذلك على وجوه أحدها أنه سيد وحصور لم يعص ولم يهم بمعصية كأنه جواب لقوله وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً ( مريم 6 ) فقيل له إنا نبشرك بغلام لم نجعل له من قبل شبيهاً في الدين ومن كان هكذا فهو في غاية الرضا وهذا الوجه ضعيف لأنه يقتضي تفضيله على الأنبياء الذين كانوا قبله كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وذلك باطل بالإتفاق وثانيها أن كل الناس إنما يسميهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود وأما يحيى عليه السلام فإن الله تعالى هو الذي سماه(21/158)
قبل دخوله في الوجود فكان ذلك من خواصه فلم يكن له مثل وشبيه في هذه الخاصية وثالثها أنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر واعلم أن الوجه الأول أولى وذلك لأن حمل السمي على النظير وإن كان يفيد المدح والتعظيم ولكنه عدول عن الحقيقة من غير ضرورة وإنه لا يجوز وأما قول الله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً فهناك إنما عدلنا عن الظاهر لأنه قال فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) ومعلوم أن مجرد كونه تعالى مسمى بذلك الاسم لا يقتضي وجوب عبادته فلهذه العلة عدلنا عن الظاهرة أما ههنا لا ضرورة في العدول عن الظاهر فوجب اجراؤه عليه ولأن في تفرده بذلك الاسم ضرباً من التعظيم لأنا نشاهد أن الملك إذا كان له لقب مشهور فإن حاشيته لا يتلقبون به بل يتركونه تعظيماً له فكذلك ههنا
المسألة الرابعة في أنه عليه السلام سمي بيحيى روى الثعلبي فيه وجوهاً أحدها عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحيا به عقر أمه وثانيها عن قتادة أن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة والله تعالى سمى المطيع حياً والعاصي ميتاً بقوله تعالى أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) وقال إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا ( الأنفال 24 ) وثالثها إحياؤه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية لما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من أحد إلا وقد عصى أو هم إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها ) ورابعها عن أبي القاسم بن حبيب أنه استشهد وأن الشهداء أحياء عند ربهم لقوله تعالى أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ ( آل عمران 169 ) وخامسها ما قاله عمرو بن عبد الله المقدسي أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن قل ليسارة وكان اسمها كذلك بأني مخرج منها عبداً لا يهم بمعصية اسمه حيي فقال هبي له من اسمك حرفاً فوهبته حرفاً من اسمها فصار يحيى وكان اسمها يسارة فصار اسمها سارة وسادسها أن يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى فصار قلبه حياً بذلك الإيمان وذلك أن أم يحيى كانت حاملاً به فاستقبلتها مريم وقد حملت بعيسى فقالت لها أم يحيى يا مريم أحامل أنت فقالت لماذا تقولين فقالت إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وسابعها أن الدين يحيا به لأنه إنما سأله زكريا لأجل الدين واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأن أسماء الألقاب لا يطلب فيها وجه الإشتقاق ولهذا قال أهل التحقيق أسماء الألقاب قائمة مقام الإشارات وهي لا تفيد في المسمى صفة البتة
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي عتياً وصلياً وجثياً وبكياً بكسر العين والصاد والجيم والباء وقرأ حفص عن عاصم بكياً بالضم والباقي بالكسر والباقون جميعاً بالضم وقرأ ابن مسعود بفتح العين والصاد من عتياً وصلياً وقرأ أبي بن كعب وابن عباس عسياً بالسين غير المعجمة والله أعلم
المسألة الثانية في الألفاظ وهي ثلاثة الأول الغلام الإنسان الذكر في ابتداء شهوته للجماع ومنه اغتلم إذا اشتدت شهوته للجماع ثم يستعمل في التلميذ يقال غلام ثعلب الثاني العتي والعبسي واحد(21/159)
تقول عتا يعتو عتواً وعتياً فهو عات وعسا يعسو عسواً وعسياً فهو عاص والعاسي هو الذي غيره طول الزمان إلى حال البؤس وليل عات طويل وقيل شديد الظلمة الثالث لم يقل عاقرة لأن ما كان على فاعل من صفة المؤنث مما لم يكن للمذكر فإنه لا تدخل فيه الهاء نحو امرأة عاقر وحائض قال الخليل هذه الصفات مذكرة وصف بها المؤنث كما وصفوا المذكر بالمؤنث حين قالوا رجل ملحة وربعة وغلام نفعة
المسألة الثالثة في هذه الآية سؤالان الأول أن زكريا عليه السلام لم تعجب بقوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ مع أنه هو الذي طلب الغلام السؤال الثاني أن قوله أنى يكون لي غلام لم يكن هذا مذكوراً بين أمته لأنه كان يخفي هذه الأمور عن أمته فدل على أنه ذكره في نفسه وهذا التعجب يدل على كونه شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك وذلك كفر وهو غير جائز على الأنبياء عليهم السلام والجواب عن السؤال الأول أما على قول من قال إنه لم يطلب خصوص الولد فالسؤال زائل وأما على قول من قال إنه طلب الولد فالجواب عنه أن المقصود من قوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ هو التعجب من أنه تعالى يجعلهما شابين ثم يرزقهما الولد أو يتركهما شيخين ويرزقهما الولد مع الشيخوخة بطريق الاستعلام لا بطريق التعجب والدليل عليه قوله تعالى وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ( الأنبياء 89 90 ) وما هذا الإصلاح إلا أنه أعاد قوة الولادة وقد تقدم تقرير هذا الكلام وذكر السدي في الجواب وجهاً آخر فقال إنه لما سمع النداء بالبشارة جاءه الشيطان فقال إن هذا الصوت ليس من الله تعالى بل هو من الشيطان يسخر منك فلما شك زكريا قال أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ واعلم أن غرض السدي من هذا أن زكريا عليه السلام لو علم أن المبشر بذلك هو الله تعالى لما جاز له أن يقول ذلك فارتكب هذا وقال بعض المتكلمين هذا باطل قطعاً إذ لو جوز الأنبياء في بعض ما يرد عن الله تعالى أنه من الشيطان لجوزوا في سائره ولزالت الثقة عنهم في الوحي وعنا فيما يوردونه إلينا ويمكن أن يجاب عنه بأن هذا الاحتمال قائم في أول الأمر وإنما يزول بالمعجزة فلعل المعجزة لم تكن حاصلة في هذه الصورة فحصل الشك فيها دون ما عداها والله أعلم والجواب عن السؤال الثاني من وجوه الأول أن قوله إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ( مريم 7 ) ليس نصاً في كون ذلك الغلام ولداً له بل يحتمل أن زكريا عليه السلام راعى الأدب ولم يقل هذا الكلام هل يكون لي ولد أم لا بل ذكر أسباب تعذر حصول الولد في العادة حتى أن تلك البشارة إن كانت بالولد فالله تعالى يزيل الإبهام ويجعل الكلام صريحاً فلما ذكر ذلك صرح الله تعالى بكون ذلك الولد منه فكان الغرض من كلام زكريا هذا لا أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى عليه الثاني أنه ما ذكر ذلك للشك لكن على وجه التعظيم لقدرته وهذا كالرجل الذي يرى صاحبه قد وهب الكثير الخطير فيقول أنى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملككا تعظيماً وتعجباً الثالث أن من شأن من بشر بما يتمناه أن يتولد له فرط السرور به عند أول ما يرد علي استثبات ذلك الكلام إما لأن شدة فرحه به توجب ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت باسحق قالت وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عَجِيبٌ قَالُواْ ( هود 72 ) فأزيل تعجبها بقوله أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( هود 73 ) وإما طلباً للالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى وإما مبالغة في تأكيد التفسير
قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً(21/160)
وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله قَالَ رَبُّكَ هُوَ هَيّنٌ وجوه أحدها أن الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديقاً له ثم ابتدأ قال ربك وثانيها نصب يقال وذلك إشارة إلى مبهم تفسيره هو علي هين وهو كقوله تعالى وَقَضَيْنَا إِلَيْكَ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( الحجر 66 ) وثالثها أن المراد لا تعجب فإنه كذلك قال ربك لا خلف في قوله ولا غلط ثم قال بعده هو علي هين بدليل خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ورابعها أن اذكرنا أن قوله أنى يكون لي غلام معناه تعطيني الغلام بأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة ومع ذلك تعطينا الولد وقوله كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ أي نهب الولد مع بقائك وبقاء زوجتك على الحاصلة في الحال
المسألة الثانية قرأ الحسن وهو علي هين وهذا لا يخرج إلا على الوجه الأول أي الأمر كما قلت ولكن قال ربك هو مع ذلك علي هين
المسألة الثالثة إطلاق لفظ الهين في حق الله تعالى مجاز لأن ذلك إنما يجوز في حق من يجوز أن يصعب عليه شيء ولكن المراد أنه إذا أراد شيئاً كان
المسألة الرابعة في وجه الاستدلال بقوله تعالى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً فنقول إنه لما خلقه من العدم الصرف والنفي المحض كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار وأما الآن فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات والقادر على خلق الذوات والصفات والآثار معاً أولى أن يكون قادراً على تبديل الصفات وإذا أوجده عن عدم فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوة التي عنها يتولد الماءان اللذان من اجتماعهما يخلق الولد ولذلك قال فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ( الأنبياء 90 ) فهذا وجه الاستدلال
المسألة الخامسة الجمهور على أن قوله قال كذلك قال ربك يقتضي أن القائل لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ ( مريم 7 ) قول الله تعالى وقوله هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ قول الله تعالى وهذا بعيد لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى فكيف يصح إدراج هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين والأولى أن يقال قائل هذا القول أيضاً هو الله تعالى كما أن الملك العظيم إذا وعد عبده شيئاً عظيماً فيقول العبد من أين يحصل لي هذا فيقول إن سلطانك ضمن لك ذلك كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً مما يوجب عليه الوفاء بالوعد فكذا ههنا
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِى ءَايَة ً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم طلب الآية لتحقيق البشارة وهذا بعيد لأن بقول الله تعالى قد تحققت البشارة فلا يكون إظهار الآية أقوى من ذلك من صريح القول وقال آخرون البشارة بالولد وقعت مطلقة فلا يعرف وقتها بمجرد البشارة فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوع وهذا هو الحق(21/161)
المسألة الثانية اتفقوا على أن تلك الآية هي تعذر الكلام عليه فإن مجرد السكوت مع القدرة على الكلام لا يكون معجزة ثم اختلفوا على قولين أحدهما أنه اعتقل لسانه أصلاً والثاني أنه امتنع عليه الكلام مع القوم على وجه المخاطبة مع أنه كان متمكناً من ذكر الله ومن قراءة التوراة وهذا القول عندي أصح لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرض وقد يكون من فعل الله فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزاً إلا إذا عرف أنه ليس لمرض بل لمحض فعل الله تعالى مع سلامة الآلات وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى أما لو اعتقل لسانه عن الكلام مع القوم مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءة التوراة علم بالضرورة أن ذلك الاعتقال ليس لعلة ومرض بل هو لمحض فعل الله فيتحقق كونه آية ومعجزة ومما يقوي ذلك قوله تعالى أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً فَخَرَجَ خص ذلك بالتكلم مع الناس وهذا يدل بطريق المفهوم أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس
المسألة الثالثة اختلفوا في معنى سَوِيّاً فقال بعضهم هو صفة لليالي الثلاث وقال أكثر المفسرين هو صفة لزكريا والمعنى آيتك أن لا تكلم الناس في هذه المدة مع كونك سوياً لم يحدث بك مرض
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَة ً وَعَشِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ قيل كان له موضع ينفرد فيه بالصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه فعند ذلك أوحى إليهم وقيل كان موضعاً يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه وأنهم اجتمعوا ينتظرون خروجه للإذن فخرج إليهم وهو لا يتكلم فأوحى إليهم
المسألة الثانية لا يجوز أن يكون المراد من قوله أوحى إليهم الكلام لأن الكلام كان ممتنعاً عليه فكان المراد غير الكلام وهو أن يعرفهم ذلك إما بالإشارة أو برمز مخصوص أو بكتابة لأن كل ذلك يفهم منه المراد فعلموا أنه قد كان ما بشر به فكما حصل السرور له حصل لهم فظهر لهم إكرام الله تعالى له بالإجابة واعلم أن الأشبه بالآية هو الإشارة لقوله تعالى في سورة آل عمران ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( آل عمران 41 ) والرمز لا يكون كناية للكلام
المسألة الثالثة اتفق المفسرون على أنه أراد بالتسبيح الصلاة وهو جائز في اللغة يقال سبحه الضحى أي صلاة الضحى وعن عائشة رضي الله عنها في صلاة الضحى ( إني لأسبحها ) أي لأصليها إذا ثبت هذا فنقول روي عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشي صلاة العصر ويحتمل أن يكون إنما كانوا يصلون معه في محرابه هاتين الصلاتين فكان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته فأذن لهم بغير كلام والله أعلم
يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة ٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَواة ً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً(21/162)
اعلم أنه تعالى وصف يَحْيَى في هذه الآية بصفات تسع الصفة الأولى كونه مخاطباً من الله تعالى بقوله وَعَشِيّاً يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة ٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن قوله وَعَشِيّاً يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ يدل على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك فحذف ذكره لدلالة الكلام عليه
المسألة الثانية الكتاب المذكور يحتمل أن يكون هو التوراة التي هي نعمة الله على بني إسرائيل لقوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ ( الجاثية 16 ) ويحتمل أن يكون كتاباً خص الله به يحيى كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك والأول أولى لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ولا معهود ههنا إلا التوراة
المسألة الثالثة قوله بِقُوَّة ٍ ليس المراد منه القدرة على الأخذ لأن ذلك معلوم لكل أحد فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهي عنه الصفة الثانية قوله تعالى وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً اعلم أن في الحكم أقوالاً الأول أنه الحكمة ومنه قول الشاعر واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
إلى حمام سراع وارد الثمد
وهو الفهم في التوراة والفقه في الدين والثاني وهو قول معمر أنه العقل روي أنه قال ما للعب خلقنا والثالث أنه النبوة فإن الله تعالى أحكم عقله في صباه وأوحى إليه وذلك لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام وهما صبيان لا كما بعث موسى ومحمداً عليهما السلام وقد بلغا الأشد والأقرب حمله على النبوة لوجهين الأول أن الله تعالى ذكر في هذه الآية صفات شرفه ومنقبته ومعلوم أن النبوة أشرف صفات الإنسان فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها فوجب أن تكون نبوته مذكورة في هذه الآية ولا لفظ يصلح للدلالة على النبوة إلا هذه اللفظة فوجب حملها عليها الثاني أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره ولغيره على الإطلاق وذلك لا يكون إلا بالنبوة فإن قيل كيف يعقل حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا قلنا هذا السائل إما أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع منه فإن منع منه فقد سد باب النبوات لأن بناء الأمر فيها على المعجزات ولا معنى لها إلا خرق العادات وإن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلاً أشد من استبعاد انشقاق القمر وانفلاق البحر الصفة الثالثة قوله تعالى وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا اعلم أن الحنان أصله من الحنين وهو الارتياح والجزع للفراق كما يقال حنين الناقة وهو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها ذكر الخليل ذلك في الحديث ( أنه عليه السلام كان يصلي إلى جذع من المسجد فلما اتخذ له المنبر وتحول إليه حنت تلك الخشبة حتى سمع حنينها ) فهذا هو الأصل ثم قيل تحنن فلان على فلان إذا تعطف عليه ورحمه وقد اختلف الناس في وصف الله بالحنان فأجازه بعضهم وجعله بمعنى الرؤوف الرحيم ومنهم من أباه لما يرجع إليه أصل الكلمة قالوا لم يصح الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى إذا عرفت هذا فنقول الحنان هنا فيه وجهان(21/163)
أحدهما أن يجعل صفة لله وثانيهما أن يجعل صفة ليحيى أما إذا جعلناه صفة لله تعالى فنقول التقدير وآتيناه الحكم حناناً أي رحمة منا ثم ههنا احتمالات الأول أن يكون الحنان من الله ليحيى المعنى آتيناه الحكم صبياً ثم قال وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا أي إنما آتيناه الحكم صبياً حناناً من لدنا عليه أي رحمة عليه وزكاة أي وتزكية له وتشريفاً له الثاني أن يكون الحنان من الله تعالى لزكريا عليه السلام فكأنه تعالى قال إنما استجبنا لزكريا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبياً وحناناً من لدنا عليه أي على زكريا فعلنا ذلك وَزَكَواة ً أي وتزكية له عن أن يصير مردود الدعاء والثالث أن يكون الحنان من الله تعالى لأمة يحيى عليه السلام كأنه تعالى قال وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَانًا منا على أمته لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده أما إذا جعلناه صفة ليحيى عليه السلام ففيه وجوه الأول آتيناه الحكم والحنان على عبادنا أي التعطف عليهم وحسن النظر على كافتهم فيما أوليه من الحكم عليهم كما وصف نبيه فقال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ( آل عمران 159 ) وقال حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) ثم أخبر تعالى أنه آتاه زكاة ومعناه أن لا تكون شفقته داعية له إلى الإخلال بالواجب لأن الرأفة واللين ربما أورثا ترك الواجب ألا ترى إلى قوله تعالى وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ ( النور 2 ) وقال قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً ( التوبة 123 ) وقال أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لائِمٍ ( المائدة 54 ) فالمعنى إنما جعلنا له التعطف على عباد الله مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات ويحتمل آتيناه التعطف على الخلق والطهارة عن المعاصي فلم يعص ولم يهم بمعصية وفي الآية وجه آخر وهو المنقول عن عطاء بن رباح وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا والمعنى آتيناه الحكم صبياً تعظيماً إذ جعلناه نبياً وهو صبي ولا تعظيم أكثر من هذا والدليل عليه ما روى أنه مر ورقة بن نوفل على بلال وهو يعذب قد ألصق ظهره برمضاء البطحاء ويقول أحد أحد فقال والذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حناناً أي معظماً الصفة الرابعة قوله وَزَكَواة ً وفيه وجوه أحدها أن المراد وآتيناه زكاة أي عملاً صالحاً زكياً عن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج وثانيها زكاة لمن قبل منه حتى يكونوا أزكياء عن الحسن وثالثها زكيناه بحسن الثناء كما تزكى الشهود الإنسان ورابعها صدقة تصدق الله بها على أبويه عن الكبي وخامسها بركة ونماء وهو الذي قال عيسى عليه الصلاة والسلام وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ ( مريم 31 ) واعلم أن هذا يدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى لأنه جعل طهارته وزكاته من الله تعالى وحمله على الألطاف بعيد لأنه عدول عن الظاهر الصفة الحامسة قوله وَكَانَ تَقِيّا وقد عرفت معناه وبالجملة فإنه يتضمن غاية المدائح لأنه هو الذي يتقي نهي الله فيجتنبه ويتقي أمره فلا يهمله وأولى الناس بهذا الوصف من لم يعص الله ولا يهم بمعصية وكان يحيى عليه الصلاة والسلام كذلك فإن قيل ما معنى وَكَانَ تَقِيّا وهذا حين ابتداء تكليفه قلنا إنما خاطب الله تعالى بذلك الرسول وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله عليه الصفة السادسة قوله وَبَرّا بِوالِدَيْهِ وذلك لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى مثل تعظيم الوالدين ولهذا السبب قال وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) الصفة السابعة قوله وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً والمراد وصفه بالتواضع ولين الجانب وذلك من صفات المؤمنين كقوله تعالى وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ( الحجر 88 ) وقال(21/164)
تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) ولأن رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به الترفع والتجبر ولذلك فإن إبليس لما تجبر وتمرد صار مبعداً عن رحمة الله تعالى وعن الدين وقيل الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقاً وهو من العظم والذهاب بنفسه عن أن يلزمه قضاء حق أحد وقال سفيان في قوله جَبَّاراً عَصِيّاً إنه الذي يقبل على الغضب والدليل عليه قوله تعالى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ ( القصص 19 ) وقيل كل من عاقب على غضب نفسه من غير حق فهو جبار لقوله تعالى وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ( الشعراء 130 ) الصفة الثامنة قوله عَصِيّاً وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم الصفة التاسعة قوله وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً وفيه أقوال أحدها قال محمد بن جرير الطبري وَسَلَامٌ عَلَيْهِ أي أمان من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم وَيَوْمَ يَمُوتُ أي وأمان عليه من عذاب القبر وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً أي ومن عذاب القيامة وثانيها قال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً ما شاهدهم قط ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فأكرم الله يحيى عليه الصلاة والسلام فخصه بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة وثالثها قال عبد الله بن نفطوية وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ أي أول ما يرى الدنيا وَيَوْمَ يَمُوتُ أي أول يوم يرى فيه أول أمر الآخرة وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً أي أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة وإنما قال حَياً تنبيهاً على كونه من الشهداء لقوله تعالى بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) فروع الأول هذا لاسلام يمكن أن يكون من الله تعالى وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين فدلالة شرفه وفضله لا تختلف لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر الله تعالى الثاني ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء عليهم السلام كقوله سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ ( الصافات 79 ) سَلَامٌ عَلَى إِبْراهِيمَ ( الصافات 109 ) لأنه قال و يَوْمَ وُلِدَ وليس ذلك لسائر الأنبياء عليهم السلام الثالث روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام أنت أفضل مني لأن الله تعالى سلم عليك وأنا سلمت على نفسي وهذا ليس يقوى لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام الله على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمره الله به الرابع السلام عليه يوم ولد لا بد وأن يكون تفضلاً من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه ما يكون ذلك جزاء له وأما السلام عليه يوم يموت ويوم يبعث في المحشر فقد يجوز أن يكون ثواباً كالمدح والتعظيم والله تعالى أعلم القول في فوائد هذه القصة الفائدة الأولى تعليم آداب الدعاء وهي من جهات أحدها قوله نِدَاء خَفِيّاً ( مريم 3 ) وهو يدل على أن أفضل الدعاء ما هذا حاله ويؤكد قوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 55 ) ولأن رفع الصوت مشعر بالقوة والجلادة وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار وعمدة الدعاء الإنكسار والتبري عن حول النفس وقوتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه وثانيها أن المحتسب أن يذكر في مقدمة الدعاء عجز النفس وضعفها كما في قوله تعالى عنه وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ( مريم 4 ) ثم يذكر كثرة نعم الله(21/165)
على ما في قوله وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( مريم 4 ) وثالثها أن يكون الدعاء لأجل شيء متعلق بالدين لا لمحض الدنيا كما قال وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ مِن وَرَائِى ( مريم 5 ) ورابعها أن يكون الدعاء بلفظ يا رب على ما في هذا الموضع الفائدة الثانية ظهور درجات زكريا ويحيى عليهما السلام أما زكريا فأمور أحدها نهاية تضرعه في نفسه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكلية وثانيها إجابة الله تعالى دعاءه وثالثها أن الله تعالى ناداه وبشره أو الملائكة أو حصل الأمران معاً ورابعها اعتقال لسانه عن الكلام دون التسبيح وخامسها أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام طلب الآيات لقوله رب اجعل لي آية الفائدة الثالثة كونه تعالى قادراً على خلق الولد وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة رداً على أهل الطبائع الفائدة الرابعة صحة الاستدلال في الدين لقوله تعالى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً الفائدة الخامسة أن المعدوم ليس بشيء والآية نص في ذلك فإن قيل المراد ولم تك شيئاً مذكوراً كما في قوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ( الإنسان 1 ) قلنا الإضمار خلاف الأصل وللخصم أن يقول الآية تدل على أن الإنسان لم يكن شيئاً ونحن نقول به لأن الإنسان عبارة عن جواهر متألفة قامت بها أعراض مخصوصة والجواهر المتألفة الموصوفة بالأعراض المخصوصة غير ثابتة في العدم إنما الثابت هو أعيان تلك الجواهر مفردة غير مركبة وهي ليست بإنسان فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب الفائدة السادسة أن الله تعالى ذكر هذه القصة في سورة آل عمران وذكرها في هذا الموضع فلنعتبر حالها في الموضعين فنقول الأول أنه تعالى بين في هذه السورة أنه دعا ربه ولم يبين الوقت وبينه في آل عمران بقوله كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً ( آل عمران 37 38 ) والمعنى أن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم عليها السلام طمع فيه في حق نفسه فدعا الثاني وهو أن الله تعالى صرح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة لقوله فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ ( آل عمران 39 ) وفي هذه السورة الأظهر أن المنادي بقوله رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ ( مريم 7 ) هو الله تعالى وقد بينا أنه لا منافاة بين الأمرين الثالث أنه قال في آل عمران أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ ( آل عمران 40 ) فذكر أولاً كبر نفسه ثم عقر المرأة وهو في هذه السورة قال أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ( مريم 8 ) وجوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب الرابع قال في آل عمران وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وقال ههنا وقد بلغت من الكبر وجوابه أن ما بلغك فقد بلغته الخامس قال في آل عمران أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر ( آل عمران 41 ) وقال ههنا ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ( مريم 10 ) وجوابه دلت الآيتان على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهن والله أعلم القصة الثانية قصة مريم وكيفية ولادة عيسى عليه السلام اعلم أنه تعالى إنما قدم قصة يحيى على قصة عيسى(21/166)
عليهما السلام لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد لا من الأب البتة وأحسن الطرق في التعليم والتفهيم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقياً إلى الأصعب فالأصعب
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى إذ بدل من مريم بدل اشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقت هذا الوقوع لهذه القصة العجيبة فيه
المسألة الثانية النبذ أصله الطرح والإلقاء والانتباذ افتعال منه ومنه فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( آل عمران 187 ) وانتبذت تنحت يقال جلس نبذة من الناس ونبذة بضم النون وفتحها أي ناحية وهذا إذا جلس قريباً منك حتى لو نبذت إليه شيئاً وصل إليه ونبذت الشيء رميته ومنه النبيذ لأنه يطرح في الإناء وأصله منبوذ فصرف إلى فعيل ومنه قيل للقيط منبوذ لأنه يرمى به ومنه النهي عن المنابذة في البيع وهو أن يقول إذا نبذت إليك هذا الثوب أو الحصاة فقد وجب البيع إذ عرفت هذا فنقول قوله تعالى إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً معناه تباعدت وانفردت على سرعة إلى مكان يلي ناحية الشرق ثم بين تعالى أنها مع ذلك اتخذت من دون أهلها حجاباً مستوراً وظاهر ذلك أنها لم تقتصر على أن انفردت إلى موضع بل جعلت بينها وبينهم حائلاً من حائط أو غيره ويحتمل أنها جعلت بين نفسها وبينهم ستراً وهذا الوجه الثاني أظهر من الأول ثم لا بد من احتجابها من أن يكون لغرض صحيح وليس مذكوراً واختلف المفسرون فيه على وجوه الأول أنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد للعبادة لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود فلما طهرت جاءها جبريل عليه السلام والثاني أنها طلبت الخلوة لئلا تشتغل عن العبادة والثالث قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بشيء يسترها والرابع أنها كان لها في منزل زوج أختها زكرياء محراب على حدة تسكنه وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت ( على ) الله ( أن ) تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت إلى المفازة فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك وخامسها عطشت فخرجت إلى المفازة لتستقي واعلم أن كل هذه الوجوه محتمل وليس في اللفظ ما يدل على ترجيح واحد منها
المسألة الثالثة المكان الشرقي هو الذي يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها وعن ابن عباس رضي الله عنهما إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقوله تعالى مَكَاناً شَرْقِياً فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة
المسألة الرابعة أنها لما جلست في ذلك المكان أرسل الله إليها الروح واختلف المفسرون في هذا الروح فقال الأكثرون إنه جبريل عليه السلام وقال أبو مسلم إنه الروح الذي تصور في بطنها بشراً والأول أقرب لأن جبريل عليه السلام يسمى روحاً قال الله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 )(21/167)
وسمي روحاً لأنه روحاني وقيل خلق من الروح وقيل لأن الدين يحيا به أو سماه الله تعالى بروحه على المجاز محبة له وتقريباً كما تقول لحبيبك روحي وقرأ أبو حيوة روحنا بالفتح لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المتقين في قوله فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة ٍ نَعِيمٍ ( الواقعة 88 89 ) أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا وإذا ثبت أنه يسمى روحاً فهو هنا يجب أن يكون المراد به هو لأنه قال إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ( مريم 19 ) ولا يليق ذلك إلا بجبريل عليه السلام واختلفوا في أنه كيف ظهر لها فالأول أنه ظهر لها على صورة شاب أمرد حسن الوجه سوي الخلق والثاني أنه ظهر لها على صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وكل ذلك محتمل ولا دلالة في اللفظ على التعيين ثم قال وإنما تمثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه فلو ظهر لها في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه ثم ههنا إشكالات أحدهما وهو أنه لو جاز أن يظهر الملك في صورة إنسان معين فحينئذ لا يمكننا القطع بأن هذا الشخص الذي أراه في الحال هو زيد الذي رأيته بالأمس لاحتمال أن الملك أو الجني تمثل في صورته وفتح هذا الباب يؤدي إلى السفسطة لا يقال هذا إنما يجوز في زمان جواز البعثة فأما في زماننا هذا فلا يجوز لأنا نقول هذا الفرق إنما يعلم بالدليل فالجاهل بذلك الدليل يجب أن لا يقطع بأن هذا الشخص الذي أراه الآن هو الشخص الذي رأيته بالأمس وثانيها أنه جاء في الأخبار أن جبريل عليه السلام شخص عظيم جداً فذلك الشخص العظيم كيف صار بدنه في مقدار جثة الإنسان أبأن تساقطت أجزاؤه وتفرقت بنيته فحينئذ لا يبقى جبريل أو بأن تداخلت أجزاؤه وذلك يوجب تداخل الأجزاء وهو محال وثالثها وهو أنا لو جوزنا أن يتمثل جبريل عليه السلام في صورة الآدمي فلم لا يجوز تمثله في صورة جسم أصغر من الآدمي حتى الذباب والبق والبعوض ومعلوم أن كل مذهب جر إلى ذلك فهو باطل ورابعها أن تجويزه يفضي إلى القدح في خبر التواتر فلعل الشخص الذي حارب يوم بدر لم يكن محمداً بل كان شخصاً آخر تشبه به وكذا القول في الكل والجواب عن الأول أن ذلك التجويز لازم على الكل لأن من اعترف بافتقار العالم إلى الصانع المختار فقد قطع بكونه تعالى قادراً على أن يخلق شخصاً آخر مثل زيد في خلقته وتخطيطه وإذا جوزنا ذلك فقد لزم الشك في أن زيداً المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمس أم لا ومن أنكر الصانع المختار وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب وتشكلات الفلك لزمه تجويز أن يحدث اتصال غريب في الأفلاك يقتضي حدوث شخص مثل زيد في كل الأمور وحينئذ يعود التجويز المذكور ( وعن الثاني ) أنه لا يمتنع أن يكون جبريل عليه السلام له أجزاء أصلية وأجزاء فاضلة والأجزاء الأصلية قليلة جداً فحينئذ يكون متمكناً من التشبه بصورة الإنسان هذا إذا جعلناه جسمانياً أما إذا جعلناه روحانياً فأي استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير ( وعن الثالث ) أن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع وهو الجواب عن السؤال الرابع والله أعلم
قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً
وفيه وجوه أحدها أرادت أن كان يرجى منك أن تتقي الله ويحصل ذلك بالاستعاذة به فإني عائذة به منك وهذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنه لا تؤثر(21/168)
الاستعاذة إلا في التقي وهو كقوله وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( البقرة 278 ) أي أن شرط الإيمان يوجب هذا لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال وثانيها أن معناه ما كنت تقياً حيث استحللت النظر إلي وخلوت بي وثالثها أنه كان في ذلك الزمان إنسان فاجر اسمه تقى يتبع النساء فظنت مريم عليها السلام أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك التقي والأول هو الوجه
قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى لما علم جبريل خوفها قال إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ ليزول عنها ذلك الخوف ولكن الخوف لا يزول بمجرد هذا القول بل لا بد من دلالة تدل على أنه جبريل عليه السلام وما كان من الناس فههنا يحتمل أن يكون قد ظهر معجز عرفت به جبريل عليه السلام ويحتمل أنها من جهة زكريا عليه السلام عرفت صفة الملائكة فلما قال لها إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ أظهر لها من باطن جسده ما عرفت أنه ملك فيكون ذلك هو العلم وسأل القاضي عبد الجبار في تفسيره نفسه فقال إذا لم تكن نبية عندكم وكان من قولكم أن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه إلا رجالاً فكيف يصح ذلك وأجاب أن ذلك إنما وقع في زمان زكريا عليه السلام وكان رسولاً وكل ذلك كان عالماً به وهذا ضعيف لأن المعجز إذا كان مفعولاً للنبي فأقل ما فيه أن يكون عليه السلام عالماً به وزكريا ما كان عنده علم بهذه الوقائع فكيف يجوز جعله معجزاً له بل الحق أن ذلك إما أن يكون كرامة لمريم أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام
المسألة الثانية قرأ ابن عامر ونافع ليهب بياء مفتوحة بعد اللام أي ليهب الله لك والباقون بهمزة مفتوحة بعدها أما قوله لأهب لك ففي مجازه وجهان الأول أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي نفخ في جيبها بأمر الله تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها وإضافة الفعل إلى ما هو سبب له مستعمل قال تعالى في الأصنام إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) الثاني أن جبريل عليه السلام لما بشرها بذلك كانت تلك البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة فإن قال قائل ما الدليل على أن جبريل عليه السلام لا يقدر على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والعقل والنطق فيها والذي يقال فيه إن جبريل عليه السلام جسم والجسم لا يقدر على هذه الأشياء أما أنه جسم فلأنه محدث وكل محدث إما متحيز أو قائم بالمتحيز وأما أن الجسم لا يقدر على هذه الأشياء فلأنه لو قدر جسم على ذلك لقدر عليه كل جسم لأن الأجسام متماثلة وهو ضعيف لأن للخصم أن يقول لا نسلم أن كل محدث إما متحيز أو قائم به بل ههنا موجودات قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ولا يلزم من كونها كذلك كونها أمثالاً لذات الله تعالى لأن الاشتراك في الصفات الثبوتية لا يقتضي التماثل فكيف في الصفات السلبية سلمنا كونه جسماً فلم قلت الجسم لا يقدر عليه قوله الأجسام متماثلة قلنا نعني به أنها متماثلة في كونها حاصلة في الأحياز ذاهبة في الجهات أو نعني به أنها متماثلة في تمام ماهياتها والأول مسلم لكن حصولها في الأحياز صفات لتلك الذوات والاشتراك في الصفات لا يوجب الاشتراك في ماهيات المواصفات سلمنا أن الأجسام متماثلة فلم لا يجوز أن يقال إن الله تعالى خص بعضها بهذه القدرة دون البعض حتى أنه يصح منها ذلك ولا يصح من البشر ذلك والجواب(21/169)
الحق أن المعتمد في دفع هذا الاحتمال اجماع الأمة فقط والله أعلم
المسألة الثالثة الزكي يفيد أموراً ثلاثة الأول أنه الطاهر من الذنوب والثاني أنه ينمو على التزكية لأنه يقال فيمن لا ذنب له زكي وفي الزرع النامي زكي والثالث النزاهة والطهارة فيما يجب أن يكون عليه ليصح أن يبعث نبياً وقال بعض المتكلمين الأولى أن يحمل على الكل وهو ضعيف لما عرفت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز حمله على المعنيين سواء كان حقيقة فيهما أو في أحدهما مجازاً وفي الآخر حقيقة
المسألة الرابعة سماه زكياً مع أنه لم يكن له شيء من الدنيا وأنت إذا نظرت في سوقك فمن لم يملك شيئاً فهو شقي عندك وإنما الزكي من يملك المال والله يقول كان زكياً لأن سيرته الفقر وغناه الحكمة والكتاب وأنت فإنما تسمى بالزكي من كانت سيرته الجهل وطريقته المال
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَة ً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَة ً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنها إنما تعجبت بما بشرها جبريل عليه السلام لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداء وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحد ولأنها كانت منفردة بالعبادة ومن يكون كذلك لا بد من أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك
المسألة الثانية لقائل أن يقول قولها وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ يدخل تحته قولها وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً فلماذا أعادتها ومما يؤكد هذا السؤال أن في سورة آل عمران قالت رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء ( آل عمران 47 ) فلم تذكر البغاء والجواب من وجوه أحدها أنها جعلت المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ( الأحزاب 49 ) والزنا ليس كذلك إنما يقال فجر بها أو ما أشبه ذلك ولا يليق به رعاية الكنايات وثانيها أن أعادتها لتعظيم حالها كقوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى ( البقرة 238 ) وقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فكذا ههنا إن من لم تعرف من النساء بزوج فأغلظ أحوالها إذا أتت بولد أن تكون زانية فأفراد ذكر البغاء بعد دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) البغي الفاجرة التي تبغي الرجال وهو فعول عند المبرد بغوي فأدغمت الواو في الياء وقال ابن جني في كتاب ( التمام ) هو فعيل ولو كان فعولاً لقيل بغوا كما قيل نهوا عن المنكر(21/170)
المسألة الرابعة أن جبريل عليه السلام أجابها بقوله قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ وهو كقوله في آل عمران كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 47 ) لا يمتنع عليه فعل ما يريد خلقه ولا يحتاج في إنشائه إلى الآلات والمواد
المسألة الخامسة الكناية في هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ وفي قوله وَلِنَجْعَلَهُ ءايَة ً لّلْنَّاسِ تحتمل وجهين الأول أن تكون راجعة إلى الخلق أي أن خلقه علي هين ولنجعل خلقه آية للناس إذ ولد من غير ذكر ورحمة منا يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات حتى تكون دلائل صدقه أبهر فيكون قبول قوله أقرب الثاني أن ترجع الكنايات إلى الغلام وذلك لأنها لما تعجبت من كيفية وقوع هذا الأمر على خلاف العادة أعلمت أن الله تعالى جاعل ولدها آية على وقوع ذلك الأمر الغريب فأما قوله تعالى وَرَحْمَة ً مّنَّا فيحتمل أن يكون معطوفاً على وَلِنَجْعَلَهُ ءايَة ً لّلْنَّاسِ أي فعلنا ذلك وَرَحْمَة ً مّنَّا فعلنا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفاً على الآية أي ولنجعله آية ورحمة فعلنا ذلك
المسألة السادسة قوله وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً المراد منه أنه معلوم لعلم الله تعالى فيمتنع وقوع خلافه لأنه لو لم يقع لانقلب علم الله جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال فخلافه محال فوقوعه واجب وأيضاً فلأن جميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء والقدر إلى واجب الوجود والمنتهي إلى الواجب انتهاء واجباً يكون واجب الوجود وإذا كان واجب الوجود فلا فائدة في الحزن والأسف وهذا هو سر قوله عليه السلام ( من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب )
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَة ِ قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر الله تعالى أمر النفخ في آيات فقال فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) أي في عيسى عليه السلام كما قال لآدم عليه السلام وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) وقال فنفخنا فيها لأن عيسى عليه السلام كان في بطنها واختلفوا في النافخ فقال بعضهم كان النفخ من الله تعالى لقوله فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وظاهره يفيد أن النافخ هو الله تعالى لقوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) ومقتضى التشبيه حصول المشابهة إلا فيما أخرجه الدليل وفي حق آدم النافخ هو الله تعالى لقوله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فكذا ههنا وقال آخرون النافخ هو جبريل عليه السلام لأن الظاهر من قول جبريل عليه السلام لاِهَبَ لَكِ ( مريم 19 ) أنه أمر أن يكون من قبله حتى يحصل الحمل لمريم عليها السلام فلا بد من إحالة النفخ إليه ثم اختلفوا في كيفية ذلك النفخ على قولين الأول قول وهب إنه نفخ جبريل في جيبها حتى وصلت إلى الرحم الثاني في ذيلها فوصلت إلى الفرج الثالث قول السدي أخذ بكمها فنفخ في جنب درعها فدخلت النفخة صدرها فحملت فجاءتها أختها امرأة زكريا(21/171)
تزورها فالتزمتها فلما التزمتها علمت أنها حبلى وذكرت مريم حالها فقالت امرأة زكريا إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ ( آل عمران 39 ) الرابع أن النفخة كانت في فيها فوصلت إلى بطنها فحملت في الحال إذ عرفت هذا ظهر أن في الكلام حذفاً وهو وكان أمراً مقضياً فنفخ فيها فحملته
المسألة الثانية قيل حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة وقيل بنت عشرين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل وليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأحوال
المسألة الثالثة فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي اعتزلت وهو في بطنها كقوله تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( المؤمنون 20 ) أي تنبت والدهن فيها واختلفوا في علة الإنتباذ على وجوه أحدها ما رواه الثعلبي في ( العرائس ) عن وهب قال إن مريم لما حملت بعيسى عليه السلام كان معها ابن عم لها يقال له يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم في أهل زمانهما أحد أشد اجتهاداً ولا عبادة منهما وأول من عرف حمل مريم يوسف فتحير في أمرها فكلما أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وعبادتها وأنها لم تغب عنه ساعة قط وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها من الحمل فأول ما تكلم أنه قال إنه وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه فغلبني ذلك فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولاً جميلاً قال أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر قالت نعم ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة أو تقول إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها فقال يوسف لا أقول هذا ولكني أقول إن الله قادر على ما يشاء فيقول له كن فيكون فقالت له مريم أو لم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له فلما بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة وذلك في زمان برد فاحتضنتها فوضعت عندها وثانيها أنها استحيت من زكريا فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا وثالثها أنها كانت مشهورة في بني إسرائيل بالزهد لنذر أمها وتشاح الأنبياء في تربيتها وتكفل زكريا بها ولأن الرزق كان يأتيها من عند الله تعالى فلما كانت في نهاية الشهرة استحيت من هذه الواقعة فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا ورابعها أنها خافت على ولدها لو ولدته فيما بين أظهرهم واعلم أن هذه الوجوه محتملة وليس في القرآن ما يدل على شيء منها
المسألة الرابعة اختلفوا في مدة حملها على وجوه الأول قول ابن عباس رضي الله عنهما إنها كانت تسعة أشهر كما في سائر النساء بدليل أن الله تعالى ذكر مدائحها في هذا الموضع فلو كانت عادتها في مدة حملها بخلاف عادات النساء لكان ذلك أولى بالذكر الثاني أنها كانت ثمانية أشهر ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى ابن مريم عليه السلام الثالث وهو قول عطاء وأبي العالية والضحاك سبعة أشهر(21/172)
الرابع أنها كانت ستة أشهر الخامس ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة السادس وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً كانت مدة الحمل ساعة واحدة ويمكن الاستدلال عليه من وجهين الأول قوله تعالى فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ ( مريم 23 ) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ ( مريم 23 ) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا ( مريم 24 ) والفاء للتعقيب فدلت هذه الفاءات على أن كل واحد من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل وذلك يوجب كون مدة الحمل ساعة واحدة لا يقال انتباذها مكاناً قصياً كيف يحصل في ساعة واحدة لأنا نقول السدي فسره بأنها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها الثاني أن الله تعالى قال في وصفه إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 59 ) فثبت أن عيسى عليه السلام كما قال الله تعالى له كُنْ فَيَكُونُ وهذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل وإنما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة
المسألة الخامسة قَصِيّاً أي بعيد من أهلها يقال مكان قاص وقصي بمعنى واحد مثل عاص وعصي ثم اختلفوا فقيل أقصى الدار وقيل وراء الجبل وقيل سافرت مع ابن عمها يوسف وقد تقدمت هذه الحكاية
المسألة السادسة قال صاحب ( الكشاف ) أجاء منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء فإنك لا تقول جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول بلغنيه وأبلغته والمعنى أن طلقها ألجأها إلى جذع النخلة ثم يحتمل أنها إنما ذهبت إلى النخلة طلباً لسهولة الولادة للتشبث بها ويحتمل للتقوية والاستناد إليها ويحتمل للتستر بها ممن يخشى منه القالة إذا رآها ولذلك حكى الله عنها أنها تمنت الموت
المسألة السابعة قال في ( الكشاف ) قرأ ابن كثير في رواية المخاض بالكسر يقال مخضت الحامل ومخاضاً وهو تمخض الولد في بطنها
المسألة الثامنة قال في ( الكشاف ) كان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمر ولا خضرة وكان الوقت شتاء والتعريف إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة مشهور عند الناس فإذا قيل جذع النخلة فهم منه ذلك دون سائره وإما أن يكون تعريف الجنس أي إلى جذع هذه الشجرة خاصة كان الله أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء ولأن النخلة أقل الأشياء صبراً على البرد ولا تثمر إلا عند اللقاح وإذا قطعت رأسها لم تثمر فكأنه تعالى قال كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر
المسألة التاسعة لم قالت قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل إليها وخلق ولدها من نفخ جبريل عليه السلام ووعدها بأن يجعلها وابنها آية للعالمين والجواب من وجهين الأول قال وهب أنساها كربة الغربة وما سمعته من الناس ( من ) بشارة الملائكة بعيسى عليه السلام الثاني أن عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك وروى عن أبي بكر أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال طوبى لك يا طائر تقع على الشجرة وتأكل من الثمرا وددت أبي ثمرة ينقرها الطائرا وعن عمر أنه أخذ تبنة من(21/173)
الأرض وقال ليتني هذه التبنة يا ليتني لم أك شيئاً وقال علي يوم الجمل يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة وعن بلال ليت بلال لم تلده أمه فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم الثالث لعلها قالت ذلك لكي لا تقع المعصية ممن يتكلم فيها وإلا فهي راضية بما بشرت به
المسألة العاشرة قال صاحب ( الكشاف ) النسي ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطمث ونحوها كالذبح اسم ما من شأنه أن يذبح كقوله وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( الصافات 107 ) تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه به ومن حقه أن ينسى في العادة وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة نسياً بالفتح والباقون نسياً بالكسر قال الفراء هما لغتان كالوتر والوتر والجسر والجسر وقرأ محمد بن كعب القرظي نسيئاً بالهمزة وهو الحليب المخلوط بالماء ينساه أهله لقلته وقرأ الأعمش منسياً بالكسر على الإتباع كالمغير والمنخر والله أعلم
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة ِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى فناداها من تحتها القراءة المشهورة فناداها وقرأ زر وعلقمة فخاطبها وفي الميم فيها قراءتان فتح الميم وهو المشهور وكسره وهو قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص وفي المنادي ثلاثة أوجه الأول أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير والثاني أنه جبريل عليه السلام وأنه كان كالقابلة للولد والثالث أن المنادي على القراءة بالكسر هو الملك وعلى القراءة بالفتح هو عيسى عليه السلام وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم والأول أقرب لوجوه الأول أن قوله فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا بفتح الميم إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحداً والذي علم كونه حاصلاً تحتها هو عيسى عليه السلام فوجب حمل اللفظ عليه وأما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادي جبريل عليه السلام فقد صح قولنا الثاني أن ذلك الموضع موضع اللوث والنظر إلى العورة وذلك لا يليق بالملائكة الثالث أن قوله فناداها فعل ولا بد وأن يكون فاعله قد تقدم ذكره ولقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل وذكر عيسى عليهما السلام إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ ( مريم 22 ) والضمير ههنا عائد إلى المسيح فكان حمله عليه أولى والرابع وهو دليل الحسن بن علي عليه السلام أن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام بالكلام فأما من قال المنادي هو عيسى عليه السلام فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل عليه السلام من علو شأن ذلك الولد ومن قال المنادي جبريل عليه السلام قال إنه أرسل إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيراً لها بما تقدم من أصناف البشارات وأما(21/174)
قوله مِن تَحْتِهَا فإن حملناه على الولد فلا سؤال وإن حملناه على الملك ففيه وجهان الأول أن يكونا معاً في مكان مستو ويكون هناك مبدأ معين كتلك النخلة ههنا فكل من كان أقرب منها كان فوق وكل من كان أبعد منها كان تحت وفسر الكلبي قوله تعالى إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ( الأحزاب 10 ) بذلك وعلى هذا الوجه قال بعضهم إنه ناداها من أقصى الوادي والثاني أن يكون موضع أحدهما أعلى من موضع الآخر فيكون صاحب العلو فوق صاحب السفل وعلى هذا الوجه روي عن عكرمة أنها كانت حين ولدت على مثل رابية وفيه وجه ثالث يحكى عن عكرمة وهو أن جبريل عليه السلام ناداها من تحت النخلة ثم على التقديرات الثلاثة يحتمل أن تكون مريم قد رأته وأنها ما رأته وليس في اللفظ ما يدل على شيء من ذلك
المسألة الثانية اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه وأما الحسن وابن زيد فجعلا السري عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال فلان من سروات قومه أي من أشرافهم وروي أن الحسن رجع عنه وروي عن قتادة وغيره أن الحسن تلا هذه الآية وبجنبه حميد بن عبد الرحمن الحميري قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً فقال إن كان لسرياً وإن كان لكريماً فقال له حميد يا أبا سعيد إنما هو الجدول فقال له الحسن من ثم تعجبنا مجالستك واحتج من حمله على النهر بوجهين أحدهما أنه سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن السري فقال هو الجدول والثاني أن قوله فَكُلِى وَاشْرَبِى يدل على أنه نهر حتى ينضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب واحتج من حمله ( على ) عيسى بوجهين الأول أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جانبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد منه أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى ( الزخرف 51 ) لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى عليه السلام لم يحتج إلى هذا المجاز الثاني أنه موافق لقوله تعالى وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً وَءاوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَة ٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( المؤمنون 50 ) والجواب عنه ما تقدم أن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان من تحت فرعان الأول إن حملنا السري على النهر ففيه وجهان أحدهما أن جبريل عليه السلام ضرب برجله فظهر ماء عذب والثاني أنه كان هناك ماء جار والأول أقرب لأن قوله قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً مشعر بالحدوث في ذلك الوقت ولأن الله تعالى ذكره تعظيماً لشأنها وذلك لا يثبت إلا على الوجه الذي قلناه الثاني اختلفوا في أن السري هو النهر مطلقاً وهو قول أبي عبيدة والفراء أو النهر الصغير على ما هو قول الأخفش
المسألة الثالثة قال القفال الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة وقال قطرب كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع وأما الباء في قوله بجذع النخلة فزائدة والمعنى هزي إليك أي حركي جذع النخلة قال الفراء العرب تقول هزه وهز به وخذ الخطام وخذ بالخطام وزوجتك فلانة وبفلانة وقال الأخفش يجوز أن يكون على معنى هزي إليك رطباً بجذع النخلة أي على جذعها إذا عرفت هذا فنقول قد تقدم أن الوقت كان شتاء وأن النخلة كانت يابسة واختلفوا في أنه هل أثمر الرطب وهو على حاله أو تغير وهل أثمر مع الرطب غيره والظاهر يقتضي أنه صار نخلة لقوله بجذع النخلة وأنه ما أثمر إلا الرطب
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) تساقط فيه تسع قراءات تساقط بادغام التاء وتتساقط بإظهار(21/175)
التاءين وتساقط بطرح الثانية ويساقط بالياء وإدغام التاء وتساقط وتسقط ويسقط وتسقط ويسقط التاء للنخلة والياء للجذع
المسألة الخامسة رطباً تمييز أو مفعول على حسب القراءة الجني المأخوذ طرياً وعن طلحة بن سليمان جنياً بكسر الجيم للأتباع والمعنى جمعنا لك في السري والرطب فائدتين إحداهما الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر بكونهما معجزتين فإن قال قائل فتلك الأفعال الخارقة للعادات لمن قلنا قالت المعتزلة إنها كانت معجزة لزكريا وغيره من الأنبياء وهذا باطل لأن زكرياء عليه السلام ما كان له علم بحالها ومكانها فكيف بتلك المعجزات بل الحق أنها كانت كرامات لمريم أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام
المسألة السادسة فكلي واشربي وقري عيناً قرىء بكسر القاف لغة نجد ونقول قدم الأكل على الشرب لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدماء ثم قال وقري عيناً وههنا سؤال وهو أن مضرة الخوف أشد من مضرة الجوع والعطش والدليل عليه أمران أحدهما أن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن والثاني ما روي أنه أجيعت شاة ثم قدم العلف إليها وربط عندها ذئب فبقيت الشاة مدة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها الشديد خوفاً من الذئب ثم كسرت رجلها وقدم العلف إليها فتناولت العلف مع ألم البدن دلت هذه الحكاية على أن ألم الخوف أشد من ألم البدن إذا ثبت هذا فنقول فلم قدم الله تعالى في الحكاية دفع ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف والجواب أن هذا الخوف كان قليلاً لأن بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدمت فما كانت تحتاج إلى التذكير مرة أخرى
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ترئن بالهمزة ابن الرومي عن أبي عمرو وهذا من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمز وحرف اللين في الإبدال صَوْماً صمتاً وفي مصحف عبد الله صمتاً وعن أنس بن مالك مثله وقيل صياماً إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالاً على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزاً في شرعهم وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا قال القفال لعله يجوز لأن الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر لذكر الله تعالى قربة ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس وروي أنه دخل أبو بكر على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر إن الإسلام هدم هذا فتكلمي والله أعلم
المسألة الثامنة أمرها الله تعالى بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع من اتهمها في الكلام لمعنيين أحدهما أن كلام عيسى عليه السلام أقوى في إزالة التهمة من كلامها وفيه دلالة على أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى والثاني كراهة مجادلة السفهاء وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً
المسألة التاسعة اختلفوا في أنها هل قالت معهم إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فقال قوم إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأن تأتي بهذا النذر عند رؤيتها فإذا أتت بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها أمسكت وأومأت برأسها وقال آخرون إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً وهذه الصيغة وإن(21/176)
كانت عامة إلا أنها صارت بالقرينة مخصوصة في حق هذا الكلام
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أنها كيف أتت بالولد على أقوال الأول ما روي عن وهب قال أنساها كرب الولادة وما سمعته من الناس ما كان من كلام الملائكة من البشارة بعيسى عليه السلام فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته وأقبلت به إلى قومها الثاني ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف انتهى بمريم إلى غار فأدخلها فيه أربعين يوماً حتى طهرت من النفاس ثم أتت به قومها تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه وهذان الوجهان محتملان وليس في القرآن ما يدل على التعيين
المسألة الثانية الفريء البديع وهو من فري الجلد يروى أنهم لما رأوها ومعها عيسى عليه السلام قالوا لها لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً فيحتمل أن يكون المراد شيئاً عجيباً خارجاً عن العادة من غير تعيير وذم ويحتمل أن يكون مرادهم شيئاً عظيماً منكراً فيكون ذلك منهم على وجه الذم وهذا أظهر لقولهم بعده فَرِيّاً ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً لأن هذا القول ظاهره التوبيخ وأما هرون ففيه أربعة أقوال الأول أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح والمراد أنك كنت في الزهد كهرون فكيف صرت هكذا وهو قول قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمون هرون تبركاً به وباسمه الثاني أنه أخو موسى عليه السلام وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما عنوا هرون النبي وكانت من أعقابه وإنما قيل أخت هرون كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم والثالث كان رجلاً معلناً بالفسق فنسبت إليه بمعنى التشبيه لا بمعنى النسبة الرابع كان لها أخ يسمى هرون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به وهذا هو الأقرب لوجهين الأول أن الأصل في الكلام الحقيقة وإنما يكون ظاهر الآية محمولاً على حقيقتها لو كان لها أخ مسمى بهرون الثاني أنها أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح وحينئذ يصير التوبيخ أشد لأن من كان حال أبويه وأخيه هذه الحالة يكون صدور الذنب عنه أفحش
المسألة الثالثة القراءة المشهورة مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وقرأ عمرو بن رجاء التميمي ( ما كان أباك امرؤ سوء(21/177)
المسألة الرابعة أنهم لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا غضباً شديداً وقالوا لسخريتها بنا أشد من زناها روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان وقيل إن زكرياء عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها فقال لعيسى عليه السلام انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عليه السلام عند ذلك
المسألة الرابعة أنهم لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا غضباً شديداً وقالوا لسخريتها بنا أشد من زناها روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان وقيل إن زكرياء عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها فقال لعيسى عليه السلام انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عليه السلام عند ذلك إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ( مريم 30 ) فإن قيل كيف عرفت مريم من حال عيسى عليه السلام أنه يتكلم قلنا إن جبريل عليه السلام أو عيسى عليه السلام ناداها من تحتها أن لا تحزني وأمرها عند رؤية الناس بالسكوت فصار ذلك كالتنبيه لها على أن المجيب هو عيسى عليه السلام أو لعلها عرفت ذلك بالوحي إلى زكرياء أو لعلها عرفت بالوحي إليها على سبيل الكرامة بقي ههنا بحثان
البحث الأول قوله كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً أي حصل في الْمَهْدِ فكان ههنا بمعنى حصل ووجد وهذا هو الأقرب في تأويل هذا اللفظ وإن كان الناس قد ذكروا وجوهاً أخر
البحث الثاني اختلفوا في المهد فقيل هو حجرها لما روى أنها أخذته في خرقة فأتت به قومها فلما رأوها قالوا لها ما قالوا فأشارت إليه وهو في حجرها ولم يكن لها منزل معد حتى يعد لها المهد أو المعنى كيف نكلم صبياً سبيله أن ينام في المهد
قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِى َ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
اعلم أنه وصف نفسه بصفات تسع الصفة الأولى قوله إِنّى عَبْدُ اللَّهِ وفيه فوائد الفائدة الأولى أن الكلام منه في ذلك الوقت كان سبباً للوهم الذي ذهبت إليه النصارى فلا جرم أول ما تكلم إنما تكلم بما يرفع ذلك الوهم فقال إِنّى عَبْدُ اللَّهِ وكان ذلك الكلام وإن كان موهماً من حيث إنه صدر عنه في تلك الحالة ولكن ذلك الوهم يزول ولا يبقى من حيث إنه تنصيص على العبودية الفائدة الثانية أنه لما أقر بالعبودية فإن كان صادقاً في مقاله فقد حصل الغرض وإن كان كاذباً لم تكن القوة قوة إلهية بل قوة شيطانية فعلى التقديرين يبطل كونه إلهاً الفائدة الثالثة أن الذي اشتدت الحاجة إليه في ذلك الوقت إنما هو نفي تهمة الزنا عن مريم عليها السلام ثم إن عيسى عليه السلام لم ينص على ذلك وإنما نص على إثبات عبودية نفسه كأنه جعل إزالة(21/178)
التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن الأم فلهذا أول ما تكلم إنما تكلم بها الفائدة الرابعة وهي أن التكلم بإزالة هذه التهمة عن الله تعالى يفيد إزالة التهمة عن الأم لأن الله سبحانه لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة وأما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى فكان الاشتغال بذلك أولى فهذا مجموع ما في هذا اللفظ من الفوائد واعلم أن مذهب النصارى متخبط جداً وقد اتفقوا على أنه سبحانه ليس بجسم ولا متحيز ومع ذلك فإنا نذكر تقسيماً حاصراً يبطل مذهبهم على جميع الوجوه فنقول إما أن يعتقدوا كونه متحيزاً أو لا فإن اعتقدوا كونه متحيزاً أبطلنا قولهم بإقامة الدلالة على حدوث الأجسام وحينئذ يبطل كل ما فرعوا عليه وإن اعتقدوا أنه ليس بمتحيز يبطل ما يقوله بعضهم من أن الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط الماء بالخمر وامتزاج النار بالفحم لأن ذلك لا يعقل إلا في الأجسام فإذا لم يكن جسماً استحال ذلك ثم نقول للناس قولان في الإنسان منهم من قال إنه هو هذه البنية أو جسم موجود في داخلها ومنهم من يقول إنه جوهر مجرد عن الجسمية والحلول في الأجسام فنقول هؤلاء النصارى إما أن يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته اتحد ببدن المسيح أو بنفسه أو يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته حل في بدن المسيح أو في نفسه أو يقولوا لا نقول بالاتحاد ولا بالحلول ولكن نقول إنه تعالى أعطاه القدرة على خلق الأجسام والحياة والقدرة وكان لهذا السبب إلهاً أو لا يقولوا بشيء من ذلك ولكن قالوا إنه على سبيل التشريف اتخذه ابناً كما اتخذ إبراهيم على سبيل التشريف خليلاً فهذه هي الوجوه المعقولة في هذا الباب والكل باطل أما القول الأول بالاتحاد فهو باطل قطعاً لأن الشيئين إذا اتحدا فهما حال الاتحاد إما أن يكونا موجودين أو معدومين أو يكون أحدهما موجوداً والآخر معدوماً فإن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فالاتحاد باطل وإن عدما وحصل ثالث فهو أيضاً لا يكون اتحاداً بل يكون قولاً بعدم ذينك الشيئين وحصول شيء ثالث وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتحد بالوجود لأنه يستحيل أن يقال المعدوم بعينه هو الموجود فظهر من هذا البرهان الباهر أن الاتحاد محال وأما الحلول فلنا فيه مقامان الأول أن التصديق مسبوق بالتصور فلا بد من البحث عن ماهية الحلول حتى يمكننا أن نعلم أنه هل يصح على الله تعالى أو لا يصح وذكروا للحلول تفسيرات ثلاثة أحدها كون الشيء في غيره ككون ماء الورد في الورد والدهن في السمسم والنار في الفحم واعلم أن هذا باطل لأن هذا إنما يصح لو كان الله تعالى جسماً وهم وافقونا على أنه ليس بجسم وثانيها حصوله في الشيء على مثال حصول اللون في الجسم فنقول المعقول من هذه التبعية حصول اللون في ذلك الحيز تبعاً لحصول محله فيه وهذا أيضاً إنما يعقل في حق الأجسام لا في حق الله تعالى وثالثها حصوله في الشيء على مثال حصول الصفات الإضافية للذوات فنقول هذا أيضاً باطل لأن المعقول من هذه التبعية الاحتياج فلو كان الله تعالى في شيء بهذا المعنى لكان محتاجاً فكان ممكناً فكان مفتقراً إلى المؤثر وذلك محال وإذا ثبت أنه لا يمكن تفسير هذا الحلول بمعنى ملخص يمكن إثباته في حق الله تعالى امتنع إثباته المقام الثاني احتج الأصحاب على نفي الحلول مطلقاً بأن قالوا لو حل لحل إما مع وجوب أن يحل أو مع جواز أن يحل والقسمان باطلان فالقول بالحلول باطل وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يحل مع وجوب أن(21/179)
يحل لأن ذلك يقتضي إما حدوث الله تعالى أو قدم المحل وكلاهما باطلان لأنا دللنا على أن الله قديم وعلى أن الجسم محدث ولأنه لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجاً إلى المحل والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته لا يكون واجباً لذاته وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل لأنه لما كانت ذاته واجبة الوجود لذاته وحلوله في المحل أمر جائز والموصوف بالوجوب غير ما هو موصوف بالجواز فيلزم أن يكون حلوله في المحل أمراً زائداً على ذاته وذلك محال لوجهين أحدهما أن حلوله في المحل لو كان زائداً على ذاته لكان حلول ذلك الزائد في محله زائداً على ذاته أو لزم التسلسل وهو محال والثاني أن حلوله في ذلك لما كان زائداً على ذاته فإذا حل في محل وجب أن يحل فيه صفة محدثة وذلك محال لأنه لو كان قابلاً للحوادث لكانت تلك القابلية من لوازم ذاته وكانت حاصلة أزلاً وذلك محال لأن وجود الحوادث في الأزل محال فحصول قابليتها وجب أن يكون ممتنع الحصول فإن قيل لم لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل لأنه يلزم إما حدوث الحال أو قدم المحل قلنا لا نسلم وجوب أحد الأمرين ولم لا يجوز أن يقال إن ذاته تقتضي الحلول بشرط وجود المحل ففي الأزل ما وجد المحل فلم يوجد شرط هذا الوجوب فلا جرم لم يجب الحلول وفيما لا يزال حصل هذا الشرط فلا جرم وجب سلمنا أنه يلزم إما حدوث الحال أو قدم المحل فلم لا يجوز قوله إنا دللنا على حدوث الأجسام قلنا لم لا يجوز أن يكون محله ليس بجسم ولكنه يكون عقلاً أو نفساً أو هيولى على ما يثبته بعضهم ودليلكم على حدوث الأجسام لا يقبل حدوث هذه الأشياء قوله ثانياً لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجاً إلى المحل قلنا لا نسلم وجوب أحد الأمرين بل ههنا احتمالان آخران أحدهما أن العلة وإن امتنع انفكاكها عن المعلول لكنها لا تكون محتاجة إلى المعلول فلم لا يجوز أن يقال إن ذاته غنية عن ذلك المحل ولكن ذاته توجب حلول نفسها في ذلك المعلول فيكون وجوب حلولها في ذلك المحل من معلولات ذاته وقد ثبت أن العلة وإن استحال انفكاكها عن المعلول لكن ذلك لا يقتضي احتياجها إلى المعلول الثاني أن يقال إنه في ذاته يكون غنياً عن المحل وعن الحلول إلا أن المحل يوجب لذاته صفة الحلول فالمفتقر إلى المحل صفة من صفاته وهي حلوله في ذلك المحل فأما ذاته فلا ولا يلزم من افتقار صفة من صفاته الإضافية إلى الغير افتقار ذاته إلى الغير وذلك لأن جميع الصفات الإضافية الحاصلة له مثل كونه أولاً وآخراً ومقارناً ومؤثراً ومعلوماً ومذكوراً مما لا يتحقق إلا عند حصول التحيز وكيف لا والإضافات لا بد في تحققها من أمرين سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل قوله يلزم أن يكون حلوله فيه زائداً عليه ويلزم التسلسل قلنا حلوله في المحل لما كان جائزاً كان حلوله في المحل زائداً عليه أما كون ذلك الحلول حالاً في المحل أمر واجب فلا يلزم أن يكون حلول الحلول زائداً عليه فلا يلزم التسلسل قوله ثانياً يلزم أن يصير محل الحوادث قلنا لم لا يجوز ذلك قوله يلزم أن يكون قابلاً للحوادث في الأزل قلنا لا شك أن تمكنه من الإيجاد ثابت له إما لذاته أو لأمر ينتهي إلى ذاته وكيف كان فيلزم صحة كونه مؤثراً في الأزل فكل ما ذكرتموه في المؤثرية فنحن نذكره في القابلية والجواب أنا نقرر هذه الدلالة على وجه آخر(21/180)
بحيث تسقط عنها هذه الأسئلة فنقول ذاته إما أن تكون كافية اقتضاء هذا الحلول أو لا تكون كافية في ذلك فإن كان الأول استحال توقف ذلك الاقتضاء على حصول شرط فيعود ما قلنا إنه يلزم إما قدم المحل أو حدوث الحال وإن كان الثاني كان كونه مقتضياً لذلك الحلول أمراً زائداً على ذاته حادثاً فيه فعلى التقديرات كلها يلزم من حدوث حلوله في محل حدوث شيء فيه لكن يستحيل أن يكون قابلاً للحوادث وإلا لزم أن يكون في الأزل قابلاً لها وهو محال على ما بيناه وأما المعارضة بالقدرة فغير واردة لأنه تعالى لذاته قادر على الإيجاد في الأزل فهو قادر على الإيجاد فيما لا يزال فههنا أيضاً لو كانت ذاته قابلة للحوادث لكانت في الأزل قابلة لها فحينئذ يلزم المحال المذكور هذا تمام القول في هذه الأدلة ولنا في إبطال قول النصارى وجوه أخر أحدها أنهم وافقونا على أن ذاته سبحانه وتعالى لم تحل في ناسوت عيسى عليه السلام بل قالوا الكلمة حلت فيه والمراد من الكلمة العلم فنقول العلم لما حل في عيسى ففي تلك الحالة إما أن يقال إنه بقي في ذات الله تعالى أو ما بقي فيها فإن كان الأول لزم حصول الصفة الواحدة في محلين وذلك غير معقول ولأنه لو جاز أن يقال العلم الحاصل في ذات عيسى عليه السلام هو العلم الحاصل في ذات الله تعالى بعينه فلم لا يجوز في حق كل واحد ذلك حتى يكون العلم الحاصل لكل واحد هو العلم الحاصل لذات الله تعالى وإن كان الثاني لزم أن يقال إن الله تعالى لم يبق عالماً بعد حلول علمه في عيسى عليه السلام وذلك مما لا يقوله عاقل وثانيها مناظرة جرت بيني وبين بعض النصارى فقلت له هل تسلم أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول أم لا فإن أنكرت لزمك أن لا يكون الله تعالى قديماً لأن دليل وجوده هو العالم فإذا لزم من عدم الدليل عدم المدلول لزم من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فنقول إذا جوزت اتحاد كلمة الله تعالى بعيسى أو حلولها فيه فكيف عرفت أن كلمة الله تعالى ما دخلت في زيد وعمرو بل كيف أنها ما حلت في هذه الهرة وفي هذا الكلب فقال لي إن هذا السؤال لا يليق بك لأنا إنما أثبتنا ذلك الاتحاد أو الحلول بناء على ما ظهر على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص فإذا لم نجد شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره فكيف نثبت الاتحاد أو الحلول فقلت له إني عرفت من هذا الكلام أنك ما عرفت أول الكلام لأنك سلمت لي أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فإذا كان هذا الحلول غير ممتنع في الجملة فأكثر ما في الباب أنه وجد ما يدل على حصوله في حق عيسى عليه السلام ولم يوجد ذلك الدليل في حق زيد وعمرو ولكن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فلا يلزم من عدم ظهور هذه الخوارق على يد زيد وعمرو وعلى السنور والكلب عدم ذلك الحلول فثبت أنك مهما جوزت القول بالاتحاد والحلول لزمك تجويز حصول ذلك الاتحاد وذلك الحلول في حق كل واحد بل في حق كل حيوان ونبات ولا شك أن المذهب الذي يسوق قائله إلى مثل هذا القول الركيك يكون باطلاً قطعاً ثم قلت له وكيف دل إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص على ما قلت أليس أن انقلاب العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميت حياً فإذا ظهر ذلك على يد موسى عليه السلام ولم يدل على إهليته فبأن لا يدل هذا على آلهية عيسى أولى(21/181)
وثالثها أنا نقول دلالة أحوال عيسى على العبودية أقوى من دلالتها على الربوبية لأنه كان مجتهداً في العبادة والعبادة لا تليق إلا بالعبيد فإنه كان في نهاية البعد عن الدنيا والاحتراز عن أهلها حتى قالت النصارى إن اليهود قتلوه ومن كان في الضعف هكذا فكيف تليق به الربوبية ورابعها المسيح إما أن يكون قديماً أو محدثاً والقول بقدمه باطل لأنا نعلم بالضرورة أنه ولد وكان طفلاً ثم صار شاباً وكان يأكل ويشرب ويعرض له ما يعرض لسائر البشر وإن كان محدثاً كان مخلوقاً ولا معنى للعبودية إلا ذلك فإن قيل المعنى بإلهيته أنه حلت صفة الآلهية فيه قلنا هب أنه كان كذلك لكن الحال هو صفة الإله والمسيح هو المحل والمحل محدث مخلوق فما هو المسيح ( إلا ) عبد محدث فكيف يمكن وصفه بالإلهية وخامسها أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد فإن كان لله ولد فلا بد وأن يكون من جنسه فإذن قد اشتركا من بعض الوجوه فإن لم يتميز أحدهما عن الآخر بأمر ما فكل واحد منهما هو الآخر وإن حصل الإمتياز فما به الإمتياز غير ما به الاشتراك فيلزم وقوع التركيب في ذات الله وكل مركب ممكن فالواجب ممكن هذا خلف محال هذا كله على الإتحاد والحلول أما الاحتمال الثالث وهو أن يقال معنى كونه إلهاً أنه سبحانه خص نفسه أو بدنه بالقدرة على خلق الأجسام والتصرف في هذا العالم فهذا أيضاً باطل لأن النصارى حكوا عنه الضعف والعجز وأن اليهود قتلوه ولو كان قادراً على خلق الأجسام لما قدروا على قتله بل كان هو يقتلهم ويخلق لنفسه عسكراً يذبون عنه وأما الاحتمال الرابع وهو أنه اتخذه ابناً لنفسه على سبيل التشريف فهذا قد قال به قوم من النصارى يقال لهم الأرميوسية وليس فيه كثير خطأ إلا في اللفظ فهذا جملة الكلام على النصارى وبه ثبت صدق ما حكاه الله تعالى عنه أنه قال إني عبد الله الصفة الثانية قوله تعالى الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف الناس فيه فالجمهور على أنه قال هذا الكلام حال صغره وقال أبو القاسم البلخي إنه إنما قال ذلك حين كان كالمراهق الذي يفهم وإن لم يبلغ حد التكليف أما الأولون فلهم قولان أحدهما أنه كان في ذلك الصغر نبياً الثاني روى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال المراد بأن حكم وقضى بأنه سيبعثني من بعد ولما تكلم بذلك سكت وعاد إلى حال الصغر ولما بلغ ثلاثين سنة بعثه الله نبياً واحتج من نص على فساد القول الأول بأمور أحدها أن النبي لا يكون إلا كاملاً والصغير ناقص الخلقة بحيث يعد هذا التحدي من الصغير منفراً بل هو في التنفير أعظم من أن يكون امراأة وثانيها أنه لو كان نبياً في هذا الصغر لكان كمال عقله مقدماً على ادعائه للنبوة إذ النبي لا بد وأن يكون كامل العقل لكن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة فيكون المعجز متقدماً على التحدي وإنه غير جائز وثالثها أنه لو كان نبياً في ذلك الوقت لوجب أن يشتغل ببيان الأحكام وتعريف الشرائع ولو وقع ذلك لاشتهر ولنقل فحيث لم يحصل ذلك علمنا أنه ما كان نبياً في ذلك الوقت أجاب الأولون عن الكلام الأول بأن كون الصبي ناقصاً ليس لذاته بل الأمر يرجع إلى صغر جسمه ونقصان فهمه فإذا أزال الله تعالى هذه الأشياء لم تحصل النفرة بل تكون الرغبة إلى استماع قوله وهو على هذه الصفة أتم وأكمل وعن الكلام الثاني لم لا يجوز أن يقال إكمال عقله وإن حصل مقدماً على دعواه إلا أنه معجزة لزكريا عليه السلام أو يقال إنه إرهاص لنبوته أو كرامة لمريم عليها السلام وعندنا الإرهاص والكرامات جائزة وعن الكلام الثالث لم لا يجوز أن يقال مجرد بعثته إليهم من غير بيان شيء من الشرائع والأحكام جائز ثم بعد البلوغ أخذ في شرح تلك الأحكام فثبت(21/182)
بهذا أنه لا امتناع في كونه نبياً في ذلك الوقت وقوله الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى يدل على كونه نبياً في ذلك الوقت فوجب إجراؤه على ظاهره بخلاف ما قاله عكرمة أما قول أبي القاسم البلخي فبعيد وذلك لأن الحاجة إلى كلام عيسى عليه السلام إنما كانت عند وقوع التهمة على مريم عليها السلام
المسألة الثانية اختلفوا في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة لأن الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة وقال أبو مسلم المراد هو الإنجيل لأن الألف واللام ههنا للجنس أي آتاني من هذا الجنس وقال قوم المراد هو التوراة والإنجيل لأن الألف واللام تفيد الاستغراق
المسألة الثالثة اختلفوا في أنه متى آتاه الكتاب ومتى جعله نبياً لأن قوله الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى يدل على أن ذلك كان قد حصل من قبل إما ملاصقاً لذلك الكلام أو متقدماً عليه بأزمان والظاهر أنه من قبل أن كلمهم آتاه الله الكتاب وجعله نبياً وأمره بالصلاة والزكاة وأن يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه وإلى ما خص به من الشريعة فقيل هذا الوحي نزل عليه وهو في بطن أمه وقيل لما انفصل من الأم آتاه الله الكتاب والنبوة وأنه تكلم مع أمه وأخبرها بحاله وأخبرها بأنه يكلمهم بما يدل على براءة حالها فلهذا أشارت إليه بالكلام الصفة الثالثة قوله وَجَعَلَنِى نَبِيّاً قال بعضهم أخبر أنه نبي ولكنه ما كان رسولاً لأنه في ذلك الوقت ما جاء بالشريعة ومعنى كونه نبياً أنه رفيع القدر على الدرجة وهذا ضعيف لأن النبي في عرف الشرع هو الذي خصه الله بالنبوة وبالرسالة خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشرع وهو قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة الصفة الرابعة قوله وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ فلقائل أن يقول كيف جعله مباركاً والناس كانوا قبله على الملة الصحيحة فلما جاء صار بعضهم يهوداً وبعضهم نصارى قائلين بالتثليث ولم يبق على الحق إلا القليل والجواب ذكروا في ( تفسير المبارك ) وجوهاً أحدها أن البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير فمعناه جعلني ثابتاً على دين الله مستقراً عليه وثانيها أنه إنما كان مباركاً لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله وروى الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال أسلمت أم عيسى عليها السلام عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم اكتب فقال أي شيء أكتب فقال اكتب أبجد فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال هل تدري ما أبجد فعلاه بالدرة ليضربه فقال يا مؤدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فأنا أعلمك الألف من آلاء الله والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله والدال من أداء الحق إلى الله وثالثها البركة الزيادة والعلو فكأنه قال جعلني في جميع الأحوال غالباً مفلحاً منجحاً لأني ما دمت أبقى في الدنيا أكون على الغير مستعلياً بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم يكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء ورابعها مبارك على الناس بحيث يحصل بسبب دعائي إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمة والأبرص فقالت طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به فقال عيسى عليه السلام مجيباً لها طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً أما قوله أَيْنَ مَا كُنتُ فهو يدل على أن حاله لم يتغير كما قيل إنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف الصفة الخامسة قوله وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى فإن قيل كيف أمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً صغيراً والقلم مرفوع عنه على ما قاله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ ) الحديث وجوابه(21/183)
من وجهين الأول أن قوله وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فلعل المراد أنه تعالى أوصاه بهما وبأدائهما في الوقت المعين له وهو وقت البلوغ الثاني لعل الله تعالى لما انفصل عيسى عن أمه صيره بالغاً عاقلاً تام الأعضاء والخلقة وتحقيقه قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) فكما أنه تعالى خلق آدم تاماً كاملاً دفعة فكذا القول في عيسى عليه السلام وهذا القول الثاني أقرب إلى الظاهر لقوله مَا دُمْتُ حَيّاً فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه في جميع زمان حيائه ولكن لقائل أن يقول لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجباً فكان ينبغي أن لا يعجبوا فلعل الأول أن يقال إنه تعالى جعله مع صغر جثته قوي التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية دالة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل مرة أخرى الصفة السادسة قوله تعالى وَبَرّاً بِوَالِدَتِى أي جعلني براً بوالدتي وهذا يدل على قولنا إن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن الآية تدل على أن كونه براً إنما حصل بجعل الله وخلقه وحمله على الألطاف عدول عن الظاهر ثم قوله وَبَرّاً بِوَالِدَتِى إشارة إلى تنزيه أمه عن الزنا إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأموراً بتعظيمها قال صاحب ( الكشاف ) جعل ذاته براً لفرط بره ونصبه بفعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفني بها واحد الصفة السابعة قوله وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً وهذا أيضاً يدل على قولنا لأنه لما بين أنه جعله براً وما جعله جباراً فهذا إنما يحسن لو أن الله تعالى جعل غير جباراً وغيره بار بأمه فإن الله تعالى لو فعل ذلك بكل أحد لم يكن لعيسى عليه السلام مزيد تخصيص بذلك ومعلوم أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك في معرض التخصيص وقوله وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً أي ما جعلني متكبراً بل أنا خاضع لأني متواضع لها ولو كنت جباراً لكنت عاصياً شقياً وروي أن عيسى عليه السلام قال قلبي لين وأنا صغير في نفسي وعن بعض العلماء لا تجد العاق إلا جباراً شقياً وتلا وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً ولا تجد سيىء الملكة إلا مختالاً فخوراً وقرأ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً الصفة الثامنة هي قوله وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم لام التعريف في السلام منصرف إلى ما تقدم في قصتي يحيى عليه السلام من قوله وَسَلَامٌ عَلَيْهِ ( مريم 15 ) أي السلام الموجه إليه في المواطن الثلاثة موجه إلي أيضاً وقال صاحب ( الكشاف ) الصحيح أن يكون هذا التعريف تعويضاً باللعن على من اتهم مريم بالزنا وتحقيقه أن اللام للاستغراق فإذا قال وَالسَّلَامُ عَلَى َّ فكأنه قال وكل السلام علي وعلى أتباعي فلم يبق للأعداء إلا اللعن ونظيره قول موسى عليه السلام وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) بمعنى أن العذاب على من كذب وتولى وكان المقام مقام اللجاج والعناد ويليق به مثل هذا التعريض
المسألة الثانية روى بعضهم عن عيسى عليه السلام أنه قال ليحيى أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت على نفسي وأجاب الحسن فقال إن تسليمه على نفسه بتسليم الله عليه(21/184)
المسألة الثالثة قال القاضي السلام عبارة عما يحصل به الأمان ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى أنه فعله بيحيى ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة وأعظم أحوال الإنسان احتياجاً إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة وهي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى طلبها ليكون مصوناً عن الآفات والمخافات في كل الأحوال واعلم أن اليهود والنصارى ينكرون أن عيسى عليه السلام تكلم في زمان الطفولية واحتجوا عليه بأن هذا من الوقائع العجيبة التي تتوافر الدواعي على نقلها فلو وجدت لنقلت بالتواتر ولو كان ذلك لعرفه النصارى لا سيما وهم من أشد الناس بحثاً عن أحواله وأشد الناس غلواً فيه حتى زعموا كونه إلهاً ولا شك أن الكلام في الطفولية من المناقب العظيمة والفضائل التامة فلما لم تعرفه النصارى مع شدة الحب وكمال البحث عن أحواله علمنا أنه لم يوجد ولأن اليهود أظهروا عداوته حال ما أظهر ادعاء النبوة فلو أنه عليه السلام تكلم في زمان الطفولية وادعى الرسالة لكانت عداوتهم معه أشد ولكان قصدهم قتله أعظم فحيث لم يحصل شيء من ذلك علمنا أنه ما تكلم أما المسلمون فقد احتجوا من جهة العقل على أنه تكلم فإنه لولا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا إقامة الحد على الزنا عليها ففي تركهم لذلك دلالة على أنه عليه السلام تكلم في المهد وأجابوا عن الشبهة الأولى بأنه ربما كان الحاضرون عند كلامه قليلين فلذلك لم يشتهر وعن الثاني لعل اليهود ما حضروا هناك وما سمعوا كلامه فلذلك لم يشتغلوا بقصد قتله
ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وابن عامر قَوْلَ الْحَقّ بالنصب وعن ابن مسعود قَالَ الْحَقّ و قَالَ اللَّهُ وعن الحسن قَوْلَ الْحَقّ بضم القاف وكذلك في الأنعام قوله الْحَقّ والقول والقال القول في معنى واحد كالرهب والرهب والرهب أما ارتفاعه فعلى أنه خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله أو على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقولك هو عند الله الحق لا الباطل والله أعلم
المسألة الثانية لا شبهة أن المراد بقوله ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الإشارة إلى ما تقدم وهو قوله قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِى َ ( مريم 30 ) أي ذلك الموصوف بهذه الصفات هو عيسى ابن مريم وفي قوله عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إشارة إلى أنه ولد هذه المرأة وابنها لا أنه ابن الله فأما قوله الْحَقّ ففيه وجوه أحدها وهو أن نفس عيسى عليه السلام هو قول الحق وذلك لأن الحق هو اسم الله فلا فرق بين أن نقول عيسى كلمة الله وبين أن نقول عيسى قول الحق وثانيها أن يكون المراد ( ذلك عيسى ابن مريم القول الحق ) إلا أنك أضفت الموصوف إلى الصفة فهو كقوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) وفائدة قولك القول الحق تأكيد(21/185)
ما ذكرت أولاً من كون عيسى عليه السلام ابناً لمريم وثالثها أن يكون قَوْلَ الْحَقّ خبراً لمبتدأ محذوف كأنه قيل ذلك عيسى ابن مريم ووصفنا له هو قول الحق فكأنه تعالى وصفه أولاً ثم ذكر أن هذا الموصوف هو عيسى ابن مريم ثم ذكر أن هذا الوصف أجمع هو قول الحق على معنى أنه ثابت لا يجوز أن يبطل كما بطل ما يقع منهم من المرية ويكون في معنى إن هذا لهو الحق اليقين فأما امتراؤهم في عيسى عليه السلام فالمذاهب التي حكيناها من قول اليهود والنصارى وقد تقدم ذكر ذلك في سورة آل عمران روي أن عيسى عليه السلام لما رفع حضر أربعة من أكابرهم وعلمائهم فقيل للأول ما تقول في عيسى فقال هو إله والله إله وأمه إله فتابعه على ذلك ناس وهم الإسرائيلية وقيل للرابع ما تقول فقال هو عبد الله ورسوله وهو المؤمن المسلم وقال أما تعلمون أن عيسى كان يطعم وينام وأن الله تعالى لا يجوز عليه ذلك فخصمهم أما قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ فهو يحتمل أمرين أحدهما أن ثبوت الولد له محال فقولنا مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ كقوله ما كان لله أن يقول لأحد إنه ولدي لأن هذا الخبر كذب والكذب لا يليق بحكمة الله تعالى وكماله فقوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ كقولنا ما كان لله أن يظلم أي لا يليق ذلك بحكمته وكمال إلهيته واحتج الجبائي بالآية بناء على هذا التفسير أنه ليس لله أن يفعل كل شيء لأنه تعالى صرح بأنه ليس له هذا الإيجاد أي ليس له هذا الاختيار وأجاب أصحابنا عنه بأنه الكذب محال على الله تعالى فلا جرم قال مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ أما قوله سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال سُبْحَانَهُ ثم قال عقيبه إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ كان كالحجة على تنزيهه عن الولد وبيان ذلك أن الذي يجعل ولداً لله إما أن يكون قديماً أزلياً أو يكون محدثاً فإن كان أزلياً فهو محال لأنه لو كان واجباً لذاته لكان واجب الوجود أكثر من واحد هذا خلف وإن كان ممكناً لذاته كان مفتقراً في وجوده إلى الواجب لذاته غنياً لذاته فيكون الممكن محتاجاً لذاته فيكون عبداً له لأنه لا معنى للعبودية إلا ذلك وأما إن كان الذي يجعل ولداً يكون محدثاً فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم وإيجاده وهو المراد من قوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ فيكون عبداً له لا ولداً له فثبت أنه يستحيل أن يكون لله ولد
المسألة الثانية احتج الأصحاب بقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ على قدم كلام الله تعالى قالوا لأن الآية تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون فلو كان قوله كن محدثاً لافتقر حدوثه إلى قول آخر ولزم التسلسل وهو محال فثبت أن قول الله قديم لا محدث واحتج المعتزلة بالآية على حدوث كلام الله تعالى من وجوه أحدها أنه تعالى أدخل عليه كلمة إذا وهذه الكلمة دالة على الاستقبال فوجب أن لا يحصل القول إلا في الاستقبال وثانيها أن حرف الفاء للتعقيب والفاء في قوله فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ يدل على تأخر ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخر عن غيره محدث وثالثها الفاء في قوله فَيَكُونُ يدل على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصل فيكون قول الله متقدماً على حدوث الحادث تقدماً بلا فصل والمتقدم على المحدث تقدماً بلا فصل يكون محدثاً فقول الله محدث واعلم أن استدلال الفريقين ضعيف أما استدلال الأصحاب فلأنه يقتضي أن يكون قوله كُنَّ قديماً وذلك باطل بالاتفاق وأما استدلال المعتزلة فلأنه يقتضي أن يكون قول الله تعالى هو المركب من الحروف(21/186)
والأصوات وهو محدث وذلك لا نزاع فيه إنما المدعي قدم شيء آخر
المسألة الثالثة من الناس من أجرى الآية على ظاهرها فزعم أنه تعالى إذا أحدث شيئاً قال له كن وهذا ضعيف لأنه إما أن يقول له كن قبل حدوثه أو حال حدوثه فإن كان الأول كان ذلك خطاباً مع المعدوم وهو عبث وإن كان الثاني فهو حال حدوثه قد وجد بالقدرة والإرادة فأي تأثير لقوله كن فيه ومن الناس من زعم أن المراد من قوله كُنَّ هو الخليق والتكوين وذلك لأن القدرة على الشيء غير وتكوين الشيء غير فإن الله سبحانه قادر في الأزل وغير مكون في الأزل ولأنه الآن قادر على عوالم سوى هذا العالم وغير مكون لها والقادرية غير المكونية والتكوين ليس هو نفس المكون لأنا نقول المكون إنما حدث لأن الله تعالى كونه فأوجده فلو كان التكوين نفس المكون لكان قولنا المكون إنما وجد بتكوين الله تعالى نازلاً منزلة قولنا المكون إنما وجد بنفسه وذلك محال فثبت أن التكوين غير المكون فقوله كُنَّ إشارة إلى الصفة المسماة بالتكوين وقال آخرون قوله كُنَّ عبارة عن نفاذ قدرة الله تعالى ومشيئته في الممكنات فإن وقوعها بتلك القدرة والإرادة من غير امتناع واندفاع يجري مجرى العبد المطيع المسخر المنقاد لأوامر مولاه فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبارة على سبيل الاستعارة
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاٌّ حْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَة ِ إِذْ قُضِى َ الاٌّ مْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
اعلم أن قوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ المدنيون وأبو عمرو بفتح أن ومعناه ولأنه ربي وربكم فاعبدوه وقرأ الكوفيون وأبو عبيدة بالكسر على الابتداء وفي حرف أبي إِنَّ اللَّهَ بالكسر من غير واو أي بسبب ذلك فاعبدوه
المسألة الثانية أنه لا يصح أن يقول الله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فلا بد وأن يكون قائل هذا غير الله تعالى وفيه قولان الأول التقدير فقل يا محمد إن الله ربي وربكم بعد إظهار البراهين الباهرة في أن عيسى هو عبد الله الثاني قال أبو مسلم الأصفهاني الواو في وإن الله عطف على قول عيسى عليه السلام قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِى َ ( مريم 30 ) كأنه قال إني عبد الله وإنه ربي وربكم فاعبدوه وقال وهب بن منبه عهد إليهم حين أخبرهم عن بعثه ومولده ونعته أن الله ربي وربكم أي كلنا عبيد الله تعالى(21/187)
المسألة الثالثة قوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ يدل على أن مدبر الناس ومصلح أمورهم هو الله تعالى على خلاف قول المنجمين إن مدبر الناس ومصلح أمورهم في السعادة والشقاوة هي الكواكب ويدل أيضاً على أن الإله واحد لأن لفظ الله اسم علم له سبحانه فلما قال إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ أي لا رب للمخلوقات سوى الله تعالى وذلك يدل على التوحيد أما قوله فَاعْبُدُوهُ فقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فههنا الأمر بالعبادة وقع مرتباً على ذكر وصف الربوبية فدل على أنه إنما تلزمنا عبادته سبحانه لكونه رباً لنا وذلك يدل على أنه تعالى إنما تجب عبادته لكونه منعماً على الخلائق بأصول النعم وفروعها ولذلك فإن إبراهيم عليه السلام لما منع أباه من عبادة الأوثان قال لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً يعني أنها لما لم تكن منعمة على العباد لم تجز عبادتها وبهذه الآية ثبت أن الله تعالى لما كان رباً ومربياً لعباده وجب عبادته فقد ثبت طرداً وعكساً تعلق العبادة بكون المعبود منعماً أما قوله هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم وأنه سمي هذا القول بالصراط المستقيم تشبيهاً بالطريق لأنه المؤدي إلى الجنة أما قوله تعالى فَاخْتَلَفَ الاْحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ففي الأحزاب أقوال الأول المراد فرق النصارى على ما بينا أقسامهم الثاني المراد النصارى واليهود فجعله بعضهم ولداً وبعضهم كذاباً الثالث المراد الكفار الداخل فيهم اليهود والنصارى والكفار الذين كانوا في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا قلنا المراد بقوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أي قل يا محمد إن الله ربي وربكم فهذا القول أظهر لأنه لا تخصيص فيه وكذا قوله فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مؤكد لهذا الاحتمال وأما قوله مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ فالمشهد إما أن يكون هو الشهود وما يتعلق به أو الشهادة وما يتعلق بها أما الأول فيحتمل أن يكون المراد من المشهد نفس شهودهم هول الحساب والجزاء في القيامة أو مكان الشهود فيه وهو الموقف أو وقت الشهود وأما الشهادة فيحتمل أن يكون المراد شهادة الملائكة والأنبياء وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال وأن يكون مكان الشهادة أو وقتها وقيل هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه وإنما وصف ذلك المشهد بأنه عظيم لأنه لا شيء أعظم مما يشاهد في ذلك اليوم من محاسبة ومساءلة ولا شيء من المنافع أعظم مما هنالك من الثواب ولا بد من المضار أعظم مما هنالك من العقاب أما قوله تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى قالوا التعجب هو استعظام الشيء مع الجهل بسبب عظمه ثم يجوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير أن يكون للعظم سبب حصول قال الفراء قال سفيان قرأت عند شريح بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ ( الصافات 12 ) فقال إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال إن شريحاً شاعر يعجبه علمه وعبد الله أعلم بذلك منه قرأها بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ ومعناه أنه صدر من الله تعالى فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم وبهذا التأويل يضاف المكر والاستهزاء إلى الله تعالى وإذا عرفت هذا فنقول للتعجب صفتان إحداهما ما أفعله والثانية أفعل به كقوله تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ والنحويون ذكروا له تأويلات الأول قالوا أكرم بزيد أصله أكرم زيد أي صار ذا كرم كأغد البعير أي صار ذا غدة إلا أنه خرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر كما خرج على لفظ الخبر ما معناه الأمر كقوله تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ(21/188)
( البقرة 228 ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( البقرة 233 ) قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَة ِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ( مريم 75 ) أي يمد له الرحمن مداً وكذا قولهم رحمه الله خبر وإن كان معناه الدعاء والباء زائدة الثاني أن يقال إنه أمر لكل أحد بأن يجعل زيداً كريماً أي بأن يصفه بالكرم والباء زائدة مثل قوله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ ( البقرة 195 ) ولقد سمعت لبعض الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً وهو أن قولك أكرم بزيد يفيد أن زيداً بلغ في الكرم إلى حيث كأنه في ذاته صار كرماً حتى لو أردت جعل غيره كريماً فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك كما أن من قال أكتب بالقلم فمعناه أن القلم هو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك
المسألة الثانية قوله أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا فيه ثلاثة أوجه أحدها وهو المشهور الأقوى أن معناه ما أسمعهم وما أبصرهم والتعجب على الله تعالى محال كما تقدم وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صماً وعمياً في الدنيا وقيل معناه التهديد مما سيسمعون وسيبصرون مما يسوء بصرهم ويصدع قلوبهم وثانيها قال القاضي ويحتمل أن يكون المراد أسمع هؤلاء وأبصرهم أي عرفهم حال القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا وثالثها قال الجبائي ويجوز أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم بهم ليعرفوا أمرهم وسوء عاقبتهم فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم أما قوله لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ففيه قولان الأول لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وفي الآخرة يعرفون الحق والثاني لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وهم في الآخرة في ضلال عن الجنة بخلاف المؤمنين وأما قوله تعالى وَأَنذِرْهُمْ فلا شبهة في أنه أمر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأن ينذر من في زمانه فيصلح بأن يجعل هذا كالدلالة على أن قوله فاختلف الأحزاب أراد به اختلاف جميعهم في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأما الإنذار فهو التخويف من العذاب لكي يحذروا من ترك عبادة الله تعالى وأما يوم الحسرة فلا شبهة في أنه يوم القيامة من حيث يكثر التحسر من أهل النار وقيل يتحسر أيضاً في الجنة إذا لم يكن من السابقين الواصلين إلى الدرجات العالية والأول هو الصحيح لأن الحسرة غم وذلك لا يليق بأهل الثواب أما قوله تعالى إِذْ قُضِى َ الاْمْرُ ففيه وجوه أحدها إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمرالثواب والعقاب وثانيها إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف والأول أقرب لقوله وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ فكأنه تعالى بين أنه ظهرت الحجج والبينات وهم في غفلة وهم لا يؤمنون وثالثها روي أنه سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله قضى الأمر ( فقال حين يجاء بالموت في صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً على فرح وأهل النار غماً على غم ) واعلم أن الموت عرض فلا يجوز أن يصير جسماً حيوانياً بل المراد أنه لا موت البتة بعد ذلك وأما قوله وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ أي عن ذلك اليوم وعن كيفية حسرته وهم لا يؤمنون أي بذلك اليوم ثم قال بعده إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الاْرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا أي هذه الأمور تؤول إلى أن لا يملك الضر والنفع إلا الله تعالى وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ أي إلى محل حكمنا وقضائنا لأنه تعالى منزه عن المكان حتى يكون الرجوع إليه وهذا تخويف عظيم وزجر بليغ للعصاة(21/189)
القصة الثالثة قصة إبراهيم عليه السلام
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ياأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً ياأَبَتِ إِنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً
اعلم أن الغرض من هذه السورة بيان التوحيد والنبوة والحشر والمنكرون للتوحيد هم الذين أثبتوا معبوداً سوى الله تعالى وهؤلاء فريقان منهم من أثبت معبوداً غير الله حياً عاقلاً فاهماً وهم النصارى ومنهم من أثبت معبوداً غير الله جماداً ليس بحي ولا عاقل ولا فاهم وهم عبدة الأوثان والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن ضلال الفريق الثاني أعظم فلما بين تعالى ضلال الفريق الأول تكلم في ضلال الفريق الثاني وهم عبدة الأوثان فقال وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ والواو في قوله واذكر عطف على قوله ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا كأنه لما انتهت قصة عيسى وزكريا عليهما السلام قال قد ذكرت حال زكريا فاذكر حال إبراهيم وإنما أمر بذكره لأنه عليه السلام ما كان هو ولا قومه ولا أهل بلدته مشتغلين بالعلم ومطالعة الكتب فإذا أخبر عن هذه القصة كما كانت من غير زيادة ولا نقصان كان ذلك إخباراً عن الغيب الغيب ومعجزاً قاهراً دالاً على نبوته وإنما شرع في قصة إبراهيم عليه السلام لوجوه أحدها أن إبراهيم عليه السلام كان أب العرب وكانوا مقرين بعلو شأنه وطهارة دينه على ما قال تعالى مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ( الحج 78 ) وقال تعالى وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) فكأنه تعالى قال للعرب إن كنتم مقلدين لآبائكم على ما هو قولكم وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّذِيرٍ ( الزخرف 23 )(21/190)
ومعلوم أن أشرف آبائكم وأجلهم قدراً هو إبراهيم عليه السلام فقلدوه في ترك عبادة الأوثان وإن كنتم من المستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان وبالجملة فاتبعوا إبراهيم إما تقليداً وإما استدلالاً وثانيها أن كثيراً من الكفار في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يقولون كيف نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وبين أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ليعرف الكفار أن ترجيح جانب الأب على جانب الدليل رد على الأب الأشرف الأكبر الذي هو إبراهيم عليه السلام وثالثها أن كثيراً من الكفار كانوا يتمسكون بالتقليد وينكرون الاستدلال على ما قال الله تعالى قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّة ٍ ( الزخرف 22 ) و قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ ( الأنبياء 53 ) فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام التمسك بطريقة الاستدلال تنبيهاً لهؤلاء على سقوط هذه الطريقة ثم قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً وفي الصديق قولان أحدهما أنه مبالغة في كونه صادقاً وهو الذي يكون عادته الصدق لأن هذا البناء ينبىء عن ذلك يقال رجل خمير وسكير للمولع بهذه الأفعال والثاني أنه الذي يكون كثير التصديق بالحق حتى يصير مشهوراً به والأول أولى وذلك لأن المصدق بالشيء لا يوصف بكونه صديقاً إلا إذا كان صادقاً في ذلك التصديق فيعود الأمر إلى الأول فإن قيل أليس قد قال تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشُّهَدَاء ( الحديد 19 ) قلنا المؤمنون بالله ورسله صادقون في ذلك التصديق واعلم أن النبي يجب أن يكون صادقاً في كل ما أخبر عنه لأن الله تعالى صدقه ومصدق الله صادق وإلا لزم الكذب في كلام الله تعالى فيلزم من هذا كون الرسول صادقاً في كل ما يقول ولأن الرسل شهداء الله على الناس على ما قال الله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) والشهيد إنما يقبل قوله إذا لم يكن كاذباً فإن قيل فما قولكم في إبراهيم عليه السلام في قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ( الأنبياء 63 ) و إِنّى سَقِيمٌ قلنا قد شرحنا في تأويل هذه الآيات بالدلائل الظاهرة أن شيئاً من ذلك ليس بكذب فلما ثبت أن كل نبي يجب أن يكون صديقاً ولا يجب في كل صديق أن يكون نبياً ظهر بهذا قرب مرتبة الصديق من مرتبة النبي فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبياً وأما النبي فمعناه كونه رفيع القدر عند الله وعند الناس وأي رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده وقوله كَانَ صِدّيقاً قيل إنه صار وقيل إن معناه وجد صديقاً نبياً أي كان من أول وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصيانة قال صاحب ( الكشاف ) هذه الجملة وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله أعني إبراهيم وإذ قال ونظيره قولك رأيت زيداً ونعم الرجل أخاك ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقاً نبياً أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات أما قوله يا أبت فالتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض عنه وقد يقال يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء واعلم أنه تعالى حكى أن إبراهيم عليه السلام تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام النوع الأول قوله لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ووصف الأوثان بصفات ثلاثة كل واحدة منها قادحة في الإلهية وبيان ذلك من وجوه أحدها أن العبادة غاية التعظيم فلا يستحقها إلا من له غاية الانعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما قررناه في تفسير قوله و إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ( آل عمران 51 ) وقال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) الآية وكما يعلم بالضرورة أنه لا يجوز الاشتغال بشكرها ما لم تكن منعمة وجب أن لايجوز الاشتغال بعبادتها وثانيها أنها إذا لم تسمع ولم تبصر ولم تميز من يطيعها عمن يعصيها فأي فائدة في عبادتها وهذا ينبهك على أن الإله يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات حتى يكون العبد آمناً من وقوع الغلط للمعبود وثالثها أن الدعاء مخ العبادة فالوثن إذا لم يسمع دعاء الداعي فأي منفعة في عبادته وإذا كانت لا تبصر بتقرب من يقترب إليها فأي منفعة في ذلك التقرب ورابعها أن السامع المبصر الضار النافع أفضل ممن كان عارياً عن كل ذلك والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبادة الأخس(21/191)
وخامسها إذا كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى منها منفعة ولا يخاف من ضررها فأي فائدة في عبادتها وسادسها إذا كانت لا تحفظ أنفسها عن الكسر والإفساد على ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه كسرها وجعلها جذاذاً فأي رجاء للغير فيها واعلم أنه عاب الوثن من ثلاثة أوجه أحدها لا يسمع وثانيها لا يبصر وثالثها لا يغني عنك شيئاً كأنه قال له بل الإلهية ليست إلا لربي فإنه يسمع ويجيب دعوة الداعي ويبصر كما قال إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) ويقضي الحوائج أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النمل 62 ) واعلم أن قوله ههنا لِمَ تَعْبُدُ محمول على نفس العبادة وأما قوله في المقام الثالث لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ لا يقال ذلك بل المراد الطاعة لأنهم ما كانوا يعبدون الشيطان فوجب حمله على الطاعة ولأنا نقول ليس إذا تركنا الظاهر ههنا لدليل وجب ترك الظاهر في المقام الأول بغير دليل فإن قيل إما أن يقال إن أبا إبراهيم كان يعتقد في تلك الأوثان أنها آلهة بمعنى أنها قادرة مختارة موجدة للناس والحيوانات أو يقال إنه ما كان يعتقد ذلك بل كان يعتقد أنها تماثيل الكواكب والكواكب هي الآلهة المدبرة لهذا العالم فتعظيم تماثيل الكواكب بموجب تعظيم الكواكب أو كان يعتقد أن هذه الأوثان تماثيل أشخاص معظمة عند الله تعالى من البشر فتعظيمها يقتضي كون أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند الله تعالى أو كان يعتقد أن تلك الأوثان طلسمات ركبت بحسب اتصالات مخصوصة للكواكب قلما يتفق مثلها وأنها مشفع بها أو غير ذلك من الأعذار المنقولة عن عبدة الأوثان فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأول كان في نهاية الجنون لأن العلم بأن هذا الخشب المنحوت في هذه الساعة ليس خالقاً للسموات والأرض من أجلى العلوم الضرورية فالشاك فيه يكون فاقداً لأجلى العلوم الضرورية فكان مجنوناً والمجنون لا يجوز إيراد الحجة عليه والمناظرة معه وإن كان من القسم الثاني فهذه الدلائل لا تقدح في شيء من ذلك لأن ذلك المذهب إنما يبطل بإقامة الدلالة على أن الكواكب ليست أحياء ولا قادرة على خلق الأجسام وخلق الحياة ومعلوم أن الدليل المذكور ههنا لا يفيد ذلك المطلوب فعلمنا أن هذه الدلالة عديمة الفائدة على كل التقديرات قلنا لا نزاع أنه لا يخفى على العاقل أن الخشبة المنحوتة لا تصلح لخلق العالم وإنما مذهبهم هذا على الوجه الثاني وإنما أورد إبراهيم عليه السلام هذه الدلالة عليهم لأنهم كانوا يعتقدون أن عبادتها تفيد نفعاً إما على سبيل الخاصية الحاصلة من الطلسمات أو على سبيل أن الكواكب تنفع وتضر فبين إبراهيم عليه السلام أنه لا منفعة في طاعتها ولا مضرة في الإعراض عنها فوجب أن لا تحسن عبادتها النوع الثاني قوله شَيْئاً ياأَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ومعناه ظاهر وطمع في التمسك به أهل التعليم وأهل التقليد أما أهل التعليم فقالوا إنه أمره بالإتباع في الدين وما أمره بالتمسك بدليل لا يستفاد إلا من الإتباع وأما أهل التقليد فقد تمسكوا به أيضاً من هذا الوجه ومن الناس من طعن أنه أمره بالإتباع لتحصل الهداية فإذن لا تحصل الهداية إلا باتباعه ولا تبعية إلا إذا اهتدى لقولنا إنه لا بد من اتباعه فيقع الدور وإنه باطل ( والجواب ) عن الأول أن المراد بالهداية بيان الدليل وشرحه وإيضاحه فعند هذا عاد السائل فقال أنا لا أنكر أنه لا بد من الدلالة ولكني أقول الوقوف على تلك الدلالة لا يستفاد إلا ممن له نفس كاملة بعيدة عن النقص والخطأ وهي نفس النبي المعصوم أو الإمام المعصوم فإذا سلمت أنه لا بد من النبي في هذا المقصود فقد سلمت حصول الغرض أجاب المجيب وقال أنا ما سلمت أنه لا بد في الوقوف على الدلائل من هداية النبي ولكني أقول هذا الطريق أسهل وإن إبراهيم عليه السلام(21/192)
دعاه إلى الأسهل والجواب عن سؤال الدور أن قوله فَاتَّبِعْنِى ليس أمر إيجاب بل أمر إرشاد والنوع الثالث قوله سَوِيّاً ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً أي لا تطعه لأنه عاص لله فنفره بهذه الصفة عن القبول منه لأنه أعظم الخصال المنفرة واعلم أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص لم يذكر من جنايات الشيطان إلا كونه عاصياً لله ولم يذكر معاداته لآدم عليه السلام كأن النظر في عظم ما ارتكبه من ذلك العصيان غمى فكره وأطبق على ذهنه وأيضاً فإن معصية الله تعالى لا تصدر إلا عن ضعيف الرأي ومن كان كذلك كان حقيقاً أن لا يلتفت إلى رأيه ولا يجعل لقوله وزن فإن قيل إن هذا القول يتوقف على إثبات أمور أحدها إثبات الصانع وثانيها إثبات الشيطان وثالثها إثبات أن الشيطان عاص لله ورابعها أنه لما كان عاصياً لم تجز طاعته في شيء من الأشياء وخامسها أن الاعتقاد الذي كان عليه ذلك الإنسان كان مستفاداً من طاعة الشيطان ومن شأن الدلالة التي تورد على الخصم أن تكون مركبة من مقدمات معلومات مسلمة ولعل أبا إبراهيم كان منازعاً في كل هذه المقدمات وكيف والمحكى عنه أنه ما كان يثبت إلهاً سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الإله الرحمن وإذا لم يسلم وجوده فكيف يمكنه تسليم أن الشيطان كان عاصياً للرحمن ثم إن على تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرد هذا الكلام أن مذهبه مقتبس من الشيطان بل لعله يقلب ذلك على خصمه قلنا الحجة المعول عليها في إبطال مذهب آزر هو الذي ذكره أولاً من قوله لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً فأما هذا الكلام فيجري مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة وعلى هذا التقدير يسقط السؤال النوع الرابع قوله عَصِيّاً ياأَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قال الفراء معنى أخاف أعلم والأكثرون على أنه محمول على ظاهره والقول الأول إنما يصح لو كان إبراهيم عليه السلام عالماً بأن أباه سيموت على ذلك الكفر وذلك لم يثبت فوجب إجراؤه على ظاهره فإنه كان يجوز أن يؤمن فيصير من أهل الثواب ويجوز أن يصر فيموت على الكفر فيكون من أهل العقاب ومن كان كذلك كان خائفاً لا قاطعاً واعلم أن من يظن وصول الضرر إلى غيره فإنه لا يسمى خائفاً إلا إذا كان بحيث يلزم من وصول ذلك الضرر إليه تألم قلبه كما يقال أنا خائف على ولدي أما قوله فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً فذكروا في الولي وجوهاً أحدها أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار والولاية سبب للمعية وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز وإن لم يجز حمله الى الولاية الحقيقية لقوله تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) وقال ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وحكى عن الشيطان أنه يقول لهم إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ( إبراهيم 22 ) واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا كان المراد من العذاب عذاب الآخرة أما إذا كان المراد منه عذاب الدنيا فالإشكال ساقط وثانيها أن يحمل العذاب على الخذلان أي إني أخاف أن يمسك خذلان الله فتصير موالياً للشيطان ويبرأ الله منك على ما قال تعالى وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ( النساء 119 ) وثالثها ولياً أي تالياً للشيطان تليه كما يسمى المطر الذي يأتي تالياً ولياً فإن قيل قوله أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً يقتضي أن تكون ولاية الشيطان أسوأ حالاً من العذاب نفسه وأعظم فما السبب لذلك ( والجواب ) أن رضوان الله تعالى أعظم من الثواب على ما قال(21/193)
وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( التوبة 72 ) فوجب أن تكون ولاية الشيطان التي هي في مقابلة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمره باتباعه في النظر والاستدلال وترك التقليد ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي ثم إنه عليه السلام أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللطف والرفق فإن قوله في مقدمة كل كلام يا أبت دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب وختم الكلام بقوله إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ وذلك يدل على شدة تعلق قلبه بمصالحه وإنما فعل ذلك لوجوه أحدها قضاء لحق الأبوة على ما قال تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) والإرشاد إلى الدين من أعظم أنواع الإحسان فإذا انضاف إليه رعاية الأدب والرفق كان ذلك نوراً على نور وثانيها أن الهادي إلى الحق لا بد وأن يكون رفيقاً لطيفاً يورد الكلام لا على سبيل العنف لأن إيراده على سبيل العنف يصير كالسبب في إعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعياً في الإغواء وثالثها ما روى أبو هريرة أنه قال عليه السلام ( أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام أنك خليلي فحسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأن أسكنه حظيرة قدسي وأدنيه من جواري ) والله أعلم
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا
اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما دعا أباه إلى التوحيد وذكر الدلالة على فساد عبادة الأوثان وأردف تلك الدلالة بالوعظ البليغ وأورد كل ذلك مقروناً باللطف والرفق قابله أبوه بجواب يضاد ذلك فقابل حجته بالتقليد فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا قوله أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ فأصر على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم وقابل رفقه في قوله يا أبت ( مريم 44 ) بالعنف حيث لم يقل له يا بني بل قال ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ وإنما حكى الله تعالى ذلك لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين فيعلم أن الجهال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة أما قوله أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ فإن كان ذلك على وجه الاستفهام فهو خذلان لأنه قد عرف منه ما تكرر منه من وعظه وتنبيهه على الدلالة وهو يفيد أنه راغب عن ذلك أشد رغبة فما فائدة هذا القول وإن كان ذلك على سبيل التعجب فأي تعجب في الإعراض عن حجة لا فائدة فيها وإنما التعجب كله من الإقدام على عبادتها فإن الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام كما أنه يبطل جواز عبادتها فهو يفيد التعجب من أن العاقل كيف يرضى(21/194)
بعبادتها فكأن أباه قابل ذلك التعجب الظاهر المبني على الدليل بتعجب فاسد غير مبني على دليل وشبهة ولا شك أن هذا التعجب جدير بأن يتعجب منه أما قوله لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً ففيه مسائل
المسألة الأولى في الرجم ههنا قولان الأول أنه الرجم باللسان وهو الشتم والذم ومنه قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( النور 4 ) أي بالشتم ومنه الرجم أي المرمي باللعن قال مجاهد الرجم في القرآن كله بمعنى الشتم والثاني أنه الرجم باليد وعلى هذا التقدير ذكروا وجوهاً أحدها لأرجمنك بإظهار أمرك للناس ليرجموك ويقتلوك وثانيها لأرجمنك بالحجارة لتتباعد عني وثالثها عن المؤرج لأقتلنك بلغة قريش ورابعها قال أبو مسلم لأرجمنك المراد منه الرجم بالحجارة إلا أنه قد يقال ذلك في معنى الطرد والإبعاد اتساعاً ويدل على أنه أراد الطرد قوله تعالى وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً واعلم أن أصل الرجم هو الرمي بالرجام فحمله عليه أولى فإن قيل أفما يدل قوله تعالى وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً على أن المراد به الرجم بالشتم قلنا لا وذلك لأنه هدده بالرجم إن بقي على قربه منه وأمره أن يبعد هرباً من ذلك فهو في معنى قوله وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً
المسألة الثانية في قوله تعالى وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً قولان أحدهما المراد واهجرني بالقول والثاني بالمفارقة في الدار والبلد وهي هجرة الرسول والمؤمنين أي تباعد عني لكي لا أراك وهذا الثاني أقرب إلى الظاهر
المسألة الثالثة في قوله مَلِيّاً قولان الأول ملياً أي مدة بعيدة مأخوذ من قولهم أتى على فلان ملاوة من الدهر أي زمان بعيد والثاني ملياً بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح يقال فلان ملي بكذا إذا كان مطيقاً له مضطلعاً به
المسألة الرابعة عطف اهجرني على معطوف عليه محذوف يدل عليه لأرجمنك أي فاحذرني واهجرني لئلا أرجمنك ثم إن إبراهيم عليه السلام لما سمع من أبيه ذلك أجاب عن أمرين أحدهما أنه وعده التباعد منه وذلك لأن أباه لما أمره بالتباعد أظهر الإنقياد لذلك الأمر وقوله سَلَامٌ عَلَيْكَ توادع ومتاركة كقوله تعالى لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( القصص 55 ) وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج وعلى أنه تحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له ألا ترى أنه وعده بالاستغفار ثم إنه لما ودع أباه بقوله سَلَامٌ عَلَيْكَ ضم إلى ذلك ما دل به على أنه وإن بعد عنه فاشفاقه باق عليه كما كان وهو قوله سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي واحتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء وتقريره أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز لأنه استغفر لأبيه وهو كافر والاستغفار للكافر لا يجوز فثبت بمجموع هذه المقدمات أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز إنما قلنا إنه استغفر لأبيه لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي وقوله وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ ( الشعراء 86 ) وأما أن أباه كان كافراً فذاك بنص القرآن وبالإجماع وأما أن الاستغفار للكافر لا يجوز فلوجهين الأول قوله تعالى مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( التوبة 113 ) الثاني قوله في سورة الممتحنة قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْراهِيمَ(21/195)
إلى قوله لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وأمر الناس إلا في هذا الفعل فوجب أن يكون ذلك معصية منه ( والجواب ) لا نزاع إلا في قولكم الاستغفار للكافر لا يجوز فإن الكلام عليه من وجوه أحدها أن القطع على أن الله تعالى يعذب الكافر لا يعرف إلا بالسمع فلعل إبراهيم عليه السلام لم يجد في شرعه ما يدل على القطع بعذاب الكافر فلا جرم استغفر لأبيه وثانيها أن الاستغفار قد يكون بمعنى الاستماحة كما في قوله قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) والمعنى سأسأل ربي أن لا يجزيك بكفرك ما كنت حياً بعذاب الدنيا المعجل وثالثها أنه عليه السلام إنما استغفر لأبيه لأنه كان يرجو منه الإيمان فلما أيس من ذلك ترك الاستغفار ولعل في شرعه جواز الاستغفار للكافر الذي يرجي منه الإيمان والدليل على وقوع هذا الاحتمال قوله تعالى مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( التوبة 113 ) فبين أن المنع من الاستغفار إنما يحصل بعد أن يعرفوا أنهم من أصحاب الجحيم ثم قال بعد ذلك وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) فدلت الآية على أنه وعده بالاستغفار لو آمن فلما لم يؤمن لم يستغفر له بل تبرأ منه فإن قيل فإذا كان الأمر كذلك فلم منعنا من التأسي به في قوله قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْراهِيمَ إلى قوله إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة ) قلنا الآية تدل على أنه لا يجوز لنا التأسي به في ذلك لكن المنع من التأسي به في ذلك لا يدل على أن ذلك كان معصية فإن كثيراً من الأشياء هي من خواص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يجوز لنا التأسي به مع أنها كانت مباحة له عليه السلام ورابعها لعل هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى وحسنات الأبرار سيئآت المقربين أما قوله إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً أي لطيفاً رفيقاً يقال أحفى فلان في المسألة بفلان إذا لطف به وبالغ في الرفق ومنه قوله تعالى ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ ( محمد 37 ) أي وإن لطفت المسألة والمراد أنه سبحانه للطفه بي وإنعامه على عودني الإجابة فإذا أنا استغفرت لك حصل المراد فكأنه جعله بذلك على يقين إن هو تاب أن يحصل له الغفران ( الجواب الثاني ) من الجوابين قوله وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ الاعتزال للشيء هو التباعد عنه والمراد أني أفارقكم في المكان وأفارقكم في طريقتكم أيضاً وأبعد عنكم وأتشاغل بعبادة ربي الذي ينفع ويضر والذي خلقني وأنعم علي فإنكم بعبادة الأصنام سالكون طريقة الهلاك فواجب على مجانبتكم ومعنى قوله عَسَى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا أرجو أن لا أكون كذلك وإنما ذكر ذلك على سبيل التواضع كقوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) وأما قوله شَقِيّاً مع ما فيه من التواضع لله ففيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم على ما قرره أولاً في قوله لَمْ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً(21/196)
اعلم أنه ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم عليه السلام لما اعتزلهم في دينهم وفي بلدهم واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره لم يضره ذلك ديناً ودنيا بل نفعه فعوضه أولاداً أنبياء ولا حالة في الدين والدنيا للبشر أرفع من أن يجعل الله له رسولاً إلى خلقه ويلزم الخلق طاعته والإنقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة فصار جعله تعالى إياهم أنبياء من أعظم النعم في الدنيا والآخرة ثم بين تعالى أنه مع ذلك وهب لهم من رحمته أي وهب لهم من النبوة ما وهب ويدخل فيه المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة ثم قال وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ولسان الصدق الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يعطي باليد وهو العطية واستجاب الله دعوته في قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم وقال عز وجل مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ( الحج 78 ) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 ) قال بعضهم إن الخليل اعتزل عن الخلق على ما قال وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( مريم 48 ) فلا جرم بارك الله في أولاده فقال وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وثانيها أنه تبرأ من أبيه في الله تعالى على ما قال فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ ( التوبة 114 ) لا جرم أن الله سماه أباً للمسلمين فقال مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وثالثها تل ولده للجبين ليذبحه على ما قال فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( الصافات 103 ) لا جرم فداه الله تعالى على ما قال وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( الصافات 107 ) ورابعها أسلم نفسه فقال أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) فجعل الله تعالى النار عليه برداً وسلاماً فقال قُلْنَا ياذَا نَّارٍ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ ( الأنبياء 69 ) وخامسها أشفق على هذه الأمة فقال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ ( البقرة 129 ) لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات الخمس كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وسادسها في حق سارة في قوله وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى ( النجم 37 ) لا جرم جعل موطىء قدميه مباركاً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ( البقرة 125 ) وسابعها عادى كل الخلق في الله فقال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 ) لا جرم اتخذه الله خليلاً على ما قال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) ليعلم صحة قولنا أنه ما خسر على الله أحد
( القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام )
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاٌّ يْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً
اعلم أنه تعالى وصف موسى عليه السلام بأمور أحدها أنه كان مخلصاً فإذا قرىء بفتح اللام فهو من الإصطفاء والإختباء كأن الله تعالى اصطفاه واستخلصه وإذا قرىء بالكسر فمعناه أخلص لله في التوحيد في العبادة والإخلاص هو القصد في العبادة إلى أن يعبد المعبود بها وحده ومتى ورد القرآن بقراءتين فكل واحدة منهما ثابت مقطوع به فجعل الله تعالى من صفة موسى عليه السلام كلا الأمرين وثانيها كونه(21/197)
رسولاً نبياً ولا شك أنهما وصفان مختلفان لكن المعتزلة زعموا كونهما متلازمين فكل رسول نبي وكل نبي رسول ومن الناس من أنكر ذلك وقد بينا الكلام فيه في سورة الحج في قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ ( الحج 52 ) وثالثها قوله تعالى وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ من اليمين أي من ناحية اليمين والأيمن صفة الطور أو الجانب ورابعها قوله وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ولما ذكر كونه رسولاً قال وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وفي قوله قربناه قولان أحدهما المراد قرب المكان عن أبي العالية قربه حتى سمع صرير القلم حيث كتبت التوراة في الألواح والثاني قرب المنزلة أي رفعنا قدره وشرفناه بالمناجاة قال القاضي وهذا أقرب لأن استعمال القرب في الله قد صار بالتعارف لا يراد به إلا المنزلة وعلى هذا الوجه يقال في العبادة تقرب ويقال في الملائكة عليهم السلام إنهم مقربون وأما وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً فقيل فيه أنجيناه من أعدائه وقيل هو من المناجاة في المخاطبة وهو أولى وخامسها قوله وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً قال ابن عباس رضي الله عنهما كان هرون عليه السلام أكبر من موسى عليهما السلام وإنما وهب الله له نبوته لا شخصه وأخوته وذلك إجابة لدعائه في قوله وَاجْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هَارُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى ( طه 29 30 31 ) فأجابه الله تعالى إليه بقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 36 ) وقوله سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ
( القصة الخامسة قصة إسمعيل عليه السلام )
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً
اعلم أن إسمعيل هذا هو إسمعيل بن إبراهيم عليهما السلام واعلم أن الله تعالى وصف إسماعيل عليه السلام بأشياء أولها قوله إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وهذا الوعد يمكن أن يكون المراد فيما بينه وبين الله تعالى ويمكن أن يكون المراد فيما بينه وبين الناس أما الأول فهو أن يكون المراد أنه كان لا يخالف شيئاً مما يؤمر به من طاعة ربه وذلك لأن الله تعالى إذا أرسل الملك إلى الأنبياء وأمرهم بتأدية الشرع فلا بد من ظهور وعد منهم يقتضي القيام بذلك ويدل على القيام بسائر ما يخصه من العبادة وأما الثاني فهو أنه عليه السلام كان إذا وعد الناس بشيء أنجز وعده فالله تعالى وصفه بهذا الخلق الشريف وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه وعد صاحباً له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة وأيضاً وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى به حيث قال سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( الصافات 102 ) ويروى أن عيسى عليه السلام قال له رجل انتظرني حتى آتيك فقال عيسى عليه السلام نعم وانطلق الرجل ونسي الميعاد فجاء لحاجة إلى ذلك المكان وعيسى عليه السلام هنالك للميعاد وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه واعد رجلاً ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى قريب من غروب الشمس ) وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاداً إلى أي وقت ينتظره فقال إن(21/198)
واعده نهاراً فكل النهار وإن واعده ليلاً فكل الليل وسئل إبراهيم بن زيد عن ذلك فقال إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى وثانيها قوله وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وقد مر تفسيره وثالثها قوله وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ والأقرب في الأهل أن المراد به من يلزمه أن يؤدي إليه الشرع فيدخل فيه كل أمته من حيث لزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة هذا إذا حمل الأمر على المفروض من الصلاة والزكاة فإن حمل على الندب فيهما كان المراد أنه كما كان يتهجد بالليل يأمر أهله أي من كان في داره في ذلك الوقت بذلك وكان نظره لهم في الدين يغلب على شفقته عليهم في الدنيا بخلاف ما عليه أكثر الناس وقيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال تعالى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ( طه 132 ) قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ( التحريم 6 ) وأيضاً فهم أحق أن يتصدق عليهم فوجب أن يكونوا بالإحسان الديني أولى فأما الزكاة فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها طاعة الله تعالى والاخلاص فكأنه تأوله على ما يزكو به الفاعل عند ربه والظاهر أنه إذا قرنت الزكاة إلى الصلاة أن يراد بها الصدقات الواجبة وكان يعرف من خاصة أهله أن يلزمهم الزكاة فيأمرهم بذلك أو يأمرهم أن يتبرعوا بالصدقات على الفقراء ورابعها قوله وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً وهو في نهاية المدح لأن المرضى عند الله هو الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات
( القصة السادسة قصة إدريس عليه السلام )
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً
اعلم أن إدريس عليه السلام هو جد أبي نوح عليه السلام وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ قيل سمي إدريس لكثرة دراسته واسمه أخنوخ ووصفه الله تعالى بأمور أحدها أنه كان صديقاً وثانيها أنه كان نبياً وقد تقدم القول فيهما وثالثها قوله وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً وفيه قولان أحدهما أنه من رفعة المنزلة كقوله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ( الشرح 4 ) فإن الله تعالى شرفه بالنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود الثاني أن المراد به الرفعة في المكان إلى موضع عال وهذا أولى لأن الرفعة المقرونة بالمكان تكون رفعة في المكان لا في الدرجة ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الله رفعه إلى السماء وإلى الجنة وهو حي لم يمت وقال آخرون بل رفع إلى السماء وقبض روحه سأل ابن عباس رضي الله عنهما كعباً عن قوله وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً قال جاءه خليل له من الملائكة فسأله حتى يكلم ملك الموت حتى يؤخر قبض روحه فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به إلى السماء فلما كان في السماء الرابعة فإذا ملك الموت يقول بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة وأنا أقول كيف ذلك وهو في الأرض فالتفت إدريس فرآه ملك الموت فقبض روحه هناك واعلم أن الله تعالى إنما مدحه بأن رفعه إلى السماء لأنه جرت العادة أن لا يرفع إليها إلا من كان عظيم القدر والمنزلة ولذلك قال في حق الملائكة وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) وههنا آخر القصص(21/199)
أُولَائِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّة ِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّة ِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَاءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً
اعلم أنه تعالى أثنى على كل واحد ممن تقدم ذكره من الأنبياء بما يخصه من الثناء ثم جمعهم آخراً فقال أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم أي بالنبوة وغيرها مما تقدم وصفه وأولئك إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس ثم جمعهم في كونهم من ذرية آدم ثم خص بعضهم بأنه من ذرية من حمل مع نوح والذي يختص بأنه من ذرية آدم دون من حمل مع نوح هو إدريس عليه السلام فقد كان سابقاً على نوح على ما ثبت في الأخبار والذين هم من ذرية من حمل مع نوح هو إبراهيم عليه السلام لأنه من ولد سام بن نوح وإسمعيل وإسحق ويعقوب من ذرية إبراهيم ثم خص بعضهم بأنهم من ولد إسرائيل أي يعقوب وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من قبل الأم فرتب الله سبحانه وتعالى أحوال الأنبياء عليهم السلام الذين ذكرهم على هذا الترتيب منبهاً بذلك على أنهم كما فضلوا بأعمالهم فلهم مزيد في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء ثم بين أنهم ممن هدينا واجتبينا منبهاً بذلك على أنهم اختصوا بهذه المنازل لهداية الله تعالى لهم ولأنه اختارهم للرسالة ثم قال أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّيْنَ مِن تتلى عليهم أي على هؤلاء الأنبياء فبين تعالى أنهم مع نعم الله عليهم قد بلغوا الحد الذي عند تلاوة آيات الله يخرون سجداً وبكياً خضوعاً وخشوعاً وحذراً وخوفاً والمراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم وقال أبو مسلم المراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب المنزل بالكفار وهو بعيد لأن سائر الأيات التي فيها ذكر الجنة والنار إلى غير ذلك أولى أن يسجدوا عنده ويبكوا فيجب حمله على كل آية تتلى مما يتضمن الوعد والوعيد والترغيب والترهيب لأن كل ذلك إذا فكر فيه المتفكر صح أن يسجد عنده وأن يبكي واختلفوا فقال بعضهم في السجود إنه الصلاة وقال بعضهم المراد سجود التلاوة على حسب ما تعبدنا به وقيل المراد الخضوع والخشوع والظاهر يقتضي سجوداً مخصوصاً عند التلاوة ثم يحتمل أن يكون المراد سجود التلاوة للقرآن ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بالسجود فيفعلون ذلك لا لأجل ذكر السجود في الآية قال الزجاج في بكياً جمع باك مثل شاهد وشهود وقاعد وقعود ثم قال الإنسان في حال خروره لا يكون ساجداً فالمراد خروا مقدرين للسجود ومن قال في بكياً إنه مصدر فقد أخطأ لأن سجداً جمع ساجد وبكياً معطوف عليه وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتلو القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ) وعن صالح المري قال قرأت القرآن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام فقال لي يا صالح هذه القراءة فأين البكاء وعن ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( القرآن نزل بحزن فاقرأوه بحزن ) وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما اغرورقت عين به بماء إلا حرم الله على النار جسدها ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه ( لا يلج النار من بكى من خشية الله ) وقال العلماء يدعو في سجود التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين(21/200)
بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك وإن قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وإن قرأ هذه السجدة قال اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آيات كتابك
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواة َ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً
اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الأنبياء بصفات المدح ترغيباً لنا في التأسي بطريقتهم ذكر بعدهم من هو بالضد منهم فقال فخلف من بعدهم خلف وظاهر الكلام أن المراد من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم يقال خلفه إذا أعقبه ثم قيل في عقب الخبر خلف بفتح اللام وفي عقب الشر خلف بالسكون كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر وفي الحديث ( في الله خلف من كل هالك ) وفي الشعر للبيد ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ثم وصفهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات فإضاعة الصلاة في مقابلة قوله خَرُّواْ سُجَّداً ( السجدة 15 ) واتباع الشهوات في مقابلة قوله وَبُكِيّاً لأن بكاءهم يدل على خوفهم واتباع هؤلاء لشهواتهم يدل على عدم الخوف لهم وظاهر قوله فَخَلَفَ مِن تركوها لكن تركها قد يكون بأن لا تفعل أصلاً وقد يكون بأن لا تفعل في وقتها وإن كان الأظهر هو الأول وأما اتباع الشهوات فقال ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب واحتج بعضهم بقوله إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ على أن تارك الصلاة كافر واحتج أصحابنا بها في أن الإيمان غير العمل لأنه تعالى قال وَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً فعطف العمل على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه أجاب الكعبي عنه بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما وهذا الجواب ضعيف لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي وقوع المغايرة بينهما لأن التوبة عزم على الترك والإيمان إقرار بالله تعالى وهما متغايران فكذا في هذه الصورة ثم بين تعالى أن من هذه صفته يَلْقُونَ غَيّاً وذكروا في الغي وجوهاً أحدها أن كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد قال الشاعر فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وثانيها قال الزجاج يَلْقُونَ غَيّاً أي يلقون جزاء الغي كقوله تعالى يَلْقَ أَثَاماً ( الفرقان 68 ) أي مجازاة الآثام وثالثها غياً عن طريق الجنة ورابعها الغي واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها والوجهان الأولان أقرب فإن كان في جهنم موضع يسمى بذلك جاز ولا يخرج من أن يكون المراد ما قدمنا لأنه المعقول في اللغة ثم بين سبحانه أن هذا الوعيد فيمن لم يتب وأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فلهم الجنة لا(21/201)
يلحقهم ظلم وههنا سؤالان الأول الاستثناء دل على أنه لا بد من التوبة والإيمان والعمل الصالح وليس الأمر كذلك لأن من تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإنه لا يجب عليها الصلاة والزكاة أيضاً غير واجبة وكذا الصوم فههنا لو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح و ( الجواب ) أن هذه الصورة نادرة والمراد منه الغالب السؤال الثاني قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً هذا إنما يصح لو كان الثواب مستحقاً على العمل لأنه لو كان الكل بالتفضل لاستحال حصول الظلم لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد ( الجواب ) أنه لما أشبهه أجرى على حكمه
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً تِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر في التائب أنه يدخل الجنة وصف الجنة بأمور أحدها قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ والعدن الإقامة وصفها بالدوام على خلاف حال الجنان في الدنيا التي لا تدوم ولذلك فإن حالها لا يتغير في مناظرها فليست كجنان الدنيا التي حالها يختلف في خضرة الورق وظهور النور والثمر وبين تعالى أنها وعد الرحمن لعباده وأما قوله بِالْغَيْبِ ففيه وجهان أحدهما أنه تعالى وعد ( هم إيا ) ها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها والثاني أن المراد وعد الرحمن للذين يكونون عباداً بالغيب أي الذين يعبدونه في السر بخلاف المنافقين فإنهم يعبدونه في الظاهر ولا يعبدونه في السر وهو قول أبي مسلم والوجه الأول أقوى لأنه تعالى بين أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد حاصل لذلك قال بعده إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً أما قوله مَأْتِيّاً فقيل إنه مفعول بمعنى فاعل والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها قال الزجاج كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه وما أتاك فقد أتيته والمقصود من قوله إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً بيان أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد وحاصل والمراد تقرير ذلك في القلوب وثانيها قوله لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً ( مريم 62 ) واللغو من الكلام ما سبيله أن يلغي ويطرح وهو المنكر من القول ونظيره قوله لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً ( الغاشية 11 ) وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو حيث نزه الله تعالى عنه الدار التي لا تكليف فيها وما أحسن قوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( القصص 55 ) أما قوله إِلاَّ سَلَاماً ففيه بحثان
البحث الأول أن فيه إشكالاً وهو أن السلام ليس من جنس اللغو فكيف استثنى السلام من اللغو والجواب عنه من وجوه أحدها أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة وأهل الجنة لا حاجة بهم إلى هذا الدعاء فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام وثانيها أن يحمل ذلك على الاستثناء المنقطع وثالثها أن يكون هذا من جنس قول الشاعر(21/202)
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
البحث الثاني أن ذلك السلام يحتمل أن يكون من سلام بعضهم على بعض أو من تسليم الملائكة أو من تسليم الله تعالى على ما قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) وقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ورابعها قوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً وفيه سؤالان السؤال الأول أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة ( والجواب ) من وجهين الأول قال الحسن أراد الله تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ولذلك ذكر أساور من الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة وكانت من عادة أشراف العرب في اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك الثاني أن المراد دوام الرزق كما تقول أنا عند فلان صباحاً ومساء وبكرة وعشياً تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين السؤال الثاني قال تعالى لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) وقال عليه السلام ( لا صباح عند ربك ولا مساء ) والبكرة والعشي لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء ( والجواب ) المراد أنهم يأكلون عند مقدار الغداة والعشي إلا أنه ليس في الجنة غدوة وعشي إذ لا ليل فيها ويحتمل ما قيل إنه تعالى جعل لقدر اليوم علامة يعرفون بها مقادير الغداة والعشي ويحتمل أن يكون المراد لهم رزقهم متى شاءوا كما جرت العادة في الغداة والعشي وخامسها قوله تِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً وفيه أبحاث الأول قوله تِلْكَ الْجَنَّة ُ هذه الإشارة إنما صحت لأن الجنة غائبة وثانيها ذكروا في نورث وجوهاً الأول نورث استعارة أي نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال المورث الثاني أن المراد أنا ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل هذا النقل إرثاً قاله الحسن الثالث أن الإتقياء يلقون ربهم يوم القيامة وقد انقضت أعمالهم وثمراتها باقية وهي الجنة فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يرث الوارث المال من المتوفى ورابعها معنى من كان تقياً من تمسك باتقاء معاصيه وجعله عادته واتقى ترك الواجبات قال القاضي فيه دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقياً والفاسق المرتكب للكبائر لا يوصف بذلك ( والجواب ) الآية تدل على أن المتقي يدخلها وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضاً فصاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من مفهوم قولنا المتقي عن الكفر وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل تحته فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذالِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَّبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً(21/203)
اعلم أن في الآية إشكالاً وهو أو قوله تِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ( مريم 63 ) كلام الله وقوله وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل ( والجواب ) أنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كما أن قوله سبحانه إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( البقرة 117 ) هو كلام الله وقوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ ( آل عمران 51 ) كلام غير الله وأحدهما معطوف على الآخر واعلم أن ظاهر قوله تعالى وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ خطاب جماعة لواحد وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول ويحتمل في سببه ما روي أن قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهل يجدونه في كتابهم فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه قوالت اليهود نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن فإن أخبركم بخصلتين منهما فاتبعوه فاسألوه عن فتية أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح قال فجاءوا فسألوه عن ذلك لم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم بعد ذلك ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً فشق عليه ذلك مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه فنزل جبريل عليه السلام فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك قال إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 ) وسورة الضحى ثم أكدوا ذلك بقولهم لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل وما بينهما أو الدنيا والآخرة وما بينهما فإنه يعلم إصلاح التدبير مستقبلاً وماضياً وما بينهما والغرض أن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته وحكمته لا اعتراض لأحد عليه فيه وقال أبو مسلم قوله وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ يجوز أن يكون قول أهل الجنة والمراد وما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا أي في الجنة مستقبلاً وما خلفنا مما كان في الدنيا وما بين ذلك أي ما بين الوقتين وما كان ربك نسياً لشيء مما خلق فيترك إعادته لأنه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة وقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويتصل به رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي بل هو رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ قال القاضي وهذا مخالف للظاهر من وجوه أحدها أن ظاهر التنزل نزول الملائكة إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لقوله بأمر ربك وظاهر والأمر بحال التكليف أليق وثانيها أنه خطاب من جماعة لواحد وذلك لا يليق بمخاطبة بعضهم لبعض في الجنة وثالثها أن ما في سياقه من قوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لا يليق إلا بحال التكليف ولا يوصف به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فكأنهم قالوا للرسول وما كان ربك يا محمد نسياً يجوز عليه السهو حتى يضرك إبطاؤنا بالتنزل عليك إلى مثل ذلك ثم ههنا أبحاث
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) التنزل على معنيين أحدهما النزول على مهل والثاني بمعنى النزول على الإطلاق والدليل عليه أنه مطاوع نزل ونزل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج واللائق بمثل هذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت ليس إلا بأمر الله تعالى
البحث الثاني ذكروا في قوله مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذالِكَ وجوهاً أحدها له ما قدامنا وما خلفنا من الجهات وما نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومن مكان إلى مكان إلا بأمره ومشيئته فليس لنا أن ننقلب من السماء إلى الأرض إلا بأمره وثانيها له ما بين أيدينا ما سلف من أمر الدنيا(21/204)
وما خلفنا ما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك وما بين النفختين وهو أربعون سنة وثالثها ما مضى من أعمارنا وما غبر من ذلك والحال التي نحن فيها ورابعها ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا وخامسها الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وعلى كل التقديرات فالمقصود أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة فكيف نقدم على فعل إلا بأمره وحكمه
البحث الثالث قوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً أي تاركاً لك كقوله مَا وَعْدَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ( الضحى 3 ) أي ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك أما قوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فالمراد أن من يكون رباً لها أجمع لا يجوز عليه النسيان إذ لا بد من أن يمسكها حالاً بعد حال وإلا بطل الأمر فيهما وفيمن يتصرف فيهما واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأن فعل العبد حاصل بين السماء والأرض والآية دالة على أنه رب لكل شيء حصل بينهما قال صاحب ( الكشاف ) رب السموات والأرض بدل من ربك ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته فهو أمر للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف في الأداء والإبلاغ وفيما يخصه من العبادة فإن قيل لم لم يقل واصطبر على عبادته بل قال واصطبر لعبادته قلنا لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته ( والمعنى ) أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها ولا تهن ولا يضق صدرك من إلقاء أهل الكتاب إليك الأغاليط عن احتباس الوحي عنك مدة وشماتة المشركين بك أما قوله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً فالظاهر يدل على أنه تعالى جعل علة الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سمي له والأقرب هو كونه منعماً بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه فإذا كان هو قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة ومن الناس من قال المراد أنه سبحانه ليس له شريك في اسمه وبينوا ذلك من وجهين الأول أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله على شيء سواه وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يسمى بالرحمن غيره الثاني هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتد بها كلا تسمية والقول الأول هو الصواب والله أعلم
وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَة ٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً(21/205)
اعلم أنه تعالى لما أمر بالعبادة والمصابرة عليها فكأن سائلاً سأل وقال هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا وأما في الآخرة فقد أنكرها قوم فلا بد من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى يظهر أن الاشتغال بالعبادة مفيد فلهذا حكى الله تعالى قول منكري الحشر فقال وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً وإما قالوا ذلك على وجه الإنكار والاستبعاد وذكروا في الإنسان وجهين أحدهما أن يكون المراد الجنس بأسره فإن قيل كلهم غير قائلين بذلك فكيف يصح هذا القول قلنا الجواب من وجهين الأول أن هذه المقالة لما كانت موجودة فيما هو من جنسهم صح إسنادها إلى جميعهم كما يقال بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتل رجل منهم والثاني أن هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلا أن بعضهم ترك ذلك الاستبعاد المبني على محض الطبع بالدلالة القاطعة التي قامت على صحة القول به الثاني أن المراد بالإنسان شخص معين فقيل هو أبو جهل وقيل هو أبي بن خلف وقيل المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث ثم إن الله تعالى أقام الدلالة على صحة البعث بقوله أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً والقراء كلهم على يُذْكَرِ بالتشديد إلا نافعاً وابن عامر وعاصماً فقد خففوا أي أو لا يتذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل وإذا قرىء أو لا يذكر فهو أقرب إلى المراد إذ الغرض التفكر والنظر في أنه إذا خلق من قبل لا من شيء فجائز أن يعاد ثانياً قال بعض العلماء لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً ونظيره قوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( يس 79 ) وقوله وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء وهو ضعيف لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض وهذا المجموع ما كان شيئاً ولكن لم قلت إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئاً قبل كونه موجوداً فإن قيل كيف أمر تعالى الإنسان بالذكر مع أن الذكر هو العلم بما قد علمه من قبل ثم تخللهما سهو قلنا المراد أو لا يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرىء أو لا يذكر الإنسان بالتشديد أما إذا قرىء أو لا يذكر بالتخفيف فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأن كل أحد يعلم أنه لم يكن حياً في الدنيا ثم صار حياً ثم إنه سبحانه لما قرر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه أحدها قوله فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ وفائدة القسم أمران أحدهما أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين والثاني أن في إقسام الله تعالى باسمه مضافاً إلى اسم رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) تفخيم لشأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ورفع منه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله فَوَرَبّ السَّمَاء وَالاْرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ( الذاريات 23 ) والواو في الشَّياطِينِ ويجوز أن تكون للعطف وأن تكون بمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة وثانيها قوله ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً وهذا الإحضار يكون قبل إدخالهم جهنم ثم إنه تعالى يحضرهم على أذل صورة لقوله تعالى جِثِيّاً لأن البارك على ركبتيه صورته صورة الذليل أو صورته صورة العاجز فإن قيل هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى وَتَرَى كُلَّ أُمَّة ٍ جَاثِيَة ً ( الجاثية 28 ) والسبب فيه جريان العادة أن الناس في مواقف المطالبات من الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من الاستنظار والقلق أو لما يدهمهم من شدة الأمر الذي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم وإذا كان هذا عاماً للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار قلنا لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه الحالة وذلك(21/206)
يوجب مزيد الذل في حقهم وثالثها قوله ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَة ٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً والمراد بالشيعة وهي فعلة كفرقة وفئة الطائفة التي شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا ( الأنعام 159 ) والمراد أنه تعالى يحضرهم أولا حول جهنم جثياً ثم يميز البعض من البعض فمن كان أشدهم تمرداً في كفره خص بعذاب أعظم لأن عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد وليس عذاب من يورد الشبه في الباطل كعذاب من يقتدي به مع الغفلة قال تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ( النحل 88 ) وقال وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( العنكبوت 13 ) فبين تعالى أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتواً وأشد تمرداً ليعلم أن عذابه أشد ففائدة هذه التمييز التخصيص بشدة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب فلذلك قال في جميعهم ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ولا يقال أولى إلا مع اشتراك القوم في العذاب واختلفوا في إعراب أيهم فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية تقديره لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد وسيبويه على أنه مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلة حتى لو جيء به لأعرب وقيل أيهم هو أشد
وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً
واعلم أنه تعالى لما قال من قبل فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثم قال ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ ( مريم 68 ) أردفه بقوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا يعني جهنم واختلفوا فقال بعضهم المراد من تقدم ذكره من الكفار فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة قالوا إنه لا يجوز للمؤمنين أن يردوا النار ويدل عليه أمور أحدها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها والثاني قوله لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا ( الأنبياء 102 ) ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها وثالثها قوله وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ ( النحل 89 ) وقال الأكثرون إنه عام في كل مؤمن وكافر لقوله تعالى وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا فلم يخص وهذا الخطاب مبتدأ مخالف للخطاب الأول ويدل عليه قوله ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ أي من الواردين من اتقى ولا يجوز أن يقال ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول ثم هؤلاء اختلفوا في تفسير الورود فقال بعضهم الورود الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها وهو موضع المحاسبة واحتجوا على أن الورود قد يراد به القرب بقوله تعالى فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ ( يوسف 19 ) ومعلوم أن ذلك الوارد ما دخل الماء وقال تعالى وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّة ً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ( القصص 23 ) وأراد به القرب ويقال وردت القافلة البلدة وإن لم تدخلها فعلى هذا معنى الآية أن الجن والإنس يحضرون حول(21/207)
جهنم كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ( مريم 71 ) أي واجباً مفروغاً منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم وهو المراد من قوله تعالى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) ومما يؤكد هذا القول ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية فقالت حفصة أليس الله يقول وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا فقال عليه السلام فمه ثم ننجي الذين اتقوا ) ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً القول الثاني أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( الأنبياء 98 ) وقال فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ ( هود 98 ) ويدل عليه قوله تعالى الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريباً فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار ثم إنه تعالى يبعدهم عنها ويدل عليه قوله تعالى وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة قال ( أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور فقال عليه السلام يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا ) وذلك يدل على أن ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما أنكر عليه في ذلك وعن جابر ( أنه سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أن للناس ضجيجاً من بردها ) والقائلون بهذا القول يقولون المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة بل مع الغبطة والسرور وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف وإيصال الغم والحزن إنما يجوز في دار التكليف ولأنه صحت الرواية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى مكانه في الجنة ويعلمه ) وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا القيامة وهم شاكون في أمرهم وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار لأنهم لا يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار فقال بعضهم البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار والكفار يكونون في وسط النار وثانيها أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم قال ابن عباس رضي الله عنهما ( يردونها كأنها إهالة ) وعن جابر بن عبد الله ( أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي خامدة ) وثالثها أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله برداً وسلاماً عليهم كما في حق إبراهيم عليه السلام وكما أن الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فكان يصير دماً ويشربه الإسرائيلي فكان يصير ماء عذباً واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين فإن قيل إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك الدخول قلنا فيه وجوه(21/208)
أحدها أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه وثانيها أن فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها وثالثها أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند الأولياء وعند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه ورابعها أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غماً للكفار وسروراً للمؤمنين وخامسها أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل فما كانوا يقبلون تلك الدلائل فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوا وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين وسادسها أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة كما قال الشاعر
وبضدها تتبين الأشياء
فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم وأيضاً فالمراد عن عذابها وكذا قوله لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا ( الأنبياء 102 ) فإن قيل هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة قلنا ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ويدل عليه أيضاً قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع فيدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها أما قوله كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً فالحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى المحتوم بالحتم كقولهم خلق الله وضرب الأسير واحتج من أوجب العقاب عقلاً فقال إن قوله كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً يدل على وجوب ما جاء من جهة الوعيد والأخبار لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الأخبار لا يسمى واجباً ( والجواب ) أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب أما قوله ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ قرىء ننجي وننجي وينجي على ما لم يسم فاعله قال القاضي الآية دالة على قولنا في الوعيد لأن الله تعالى بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو وهم المتقون والفاسق لا يكون متقياً ثم بين تعالى أن من عدا المتقين يذرهم فيها جثياً فثبت أن الفاسق يبقى في النار أبداً قال ابن عباس المتقي هو الذي اتقى الشرك بقول لا إله إلا الله واعلم أن الذي قاله ابن عباس هو الحق الذي يشهد الدليل بصحته وذلك لأن من آمن بالله وبرسله صح أن يقال إنه متق عن الشرك ومن صدق عليه أنه متق عن الشرك صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من المتقي عن الشرك ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد فثبت أن صاحب الكبيرة متق وإذا ثبت ذلك وجب أن يخرج من النار لعموم قوله ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ فصارت هذه الآية التي توهموها دليلاً من أقوى الدلائل على فساد قولهم قال القاضي وتدل الآية أيضاً على فساد قول من يقول إن من المكلفين من لا يكون في الجنة ولا في النار قلنا هذا ضعيف لأن الآية تدل على أنه تعالى ينجي الذين اتقوا وليس فيها ما يدل على أنه ينجيهم إلى الجنة ثم هب أنها تدل على ذلك ولكن الآية تدل على أن المتقين يكونون في الجنة والظالمين يبقون في النار فيبقى ههنا قسم ثالث خارج عن القسمين وهو الذي استوت طاعته ومعصيته فتسقط كل واحدة منهما بالأخرى فيبقى لا مطيعاً ولا عاصياً فهذا القسم إن بطل فإنما يبطل بشيء سوى هذه الآية فلا تكون هذه الآية دالة على الحصر الذي ادعاه ومن المعتزلة من تمسك في الوعيد بقوله وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً(21/209)
ولفظ الظالمين لفظ جمع دخل عليه حرف التعريف فيفيد العموم والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم مراراً كثيرة في هذا الكتاب أما قوله جِثِيّاً قال صاحب ( الكشاف ) قوله وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة بعد نجاتهم وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَى ُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً
اعلم أنه تعالى لما أقام الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث أتبعه بالوعيد على ما تقدم ذكره عنهم أنهم عارضوا حجة الله بكلام فقالوا لو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعداءه المعروضين عن خدمته في العز والراحة ولما كان الأمر بالعكس فإن الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والذل دل على أن الحق ليس مع المؤمنين هذا حاصل شبهتهم في هذا الباب ونظيره قوله تعالى لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون بالزينة الفاخرة ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم بقي بحثان
الأول قوله بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ يحتمل وجوهاً أحدها أنها مرتلات الألفاظ مبينات المعاني إما محكمات أو متشابهات فقد تبعها البيان بالمحكمات أو بتبيين الرسول قولاً أو فعلاً وثانيها أنها ظاهرات الإعجاز تحدى بها فما قدروا على معارضتها وثالثها المراد بكونها آيات بينات أي دلائل ظاهرة واضحة لا يتوجه عليها سؤال ولا اعتراض مثل قوله تعالى في إثبات صحة الحشر أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ( مريم 67 )
البحث الثاني قرأ ابن كثير مَقَاماً بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل والباقون بالفتح وهو موضع القيام والمراد والندى المجلس يقال ندى وناد والجمع الأندية ومنه قوله وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ( العنكبوت 29 ) وقال فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ( العلق 17 ) ويقال ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في المجلس ومنه دار الندوة بمكة وكانت مجتمع القوم ثم أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً
وتقرير هذا الجواب أن يقال إن من كان أعظم نعمة منكم في الدنيا قد أهلكهم الله تعالى وأبادهم فلو دل حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيباً لله تعالى لوجب في حبيب الله أن لا يوصل إليه غماً في الدنيا ووجب عليه أن لا يهلك أحداً من المنعمين في دار الدنيا وحيث أهلكهم دل إما على فساد المقدمة الأولى(21/210)
وهي أن من وجد الدنيا كان حبيباً لله تعالى أو على فساد المقدمة الثانية وهي أن حبيب الله لا يوصل الله إليه غماً وعلى كلا التقديرين فيفسد ما ذكرتموه من الشبهة بقي البحث عن تفسير الألفاظ فنقول أهل كل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم وهم أحسن في محل النصب صفة لكم ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية والأثاث متاع البيت أما رئياً فقرىء على خمسة أوجه لأنها إما أن تقرأ بالراء التي ليس فوقها نقطة أو بالزاي التي فوقها نقطة فأما الأول فإما أن يجمع بين الهمزة والياء أو يكتفي بالياء أما إذا جمع بين الهمزة والياء ففيه وجهان أحدهما بهمزة ساكنة بعدها ياء وهو المنظر والهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت رئياً والثاني ريئاً على القلب كقولهم راء في رأى أما إن اكتفينا بالياء فتارة بالياء المشددة على قلب الهمزة ياء والإدغام أو من الري الذي هو النعمة والترفه من قولهم ريان من النعيم والثاني بالياء على حذف الهمزة رأساً ووجهه أن يخفف المقلوب وهو ريئاً بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها وأما بالزاي المنقطة من فوق زياً فاشتقاقه من الزي وهو الجمع لأن الزي محاسن مجموعة والمعنى أحسن من هؤلاء والله أعلم
قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَة ِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَة َ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَِّقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً
اعلم أن هذا الجواب الثاني عن تلك الشبهة وتقريره لنفرض أن هذا الضال المتنعم في الدنيا قد مد الله في أجله وأمهله مدة مديدة حتى ينضم إلى النعمة العظيمة المدة الطويلة فلا بد وأن ينتهي إلى عذاب في الدنيا أو عذاب في الآخرة بعد ذلك سيعلمون أن نعم الدنيا ما تنقذهم من ذلك العذاب فقوله فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً مذكور في مقابلة قولهم خَيْرٌ مَّقَاماً ( مريم 73 ) وَأَضْعَفُ جُنداً في مقابلة قولهم أَحْسَنُ نَدِيّاً ( مريم 73 ) فبين تعالى أنهم وإن ظنوا في الحال أن منزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله تعالى بالمقام والندى فسيعلمون من بعد أن الأمر بالضد من ذلك وأنهم شر مكاناً فإنه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب وَأَضْعَفُ جُنداً فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أن اجتماعهم ينفع فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه بقي البحث عن الألفاظ وهو من وجوه أحدها مد له الرحمن أي أمهله وأملى له في العمر فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور الممتثل ليقطع معاذير الضال ويقال له يوم القيامة أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ( فاطر 37 ) وكقولهم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً(21/211)
وثانيها أن قوله إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَة َ يدل على أن المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل يوم القيامة لأن قوله وَإِمَّا السَّاعَة َ المراد منه يوم القيامة ثم العذاب الذي يحصل قبل يوم القيامة يمكن أن يكون هو عذاب القبر ويمكن أن يكون هو العذاب الذي سيكون عند المعاينة لأنهم عند ذلك يعلمون ما يستحقون ويمكن أيضاً أن يكون المراد تغير أحوالهم في الدنيا من العز إلى الذل ومن الغنى إلى الفقر ومن الصحة إلى المرض ومن الأمن إلى الخوف ويمكن أن يكون المراد تسليط المؤمنين عليهم ويمكن أيضاً أن يكون المراد ما نالهم يوم بدر وكل هذه الوجوه مذكورة واعلم أنه تعالى بين بعد ذلك أنه كما يعامل الكفار بما ذكره فكذلك يزيد المؤمنين المهتدين هدى واعلم أنا نبين إمكان ذلك بحسب العقل فنقول إنه لا يبعد أن يكون بعض أنواع الاهتداء مشروطاً بالبعض فإن حاصل الاهتداء يرجع إلى العلم ولا امتناع في كون بعض العلم مشروطاً بالبعض فمن اهتدى بالهداية التي هي الشرط صار بحيث لا يمتنع أن يعطي الهداية التي هي المشروط فصح قوله وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى مثاله الإيمان هدى والإخلاص في الإيمان زيادة هدى ولا يمكن تحصيل الإخلاص إلا بعد تحصيل الإيمان فمن اهتدى بالإيمان زاده الله الهداية بالإخلاص هذا إذا أجرينا لفظ الهداية على ظاهره ومن الناس من حمل الزيادة في الهدى على الثواب أي ويزيد الله الذين اهتدوا ثواباً على ذلك الاهتداء ومنهم من فسر هذه الزيادة بالعبادات المترتبة على الإيمان قال صاحب ( الكشاف ) يزيد معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر وتقديره من كان في الضلالة يمد له الرحمن مداً ويزيد أي يزيد في ضلال الضلال بخذلانه بذلك المد ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه ثم إنه تعالى بين أن ما عليه المهتدون هو الذي ينفع في العاقبة فقال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وذلك لأن ما عليه المهتدون ضرر قليل متناه يعقبه نفع عظيم غير متناه والذي عليه الضالون نفع قليل متناه يعقبه ضرر عظيم غير متناه وكل أحد يعلم بالضرورة أن الأول أولى وبهذا الطريق تسقط الشبهة التي عولوا عليها واختلفوا في المراد بالباقيات الصالحات فقال المحققون إنها الإيمان والأعمال الصالحة سماها باقية لأن نفعها يدوم ولا يبطل ومنهم من قال المراد بها بعض العبادات ولعلهم ذكروا ما هو أعظم ثواباً فبعضهم ذكر الصلوات وبعضهم ذكر التسبيح وروي عن أبي الدرداء قال ( جلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم وأخذ عوداً يابساً فأزال الورق عنه ثم قال إن قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله يحط الخطايا حطاً كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة وكان أبو الدرداء يقول لأعلمن ذلك ولأكثرن منه حتى إذا رآني جاهل حسب أني مجنون ) والقول الأول أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها ولا ينقطع فبعض العبادات وإن كان أنقص ثواباً من البعض فهي مشتركة في الدوام فهي بأسرها باقية صالحة نظراً إلى آثارها التي هي الثواب ثم إنه تعالى أخبر أنها خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ولا يجوز أن يقال هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره فالمراد إذن أنها خير مما ظنه الكفار بقولهم خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ( مريم 73 )
أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِأايَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً(21/212)
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل أولاً على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها أورد عنهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعناً في القول بالحشر فقال أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً قرأ حمزة والكسائي ولداً وهو جمع ولد كأسد في أسد أو بمعنى الولد كالعرب في العرب وعن يحيى بن يعمر ولداً بالكسر وعن الحسن نزلت الآية في الوليد بن المغيرة والمشهورة أنها في العاص بن وائل قال خباب بن الأرت كان لي عليه دين فاقتضيته فقال لا والله حتى تكفر بمحمد قلت لا والله لا أكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث فقال فإني إذا مت بعثت قلت نعم قال إني بعثت وجئتني فسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك وقيل صاغ خباب له حلياً فاقتضاه فطلب الأجرة فقال إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثم فإني أوتي مالاً وولداً حينئذ ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً قال صاحب ( الكشاف ) أطلع الغيب من قولهم أطلع الجبل أي ارتقى إلى أعلاه ويقال مر مطلعاً لذلك الأمر أي غالباً له مالكاً له والاختيار في هذه الكلمة أن تقول أو قد بلغ من عظم شأنه أنه ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار والمعنى أن الذي ادعى أن يكون حاصلاً له لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الأمرين إما علم الغيب وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إليه وقيل في العهد كلمة الشهادة عن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول ثم إنه سبحان بين من حاله ضد ما ادعاه فقال كَلاَّ وهي كلمة ردع وتنبيه على الخطأ أي هو مخطىء فيما يقوله ويتمناه فإن قيل لم قال سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ بسين التسويف وهو كما قاله كتب من غير تأخير قال تعالى مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 ) قلنا فيه وجهان أحدهما سيظهر له ويعلم أنا كتبنا الثاني أن المتوعد يقول للجاني سوف أنتقم منك وإن كان في الحال في الانتقام ويكون غرضه من هذا الكلام محض التهديد فكذا ههنا أما قوله تعالى وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً أي نطول له من العذاب ما يستأهله ونزيده من العذاب ونضاعف له من المدد ويقال مده وأمده بمعنى ويدل عليه قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام ويمد له بالضم أما قوله ونرثه ما يقول أي يزول عنه ما وعده من مال وولد فلا يعود كما لا يعود الإرث إلى من خلفه وإذا سلب ذلك في الآخرة يبقى فرداً فلذلك قال وَيَأْتِينَا فَرْداً فلا يصح أن ينفرد في الآخرة بمال وولد وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الأنعام 94 ) والله أعلم
وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَة ً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً(21/213)
اعلم أنه تعالى لما تكلم في مسألة الحشر والنشر تكلم الآن في الرد على عباد الأصنام فحكى عنهم أنهم إنما اتخذوا آلهة لأنفسهم ليكونوا لهم عزاً حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك ثم أجاب الله تعالى بقوله كَلاَّ وهو ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة وقرأ ابن نهيك كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ أي كلهم سيكفرون بعبادة هذه الأوثان وفي ( محتسب ) ابن جني كلا بفتح الكاف والتنوين وزعم أن معناه كل هذا الاعتقاد والرأي كلا قال صاحب ( الكشاف ) إن صحت هذه الرواية فهي كلا التي هي للردع قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قواريرا واختلفوا في أن الضمير في قوله سَيَكْفُرُونَ يعود إلى المعبود أو إلى العابد فمنهم من قال إنه يعود إلى المعبود ثم قال بعضهم أراد بذلك الملائكة لأنهم في الآخرة يكفرون بعبادتهم ويتبرءون منهم ويخاصمونهم وهو المراد من قوله أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) وقال آخرون إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة حتى يوبخوا عبادهم ويتبرؤا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم ومن الناس من قال الضمير يرجع إلى العباد أي أن هؤلاء المشركين يوم القيامة ينكرون أنهم عبدوا الأصنام ثم قال تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) أما قوله وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً فذكر ذلك في مقابلة قوله لَهُمْ عِزّاً ( مريم 81 ) والمراد ضد العز وهو الذل والهوان أن يكونون عليهم ضداً لما قصدوه وأرادوه كأنه قيل ويكونون عليهم ذلالهم لا عزاً أو يكونون عليهم عوناً والضد العون يقال من أضدادكم أي من أعوانكم وكأن العون يسمى ضداً لأنه يضاد عدوك وينافيه باعانته لك عليه فإن قيل ولم وحد قلنا وحد توحيد قوله عليه السلام ( وهم يد على من سواهم ) لاتفاق كلمتهم فإنهم كشيء واحد لفرط انتظامهم وتوافقهم ومعنى كون الآلهة عوناً عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها واعلم أنه تعالى لما ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا فإنهم يسألونهم وينقادون لهم فقال أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات فقالوا قول القائل أرسلت فلاناً على فلان موضوع في اللغة لإفادة أنه سلطه عليه لإرادة أن يستولي عليه قال عليه السلام سم الله وأرسل كلبك عليه إذا ثبت هذا فقوله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ يفيد أنه تعالى سلطهم عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم وذلك يفيد المقصود ثم يتأكد هذا بقوله تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فإن معناه إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين لتؤزهم أزاً ويتأكد بقوله وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ( الإسراء 64 ) قال القاضي حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم(21/214)
فلا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عليه الشياطين من الإغواء فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين وذلك كفر من قائله ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك لأن عندهم أن ضلال الكفار من قبله تعالى بأن خلق فيهم الكفر وقدر الكفر فلا تأثير لما يكون من الشيطان وإذا بطل حمل اللفظ في ظاهره فلا بد من التأويل فنحمله على أنه تعالى خلى بين الشياطين وبين الكفار وما منعهم من إغوائهم وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال أرسل كلبه عليه وإن لم يرد أذى الناس وهذه التخلية وإن كان فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون من أن لا يقبلوا منهم ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم والدليل عليه قوله تعالى وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ( إبراهيم 22 ) هذا تمام كلامه ونقول لا نسلم أنه لا يمكن حمله على ظاهره فإن قوله أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ لو أرسلهم الله إلى الكفار لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين قلنا الله تعالى ما أرسل الشياطين إلى الكفار بل أرسلها عليهم والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستولياً عليه فأين هذا من الإرسال إليهم قوله ضلال الكافر من قبل الله تعالى فأي تأثير للشيطان فيه قلنا لم لا يجوز أن يقال إن إسماع الشيطان إياه تلك الوسوسة يوجب في قلبه ذلك الضلال بشرط سلامة فهم السامع لأن كلام الشيطان من خلق الله تعالى فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسباً إلى الشيطان وإلى الله تعالى من هذين الوجهين قوله لم لا يجوز أن يكون المراد بالإرسال التخلية قلنا كما خلى بين الشيطان والكفرة فقد خلى بينهم وبين الأنبياء ثم إنه تعالى خص الكافر بأنه أرسل الشيطان عليه فلا بد من فائدة زائدة ههنا ولأن قوله تَؤُزُّهُمْ أَزّاً أي تحركهم تحريكاً شديداً كالغرض من ذلك الإرسال فوجب أن يكون الأز مراداً لله تعالى ويحصل المقصود منه فهذا ما في هذا الموضع والله أعلم
المسألة الثانية قال ابن عباس تَؤُزُّهُمْ أَزّاً أي تزعجهم في المعاصي إزعاجاً نزلت في المستهزئين بالقرآن وهم خمسة رهط قال صاحب ( الكشاف ) الأز والهز والاستفزاز أخوات في معنى التهييج وشدة الإزعاج أي تغريهم على المعاصي وتحثهم وتهيجهم لها بالوساس والتسويلات أما قوله تعالى فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً يقال عجلت عليه بكذا إذا استعجلته به أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا أو يبيدوا حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَة ً مّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ ( الأحقاف 35 ) عن ابن عباس أنه كان إذا قرأها بكى وقال آخر العدد خروج نفسك آخر العدد دخول قبرك آخر العدد فراق أهلك وعن ابن السماك رحمه الله أنه كان عند المأمون فقرأها فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وذكروا في قوله نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً وجهين آخرين الأول نعد أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها والثاني نعد الأوقات إلى وقت الأجل المعين لكل أحد الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان ثم بين سبحانه ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين وبين المجرمين في كيفية الحشر فقال يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً قال صاحب ( الكشاف ) نصب يوم بمضمر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو اذكر يوم نحشر ويجوز أن ينتصب بلا يملكون عن علي عليه السلام قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده إن المتقين إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة عليها رحال الذهب ) ثم تلا هذه الآية وفيها مسائل(21/215)
المسألة الأولى قال القاضي هذه الآية أحد ما يدل على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فهم آمنون من الخوف فكيف يجوز أن تنالهم الأهوال
المسألة الثانية المشبهة احتجوا بالآية وقالوا قوله إِلَى الرَّحْمَنِ يفيد أن انتهاء حركتهم يكون عند الرحمن وأهل التوحيد يقولون المعنى يوم نحشر المتقين إلى محل كرامة الرحمن
المسألة الثالثة طعن الملحد فيه فقال قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً هذا إنما يستقيم أن لو كان الحاشر غير الرحمن أما إذا كان الحاشر هو الرحمن فهذا الكلام لا ينتظم أجاب المسلمون بأن التقدير يوم نحشر المتقين إلى كرامة الرحمن أما قوله وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ ورداً فقوله نَسُوقُ يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء والورد اسم للعطاش لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش وحقيقة الورود السير إلى الماء فسمي به الواردون أما قوله لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة َ أي فليس لهم والظاهر أن المراد شفاعتهم لغيرهم أو شفاعة غيرهم لهم فلذلك اختلفوا وقال بعضهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون وقال بعضهم بل المراد لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم وهذا الثاني أولى لأن حمل الآية على الأول يجري مجرى إيضاع الواضحات وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر لأنه قال عقيبه إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً والتقدير أن هؤلاء لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا قد اتخذوا عند الرحمن عهداً التوحيد والنبوة فوجب أن يكون داخلاً تحته ومما يؤكد قولنا ما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال لأصحابه ذات يوم ( أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً قالوا وكيف ذلك قال يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتبعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة ) فظهر بهذا الحديث أن المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه دلالة الآية على أن الشفاعة لأهل الكبائر وقال القاضي الآية دالة على مذهبه وقد ظهر أن الآية قوية في الدلالة على قولنا والله أعلم
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض إِلاَّ آتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَرْداً(21/216)
اعلم أنه تعالى لما رد على عبده الأوثان عاد إلى الرد على من أثبت له ولداً وَقَالَتِ الْيَهُودُ عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) وقالت العرب الملائكة بنات الله والكل داخلون في هذه الآية ومنهم من خصها بالعرب الذي أثبتوا أن الملائكة بنات الله قالوا لأن الرد على النصارى تقدم في أول السورة أما الآن فإنه لما رد على العرب الذين قالوا بعبادة الأوثان تكلم في إفساد قول الذين قالوا بعبادة الملائكة لكونهم بنات الله أما قوله لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً فقرىء إداً بالكسر والفتح قال ابن خالويه الإد والأد العجب وقيل المنكر العظيم والأدة الشدة وأدنى الأمر وآدنى أثقلي قرىء يتفطرن بالتاء بعد الياء أعني المعجمة من تحتها واختلفوا في يكاد فقرأ بعضهم بالياء المعجمة من تحتها وبعضهم بالتاء من فوق والانفطار من فطرة إذا شقه والتفطر من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه وقرأ ابن مسعود يتصدعن وقوله وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أي تهد هداً أو مهدودة أو مفعول له أي لأنها تهد والمعنى أنها تتساقط أشد ما يكون تساقط البعض على البعض فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله تعالى في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال قلنا فيه وجوه أحدها أن الله سبحانه وتعالى يقول أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوه بها لولا حلمي وأني لا أعجل بالعقوبة كما قال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ( فاطر 41 ) وثانيها أن يكون استعظاماً للكلمة وتهويلاً من فظاعتها وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده وثالثها أن السموات والأرض والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول وهذا تأويل أبي مسلم ورابعها أن السموات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها أما قوله أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً ففيه مسائل
المسألة الأولى في إعرابه ثلاثة أوجه أحدها أن يكون مجروراً بدلاً من الهاء في منه أو منصوباً بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي هذا لأن دعوا أو مرفوعاً بأنه فاعل هَدّاً أي هدها دعاء الولد للرحمن والحاصل أنه تعالى بين أن سبب تلك الأمور العظيمة هذا القول
المسألة الثانية إنما كرر لفظ الرحمن مرات تنبيهاً على أنه سبحانه وتعالى هو الرحمن وحده من قبل أن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه
المسألة الثالثة قوله دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلباً للعموم والإحاطة بكل من ادعى له ولداً أو من دعا بمعنى نسب الذي هو مطاوعة ما في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من ادعى إلى غير مواليه ) قال الشاعر
إنا بني نهشل لا ندعى لأب
أي لا ننتسب إليه ثم قال تعالى وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً أي هو محال أما الولادة المعروفة فلا مقال في امتناعها وأما التبني فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد ولا مشبه لله تعالى ولأن اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض لا تصح في الله من سروره به واستعانته به وذكر جميل وكل ذلك لا يليق به ثم قال إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً والمراد أنه ما من معبود لهم في السموات(21/217)
والأرض من الملائكة والناس إلا وهو يأتي الرحمن أي يأوي إليه ويلتجىء إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً خاشعاً راجياً كما يفعل العبيد ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة والأول أولى لأنه لا تخصيص فيه وقوله لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً أي كلهم تحت أمره وتدبيره وقهره وقدرته فهو سبحانه ميحط بهم ويعلم مجمل أمورهم وتفاصيلها لا يفوته شيء من أحوالهم وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفرداً ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم براء منهم
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
اعلم أنه تعالى لما رد على أصناف الكفرة وبالغ في شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً وللمفسرين في قوله وُدّاً قولان الأول وهو قول الجمهور أنه تعالى سيحدث لهم في القلوب مودة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي يكتسب الناس بها مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك وإنما هو اختراع منه تعالى وابتداء تخصيصاً لأوليائه بهذه الكرامة كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم والسين في سيجعل إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا جاء الإسلام وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل قد أحببت فلاناً فأحبوه فينادي جبريل عليه السلام بذلك في السماء والأرض وإذا أبغض عبداً فمثل ذلك ) وعن كعب قال مكتوب في التوراة والإنجيل لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض وتصديق ذلك في القرآن قوله سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً القول الثاني وهو اختيار أبي مسلم معنى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً أي يهب لهم ما يحبون والود والمحبة سواء يقال آتيت فلاناً محبته وجعل لهم ما يحبون وجعلت له وده ومن كلامهم يود لو كان كذا ووددت أن لو كان كذا أي أحببت ومعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي محبوبهم في الجنة والقول الأول أولى لأن حمل المحبة على المحبوب مجاز ولأنا ذكرنا أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية وفسرها بذلك فكان ذلك أولى وقال أبو مسلم بل القول الثاني أولى لوجوه(21/218)
أحدها كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين وثانيها أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين وثالثها أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أن الله تعالى فعله فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى ( والجواب ) عن الأول أن المراد يجعل لهم الرحمن محبة عند الملائكة والأنبياء وروى عنه عليه السلام أنه حكى عن ربه عز وجل أنه قال ( إذا ذكرني عبدي المؤمن في نفسه ذكرته في نفسي وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ أطيب منهم وأفضل ) وهذا هو ( الجواب ) عن الكلام الثاني لأن الكافر والفاسق ليس كذلك ( والجواب ) عن الثالث أنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم أما قوله تعالى فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ فهو كلام مستأنف بين به عظيم موقع هذه السورة لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر والرد على فرق المضلين المبطلين فبين تعالى أنه يسر ذلك بلسانه ليبشر به وينذر ولولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأما أن القرآن يتضمن تبشير المتقين وإنذار من خرج منهم فبين لكنه تعالى لما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ وأبلغهم الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه ويتشدد وهو معنى لداً ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة بليغة فقال وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا والانتهاء إلى الموت خافوا ذلك وخافوا أيضاً سوء العاقبة في الآخرة فكانوا فيها إلى الحذر من المعاصي أقرب ثم أكد تعالى في ذلك فقال هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ لأن الرسول عليه السلام إذا لم يحس منهم برؤية أو إدراك أو وجدان وَلاَ يَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً وهو الصوت الخفي ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون دل ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية والأقرب في قوله أَهْلَكْنَا أن المراد به الانقراض بالموت وإن كان من المفسرين من حمله على العذاب المعجل في الدنيا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم(21/219)
بداية الجزء الثانى والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(22/2)
سورة طه
وهي مائة وثلاثون وخمس آيات
طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَة ً لِّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأرض وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاٌّ سْمَآءُ الْحُسْنَى
سورة طه
اعلم أن قوله طه فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الطاء وقرأ حمزة والكسائي بكسر الطاء والهاء قال الزجاج وقرىء طه بفتح الطاء وسكون الهاء وكلها لغات قال الزجاج من فتح الطاء والهاء فلأن ما قبل الألف مفتوح ومن كسر الطاء والهاء فأمال الكسرة لأن الحرف مقصور والمقصور يغلب عليه الإمالة إلى الكسرة
المسألة الثانية للمفسرين فيه قولان أحدهما أنه من حروف التهجي والآخر أنه كلمة مفيدة أما على القول الأول فقد تقدم الكلام فيه في أول سورة البقرة والذي زادوه ههنا أمور أحدها قال الثعلبي طا شجرة طوبى والهاء الهاوية فكأنه أقسم بالجنة والنار وثانيها يحكى عن جعفر الصادق عليه السلام الطاء طهارة أهل البيت والهاء هدايتهم وثالثها يا مطمع الشفاعة للأمة ويا هادي الخلق إلى الملة ورابعها قال سعيد بن جبير(22/3)
هو افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي وخامسها الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه قيل يا طاهراً من الذنوب ويا هادياً إلى علام الغيوب وسادسها الطاء طول القراء والهاء هيبتهم في قلوب الكفار قال الله تعالى سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ( آل عمران 151 ) وسابعها الطاء تسعة في الحساب والهاء خمسة تكون أربعة عشر ومعناه يا أيها البدر وقد عرفت فيما تقدم أن أمثال هذه الأقوال لا يجب أن يعتمد عليها القول الثاني قول من قال إنها كلمة مفيدة وعلى هذا القول ذكروا وجهين أحدهما معناه يا رجل وهو مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي رضي الله عنهم ثم قال سعيد بن جبير بلسان النبطية وقال قتادة بلسان السريانية وقال عكرمة بلسان الحبشة وقال الكلبي بلغة عك وأنشد الكلبي لشاعرهم إن السفاهة طه في خلائقكم
لا قدس الله أرواح الملاعين
وقد تكلم الناس على هذا القول من وجهين الأول أنه بمعنى يا رجل في اللغة حمل عليه لكنه لا يجوز إن ثبت على هذا المعنى إلا في لغة العرب إذ القرآن بهذه اللغة نزل فيحتمل أن تكون لغة العرب في هذه اللفظة موافقة لسائر اللغات التي حكيناها فأما على غير هذا الوجه فلا يحتمل ولا يصح الثاني قال صاحب ( الكشاف ) إن كان طه في لغة عك بمعنى يا رجل فلعلهم تصرفوا في يا هذا فقلبوا الياء طاء فقالوا طا واختصروا في هذا واقتصروا على ها فقوله طه بمعنى يا هذا واعترض بعضهم عليه وقالوا لو كان كذلك لوجب أن يكتب أربعة أحرف طا ها وثانيهما أنه عليه السلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معاً وكان الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قالوا هياك في إياك وهرقت في أرقت ويجوز أن يكون الأصل من وطىء على ترك الهمزة فيكون أصله طأ يا رجل ثم أثبت الهاء فيها للوقف والوجهان ذكرهما الزجاج أما قوله تعالى مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابِ لِتَشْقَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) إن جعلت طه تعديداً لأسماء الحروف فهذا ابتداء كلام وإن جعلتها اسماً للسورة احتمل أن يكون قوله مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى خبراً عنها وهي في موضع المبتدأ والقرآن ظاهر أوقع موقع المضمر لأنها قرآن وأن يكون جواباً لها وهي قسم
المسألة الثانية قرىء مَّا نَزَّلَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى
المسألة الثالثة ذكروا في سبب نزول الآية وجوهاً أحدها قال مقاتل إن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدي والنضر بن الحارث قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك فقال عليه السلام ( بل بعثت رحمة للعالمين ) قالوا بل أنت تشقى فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليهم وتعريفاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأن دين الإسلام هو السلام وهذا القرآن هو السلام إلى نيل كل فوز والسبب في إدراك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها وثانيها أنه عليه السلام صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل عليه السلام ( أبق على نفسك فإن لها عليك حقاً ) أي ما أنزلناه لتهلك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة وروى أيضاً أنه عليه السلام ( كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام ) وقال بعضهم كان يقوم على رجل واحدة وقال بعضهم كان يسهر طول الليل فأراد بقوله لِتَشْقَى ذلك قال القاضي هذا بعيد لأنه عليه السلام إن فعل شيئاً من ذلك فلا بد وأن يكون قد فعله بأمر الله تعالى وإذا فعله بأمره فهو من باب السعادة فلا يجوز أن يقال له ما أمرناك بذلك وثالثها قال بعضهم يحتمل أن يكون المراد لا تشق على نفسك ولا تعذبها(22/4)
بالأسف على كفر هؤلاء فإنا إنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به فمن آمن وأصلح فلنفسه ومن كفر فلا يحزنك كفره فما عليك إلا البلاغ وهو كقوله تعالى لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ( الكهف 6 ) الآية وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ( يونس ) 65 ) ورابعها أنك لا تلام على كفر قومك كقوله تعالى لَّسْتَ عَلَيْهِم ( الغاشية 22 ) حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( الأنعام 107 ) أي ليس عليك كفرهم إذا بلغت ولا تؤاخذ بذنبهم وخامسها أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة وفي ذلك الوقت كان عليه السلام مقهوراً تحت ذل أعدائه فكأنه سبحانه قال له لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة أبداً بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك مثل هذا القرآن لتبقى شقياً فيما بينهم بل تصير معظماً مكرماً وأما قوله تعالى إِلاَّ تَذْكِرَة ً لّمَن يَخْشَى ففيه مسائل
المسألة الأولى في كلمة إلا ههنا قولان أحدهما أنه استثناء منقطع بمعنى لكن والثاني التقدير ما أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة كما يقال ما شافهناك بهذا الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك
المسألة الثانية إنما خص من يخشى بالتذكرة لأنهم المنتفعون بها وإن كان ذلك عاماً في الجميع وهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) وقال سبحانه وتعالى تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ( الفرقان 1 ) وقال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( يس 6 ) وقال وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ( مريم 97 ) وقال وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
المسألة الثالثة وجه كون القرآن تذكرة أنه عليه السلام كان يعظمهم به وببيانه فيدخل تحت قوله لمن يخشى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه في الخشية والتذكرة بالقرآن كان فوق الكل وأما قوله تعالى تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الاْرْضَ وَالسَّمَاواتِ الْعُلَى ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في نصب تنزيلا وجوهاً أحدها تقديره نزل تنزيلاً ممن خلق الأرض فنصب تنزيلاً بمضمر وثانيها أن ينصب بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة وثالثها أن ينصب على المدح والاختصاص ورابعها أن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله الله تعالى تَذْكِرَة ً لّمَن يَخْشَى تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين وقرىء تنزيل بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف
المسألة الثانية فائدة الانتقال من لفظ التكلم إلى لفظ الغيبة أمور أحدها أن هذه الصفات لا يمكن ذكرها إلا مع الغيبة وثانيها أنه قال أولا أنزلنا ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فتضاعفت الفخامة من طريقين وثالثها يجوز أن يكون أنزلنا حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه
المسألة الثالثة أنه تعالى عظم حال القرآن بأن نسبه إلى أنه تنزيل ممن خلق الأرض وخلق السموات على علوها وإنما قال ذلك لأن تعظيم الله تعالى يظهر بتعظيم خلقه ونعمه وإنما عظم القرآن ترغيباً في تدبره والتأمل في معانيه وحقائقه وذلك معتاد في الشاهد فإنه تعظم الرسالة بتعظيم حال المرسل ليكون المرسل إليه أقرب إلى الامتثال
المسألة الرابعة يقال سماء عليا وسموات علا وفائدة وصف السموات بالعلا الدلالة على عظم قدرة من(22/5)
يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها أما قوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء الرحمن مجروراً صفة لمن خلق والرفع أحسن لأنه إما أن يكون رفعاً على المدح والتقدير هو الرحمن وإما أن يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى من خلق فإن قيل الجملة التي هي على العرش استوى ما محلها إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح قلنا إذا جررت فهو خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن يكون كذلك وأن يكون مع الرحمن خبرين للمبتدأ
المسألة الثانية المشبهة تعلقت بهذه الآية في أن معبودهم جالس على العرش وهذا باطل بالعقل والنقل من وجوه أحدها أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان ولما خلق الخلق لم يحتج إلى مكان بل كان غنياً عنه فهو بالصفة التي لم يزل عليها إلا أن يزعم زاعم أنه لم يزل مع الله عرش وثانيها أن الجالس على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل في يسار العرش فيكون في نفسه مؤلفاً مركباً وكل ما كان كذلك احتاج إلى المؤلف والمركب وذلك محال وثالثها أن الجالس على العرش إما أن يكون متمكناً من الإنتقال والحركة أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول فقد صار محل الحركة والسكون فيكون محدثاً لا محالة وإن كان الثاني كان كالمربوط بل كان كالزمن بل أسوأ منه فإن الزمن إذا شاء الحركة في رأسه وحدقته أمكنه ذلك وهو غير ممكن على معبودهم ورابعها هو أن معبودهم إما أن يحصل في كل مكان أو في مكان دون مكان فإن حصل في كل مكان لزمهم أن يحصل في مكان النجاسات والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل وإن حصل في مكان دون مكان افتقر إلى مخصص يخصصه بذلك المكان فيكون محتاجاً وهو على الله محال وخامسها أن قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) يتناول نفي المساواة من جميع الوجوه بدليل صحة الاستثناء فإنه يحسن أن يقال ليس كمثله شيء إلا في الجلوس وإلا في المقدار وإلا في اللون وصحة الاستثناء تقتضي دخول جميع هذه الأمور تحته فلو كان جالساً لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ يبطل معنى الآية وسادسها قوله تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) فإذا كانوا حاملين للعرش والعرش مكان معبودهم فيلزم أن تكون الملائكة حاملين لخالقهم ومعبودهم وذلك غير معقول لأن الخلق هو الذي يحفظ المخلوق أما المخلوق فلا يحفظ الخالق ولا يحمله وسابعها أنه لو جاز أن يكون المستقر في المكان إلهاً فكيف يعلم أن الشمس والقمر ليس بإله لأن طريقنا إلى نفس إلهية الشمس والقمر أنهما موصوفان بالحركة والسكون وما كان كذلك كان محدثاً ولم يكن إلهاً فإذا أبطلتم هذا الطريق انسد عليكم باب القدح في إلهية الشمس والقمر وثامنها أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلينا هي تحت بالنسبة إلى ساكني ذلك الجانب الآخر من الأرض وبالعكس فلو كان المعبود مختصاً بجهة فتلك الجهة وإن كانت فوقاً لبعض الناس لكنها تحت لبعض آخرين وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال المبعود تحت جميع الأشياء وتاسعها أجمعت الأمة على أن قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) من المحكمات لا من المتشابهات فلو كان مختصاً بالمكان لكان الجانب الذي منه يلي ما على يمينه غير الجانب الذي منه يلي ما على يساره فيكون مركباً منقسماً فلا يكون أحداً في الحقيقة فيبطل قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وعاشرها أن الخليل عليه السلام قال لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ولو كان المعبود جسماً لكان آفلاً أبداً غائباً أبداً فكان يندرج تحت قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ فثبت بهذه الدلائل أن الإستقرار على الله تعالى محال وعند هذا للناس فيه(22/6)
قولان الأول أنا لا نشتغل بالتأويل بل نقطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة ونترك تأويل الآية وروي الشيخ الغزالي عن بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل أنه أول ثلاثة من الأخبار قوله عليه السلام ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ) وقوله عليه السلام ( قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ) وقوله عليه السلام ( إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن ) واعلم أن هذا القول ضعيف لوجهين الأول أنه إن قطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة فقد قطع بأن ليس مراد الله تعالى من الإستواء الجلوس وهذا هو التأويل وإن لم يقطع بتنزيه الله تعالى عن المكان والجهة بل بقي شاكاً فيه فهو جاهل بالله تعالى اللهم إلا أن يقول أنا قاطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به ظاهره بل مراده به شيء آخر ولكني لا أعين ذلك المراد خوفاً من الخطأ فهذا يكون قريباً وهو أيضاً ضعيف لأنه تعالى لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا يريد باللفظ إلا موضوعه في لسان العرب وإذا كان لا معنى للاستواء في اللغة إلا الاستقرار والإستيلاء وقد تعذر حمله على الإستقرار فوجب حمله على الإستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وإنه غير جائز والثاني وهو دلالة قاطعة على أنه لا بد من المصير إلى التأويل وهو أن الدلالة العقلية لما قامت على امتناع الاستقرار ودل ظاهر لفظ الاستواء على معنى الاستقرار فإما أن نعمل بكل واحد من الدليلين وإما أن نتركهما معاً وإما أن نرجح النقل على العقل وإما أن نرجح العقل ونؤول النقل والأول باطل وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد منزهاً عن المكان وحاصلاً في المكان وهو محال والثاني أيضاً محال لأنه يلزم رفع النقيضين معاً وهو باطل والثالث باطل لأن العقل أصل النقل فإنه ما لم يثبت بالدلائل العقلية وجود الصانع وعلمه وقدرته وبعثته للرسل لم يثبت النقل فالقدح في العقل يقتضي القدح في العقل والنقل معاً فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل وهذا برهان قاطع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول قال بعض العلماء المراد من الإستواء الإستيلاء قال الشاعر قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
فإن قيل هذا التأويل غير جائز لوجوه أحدها أن الإستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وذلك في حق الله تعالى محال وثانيها أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان له منازع ينازعه وكان المستولى عليه موجوداً قبل ذلك وهذا في حق الله تعالى محال لأن العرش إنما حدث بتخليقه وتكوينه وثالثها الاستيلاء حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة والجواب أنا إذا فسرنا الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية قال صاحب الكشاف لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلامع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا استوى فلان على البلد يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك ونحوه قولك يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد وبخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأساً قيل فيه يده مبسوطة لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قوله جواد ومنه قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ( المائدة 64 ) أي هو بخيل بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( المائدة 64 ) أي هو جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط والتفسير بالنعمة والتمحل بالتسمية من ضيق العطن وأقول إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم أيضاً يقولون المراد من قوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ( طه 12 ) الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور فعل وقوله قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ(22/7)
( ابراهيم 69 ) المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام من يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه وليت من لم يعرف شيئاً لم يخض فيه فهذا تمام الكلام في هذه الآية ومن أراد الاستقصاء في الآيات والأخبار المتشابهات فعليه بكتاب تأسيس التقديس وبالله التوفيق أما قوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى فاعلم أنه سبحانه لم شرح ملكه بقوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى والملك لا ينتظم إلا بالقدرة والعلم لا جرم عقبه بالقدرة ثم بالعلم أما القدرة فهي هذه الآية والمراد أنه سبحانه مالك لهذه الأقسام الأربعة فهو مالك لما في السموات من ملك ونجم وغيرهما ومالك لما في الأرض من المعادن والفلزات ومالك لما بينهما من الهواء ومالك لما تحت الثرى فإن قيل الثرى هو السطح الأخير من العالم فلا يكون تحته شيء فكيف يكون الله مالكاً له قلنا الثرى في اللغة التراب الندي فيحتمل أن يكون تحته شيء وهو إما الثور أو الحوت أو الصخرة أو البحر أو الهواء على اختلاف الروايات أما العلم فقوله تعالى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى وفيه قولان أحدهما أن قوله وَأَخْفَى بناء المبالغة وعلى هذا القول نقول إنه تعالى قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام الجهر والسر والأخفى فيحتمل أن يكون المراد من الجهر القول الذي يجهر به وقد يسر في النفس وإن ظهر البعض وقد يسر ولا يظهر على ما قال بعضهم ويحتمل أن يكون المراد بالسر وبالأخفى ما ليس بقول وهذا أظهر فكأنه تعالى بين أنه يعلم السر الذي لا يسمع وما هو أخفى منه فكيف لا يعلم الجهر والمقصود منه زجر المكلف عن القبائح ظاهرة كانت أو باطنة والترغيب في الطاعات ظاهرة كانت أو باطنة فعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل السر والأخفى على ما فيه ثواب أو عقاب والسر هو الذي يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها والأخفى هو الذي لم يبلغ حد العزيمة ويحتمل أن يفسر الأخفى بما عزم عليه وما وقع في وهمه الذي لم يعزم عليه ويتحمل ما لم يقع في سره بعد فيكون أخفى من السر ويحتمل أيضاً ما سيكون من قبل الله تعالى من الأمور التي لم تظهر وإن كان الأقرب ما قدمناه مما يدخل تحت الزجر والترغيب القول الثاني أن أخفى فعل يعني أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه وهو كقوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ( البقرة 255 ) فإن قيل كيف يطابق الجزاء الشرط قلنا معناه إن تجهر بذكر الله تعالى من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك وإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ( الأعراف 205 ) وإما تعليماً للعباد أن الجهر ليس لاستماع الله تعالى وإنما هو لغرض آخر واعلم أن الله تعالى لذاته عالم وأنه عالم بكل المعلومات في كل الأوقات بعلم واحد وذلك العلم غير متغير وذلك العلم من لوازم ذاته من غير أن يكون موصوفاً بالحدوث أو الإمكان والعبد لا يشارك الرب إلا في السدس الأول وهو أصل العلم ثم هذا السدس بينه وبين عباده أيضاً نصفان فخمسة دوانيق ونصف جزء من العلم مسلم له والنصف الواحد لجملة عباده ثم هذا الجزء الواحد مشترك بين الخلائق كلهم من الملائكة الكروبية(22/8)
والملائكة الروحانية وحملة العرش وسكان السموات وملائكة الرحمة وملائكة العذاب وكذا جميع الأنبياء الذين أولهم آدم وآخرهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعليهم أجمعين وكذا جميع الخلائق كلهم في علومهم الضرورية والكسبية والحرف والصناعات وجميع الحيوانات في إدراكاتها وشعوراتها والاهتداء إلى مصالحها في أغذيتها ومضارها ومنافعها والحاصل لك من ذلك الجزء أقل من الذرة المؤلفة ثم إنك بتلك الذرة عرفت أسرار إلهيته وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة فإذا كنت بهذه الذرة عرفت هذه الأسرار فكيف يكون علمه بخمس دوانيق ونصف أفلا يعلم بذلك العلم أسرار عبوديتك فهذا تحقيق قوله وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى بل الحق أن الدينار بتمامه له لأن الذي علمته فإنما علمته بتعليمه على ما قال أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ( النساء 166 ) وقال أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ( الملك 14 ) ولهذا مثال وهو الشمس فإن ضوءها يجعل العالم مضيئاً ولا ينتقص ألبتة من ضوئها شيء فكذا ههنا فكيف لا يكون عالماً بالسر والأخفى فإن من تدبيراته في خلق الأشجار وأنواع النبات أنها ليس لها فم ولا سائر آلات الغذاء فلا جرم أصولها مركوزة في الأرض تمتص بها الغذاء فيتأدى ذلك الغذاء إلى الأغصان ومنها إلى العروق ومنها إلى الأوراق ثم إنه تعالى جعل عروقها كالأطناب التي بها يمكن ضرب الخيام وكما أنه لا بد من مد الطنب من كل جانب لتبقى الخيمة واقفة كذلك العروق تذهب من كل جانب لتبقى الشجرة واقفة ثم لو نظرت إلى كل ورقة وما فيها من العروق الدقيقة المبثوثة فيها ليصل الغذاء منها إلى كل جانب من الورقة ليكون ذلك تقوية لجرم الورقة فلا يتمزق سريعاً وهي شبه العروق المخلوقة في بدن الحيوان لتكون مسالك للدم والروح فتكون مقوية للبدن ثم انظر إلى الأشجار فإن أحسنها في المنظر الدلب والخلاف ولا حاصل لهما وأقبحها شجرة التين والعنب و ( لكن ) انظر إلى منفعتهما فهذه الأشياء وأشباهها تظهر أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض
أما قوله تعالى اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى فالكلام فيه على قسمين الأول في التوحيد اعلم أن دلائل التوحيد ستأتي إن شاء الله في تفسير قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وإنما ذكره ههنا ليبين أن الموصوف بالقدرة وبالعلم على الوجه الذي تقدم واحد لا شريك له وهو الذي يستحق العبادة دون غيره ولنذكر ههنا نكتاً متعلقة بهذا الباب وهي أبحاث
البحث الأول اعلم أن مراتب التوحيد أربع أحدها الإقرار باللسان والثاني الاعتقاد بالقلب والثالث تأكيد ذلك الاعتقاد بالحجة والرابع أن يصير العبد مغموراً في بحر التوحيد بحيث لا يدور في خاطره شيء غير عرفان الأحد الصمد أما الإقرار باللسان فإن وجد خالياً عن الاعتقاد بالقلب فذلك هو المنافق وأما الاعتقاد بالقلب إذا وجد خالياً عن الإقرار باللسان ففيه صور الصورة الأولى أن من نظر وعرف الله تعالى وكما عرفه مات قبل أن يمضي عليه من الوقت ما يمكنه التلفظ بكلمة الشهادة فقال قوم إنه لا يتم إيمانه والحق أنه يتم لأنه أدى ما كلف به وعجز عن التلفظ به فلا يبقى مخاطباً ورأيت في ( بعض ) الكتب أن ملك الموت مكتوب على جبهته لا إله إلا الله لكي إذا رآه المؤمن تذكر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك التذكر عن الذكر الصورة الثانية أن من عرف الله ومضى عليه من الوقت ما يمكنه التلفظ بالكلمة ولكنه قصر فيه قال الشيخ الغزالي يحتمل أن يقال اللسان ترجمان القلب فإذا حصل المقصود في القلب كان امتناعه من التلفظ جارياً مجرى امتناعه من الصلاة والزكاة وكيف يكون من أهل النار وقد قال عليه السلام ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) وقلب هذا الرجل مملوء من(22/9)
الإيمان وقال آخرون الإيمان والكفر أمور شرعية نحن نعلم أن الممتنع من هذه الكلمة كافر الصورة الثالثة من أقر باللسان واعتقد بالقلب من غير دليل فهو مقلد والاختلاف في صحة إيمانه مشهور أما المقام الثالث وهو إثبات التوحيد بالدليل والبرهان فقد بينا في تفسير قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) أنه يمكن إثبات هذا المطلوب بالدلائل العقلية والسمعية واستقصينا القول فيها هناك أما المقام الرابع وهو الفناء في بحر التوحيد فقال المحققون العرفان مبتدأ من تفريق ونقض وترك ورفض ممكن في جميع صفات هي من صفات الحق للذات المريدة بالصدق منتبه إلى الواحد القهار ثم وقوف هذه الكلمات محيطة بأقصى نهايات درجات السائرين إلى الله تعالى
البحث الثاني في الأخبار الواردة في التهليل أولها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء أستغفر الله ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) وثانيها قال عليه السلام ( إن الله تعالى خلق ملكاً من الملائكة قبل أن خلق السموات والأرض وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله ماداً بها صوته لا يقطعها ولا يتنفس فيها ولا يتمها فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيماً لله عز وجل ) وثالثها عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال عليه السلام ( ما زلت أشفع إلى ربي ويشفعني وأشفع إليه ويشفعني حتى قلت يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله قال يا محمد هذه ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي لا أدع أحداً في النار قال لا إله إلا الله ) وثانيها قال سفيان الثوري سألت جعفر بن محمد عن حم عسق قال الحاء حكمه والميم ملكه والعين عظمته والسين سناؤه والقاف قدرته يقول الله جل ذكره بحكمي وملكي وعظمتي وسنائي وقدرتي لا أعذب بالنار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وخامسها أن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قام في السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب له الله ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة )
البحث الثالث في النكت أحدها ينبغي لأهل لا إله إلا الله أن يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله التصديق والتعظيم والحلاوة والحرية فمن ليس له التصديق فهو منافق ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع ومن ليس له الحلاوة فهو مراء ومن ليس له الحرية فهو فاجر وثانيها قال بعضهم قوله أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَة ً طَيّبَة ً كَشَجَرة ٍ طَيّبَة ٍ ( إبراهيم 24 ) إنه لا إله إلا الله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) لا إله إلا الله وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ ( العصر 3 ) لا إله إلا الله قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَة ٍ ( سبأ 46 ) لا إله إلا الله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( الصافات 24 ) عن قول لا إله إلا الله مَّجْنُونٍ بَلْ جَاء بِالْحَقّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ( الصافات 37 ) هو لا إله إلا الله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ ( إبراهيم 27 ) هو لا إله إلا الله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 ) عن قول لا إله إلا الله وثالثها أن موسى بن عمران عليه السلام قال ( يا رب علمني شيئاً أذكرك به قال قل لا إله إلا الله قال كل عبادك يقولون لا إله إلا الله فقال قل لا إله إلا الله قال إنما أردت شيئاً تحصني بها قال يا موسى لو أن السموات السبع ومن فيهن في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله )
البحث الرابع في إعرابه قالوا كلمة لا ههنا دخلت على الماهية فانتفت الماهية وإذا انتفت الماهية انتفت كل أفراد الماهية وأما الله فإنه اسم علم للذات المعينة إذ لو كان اسم معنى لكان كلها محتملاً للكثرة فلم(22/10)
تكن هذه الكلمة مفيدة للتوحيد فقالوا لا استحقت عمل أن لمشابهتها لها من وجهين أحدهما ملازمة الأسماء والآخر تناقضهما فإن أحدهما لتأكيد الثبوت والآخر لتأكيد النفي ومن عادتهم تشبيه أحد الضدين بالآخر في الحكم إذا ثبت هذا فنقول لما قالوا إن زيداً ذاهب كان يجب أن يقولوا لا رجلاً ذاهب إلا أنهم بنوا لا مع ما دخل عليه من الاسم المفرد على الفتح أما البناء فلشدة اتصال حرف النفي بما دخل عليه كأنهما صارا اسماً واحداً وأما الفتح فلأنهم قصدوا البناء على الحركة المستحقة توفيقاً بين الدليل الموجب للإعراب والدليل الموجب للبناء الثاني خبره محذوف والأصل لا إله في الوجود ولا حول ولا قوة لنا وهذا يدل على أن الوجود زائد على الماهية
البحث الخامس قال بعضهم تصور الثبوت مقدم على تصور السلب فإن السلب ما لم يضف إلى الثبوت لا يمكن تصوره فكيف قدم ههنا السلب على الثبوت وجوابه أنه لما كان هذا السلب من مؤكدات الثبوت لا جرم قدم عليه القسم الثاني من الكلام في الآية البحث عن أسماء الله تعالى وفيه أبحاث
البحث الأول قال عليه السلام ( إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أيها الناس أنا جعلت لكم نسباً وأنتم جعلتم لأنفسكم نسباً أنا جعلت أكرمكم عندي أتقاكم وأنتم جعلتم أكرمكم أغناكم فالآن أرفع نسبي وأضع نسبكم أين المتقون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنونا ) واعلم أن الأشياء في قسمة العقول على ثلاثة أقاسم كامل لا يحتمل النقصان وناقص لا يحتمل الكمال وثالث يقبل الأمرين أما الكامل الذي لا يحتمل النقصان فهو الله تعالى وذلك في حقه بالوجوب الذاتي وبعده الملائكة فإن من كمالهم أنهم لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ( التحريم 6 ) ومن صفاتهم أنهم عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( الأنبياء 26 ) ومن صفاتهم أنهم يستغفرون للذين آمنوا وأما الناقص الذي لا يحتمل الكمال فهو الجمادات والنبات والبهائم وأما الذي يقبل الأمرين جميعاً فهو الإنسان تارة يكون في الترقي بحيث يخبر عنه بأنه فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) وتارة في التسفل بحيث يقال ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( التين 5 ) وإذا كان كذلك استحال أن يكون الإنسان كاملاً لذاته وما لا يكون كاملاً لذاته استحال أن يصير موصوفاً بالكمال إلى أن يصير منتسباً إلى الكامل لذاته لكن الانتساب قسمان قسم يعرض للزوال وقسم لا يكون يعرض للزوال أما الذي يكون يعرض للزوال فلا فائدة فيه ومثاله الصحة والمال والجمال وأما الذي لا يكون يعرض للزوال فعبوديتك لله تعالى فإنه كما يمتنع زوال صفة الإلهية عنه يمتنع زوال صفة العبودية عنك فهذه النسبة لا تقبل الزوال والمنتسب إليه وهو الحق سبحانه لا يقبل الخروج عن صفة الكمال ثم إذا كنت من بلد أو منتسباً إلى قبيلة فإنك لا تزال تبالغ في مدح تلك البلدة والقبيلة بسبب ذلك الانتساب العرضي فلأن تشتغل بذكر الله تعالى ونعوت كبريائه بسبب الانتساب الذاتي كان أولى فلهذا قال وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) وقال اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى
البحث الثاني في تقسيم أسماء الله تعالى اعلم أن اسم كل شيء إما أن يكون واقعاً عليه بحسب ذاته أو بحسب أجزاء ذاته أو بحسب الأمور الخارجة عن ذاته أما القسم الأول فقد اختلفوا في أنه هل لله تعالى اسم على هذا الوجه وهذه المسألة مبنية على أن حقيقة الله تعالى هل هي معلومة للبشر أم لا فمن قال إنها غير معلومة للبشر قال ليس لذاته المخصوصة اسم لأن المقصود من الاسم أن يشار به إلى المسمى وإذا كانت الذات المخصوصة غير معلومة امتنعت الإشارة العقلية إليها فامتنع وضع الاسم لها وقد تكلمنا في تحقيق(22/11)
ذلك في تفسير اسم الله وأما الاسم الواقع عليه بحسب أجزاء ذاته فذلك محال لأنه ليس لذاته شيء من الأجزاء لأن كل مركب ممكن وواجب الوجود لا يكون ممكناً فلا يكون مركباً وأما الاسم الواقع بحسب الصفات الخارجة عن ذاته فالصفات إما أن تكون ثبوتية حقيقية أو ثبوتية إضافية أو سلبية أو ثبوتية مع إضافية أو ثبوتية مع سلبية أو إضافية مع سلبية أو ثبوتية وإضافية وسلبية ولما كانت الإضافات الممكنة غير متناهية وكذا السلوب غير متناهية أمكن أن يكون للباري تعالى أسماء متباينة لا مترادفة غير متناهية فهذا هو التنبيه على المأخذ
البحث الثالث يقال إن لله تعالى أربعة آلاف اسم ألف لا يعلمها إلا الله تعالى وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة والأنبياء وأما الألف الرابع فإن المؤمنين يعلمونها فلثمائة منها في التوراة وثلثمائة في الإنجيل وثلثمائة في الزبور ومائة في الفرقان تسع وتسعون منها ظاهرة وواحد مكتوم فمن أحصاها دخل الجنة
البحث الرابع الأسماء الواردة في القرآن منها ما ليس بانفراده ثناء ومدحاً كقوله جاعل وفالق وخالق فإذا قيل فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً ( الأنعام 96 ) صار مدحاً وأما الاسم الذي يكون مدحاً فمنه ما إذا قرن بغيره صار أبلغ نحو قولنا حي فإذا قيل الحي القيوم أو الحي الذي لا يموت كان أبلغ وأيضاً قولنا بديع فإنك إذا قلت بديع السموات والأرض ازداد المدح ومن هذا الباب ما كان اسم مدح ولكن لا يجوز إفراده كقولك دليل وكاشف فإذا قيل يا دليل المتحيرين ويا كاشف الضر والبلوى جاز ومنه ما يكون اسم مدح مفرداً أو مقروناً كقولنا الرحمن الرحيم
البحث الخامس من الأسماء ما يكون مقارنتها أحسن كقولك الأول الآخر المبدىء المعيد الظاهر الباطن ومثاله قوله تعالى في حكاية قول المسيح إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( المائدة 118 ) وبقية الأبحاث قد تقدمت في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم
البحث السادس في النكت ( أولها ) رأى بشر الحافي كاغداً مكتوباً فيه بسم الله الرحمن الرحيم فرفعه وطيبه بالمسك وبلعه فرأى في النوم قائلاً يقول يا بشر طيبت اسمنا فنحن نطيب اسمك في الدنيا والآخرة وثانيها قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 ) وليس حسن الأسماء لذواتها لأنها ألفاظ وأصوات بل حسنها لحسن معانيها ثم ليس حسن أسماء الله حسناً يتعلق بالصورة والخلقة فإن ذلك محال على من ليس بجسم بل حسن يرجع إلى معنى الإحسان مثلاً اسم الستار والغفار والرحيم إنا كانت حسناء لأنها دالة على معنى الإحسان وروى أن حكيماً ذهب إليه قبيح وحسن والتمسا الوصية فقال للحسن أنت حسن والحسن لا يليق به الفعل القبيح وقال للآخر أنت قبيح والقبيح إذا فعل الفعل القبيح عظم قبحه فنقول إلهنا أسماؤك حسنة وصفاتك حسنة فلا تظهر لنا من تلك الأسماء الحسنة والصفات الحسنة إلا الإحسان إلهنا يكفينا قبح أفعالنا وسيرتنا فلا نضم إليه قبح العقاب ووحشة العذاب وثالثها قوله عليه السلام ( اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه ) إلهنا حسن الوجه عرضى أما حسن الصفات والأسماء فذاتي فلا تردنا عن إحسانك خائبين خاسرين رابعها ذكر أن صياداً كان يصيد السمك فصاد سمكة وكان له ابنة فأخذتها ابنته فطرحتها الماء وقالت إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها إلهنا تلك الصبية رحمت غفلة هاتيك السمكة وكانت تلقيها مرة أخرى في البحر ونحن قد اصطادتنا وسوسة إبليس وأخرجتنا من بحر رحمتك فارحمنا بفضلك وخلصنا منها وألقنا في بحار رحمتك مرة(22/12)
أخرى وخامسها ذكرت من الأسماء خمسة في الفاتحة وهي الله والرب والرحمن والرحيم والملك فذكرت الإلهية وهي إشارة إلى القهارية والعظمة فعلم أن الأرواح لا تطيق ذلك القهر والعلو فذكر بعده أربعة أسماء تدل على اللطف الرب وهو يدل على التربية والمعتاد أن من ربى أحداً فإنه لا يهمل أمره ثم ذكر الرحمن الرحيم وذلك هو النهاية في اللطف والرأفة ثم ختم الأمر بالملك والملك العظيم لا ينتقم من الضعيف العاجز ولأن عائشة قالت لعلي عليه السلام ( ملكت فأشجع فأنت أولى بأن تعفو عن هؤلاء الضعفاء ) وسادسها عن محمد بن كعب القرظي قال موسى عليه السلام ( إلهي أي خلقك أكرم عليك قال الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري قال فأي خلقك أعلم قال الذي يلتمس إلى علمه علم غيره قال فأي خلقك أعدل قال الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس قال فأي خلقك أعظم جرماً قال الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له ) إلهنا إنا لا نتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت به فهو فضل وكل ما تفعله فهو عدل فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا وسابعها قال الحسن إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ سيعلم الجمع من أولى بالكرم أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون فيتخطون رقاب الناس ثم يقال أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ثم ينادي منادٍ أين الحامدون لله على كل حال ثم تكون التبعة والحساب على من بقي إلهنا فنحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار قدرتنا ومنتهى طاقتنا فاعف عنا بفضلك ورحمتك ومن أراد الاستقصاء في الأسماء والصفات فعليه بكتاب لوامع البينات في الأسماء والصفات وبالله التوفيق
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاًّهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِى َ يامُوسَى إِنِّى أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
اعلم أنه تعالى لما عظم حال القرآن وحال الرسول فيما كلفه اتبع ذلك بما يقوي قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام تقوية لقلبه في الإبلاغ كقوله وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ( هود 120 ) وبدأ بموسى عليه السلام لأن المحنة والفتنة الحاصلة له كانت أعظم ليسلي قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ويصبره على تحمل المكاره فقال وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله وَهَلْ أَتَاكَ يحتمل أن يكون هذا أول ما أخبر به من أمر موسى عليه السلام فقال وَهَلْ أَتَاكَ أي لم يأتك إلى الآن وقد أتاك الآن فتنبه له وهذا قول الكلبي ويحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال أليس قد أتاك وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس
المسألة الثانية قوله وَهَلْ أَتَاكَ وإن كان على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله تعالى لكن المقصود منه تقرير الجواب في قلبه وهذه الصيغة أبلغ في ذلك كما يقول المرء لصاحبه هل بلغك خبر كذا فيتطلع السامع إلى معرفة ما يرمى إليه ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قبل النبي عليه(22/13)
السلام لا من قبل الله تعالى
المسألة الثالثة قوله تعالى إِذْ رَأَى نَاراً أي هل أتاك حديثه حين رأى ناراً قال المفسرون استأذن موسى عليه السلام شعيباً في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد حاد عن الطريق فقدح موسى عليه السلام النار فلم تور المقدحة شيئاً فبينا هو مزاولة ذلك إذ نظر ناراً من بعيد عن يسار الطريق قال السدي ظن أنها نار من نيران الرعاة وقال آخرون إنه عليه السلام رآها في شجرة وليس في لفظ القرآن ما يدل على ذلك واختلفوا فقال بعضهم الذي رآه لم يكن ناراً بل تخيله ناراً والصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء قيل النارس أربعة أقسام نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا ونار تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الاْخْضَرِ نَاراً ( يس 80 ) ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة ونار لا تأكل ولا تشرب وهي نار موسى عليه السلام وقيل أيضاً النار على أربعة أقسام أحدها نار لها نور بلا حرقة وهي نار موسى عليه السلام وثانيها حرقة بلا نور وهي نار جهنم وثالثها الحرقة والنور وهي نار الدنيا ورابعها لا حرقة ولا نور وهي نار الأشجار فلما أبصر النار توجه نحوها ( فقال لأهله امثكثوا فيجوز أن يكون الخطاب للمرأة وولدها والخادم الذي معها ويجوز أن يكون للمرأة وحدها ولكن خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيماً أي أقيموا في مكانكم فيجوز أن يكون الخطاب للمرأة وولدها والخادم الذي معها ويجوز أن يكون للمرأة وحدها ولكن خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيماً أي أقيموا في مكانكم إِنّى آنَسْتُ نَاراً أي أبصرت والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين فإنه يبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم وقيل هو أيضاً ما يؤنس به ولما وجد منه الإيناس وكان منتفياً حقيقة لهم أتى بكلمة إني لتوطين أنفسهم ولما كان الإيناس بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بني الأمر فيهما على الرجاء والطمع فقال فَلَمَّا قَضَى ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به والنكتة فيه أن قوماً قالوا كذب إبراهيم للمصلحة وهو محال لأن موسى عليه السلام قبل نبوته احترز عن الكذب فلم يقل آتيكم ولكن قال لعلي آتيكم ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى والهدى ما يهتدى به وهو اسم مصدر فكأنه قال أجد على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة ومعنى الاستعلاء على النار أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها فَلَمَّا أَتَاهَا أي أتى النار قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار فسمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً قال وهب فظن موسى عليه السلام أنها نار أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي يا موسى قال القاضي الذي يروى من أن الزند ما كان يورى فهذا جائز وأما الذين يروى من أن النار كانت تتأخر عنه فإن كانت النبوة قد تقدمت له جاز ذلك وإلا فهو ممتنع إلا أن يكون معجزة لغيره من الأنبياء عليهم السلام وفي قوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) دلالة على أن هذه الحالة(22/14)
أوحى الله إليه وجعله نبياً وعلى هذا الوجه يبعد ما ذكروه من تأخر النار عنه وبين فساد ذلك قوله تعالى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِى َ يامُوسَى مُوسَى وإن كانت تتأخر عنه حالاً بعد حال لما صح ذلك ولما بقي لفاء التعقيب فائدة قلنا القاضي إنما بنى هذا الاعتراض على مذهبه في أن الإرهاص غير جائز وذلك عندنا باطل فبطل قوله وأما التمسك بفاء التعقيب فقريب لأن تخلل الزمان القليل فيما بين المجيء والنداء لا يقدح في فاء التعقيب
المسألة الرابعة قرأ أبو عمرو وابن كثير ( أنى ) بالفتح أي نودي بأني أنا ربك والباقون بالكسر أي نودي فقيل يا موسى أو لأن النداء ضرب من القول فعومل معاملته
المسألة الخامسة قال الأشعري إن الله تعالى أسمعه الكلام القديم الذي ليس بحرف ولا صوت وأما المعتزلة فإنهم أنكروا وجود ذلك الكلام فقالوا إنه سبحانه خلق ذلك النداء في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها لأن النداء كلام الله تعالى والله قادر عليه ومتى شاء فعله وأما أهل السنة من أهل ما وراء النهر فقد أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى عليه السلام صوت خلقه الله تعالى في الشجرة واحتجوا بالآية على أن المسموع هو الصوت المحدث قالوا إنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار والمرتب على المحدث محدث فالنداء محدث
المسألة السادسة اختلفوا في أن موسى عليه السلام كيف عرف أن المنادي هو الله تعالى فقال أصحابنا يجوز أن يخلق الله تعالى له علماً ضرورياً بذلك ويجوز أن يعرفه بالمعجزة قالت المعتزلة أما العلم الضروري فغير جائز لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع العالم القادر لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوماً له بالضرورة لخرج موسى عن كونه مكلفاً لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف وبالإتفاق لم يخرج موسى عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالمعجز ثم اختلفوا في ذلك المعجز على وجوه أولها منهم من قال نعلم قطعاً أن الله تعالى عرفه ذلك بواسطة المعجز ولا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك المعجز ما هو وثانيها يروى أن موسى عليه السلام لما شاهد النور الساطع من الشجرة إلى السماء وسمع تسبيح الملائكة وضع يديه على عينيه فنودي يا موسى فقال لبيك إني أسمع صوتك ولا أراك فأين أنت قال أنا معك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك منك ثم إن إبليس أخطر بباله هذا الشك وقال ما يدريك أنك تسمع كلام الله فقال لأني أسمعه من فوقي ومن تحتي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي كما أسمعه من قدامي فعلمت أنه ليس بكلام المخلوقين ومعنى إطلاقه هذه الجهات أنى أسمعه بجميع أجزائي وأبعاضي حتى كأن كل جارحة مني صارت أذناً وثالثها لعله سمع النداء من جماد كالحصى وغيرها فيكون ذلك معجزاً ورابعها أنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث أن تلك الخضرة ما كانت تطفىء تلك النار وتلك النار ما كانت تضر تلك الخضرة وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه
المسألة السابعة قالوا إن تكرير الضمير في إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ كان لتوليد الدلالة وإزالة الشبهة
المسألة الثامنة ذكروا في قوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وجوهاً أحدها كانتا من جلد حمار ميت فلذلك أمر بخلعهما صيانة للوادي المقدس ولذلك قال عقيبه إِنَّكَ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ وهذا قول علي عليه السلام(22/15)
وقول مقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي والثاني إنما أمر بخلعهما لينال قدميه بركة الوادي وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وثالثها أن يحمل ذلك على تعظيم البقعة من أن يطأها إلا حافياً ليكون معظماً لها وخاضعاً عند سماع كلام ربه والدليل عليه أنه تعالى قال عقيبه إِنَّكَ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ وهذا يفيد التعليل فكأنه قال تعالى اخلع نعليك لأنك بالوادي المقدس طوى وأما أهل الإشارة فقد ذكروا فيها وجوهاً أحدها أن النعل في النوم يفسر بالزوجة والولد فقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إشارة إلى أن لا يلفت خاطره إلى الزوجة والولد وأن لا يبقى مشغول القلب بأمرهما وثانيها المراد بخلع النعلين ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة كأنه أمره بأن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ولا يلتفت بخاطره إلى ما سوى الله تعالى والمراد من الوادي المقدس قدس جلال الله تعالى وطهارة عزته يعني أنك لما وصلت إلى بحر المعرفة فلا تلتفت إلى المخلوقات وثالثها أن الإنسان حال الاستدلال على الصانع لا يمكنه أن يتوصل إليه إلا بمقدمتين مثل أن يقول العالم المحسوس محدث أو ممكن وكل ما كان كذلك فله مدبر ومؤثر وصانع وهاتان المقدمتان تشبهان النعلين لأن بهما يتوصل العقل إلى المقصود ويتنقل من النظر في الخلق إلى معرفة الخالق ثم بعد الوصول إلى معرفة الخالق وجب أن لا يبقى ملتفتاً إلى تينك المقدمتين لأن بقدر الاشتغال بالغير يبقى محروماً عن الاستغراق فيه فكأنه قيل له لا تكن مشتغل القلب والخاطر بتينك المقدمتين فإنك وصلت إلى الوادي المقدس الذي هو بحر معرفة الله تعالى ولجة ألوهيته
المسألة التاسعة استدلت المعتزلة بقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ على أن كلام الله تعالى ليس بقديم إذ لو كان قديماً لكان الله قائلاً قبل وجود موسى اخلع نعليك يا موسى ومعلوم أن ذلك سفه فإن الرجل في الدار الخالية إذا قال يا زيد افعل ويا عمرو لا تفعل مع أن زيداً وعمراً لا يكونان حاضرين بعد ذلك جنوناً وسفهاً فكيف يليق ذلك بالإله سبحانه وتعالى وأجاب أصحابنا عنه من وجهين الأول أن كلامه تعالى وإن كان قديماً إلا أنه في الأزل لم يكن أمراً ولا نهياً والثاني أنه كان أمراً بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما لا يزال صار الشخص به مأموراً من غير وقوع التغير في ذلك الشيء كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة كذا ههنا وهذا الكلام فيه غموض وبحث دقيق
المسألة العاشرة ليس في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل والصحيح عدم الكراهة وذلك لأنا إن عللنا الأمر بخلع النعلين بتعظيم الوادي وتعظيم كلام الله كان الأمر مقصوراً على تلك الصورة وإن عللناه بأن النعلين كانا من جلد حمار ميت فجائز أن يكون قد كان محظوراً لبس جلد الحمار الميت وإن كان مدبوغاً فإن كان كذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام ( أيما إيهاب دبغ فقد طهر ) وقد صلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال ( ما لكم خلعتم نعالكم ) قالوا خلعت فخلعنا قال ( فإن جبريل أخبرني أن فيهما قذراً ) فلم يكره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الصلاة في النعل وأنكر على الخالعين خلعهما وأخبرهم بأنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر
المسألة الحادية عشر قرىء طوى بالضم والكسر منصرفاً وغير منصرف فمن نونه فهو اسم الوادي ومن لم ينونه ترك صرفه لأنه معدول عن طاوي فهو مثل عمر المعدول عن عامر ويجوز أن يكون اسماً للبقعة(22/16)
المسألة الثانية عشرة في طوى وجوه الأول أنه اسم للوادي وهو قول عكرمة وابن زيد والثاني معناه مرتين نحو مثنى أي قدس الوادي مرتين أو نودي موسى عليه السلام نداءين يقال ناديته طوى أي مثنى والثالث طوى أي طياً قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه مر بذلك الوادي ليلاً فطواه فكان المعنى بالوادي المقدس الذي طويته طياً أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه ومن ذهب إلى هذا قال طوى مصدر خرج عن لفظه كأنه قال طويته طوى كما يقال هدى يهدي هدي والله أعلم
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى
قرأ حمزة ( وإنا اخترناك ) وقرأ أبي بن كعب ( وإني اخترتك ) ههنا مسائل
المسألة الأولى معناه اخترتك للرسالة وللكلام الذي خصصتك به وهذه الآية تدل على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق لأن قوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يدل على أن ذلك المنصب العلي إنما حصل لأن الله تعالى اختاره له ابتداء لا أنه استحقه على الله تعالى
المسألة الثانية قوله فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى فيه نهاية الهيبة والجلالة فكأنه قال لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهب له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إليه فقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يفيد نهاية اللطف والرحمة وقوله فَاسْتَمِعْ يفيد نهاية الهيبة فيحصل له من الأول نهاية الرجاء ومن الثاني نهاية الخوف
المسألة الثالثة قوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع لأن التوحيد في علم الأصول والعبادة من علم الفروع وأيضاً الفاء في قوله فَاعْبُدْنِى تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهيته وهذا هو تحقيق العلماء أن الله هو المستحق للعبادة
المسألة الرابعة أنه سبحانه بعد أن أمره بالتوحيد أولاً ثم بالعبادة ثانياً أمره بالصلاة ثالثاً احتج أصحابنا بهذه الآية على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز من وجهين الأول أنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفية تلك العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكاً عن البيان الثاني أنه قال إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ولم يبين كيفية الصلاة قال القاضي لا يمتنع أن موسى عليه السلام قد عرف الصلاة التي تعبد الله تعالى بها شعيباً عليه السلام وغيره من الأنبياء فصار الخطاب متوجهاً إلى ذلك ويحتمل أنه تعالى بين له في الحال وأن كان المنقول في القرآن لم يذكر فيه إلا هذا القدر والجواب أما العذر الأول فإنه لا يتوجه في قوله تعالى فَاعْبُدْنِى وأيضاً فحمل مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم لأن موسى عليه السلام ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب عليه السلام فلو حملنا قوله اتْلُ مَا على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت الفائدة الزائدة قوله لعل الله تعالى بينه في ذلك الموضع وإن لم يحكه في القرآن قلنا لا نشك أن البيان أكثر فائدة من المجمل فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية(22/17)
المسألة الخامسة في قوله لِذِكْرِى وجوه أحدها لذكري يعني لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلي لي وثانيها لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد وثالثها لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ورابعها لأن أذكرك بالمدح والثناء واجعل لك لسان صدق وخامسها لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري وسادسها لإخلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر وسابعها لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم كما قال تعالى لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( النور 37 ) وثامنها لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة لقوله تعالى فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ( النساء 103 ) وتاسعها أَقِمِ الصَّلَواة َ حين تذكرها أي أنك إذا نسيت صلاة فاقضها إذا ذكرتها روى قتادة عن أنس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ) ثم قرأ إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ قال الخطابي يحتمل هذا الحديث وجهين أحدهما أنه لا يكفرها غير قضائها والآخر أنه لا يلزم في نسيانها غرامة ولا كفارة كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئاً من نسكه فدية من إطعام أو دم وإنما يصلي ما ترك فقط فإن قيل حق العبارة أن يقول أقم الصلاة لذكرها كما قال عليه السلام ( فليصلها إذا ذكرها ) قلنا قوله لِذِكْرِى معناه للذكر الحاصل بخلقي أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي
المسألة السادسة لو فاتته صلوات يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الشافعي رحمه الله ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة نظر إن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة ولو بدأ بصلاة الوقت جاز وإن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فات الوقت يجب أن يبدأ بصلاة الوقت حتى لا تفوت ولو تذكر الفائتة بعدما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها ولا يجب وقال أبو حنيفة رحمه الله يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم وليلة حتى قال لو تذكر في خلال صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت فيقضي الفائتة ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيقاً فلا تبطل حجة أبي حنيفة رحمه الله الآية والخبر والأثر والقياس أما الآية فقوله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى أي لتذكرها واللام بمعنى عند كقوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( الإسراء 78 ) أي عند دلوكها فمعنى الآية أقم الصلاة المتذكرة عند تذكرها وذلك يقتضي رعاية الترتيب وأما الخبر فقوله عليه السلام ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ) والفاء للتعقيب وأيضاً روى جابر بن عبد الله قال ( جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا والله ما صليتها بعد قال فنزل إلى البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها وهذا الحديث مذكور في ( الصحيحين ) قالت الحنفية والاستدلال به من وجهين أحدهما أنه عليه الصلاة والسلام قال ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فلما صلى الفوائت على الولاء وجب علينا ذلك والثاني إن فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة وهذا الفعل خرج بياناً لمجمل قوله تعالى وَأَنْ أَقِيمُواْ ( النور 56 ) ولهذا قلنا إن الفوائت إذا كانت في حد القلة يجب مراعاة الترتيب فيها وإذا دخلت في حد الكثرة يسقط الترتيب وأما الأثر فما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال ( من فاتته صلاة فلم يذكرها إلا في صلاة الإمام فليمض في صلاته فإذا قضى صلاته مع الإمام يصلي ما فاته ثم ليعد التي صلاها مع الإمام ) وقد يروى هذا مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأما القياس فهو أنهما(22/18)
صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة والمزدلفة فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك حجة الشافعي رحمه الله أنه روى في حديث أبي قتادة ( أنهم لما ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس أمرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها ) ولو كان وقت التذكر معيناً للصلاة لما جاز ذلك فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع إذا ثبت هذا فنقول إيجاب قضاء الفوائت وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين فوجب أن يكون المكلف مخيراً في تقديم أيهما شاء ولأنه لو كان الترتيب في الفوائت شرطاً لما سقط بالنسيان ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيم ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال والعصر بعد الزوال فإنه يعيدهما جميعاً ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما كان شرطاً فيهما فههنا أيضاً لو كان شرطاً فيهما لما كان يسقط بالنسيان
إِنَّ السَّاعَة َ ءَاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى
اعلم أنه تعالى لما خاطب موسى عليه السلام بقوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا ( طه 14 ) أتبعه بقوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا وما أليق هذا بتأويل من تأول قوله لِذِكْرِى أي لأذكرك بالأمانة والكرامة فقال عقيب ذلك إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة ثم قال أَكَادُ أُخْفِيهَا وفيه سؤالان
السؤال الأول هو أن كاد نفيه إثبات وإثباته نفي بدليل قوله وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ( البقرة 71 ) أي وفعلوا ذلك فقوله أَكَادُ أُخْفِيهَا يقتضي أنه ما أخفاها وذلك باطل لوجهين أحدهما قوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) والثاني أن قوله لِتَجْرِى َ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار والجواب من وجوه أحدها أن كاد موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات فقوله أَكَادُ أُخْفِيهَا معناه قرب الأمر فيه من الإخفاء وأما أنه هل حصل ذلك الإخفاء أو ما حصل فذلك غير مستفاد من اللفظ بل من قرينة قوله لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار وثانيها أن كاد من الله واجب فمعنى قوله أَكَادُ أُخْفِيهَا أي أنا أخفيها عن الخلق كقوله عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ( الإسراء 51 ) أي هو قريب قاله الحسن وثالثها قال أبو مسلم أَكَادُ بمعنى أريد وهو كقوله كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ( يوسف 76 ) ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي ولا أريد أن أفعله ورابعها معناه أَكَادُ أُخْفِيهَا من نفسي وقيل إنها كذلك في مصحف أبي وفي حرف ابن مسعود أَكَادُ أُخْفِيهَا من نفسي فكيف أعلنها لكم قال القاضي هذا بعيد لأن الإخفاء إنما يصح فيمن يصلح له الإظهار وذلك مستحيل على الله تعالى لأن كل معلوم معلوم له فالإظهار والإسرار منه مستحيل ويمكن أن يجاب عنه بأن ذلك واقع على التقدير يعني لو صح مني إخفاؤه على نفسي لأخفيته عني والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه لا يمتنع أن يذكر ذلك على هذا التقدير مبالغة في عدم(22/19)
إطلاع الغير عليه قال قطرب هذا على عادة العرب في مخاطبة بعضهم بعضاً يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي فالله تعالى بالغ في إخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب في مثله وخامسها أَكَادُ صلة في الكلام والمعنى إن الساعة آتية أخفيها قال زيد الخيل سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
فما إن يكاد قرنه يتنفس
والمعنى فما يتنفس قرنه وسادسها قال أبو الفتح الموصلي أَكَادُ أُخْفِيهَا تأويله أكاد أظهرها وتلخيص هذا اللفظ أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب والنفي كقولك أعجمت الكتاب وأشكلته أي أزلت عجمته وإشكاله وأشكيته أي أزلت شكواه وسابعها قرىء أخفيها بفتح الألف أي أكاد أظهرها من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهاره كقوله ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ ( القمر 1 ) قال امرؤ القيس فإن تدفنوا الداء لا نخفه
وإن تمنعوا الحرب لا نقعد
معنى هذاأي لا نظهره قال الزجاج وهذه القراءة أبين لأن معنى أكاد أظهرها يفيد أنه قد أخفاها وثامنها أراد أن الساعة آتية أكاد وانقطع الكلام ثم قال أخفيها ثم رجع الكلام الأول إلى أن الأولى الإخفاء لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى وهذا الوجه بعيد والله أعلم السؤال الثاني ما الحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت الجواب لأن الله تعالى وعد قبول التوبة فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قريب من ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية وإنه لا يجوز أما قوله لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة ذكر الدليل عليه وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء وذلك غير جائز وهو الذي عناه الله تعالى بقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )
المسألة الثانية احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل لأن الباء للالصاق فقوله بِمَا تَسْعَى يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي
المسألة الثالثة احتجوا بها على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى وذلك لأن الآية صريحة في إثبات سعي العبد ولو كان الكل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة أما قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا فالصد المنع وههنا مسائل
المسألة الأولى في هذين الضميرين وجهان أحدهما قال أبو مسلم لا يصدنك عنها أي عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي بالساعة فالضمير الأول عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه وثانيهما قال ابن عباس فلا يصدنك عن الساعة أي عن الإيمان بمجيئها من لا يؤمن بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة قال القاضي وهذا أولى لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم فإنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا
المسألة الثانية الخطاب في قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ يحتمل أن يكون مع موسى عليه السلام وأن يكون مع(22/20)
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأقرب أنه مع موسى لأن الكلام أجمع خطاب له وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج إنه ليس بمراد وإنما أريد به غيره وذلك لأنه ظن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما لم يجز عليه مع النبوة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطباً بذلك وليس الأمر كما ظن لأنه إذا كان مكلفاً بأن لا يقبل الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به ويكون المراد هو وغيره ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا النهي له عن الميل إليهم ومقاربتهم
المسألة الثالثة المقصود نهي موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صد موسى عليه السلام وفيه وجهان أحدهما أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب والثاني أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل حمله على السبب كقوله لا أرينك ههنا المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته فكذا ههنا كأنه قيل لا تكن رخواً بل كن في الدين شديداً صلباً
المسألة الرابعة الآية تدل على أن تعلم علم الأصول واجب لأن قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ يرجع معناه إلى صلابته في الدين وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه من المحق فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل هو يكون متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانه
المسألة الخامسة قال القاضي قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ يدل على أن العباد هم الذين يصدون ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصاد دونهم فدل ذلك على بطلان القول بالجبر والجواب المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم أما قوله تعالى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فالمعنى أن منكر البعث إنما أنكره اتباعاً للهوى لا لدليل وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد لأن المقلد متبع للهوى لا الحجة أما قوله فَتَرْدَى فهو بمعنى ولا يصدنك فتردى وإن صدوك وقبلت فليس إلا الهلاك بالنار واعلم أن المتوغلين في أسرار المعرفة قالوا المقام مقامان أحدهما مقام المحو والفناء عما سوى الله تعالى والثاني مقام البقاء بالله والأول مقدم على الثاني لأن من أراد أن يكتب شيئاً في لوح مشغول بكتابة أخرى فلا سبيل له إليه إلا بإزالة الكتابة الأولى ثم بعد ذلك يمكن إثبات الكتابة الثانية والحق سبحانه راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب لأنه قال لموسى عليه السلام اولا فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وهو إشارة إلى تطهير السر عما سوى الله تعالى ثم بعد ذلك أمره بتحصيل ما يجب تحصيله وأصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة علم المبدأ وعلم الوسط وعلم المعاد فعلم المبدأ هو معرفة الحق سبحانه وتعالى وهو المراد بقوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ( طه 14 ) وأما علم الوسط فهو علم العبودية ومعناها الأمر الذي يجب أن يشتغل الإنسان به في هذه الحياة الجسمانية وهو المراد بقوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا ( طه 14 ) ثم في هذا أيضاً تعثر لأن قوله فَاعْبُدْنِى إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله لِذِكْرِى إشارة إلى الأعمال الروحانية والعبودية أولها الأعمال الجسمانية وآخرها الأعمال الروحانية وأما علم المعاد فهو قوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ثم إنه تعالى افتتح هذه التكاليف بمحض اللطف وهو قوله إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ( طه 12 ) واختتمها بمحض القهر وهو قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى تنبيهاً على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة والرهبة والرجاء والخوف وعند الوقوف على هذه الجملة تعرف أن هذا الترتيب هو النهاية في الحسن والجودة وأن ذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات(22/21)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى قَالَ هِى َ عَصَاى َ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاٍّ ولَى
اعلم أن قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ لفظتان فقوله وَمَا تِلْكَ إشارة إلى العصا وقوله بِيَمِينِكَ إشارة إلى اليد وفي هذا نكت إحداها أنه سبحانه لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزاً قاهراً وبرهاناً باهراً ونقله من حد الجمادية إلى مقام الكرامة فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيواناً وصار الجسم الكثيف نورانياً لطيفاً ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى سعادة الطاعة ونور المعرفة وثانيها أن بالنظر الواحد صار الجماد ثعباناً يبتلع سحر السحرة فأي عجب لو صار القلب بمدد النظر الإلهي بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء وثالثها كانت العصا في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركة يمينه انقلبت ثعباناً وبرهاناً وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليمين موسى عليه السلام هذه الكرامة والبركة فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب إصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية ثم ههنا سؤالات الأول قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى سؤال والسؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة فيه والجواب فيه فوائد إحداها أن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئاً شريفاً فإنه يأخذه ويعرضه على الحاضرين ويقول لهم هذا ما هو فيقولون هذا هو الشيء الفلاني ثم إنه بعد إظهار صفته الفائقة فيه يقول لهم خذا منه كذا وكذا فالله تعالى لما أراد أن يظهر من العصا تلك الآيات الشريفة كانقلابها حية وكضربه البحر حتى انفلق وفي الحجر حتى انفجر منه الماء عرضه أولاً على موسى فكأنه قال له يا موسى هل تعرف حقيقة هذا الذي بيدك وأنه خشبة لا تضر ولا تنفع ثم إنه قلبه ثعباناً عظيماً فيكون بهذا الطريق قد نبه العقول على كمال قدرته ونهاية عظمته من حيث إنه أظهر هذه الآيات العظيمة من أهون الأشياء عنده فهذا هو الفائدة من قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى وثانيها أنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ثم إنه مزج اللطف بالقهر فلاطفه أولاً بقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ثم قهره بإيراد التكاليف الشاقة عليه وإلزامه علم المبدأ والوسط والمعاد ثم ختم كل ذلك بالتهديد العظيم تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ليعرف موسى عليه السلام أن يمينه هي التي فيها العصا أو لأنه لما تكلم معه أولاً بكلام الإلهية وتحير موسى من الدهشة تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة والنكتة فيه أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة أراد رب العزة إزالتها فسأله عن العصا وهو لا يقع الغلط فيه كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال فالدهشة تغلبه والحياء يمنعه عن الكلام فيسألونه عن الأمر الذي لم يغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه وثالثها أنه تعالى لما عرف موسى كمال الإلهية(22/22)
أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها منافع أعظم مما ذكر تنبيهاً على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات النبي الحاضر فلولا التوفيق والعصمة كيف يمكنهم الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها ورابعها فائدة هذا السؤال أن يقرر عنده أنه خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافها السؤال الثاني قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى خطاب من الله تعالى مع موسى عليه السلام بلا واسطة ولم يحصل ذلك لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيلزم أن يكون موسى أفضل من محمد الجواب من وجهين الأول أنه تعالى كما خاطب موسى فقد خاطب محمداً عليه السلام في قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 ) إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق والذي ذكره مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان سراً لم يستأهل له أحد من الخلق والثاني إن كان موسى تكلم معه وهو ( تكلم ) مع موسى فأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يخاطبون الله في كل يوم مرات على ما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المصلي يناجي ربه ) والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يوم القيامة بالتسليم والتكريم والتكليم في قوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) السؤال الثالث ما إعراب قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى الجواب قال صاحب ( الكشاف ) ( تلك بيمينك ) كقوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا ( هود 72 ) في انتصاب الحال بمعنى الإشارة ويجوز أن يكون تلك اسماً موصولاً وصلته بِيَمِينِكَ قال الزجاج معناه وما التي بيمينك قال الفراء معناه ما هذه التي في يمينك واعلم أنه سبحانه لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك أجاب موسى عليه السلام بأربعة أشياء ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال الأول قوله هِى َ عَصَاى َ قرأ ابن أبي إسحق ( هي عصي ) ومثلها ( يا بشرى ) قرأ الحسن ( هي عصاي ) بسكون الياء والنكث ههنا ثلاثة إحداها أنه قال هِى َ عَصَاى َ فذكر العصا ومن كان قلبه مشغولاً بالعصا ومنافعها كيف يكون مستغرقاً في بحر معرفة الحق ولكن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عرض عليه الجنة والنار فلم يلتفت إلى شيء مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( النجم 17 ) ولما قيل له امدحنا قال ( لا أحصي ثناء عليك ) ثم نسي نفسه ونسي ثناءه فقال ( أنت كما أثنيت على نفسك ) وثانيها لما قال عَصَاى َ قال الله سبحانه وتعالى أَلْقَاهَا فلما ألقاها فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى ليعرف أن كل ما سوى الله فالالتفات إليه شاغل وهو كالحية المهلكة لك ولهذا قال الخليل عليه السلام فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ وفي الحديث ( يجاء يوم القيامة بصاحب المال الذي لم يؤد زكاته ويؤتي بذلك المال على صورة شجاع أقرع ) الحديث بتمامه وثالثها أنه قال هي عصاي فقد تم الجواب إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض الثاني قوله قَالَ هِى َ والتوكي والإتكاء واحد كالتوقي والإتقاء معناه اعتمد عليها إذا عييت أو وقفت على رأس القطيع أو عند الطفرة فجعل موسى عليه السلام نفسه متوكئاً على العصا وقال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتكىء على رحمتي ) بقوله تعالى حَكِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 ) وقال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فإن قيل أليس قوله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يقتضي كون محمد يتوكأ على المؤمنين قلنا قوله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ معطوف على الكاف في قوله حَسْبَكَ اللَّهُ والمعنى الله حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين الثالث قوله وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى أي أخبط بها فأضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على غنمي فتأكله وقال أهل اللغة هش على غنمه يهش بضم الهاء في المستقبل وهششت الرجل أهش بفتح الهاء في المستقبل وهش الرغيف يهش بكسر الهاء قاله ثعلب وقرأ(22/23)
عكرمة ( وأهس ) بالسين غير المنقوطة والهش زجر الغنم واعلم أن غنمه رعيته فبدأ بمصالح نفسه في قوله قَالَ هِى َ ثم بمصالح رعيته في قوله وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى فكذلك في القيامة يبدأ بنفسه فيقول نفسي نفسي ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمة وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضاً بأمته فيقول ( أمتي أمتي ) والرابع قوله وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى أي حوائج ومنافع واحدتها مأربة بفتح الراء وضمها وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضاً والأرب بفتح الراء والإربة بكسر الألف وسكون الراء الحاجة وإنما قال أخرى لأن المآرب في معنى جماعة فكأنه قال جماعة من الحاجات أخرى ولو جاءت أخر لكان صواباً كما قال فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) ثم ههنا نكت إحداها أنه لما سمع قول الله تعالى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ عرف أن لله فيه أسراراً عظيمة فذكر ما عرف وعبر عن البواقي التي ما عرفها إجمالاً لا تفصيلاً بقوله وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى وثانيها أن موسى عليه السلام أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة فقال موسى إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها لكنك لما سألت عنها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى ومن جملتها أنك كلمتني بسببها فوجدت هذا الأمر العظيم الشريف بسببها وثالثها أن موسى عليه السلام أجمل رجاء أن يسأل ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله مرة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك ورابعها أنه بسبب اللطف انطلق لسانه ثم غلبته الدهشة فانقطع لسانه وتشوش فكره فأجمل مرة أخرى ثم قال وهب كانت ذات شعبتين كالمحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا حاول كسره لواه بالشعبتين ( و ) إذا سار وضعها على عاتقه يعلق فيها أدواته من القوس والكنانة والثياب وإذا كان في البرية ركزها وألقى كساء عليها فكانت ظلاً وقيل كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً ويصيران شمعتين في الليالي وإذا ظهر عدو حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نصب وكانت تقيه الهوام واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذه الجوابات أمره الله تعالى بإلقاء العصا فقال أَلْقِهَا يامُوسَى مُوسَى وفيه نكت إحداها أنه عليه السلام لما قال وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى أراد الله أن يعرفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائر مآربه فقال أَلْقِهَا يامُوسَى يامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى وثانيتها كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فقال أولاً فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ( طه 12 ) إشارة إلى ترك الهرب ثم قال ألقها يا موسى وهو إشارة إلى ترك الطلب كأنه سبحانه قال إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلاً بنفسك وطالباً لحظك فلا تكون خالصاً لمعرفتي فكن تاركاً للهرب والطلب لتكون خالصاً لي وثالثتها أن موسى عليه السلام مع علو درجته وكمال منقبته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بالقائهما حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابة ورابعتها أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان مجرداً عن الكل ما زاغ البصر فلا جرم وجد الكل لعمرك أما موسى لما بقي معه تلك العصا لا جرم أمره بإلقاء العصا واعلم أن الكعبي تمسك به في أن الاستطاعة قبل الفعل فقال القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يده أو خارجة من يده فإن أتته القدرة وهي في يده فذاك قولنا وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( آل عمران 182 ) وإذا أتته وليست في يده وإنما استطاع أن يلقي من يده ما ليس في يده فذلك محال أما قوله فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى ففيه أسئلة(22/24)
السؤال الأول ما الحكمة في قلب العصا حية في ذلك الوقت الجواب فيه وجوه أحدها أنه تعالى قلبها حية لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه وذلك لأنه عليه السلام إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا أنه لم يكن معجزاً لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن فلا جرم قلب الله العصا حية ليصير ذلك دليلاً قاهراً والعجب أن موسى عليه السلام قال أتوكأ عليها فصدقه الله تعالى فيه وجعلها متكأ له بأن جعلها معجزة له وثانيها أن النداء كان إكراماً له فقلب العصا حية مزيداً في الكرامة ليكون توالي الخلع والكرامات سبباً لزوال الوحشة عن قلبه وثالثها أنه عرض عليه ليشاهده أولاً فإذا شاهده عند فرعون لا يخافه ورابعها أنه كان راعياً فقيراً ثم إنه نصب للمنصب العظيم فلعله بقي في قلبه تعجب من ذلك فقلب العصا حية تنبيهاً على أني لما قدرت على ذلك فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين وخامسها أنه لما قال قَالَ هِى َ عَصَاى َ أَتَوَكَّؤُا إلى قوله وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى فقيل له أَلْقَاهَا فلما ألقاها وصارت حية فر موسى عليه السلام منها فكأنه قيل له ادعيت أنها عصاك وأن لك فيها مآرب أخرى فلم تفر منها تنبيهاً على سر قوله فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( الذاريات 50 ) وقوله قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ( الأنعام 91 ) السؤال الثاني قال ههنا حية وفي موضع آخر ثعبان وجان أما الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأما الثعبان والجان فبينهما تناف لأن الثعبان العظيم من الحيات والجان الدقيق وفيه وجهان أحدهما أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جرمها حتى صارت ثعباناً فأريد بالجان أول حالها وبالثعبان مآلها والثاني أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان والدليل عليه قوله تعالى فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ السؤال الثالث كيف كانت صفة الحية الجواب كان لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعاً وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها وجوفها أما قوله تعالى قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاْولَى ففيه سؤالات السؤال الأول لما نودي موسى وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه معبوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلم خاف والجواب من وجوه أحدها أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط وأيضاً فهذه الأشياء معلومة بدلائل العقول وعند الفزع الشديد قد يذهل الإنسان عنه قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه ألبتة وثانيها قال بعضهم خافها لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها وثالثها أن مجرد قوله لاَ تَخَفْ لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ( الأحزاب 1 ) لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً ( النمل 10 ) يدل عليه ولكن ذلك الخوف إنما ظهر ليظهر الفرق بينه وبين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه عليه السلام أظهر تعلق القلب بالعصا والنفرة عن الثعبان وأما محمد عليه السلام فما أظهر الرغبة في الجنة ولا النفرة عن النار السؤال الثاني متى أخذها بعد انقلابها عصا أو قبل ذلك والجواب روي أنه أدخل يده بين أسنانها فانقلبت خشبة والقرآن يدل عليه أيضاً بقوله سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاْولَى وذلك يقع في الاستقبال وأيضاً فهذا أقرب للكرامة لأنه كما أن انقلاب العصا حية معجزة فكذلك إدخال يده في فمها من غير ضرر معجزة وانقلابها(22/25)
خشباً معجز آخر فيكون فيه توالي المعجزات فيكون أقوى في الدلالة السؤال الثالث كيف أخذه أمع الخوف أو بدونه والجواب روي مع الخوف ولكنه بعيد لأن بعد توالي الدلائل يبعد ذلك وإذا علم موسى عليه السلام أنه تعالى عند الأخذ سيعيدها سيرتها الأولى فكيف يستمر خوفه وقد علم صدق هذا القول وقال بعضهم لما قال له ربه لاَ تَخَفْ بلغ من ذلك ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه إلى أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها السؤال الرابع ما معنى سيرتها الأولى والجواب قال صاحب ( الكشاف ) السيرة من السير كالركبة من الركوب يقال سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة السؤال الخامس علام انتصب سيرتها الجواب فيه وجهان أحدهما بنزع الخافض يعني إلى سيرتها وثانيهما أن يكون سنعيدها مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها كانت أولاً عصا فصارت حية فسنجعلها عصا كما كانت فنصب سيرتها بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى يعني سنيعدها سائرة بسيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُو ءٍ ءَايَة ً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
اعلم أن هذا هو المعجزة الثانية وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال لك ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر لأنه يجنحهما عند الطيران وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما إلى جناحك إلى صدرك والأول أولى لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر لأنه قال تَخْرُجْ بَيْضَاء ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله تُخْرِجُ معنى واعلم أن معنى ضم اليد إلى الجناح ما قال في آية أخرى وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ ( النمل 12 ) لأنه إذا أدخل يده في جيبه كان قد ضم يده إلى جناحه والله أعلم
المسألة الثانية السوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة والبرص أبغض شيء إلى العرب فكان جديراً بأن يكنى عنه يروى أنه عليه السلام كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها كانت تبرق مثل البرق وقيل مثل الشمس من غير برص ثم إذا ردها عادت إلى لونها الأول بلا نور
المسألة الثالثة بيضاء وآية حالان معاً ومن غير سوء من صلة البيضاء كما تقول ابيضت من غير سوء وفي نصب آية وجه آخر وهو أن يكون بإضمار نحو خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام وقد تعلق بهذا المحذوف لنريك أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى أو لنريك بهما(22/26)
الكبرى من آياتنا أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك فإن قيل الكبرى من نعت الآيات فلم لم يقل الكبر قلنا بل هي نعت الآية والمعنى لنريك الآية الكبرى ولئن سلمنا ذلك فهو كما قدمنا في قوله مَأَرِبُ أُخْرَى ( طه 18 ) و الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( طه 8 )
المسألة الرابعة قال الحسن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه تعالى ذكر لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى عقيب ذكر اليد وهذا ضعيف لأنه ليس في اليد إلا تغير اللون وأما العصا ففيه تغير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الحجر والشجر ثم عاد عصا بعد ذلك فقد وقع التغير مرة أخرى في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم وأما قوله لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى فقد بينا أنه عائد إلى الكل وأنه غير مختص باليد
المسألة الخامسة أنه سبحانه وتعالى لما أظهر له هذه الآية عقبها بأن أمره بالذهاب إلى فرعون وبين العلة في ذلك وهي أنه طغى وإنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبر وكان متبوعاً فكان ذكره أولى قال وهب قال الله تعالى لموسى عليه السلام ( اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه عني رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولاً ليناً لا يغترن بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل قال فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك بعبده )
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مِّن لِّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي وَاجْعَل لِّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِى هَارُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى كَى ْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً
اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون وكان ذلك تكليفاً شاقاً فلا جرم سأل ربه أموراً ثمانية ثم ختمها بما يجري مجرى العلة لسؤال تلك الأشياء
المطلوب الأول قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى واعلم أنه يقال شرحت الكلام أي بينته وشرحت صدره أي وسعته والأول يقرب منه لأن شرح الكلام لا يحصل إلا ببسطة والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر وهو قوله وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى ( الشعراء 13 ) فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة وقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فأفهم عنك ما أنزلت علي من الوحي وقيل(22/27)
شجعني لأجترىء به على مخاطبة فرعون ثم الكلام فيه يتعلق بأمور أحدها فائدة الدعاء وشرائطه وثانيها ما السبب في أن الإنسان لا يذكر وقت الدعاء من أسماء الله تعالى إلا الرب وثالثها ما معنى شرح الصدر ورابعها بماذا يكون شرح الصدر وخامسها كيف كان شرح الصدر في حق موسى عليه السلام ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وسادسها صفة صدر موسى عليه السلام هل كان منشرحاً أو لم يكن منشرحاً فإن كان منشرحاً كان طلب شرح الصدر تحصيلاً للحاصل وهو محال وإن لم يكن منشرحاً فهو باطل من وجهين الأول أنه سبحانه بين له فيما تقدم كل ما يتعلق بالأديان من معرفة الربوبية والعبودية وأحوال المعاد وكل ما يتعلق بشرح الصدر في باب الدين فقد حصل ثم إنه سبحانه تلطف له بقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) ثم كلمه على سبيل الملاطفة بقوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 17 ) ثم أظهر له المعجزات العظيمة والكرامات الجسيمة ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيراً وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر والثاني أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال عليه السلام ( لا يقضي القاضي وهو غضبان ) فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء فهذا مجموع الأمور التي لا بد من البحث عنها في هذه الآية
أما البحث الأول وهو فائدة الدعاء وشرائطه فقد تقدم في تفسير قوله رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ( البقرة 286 ) إلا أنه نذكر منها ههنا بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضع فنقول اعلم أن للكمال مراتب ودرجات وأعلاها أن يكون كاملاً في ذاته مكملاً لغيره أما كونه كاملاً في ذاته فكل ما كان كذلك كان كماله من لوازم ذاته وكل ما كان كذلك كان كاملاً في الأزل ولكنه يستحيل أن يكون مكملاً في الأزل لأن التكميل عبارة عن جعل الشيء كاملاً وذلك لا يتحقق إلا عند عدم الكمال فإنه لو كان حاصلاً في الأزل لاستحال التأثير فيه فإن تحصيل الحاصل محال وتكوين الكائن ممتنع فلا جرم أنه سبحانه وإن كان كاملاً في الأزل إلا أنه يصير مكملاً فيما لا يزال فإن قيل إذا كان التكميل من صفات الكمال فحيث لم يكن مكملاً في الأزل فقد كان عارياً عن صفات الكمال فيكون ناقصاً وهو محال قلنا النقصان إنما يلزم لو كان ذلك ممكناً في الأزل لكنا بينا أن الفعل الأزلي محال فالتكميل الأزلي محال فعدمه لا يكون نقصاناً كما أن قولنا إنه لا يقدر على تكوين مثل نفسه لا يكون نقصاناً لأنه غير ممكن الوجود في نفسه وكقولنا إنه لا يعلم عدداً مفصلاً كحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه وحركات أهل الجنة غير متناهية فلا يكون له عدد مفصل فامتنع ذلك لا لقصور في العلم بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول إذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه وتعالى لما قصد إلى التكوين وكان الغرض منه تكميل الناقصين لأن الممكنات قابلة للوجود وصفة الوجود صفة كمال فاقتضت قدرة الله تعالى على التكميل وضع مائدة الكمال للممكنات فأجلس على المائدة بعض المعدومات دون البعض لأسباب أحدها أن المعدومات غير متناهية فلو أجلس الكل على مائدة الوجود لدخل ما لا نهاية له(22/28)
في الوجود وثانيها أنه لو أوجد الكل لما بقي بعد ذلك قادراً على الإيجاد لأن إيجاد الموجود محال فكان ذلك وإن كان كمالاً للناقص لكنه يقتضي نقصان الكامل فإنه ينقلب القادر من القدرة إلى العجز وثالثها أنه لو دخل الكل في الوجود لما بقي فيه تمييز فلا يتميز القادر على الموجب والقدرة كمال والإيجاب بالطبع نقصان فلهذه الأسباب أخرج بعض الممكنات إلى الوجود فإن قيل عليه سؤالان أحدهما أن الموجودات متناهية والمعدومات غير متناهية ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي فتكون أيضاً الضيافة ضيافة للأقل وأما الحرمان فإنه عدد لما لا نهاية له وهذا لا يكون وجوداً الثاني أن البعض الذي خصه بهذه الضيافة إن كان لاستحقاق حصل فيه دون غيره فذلك الاستحقاق ممن حصل وإن كان لا لهذا الاستحقاق كان ذلك عبثاً وهو محال كما قيل يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً
وإنه لا يليق بأكرم الأكرمين والجواب عن الكل أن هذه الشبهات إنما تدور في العقول والخيالات لأن الإنسان يحاول قياس فعله على فعلنا وذلك باطل لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون إذا عرفت هذا فهذا الوجود الفائض من نور رحمته على جميع الممكنات هو الضيافة العامة والمائدة الشاملة وهو المراد من قوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء ( الأعراف 156 ) ثم إن الموجودات انقسمت إلى الجمادات وإلى الحيوانات ولا شك أن الجماد بالنسبة إلى الحيوان كالعدم بالنسبة إلى الوجود لأن الجماد لا خبر عنده من وجوده فوجوده بالنسبة إليه كالعدم وعدمه كالوجود وأما الحيوان فهو الذي يميز بين الموجود والمعدوم ويتفاوتان بالنسبة إليه ولأن الجماد بالنسبة إلى الحيوان آلة لأن الحيوانات تستعمل الجمادات في أغراض أنفسها ومصالحها وهي كالعبد المطيع المسخر والحيوان كالمالك المستولي فكانت الحيوانية أفضل من الجمادية فكما أن إحسان الله ورحمته اقتضيا وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون البعض كذلك اقتضيا وضع مائدة الحياة لبعض الموجودات دون البعض فلا جرم جعل بعض الموجودات أحياء دون البعض والحياة بالنسبة إلى الجمادية كالنور بالنسبة إلى الظلمة والبصر بالنسبة إلى العمى والوجود بالنسبة إلى العدم فعدن ذلك صار بعض الموجودات حياً مدركاً للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر فمن ثم قالت الأحياء عند ذلك يا رب الأرباب إنا وإن وجدنا خلعة الوجود وخلعة الحياة وشرفتنا بذلك لكن ازدادت الحاجة لأنا حال العدم وحال الجمادية ما كنا نحتاج إلى الملائم والموافق وما كنا نخاف المنافي والمؤذي ولما حصل الوجود والحياة احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي فإن لم تكن لنا قدرة على الهرب والطلب والدفع والجذب لبقينا كالزمن المقعد على الطريق عرضة للآفات وهدفاً لسهام البليات فأعطنا من خزائن رحمتك القدرة والقوة التي بها نتمكن من الطلب تارة والهرب أخرى فاقتضت الرحمة التامة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض الموجودات بالحياة وتخصيص بعض المعدومات بالوجود فقال القادرون عند ذلك إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا لأحد القسمين إما للمجانين المقيدين بالسلاسل والأغلال وإما للبهائم المستعملة في حمل الأثقال وكل ذلك من صفات النقصان وأنت قد رقيتنا من حضيض النقصان إلى أوج الكمال فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك وأعز مبدعاتك الذي شرفته بقولك ( بك أهين وبك أثيب وبك أعاقب ) حتى تفوز من خزائن رحمتك بالخلع الكاملة والفضيلة التامة فأعطاهم العقل وبعث في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية(22/29)
فعند هذه الدرجة فازوا بالخلع الأربعة الوجود والحياة والقدرة والعقل فالعقل خاتم الكل والخاتم يجب أن يكون أفضل ألا ترى أن رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان خاتم النبيين كان أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والإنسان لما كان خاتم المخلوقات الجسمانية كان أفضلها فكذلك العقل لما كان خاتم الخلع الفائضة من حضرة ذي الجلال كان أفضل الخلع وأكملها ثم نظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالجفنة المملوءة من الجواهر النفيسة بل كأنها سماء مملوءة من الكواكب الزاهرة وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بدائه العقول وصرائح الأذهان وكما أن الكواكب المركوزة في السموات علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر فكذلك الجواهر المركوزة في سماء العقل كواكب زاهرة يهتدي بها السائرون في ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار العالم الروحانية وفسحة السموات وأضوائها فلما نظر العقل إلى تلك الكواكب الزاهرة والجواهر الباهرة رأى رقم الحدوث على تلك الجواهر وعلى جميع تلك الخلع فاستدل بتلك الأرقام على راقم وبتلك النقوش على ناقش وعند ذلك عرف أن النقاش بخلاف النقش والباني بخلاف البناء فانفتح له من أعلى سماء عالم المحدثات روازن إلى أضواء لوائح عالم القدم وطالع عالم القدم الأزلية والجلال وكان العقل إنما نظر إلى أضواء عالم الأزلية من ظلمات عالم الحدوث والإمكان فغلبته دهشة أنوار الأزلية فعميت عيناه فبقي متحيراً فالتجأ بطبعه إلى مفيض الأنوار فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فإن البحار عميقة والظلمات متكاثفة وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الإنس والجن كثيرة فإن لم تشرح لي صدري ولم تكن لي عوناً في كل الأمور انقطعت وصارت هذه الخلع سبباً لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات فهذا هو المراد من قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ثم قال وَيَسّرْ لِى أَمْرِى وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فما لم يصر العبد مريداً له استحال أن يصير فاعلاً له فهذه الإرادة صفة محدثة ولا بد لها من فاعل وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم فيكون في الحقيقة هو الميسر للأمور وهو المتمم لجميع الأشياء وتمام التحقيق أن حدوث الصفة لا بد له من قابل وفاعل فعبر عن استعداد القابل بقوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وعبر عن حصول الفاعل بقوله وَيَسّرْ لِى أَمْرِى وفيه التنبيه على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يقولون يا مبتدئاً بالنعم قبل استحقاقها ومجموع هذين الكلامين كالبرهان القاطع على أن جميع الحوادث في هذا العالم واقعة بقضائه وقدره وحكمته وقدرته ويمكن أن يقال أيضاً كأن موسى عليه السلام قال إلهي لا أكتفي بشرح الصدر ولكن أطلب منك تنفيذ الأمر وتحصيل الغرض فلهذا قال وَيَسّرْ لِى أَمْرِى أو يقال إنه سبحانه وتعالى لما أعطاه الخلع الأربع وهي الوجود والحياة والقدرة والعقل فكأنه قال له يا موسى أعطيتك هذه الخلع الأربع فلا بد في مقابلتها من خدمات أربع لتقابل كل نعمة بخدمة فقال موسى عليه السلام ما تلك الخدمات فقال وأقم الصلاة لذكري فإن فيها أنواعاً أربعة من الخدمة القيام والقراءة والركوع والسجود فإذا أتيت بالصلاة فقد قابلت كل نعمة بخدمة ثم إنه تعالى لما أعطاه الخلعة الخامسة وهي خلعة الرسالة قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى حتى أعرف أني بأي خدمة أقابل هذه النعمة فقيل له بأن تجتهد في أداء هذه الرسالة على الوجه المطلوب فقال موسى يا رب إن هذا لا يتأتى مني مع عجزي وضعفي وقلة آلاتي وقوة خصمي فاشرح لي صدري ويسر لي أمري(22/30)
الفصل الثاني في قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى اعلم أن الدعاء سبب القرب من الله تعالى وإنما اشتغل موسى بهذا الدعاء طلباً للقرب فتفتقر إلى بيان أمرين إلى بيان أن الدعاء سبب القرب ثم إلى بيان أن موسى عليه السلام طلب القرب بهذا الدعاء أما بيان أن الدعاء سبب القرب فيدل عليه وجوه الأول أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية أما الأصولية فأولها في البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( البقرة 189 ) وثانيها في بني إسرائيل وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وثالثها وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً ( طه 105 ) ورابعها يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( النازعات 42 ) وأما الفروعية فستة منها في البقرة على التوالي أحدها يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ ( البقرة 215 ) وثانيها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ( البقرة 217 ) وثالثها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ( البقرة 219 ) ورابعها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ( البقرة 219 ) وخامسها فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ ( البقرة 220 ) وسادسها وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ( البقرة 222 ) وسابعها يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ( الأنفال 1 ) وثامنها وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً ( الكهف 83 ) وتاسعها وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ ( يونس 53 ) وعاشرها يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ ( النساء 176 ) والحادية عشر وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) إذا عرفت هذا فنقول جاءت هذه الأسئلة والأجوبة على صور مختلفة فالأغلب فيها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر السؤال قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قل وفي صورة أخرى جاء الجواب بصيغة فقل مع فاء التعقيب وفي صورة ثالثة ذكر السؤال ولم يذكر الجواب وهو قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( الأعراف 187 ) وفي صورة رابعة ذكر الجواب ولم يذكر فيه لفظ قل ولا لفظ فقل وهو قوله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ولا بد لهذه الأشياء من الفائدة فنقول أما الأجوبة الواردة بلفظ قل فلا إشكال فيها لأن قوله تعالى قل كالتوقيع المحدد في ثبوت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكالتشريف المحدد في كونه مخاطباً من الله تعالى بأداء الوحي والتبليغ وأما الصورة الثانية وهي قوله فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً ( طه 105 ) فالسبب أن قولهم وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ( طه 105 ) سؤال إما عن قدمها أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجيب بلفظ الفاء المفيد للتعقيب كأنه سبحانه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تقتصر فإن الشك فيه كفر ولا تمهل هذا الأمر لئلا يقعوا في الشك والشبهة ثم كيفية الجواب أنه قال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً ولا شك أن النسف ممكن لأنه ممكن في حق كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكناً في حق كل الجبل وذلك يدل على أنه ليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف فإن قيل إنهم قالوا أخبرنا عن إلهك أهو ذهب أو فضة أو حديد فقال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) ولم يقل فقل هو الله أحد مع أن هذه المسألة من المهمات قلنا إنه تعالى لم يحك في هذا الموضع سؤالهم وحرف الفاء من الحروف العاطفة فيستدعي سبق كلام فلما لم يوجد ترك الفاء بخلاف ههنا فإنه(22/31)
تعالى حكى سؤالهم فحسن عطف الجواب عليه بحرف الفاء وأما الصورة الثالثة فإنه تعالى لم يذكر الجواب في قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فالحكمة فيه أن معرفة وقت الساعة على التعيين مشتملة على المفاسد التي شرحناها فيما سبق فلهذا لم يذكر الله تعالى ذلك الجواب وذلك يدل على أن من الأسئلة ما لا يجاب عنها وأما الصورة الرابعة وهي قوله فَإِنّي قَرِيبٌ ولم يذكر في جوابه قل ففيه وجوه أحدها أن ذلك يدل على تعظيم حال الدعاء وأنه من أعظم العبادات فكأنه سبحانه قال يا عبادي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك يدل عليه أن كل قصة وقعت لم تكن معرفتها من المهمات قال لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) اذكر لهم تلك القصة كقوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ْ ءادَمَ بِالْحَقّ ( المائدة 27 ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءاتَيْنَاهُ ءايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ( الأعراف 175 ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى ( مريم 51 ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ( مريم 54 ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ( مريم 56 ) وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( الحجر 51 ) ثم قال في قصة يوسف نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) وفي أصحاب الكهف نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ ( الكهف 13 ) وما ذاك إلالما في هاتين القصتين من العجائب والغرائب والحاصل كأنه سبحانه وتعالى قال يا محمد إذا سئلت عن غيري فكن أنت المجيب وإذا سئلت عني فاسكت أنت حتى أكون أنا القائل وثانيها أن قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي يدل على أن العبد له ( أن يسأل ) وقوله فَإِنّي قَرِيبٌ يدل على أن الرب قريب من العبد وثالثها لم يقل فالعبد مني قريب بل قال أنا منه قريب وهذا فيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء فكيف يكون قريباً بل القريب هو الحق سبحانه وتعالى فإنه بفضله وإحسانه جعله موجوداً وقربه من نفسه فالقرب منه لا من العبد فلهذا قال فَإِنّي قَرِيبٌ ورابعها أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولاً بغير الله تعالى فإنه لا يكون داعياً لله تعالى فإذا فنى عن الكل وصار مستغرقاً بمعرفة الله الأحد الحق امتنع أن يبقى في مقام الفناء عن غير الله مع الالتفات إلى غير الله تعالى فلا جرم رفعت الواسطة من البين فما قال فقل إني قريب بل قال فَإِنّي قَرِيبٌ فثبت بما تقرر فضل الدعاء وأنه من أعظم القربات ثم من شأن العبد إذا أراد أن يتحف مولاه أن لا يتحفه إلا بأحسن التحف والهدايا فلا جرم أول ما أراد موسى أن يتحف الحضرة الإلهية بتحف الطاعات والعبادات أتحفها بالدعاء فلا جرم قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والوجه الثاني في بيان فضل الدعاء قوله عليه السلام ( الدعاء مخ العبادة ) ثم إن أول شيء أمر الله تعالى به موسى عليه السلام ( العبادة ) لأن قوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) إخبار وليس بأمر إنما الأمر قوله فَاعْبُدْنِى ( طه 14 ) فلما كان أول ما أورد على موسى من الأوامر هو الأمر بالعبادة لا جرم أول ما أتحف به موسى عليه السلام حضرة الربوبية من تحف العبادة هو تحفة الدعاء فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والوجه الثالث وهو أن الدعاء نوع من أنواع العبادة فكما أنه سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والصوم فكذلك أمر بالدعاء ويدل عليه قوله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ ( البقرة 186 ) وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ( الأعراف 56 ) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً(22/32)
( الأعراف 55 ) هُوَ الْحَى ُّ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( غافر 65 ) قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ ( الإسراء 110 ) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً ( الأعراف 205 ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ادعوا بياذا الجلال والإكرام ) فبهذه الآيات عرفنا أن الدعاء عبادة قال بعض الجهال الدعاء على خلاف العقل من وجوه أحدها أنه علام الغيوب يعلم ما في الأنفس وما تخفي الصدور فأي حاجة بنا إلى الدعاء وثانيها أن المطلوب إن كان معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الدعاء وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه وثالثها الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى سوء أدب ورابعها المطلوب بالدعاء إن كان من المصالح فالحكيم لا يهمله وإن لم يكن من المصالح لم يجز طلبه وخامسها فقد جاء أن أعظم مقامات الصديقين الرضا بقضاء الله تعالى وقد ندب إليه والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالالتماس والطلب وسادسها قال عليه السلام رواية عن الله تعالى ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) فدل على أن الأولى ترك الدعاء والآيات التي ذكرتموها تقتضي وجوب الدعاء وسابعها أن إبراهيم عليه السلام لما ترك الدعاء واكتفى بقوله ( حسبي من سؤالي علمه بحالي ) استحق المدح العظيم فدل على أن الأولى ترك الدعاء والجواب عن الأول أنه ليس الغرض من الدعاء الأعلام بل هو نوع تضرع كسائر التضرعات وعن الثاني أنه يجري مجرى أن نقول للجائع والعطشان إن كان الشبع معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الأكل والشرب وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه وعن الثالث أن الصيغة وإن كانت صيغة الأمر إلا أن صورة التضرع والخشوع تصرفه عن ذلك وعن الرابع يجوز أن يصير مصلحة بشرط سبق الدعاء وعن الخامس أنه إذا دعا إظهاراً للتضرع ثم رضي بما قدره الله تعالى فذاك أعظم المقامات وهو الجواب عن البقية إذا ثبت أنه من العبادات ثم إنه تعالى أمره بالعبادة وبالصلاة أمراً ورد مجملاً لا جرم شرع في أجل العبادات وهو الدعاء الوجه الرابع في فضل الدعاء أنه سبحانه لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه يغضب إذا لم يسأل فقال فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 43 ) وقال عليه السلام ( لا يقولون أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ) ولكن يجزم فيقول اللهم اغفر لي فلهذا السر جزم موسى عليه السلام بالدعاء وقال رب اشرح لي صدري الوجه الخامس في فضل الدعاء قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وفيه كرامة عظيمة لأمتنا لأن بني إسرائيل فضلهم الله تفضيلاً عظيماً فقال في حقهم وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) وقال أيضاً وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ ( المائدة 20 ) ثم مع هذه الدرجة العظيمة قالوا لموسى عليه السلام ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِى َ ( البقرة 68 ) وأن الحواريين مع جلالتهم في قولهم نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( آل عمران 52 ) سألوا عيسى عليه السلام أن يسأل لهم مائدة تنزل من السماء ثم إنه سبحانه وتعالى رفع هذه الواسطة في أمتنا فقال مخاطباً لهم من غير واسطة ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ وقال وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ( النساء 32 ) فلهذا السبب لما حصلت هذه الفضيلة لهذه الأمة وكان موسى عليه السلام قد عرفها لا جرم فقال ( اللهم اجعلني من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فلا جرم رفع يديه ابتداء فقال(22/33)
رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى واعلم أنه تعالى قال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) ثم إنه تعالى جعل العباد على سبعة أقسام أحدها عبد العصمة إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بمزيد العصمة وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى ( طه 41 ) فلا جرم طلب زوائد العصمة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثانيها عبد الصفوة وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( النمل 59 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بمزيد الصفوة قَالَ يامُوسَى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ( الأعراف 144 ) فلا جرم أراد مزيد الصفوة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثالثها عبد البشارة فَبَشّرْ عِبَادِى الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الزمر 17 18 ) وكان موسى عليه السلام مخصوصاً بذلك وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) فأراد مزيد البشارة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ورابعها عبد الكرامة الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ( الزخرف 68 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بذلك لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا ( طه 46 ) فأراد الزيادة عليها فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وخامسها عبد المغفرة نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( الحجر 49 ) وكان موسى عليه السلام مخصوصاً بذلك رَبّ اغْفِرْ لِى ( ص 35 ) فغفر له فأراد الزيادة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وسادسها عبد الخدمة اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ( البقرة 21 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بذلك وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى فطلب الزيادة فيها فقال اشْرَحْ لِى صَدْرِى وسابعها عبد القربة وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ( البقرة 186 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بالقرب وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 ) فأراد كمال القرب فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى
الفصل الثالث في قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وفيه وجوه أحدها أنه تعالى لما خاطبه بالأشياء الستة ( التي ) أحدها معرفة التوحيد إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ( طه 14 ) وثانيها أمره بالعبادة والصلاة إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا ( طه 14 ) وثالثها معرفة الآخرة إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ ( طه 15 ) ورابعها حكمة أفعاله في الدنيا وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 17 ) وخامسها عرض المعجزات الباهرة عليه لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى ( طه 23 ) وسادسها إرساله إلى أعظم الناس كفراً وعتواً فكانت هذه التكاليف الشاقة سبباً للقهر فأراد موسى عليه السلام جبر هذا القهر بالمعجز فعرفه أن كل من سأله قرب منه فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فأراد جبر القهر الحاصل من هذه التكاليف بالقرب منه فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى أو يقال خاف شياطين الإنس والجن فدعا ليصل بسبب الدعاء إلى مقام القرب فيصير مأموناً من غوائل شياطين الجن والإنس وثانيها أن المراد أنه أراد الذهاب إلى فرعون وقومه فأراد أن يقطع طمع الخلق عن نفسه بالكلية فعرف أن من دعا ربه قربه له وقربه لديه فحينئذ تنقطع الأطماع بالكلية فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثالثها الوجود كالنور والعدم كالظلمة وكل ما سوى الله تعالى فهو عدم محض فكل شيء هالك إلا وجهه فالكل كأنهم في ظلمات العدم وإظلال عالم الأجسام والإمكان فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى حتى يجلس قلبي في بهي ضوء المعرفة وسادة شرح الصدر والجالس في الضوء لا يرى من كان جالساً في الظلمة فحين جلس في ضوء شرح الصدر لا يرى أحداً في الوجود فلهذا عقبه بقوله وَيَسّرْ لِى أَمْرِى فإن العبد في مقام الاستغراق لا يتفرغ لشيء من المهمات ورابعها رب اشرح لي صدري فإن عين العين ضعيفة فأطلع يا إلهي شمس التوفيق حتى أرى كل شيء كما(22/34)
هو وهذا في معنى قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( أرنا الأشياء كما هي ) واعلم أن شرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب والاستماع مقدمة الفهم الحاصل من سماع الكلا فالله تعالى أعطى موسى عليه السلام المقدمة الثانية وهي فاستمع لما يوحى فلا جرم نسج موسى على ذلك المنوال فطلب المقدمة الأخرى فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ولما آل الأمر إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قيل له وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) والعلم هو المقصود فلما كان موسى عليه السلام كالمقدمة لمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا جرم أعطى المقدمة ولما كان محمد كالمقصود لا جرم أعطى المقصود فسبحانه ما أدق حكمته في كل شيء وسادسها الداعي له صفتان إحداهما أن يكون عبداً للرب وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) وثانيتهما أن يكون الرب له وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) أضاف نفسه إلينا وما أضافنا إلى نفسه والمشتغل بالدعاء قد صار كاملاً من هذين الوجهين فأراد موسى عليه السلام أن يرتع في هذا البستان فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وسابعها أن موسى عليه السلام شرفه الله تعالى بقوله وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 ) فكأن موسى عليه السلام قال إلهي لما قلت وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً صرت قريباً منك ولكن أريد قربك مني فقال يا موسى أما سمعت قولي وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ فأشتغل بالدعاء حتى أصير قريباً منك فعند ذلك قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثامنها قال موسى عليه السلام رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وقال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( الشرح 1 ) ثم إنه تعالى ما تركه على هذه الحالة بل قال وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( الأحزاب 46 ) فانظر إلى التفاوت فإن شرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلاً للنور والسراج المنير هو أن يعطي النور فالتفاوت بين موسى عليه السلام ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كالتفاوت بين الآخذ والمعطي ثم نقول إلهنا إن ديننا وهي كلمة لا إله إلا الله نور والوضوء نور والصلاة نور والقبر نور والجنة نور فبحق أنوارك التي أعطيتنا في الدنيا لا تحرمنا أنوار فضلك وإحسانك يوم القيامة الفصل الرابع في قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن شرح الصدر فقال نور يقذف في القلب فقيل وما أمارته فقال التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل النزول ويدل على أن شرح الصدر عبارة عن النور قوله تعالى أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ ( الزمر 22 ) واعلم أن الله تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور أحدها وصف ذاته بالنور اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وثانيها الرسول قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( المائدة 15 ) وثالثها القرآن وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ ( الأعراف 157 ) ورابعها الإيمان يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ( التوبة 32 ) وخامسها عدل الله وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا ( الزمر 69 ) وسادسها ضياء القمر وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ( نوح 16 ) وسابعها النهار وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) وثامنها البينات إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( المائدة 44 ) وتاسعها الأنبياء نُّورٌ عَلَى نُورٍ ( النور 35 ) وعاشرها المعرفة مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة ٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ( النور 35 ) إذا ثبت هذا فنقول كأن موسى عليه السلام قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى بمعرفة أنوار جلالك وكبريائك وثانيها رب اشرح لي صدري بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك وثالثها رب اشرح لي صدري باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك ورابعها رب اشرح لي صدري بنور الإيمان(22/35)
والإيقان بإلهيتك وخامسها رب اشرح صدري بالإطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك وسادسها رب اشرح لي صدري بالإنتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام حيث انتقل من الكوكب والقمر والشمس إلى حضرة العزة وسابعها رب اشرح لي صدري من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك وثامنها رب اشرح لي صدري بالإطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك وتاسعها رب اشرح لي صدري في أن أكون خلف صور الأنبياء المتقدمين ومتشبهاً بهم في الإنقياد لحكم رب العالمين وعاشرها رب اشرح لي صدري بأن تجعل سراج الإيمان في قلبي كالمشكاة التي فيها المصباح واعلم أن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج وذلك النور كالنار ومعلوم أن من أراد أن يستوقد سراجاً احتاج إلى سبعة أشياء زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن فالعبد إذا طلب النور الذي هو شرح الصدر افتقر إلى هذه السبعة فأولها لا بد من زند المجاهدة وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( العنكبوت 69 ) وثانيها حجر التضرع ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 55 ) وثالثها حراق منع الهوى وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ( النازعات 40 ) ورابعها كبريت الإنابة وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ الزمر 54 ) ملطخاً رؤوس تلك الخشبات بكبريت توبوا إلى الله وخامسها مسرجة الصبر وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 45 ) وسادسها فتيلة الشكر لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ( إبراهيم 7 ) وسابعها دهن الرضا وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ ( الطور 48 ) أي ارض بقضاء ربك فإذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن لا تطلب المقصود إلا من حضرته مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَة ٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ( فاطر 2 ) ثم اطلبها بالخشوع والخضوع وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ( طه 108 ) فعند ذلك ترفع يد التضرع وتقول رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فهنالك تسمع قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 36 ) ثم نقول هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه أحدها الشمس تحجبها غمامة وشمس المعرفة لا يحجبها السموات السبع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) وثانيها الشمس تغيب ليلاً وتعود نهاراً قال إبراهيم عليه السلام لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) أما شمس المعرفة فلا تغيب ليلاً إِنَّ نَاشِئَة َ الَّيْلِ هِى َ أَشَدُّ ( المزمل 6 ) وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ ( آل عمران 17 ) بل أكمل الخلع الروحانية تحصل في الليل سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) وثالثها الشمس تفنى إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ ( التكوير 1 ) وشمس المعرفة لا تفنى سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ورابعها الشمس إذا قابلها القمر انكسفت أما ههنا فشمس المعرفة وهي معرفة أشهد أن لا إله إلا الله ما لم يقابلها قمر أشهد أن محمداً رسول الله لم يصل نوره إلى عالم الجوارح وخامسها الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيضها يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ( آل عمران 106 ) وسادسها الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الحرق جزياً مؤمن فإن نورك قد أطفأ لهبي وسابعها الشمس تصدع والمعرفة تصعد إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) وثامنها الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في العقبى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ ( الكهف 46 ) وتاسعها الشمس في السماء زينة لأهل الأرض والمعرفة في الأرض زينة لأهل السماء وعاشرها الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى(22/36)
وذلك يدل على الحسد مع التكبر والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى وذلك يدل على التواضع مع الشرف وحادي عشرها الشمس تعرف أحوال الخلق وبالمعرفة يصل القلب إلى الخالق وثاني عشرها الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي فلما كانت المعرفة موصوفة بهذه الصفات النفيسة لا جرم قال موسى رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وأما النكت فإحداها الشمس سراج استوقدها الله تعالى للفناء كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) والمعرفة استوقدها للبقاء فالذي خلقها للفناء لو قرب الشيطان منها لاحترق شِهَاباً رَّصَداً ( الجن 9 ) والمعرفة التي خلقها للبقاء كيف يقرب منها الشيطان رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثانيتها استوقد الله الشمس في السماء وإنها تزيل الظلمة عن بيتك مع بعدها عن بيتك وأوقد شمس المعرفة في قلبك أفلا تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك مع قربها منك وثالثتها من استوقد سراجاً فإنه لا يزال يتعهده ويمده والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ ( الحجرات 7 ) أفلا يمده وهو معنى قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ورابعتها اللص إذا رأى السراج يوقد في البيت لا يقرب منه والله قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه فلهذا قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وخامستها المجوس أوقدوا ناراً فلا يريدون إطفاءها والملك القدوس أوقد سراج الإيمان في قلبك فكيف يرضى بإطفائه واعلم أنه سبحانه وتعالى أعطى قلب المؤمن تسع كرامات أحدها الحياة أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) فلما رغب موسى عليه السلام في الحياة الروحانية قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ثم النكتة أنه عليه السلام قال من أحيا أرضاً ميتة فهي له فالعبد لما أحيا أرضاً فهي له فالرب لما خلق القلب وأحياه بنور الإيمان فكيف يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ( الأنعام 91 ) وكما أن الإيمان حياة القلب بالكفر موته أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ ( النحل 21 ) وثانيها الشفاء وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( التوبة 14 ) فلما رغب موسى في الشفاء رفع الأيدي قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أنه تعالى لما جعل الشفاء في العسل بقي شفاء أبداً فههنا لما وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى شفاء أبداً وثالثها الطهارة أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( الحجرات 3 ) فلما رغب موسى عليه السلام في تحصيل طهارة التقوى قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أن الصائغ إذا امتحن الذهب مرة فبعد ذلك لا يدخله في النار فههنا لما امتحن الله قلب المؤمن فكيف يدخله النار ثانياً ولكن الله يدخل في النار قلب الكافر لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ ( الأنفال 37 ) ورابعها الهداية ومن يؤمن بالله يهد قلبه فرغب موسى عليه السلام في طلب زوائد الهداية فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أن الرسول يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك فلما كانت الهداية من الكفر من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا جرم تارة تحصل وأخرى لا تحصل إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( القصص 56 ) وهداية الروح لما كانت من القرآن فتارة تحصل وأخرى لا تحصل يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 ) أما هداية القلب فلما كانت من الله تعالى فإنها لا تزول لأن الهادي لا يزول وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( يونس 25 ) وخامسها الكتابة أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادلة 22 ) فلما رغب موسى عليه السلام في تلك الكتابة قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وفيه نكت(22/37)
الأولى أن الكاغدة ليس لها خطر عظيم وإذا كتب فيها القرآن لم يجز إحراقها فقلب المؤمن كتب فيه جميع أحكام ذات الله تعالى وصفاته فكيف يليق بالكريم إحراقه الثانية بشر الحافي أكرم كاغداً فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين فإكرام قلب فيه معرفة الله تعالى أولى بذلك والثالثة كاغد ليس فيه خط إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى أنه لا يجوز للجنب والحائض أن يمسه بل قال الشافعي رحمه الله تعالى ليس له أن يمس جلد المصحف وقال الله تعالى لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ( الواقعة 79 ) فالقلب الذي فيه أكرم المخلوقات وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسراء 70 ) كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه والله أعلم وسادسها السكينة هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ( الفتح 4 ) فلما رغب موسى عليه السلام في طلب السكينة قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أن أبا بكر رضي الله عنه كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان خائفاً فلما نزلت السكينة عليه قال لا تحزن فلما نزلت سكينة الإيمان فرجوا أن يسمعوا خطاب أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ ( فصلت 30 ) وأيضاً لما نزلت السكينة صار من الخلفاء وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ ( النور 55 ) أي أن يصيروا خلفاء الله في أرضه وسابعها المحبة والزينة وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزِينَة ٌ فِي قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 7 ) والنكتة أن من ألقى حبة في أرض فإنه لا يفسدها ولا يحرقها فهو سبحانه وتعالى ألقى حبة المحبة في أرض القلب فكيف يحرقها وثامنها وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبُكُمْ ( الأنفال 63 ) والنكتة أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ألف بين قلوب أصحابه ثم إنه ما تركهم ( في ) غيبة ولا حضور ( سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) فالرحيم كيف يتركهم وتاسعها الطمأنينة أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وموسى طلب الطمأنينة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أن حاجة العبد لا نهاية لها فلهذا لو أعطى كل ما في العالم من الأجسام فإنه لا يكفيه لأن حاجته غير متناهية والأجسام متناهية والمتناهي لا يصير مقابلاً لغير المتناهي بل الذي يكفي في الحاجة الغير المتناهية الكمال الذي لا نهاية له وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى فلهذا قال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ولما عرفت حقيقة شرح الصدر للمؤمنين فاعرف صفات قلوب الكافرين لوجوه أحدها فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وثانيها ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم وثالثها في قلوبهم مرض ورابعها جعلنا قلوبهم قاسية وخامسها إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وسادسها ختم الله على قلوبهم وسابعها أم على قلوب أقفالها وثامنها كلا بل ران على قلوبهم وتاسعها أولئك الذين طبع الله على قلوبهم إلهنا وسيدنا بفضلك وإحسانك أغلق هذه الأبواب التسعة من خذلانك عنا واجبرنا بإحسانك وافتح لنا تلك الأبواب التسعة من إحسانك بفضلك ورحمتك إنك على ما تشاء قدير الفصل الخامس في حقيقة شرح الصدر ذكر العلماء فيه وجهين الأول أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا لا بالرغبة ولا بالرهبة أما الرغبة فهي أن يكون متعلق القلب بالأهل والولد وبتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم وأما الرهبة فهي أن يكون خائفاً من الأعداء والمنازعين فإذا شرح الله صدره صغر كل ما يتعلق بالدنيا في عين همته فيصير كالذباب والبق والبعوض لا تدعوه رغبة إليها ولا تمنعه رهبة عنها فيصير الكل عنده كالعدم وحينئذ يقبل القلب بالكلية نحو طلب مرضاة الله تعالى فإن القلب في المثال كينبوع من الماء والقوة البشرية لضعفها كالينبوع الصغير فإذا فرقت ماء العين(22/38)
الواحدة على الجداول الكثيرة ضعفت الكل فأما إذا انصب الكل في موضع واحد قوي فسأل موسى عليه السلام ربه أن يشرح له صدره بأن يوفقه على معايب الدنيا وقبح صفاتها حتى يصير قلبه نفوراً عنها فإذا حصلت النفرة توجه إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات بالكلية الثاني أن موسى عليه السلام لما نصب لذلك المنصب العظيم احتاج إلى تكاليف شاقة منها ضبط الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى ومنها إصلاح العالم الجسداني فكأنه صار مكلفاً بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر ألا ترى أن المشتغل بالإبصار يصير ممنوعاً عن السماع والمشتغل بالسماع يصير ممنوعاً عن الإبصار والخيال فهذه القوى متجاذبة متنازعة وأن موسى عليه السلام كان محتاجاً إلى الكل ومن استأنس بجمال الحق استوحش من جمال الخلق فسأل موسى ربه أن يشرح صدره بأن يفيض عليه كمالاً من القوة لتكون قوته وافية بضبط العالمين فهذا هو المراد من شرح الصدر وذكر العلماء لهذا المعنى أمثلة المثال الأول اعلم أن البدن بالكلية كالمملكة والصدر كالقلعة والفؤاد كالقصر والقلب كالتخت والروح كالملك والعقل كالوزير والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة والغضب كالاسفهسالار الذي يشتغل بالضرب والتأديب أبداً والحواس كالجواسيس وسائر القوى كالخدم والعملة والصناع ثم إن الشيطان خصم لهذه البلدة ولهذه القلعة ولهذا الملك فالشيطان هو الملك والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده فأول ما أخرج الروح وزيره وهو العقل فكذا الشيطان أخرج في مقابلته الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى يدعو إلى الشيطان ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الشيطان في مقابلة الفطنة الشهوة فالفطنة توقفك على معايب الدنيا والشهوة تحركك إلى لذات الدنيا ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتقوي الفطنة بالفكرة فتقف على الحاضر والغائب من المعائب على ما قال عليه السلام ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة ) فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً والحلم يوقف العقل على قبح الدنيا فأخرج الشيطان في مقابلته العجلة والسرعة فلهذا قال عليه السلام ( ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا الخرق في شيء إلا شانه ) ولهذا خلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه هي الخصومة الواقعة بين الصنفين وقلبك وصدرك هو القلعة ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقاً وهو الزهد في الدنيا وعدم الرغبة فيها وله سور وهو الرغبة الآخرة ومحبة الله تعالى فإن كان الخندق عظيماً والسور قوياً عجز عسكر الشيطان عن تخريبه فرجعوا وراءهم وتركوا القلعة كما كانت وإن كان خندق الزهد غير عميق وسور حب الآخرة غير قوي قدر الخصم على استفتاح قلعة الصدر فيدخلها ويبيت فيها جنوده من الهوى والعجب والكبر والبخل وسوء الظن بالله تعالى والنميمة والغيبة فينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه فإذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح الأمر وانشرح الصدر وخرجت ظلمات الشيطان ودخلت أنوار هداية رب العالمين وذلك هو المراد بقوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى المثال الثاني اعلم أن معدن النور هو القلب واشتغال الإنسان بالزوجة والولد والرغبة في مصاحبة الناس والخوف من الأعداء هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر فإذا قوى الله(22/39)
بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه ولا شك في أنهم من حيث هم عدم محض على ما قال تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) فلا يزال العبد يتأمل فيما سوى الله تعالى إلى أن يشاهد أنهم عدم محض فعند ذلك يزول الحجاب بين قلبه وبين أنوار جلال الله تعالى وإذا زال الحجاب امتلأ القلب من النور فذلك هو انشراح الصدر
الفصل السادس في الصدر علم أنه يجيء والمراد منه القلب أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الزمر 22 ) رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ ( العاديات 10 ) يَعْلَمُ خَائِنَة َ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ ( غافر 19 ) وقد يجيء والمراد الفضاء الذي فيه الصدر فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 ) واختلف الناس في أن محل العقل هل هو القلب أو الدماغ وجمهور المتكلمين على أنه القلب وقد شرحنا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وقال بعضهم المواد أربعة الصدر والقلب والفؤاد واللب فالصدر مقر الإسلام أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الزمر 22 ) والقلب مقر الإيمان وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزِينَة ٌ فِي قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 7 ) والفؤاد مقر المعرفة مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( النجم 11 ) إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ( الإسراء 36 ) واللب مقر التوحيد إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ ( الرعد 19 ) واعلم أن القلب أول ما بعث إلى هذا العالم بعث خالياً عن النقوش كاللوح الساذج وهو في عالم البدن كاللوح المحفوظ ثم إنه تعالى يكتب فيه بقلم الرحمة والعظمة كل ما يتعلق بعالم العقل من نقوش الموجودات وصور الماهيات وذلك يكون كالسطر الواحد إلى آخر قيام القيامة لهذا العالم الأصغر وذلك هو الصورة المجردة والحالة المطهرة ثم إن العقل يركب سفينة التوفيق ويلقيها في بحار أمواج المعقولات وعوالم الروحانيات فيحصل من مهاب رياح العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الإدبار أخرى فربما وصلت سفينة النظر إلى جانب مشرق الجلال فتسطع عليه أنوار الإلهية ويتخلص العقل عن ظلمات الضلالات وربما توغلت السفينة في جنوب الجهالات فتنكسر وتغرق فحيثما تكون السفينة في ملتطم أمواج العزة يحتاج حافظ السفينة إلى التماس الأنوار والهدايات فيقول هناك رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى واعلم أن العقل إذا أخذ في الترقي من سفل الإمكان إلى علو الوجوب كثر اشتغاله بمطالعة الماهيات ومقارفة المجردات والمفارقات ومعلوم أن كل ماهية فهي إما هي معه أو هي له فإن كانت هي معه امتلأت البصيرة من أنوار جلال العزة الإلهية فلا يبقى هناك مستطلعاً لمطالعة سائر الأنوار فيضمحل كل ما سواه من بصر وبصيرة وإن وقعت المطالعة لما هو له حصلت هناك حالة عجيبة وهي أنه لو وضعت كرة صافية من البلور فوقع عليها شعاع الشمس فينعكس ذلك الشعاع إلى موضع معين فذلك الموضع الذي إليه تنعكس الشعاعات يحترق فجميع الماهيات الممكنة كالبلور الصافي الموضوع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت للقلب نسبة إليها بأسرها فينعكس شعاع كبرياء الإلهية عن كل واحد منها إلى القلب فيحترق القلب ومعلوم أنه كلما كان المحرق أكثر كان الإحتراق أتم فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات فأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال وهذا هو المراد بقوله عليه السلام ( أرنا الأشياء كما هي ) فلما شاهد احتراقها بأنوار الجلال قال ( لا أحصى ثناء عليك )(22/40)
الفصل السابع في بقية الأبحاث إنما قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ولم يقل رب اشرح صدري ليظهر أن منفعة ذلك الشرح عائدة إلى موسى عليه السلام لا إلى الله وأما كيفية شرح صدر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمفاضلة بينه وبين شرح صدر موسى عليه السلام فنذكره إن شاء الله في تفسير قوله أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( الشرح 1 ) والله أعلم بالصواب
المطلوب الثاني قوله وَيَسّرْ لِى أَمْرِى والمراد منه عند أهل السنة خلقها وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة فإن قيل كل ما أمكن من اللطف فقد فعله الله تعالى فأي فائدة في هذا السؤال قلنا يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال ففائدة السؤال حسن فعل تلك الألطاف
المطلوب الثالث قوله وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن النطق فضيلة عظيمة ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 3 4 ) ولم يقل وعلمه البيان لأنه لو عطفه عليه لكان مغايراً له أما إذا ترك الحرف العاطف صار قوله عَلَّمَهُ البَيَانَ كالتفسير لقوله خَلَقَ الإِنسَانَ كأنه إنما يكون خالقاً للإنسان إذا علمه البيان وذلك يرجع إلى الكلام المشهور من أن ماهية الإنسان هي الحيوان الناطق وثانيها اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان قال زهير لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقال علي ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة والمعنى أنا لو أزلنا الإدراك الذهني والنطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم وقالوا المرء بأصغريه قلبه ولسانه وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المرء مخبوء تحت لسانه ) وثالثها أن في مناظرة آدم مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ ( البقرة 33 ) ورابعها أن الإنسان جوهر مركب من الروح والقالب وروحه من عالم الملائكة فهو يستفيد أبداً صور المغيبات من عالم الملائكة ثم بعد تلك الاستفادة يفيضها على عالم الأجسام وواسطته في تلك الاستفادة هي الفكر الذهني وواسطته في هذه الإفادة هي النطق اللساني فكما أن تلك الواسطة أعظم العبادات حتى قيل ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة ) فكذلك الواسطة في الإفادة يجب أن تكون أشرف الإعضاء فقوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى إشارة إلى طلب النور الواقع في الروح وقوله وَيَسّرْ لِى أَمْرِى إشارة إلى تحصيل ذلك وتسهيل ذلك التحصيل وعند ذلك يحصل الكمال في تلك الاستفادة الروحانية فلا يبقى بعد هذا إلا المقام البياني وهو إفاضة ذلك الكمال على الغير وذلك لا يكون إلا باللسان فلهذا قال وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى وخامسها وهو أن العلم أفضل المخلوقات على ما ثبت والجود والإعطاء أفضل الطاعات وليس في الأعضاء أفضل من اليد فاليد لما كانت آلة في العطية الجسمانية قيل ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) فالعلم الذي هو خير من المال لما كانت آلة إعطائه اللسان وجب أن يكون أشرف الأعضاء ولا شك أن اللسان هو الآلة في إعطاء المعارف فوجب أن يكون أشرف الأعضاء ومن الناس من مدح الصمت لوجوه(22/41)
أحدها قوله عليه السلام ( الصمت حكمة وقليل فاعله ) ويروى أن الإنسان تفكر أعضاؤه اللسان ويقلن اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا وثانيها أن الكلام على أربعة أقسام منه ما ضرره خالص أو راجح ومنه ما يستوي الضرر والنفع فيه ومنه ما نفعه راجح ومنه ما هو خالص النفع أما الذي ضرره خالص أو راجح فواجب الترك والذي يستوي الأمران فيه فهو عيب فبقي القسمان الأخيران وتخليصهما عن زيادة الضرر عسر فالأولى ترك الكلام وثالثها أن ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي فإن كل ما يتناوله الضمير يعبر عنه اللسان بحق أو باطل وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور والآذان لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف واليد لا تصل إلى غير الأجسام وكذا سائر الأعضاء بخلاف اللسان فإنه رحب الميدان ليس له نهاية ولا حد فله في الخير مجال رحب وله في الشر بحر سحب وإنه خفيف المؤنة سهل التحصيل بخلاف سائر المعاصي فإنه يحتاج فيها إلى مؤن كثيرة لا يتيسر تحصيلها في الأكثر فلذلك كان الأولى ترك الكلام ورابعها قالوا ترك الكلام له أربعة أسماء الصمت والسكوت والإنصات والإصاخة فأما الصمت فهو أعمها لأنه يستعمل فيما يقوى على النطق وفيما لا يقوى عليه ولهذا يقال مال ناطق وصامت وأما السكوت فهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام والانصات سكوت مع استماع ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات قال تعالى فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ ( الأعراف 204 ) والإصاخة استماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد واعلم أن الصمت عدم ولا فضيلة فيه بل النطق في نفسه فضيلة والرذيلة في محاورته ولولاه لما سأل كليم الله ذلك في قوله تعالى وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى
المسألة الثانية اختلفوا في تلك العقدة التي كانت في لسان موسى عليه السلام على قولين الأول كان ذلك التعقد خلقة الله تعالى فسأل الله تعالى إزالته الثاني السبب فيه أنه عليه السلام حال صباه أخذ لحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية إنه صبي لا يعقل وعلامته أن تقرب منه التمرة والجمرة فقربا إليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال لم تحترق اليد ولا اللسان لأن اليد آلة أخذ العصا وهي الحجة واللسان آلة الذكر فكيف يحترق ولأن إبراهيم عليه السلام لم يحترق بنار نمروذ وموسى عليه السلام لم يحترق حين ألقى في التنور فكيف يحترق هنا ومنهم من قال احترقت اليد دون اللسان لئلا يحصل حق المواكلة والممالحة الثالث احترق اللسان دون اليد لأن الصولة ظهرت باليد أما اللسان فقد خاطبه بقوله يا أبت والرابع احترقا معاً لئلا تحصل المواكلة والمخاطبة
المسألة الثالثة اختلفوا في أنه عليه السلام لم طلب حل تلك العقدة على وجوه أحدها لئلا يقع في أداء الرسالة خلل ألبتة وثانيها لإزالة التنفير لأن العقدة في اللسان قد تفضي إلى الإستخفاف بقائلها وعدم الالتفات إليه وثالثها إظهاراً للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام كان معجزاً في حقه فكذا إطلاق لسان موسى عليه السلام معجز في حقه ورابعها طلب السهولة لأن إيراد مثل هذا الكلام على مثل فرعون في جبروته وكبره عسر جداً فإذا انضم إليه تعقد اللسان بلغ العسر إلى النهاية فسأل ربه إزالة تلك العقدة تخفيفاً وتسهيلاً
المسألة الرابعة قال الحسن رحمه الله إن تلك العقدة زالت بالكلية بدليل قوله تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى(22/42)
( طه 36 ) وهو ضعيف لأنه عليه السلام لم يقل واحلل العقدة من لساني بل قال وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء قليل لقوله حكاية عن فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ( الزخرف 52 ) أي يقارب أن لا يبين وفي ذلك دلالة على أنه كان يبين مع بقاء قدر من الانعقاد في لسانه وأجيب عنه من وجهين أحدهما المراد بقوله ولا يكاد يبين أي لا يأتي ببيان ولا حجة والثاني إن كاد بمعنى قرب ولو كان المراد هو البيان اللساني لكان معناه أنه لا يقارب البيان فكان فيه نفي البيان بالكلية وذلك باطل لأنه خاطب فرعون والجمع وكانوا يفقهون كلامه فكيف يمكن نفي البيان أصلاً بل إنما قال ذلك تمويهاً ليصرف الوجوه عنه قال أهل الإشارة إنما قال وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مّن لّسَانِى لأن حل العقد كلها نصيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقال تعالى وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( الأنعام 152 ) فلما كان ذلك حقاً ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله والله أعلم
المطلوب الرابع قوله وَاجْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى واعلم أن طلب الوزير إما أن يكون لأنه خاف من نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر فطلب المعين أو لأنه رأى أن للتعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة مزية عظيمة في أمر الدعاء إلى الله ولذلك قال عيسى ابن مريم مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( آل عمران 52 ) وقال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 ) وقال عليه السلام ( إن لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين فاللذان في السماء جبريل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر ) وههنا مسائل
المسألة الأولى الوزير من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه أو من الوزر وهو الجبل الذي يتحصن به لأن الملك يعتصم برأيه في رعيته ويفوض إليه أموره أو من الموازرة وهي المعاونة والموازرة مأخوذة من إزار الرجل وهو الموضع الذي يشده الرجل إذا استعد لعمل أمر صعب قاله الأصمعي وكان القياس أزيراً فقلبت الهمزة إلى الواو
المسألة الثانية قال عليه السلام ( إذا أراد الله بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه وإن أراد شراً كفه ) وكان أنوشروان يقول لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ولا أكرم الدواب عن السوط ولا أعلم الملوك عن الوزير
المسألة الثالثة إن قيل الإستعانة بالوزير إنما يحتاج إليها الملوك أما الرسول المكلف بتبليغ الرسالة والوحي من الله تعالى إلى قوم على التعيين فمن أين ينفعه الوزير وأيضاً فإنه عليه السلام سأل ربه أن يجعله شريكاً له في النبوة فقال وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى فكيف يكون وزيراً والجواب عن الأول أن التعاون على الأمر والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة له مزية عظيمة في تأثير الدعاء إلى الله تعالى فكان موسى عليه السلام واثقاً بأخيه هرون فسأل ربه أن يشد به أزره حتى يتحمل عنه ما يمكن من الثقل في الإبلاغ
المطلوب الخامس أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه
المطلوب السادس أن يكون الوزير الذي من أهله هو أخوه هارون وإنما سأل ذلك لوجهين أحدهما أن التعاون على الدين منقبة عظيمة فأراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله أو لأن كل واحد منهما كان في(22/43)
غاية المحبة لصاحبه والموافقة له وقوله هارون في انتصابه وجهان أحدهما أنه مفعول الجعل على تقدير اجعل هارون أخي وزيراً لي والثاني على البدل من وزيراً وأخي نعت لهرون أو بدل واعلم أن هارون عليه السلام كان مخصوصاً بأمور منها الفصاحة لقوله تعالى عن موسى وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً ( القصص 34 ) ومنها أنه كان فيه رفق قال أَمْرِى قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى ( طه 94 ) ومنها أنه كان أكبر سناً منه
المطلوب السابع قوله أشدد به أزري وفيه مسائل
المسألة الأولى القراءة العامة اشْدُدْ بِهِ وَأَشْرِكْهُ على الدعاء وقرأ ابن عامر وحده اشْدُدْ وَأَشْرِكْهُ على الجزاء والجواب حكاية عن موسى عليه السلام أي أنا أفعل ذلك ويجوز لمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل أَخِى مرفوعاً على الابتداء وَاشْدُدْ بِهِ خبره ويوقف على هارون
المسألة الثانية الأزر القوة وآزره قواه قال تعالى فَازَرَهُ أي أعانه قال أبو عبيدة أَزْرِى أي ظهري وفي كتاب الخليل الأزر الظهر
المسألة الثالثة أنه عليه السلام لما طلب من الله تعالى أن جعل هرون وزيراً له طلب منه أن يشد به أزره ويجعله ناصراً له لأنه لا اعتماد على القرابة
المطلوب الثامن قوله وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى والأمر ههنا النبوة وإنما قال ذلك لأنه عليه السلام علم أنه يشد به عضده وهو أكبر منه سناً وأفصح منه لساناً ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال كَى ْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً والتسبيح يحتمل أن يكون باللسان وأن يكون بالاعتقاد وعلى كلا التقديرين فالتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله عما لا يليق به وأما الذكر فهو عبارة عن وصف الله تعالى بصفات الجلال والكبرياء ولا شك أن النفي مقدم على الإثبات أما قوله تعالى إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً ففيه وجوه أحدها إنك عالم بأنا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك ولا نريد بها أحداً سواك وثانيها كُنتَ بِنَا بَصِيراً لأن هذه الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوة إليها وثالثها إنك بصير بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو أصلح لنا وإنما قيد الدعاء بهذا إجلالاً لربه عن أن يتحكم عليه وتفويضاً للأمر بالكلية إليه
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّة ً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّة ً مِّنِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يامُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِأايَاتِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(22/44)
اعلم أن السؤال هو الطلب فعل بمعنى مفعول كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول واعلم أن موسى عليه السلام لما سأل ربه تلك الأمور الثمانية وكان من المعلوم أن قيامه بما كلف به تكليف لا يتكامل إلا بإجابته إليها لا جرم أجابه الله تعالى إليها ليكون أقدر على الإبلاغ على الحد الذي كلف به فقال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى وعد ذلك من النعم العظام عليه لما فيه من وجوه المصالح ثم قال وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّة ً أُخْرَى فنبه بذلك على أمور أحدها كأنه تعالى قال إني راعيت مصلحتك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال وثانيها إني كنت قد ربيتك فلو منعتك الآن مطلوبك لكان ذلك رداً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي وثالثها إنا لما أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك من حالة نازلة إلى درجة عالية دل هذا على أن نصبناك لمنصب عال ومهم عظيم فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع من المطلوب وههنا سؤالان
السؤال الأول لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أن هذه اللفظة لفظة مؤذية والمقام مقام التلطف والجواب إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصلت إليه ما كان مستحقاً لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها بمحض التفضل والإحسان
السؤال الثاني لم قال مرة أخرى مع أنه تعالى ذكر منناً كثيرة والجواب لم يعن بمرة أخرى مرة واحدة من المنن لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير واعلم أن المنن المذكورة ههنا ثمانية المنة الأولى قوله إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ أما قوله إِذْ أَوْحَيْنَا فقد اتفق الأكثرون على أن أم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء وكيف لا نقول ذلك والمرأة لا تصلح للقضاء والإمامة بل عند الشافعي رحمه الله لا تمكن من تزويجها نفسها فكيف تصلح للنبوة ويدل عليه قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ ( الأنبياء 7 ) وهذا صريح في الباب وأيضاً فالوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) وقال وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ ( المائدة 111 ) ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه أحدها المراد رؤيا رأتها أم موسى عليه السلام وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت وقذفه في البحر وأن الله تعالى يرده إليها وثانيها أن المراد عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة فكل من تفكر فيما وقع إليه ظهر له الرأي الذي هو أقرب إلى الخلاص ويقال لذلك الخاطر إنه وحي وثالثها المراد منه الإلهام لكنا متى بحثنا عن الإلهام كان معناه خطور رأي بالبال وغلبة على القلب فيصير هذا هوالوجه الثاني وهذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأن الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف(22/45)
يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني والجواب لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان إفضاء الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون ورابعها لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب عليه السلام أو غيره ثم إن ذلك النبي عرفها إما مشافهة أو مراسلة واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحقها من أنواع الخوف ما لحقها والجواب أن ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أن موسى عليه السلام كان يخاف فرعون مع أن الله تعالى كان يأمره بالذهاب إليه مراراً وخامسها لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك وانتهى ذلك الخبر إلى تلك المرأة وسادسها لعل الله تعالى بعث إليها ملكاً لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ( مريم 17 ) وأما قوله مَا يُوحَى فمعناه وأوحينا إلى أمك ما يجب أن يوحى وإنما وجب ذلك الوحي لأن الواقعة واقعة عظيمة ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي فكان الوحي واجباً أما قوله تعالى أَنِ اقْذِفِيهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى أن هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول
المسألة الثانية القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع ومنه قوله تعالى وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ( الأحزاب 26 )
المسألة الثالثة روى أنها اتخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً ووضعت فيه موسى عليه السلام وقيرت رأسه وشقوقه بالقار ثم ألقته في النيل وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذ بتابوت يجيء به الماء فلما رآه فرعون أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبي من أصبح الناس وجهاً فلما رآه فرعون أحبه وسيأتي تمام القصة في سورة القصص قال مقاتل إن الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون
المسألة الرابعة اليم هو البحر والمراد به ههنا نيل مصر في قول الجميع واليم اسم يقع على البحر وعلى النهر العظيم
المسألة الخامسة قال الكسائي الساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك لأن الماء يسحله أي يقذفه إلى أعلاه
المسألة السادسة قال صاحب ( الكشاف ) الضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت يؤدي إلى تنافر النظم فإن قيل المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلنا لا بأس بأن يقال المقذوف والملقى هو موسى عليه السلام في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر ولا يحصل التنافر
المسألة السابعة لما كان تقدير الله تعالى أن يجري ماء اليم ويلقي بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل فليلقه اليم بالساحل أما قوله يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ ففيه أبحاث
البحث الأول قوله يَأْخُذْهُ جواب الأمر أي اقذفيه يأخذه(22/46)
البحث الثاني في كيفية الأخذ قولان أحدهما أن امرأة فرعون كانت بحيث تستسقي الجواري فبصرت بالتابوت فأمرت به فأخذت التابوت فيكون المراد من أخذ فرعون التابوت قبوله له واستحبابه إياه الثاني أن البحر ألقى التابوت بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون ثم أداه النهر إلى بركة فرعون فلما رآه أخذه
البحث الثالث قوله يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ فيه إشكال وهو أن موسى عليه السلام لم يكن ذلك الوقت بحيث يعادى وجوابه أما كونه عدواً لله من جهة كفره وعتوه فظاهر وأما كونه عدواً لموسى عليه السلام فيحتمل من حيث إنه لو ظهر له حالة لقتله ويحتمل أنه من حيث يؤول أمره إلى ما آل إليه من العداوة المنة الثانية قوله وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّة ً مّنّى وفيه قولان الأول وألقيت عليك محبة هي مني قال الزمخشري مِنّي لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب وإما أن يتعلق بمحذوف وهذا هو القول الثاني ويكون ذلك المحذوف صفة لمحبة أي وألقيت عليك محبة حاصلة مني واقعة بخلقي فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت قُرَّة ُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ ( القصص 9 ) يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه وهو كقوله تعالى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ( مريم 96 ) قال القاضي هذا الوجه أقرب لأنه في حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين لأن ذلك إنما يستعمل في المكلف من حيث استحقاق الثواب والمراد أن ما ذكرنا من كيفيته في الخلقة يستحلي ويغتبط فكذلك كانت حاله مع فرعون وامرأته وسهل الله تعالى له منهما في التربية ما لا مزيد عليه ويمكن أن يقال بل الاحتمال الأول أرجح لأن الاحتمال الثاني يحوج إلى الإضمار وهو أن يقال وألقيت عليك محبة حاصلة مني وواقعة بتخليقي وعلى التقدير الأول لا حاجة إلى هذا الإضمار بقي قوله إنه حال صباه لا يحصل له محبة الله تعالى قلنا لا نسلم فإن محبة الله تعالى يرجع معناها إلى إيصال النفع إلى عباده وهذا المعنى كان حاصلاً في حقه في حال صباه وعلم الله تعالى أن ذلك يستمر إلى آخر عمره فلا جرم أطلق عليه لفظ المحبة المنة الثالثة قوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى قال القفال لترى على عيني أي على وفق إرادتي ومجاز هذا أن من صنع لإنسان شيئاً وهو حاضر ينظر إليه صنعه له كما يحب ولا يمكنه أن يفعل ما يخالف غرضه فكذا ههنا وفي كيفية المجاز قولان الأول المراد من العين العلم أن ترى على علم مني ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه الثاني المراد من العين الحراسة وذلك لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما يؤذيه فالعين كأنها سبب الحراسة فأطلق اسم السبب على المسبب مجازاً وهو كقوله تعالى إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) ويقال عين الله عليك إذا دعا لك بالحفظ والحياطة قال القاضي ظاهر القرآن يدل على أن المراد من قوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى الحفظ والحياطة كقوله تعالى إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ فصار ذلك كالتفسير لحياطة الله تعالى له بقي ههنا بحثان
الأول الواو في قوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى فيه ثلاثة أوجه أحدها كأنه قيل وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ألقيت عليك محبة مني ثم يكون قوله إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ متعلقاً بأول الكلام وهو قوله وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّة ً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى وإذ تمشي أختك وثانيها يجوز أن يكون قوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى(22/47)
متعلقاً بما بعده وهو قوله إِذْ تَمْشِى وذكرنا مثل هذين الوجهين في قوله وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام 75 ) وثالثها يجوز أن تكون الواو مقحمة أي وألقيت عليك محبة مني لتصنع وهذا ضعيف
الثاني قرىء ولتصنع بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر وقرىء ولتصنع بفتح التاء والنصب أي وليكون عملك وتصرفك على علم مني المنة الرابعة قوله إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ واعلم أن العامل في إذ تمشى ألقيت أو تصنع يروى أنه لما فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاماً في النيل وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها لأن الله تعالى قد حرم عليه المراضع غير أمه اضطروا إلى تتبع النساء فلما رأت ذلك أخت موسى جاءت إليهم متنكرة فقالت هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ( القصص 12 ) ثم جاءت بالأم فقبل ثديها فرجع إلى أمه بما لطف الله تعالى له من هذا التدبير أما قوله تعالى فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمّكَ أي رددناك وقال في موضع آخر فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمّهِ ( القصص 13 ) وهو كقوله قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ ( المؤمنون 99 ) أي ردوني إلى الدنيا أما قوله كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ فالمراد أن المقصود من ردك إليها حصول السرور لها وزوال الحزن عنها فإن قيل لو قال كي لا تحزن وتقر عينها كان الكلام مفيداً لأنه لا يلزم من نفي الحزن حصول السرور لها وأما لما قال أولاً كي تقر عينها كان قوله بعد ذلك وَلاَ تَحْزَنْ فضلاً لأنه متى حصل السرور وجب زوال الغم لا محالة قلنا المراد أنه تقر عينها بسبب وصولك إليها فيزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك والمنة الخامسة قوله وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ فالمراد به وقتلت بعد كبرك نفساً وهو الرجل الذي قتله خطأ بأن وكزه حيث استغاثه الإسرائيلي عليه وكان قبطياً فحصل له الغم من وجهين أحدهما من عقاب الدنيا وهو اقتصاص فرعون منه ما حكى الله تعالى عنه فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَة ِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ( القصص 18 ) والآخر من عقاب الله تعالى حيث قتله لا بأمر الله فنجاه الله تعالى من الغمين أما من فرعون فحين وفق له المهاجرة إلى مدين وأما من عقاب الآخرة فلأنه سبحانه وتعالى غفر له ذلك المنة السادسة قوله وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً وفيه أبحاث
البحث الأول في قوله فُتُوناً وجهان أحدهما أنه مصدر كالعكوف والجلوس والمعنى وفتناك حقاً وذلك على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر كقوله تعالى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) والثاني أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي فتناك ضروباً من الفتن وههنا سؤالان السؤال الأول إن الله تعالى عدد أنواع مننه على موسى عليه السلام في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع قوله وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً الجواب عنه من وجهين أحدهما أن الفتنة تشديد المحنة يقال فتن فلان عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى فَإِذَا أُوذِى َ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَة َ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ( العنكبوت 10 ) وقال تعالى الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 1 3 ) وقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ( البقرة 214 ) فالزلزلة المذكورة في الآية ومس البأساء والضراء هي الفتنة والفتون ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب لا جرم عده الله تعالى من جملة النعم وثانيها وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً(22/48)
أي خلصناك تخليصاً من قولهم فتنت الذهب من الفضة إذا أردت تخليصه وسأل سعيد بن جبير بن عباس عن الفتون فقال نستأنف له نهاراً يا ابن جبير ثم لما أصبح أخذ ابن عباس يقرأ عليه الآيات الواردة في شأن موسى عليه السلام من ابتداء أمره فذكر قصة فرعون وقتله أولاد بني إسرائيل ثم قصة إلقاء موسى عليه السلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الإرتضاع من الأجانب ثم قصة أن موسى عليه السلام أخذ لحية فرعون ووضعه الجمرة في فيه ثم قصة قتل القبطي ثم هربه إلى مدين وصيرورته أجيراً لشعيب عليه السلام ثم عوده إلى مصر وأنه أخطأ الطريق في الليلة المظلمة واستئناسة بالنار من الشجرة وكان عند تمام كل واحدة منها يقول هذا من الفتون يا ابن جبير
السؤال الثاني هل يصح إطلاق اسم الفتان عليه سبحانه اشتقاقاً من قوله وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً والجواب لا لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي المنة السابعة قوله تعالى فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يامُوسَى مُوسَى واعلم أن التقدير وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم أما مدة اللبث فقال أبو مسلم إنها مشروحة في قوله تعالى وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ إلى قوله فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ ( القصص 29 ) وهي إما عشرة وإما ثمان لقوله تعالى عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى َ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ ( القصص 27 ) وقال وهب لبث موسى عليه السلام عند شعيب عليه السلام ثمانياً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته والآية تدل على أنه عليه السلام لبث عنده عشر سنين وليس فيها ما ينفي الزيادة على العشر واعلم أن قوله فَلَبِثَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ بعد قوله وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً كالدلالة على أن لبثه في مدين من الفتون وكذلك كان فإنه عليه السلام تحمل بسبب الفقر والغربة محناً كثيرة واحتاج إلى أن آجر نفسه أما قوله تعالى ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يامُوسَى مُوسَى فلا بد من حذف في الكلام لأنه على قدر أمر من الأمور وذكروا في ذلك المحذوف وجوهاً أحدها أنه سبق في قضائي وقدري أن أجعلك رسولاً لي في وقت معين عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدر لا قبله ولا بعده ومنه قوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) وثانيها على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة وثالثها أن القدر هو الموعد فإن ثبت أنه تقدم هذا الموعد صح حمله عليه ولا يمتنع ذلك لاحتمال أن شعيباً عليه السلام أو غيره من الأنبياء كانوا قد عينوا ذلك الموعد فإن قيل كيف ذكر الله تعالى مجيء موسى عليه السلام في ذلك الوقت من جملة مننه عليه قلنا لأنه لولا توفيقه له لما تهيأ شيء من ذلك المنة الثامنة قوله تعالى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى والاصطناع اتخاذ الصنعة وهي افتعال من الصنع يقال اصطنع فلان فلاناً أي اتخذه صنيعه فإن قيل إنه تعالى غني عن الكل فما معنى قوله لنفسي والجواب عنه من وجوه الأول أن هذا تمثيل لأنه تعالى لما أعطاه من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه أهلاً لأن يكون أقرب الناس منزلة إليه وأشدهم قرباً منه وثانيها قالت المعتزلة إنه سبحانه وتعالى إذا كلف عباده وجب عليه أن يلطف بهم ومن جملة الألطاف ما لا يعلم إلا سمعاً فلو لم يصطنعه بالرسالة لبقي في عهدة الواجب فصار موسى عليه السلام كالنائب عن ربه في أداء ما وجب على الله تعالى فصح أن يقول واصطنعتك لنفسي قال القفال واصطنعتك أصله من قولهم اصطنع فلان فلاناً إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان وجريح فلان وقوله(22/49)
لنفسي أي لأصرفك في أوامري لئلا تشتغل بغير ما أمرتك به وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك واعلم أنه سبحانه وتعالى لما عدد عليه المنن الثمانية في مقابلة تلك الالتماسات الثمانية رتب على ذكر ذلك أمراً ونهياً أما الأمر فهو أنه سبحانه وتعالى أعاد الأمر بالأول فقال اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى عقبه بذكر ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى الباء ههنا بمعنى مع وذلك لأنهما لو ذهبا إليه بدون آية معهما لم يلزمه الإيمان وذلك من أقوى الدلائل على فساد التقليد
المسألة الثانية اختلفوا في الآيات المذكورة ههنا على ثلاثة أقوال أحدها أنها اليد والعصا لأنهما اللذان جرى ذكرهما في هذا الموضع وفي سائر المواضع التي اقتص الله تعالى فيها حديث موسى عليه السلام فإنه تعالى لم يذكر في شيء منها أنه عليه السلام قد أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ولا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين قال تعالى عنه قَالَ فَأْتِ مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِى َ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ( الشعراء 31 33 ) وقال فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ( القصص 32 ) فإذا قيل لهؤلاء كيف يطلق لفظ الجمع على الاثنين أجابوا بوجوه الأول أن العصا ما كانت آية واحدة بل كانت آيات فإن انقلاب العصا حيواناً آية ثم إنها في أول الأمر كانت صغيرة لقوله تعالى تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ( النمل 10 ) ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى ثم كانت تصير ثعباناً وهذه آية أخرى ثم إن موسى عليه السلام كان يدخل يده في فيها فما كانت تضر موسى عليه السلام فهذه آية أخرى ثم كانت تنقلب خشبة فهذه آية أخرى وكذلك اليد فإن بياضها آية وشعاعها آية أخرى ثم زوالهما بعد حصولهما آية أخرى فصح أنهما كانتا آيات كثيرة لا آيتان الثاني هب أن العصا أمر واحد لكن فيها آيات كثيرة لأن انقلابها حية يدل على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل حكيم ويدل على نبوة موسى عليه السلام ويدل على جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيواناً فهذه آيات كثيرة ولذلك قال إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً إلى قوله فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ ( آل عمران 96 97 ) فإذا وصف الشيء الواحد بأن فيه آيات فالشيئان أولى بذلك الثالث من الناس من قال أقل الجمع إثنان على ما عرفت في أصول الفقه القول الثاني أن قوله اذْهَبَا بِآيَاتِي معناه أني أمدكما بآياتي وأظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل من فرعون وقومه فاذهبا فإن آياتي معكما كما يقال اذهب فإن جندي معك أي أني أمدك بهم متى احتجت القول الثالث أن الله تعالى آتاه العصا واليد وحل عقدة لسانه وذلك أيضاً معجز فكانت الآيات ثلاثة هذا هو شرح الأمر أما النهي فهو قوله تعالى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى الوني الفتور والتقصير وقرىء ولا تنيا بكسر حرف المضارعة للاتباع ثم قيل فيه أقوال أحدها المعنى لا تنيا بل اتخذا ذكرى آلة لتحصيل المقاصد واعتقدا أن أمراً من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري والحكمة فيه أن من ذكر جلال الله استحقر غيره فلا يخاف أحداً ولأن من ذكر جلال الله تقوى روحه بذلك الذكر فلا يضعف في المقصود ولأن ذاكر الله تعالى لا بد وأن يكون ذاكراً لإحسانه وذاكر(22/50)
إحسانه لا يفتر في أداء أوامره وثانيها المراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على كل العبادات وتبليغ الرسالة من أعظمها فكان جديراً بأن يطلق عليه اسم الذكر وثالثها قوله وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى عند فرعون وكيفية الذكر هو أن يذكرا لفرعون وقومه أن الله تعالى لا يرضى منهم بالكفر ويذكرا لهم أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب ورابعها أن يذكرا لفرعون آلاء الله ونعماءه وأنواع إحسانه إليه ثم قال بعد ذلك اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى وفيه سؤالان الأول ما الفائدة في ذلك بعد قوله اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى قال القفال فيه وجهان أحدهما أن قوله اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى يحتمل أن يكون كل واحد منهما مأموراً بالذهاب على الانفراد فقيل مرة أخرى اذهبا ليعرفا أن المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعاً لا أن ينفرد به هرون دون موسى والثاني أن قوله اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون ثم إن قوله اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ أمر بالذهاب إلى فرعون وحده
السؤال الثاني قوله اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ خطاب مع موسى وهارون عليهما السلام وهذا مشكل لأن هارون عليه السلام لم يكن حاضراً هناك وكذلك في قوله تعالى قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ( طه 45 ) أجاب القفال عنه من وجوه أحدها أن الكلام كان مع موسى عليه السلام وحده إلا أنه كان متبوع هارون فجعل الخطاب معه خطاباً مع هارون وكلام هارون على سبيل التقدير فالخطاب في تلك الحالة وإن كان مع موسى عليه السلام وحده إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( البقرة 72 ) وقوله لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ِ لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( المنافقون 8 ) وحكي أن القائل هو عبد الله بن أبي وحده وثانيها يحتمل أن الله تعالى لما قال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى سكت حتى لقي أخاه ثم إن الله تعالى خاطبهما بقوله اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ وثالثها أنه حكى أنه في مصحف ابن مسعود وحفصة قَالَ رَبُّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أي قال موسى أنا وأخي نخاف فرعون أما قوله تعالى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً ففيه سؤالان
السؤال الأول لم أمر الله تعالى موسى عليه السلام باللين مع الكافر الجاحد الجواب لوجهين الأول أنه عليه السلام كان قد رباه فرعون فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق وهذا تنبيه على نهاية تعظيم حق الأبوين الثاني أن من عادة الجبابرة إذا غلظ لهم في الوعظ أن يزدادوا عتواً وتكبراً والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر فلهذا أمر الله تعالى بالرفق
السؤال الثاني كيف كان ذلك الكلام اللين الجواب ذكروا فيه وجوهاً أحدها ما حكى الله تعالى بعضه فقال هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى ( النازعات 18 19 ) وذكر أيضاً في هذه السورة بعض ذلك فقال فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ ( طه 47 ) إلى قوله وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) وثانيها أن تعداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته وثالثها كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة ورابعها حكى عن عمرو بن دينار قال بلغني أن فرعون عمر أربعمائة سنة وتسع سنين فقال له موسى عليه السلام إن أطعتني عمرت مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة واعترضوا على هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة أما الأول فقيل لو حصلت له هذه الأمور الثلاثة في هذه المدة الطويلة لصار ذلك كالإلجاء إلى معرفة الله تعالى وذلك لا يصح مع التكليف وأما الثاني فلأن خطابه بالكنية أمر سهل فلا يجوز أن يجعل(22/51)
ذلك هو المقصود من قوله فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً بل يجوز أن يكون ذلك من جملة المراد وأما الثالث فالاعتراض عليه كما في الأول أما قوله تعالى لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى فاعلم أنه ليس المراد أنه تعالى كان شاكاً في ذلك لأن ذلك محال عليه تعالى وإنما المراد فقولا له قولاً ليناً على أن تكونا راجيين لأن يتذكر هو أو يخشى واعلم أن أحوال القلب ثلاثة أحدها الإصرار على الحق وثانيها الإصرار على الباطل وثالثها التوقف في الأمرين وأن فرعون كان مصراً على الباطل وهذا القسم أردأ الأقسام فقال تعالى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى فيرجع من إنكاره إلى الإقرار بالحق وإن لم ينتقل من الإنكار إلى الإقرار لكنه يحصل في قلبه الخوف فيترك الإنكار وإن كان لا ينتقل إلى الإقرار فإن هذا خير من الإصرار على الإنكار واعلم أن هذا التكليف لا يعلم سره إلا الله تعالى لأنه تعالى لما علم أنه لا يؤمن قط كان إيمانه ضداً لذلك العلم الذي يمتنع زواله فيكون سبحانه عالماً بامتناع ذلك الإيمان وإذا كان عالماً بذلك فكيف أمر موسى عليه السلام بذلك الرفق وكيف بالغ في ذلك الأمر بتلطيف دعوته إلى الله تعالى مع علمه استحالة حصول ذلك منه ثم هب أن المعتزلة ينازعون في هذا الامتناع من غير أن يذكروا شبهة قادحة في هذا السؤال ولكنهم سلموا أنه كان عالماً بأنه لايحصل ذلك الإيمان وسلموا أن فرعون لا يستفيد ببعثة موسى عليه السلام إلا استحقاق العقاب والرحيم الكريم كيف يليق به أن يدفع سكيناً إلى من علم قطعاً أنه يمزق بها بطن نفسه ثم يقول إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان إليه يا أخى العقول قاصرة عن معرفة هذه الأسرار ولا سبيل فيها إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان ويروى عن كعب أنه قال والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة فقولا له قولاً ليناً وسأقسي قلبه فلا يؤمن
قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِأايَة ٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِى َ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى
اعلم أن قوله قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ فيه أسئلة
السؤال الأول قوله قَالاَ رَبَّنَا يدل على أن المتكلم بذلك موسى وهرون عليهما السلام وهرون لم يكن حاضراً هذا المقال فكيف ذلك وجوابه قد تقدم
السؤال الثاني أن موسى عليه السلام قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ( طه 25 ) فأجابه الله تعالى بقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 36 ) وهذا يدل على أنه قد انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قال بعده إِنَّنَا نَخَافُ فإن(22/52)
حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر والجواب أن شرح الصدر عبارة عن تقويته على ضبط تلك الأوامر والنواحي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليه السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير زوال الخوف
السؤال الثالث أما علم موسى وهرون وقد حملهما الله تعالى الرسالة أنه تعالى يؤمنهما من القتل الذي هو مقطعة عن الأداء الجواب قد أمنا ذلك وإن جوزا أن ينالهما السوء من قبل تمام الأداء أو بعده وأيضاً فإنهما استظهرا بأن سألا ربهما ما يزيد في ثبات قلبهما على دعائه وذلك بأن ينضاف الدليل النقلي إلى العقلي زيادة في الطمأنينة كما قال وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 )
السؤال الرابع لما تكرر الأمر من الله تعالى بالذهاب فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على المعصية الجواب لو اقتضى الأمر الفور لكان ذلك من أقوى الدلائل على المعصية لا سيما وقد أكثر الله تعالى من أنواع التشريف وتقوية القلب وإزالة الغم ولكن ليس الأمر على الفور فزال السؤال وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الرسل أما قوله تعالى أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى فاعلم أن في أَن يَفْرُطَ وجوهاً أحدها فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط يسبق الخيل والمعنى نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة وثانيها أنه مأخوذ من أفرط غيره إذا حمله على العجلة فكان موسى وهارون عليهما السلام خافا من أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقوبة وذلك الحامل هو إما الشيطان أو إدعاؤه للربوبية أو حبه للرياسة أو قومه وهم القبط المتمردون الذين حكى الله تعالى عنهم قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ ( الأعراف 60 ) وثالثها يفرط من الإفراط في الأذية أما قوله أَوْ أَن يَطْغَى فالمعنى يطغى بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته عليك واعلم أن من أمر بشيء فحاول دفعه بأعذار يذكرها فلا بد وأن يختم كلامه بما هو الأقوى وهذا كما أن الهدهد ختم عذره بقوله وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ ( النمل 24 ) فكذا ههنا بدأ موسى بقوله أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا وختم بقوله أَوْ أَن يَطْغَى لما أن طغيانه في حق الله تعالى أعظم من إفراطه في حق موسى وهارون عليهما السلام أما قوله قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فالمراد لا تخافا مما عرض في قلبكما من الإفراط والطغيان لأن ذلك هو المفهوم من الكلام يبين ذلك أنه تعالى لم يؤمنهما من الرد ولا من التكذيب بالآيات ومعارضة السحرة أما قوله إِنَّنِى مَعَكُمَا فهو عبارة عن الحراسة والحفظ وعلى هذا الوجه يقال الله معك على وجه الدعاء وأكد ذلك بقوله أَسْمَعُ وَأَرَى فإن من يكون مع الغير وناصراً له وحافظاً يجوز أن لا يعلم كل ما يناله وإنما يحرسه فيما يعلم فبين سبحانه وتعالى أنه معهما بالحفظ والعلم في جميع ما ينالهما وذلك هو النهاية في إزالة الخوف قال القفال قوله أَسْمَعُ وَأَرَى يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى والمعنى يَفْرُطَ عَلَيْنَا بأن لا يسمع منا أَوْ أَن يَطْغَى بأن يقتلنا فقال الله تعالى إِنَّنِى مَعَكُمَا أسمع كلامه معكما فأسخره للاستماع منكما وأرى أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه واعلم أن هذه الآية تدل على أن كونه تعالى سميعاً وبصيراً صفتان زائدتان على العلم لأن قوله إِنَّنِى مَعَكُمَا دل على العلم فقوله أَسْمَعُ وَأَرَى لو دل على العلم لكان ذلك تكريراً وهو خلاف الأصل ثم إنه سبحانه أعاد ذلك التكليف فقال فَأْتِيَاهُ لأنه سبحانه وتعالى قال في المرة الأولى لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ ( طه 23 24 ) وفي(22/53)
الثانية اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ وفي الثالثة قَالَ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ ( طه 43 ) وفي الرابعة قال ههنا فأتياه فإن قيل إنه تعالى أمرهما في المرة الثانية بأن يقولا له قَوْلاً لَّيّناً ( طه 44 ) وفي هذه المرة الرابعة أمرهما ءانٍ يَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ وفيه تغليظ من وجوه أحدها أن قوله إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فيه أبحاث
البحث الأول انقياده إليهما والتزامه لطاعتهما وذلك يعظم على الملك المتبوع
البحث الثاني قوله فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ فيه إدخال النقص على ملكه لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال من بناء أو غيره
البحث الثالث قوله وَلاَ تُعَذّبْهُمْ
البحث الرابع قوله قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ بِكَ فما الفائدة في التليين أولاً والتغليظ ثانياً قلنا لأن الإنسان إذا ظهر لجاجه فلا بد له من التغليظ فإن قيل أليس كان من الواجب أن يقولا إنا رسولا ربك قد جئناك بآية فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم لأن ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة أولى من تأخيره عنه قلنا بل هذا أولى من تأخيره عنه لأنهم ذكروا مجموع الدعاوى ثم استدلوا على ذلك المجموع بالمعجزة أما قوله قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ ففيه سؤال وهو أنه تعالى أعطاه آيتين وهما العصا واليد ثم قال اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى ( طه 42 ) وذلك يدل على ثلاث آيات وقال ههنا جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ وهذا يدل على أنها كانت واحدة فكيف الجمع أجاب القفال بأن معنى الآية الإشارة إلى جنس الآيات كأنه قال قد جئناك ببيان من عند الله ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة وأما قوله وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فقال بعضهم هو من قول الله تعالى لهما كأنه قال فقولا إنا رسولا ربك وقولا له والسلام على من اتبع الهدى وقال آخرون بل كلام الله تعالى قد تم عند قوله قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ فقوله بعد ذلك وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وعد من قبلهما لمن آمن وصدق بالسلامة له من عقوبات الدنيا والآخرة والسلام بمعنى السلامة كما يقال رضاع ورضاعة واللام وعلى ههنا بمعنى واحد كما قال لَهُمُ اللَّعْنَة ُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ ( الرعد 25 ) على معنى عليهم وقال تعالى مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ( فصلت 46 ) وفي موضع آخر إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) أما قوله إِنَّا قَدْ أُوحِى َ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) فاعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن عقاب المؤمن لا يدوم وذلك لأن الألف واللام في قوله الْعَذَابَ تفيد الاستغراق أو تفيد الماهية وعلى التقديرين يقتضي انحصار هذا الجنس فيمن كذب وتولى فوجب في غير المكذب المتولي أن لا يحصل هذا الجنس أصلاً وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين بترك العمل به في بعض الأوقات فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام لأن العقاب المتناهي إذا حصل بعده السلامة مدة غير متناهية صار ذلك العقاب كأنه لا عقاب فلذلك يحسن مع حصول ذلك القدر أن يقال إنه لا عقاب وأيضاً فقوله وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وقد فسرنا السلام بالسلامة فظاهره يقتضي حصول السلامة لكل من اتبع الهدى والعارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون صاحب السلامة
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَى ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاٍّ ولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لأيَاتٍ لاٌّ وْلِى النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَة ً أُخْرَى(22/54)
اعلم أنهما عليهما السلام لما قالا إنا رسولا ربك قال لهما فمن ربكما يا موسى فيه مسائل
المسألة الأولى أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر ثم إن موسى عليه السلام لما دعاه إلى الله تعالى لم يشتغل معه بالبطش والإيذاء بل خرج معه في المناظرة لما أنه لو شرع أولاً في الإيذاء لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع أولاً في المناظرة وذلك يدل على أن السفاهة من غير الحجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم ثم إن فرعون لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع وذلك يدل على فساد التقليد ويدل أيضاً على فساد قول التعليمية الذين يقولون نستفيد معرفة الإله من قول الرسول لأن موسى عليه السلام اعترف ههنا بأن معرفة الله تعالى يجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول وتدل على فساد قول الحشوية الذين يقولون نستفيد معرفة الله والدين من الكتاب والسنة
المسألة الثانية تدل الآية على أنه يجوز حكاية كلام المبطل لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله وحكى شبهات منكري النبوة وشبهات منكري الحشر إلا أنه يجب أنك متى أوردت السؤال فاقرنه بالجواب لئلا يبقى الشك كما فعل الله تعالى في هذه المواضع
المسألة الثالثة دلت الآية على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطل والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش كما فعل موسى عليه السلام بفرعون ههنا وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وقال وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ( التوبة 6 )
المسألة الرابعة اختلف الناس في أن فرعون هل كان عارفاً بالله تعالى فقيل إنه كان عارفاً إلا أنه كان يظهر الإنكار تكبراً وتجبراً وزوراً وبهتاناً واحتجوا عليه بستة أوجه أحدها قوله لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الإسراء 102 ) فمتى نصبت التاء في علمت كان ذلك خطاباً من موسى عليه السلام مع فرعون فدل ذلك على أن فرعون كان عالماً بذلك وكذا قوله تعالى وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ( النمل 14 ) وثانيها أنه كان عاقلاً وإلا لم يجز تكليفه وكل من كان عاقلاً قد علم بالضرورة أنه وجد بعد العدم وكل من كان كذلك افتقر إلى مدبر وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبر وثالثها قول موسى عليه السلام ههنا رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى وكلمة الذي(22/55)
تقتضي وصف المعرفة بجملة معلومة فلا بد وأن تكون هذه الجملة قد كانت معلومة له ورابعها قوله في سورة القصص في صفة فرعون وقومه وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بالمبدأ إلا أنهم كانوا منكرين للمعاد وخامسها أن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ولما هرب موسى عليه السلام إلى مدين قال له شعيب لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( القصص 25 ) فمع هذا كيف يعتقد أنه إله العالم وسادسها أنه لما قال وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قال موسى عليه السلام رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ( الشعراء 24 ) قال إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوصف فهو لم ينازع موسى في الوجود بل طلب منه الماهية فدل هذا على اعترافه بأصل الوجود ومن الناس من قال إنه كان جاهلاً بربه واتفقوا على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرضين والشمس والقمر وأنه خالق نفسه لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله فيحصل العلم الضروري بأنه ليس موجوداً لها ولا خالقاً لها واختلفوا في كيفية جهله بالله تعالى فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمؤثر أصلاً ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة لموجبه ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره
المسألة الخامسة أنه سبحانه حكى عنه في هذه السورة أنه قال فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى وقال في سورة الشعراء وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ فالسؤال ههنا بمن وهو عن الكيفية وفي سورة الشعراء بما وهو عن الماهية وهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدماً على سؤال ما لأنه كان يقول إني أنا الله والرب فقال فمن ربكما فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى المقام الثاني وهو طلب الماهية وهذا أيضاً مما ينبه على أنه كان عالماً بالله لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره وشرع في المقام الصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر
المسألة السادسة إنما قال فَمَن رَّبُّكُمَا ولم يقل فمن إلهكما لأنه أثبت نفسه رباً في قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ( الشعراء 18 ) فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال له أنا ربك فلم تدعى رباً آخر وهذا الكلام شبيه بكلام نمروذ لأن إبراهيم عليه السلام لما قال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) قال نمروذ له أَلَمْ تَرَ إِلَى ( البقرة 258 ) ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرهما إبراهيم عليه السلام هما الذي عارضه بهما نمروذ إلا في اللفظ فكذا ههنا لما ادعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام ومراده أني أنا الرب لأني ربيتك ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله سبحانه وتعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ
المسألة السابعة اعلم أن موسى عليه السلام استدل على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات وهو قوله رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ( الأعلى 1 3 ) قال إبراهيم عليه السلام فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمور(22/56)
يعول على دلائل إبراهيم عليه السلام وسيأتي تقرير ذلك في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى واعلم أنه يشبه أن يكون الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان والهداية عبارة عن إبداع القوى المدركة والمحركة في تلك الأجسام وعلى هذا التقدير يكون الخلق مقدماً على الهداية ولذلك قال فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) فالتسوية راجعة إلى القالب ونفخ الروح إشارة إلى إبداع القوى وقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) إلى أن قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ( المؤمنون 14 ) فظهر أن الخلق مقدم على الهداية والشروع في بيان عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية شروع في بحر لا ساحل له ولنذكر منه أمثلة قريبة إلى الأفهام أحدها أن الطبيعي يقول الثقيل هابط والخفيف صاعد وأشد الأشياء ثقلاً الأرض ثم الماء وأشدها خفة النار ثم الهواء فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها ثم إنه سبحانه قلب هذا الترتيب في خلقة الإنسان فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر وهما أيبس ما في البدن وهما بمنزلة الأرض ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو بمنزلة الهواء وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب التي هي بمنزلة النار فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعرف أن ذلك بتدبير القادر الحكيم الرحيم لا باقتضاء العلة والطبيعة وثانيها إنك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وعجائب أحوال البق والبعوض في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بالهام مدبر عالم بجميع المعلومات وثالثها أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها ويستخرجون الحديد من الجبال واللآلى من البحار ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة ويجمعون بين الأشياء المختلفة فيستخرجون لذات الأطعمة فثبت أنه سبحانه هو الذي خلق كل الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها وهذا غير مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوانات فأعطى الإنسان إنسانة والحمار حمارة والبعير ناقة ثم هداه لها ليدوم التناسل وهدى الأولاد لثدي الأمهات بل هذا غير مختص بالحيوانات بل هو حاصل في أعضائها فإنه خلق اليد على تركيب خاص وأودع فيها قوة الأخذ وخلق الرجل على تركيب خاص وأودع فيها قوة المشي وكذا العين والأذن وجميع الأعضاء ثم ربط البعض بالبعض على وجوه يحصل من ارتباطها مجموع واحد وهو الإنسان وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع سبحانه لأن اتصاف كل جسم من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة والهداية إما أن يكون واجباً أو جائزاً والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن تلك التراكيب والقوى فدل على أن ذلك جائز والجائز لا بد له من مرجح وليس ذلك المرجح هو الإنسان ولا أبواه لأن فعل ذلك يستدعي قدرة عليه وعلماً بما فيه من المصالح والمفاسد والأمران نائيان عن الإنسان لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لايعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل فلا بد أن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجوداً آخر وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسماً لأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لا بد وأن يكون جائزاً وإن كان جائزاً افتقر إلى سبب آخر والدور والتسلسل محالان فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى موجود مؤثر ومدبر ليس بجسم ولا جسماني ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار والأول محال لأن(22/57)
الموجب لا يميز مثلاً عن مثل وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فلم اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية وبعضها بالحيوانية فثبت أن المؤثر والمدبر قادر والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالماً ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني لا بد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وفي صفاته وإلا لافتقر إلى مدبر آخر ويلزم التسلسل وهو محال وإذا كان واجب الوجود في قادريته وعالميته والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الممكنات دون البعض وجب ( أن ) يكون عالماً بكل ما صح أن يكون معلوماً وقادراً على كل ما صح أن يكون مقدوراً فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى عليه السلام ونبه على تقريرها استناد العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني وهو واجب الوجود في ذاته وفي صفاته عالم بكل المعلومات قادر على كل المقدورات وذلك هو الله سبحانه وتعالى
المسألة الثامنة أن فرعون خاطب الاثنين بقوله فَمَن رَّبُّكُمَا ثم وجه النداء إلى أحدهما وهو موسى عليه السلام لأنه الأصل في النبوة وهرون وزيره وتابعه وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي في لسان موسى عليه السلام فأراد استنطاقه دون أخيه لما عرف من فصاحته والرتة التي في لسان موسى عليه السلام ويدل عليه قوله أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ( الزخرف 52 )
المسألة التاسعة في قوله الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى وجهان أحدهما التقديم والتأخير أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به وثانيهما أن يكون المراد من الخلق الشكل والصورة المطابقة للمنفعة فكأنه سبحانه قال أعطى كل شيء الشكل الذي يطابق منفعته ومصلحته وقرىء خلقه صفة للمضاف أو المضاف إليه والمعنى أن كل شيء خلقه الله لم يخله من إعطائه وإنعامه وأما قوله تعالى قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى فاعلم أن في ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوهاً أحدها أن موسى عليه السلام لما قرر على فرعون أمر المبدأ والمعاد قال فرعون إن كان إثبات المبدأ في هذا الحد من الظهور فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى ما أثبتوه وتركوه فكان موسى عليه السلام لما استدل بالدلالة القاطعة على إثبات الصانع قدح فرعون في تلك الدلالة بقوله إن كان الأمر في قوة هذه الدلالة على ما ذكرت وجب على أهل القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها فعارض الحجة بالتقليد وثانيها أن موسى عليه السلام هدد بالعذاب أولاً في قوله إِنَّا قَدْ أُوحِى َ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) فقال فرعون فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا وثالثها وهو الأظهر أن فرعون لما قال فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى فذكر موسى عليه السلام دليلاً ظاهراً وبرهاناً باهراً على هذا المطلوب فقال رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى فخاف فرعون أن يريد في تقرير تلك الحجة فيظهر للناس صدقه وفساد طريق فرعون فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام وأن يشغله بالحكايات فقال فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى فلم يلتفت موسى عليه السلام إلى ذلك الحديث بل قال عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتَابٍ ولا يتعلق غرضي بأحوالهم فلا أشتغل بها ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول وإيراد الدلائل الباهرة على الوحدانية فقال الَّذِى خَلَقَ لَكُم الاْرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وهذا الوجه هو المعتمد في صحة هذا النظم ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في قوله عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتَابٍ فإن العلم الذي يكون عند الرب كيف يكون في الكتاب وتحقيقه هو أن علم الله تعالى صفته وصفة الشيء قائمة به فأما أن تكون صفة الشيء(22/58)
حاصلة في كتاب فذاك غير معقول فذكروا فيه وجهين الأول معناه أنه سبحانه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده لكون ما كتبه فيه يظهر للملائكة فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة ولقائل أن يقول قوله فِى كِتَابِ يوهم احتياجه سبحانه وتعالى في ذلك العلم إلى ذلك الكتاب وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أنه يوهمه في أول الأمر لا سيما للكافر فكيف يحسن ذكره مع معاند مثل فرعون في وقت الدعوة الوجه الثاني أن تفسير ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها معلومة لله تعالى بحيث لا يزول شيء منها عن علمه وهذا التفسير مؤكد بقوله بعد ذلك لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى
المسألة الثانية اختلفوا في قوله لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى فقال بعضهم معنى اللفظين واحد أي لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عليه وهذا قول مجاهد والأكثرون على الفرق بينهما ثم ذكروا وجوهاً أحدها وهو الأحسن ما قاله القفال لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علم من ذلك لم ينسه فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات واللفظ الثاني وهو قوله ولا ينسى دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو إشارة إلى نفي التغير وثانيها قال مقاتل لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه وثالثها قال الحسن لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه ورابعها قال أبو عمرو أصل الضلال الغيبوبة والمعنى لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء وخامسها قال ابن جرير لا يخطىء في التدبير فيعتقد في غير الصواب كونه صواباً وإذا عرفه لا ينساه وهذه الوجوه متقاربة والتحقيق هو الأول
المسألة الثالثة أنه لما سأله عن الإله وقال فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى وكان ذلك مما سبيله الإستدلال أجاب بما هو الصواب بأوجز عبارة وأحسن معنى ولما سأله عن شأن القرون الأولى وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته في ذلك خبر وكله إلى عالم الغيوب واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة أولها قوله تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً وفيه أبحاث
البحث الأول قرأ أهل الكوفة ههنا وفي الزخرف مِهَاداً والباقون قرؤوا مهاداً فيهما قال أبو عبيدة الذي اختاره مهاداً وهو اسم والمهد اسم الفعل وقال غيره المهد الاسم والمهاد الجمع كالفرش والفراش أجاب أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشاً يقال مهد مهداً ومهاداً وفرش فرشاً وفراشاً
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) الَّذِى جَعَلَ مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لربي أو منصوب على المدح وهذا من مظانه ومجازه واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبراً لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام موسى عليه السلام ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَاتٍ شَتَّى على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
البحث الثالث المراد من كون الأرض مهداً أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى(22/59)
الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وثانيها قوله تعالى وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً قال صاحب ( الكشاف ) سلك من قوله مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ( المدثر 42 ) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( الشعراء 200 ) أي جعل لكم فيها سبلاً ووسطها بين الجبال والأودية والبراري وثالثها قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء والكلام فيه قد مر في سورة البقرة أما قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَاتٍ شَتَّى ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَأَخْرَجْنَا فيه وجوه أحدها أن يكون هذا من تمام كلام موسى عليه السلام كأنه يقول ربي الذي جعل لكم كذا وكذا فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة أزواجاً من نبات شتى وثانيها أن عند قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء تم كلام موسى عليه السلام ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه متصلاً بالكلام الأول بقوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثم يدل على هذا الاحتمال قوله كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للإيذان بأنه سبحانه وتعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره ومثله قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 99 ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا ( فاطر 27 ) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَة ٍ ( النمل 60 ) واعلم أن قوله فَأَخْرَجْنَا إما أن يكون من كلام موسى عليه السلام أو من كلام الله تعالى والأول باطل لأن قوله بعد ذلك كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لأيَاتٍ لاِوْلِى النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ لا يليق بموسى عليه السلام وأيضاً فقوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَاتٍ شَتَّى لا يليق بموسى لأن أكثر ما في قدرة موسى عليه السلام صرف المياه إلى سقي الأراضي وأما إخراج النبات على اختلاف ألوانها وطبائعها فليس من موسى عليه السلام فثبت أن هذا كلام الله ولا يجوز أن يقال كلام الله ابتداؤه من قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نَّبَاتٍ شَتَّى لأن الفاء يتعلق بما قبله فلا يجوز جعل هذا كلام الله تعالى وجعل ما قبله كلام موسى عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال إن كلام موسى عليه السلام تم عند قوله لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى ثم ابتدىء كلام الله تعالى من قوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً ويكون التقدير هو الذي جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً فيكون الذي خبر مبتدأ محذوف ويكون الانتقال من الغيبة إلى الخطاب التفاتاً
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أنه سبحانه إنه يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء فيكون للماء فيه أثر وهذا بتقدير ثبوته لا يقدح في شيء من أصول الإسلام لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أعطاها هذه الخواص والطبائع لكن المتقدمين من المتكلمين ينكرونه ويقولون لا تأثير له فيه ألبتة
المسألة الثالثة قوله تعالى أَزْواجاً أي أصنافاً سميت بذلك لأنها مزدوجة مقرونة بعضها مع بعض شَتَّى صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى ويجوز أن يكون صفة للنبات والنبات مصدر سمي به النابت كما يسمى بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم والطبع بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم أما قوله كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ فهو حال من الضمير في أخرجنا والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها وقد تضمن قوله كلوا سائر وجوه المنافع فهو كقوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وقوله كُلُواْ أمر إباحة إِنَّ فِى ذَلِكَ أي فيما ذكرت من هذه(22/60)
النعم لاَيَاتٍ أي لدلالات لذوي النهى أي العقول والنهية العقل قال أبو علي الفارسي النهي يجوز أن يكون مصدراً كالهدى ويجوز أن يكون جمعاً أما قوله مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ فاعلم أنه سبحانه لما ذكر منافع الأرض والسماء بين أنها غير مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لكونها وسائل إلى منافع الآخرة فقال مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيه سؤالان
السؤال الأول ما معنى قوله مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ مع أنه سبحانه وتعالى خلقنا من نطفة على ما بين ذلك في سائر الآيات والجواب من وجهين الأول أنه لما خلق أصلنا وهو آدم عليه السلام من التراب على ما قال كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) لا جرم أطلق ذلك علينا الثاني أن تولد الإنسان إنما هو من النطفة ودم الطمث وهما يتولدان من الأغذية والغذاء إما حيواني أو نباتي والحيواني ينتهي إلى النبات والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب فصح أنه تعالى خلقنا منها وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة والثالث ذكرنا في قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ ( آل عمران 6 ) خبر ابن مسعود أن الله يأمر ملك الأرحام أن يكتب الأجل والرزق والأرض التي يدفن فيها وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة ويذره على النطفة ثم يدخلها في الرحم
السؤال الثاني ظاهر الآية يدل على أن الشيء قد يكون مخلوقاً من الشيء وظاهر قول المتكلمين يأباه والجواب إن كان المراد من خلق الشيء من الشيء إزالة صفة الشيء الأول عن الذات وأحداث صفة الشيء الثاني فيه فذلك جائز لأنه لا منافاة فيه أما قوله تعالى وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ فلا شبهة في أن المراد الإعادة إلى القبور حتى تكون الأرض مكاناً وظرفاً لكل من مات إلا من رفعه الله إلى السماء ومن هذا حاله يحتمل أن يعاد إليها أيضاً بعد ذلك أما قوله تعالى وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَة ً أُخْرَى ففيه وجوه أحدها وهو الأقرب وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ يوم الحشر والبعث وثانيها ومنها نخرجكم تراباً وطيناً ثم نحييكم بعد الإخراج وهذا مذكور في بعض الأخبار وثالثها المراد عذاب القبر عن البراء قال ( خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جنازة رجل من الأنصار فذكر عذاب القبر وما يخاطب به المؤمن والكافر وأنه ترد روحه في جسده ويرد إلى الأرض وأنه تعالى يقول عند إعادتهم إلى الأرض إني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ) واعلم أن الله تعالى عدد في هذه الآيات منافع الأرض وهي أنه تعالى جعلها لهم فراشاً ومهاداً يتقلبون عليها وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف أرادوا وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلف دوابهم وهي أصلهم الذي منه يتفرعون ثم هي كفاتهم إذا ماتوا ومن ثم قال عليه السلام ( بروا بالأرض فإنها بكم برة )
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى(22/61)
اعلم أنه تعالى بين أنه أرى فرعون الآيات كلها ثم إنه لم يقبلها واختلفوا في المراد بالآيات فقال بعضهم أراد كل الأدلة ما يتصل بالتوحيد وما يتصل بالنبوة أما التوحيد فما ذكر في هذه السورة من قوله رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( طه 50 ) وقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ مَهْداً ( طه 53 ) الآية وما ذكر في سورة الشعراء قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الشعراء 23 24 ) الآيات وأما النبوة فهي الآيات التسع التي خص الله بها موسى عليه السلام وهي العصا واليد وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل وعلى هذا التقرير معنى أريناه عرفناه صحتها وأوضحنا له وجه الدلالة فيها ومنهم من حمل ذلك على ما يتصل بالنبوة وهي هذه المعجزات وإنما أضاف الآيات إلى نفسه سبحانه وتعالى مع أن المظهر لها موسى عليه السلام لأنه أجراها على يديه كما أضاف نفخ الروح إلى نفسه فقال فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ( الأنبياء 91 ) مع أن النفخ كان من جبريل عليه السلام فإن قيل قوله كلها يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملة الأيات ما أظهرها على الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل موسى عليه السلام والذين كانوا بعده قلنا لفظ الكل وإن كان للعموم لكن قد يستعمل في الخصوص عند القرينة كما يقال دخلت السوق فاشتريت كل شيء أو يقال إن موسى عليه السلام أراه آياته وعدد عليه آيات غيره من الأنبياء عليهم السلام فكذب فرعون بالكل أو يقال تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى الله تعالى ذلك على الوجه الذي يلزم ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنه أنه كذب وأبى قال القاضي الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك ولأن الله تعالى ذمه بأنه كذب وبأنه أبى ولو لم يقدر على ما هو فيه لم يصح واعلم أن هذا السؤال مر في سورة البقرة في قوله إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ( البقرة 34 ) والجواب مذكور هناك ثم حكى الله تعالى شبهة فرعون وهي قوله أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَى مُوسَى وتركيب هذه الشبهة عجيب وذلك لأنه ألقى في مسامعهم ما يصيرون به مبغضين له جداً وهو قوله أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا وذلك لأن هذا مما يشق على الإنسان في النهاية ولذلك جعله الله تعالى مساوياً للقتل في قوله أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ ( النساء 66 ) ثم لما صاروا في نهاية البغض له أورد الشبهة الطاعنة في نبوته عليه السلام وهي أن ما جئتنا به سحر لا معجز ولما علم أن المعجز إنما يتميز عن السحر لكون المعجز مما يتعذر معارضته والسحر مما يمكن معارضته قال فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ أما قوله تعالى فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ فاعلم أن الموعد يجوز أن يكون مصدراً ويجوز أن يكون اسماً لمكان الوعد كقوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 43 ) وأن يكون اسماً لزمان الوعد كقوله إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ( هود 81 ) والذي في هذه الآية بمعنى المصدر أي اجعل بيننا وبينك وعداً لا نخلفه لأن الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف أما الزمان والمكان فلا يصح وصفهما بذلك ومما يؤكد ذلك أن الحسن قرأ يوم الزينة بالنصب وذلك لا يطابق المكان والزمان وإنما نصب مكاناً لأنه هو المفعول الثاني للجعل والتقدير اجعل مكان موعد لا نخلفه مكاناً سوى أما قوله سُوًى فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة وابن عامر سُوًى بضم السين والباقون بكسرها وهما لغتان مثل طوى وطوى وقرىء أيضاً منوناً وغير منون وذكروا في معناه وجوهاً أحدها قال أبو علي مكاناً تستوي مسافته على الفريقين وهو المراد من قول مجاهد قال قتادة منصفاً بيننا وثانيها قال ابن زيد سُوًى أي مستوياً لا يحجب العين ما فيه من الارتفاع والانخفاض فسوى على التقدير الأول صفة المسافة وعلى هذا التقدير صفة المكان والمقصود(22/62)
أنهم طلبوا موضعاً مستوياً لا يكون فيه ارتفاع ولا انخفاض حتى يشاهد كل الحاضرين كل ما يجري وثالثها مكاناً يستوي حالنا في الرضاء به ورابعها قال الكلبي مكاناً سوى هذا المكان الذي نحن فيه الآن
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَة ِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى يحتمل أن قوله تعالى قَالَ مَوْعِدُكُمْ أن يكون من قول فرعون فبين الوقت ويحتمل أن يكون من قول موسى عليه السلام قال القاضي والأول أظهر لأنه المطالب بالاجتماع دون موسى عليه السلام وعندي الأظهر أنه من كلام موسى عليه السلام لوجوه أحدها أنه جواب لقول فرعون فاجعل بيننا وبينك موعداً وثانيها وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي اطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أن اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس وثالثها أن قوله موعدكم خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون إلى موسى وهرون لزم إما حمله على التعظيم وذلك لا يليق بحال فرعون معهما أو على أن أقل الجمع إثنان وهو غير جائز أما لو جعلناه من موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه استقام الكلام
المسألة الثانية يوم الزينة قرأ بعضهم بضم الميم وقرأ الحسن بالنصب قال الزجاج إذا رفع فعلى خبر المبتدأ والمعنى وقت موعدكم يوم الزينة ومن نصب فعلى الظرف معناه موعدكم يقع يوم الزينة وقوله وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى معناه موعدكم حشر الناس ضحى فموضع أن يكون رفعاً ويجوز فيه الخفض عطفاً على الزينة كأنه قال موعدكم يوم الزينة ويوم يحشر الناس ضحى فإن قيل ألستم قلتم في تفسير قوله أَجَعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً إن التقدير اجعل مكان موعد لا نخلفه مكاناً سوى فهذا كيف يطابقه الجواب بذكر الزمان قلنا هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان معين مشهود باجتماع الناس في ذلك اليوم فبذكر الزمان علم المكان
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في يوم الزينة وجوهاً أحدها أنه يوم عيد لهم يتزينون فيه وثانيها قال مقاتل يوم النيروز وثالثها قال سعيد بن جبير يوم سوق لهم ورابعها قال ابن عباس يوم عاشوراء وإنما قال يحشر فإنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حاشر لهم وقرىء وأن يحشر الناس بالياء والتاء يريد وأن تحشر الناس يا فرعون وأن يحشر اليوم ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم بقوله مَوْعِدُكُمْ وجعل ضمير يحشر لفرعون وإنما أوعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله تعالى وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد في المجمع العام ليكثر المحدث بذلك الأمر(22/63)
العجيب في كل بدو وحضر ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر قال القاضي إنه عين اليوم بقوله يَوْمُ الزّينَة ِ ثم عين من اليوم وقتاً معيناً بقوله وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى وأما قوله فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى فاعلم أن التولي قد يكون إعراضاً وقد يكون انصرافاً والظاهر ههنا أنه بمعنى الانصراف وهو مفارقته موسى عليه السلام على الموعد الذي تواعدوا للاجتماع ( فيه ) قال مقاتل فتولى أي أعرض وثبت على إعراضه عن الحق ودخل تحت قوله فَجَمَعَ كَيْدَهُ السحرة وسائر من يجتمع لذلك ويدخل فيه الآلات وسائر ما أوردته السحرة ثُمَّ أَتَى دخل تحت أتى الموضع بالسحرة وبالقوم وبالآلات قال ابن عباس كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا وقيل كانوا أربعمائة وقيل أكثر من ذلك ثم ضربت لفرعون قبة فجلس فيها ينظر إليهم وكان طول القبة سبعين ذراعاً ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير مما قالوه وأقدموا عليه فقال وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تزعموا بأن الذي جئت به ليس بحق وأنه سحر فيمكنكم معارضتي قال الزجاج يجوز في انتصاب ويلكم أن يكون المعنى ألزمهم الله ويلا إن افتروا على الله كذبا ويجوز على النداء كقوله ياوَيْلَتَا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا ( هود 72 ) قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ( يس 52 ) وقوله فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ أي يعذبكم عذاباً مهلكاً مستأصلاً وقرأ حمزة وعاصم والكسائي برفع الياء من الإسحات والباقون بفتحها من السحت والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم والسحت لغة أهل الحجاز فكأنه تعالى قال من افترى على الله كذباً حصل له أمران أحدهما عذاب الاستئصال في الدنيا أو العذاب الشديد في الآخرة وهو المراد من قوله فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ والثاني الخيبة والحرمان عن المقصود وهو المراد بقوله وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ثم بين سبحانه وتعالى أنه لم قال موسى عليه السلام ذلك أعرضوا عن قوله فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وفي تنازعوا قولان أحدهما تفاوضوا وتشاوروا ليستقروا على شيء واحد والثاني قال مقاتل اختلفوا فيما بينهم ثم قال بعضهم دخل في التنازع فرعون وقومه ومنهم من يقول بل هم السحرة وحدهم والكلام محتمل وليس في الظاهر ما يدل على الترجيح وذكروا في قوله وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى وجوهاً أحدها أنهم أسروها من فرعون وعلى هذا التقدير فيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إن نجواهم قالوا إن غلبنا موسى اتبعناه والثاني قال قتادة إن كان ساحراً فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر الثالث قال وهب لما قال وَيْلَكُمْ الآية قالوا ما هذا بقول ساحر القول الثاني أنهم أسروا النجوى من موسى وفرعون ونجواهم هو قولهم إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ ( طه 63 ) وهو قول السدي الوجه الثالث أنهم أسروا النجوى من موسى وهرون ومن فرعون وقومه أيضاً وكان نجواهم أنهم كيف يجب تدبير أمر الحبال والعصي وعلى أي وجه يجب إظهارها فيكون أوقع في القلوب للعيوب وهو قول الضحاك
قَالُوا إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى
وفي الآية مسائل(22/64)
المسألة الأولى القراءة المشهورة إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ ومنهم من ترك هذه القراءة وذكروا وجوهاً أخر أحدها قرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر ( إن هذين لساحران ) قالوا هي قراءة عثمان وعائشة وابن الزبير وسعيد بن جبير والحسن رضي الله تعالى عنه واحتج أبو عمرو وعيسى على ذلك بما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت عن قوله إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ وعن قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى ( المائدة 69 ) في المائدة وعن قوله لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ إِلَى قَوْلُهُ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ ( النساء 162 ) فقالت يا ابن أخي هذا خطأ من الكاتب وروى عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها وعن أبي عمرو أنه قال إني لأستحي أن أقرأ إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ وثانيها قرأ ابن كثير ( إن هذان ) بتخفيف إن وتشديد نون هذان وثالثها قرأ حفص عن عاصم إن هذان بتخفيف النونين ورابعها قرأ عبد الله بن مسعود وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى إِنْ هَاذانِ بفتح الألف وجزم نونه ( و ) ساحران بغير لام وخامسها عن الأخفش قَالُواْ إِنْ هَاذانِ لَسَاحِرانِ خفيفة في معنى ثقيلة وهي لغة قوم يرفعون بها ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى ما وسادسها روى عن أبي بن كعب ( ما هذان إلا ساحران ) وروي عنه أيضاً ( إن هذان لساحران ) وعن الخليل مثل ذلك وعن أبي أيضاً ( إن ذان لساحران ) فهذه هي القراءات الشاذة المذكورة في هذه الآية واعلم أن المحققين قالوا هذه القراءات لا يجوز تصحيحها لأنها منقولة بطريق الآحاد والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر إذ لو جوزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق الآحاد لما أمكننا القطع بأن هذا الذي هو عندنا كل القرآن لأنه لما جاز في هذه القراءات أنها مع كونها مع القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك فثبت أن تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة ولما كان ذلك باطلاً فكذلك ما أدى إليه وأما الطعن في القراءة المشهورة فهو أسوأ مما تقدم من وجوه أحدها أنه لما كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن وذلك يفضي إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كل القرآن وأنه باطل وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة وثانيها أن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً فثبت فساد ما نقل عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما أن فيه لحناً وغلطاً وثالثها قال ابن الأنباري إن الصحابة هم الأئمة والقدوة فلو وجدوا في المصحف لحناً لما فوضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم مع تحذيرهم من الإبتداع وترغيبهم في الاتباع حتى قال بعضهم اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم فثبت أنه لا بد من تصحيح القراءة المشهورة واختلف النحويون فيه وذكروا وجوهاً الوجه الأول وهو الأقوى أن هذه لغة لبعض العرب وقال بعضهم هي لغة بلحارث بن كعب والزجاج نسبها إلى كنانة وقطرب نسبها إلى بلحارث بن كعب ومراد وخثعم وبعض بني عذرة ونسبها ابن جني إلى بعض بني ربيعة أيضاً وأنشد الفراء على هذه اللغة فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى
مساغاً لناباه الشجاع لصمما
وأنشد غيره تزود منا بين أذناه ضربة
دعته إلى هابي التراب عقيم
قال الفراء وحكى بعض بني أسد أنه قال هذا خط يدا أخي أعرفه وقال قطرب هؤلاء يقولون رأيت رجلان(22/65)
واشتريت ثوبان قال رجل من بني ضبة جاهلي أعرف منها الجيد والعينانا
ومنخرين أشبها ظبيانا
وقوله ومنخرين على اللغة الفاشية وما وراء ذلك على لغة هؤلاء
وقال آخر طاروا علاهن فطر علاها
واشدد بمثنى حقب حقواها
وقال آخر كأن صريف ناباه إذا ما
أمرهما صرير الأخطبان
قال بعضهم الأخطبان ذكر الصردان فصيرهما واحداً فبقي الاستدلال بقوله صريف ناباه قال وأنشدني يونس لبعض بني الحرث كأن يميناً سحبل ومصيفه
مراق دم لن يبرح الدهر ثاويا
وأنشدوا أيضاً إن أباها وأبا أباها
قد بلغا في المجد غايتاها
وقال ابن جني روينا عن قطرب هناك أن تبكي بشعشعان
رحب الفؤاد طائل اليدان
ثم قال الفراء وذلك وإن كان قليلاً أقيس لأن ما قبل حرف التثنية مفتوح فينبغي أن يكون ما بعده ألفاً ولو كان ما بعده ياء ينبغي أن تنقلب ألفاً لانفتاح ما قبلها وقطرب ذكر أنهم يفعلون ذلك فراراً إلى الألف التي هي أخف حروف المد هذا أقوى الوجوه في هذه الآية ويمكن أن يقال أيضاً الألف في هذا من جوهر الكلمة والحرف الذي يكون من جوهر الكلمة لا يجوز تغييره بسبب التثنية والجمع لأن ما بالذات لا يزول بالعرض فهذا الدليل يقتضي أن لا يجوز أن يقال ( إن هذين ) فلما جوزناه فلا أقل من أن يجوز معه أن يقال إن هذان الوجه الثاني في الجواب أن يقال إن ههنا بمعنى نعم قال الشاعر ويقلن شيب قد علا
ك وقد كبرت فقلت إنه
أي فقلت نعم فالهاء في إنه هاء السكت كما في قوله تعالى هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ ( الحاقة 29 ) وقال أبو ذؤيب شاب المفارق إن إن من البلى
شيب القذال مع العذار الواصل
أي نعم إن من البلى فصار إن كأنه قال نعم هذان لساحران واعترضوا عليه فقالوا اللام لا تدخل في الخبر على الاستحسان إلا إذا كانت إن داخلة في المبتدأ فأما إذا لم تدخل أن على المبتدأ فمحل اللام المبتدأ إذ يقال لزيد اعلم من عمرو ولا يقال زيد لأعلم من عمرو وأجابوا عن هذا الاعتراض من وجهين الأول لا نسلم أن اللام لا يحسن دخولها على الخبر والدليل عليه قوله(22/66)
أم الحليس لعجوز شهر به
ترضى من اللحم بعظم الرقبه
وقال آخر خالي لأنت ومن جرير خاله
ينل العلاء ويكرم الأخوالا
وأنشد قطرب ألم تكن حلفت بالله العلي
أن مطاياك لمن خير المطي
وإن رويت إن بالكسر لم يبق الاستدلال إلا أن قطرباً قال سمعناه مفتوح الهمزة وأيضاً فقد أدخلت اللام في خبر أمسى قال ابن جني أنشدنا أبو علي مروا عجالى فقالوا كيف صاحبكم
فقال من سئلوا أمسى لمجهودا
وقال قطرب وسمعنا بعض العرب يقول أراك المسالمي وإني رأيته لشيخاً وزيد والله لواثق بك وقال كثير وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها
لكالهائم المقصى بكل بلاد
وقال آخر ولكنني من حبها لعميد
وقال المعترض هذه الأشعار من الشواذ وإنما جاءت كذا لضرورة الشعر وجل كلام الله تعالى عن الضرورة وإنما تقرر هذا الكلام إذا بينا أن المبتدأ إذا لم يدخل عليه إن وجب إدخال اللام عليه لا على الخبر وتحقيقه أن اللام تفيد تأكيد موصوفية المبتدأ بالخبر واللام تدل على حالة من حالات المبتدأ وصفة من صفاته فوجب دخولها على المبتدأ لأن العلة الموجبة لحكم في محل لا بد وأن تكون مختصة بذلك المحل لا يقال هذا مشكل بما إذا دخلت إن على المبتدأ فإن ههنا يجب إدخال اللام على الخبر مع أن ما ذكرتموه حاصل فيه لأنا نقول ذلك لأجل الضرورة وذلك لأن كلمة إن للتأكيد واللام للتأكيد فلو قلنا إن لزيداً قائم لكنا قد أدخلنا حرف التأكيد على حرف التأكيد وذلك ممتنع فلما تعذر إدخالها على المبتدأ لا جرم أدخلناها على الخبر لهذه الضرورة وأما إذا لم يدخل حرف إن على المبتدأ كانت هذه الضرورة زائلة فوجب إدخال اللام على المبتدأ لا يقال إذا جاز إدخال حرف النفي على حرف النفي في قوله
ما إن رأيت ولا سمعت به كاليوم طالبني أنيق أجرب
والغرض به تأكيد النفي فلم لا يجوز إدخال حرف التأكيد على حرف التأكيد والغرض به تأكيد الإثبات لأنا نقول الفرق بين البابين أن قولك زيد قائم يدل على الحكم بموصوفية زيد بالقيام فإذا قلت إن زيداً قائم فكلمة إن تفيد تأكيد ذلك الحكم فلو ذكرت مؤكداً آخر مع كلمة إن صار عبثاً أما لو قلت رأيت فلاناً فهذا للثبوت فإذا أدخلت عليه حرف النفي أفاد حرف النفي معنى النفي ولا يفيد التأكيد لأنه مستقل بإفادة الأصل فكيف يفيد الزيادة فإذا ضممت إليه حرف نفي آخر صار الحرف الثاني مؤكداً للأول فلا يكون عبثاً فهذا هو الفرق بين البابين فهذا منتهى تقرير هذا الاعتراض وهو عندي ضعيف لأن الكل اتفقوا على أنه إذا اجتمع النقل والقياس فالنقل أولى ولأن هذه العلل في نهاية الضعف فكيف يدفع بها النقل الظاهر الوجه الثاني في الجواب عن قولهم اللام لا يحسن دخولها على الخبر إلا إذا دخلت كلمة إن على المبتدأ كما ذكره الزجاج فقال إن وقعت موقع نعم واللام في موقعها والتقدير(22/67)
نعم هذان لهما ساحران فكانت اللام داخلة على المبتدأ لا على الخبر قال وعرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلى إسماعيل بن إسحق فارتضياه وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا قال ابن جنى هذا القول غير صحيح لوجوه الوجه الأول أن الأصل أن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمراً معلوماً جلياً ولولا ذلك لكان في حذفه مع الجهل به ضرب من تكليف علم الغيب للمخاطب وإذا كان معروفاً فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام لأن التأكيد إنما يحتاج إليه حيث لم يكن العلم به حاصلاً الوجه الثاني أن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب فالجمع بينهما غير جائز ولأن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس الوجه الثالث امتناع أصحابنا البصريين من تأكيد الضمير المحذوف العائد على المبتدأ في نحو قولك زيد ضربت فلا يجيزون زيد ضربت نفسه على أن يجعل النفس توكيداً للهاء المؤكدة المقدرة في ضربت أي ضربته لأن الحذف لا يكون إلا بعد التحقيق والعلم به وإذا كان كذلك فقد استغنى عن تأكيده فكذا ههنا الوجه الرابع أن جميع النحويين حملوا قول الشاعر أم الحليس لعجوز شهر به على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة ولو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزاً لما عدل عنه النحويون ولما حملوا الكلام عليه على الإضطرار إذا وجدوا له وجهاً ظاهراً ويمكن الجواب عن اعتراض ابن جنى بأنه إنما حسن حذف المبتدأ لأن في اللفظ ما يدل عليه وهو قوله هذان أما لو حذف التأكيد فليس في اللفظ ما يدل عليه فلا جرم كان حذف المبتدأ أولى من حذف التأكيد وأما امتناعهم من تأكيد الضمير في قولهم زيد ضربت نفسه فذاك إنما كان لأن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر فإذا قال زيد ضربت نفسه كان قوله نفسه مفعولاً فلا يمكن جعله تأكيداً للضمير فتأكيد المحذوف إنما امتنع ههنا لهذه العلة لا لأن تأكيد المحذوف مطلقاً ممتنع وأما قوله النحويون حملوا قول الشاعر أم الحليس لعجوز شهر به على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة فلو جاز ما قاله الزجاج لما عدل عنه النحويون فهذا اعتراض في نهاية السقوط لأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلاً فما أكثر ما ذهل المتقدم عنه وأدركه المتأخر فهذا تمام الكلام في شرح هذا الوجه الثالث في الجواب أن كلمة إن ضعيفة في العمل لأنها تعمل بسبب مشابهة الفعل فوجب كونها ضعيفة في العمل وإذا ضعفت جاز بقاء المبتدأ على إعرابه الأصلي وهو الرفع
المقدمة الأولى أنها تشبه الفعل وهذه المشابهة حاصلة في اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأنها تركبت من ثلاثة أحرف وانفتح آخرها ولزمت الأسماء كالأفعال وأما المعنى فلأنها تفيد حصول معنى في الإسم وهو تأكيد موصوفيته بالخبر كما أنك إذا قلت قام زيد فقولك قام أفاد حصول معنى في الإسم
المقدمة الثانية أنها لما أشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل فذلك ظاهر بناء على الدوران
المقدمة الثالثة أنها لم تنصب الاسم وترفع الخبر فتقريره أن يقال إنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ والخبر معاً أو تنصبهما معاً أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول باطل لأن المبتدأ والخبر كانا قبل دخول إن عليهما مرفوعين فلو بقيا كذلك بعد دخولها عليهما لما ظهر له أثر ألبتة ولأنها أعطيت عمل الفعل والفعل لا يرفع الإسمين فلا معنى للاشتراك والقسم الثاني أيضاً باطل لأن هذا أيضاً مخالف لعمل الفعل لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خلوه عما يرفعه والقسم الثالث أيضاً باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين(22/68)
الأصل والفرع فإن الفعل يكون عمله في الفاعل أولاً بالرفع وفي المفعول بالنصب فلو جعل النصب ههنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعين القسم الرابع وهو أنها تنصب الاسم وترفع الخبر وهذا مما ينبه على أن هذه الحروف دخيلة في العمل لا أصيلة لأن تقديم المنصوب على المرفوع في باب العمل عدول عن الأصل فذلك يدل على أن العمل بهذه الحروف ليس بثابت بطريق الأصالة بل بطريق عارض
المقدمة الرابعة لما ثبت أن تأثيرها في نصب الاسم بسبب هذه المشابهة وجب جواز الرفع أيضاً وذلك لأن كون الاسم مبتدأ يقتضي الرفع ودخول إن على المبتدأ لا يزيل عنه وصف كونه مبتدأ لأنه يفيد تأكيد ما كان لا زوال ما كان إذا ثبت هذا فنقول وصف كونه مبتدأ يقتضي الرفع وحرف إن يقتضي النصب ولكن المقتضى الأول أولى بالاقتضاء من وجهين أحدهما أن وصف كونه مبتدأ صفة أصلية للمبتدأ ودخول إن عليه صفة عرضية والأصل راجح على العارض والثاني أن اقتضاء وصف المبتدأ للرفع أصلي واقتضاء حرف إن للنصب صفة عارضة بسبب مشابهتها بالفعل فيكون الأول أولى فثبت بمجموع ما قررنا أن الرفع أولى من النصب فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من أصل الجواز ولهذا السبب إذا جئت بخبر إن ثم عطفت على الاسم إسماً آخر جاز فيه الرفع والنصب معاً الوجه الرابع في الجواب قال الفراء هذا أصله ذا زيدت الهاء لأن ذا كلمة منقوصة فكملت بالهاء عند التنبيه وزيدت ألفاً للتثنية فصارت هذا إن فاجتمع ساكنان من جنس واحد فاحتيج إلى حذف واحد ولا يمكن حذف ألف الأصل لأن أصل الكلمة منقوصة فلا تجعل أنقص فحذف ألف التثنية لأن النون يدل عليه فلا جرم لم تعمل إن لأن عملها في ألف التثنية وقال آخرون الألف الباقي إما ألف الأصل أو ألف التثنية فإن كان الباقي ألف الأصل لم يجز حذفها لأن العامل الخارجي لا يتصرف في ذات الكلمة وإن كان الباقي ألف التثنية فلا شك أنهم أنابوها مناب ألف الأصل وعوض الأصل أصل لا محالة فهذا الألف أصل فلا يجوز حذفه ويرجع حاصل هذا إلى الجواب الأول الوجه الخامس في الجواب حكى الزجاج عن قدماء النحويين أن الهاء ههنا مضمرة والتقدير إنه هذان لساحران وهذه الهاء كناية عن الأمر والشأن فهذا ما قيل في هذا الموضع فأما من خفف فقرأ إن هذان لساحران فهو حسن فإن ما بعد الخفيفة رفع واللام بعدها في الخبر لازمة واجبة وإن كانت في إن الثقيلة جائزة ليظهر الفرق بين إن المؤكدة وإن النافية قال الشاعر وإن مالك للمرتجى إن تضعضعت
رحا الحرب أو دارت على خطوب
وقال آخر إن القوم والحي الذي أنا منهم
لأهل مقامات وشاء وجامل
الجامل جمع جمل ثم من العرب من يعمل إن ناقصة كما يعملها تامة اعتباراً بكان فإنها تعمل وإن نقصت في قولك لم يكن لبقاء معنى التأكيد وإن زال الشبه اللفظي بالفعل لأن العبرة للمعنى وهذه اللغة تدل على أن العبرة في باب الإعمال الشبه المعنوي بالفعل وهو إثبات التوكيد دون الشبه اللفظي كما أن التعويل في باب كان على المعنى دون اللفظ لكونه فعلاً محضاً وأما اللغة الظاهرة وهي ترك إعمال إن الخفيفة دالة على أن الشبه اللفظي في إن الثقيلة أحد جزأي العلة في حق عملها وعند الخفة زال الشبه فلم تعمل بخلاف السكون فإنه عامل بمعناه لكونه فعلاً محضاً ولا عبرة للفظه
المسألة الثانية أنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما أسروه من النجوى حكى عنهم ما أظهروه ومجموعه يدل على التنفير عن موسى عليه السلام ومتابعة دينه فأحدها قولهم هَاذانِ لَسَاحِرانِ وهذا طعن منهم في معجزات(22/69)
موسى عليه السلام ثم مبالغة في التنفير عنه لما أن كل طبع سليم يقتضي النفرة عن السحر وكراهة رؤية الساحر ومن حيث إن الإنسان يعلم أن السحر لا بقاء له فإذا اعتقدوا فيه السحر قالوا كيف نتبعه فإنه لا بقاء له ولا لدينه ولا لمذهبه وثانيها قوله يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ وهذا في نهاية التنفير لأن المفارقة عن المنشأ والمولد شديدة على القلوب وهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون في قوله أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 57 ) وكأن السحرة تلقفوا هذه الشبهة من فرعون ثم أعادوها وثالثها قوله وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى وهذا أيضاً له تأثير شديد في القلب فإن العدو إذا جاء واستولى على جميع المناصب والأشياء التي يرغب فيها فذلك يكون في نهاية المشقة على النفس فهم ذكروا هذه الوجوه للمبالغة في التنفير عن موسى والترغيب في دفعه وإبطال أمره وههنا بحثان
البحث الأول قال الفراء الطريقة الرجال الأشراف الذين هم قدوة لغيرهم يقال هم طريقة قومهم ويقال للواحد أيضاً هو طريقة قومه وجعل الزجاج الآية من باب حذف المضاف أي ويذهبا بأهل طريقتكم المثلى وعلى التقديرين فالمراد أنهم كانوا يحرضون القوم بأن موسى وهارون عليهما السلام يريدان أن يذهبا بأشراف قومكم وأكابركم وهم بنوا اسرائيل لقول موسى عليه السلام أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء 17 ) وإنما سموا بني إسرائيل بذلك لأنهم كانوا أكثر القوم يومئذ عدداً وأموالاً ومن المفسرين من فسر الطريقة المثلى بالدين سموا دينهم بالطريقة المثلى وَكُلٌّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( الروم 32 ) ومنهم من فسرها بالجاه والمنصب والرياسة
البحث الثاني الْمُثْلَى مؤنثة لتأنيث الطريقة واختلفوا في أنه لم سمى الأفضل بالأمثل فقال بعضهم الأمثل الأشبه بالحق وقيل الأمثل الأوضح والأظهر ثم إنه تعالى لما حكى عنهم مبالغتهم في التنفير عن موسى عليه السلام والترغيب في إبطال أمره حكى عنهم أنهم قالوا فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً قرأ أبو عمرو بوصل الألف وفتح الميم من أجمعوا يعني لا تدعوا شيئاً من كيدهم إلا جئتم به دليله قوله فَجَمَعَ كَيْدَهُ وقرأ الباقون بقطع الألف وكسر الميم وله وجهان أحدهما قال الفراء الإجماع الأحكام والعزيمة على الشيء يقال أجمعت على الخروج مثل أزمعت والثاني بمعنى الجمع وقد مضى الكلام في هذا عند قوله فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ( يونس 71 ) قال الزجاج ليكن عزمكم كلكم كاليد مجمعاً عليه لا تختلفوا ثم ائتوا صفاً ذكر أبو عبيدة والزجاج وجهين أحدهما أن الصف موضع الجمع والمعنى ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم والمعنى ائتوا مصلى من المصليات أو كان الصف علماً للمصلى بعينه فأمروا بأن يأتوه والثاني أن يكون الصف مصدراً والمعنى ثم ائتوا مصطفين مجتمعين لكي يكون أنظم لأمركم وأشد لهيبتكم وهذا قول عامة المفسرين وقوله وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى اعتراض يعني وقد فاز من غلب فكانوا يقرون بذلك أنفسهم فيما اجتمعوا عليه من إظهار ما يظهرونه من السحر
قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِى َ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَة ً مُّوسَى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاٌّ عْلَى وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(22/70)
اعلم أنه لما تقدم ذكر الموعد وهو يوم الزينة وتقدم أيضاً قوله ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً ( طه 64 ) صار ذلك مغنياً عن قوله فحضروا هذا الموضع وقالوا إِمَّا أَن تُلْقِى َ لدلالة ما تقدم عليه وقوله إِمَّا أَن تُلْقِى َ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى معناه إما أن تلقى ما معك قبلنا وإما أن نلقى ما معنا قبلك وهذا التخيير مع تقديمه في الذكر حسن أدب منهم وتواضع له فلا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته ثم إن موسى عليه السلام قابل أدبهم بأدب فقال بَلْ أَلْقُواْ أما قوله بَلْ أَلْقُواْ ففيه سؤالان
السؤال الأول كيف يجوز أن يقول موسى عليه السلام بَلْ أَلْقُواْ فيأمرهم بما هو سحر وكفر لأنهم إذا قصدوا بذلك تكذيب موسى عليه السلام كان كفراً والجواب من وجوه أحدها لا نسلم أن نفس الإلقاء كفر ومعصية لأنهم إذا ألقوا وكان غرضهم أن يظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول عليه السلام وهو موسى كان ذلك الإلقاء إيماناً وإنما الكفر هو القصد إلى تكذيب موسى وهو عليه السلام إنما أمر بالإلقاء لا بالقصد إلى التكذيب فزال السؤال وثانيها ذلك الأمر كان مشروطاً والتقدير أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ ( الشعراء 43 ) إن كنتم محقين كما في قوله تعالى فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( البقرة 23 ) أي إن كنتم قادرين وثالثها أنه لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار ذلك جائزاً وهذا كالمحق إذا علم أن في قلب واحد شبهة وأنه لو لم يطالبه بذكرها وتقريرها بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه ويخرج بسببها عن الدين فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوه ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها ويزيل أثرها عن قلبه فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض تكون جائزة فكذا ههنا ورابعها أن لا يكون ذلك أمراً بل يكون معناه إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حساً لكي ينكشف الحق وخامسها أن موسى عليه السلام لا شك أنه كان كارهاً لذلك ولا شك أنه نهاهم عن ذلك بقوله وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ( طه 61 ) وإذا كان الأمر كذلك استحال أن يكون قوله أمراً لهم بذلك لأن الجمع بين كونه ناهياً وآمراً بالفعل الواحد محال فعلمنا أن قوله غير محمول على ظاهره وحينئذ يزول الإشكال
السؤال الثاني لم قدمهم في الإلقاء على نفسه مع أن تقديم استماع الشبهة على استماع الحجة غير جائز فكذا تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة وجب أن لا يجوز لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة ثم لا يتفرغ لإدراك الحجة بعده فيبقى حينئذ في الكفر والضلال وليس لأحد أن يقول إن ذلك كان بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو عليه السلام قابل ذلك بأن قدمهم على نفسه لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز والجواب أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزة مرة واحدة فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى والقوم إنما جاؤوا لمعارضته فقال عليه السلام لو أني بدأت بإظهار المعجزة أولاً لكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وذلك غير جائز ولكني أفوض الأمر إليهم حتى أنهم باختيارهم يظهرون ذلك السحر ثم أنا أظهر المعجز الذي يبطل سحرهم فيكون على هذا التقدير سبباً لإزالة الشبهة وأما على التقدير الأول فإنه يكون سبباً لوقوع الشبهة فكان ذلك(22/71)
أولى أما قوله فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما أَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ميلاً من هذا الجانب وميلاً من هذا الجانب فخيل إلى موسى عليه السلام أن الأرض كلها حيات وأنها تسعى فخاف فلما قيل له أَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ ألقى موسى عصاه فإذا هي أعظم من حياتهم ثم أخذت تزداد عظماً حتى ملأت الوادي ثم صعدت وعلت حتى علقت ذنبها بطرف القبة ثم هبطت فأكلت كل ما عملوا في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها ثمانين ذراعاً فصاح بموسى عليه السلام فأخذها فإذا هي عصى كما كانت ونظرت السحرة فإذا هي لم تدع من حبالهم وعصيهم شيئاً إلا أكلته فعرفت السحرة أنه ليس بسحر وقالوا أين حبالنا وعصينا لو لم تكن سحراً لبقيت فخروا سجداً وقالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ ( الأعراف 121 122 )
المسألة الثانية اختلفوا في عدد السحرة قال القاسم بن سلام كانوا سبعين ألفاً مع كل واحد عصا وحبل وقال السدي كانوا بضعة وثلاثين ألفاً مع كل واحد عصا وحبل وقال وهب كانوا خمسة عشر ألفاً وقال ابن جريج وعكرمة كانوا تسعمائة ثلثمائة من الفرس وثلثمائة من الروم وثلثمائة من الاسكندرية وقال الكلبي كانوا اثنين وسبعين ساحراً اثنان منهم من القبط وسبعون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على ذلك واعلم أن الاختلاف والتفاوت واقع في عدد كثير وظاهر القرآن لا يدل على شيء منه والأقوال إذا تعارضت تساقطت
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن تكون ناصباً فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي اه
المسألة الرابعة قرىء عصيهم بالضم وهو الأصل والكسر إتباع نحو دلي ودلي وقسي وقسي وقرىء تخيل بالتاء المنقوطة من فوق بإسناد الفعل إلى الحبال والعصي وقرىء بالضم بالياء المنقطة من تحت بإسناد الفعل إلى الكيد والسحر وقال الفراء أي يخيل إليه سعيها
المسألة الخامسة الهاء في قوله يُخَيَّلُ إِلَيْهِ كناية عن موسى عليه السلام والمراد أنهم بلغوا في سحرهم المبلغ الذي صار يخيل إلى موسى عليه السلام أنها تسعى كسعي ما يكون حياً من الحيات لا أنها كانت حية في الحقيقة ويقال إنهم حشوها بما إذا وقعت الشمس عليه يضطرب ويتحرك ولما كثرت واتصل بعضها ببعض فمن رآها كان يظن أنها تسعى فأما ما روي عن وهب أنهم سحروا أعين الناس وعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك مستدلاً بقوله تعالى فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ( الأعراف 116 ) وبقوله تعالى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فهذا غير جائز لأن ذلك الوقت وقت إظهار المعجزة والأدلة وإزالة الشبهة فلو صار بحيث لا يميز الموجود عن الخيال الفاسد لم يتمكن من إظهار المعجزة فحينئذ يفسد المقصود(22/72)
فإذن المراد أنه شاهد شيئاً لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى أما قوله تعالى فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَة ً مُّوسَى فالإيجاس استشعار الخوف أي وجد في نفسه خوفاً فإن قيل إنه لا مزيد في إزالة الخوف على ما فعله الله تعالى في حق موسى عليه السلام فإنه كلمه أولاً وعرض عليه المعجزات الباهرة كالعصا واليد ثم إنه تعالى صيرها كما كانت بعد أن كانت كأعظم ثعبان ثم إنه أعطاه الاقتراحات الثمانية وذكر ما أعطاه قبل ذلك من المنن الثمانية ثم قال له بعد ذلك كله إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) فمع هذه المقدمات الكثيرة كيف وقع الخوف في قلبه والجواب عنه من وجوه أحدها أن ذلك الخوف إنما كان لما طبع الآدمي عليه من ضعف القلب وإن كان قد علم موسى عليه السلام أنهم لا يصلون إليه وأن الله ناصره وهذا قول الحسن وثانيها أنه خاف أن تدخل على الناس شبهة فيما يرونه فيظنوا أنهم قد ساووا موسى عليه السلام ويشتبه ذلك عليهم وهذا التأويل متأكد بقوله لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى وهذا قول مقاتل وثالثها أنه خاف حيث بدأوا وتأخر إلقاؤه أن ينصرف بعض القوم قبل مشاهدة ما يلقيه فيدوموا على اعتقاد الباطل ورابعها لعله عليه السلام كان مأموراً بأن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي فلما تأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت خاف أن لا ينزل الوحي في ذلك الوقت فيبقى في الخجالة وخامسها لعله عليه السلام خاف من أنه لو أبطل سحر أولئك الحاضرين فلعل فرعون قد أعد أقواماً آخرين فيأتيه بهم فيحتاج مرة أخرى إلى إبطال سحرهم وهكذا من غير أن يظهر له مقطع وحينئذ لا يتم الأمر ولا يحصل المقصود ثم إنه تعالى أزال ذلك الخوف بالإجمال أولاً وبالتفصيل ثانياً أما الإجمال فقوله تعالى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى ودلالته على أن خوفه كان لأمر يرجع إلى أن أمره لا يظهر للقوم فآمنه الله تعالى بقوله إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى وفيه أنواع من المبالغة أحدها ذكر كلمة التأكيد وهي إن وثانيها تكرير الضمير وثالثها لام التعريف ورابعها لفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة وأما التفصيل فقوله وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ وفيه سؤال وهو أنه لمَ لم يقل وألق عصاك والجواب جاز أن يكون تصغيراً لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي بيمينك فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفها على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها وجائز أن يكون تعظيماً لها أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء عندها فألقه يتلقفها بإذن الله تعالى ويمحقها أما قوله تَلْقَفْ أي فإنك إذا ألقيتها فإنها تلقف ما صنعوا قراءة العامة تلقف بالجزم والتشديد أي فألقها تتلقفها وقرأ ابن عامر تلقف بالتشديد وضم الفاء على معنى الحال أي ألقها متلقفة أو بالرفع على الاستئناف وروى حفص عن عاصم بسكون اللام مع التخفيف أي تأخذ بفيها ابتلاعاً بسرعة واللقف والتلقف جميعاً يرجعان إلى هذا المعنى وصنعوا ههنا بمعنى اختلقوا وزوروا والعرب تقول في الكذب هو كلام مصنوع وموضوع وصحة قوله تَلْقَفْ أنه إذا ألقى ذلك وصارت حية تلقفت ما صنعوا وفي قوله فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سُجَّداً ( طه 70 ) دلالة على أنه ألقى العصا وصارت حية وتلقفت ما صنعوه وفي التلقف دلالة على أن جميع ما ألقوه تلقفته وذلك لا يكون إلا مع عظم جسدها وشدة قوتها وقد حكى عن السحرة أنهم عند التلقف أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام ليس من مقدور البشر من وجوه أحدها ظهور حركة(22/73)
العصا على وجه لا يكون مثله بالحيلة وثانيها زيادة عظمه على وجه لا يتم ذلك بالحيلة وثالثها ظهور الأعضاء عليه من العين والمنخرين والفم وغيرها ولا يتم ذلك بالحيلة ورابعها تلقف جميع ما ألقوه على كثرته وذلك لا يتم بالحيلة وخامسها عوده خشبة صغيرة كما كانت وشيء من ذلك لا يتم بالحيلة ثم بين سبحانه وتعالى أن ما صنعوا كيد ساحر والمعنى أن الذي معك يا موسى معجزة إلهية والذي معهم تمويهات باطلة فكيف يحصل التعارض وقرىء كيد ساحر بالرفع والنصب فمن رفع فعلى أن ما موصولة ومن نصب فعلى أنها كافة وقرىء كيد سحر بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته أو بين الكيد لأنه يكون سحراً وغير سحر كما يبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو بقي سؤالات
السؤال الأول لم وحد الساحر ولم يجمع الجواب لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد فلو جمع تخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى إلى قوله وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى أي هذا الجنس
السؤال الثاني لم نكر أولاً ثم عرف ثانياً الجواب كأنه قال هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر وجميع أقسام السحر لا فائدة فيه ولا شك أن هذا الكلام على هذا الوجه أبلغ
السؤال الثالث قوله وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى يدل على أن الساحر لا يحصل له مقصوده بالسحر خيراً كان أو شراً وذلك يقتضي نفي السحر بالكلية الجواب الكلام في السحر وحقيقته قد تقدم في سورة البقرة فلا وجه للإعادة والله أعلم
فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى
اعلم أن في قوله فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سُجَّداً دلالة على أنه ألقى ما في يمينه وصار حية تلقف ما صنعوا وظهر الأمر فخروا عند ذلك سجداً وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر فلما رأوا ما فعله موسى(22/74)
عليه السلام خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر ألبتة ويقال قال رئيسهم كنا نغالب الناس بالسحر وكانت الآلات تبقى علينا لو غلبنا فلو كان هذا سحراً فأين ما ألقيناه فاستدلوا بتغير أحوال الأجسام على الصانع العالم القادر وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولاً صادقاً من عند الله تعالى فلا جرم تابوا وآمنوا وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود أما قوله تعالى فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سُجَّداً فليس المراد منه أنهم أجبروا على السجود إلا لما كانوا محمودين بل التأويل فيه ما قال الأخفش وهو أنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا وقال صاحب ( الكشاف ) ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود فما أعظم الفرق بين الإلقاءين وروى أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها وعن عكرمة لما خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة قال القاضي هذا بعيد لأنه تعالى لو أراهم عياناً لصاروا ملجئين وذلك لا يليق به قولهم إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ( طه 73 ) وجوابه لما جاز لإبراهيم عليه السلام مع قطعه بكونه مغفوراً له أن يقول وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى ( الشعراء 82 ) فلم لا يجوز مثله في حق السحرة واعلم أن هذه القصة تنبه على أسرار عجيبة من أمور الربوبية ونفاذ القضاء الإلهي وقدره في جملة المحدثات وذلك لأن ظهور تلك الأدلة كانت بمرأى من الكل ومسمع فكان وجه الاستدلال فيها جلياً ظاهراً وهو أنه حدثت أمور فلا بد لها من مؤثر والعلم بذلك ضروري وذلك المؤثر إما الخلق وإما غيرهم والأول بديهي البطلان لأن كل عاقل يعلم بالضرورة من نفسه أنه لا يقدر على إيجاد الحيوانات وتعظيم جثتها دفعة واحدة ثم يصغرها مرة أخرى كما كانت وهذه العلوم الجلية متى حصلت في العقل أفادت القطع بأنه لا بد من مدبر لهذا العالم فماذا يقول ألا ترى أن أولئك المنكرين جهلوا صحة هذه المقدمات وهذا في نهاية البعد لأنا بينا أن كل واحد منها بحيث لا يمكن ارتياب العاقل فيه وإذاً فقد عرفوا صحتها لكنهم أصروا على الجهل وكرهوا تحصيل العلم والسعادة لأنفسهم وأحبوا تحصيل الجهل والشقاوة لأنفسهم ما أرى أن عاقلاً يرضى بذلك لنفسه قط فلم يبق إلا أن يقال العقل والدليل لا يكفي بل لا بد من مدبر يخلق هذه المقدمات في القلوب ويخلق الشعور بكيفية ترتيبها وبكيفية استنتاجها للنتيجة حتى أنه متى فعل ذلك حصلت النتائج في القلوب وذلك يدل على أن الكل بقضائه وقدره فإنه لا اعتماد على العقول والقلوب في مجاريها وتصرفاتها ومن طرح التعصب عن قلبه ونظر إلى أحوال نفسه في مجاري أفكاره وأنظاره ازداد وثوقاً بما ذكرناه أما قوله قَالُواْ امَنَّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَى فاعلم أن التعليمية احتجوا بهذه الآية وقالوا إنهم آمنوا بالله الذي عرفوه من قبل هارون وموسى فدل ذلك على أن معرفة الله لا تستفاد إلا من الإمام وهذا القول ضعيف بل في قولهم امَنَّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَى فائدتان سوى ما ذكروه
الفائدة الأولى وهي أن فرعون ادعى الربوبية في قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 ) والإلهية في قوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى ( القصص 38 ) فلو أنهم قالوا آمنا برب العالمين لكان فرعون يقول إنهم آمنوا بي لا بغيري فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة والدليل عليه أنهم قدموا ذكر هارون على موسى لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى بناء على أنه رباه في قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً ( الشعراء 18 ) فالقوم لما احترزوا عن إيهامات فرعون لا جرم قدموا ذكر هارون على موسى قطعاً لهذا الخيال(22/75)
الفائدة الثانية وهي أنهم لما شاهدوا أن الله تعالى خصهما بتلك المعجزات العظيمة والدرجات الشريفة لا جرم قالوا رب هارون وموسى لأجل ذلك ثم إن فرعون لما شاهد منهم السجود والإقرار خاف أن يصير ذلك سبباً لاقتداء سائر الناس بهم في الإيمان بالله تعالى وبرسوله ففي الحال ألقى شبهة أخرى في النبي فقال قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ وهذا الكلام مشتمل على شبهتين إحداهما قوله قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ وتقريره أن الاعتماد على الخاطر الأول غير جائز بل لا بد فيه من البحث والمناظرة والاستعانة بالخواطر فلما لم تفعلوا شيئاً من ذلك بل في الحال لَهُ قَبْلَ دل ذلك على أن إيمانكم ليس عن البصيرة بل عن سبب آخر وثانيها قوله إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ يعني أنكم تلامذته في السحر فاصطلحتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه ثم بعد إيراد الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيراً لهم عن الإيمان وتنفيراً لغيرهم عن الاقتداء بهم في ذلك فقال لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ قرىء لأقطعن ولأصلبن بالتخفيف والقطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين خلاف الآخر فإن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال وقوله مّنْ خِلَافٍ في محل النصب على الحال أي لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضاً فقد اتصفت بالاختلاف ثم قال وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ فشبه تمكن المصلوب في الجذع يتمكن الشيء الموعى في وعائه فلذلك قال في جذوع النخل والذي يقال في المشهور أن في بمعنى على فضعيف ثم قال وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى أراد بقوله أَيُّنَا نفسه لعنه الله لأن قوله أَيُّنَا يشعر بأنه أراد نفسه وموسى عليه السلام بدليل قوله لَهُ قَبْلَ وفيه تصالف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس بأنواع العذاب واستضعاف موسى عليه السلام مع الهزء به لأن موسى عليه السلام قط لم يكن من التعذيب في شيء فإن قيل إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية بتلك العظمة التي شرحتموها وذكرتم أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون وآل الأمر إلى أن استغاث بموسى عليه السلام من شر ذلك الثعبان فمع قرب عهده بذلك وعجزه عن دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد ويستهزىء بموسى عليه السلام في قوله أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى قلنا لم لا يجوز أن يقال إنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه كان يظهر تلك الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره ومن استقرى أحوال أهل العالم علم أن العاجز قد يفعل أمثال هذه الأشياء ومما يدل على صحة ذلك أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عذاب الله أشد من عذاب البشر ثم إنه أنكر ذلك وأيضاً فقد كان عالماً بكذبه في قوله إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ لأنه علم أن موسى عليه السلام ما خالطهم ألبتة وما لقيهم وكان يعرف من سحرته أن أستاذ كل واحد من هو وكيف حصل ذلك العلم ثم إنه مع ذلك كان يقول هذه الأشياء فثبت أن سبيله في كل ذلك ما ذكرناه وقال ابن عباس رضي الله عنهما ( كانوا في أول النهار سحرة وفي آخره شهداء )
قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَاذِهِ الْحَيَواة َ الدُّنْيَآ إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَائِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى(22/76)
اعلم أنه تعالى لما حكى تهديد فرعون لأولئك حكى جوابهم عن ذلك بما يدل على حصول اليقين التام والبصيرة الكاملة لهم في أصول الدين فقالوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وذلك يدل على أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان وإلا فعل بهم ما أوعدهم فقالوا لَن نُّؤْثِرَكَ جواباً لما قاله وبينوا العلة وهي أن الذي جاءهم بينات وأدلة والذي يذكره فرعون محض الدنيا ومنافع الدنيا ومضارها لا تعارض منافع الآخرة ومضارها أما قوله وَالَّذِى فَطَرَنَا ففيه وجهان الأول أن التقدير لن نؤثرك يا فرعون على ما جاءنا من البينات وعلى الذي فطرنا أي وعلى طاعة الذي فطرنا وعلى عبادته الوجه الثاني يجوز أن يكون خفضاً على القسم واعلم أنهم لما علموا أنهم متى أصروا على الإيمان فعل فرعون ما أوعدهم به فقالوا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ لا على معنى أنهم أمروه بذلك لكن أظهروا أن ذلك الوعيد لا يزيلهم ألبتة عن إيمانهم وعما عرفوه من الحق علماً وعملاً ثم بينوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك فقالوا قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا وقرىء ( نقضي هذه الحياة الدنيا ) ووجهها أن الحياة في القراءة المشهورة منتصبة على الظرف فاتسع في الظرف باجرائه مجرى المفعول به كقولك في صمت يوم الجمعة صيم والمعنى أن قضاءك وحكمك إنما يكون في هذه الحياة الدنيا وهي كيف كانت فانية وإنما مطلبنا سعادة الآخرة وهي باقية والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني المتوصل به إلى السعادة الباقية ثم قالوا إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ولما كان أقرب خطاياهم عهداً ما أظهروه من السحر قالوا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وذكروا في ذلك الإكراه وجوهاً أحدها أن الملوك في ذلك الزمان كانوا يأخذون البعض من رعيتهم ويكلفونهم تعلم السحر فإذا شاخ بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقت من يحسنه فقالوا هذا القول لأجل ذلك أي كنا في التعلم أولاً والتعليم ثانياً مكرهين قاله ابن عباس وثانيها أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين إثنان من القبط والباقي من بني إسرائيل فقالوا لفرعون أرنا موسى نائماً فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا ما هذا بساحر الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه وثالثها قال الحسن إن السحرة حشروا من المدائن ليعارضوا موسى عليه السلام فأحضروا بالحشر وكانوا مكرهين في الحضور وربما كانوا مكرهين أيضاً في إظهار السحر ورابعها قال عمرو بن عبيد دعوة السلطان إكراه وهذا ضعيف لأن دعوة السلطان إذا لم يكن(22/77)
معها خوف لم تكن إكراهاً ثم قالوا وَاللَّهُ خَيْرُ ثواباً لمن أطاعه وَأَبْقَى عقاباً لمن عصاه وهذا جواب لقوله وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ( طه 71 ) قال الحسن سبحان الله القوم كفار وهم أشد الكافرين كفراً ثبت في قلوبهم الإيمان في طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ في ذات الله تعالى والله إن أحدكم اليوم ليصحب القرآن ستين عاماً ثم إنه يبيع دينه بثمن حقير ثم ختموا هذا الكلام بشرح أحوال المؤمنين وأحوال المجرمين في عرصة القيامة فقالوا في المجرمين إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى وفيه مسائل
المسألة الأولى الهاء في قوله أَنَّهُ ضمير الشأن يعني أن الأمر والشأن كذا وكذا
المسألة الثانية استدلت المعتزلة بهذه الآية في القطع على وعيد أصحاب الكبائر قالوا صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم لقوله إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً وكلمة من في معرض الشرط تفيد العموم بدليل أنه يجوز استثناء كل واحد منها والإستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل واعترض بعض المتكلمين من أصحابنا على هذا الكلام فقال لا نسلم أن صاحب الكبيرة مجرم والدليل عليه أنه تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فإنه قال في هذه الآية وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ وقال إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ ( المطففين 29 ) وأيضاً فإنه قال فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى والمؤمن صاحب الكبيرة وإن عذب بالنار لا يكون بهذا الوصف وفي الخبر الصحيح ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) واعلم أن هذه الاعتراضات ضعيفة أما قوله إن الله تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فهذا مسلم لكن هذا إنما ينفع لو ثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن ومذهب المعتزلة أنه ليس بمؤمن فهذا المعترض كأنه بنى هذا الاعتراض على مذهب نفسه وذلك ساقط قوله ثانياً إنه لا يليق بصاحب الكبيرة أن يقال في حقه إن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى قلنا لا نسلم فإن عذاب جهنم في غاية الشدة قال تعالى رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ( آل عمران 192 ) وأما الحديث فيقال ( القرآن متواتر فلا يعارضه خبر الواحد ) ويمكن أن يقال ثبت في أصول الفقه أنه يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد وللخصم أن يجيب فيقول ذلك يفيد الظن فيجوز الرجوع إليه في العمليات وهذه المسألة ليست من العمليات بل من الاعتقادات فلا يجوز المصير إليها ههنا فإن اعترض إنسان آخر وقال أجمعنا على أن هذه الآية مشروطة بنفي التوبة وبأن لا يكون عقابه محبطاً بثواب طاعته والقدر المشترك بين الصورتين هو أن لا يوجد ما يحبط ذلك العقاب ولكن عندنا العفو محبط للعقاب وعندنا أن المجرم الذي لا يوجد في حقه العفو لا بد وأن يدخل جهنم واعلم أن هذا الاعتراض أيضاً ضعيف أما شرط نفي التوبة فلا حاجة إليه لأنه قال مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً أي حال كونه مجرماً والتائب لا يصدق عليه أنه أتى ربه حال كونه مجرماً وأما صاحب الصغيرة فلأنه لا يسمى مجرماً لأن المجرم اسم للذم فلا يجوز إطلاقه على صاحب الصغيرة بل الاعتراض الصحيح أن نقول عموم هذا الوعيد معارض بما جاء بعده من عموم الوعد وهو قوله تعالى وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى وكلامنا فيمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة ثم أتى بعد ذلك ببعض الكبائر فإن قيل عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة قلنا لم لا يجوز أن يقال ثواب الإيمان يدفع عقاب المعصية فإن قالوا لو كان كذلك لوجب أن لا يجوز لعنه وإقامة الحد عليه قلنا أما(22/78)
اللعن الغير جائز عندنا وأما إقامة الحد عليه فقد تكون على سبيل المحنة كما في حق التائب وقد تكون على سبيل التنكيل قالت المعتزلة قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ ( المائدة 38 ) فالله تعالى نص على أنه يجب عليه إقامة الحد على سبيل التنكيل وكل من كان كذلك استحال أن يكون مستحقاً للمدح والتعظيم وإذا لم يبق ذلك لم يبق الثواب كما قلنا فدلنا ذلك على أن عقاب الكبيرة أولى بإزالة ثواب الطاعة المتقدمة من الطاعات بدفع عقاب الكبيرة الطارئة هذا منتهى كلامهم في مسألة الوعيد قلنا حاصل الكلام يرجع إلى أن النص الدال على إقامة الحد عليه على سبيل التنكيل صار معارضاً للنصوص الدالة على كونه مستحقاً للثواب فلم كان ترجيح أحدهما على الآخر أولى من العكس وذلك لأن المؤمن كان ينقسم إلى السارق وغير السارق فالسارق ينقسم إلى المؤمن وإلى غير المؤمن فلم يكن لأحدهما مزية على الآخر في العموم والخصوص فإذا تعارضا تساقطا ثم نقول لا نسلم أن كلمة من في إفادة العموم قطعية بل ظنية ومسألتنا قطعية فلا يجوز التعويل على ما ذكرته وتمام الكلام فيه مذكور في كتاب المحصول في الأصول
المسألة الثالثة تمسكت المجسمة بقوله إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فقالوا الجسم إنما يأتي ربه لو كان الرب في المكان وجوابه أن الله تعالى جعل إتيانهم موضع الوعد إتياناً إلى الله مجازاً كقول إبراهيم عليه السلام إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ ( الصافات 99 )
المسألة الرابعة الجسم الحي لا بد وأن يبقى إما حياً أو يصير ميتاً فخلوه عن الوصفين محال فمعناه في الآية أنه يكون في جهنم بأسوء حال لا يموت موتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة ثم ذكر حال المؤمنين فقال وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى واعلم أن قوله قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ يقتضي أن يكون آتياً بكل الصالحات وذلك بالإتفاق غير معتبر ولا ممكن فينبغي أن يحمل ذلك على أداء الواجبات ثم ذكر أن من أتى بالإيمان والأعمال الصالحات كانت له الدرجات العلى ثم فسرها فقال جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وفي الآية تنبيه على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى من الجنة لمن أتى ربه بالإيمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات التي هي غير عالية لا بد وأن تكون لغيرهم ما هم إلا العصاة من أهل الإيمان أما قوله وَذالِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى فقال ابن عباس يريد من قال لا إله إلا الله وأقول لما دلت هذه الآية على أن الدرجات العالية هي جزاء من تزكى أي تطهر عن الذنوب وجب بحكم ذلك الخطاب أن الدرجات التي لا تكون عالية أن لا تكون جزاء من تزكى فهي لغيرهم ممن يكون قد أتى بالمعاصي وعفا الله بفضله ورحمته عنهم واعلم أنه ليس في القرآن أن فرعون فعل بأولئك القوم المؤمنين ما أوعدهم به ولكن ثبت ذلك في الأخبار
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى(22/79)
واعلم أن في قوله وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى دلالة على أن موسى عليه السلام في تلك الحالة كثر مستجيبوه فأراد الله تعالى تمييزهم من طائفة فرعون وخلاصهم فأوحى إليه أن يسري بهم ليلاً والسري اسم لسير الليل والإسراء مثله فإن قيل ما الحكمة في أن يسري بهم ليلاً قلنا لوجوه أحدها أن يكون اجتماعهم لا بمشهد من العدو فلا يمنعهم عن استكمال مرادهم في ذلك وثانيها ليكون عائقاً عن طلب فرعون ومتبعيه وثالثها ليكون إذا تقارب العسكران لا يرى عسكر موسى عسكر فرعون فلا يهابوهم أما قوله فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً ففيه وجهان الأول أي فاجعل لهم من قولهم ضرب له في ماله سهماً وضرب اللبن عمله والثاني بين لهم طريقاً في البحر بالضرب بالعصا وهو أن يضرب البحر بالعصا حتى ينفلق فعدى الضرب إلى الطريق والحاصل أنه أريد بضرب الطريق جعل الطريق بالضرب يبساً ثم بين تعالى أن جميع أسباب الأمن كان حاصلاً في ذلك الطريق أحدها أنه كان يبساً قرىء يابساً ويبساً بفتح الياء وتسكين الباء فمن قال يابساً جعله بمعنى الطريق ومن قال يبساً بتحريك الباء فاليبس واليابس شيء واحد والمعنى طريقاً أيبس ومن قال يبساً بتسكين الباء فهو مخفف عن اليبس والمراد أنه ما كان فيه وحل ولا نداوة فضلاً عن الماء وثانيها قوله لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى أي لا تخاف أن يدركك فرعون فإني أحول بينك وبينه بالتأخير قال سيبويه قوله تَخَافُ رفعه على وجهين أحدهما على الحال كقولك غير خائف ولا خاش والثاني على الإبتداء أي أنت لا تخاف وهذا قول الفراء قال الأخفش والزجاج المعنى لا تخاف فيه كقوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ ( البقرة 48 ) أي لا تجزي فيه نفس وقرأ حمزة لا تخف وفيه وجهان أحدهما أنه نهي والثاني قال أبو علي جعله جواب الشرط على معنى إن تضرب لا تخف وعلى هذه القراءة ذكروا في قوله وَلاَ تَخْشَى ثلاثة أوجه أحدهما أن يستأنف كأنه قيل وأنت لا تخشى أي ومن شأنك أنك آمن لا تخشى وثانيها أن لا تكون الألف هي الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام الفعل ولكن زائدة للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله تعالى فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ( الأحزاب 48 ) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ( الأحزاب 10 ) وثالثها أن يكون مثل قوله وتضحك مني شيخة عبشمية < / 1 }
كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً
وثالثها قوله وَلاَ تَخْشَى والمعنى أنك لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء أما قوله فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ قال أبو مسلم زعم رواة اللغة أن أتبعهم وتبعهم واحد وذلك جائز ويحتمل أن تكون الباء زائدة والمعنى أتبعهم فرعون جنوده كقوله تعالى لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى ( طه 94 ) أسرى بعبده وقال الزجاج قرىء ( فأتبعهم فرعون(22/80)
وجنوده ) أي ومعه جنوده وقرىء بِجُنُودِهِ ومعناه ألحق جنوده بهم ويجوز أن يكون بمعنى معهم أما قوله فَغَشِيَهُمْ فالمعنى علاهم وسترهم وما غشيهم تعظيم للأمر أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى وقرىء ( فغشاهم من اليم ما غشيهم ) وفاعل غشاهم إما الله سبحانه وتعالى أو ما غشيهم أو فرعون لأنه الذي ورط جنوده وتسبب في هلاكهم أما قوله وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى فاحتج القاضي به وقال لو كان الضلال من خلق الله تعالى لما جاز أن يقال وأضل فرعون قومه بل وجب أن يقال الله تعالى أضلهم ولأن الله تعالى ذمه بذلك فكيف يجوز أن يكون خالقاً للكفر لأن من ذم غيره بشيء لا بد وأن يكون هو غير فاعل لذلك الفعل وإلا لاستحق ذلك الذم وقوله وَمَا هَدَى تهكم به في قوله وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ( غافر 29 ) ولنذكر القصة وما فيها من المباحث قال ابن عباس رضي الله عنهما لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر وكان موسى عليه السلام وبنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلى والدواب لعيد يخرجون إليه فخرج بهم ليلاً وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين وقد كان يوسف عليه السلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر فلم يخرجوا بها فتحير القوم حتى دلتهم عجوز على موضع العظام فأخذوها فقال موسى عليه السلام للعجوز احتكمي فقالت أكون معك في الجنة وذكر ابن عباس أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر هجموا على رجل من العرب وامرأة ليس لهم إلا عنز فذبحوها لهما فقال عليه السلام إذا سمعت برجل قد ظهر بيثرب فاته فلعل الله يرزقك منه خيراً فلما سمع بظهور الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أتاه مع امرأته فقال أتعرفني قال نعم عرفتك فقال له احتكم فقال ثمانون ضانية فأعطاه إياها وقال له ( أما إن عجوز بني إسرائيل خير منك ) وخرج فرعون في طلب موسى عليه السلام وعلى مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب فلما انتهى موسى إلى البحر قال ههنا أمرت ثم قال موسى عليه السلام للبحر انفرق فأبى فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فقال لهم موسى عليه السلام ادخلوا فيه فقالوا كيف وأرضه رطبة فدعا الله فهبت عليه الصبا فجفت فقالوا نخاف الغرق في بعضنا فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضاً ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر فأقبل فرعون إلى تلك الطرق فقال قومه له إن موسى قد سحر البحر فصار كما ترى وكان على فرس حصان وأقبل جبريل عليه السلام على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة فصار جبريل عليه السلام بين يدي فرعون وأبصر الحصان الفرس الحجر فاقتحم بفرعون على أثرها وصاحت الملائكة في الناس الحقوا الملك حتى إذا دخل آخرهم وكاد أولهم أن يخرج التقى البحر عليهم فغرقوا فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم فقالوا ما هذا يا موسى قال قد أغرق الله فرعون وقومه فرجعوا لينظروا إليهم فقالوا يا موسى ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم فدعا فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سلاحهم وذكر ابن عباس أن جبريل عليه السلام قال يا محمد لو رأيتني وأنا أدس فرعون في الماء والطين مخافة أن يتوب فهذا معنى قوله فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ وفي القصة أبحاث
البحث الأول روي في الأخبار أن موسى عليه السلام لما ضرب بعصاه البحر حصل اثنا عشر طريقاً يابساً يتهيأ طروقه وبقي الماء قائماً بين الطريق والطريق كالطود العظيم وهو الجبل فأخذ كل سبط من بني إسرائيل في طريق من هذه الطرق ومنهم من قال بل حصل طريق واحد وحجة القول الأول الأخبار ومن القرآن قوله تعالى فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ( الشعراء 63 ) وذلك لا يحصل إلا إذا حصل هناك طرق(22/81)
حتى يكون الماء القائم بين الطريقين كالطود العظيم وحجة القول الثاني ظاهر قوله فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً وذلك يتناول الطريق الواحد وإن أمكن حمله على الطرق نظراً إلى الجنس
البحث الثاني روي أن بني إسرائيل بعد أن أظهر موسى عليه السلام لهم الطريق وبينها لهم تعنتوا وقالوا نريد أن يرى بعضنا بعضاً وهذا كالبعيد وذلك أن القوم لما أبصروا مجيء فرعون صاروا في نهاية الخوف والخائف إذا وجد طريق الفرار والخلاص كيف يتفرغ للتعنت البارد
البحث الثالث أن فرعون كان عاقلاً بل كان في نهاية الدهاء فكيف اختار إلقاء نفسه إلى التهلكة فإنه كان يعلم من نفسه أن انفلاق البحر ليس بأمره فعند هذا ذكروا وجهين أحدهما أن جبريل عليه السلام كان على الرمكة فتبعه فرس فرعون ولقائل أن يقول هذا بعيد لأنه يبعد أن يكون خوض الملك في أمثال هذه المواضع مقدماً على خوض جميع العسكر وما ذكروه إنما يتم إذا كان الأمر كذلك وأيضاً فلو كان الأمر على ما قالوه لكان فرعون في ذلك الدخول كالمجبور وذلك مما يزيده خوفاً ويحمله على الإمساك في أن لا يدخل وأيضاً فأي حاجة لجبريل عليه السلام إلى هذه الحيلة وقد كان يمكنه أن يأخذه مع قومه ويرميه في الماء ابتداء بل الأولى أن يقال إنه أمر مقدمة عسكره بالدخول فدخلوا وما غرقوا فغلب على ظنه السلامة فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى
البحث الرابع أن الذي نقل عن جبريل عليه السلام أنه كان يدسه في الماء والطين خوفاً من أن يؤمن فبعيد لأن المنع من الإيمان لا يليق بالملائكة والأنبياء عليهم السلام
البحث الخامس الذي روي أن موسى عليه السلام كلم البحر قال له انفلق لي لأعبر عليك فقال البحر لا يمر علي رجل عاص فهو غير ممتنع على أصولنا لأن عندنا البنية ليست شرطاً للحياة وعند المعتزلة أن ذلك على لسان الحال لا على لسان المقال والله أعلم
يابَنِى إِسْرَاءِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاٌّ يْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى
اعلم أنه تعالى لما أنعم على قوم موسى عليه السلام بأنواع النعم ذكرهم إياها ولا شك أن إزالة المضرة يجب أن تكون متقدمة على إيصال المنفعة ولا شك أن إيصال المنفعة الدينية أعظم في كونه نعمة من إيصال المنفعة الدنيوية فلهذا بدأ الله تعالى بقوله أَنجَيْنَاكُمْ مّنْ عَدُوّكُمْ وهو إشارة إلى إزالة الضرر فإن فرعون كان ينزل بهم من أنواع الظلم كثيراً من القتل والإذلال والإخراج والإتعاب في الأعمال ثم ثنى بذكر(22/82)
المنفعة الدينية وهي قوله وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاْيْمَنَ ووجه المنفعة فيه أنه أنزل في ذلك الوقت عليهم كتاباً فيه بيان دينهم وشرح شريعتهم ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية وهي قوله وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ثم زجرهم عن العصيان بقوله وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى ثم بين أن من عصى ثم تاب كان مقبولاً عند الله بقوله وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وهذا بيان المقصود من الآية ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي قد أنجيتكم ووعدتكم إلى قوله مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ كلها بالتاء إلا قوله وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى فإنها بالنون وقرأ الباقون كلها بالنون وقرأ نافع وعاصم وواعدناكم وقرأ حمزة والكسائي وواعدتكم
المسألة الثانية قال الكلبي لما جاوز موسى عليه السلام ببني إسرائيل البحر قالوا له أليس وعدتنا أن تأتينا من ربنا بكتاب فيه الفرائض والأحكام قال بلى ثم تعجل موسى إلى ربه ليأتيهم بالكتاب ووعدهم أن يأتيهم إلى أربعين ليلة من يوم انطلق وإنما قال وَوَاعَدْنَاكُمْ لأنه إنما واعد موسى أن يؤتيه التوراة لأجلهم وقال مقاتل إنما قال واعدناكم لأن الخطاب له وللسبعين المختارة والله أعلم
المسألة الثالثة قال المفسرون ليس للجبل يمين ولا يسار بل المراد أن طور سيناء عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام وقرىء الأيمن بالجر على الجوار نحو حجر ضب خرب وانتفاع القوم بذلك إما لأن الله تعالى أنزل التوراة عليهم وفيها شرح دينهم وإما لأن الله تعالى لما كلم موسى على الطور حصل للقوم بسبب ذلك شرف عظيم
المسألة الرابعة قوله كُلُواْ ليس أمر إيجاب بل أمر إباحة كقوله وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ( المائدة 2 )
المسألة الخامسة في الطيبات قولان أحدهما اللذائذ لأن المن والسلوى من لذائذ الأطعمة والثاني وهو قول الكلبي ومقاتل الحلال لأنه شيء أنزله الله تعالى إليهم ولم تمسه يد الآدميين ويجوز الجمع بين الوجهين لأن بين المعنيين معنى مشتركاً وتمام القول في هذه القصة تقدم في سورة البقرة
المسألة السادسة في قوله تعالى وَلاَ تَطْغَوْاْ فيه وجوه أحدها قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تطغوا أي لا يظلم بعضكم بعضاً فيأخذه من صاحبه وثانيها قال مقاتل والضحاك لا تظلموا فيه أنفسكم بأن تتجاوزوا حد الإباحة وثالثها قال الكلبي لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي ولا تعرضوا على الشكر ولا تعدلوا عن الحلال إلى الحرام
المسألة السابعة قرأ الأعمش والكسائي فيحل ومن يحلل كلاهما بالضم وروى الأعمش عن أصحاب عبد الله فيحل بالكسر ومن يحلل بالرفع وقراءة العامة بالكسر في الكلمتين أما من كسر فمعناه الوجوب من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه ومنه قوله تعالى حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْى ُ مَحِلَّهُ ( البقرة 196 ) والمضموم في معنى النزول وقوله فَقَدْ هَوَى أي شقي وقيل فقد وقع في الهاوية يقال هوى يهوي هوياً إذا سقط من علو إلى أسفل(22/83)
المسألة الثامنة اعلم أن الله تعالى وصف نفسه بكونه غافراً وغفوراً وغفاراً وبأن له غفراناً ومغفرة وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر أما إنه وصف نفسه بكونه غافراً فقوله غَافِرِ الذَّنبِ ( غافر 3 ) وأما كونه غفوراً فقوله وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ِ ( الكهف 58 ) وأما كونه غفاراً فقوله وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وأما الغفران فقوله غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ( البقرة 285 ) وأما المغفرة فقوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ ( الرعد 6 ) وأما صيغة الماضي فقوله في حق داود عليه السلام فَغَفَرْنَا لَهُ ذالِكَ ( ص 25 ) وأما صيغة المستقبل فقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وقوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) وقوله في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ( الفتح 2 ) وأما لفظ الاستغفار فقوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) وفي حق نوح عليه السلام فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ( نوح 10 ) وفي الملائكة وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ ( الشورى 5 ) واعلم أن الأنبياء عليهم السلام كلهم طلبوا المغفرة أما آدم عليه السلام فقال وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) وأما نوح عليه السلام فقال وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى ( هود 47 ) وأما إبراهيم عليه السلام فقال وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) وطلبها لأبيه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وأما يوسف عليه السلام فقال في إخوته لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ( يوسف 92 ) وأما موسى عليه السلام ففي قصة القبطي رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى ( الأعراف 151 ) وأما داود عليه السلام فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ( ص 24 ) أما سليمان عليه السلام رَبّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً ( ص 35 ) وأما عيسى عليه السلام وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( المائدة 118 ) وأما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقول وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) وأما الأمة فقوله وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا ( الحشر 10 ) واعلم أن بسط الكلام ههنا أن نبين أولاً حقيقة المغفرة ثم نتكلم في كونه تعالى غافراً وغفوراً وغفاراً ثم نتكلم في أن مغفرته عامة ثم نبين أن مغفرته في حق الأنبياء عليهم السلام كيف تعقل مع أنه لا ذنب لهم ويتفرع على هذه الجملة استدلال أصحابنا في إثبات العفو وتقريره أن الذنب إما أن يكون صغيراً أو كبيراً بعد التوبة أو قبل التوبة والقسمان الأولان يقبح من الله عذابهما ويجب عليه التجاوز عنهما وترك القبيح لا يسمى غفراناً فتعين أن لا يتحقق الغفران إلا في القسم الثالث وهو المطلوب فإن قيل هذا يناقض صريح الآية لأنه أثبت الغفران في حق من استجمع أموراً أربعة التوبة والإيمان والعمل الصالح والاهتداء قلنا إن من تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ثم أذنب بعد ذلك كان تائباً ومؤمناً وآتياً بالعمل الصالح ومهتدياً ومع ذلك يكون مذنباً فحينئذ يستقيم كلامنا وههنا نكتة وهي أن العبد له أسماء ثلاثة الظالم والظلوم والظلام فالظالم فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 ) والظلوم إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ( الأحزاب 72 ) والظلام إذا كثر ذلك منه ولله في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسم فكأنه تعالى يقول إن كنت ظالماً فأنا غافر وإن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت ظلاماً فأنا غفار وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ ( طه 82 )
المسألة التاسعة كثير اختلاف المفسرين في قوله تعالى ثُمَّ اهْتَدَى وسبب ذلك أن من تاب وآمن وعمل صالحاً فلا بد وأن يكون مهتدياً فما معنى قوله ثم اهتدى بعد ذكر هذه الأشياء والوجوه الملخصة فيه ثلاثة أحدها المراد منه الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة حتى يستمر عليه في المستقبل ويموت عليه ويؤكده قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ(22/84)
( فصلت 30 ) وكلمة ثم للتراخي في هذه الآية وليست لتباين المرتبتين بل لتباين الوقتين فكأنه تعالى قال الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح مما قد يتفق لكل أحد ولا صعوبة في ذلك إنما الصعوبة في المداومة على ذلك والاستمرار عليه وثانيها المراد من قوله ثُمَّ اهْتَدَى أي علم أن ذلك بهداية الله وتوفيقه وبقي مستعيناً بالله في إدامة ذلك من غير تقصير عن ابن عباس وثالثها المراد من الإيمان الاعتقاد المبني على الدليل والعمل الصالح إشارة إلى أعمال الجوارح بقي بعد ذلك ما يتعلق بتطهير القلب من الأخلاق الذميمة وهو المسمى بالطريقة في لسان الصوفية ثم انكشاف حقائق الأشياء له وهو المسمى بالحقيقة في لسان الصوفية فهاتان المرتبتان هما المرادتان بقوله ثُمَّ اهْتَدَى
المسألة العاشرة منهم من قال تجب التوبة عن الكفر أولاً ثم الإتيان بالإيمان ثانياً واحتج عليه بهذه الآية فإنه تعالى قدم التوبة على الإيمان واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن العمل الصالح غير داخل في الإيمان لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه
وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى قَالَ هُمْ أُوْلا ءِ عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى
اعلم أن في قوله وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى مُوسَى دلالة على أنه قد تقدم قومه في المسير إلى المكان ويجب أن يكون المراد ما نبه عليه في قوله تعالى وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاْيْمَنَ ( طه 80 ) في هذه السورة وفي سائر السور كقوله وَواعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة ً ( الأعراف 142 ) يريد الميقات عند الطور وعلى الآية سؤالات
السؤال الأول قوله وَمَا أَعْجَلَكَ استفهام وهو على الله محال الجواب أنه إنكار في صيغة الاستفهام ولا امتناع فيه
السؤال الثاني أن موسى عليه السلام لا يخلو إما أن يقال إنه كان ممنوعاً عن ذلك التقدم أو لم يكن ممنوعاً عنه فإن كان ممنوعاً كان ذلك التقدم معصية فيلزم وقوع المعصية من الأنبياء وإن قلنا إنه ما كان ممنوعاً كان ذلك الإنكار غير جائز من الله تعالى والجواب لعله عليه السلام ما وجد نصاً في ذلك إلا أنه باجتهاده تقدم فأخطأ في ذلك الاجتهاد فاستوجب العتاب
السؤال الثالث قال وَعَجِلْتُ والعجلة مذمومة والجواب إنها ممدوحة في الدين قال تعالى وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّة ٍ ( آل عمران 133 )
السؤال الرابع قوله لِتَرْضَى يدل على أنه عليه السلام إنما فعل ذلك لتحصيل الرضا لله تعالى وذلك باطل من وجهين أحدهما أنه يلزم تجدد صفة الله تعالى والآخر أنه تعالى قبل حصول ذلك الرضا وجب أن يقال إنه تعالى ما كان راضياً عن موسى لأن تحصيل الحاصل محال ولما لم يكن راضياً عنه وجب(22/85)
أن يكون ساخطاً عليه وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام الجواب المراد تحصيل دوام الرضا كما أن قوله ثُمَّ اهْتَدَى المراد دوام الاهتداء
السؤال الخامس قوله وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ يدل على أنه ذهب إلى الميعاد قبل الوقت الذي عينه الله تعالى له وإلا لم يكن ذلك تعجيلاً ثم ظن أن مخالفة أمر الله تعالى سبب لتحصيل رضاه وذلك لا يليق بأجهل الناس فضلاً عن كليم الله تعالى والجواب ما ذكرنا أن ذلك كان بالاجتهاد وأخطأ فيه
السؤال السادس قوله إِلَيْكَ يقتضي كون الله في الجهة لأن إلى لانتهاء الغاية الجواب توافقنا على أن الله تعالى لم يكن في الجبل فالمراد إلى مكان وعدك
السؤال السابع مَا أَعْجَلَكَ سؤال عن سبب العجلة فكان جوابه اللائق به أن يقول طلبت زيادة رضاك والشوق إلى كلامك وأما قوله هُمْ أُوْلاء عَلَى أَثَرِى فغير منطبق عليه كما ترى والجواب من وجهين الأول أن سؤال الله تعالى يتضمن شيئين أحدهما إنكار نفس العجلة والثاني السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين عند موسى عليه السلام بالجواب هذا الثاني فقال لم يوجد مني إلا تقدم يسير لا يحتفل به في العادة وليس بيني وبين من سبقته إلا تقدم يسير يتقدم بمثله الوفد عن قومهم ثم عقبه بجواب السؤال عن العجلة فقال وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى الثاني أنه عليه السلام لما ورد عليه من هيبة عتاب الله تعالى ما ورد ذهل عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام واعلم أن في قوله وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى مُوسَى دلالة على أنه تعالى أمره بحضور الميقات مع قوم مخصوصين واختلفوا في المراد بالقوم فقال بعضهم هم النقباء السبعون الذين قد اختارهم الله تعالى ليخرجوا معه إلى الطور فتقدمهم موسى عليه السلام شوقاً إلى ربه وقال آخرون القوم جملة بني إسرائيل وهم الذين خلفهم موسى مع هارون وأمره أن يقيم فيهم خليفة له إلى أن يرجع هو مع السبعين فقال هُمْ أُوْلاء عَلَى أَثَرِى يعني بالقرب مني ينتظرونني وعن أبي عمرو ويعقوب إثري بالكسر وعن عيسى بن عمر أثري بالضم وعنه أيضاً أولى بالقصر والأثر أفصح من الأثر وأما الأثر فمسموع في فرند السيف وهو بمعنى الأثر غريب
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ ياقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَاكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَة ِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِى ُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَاذَآ إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى فَنَسِى َ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً(22/86)
اعلم أنه تعالى لما قال لموسى وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ( طه 83 ) وقال موسى في جوابه وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى ( طه 84 ) عرفه الله تعالى ما حدث من القوم بعد أن فارقهم مما كان يبعد أن يحدث لو كان معهم فقال فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ وههنا مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى خلق فيهم الكفر لوجهين الوجه الأول الدلائل العقلية الدالة على أنه لا يجوز من الله أن يفعل ذلك الثاني أنه قال وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ ولو كان الله خلق الضلال فيهم لم يكن لفعل السامري فيه أثر وكان يبطل قوله وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ وأيضاً فلأن موسى عليه السلام لما طالبهم بذكر سبب تلك الفتنة قال أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ فلو حصل ذلك بخلق الله تعالى لكان لهم أن يقولوا السبب فيه أن الله خلقه فينا لا ما ذكرت فكان يبطل تقسيم موسى عليه السلام وأيضاً فقال أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ ولو كان ذلك بخلقه لاستحال أن يغضب عليهم فيما هو الخالق له ولما بطل ذلك وجب أن يكون لقوله فَتَنَّا معنى آخر وذلك لأن الفتنة قد تكون بمعنى الامتحان يقال فتنت الذهب بالنار إذا امتحنته بالنار لكي يتميز الجيد من الرديء فههنا شدد الله التكليف عليهم وذلك لأن السامري لما أخرج لهم ذلك العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة العالم والأجسام على أن لها إلهاً ليس بجسم وحينئذ يعرفون أن العجل لا يصلح للإلهية فكان هذا التعبد تشديداً في التكليف فكان فتنة والتشديد في التكليف موجود قال تعالى أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ( العنكبوت 2 ) هذا تمام كلام المعتزلة قال الأصحاب ليس في ظهور صوت عن عجل متخذ من الذهب شبهة أعظم مما في الشمس والقمر والدليل الذي ينفي كون الشمس والقمر إلهاً أولى بأن ينفي كون ذلك العجل إلهاً فحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديداً في التكليف فلا يصح حمل الآية عليه فوجب حمله على خلق الضلال فيهم قولهم أضاف الإضلال إلى السامري قلنا أليس أن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن كان الموجد لها هو الله تعالى فكذا ههنا وأيضاً قرىء وأضلهم السامري أي وأشدهم ضلالاً السامري وعلى هذا لا يبقى للمعتزلة الاستدلال ثم الذي يحسم مادة الشغب التمسك بفصل الداعي على ما سبق تقريره في هذا الكتاب مراراً كثيرة
المسألة الثانية المراد بالقوم ههنا هم الذين خلفهم مع هارون عليه السلام على ساحل البحر وكانوا ستمائة ألف افتتنوا بالعجل غير أثني عشر ألفاً
المسألة الثالثة قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية سعيد بن جبير كان السامري علجاً من أهل كرمان وقع إلى مصر وكان من قوم يعبدون البقر والذي عليه الأكثرون أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة قال الزجاج وقال عطاء عن ابن عباس بل كان رجلاً من القبط جاراً لموسى عليه السلام وقد آمن به(22/87)
المسألة الرابعة روى في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل بعد ذلك والتوفيق بين هذا وبين قوله لموسى عند مقدمه فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ من وجهين الأول أنه تعالى أخبر عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته الثاني أن السامري شرع في تدبير الأمر لما غاب موسى عليه السلام وعزم على إضلالهم حال مفارقة موسى عليه السلام وكأنه قدر الفتنة موجودة
المسألة الخامسة إنما رجع موسى عليه السلام بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة
المسألة السادسة ذكروا في الأسف وجوهاً أحدها أنه شدة الغضب وعلى هذا التقدير لا يلزم التكرار لأن قوله غضبان يفيد أصل الغضب وقوله أسفاً يفيد كماله وثانيها قال الأكثرون حزناً وجزعاً يقال أسف يأسف أسفاً إذا حزن فهو آسف وثالثها قال قوم الآسف المغتاظ وفرقوا بين الاغتياط والغضب بأن الله تعالى لا يوصف بالغيظ ويوصف بالغضب من حيث كان الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه والغيظ تغير يلحق المغتاظ وذلك لا يصح إلا على الأجسام كالضحك والبكاء ثم إن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه عاتبهم بعد رجوعه إليهم قالت المعتزلة وهذا يدل على أنه ليس المراد من قوله فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ أنه تعالى خلق الكفر فيهم وإلا لما عاتبهم بل يجب أن يعاتب الله تعالى قال الأصحاب وقد فعل ذلك بقوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ( الأعراف 155 ) ومجموع تلك المعاتبات أمور أحدها قوله قَالَ ياقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً وفيه سؤالان
السؤال الأول قوله أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ هذا الكلام إنما يتوجه عليهم لو كانوا معترفين بإله آخر سوى العجل أما لما اعتقدوا أنه لا إله سواه على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا هذا إلهكم وإله موسى كيف يتوجه عليهم هذا الكلام الجواب أنهم كانوا معترفين بالإله لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام
السؤال الثاني ما المراد بذلك الوعد الحسن الجواب ذكروا وجوهاً أحدها أن المراد ما وعدهم من إنزال التوراة عليهم ليقفوا على الشرائع والأحكام ويحصل لهم بسبب ذلك مزية فيما بين الناس وهو الذي ذكره الله تعالى فيما تقدم من قوله وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاْيْمَنَ ( طه 80 ) وثانيها أن الوعد الحسن هو الوعد الصدق بالثواب على الطاعات وثالثها الوعد هو العهد وهو قول مجاهد وذلك العهد هو قوله تعالى وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى ( طه 81 ) إلى قوله ثُمَّ اهْتَدَى ( طه 82 ) والدليل عليه قوله بعد ذلك أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ فكأنه قال أفنسيتم ذلك الذي قال الله لكم ولا تطغوا فيه ورابعها الوعد الحسن ههنا يحتمل أن يكون وعداً حسناً في منافع الدين وأن يكون في منافع الدنيا أما منافع الدين فهو الوعد بإنزال الكتاب الشريف الهادي إلى الشرائع والأحكام والوعد بحصول الثواب العظيم في الآخرة وأما منافع الدنيا فهو أنه تعالى قبل إهلاك فرعون كان قد وعدهم أرضهم وديارهم وقد فعل ذلك ثم قال أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ فالمراد أفنسيتم ذلك العهد أم تعمدتم المعصية واعلم أن طول العهد يحتمل أموراً أحدها أفطال عليكم العهد بنعم الله تعالى من إنجائه إياكم من فرعون وغير ذلك من النعم المعدودة(22/88)
المذكورة في أوائل سورة البقرة وهذا كقوله فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ( الحديد 16 ) وثانيها يروى أنهم عرفوا أن الأجل أربعون ليلة فجعلوا كل يوم بأزاء ليلة وردوه إلى عشرين قال القاضي هذا ركيك لأن ذلك لا يكاد يشتبه على أحد وثالثها أن موسى عليه السلام وعدهم ثلاثين ليلة فلما زاد الله تعالى فيها عشرة أخرى كان ذلك طول العهد وأما قوله أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ فهذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحداً لا يريد ذلك ولكن المعصية لما كانت توجب ذلك ومريد السبب مريد للمسبب بالعرض صح هذا الكلام واحتج العلماء بذلك على أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام أما قوله فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى فهذا يدل على موعد كان منه عليه السلام مع القوم وفيه وجهان أحدهما أن المراد ما وعدوه من اللحاق به والمجيء على أثره والثاني ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور فعند هذا قالوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وفي أن قائل هذا الجواب من هو وجهان الأول أنهم الذين لم يعبدوا العجل فكأنهم قالوا إنا ما أخلفنا موعدك بملكنا أي بأمر كنا نملكه وقد يضيف الرجل فعل قريبه إلى نفسه كقوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( البقرة 72 ) وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم فكأنهم قالوا الشبهة قويت على عبدة العجل فلم نقدر على منعهم عنه ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سبباً لوقوع التفرقة وزيادة الفتنة الوجه الثاني أن هذا قول عبدة العجل والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا وفاعل السبب فاعل المسبب ومخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة فإنه كان كالمالك لنا فإن قيل كيف يعقل رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة العجل الذي يعرف فسادها بالضرورة ثم إن مثل هذا الجمع لما فارقوا الدين وأظهروا الكفر فكيف يعقل رجوعهم دفعة واحدة عن ذلك الدين بسبب رجوع موسى عليه السلام وحده إليهم قلنا هذا غير ممتنع في حق البله من الناس واعلم أن في بملكنا ثلاث قراءات قرأ حمزة والكسائي بضم الميم ونافع وعاصم بفتح الميم وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر أما الكسر والفتح فهما واحد وهما لغتان مثل رطل ورطل وأما الضم فهو السلطان ثم إن القوم فسروا ذلك العذر المجمل فقالوا وَلَاكِنَّا حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَة ِ الْقَوْمِ قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر حملنا مخففة من الحمل وقرأ ابن كثير ونافع وحفص وابن عامر حملنا مشددة فمن قرأ بالتخفيف فمعناه حملنا مع أنفسنا ما كنا استعرناه من القوم ومن قرأ بالتشديد ففيه وجوه أحدها أن موسى عليه السلام حملهم على ذلك أي أمرهم باستعارة الحلي والخروج بها فكأنه ألزمهم ذلك وثانيها جعلنا كالضامن لها إلى أن نؤديها إلى حيث يأمرنا الله وثالثها أن الله تعالى حملهم ذلك على معنى أنه ألزمهم فيه حكم المغنم أما الأوزار فهي الأثقال ومن ذلك سمي الذنب وزراً لأنه ثقل ثم فيه احتمالات أحدها أنه لكثرتها كانت أثقالاً وثانيها أن المغانم كانت محرمة عليهم فكان يجب عليهم حفظها من غير فائدة فكانت أثقالاً وثالثها المراد بالأوزار الآثام والمعنى حملنا آثاماً روي في الخبر أن هارون عليه السلام قال إنها نجسة فتطهروا منها وقال السامري إن موسى عليه السلام إنما احتبس عقوبة بالحلي فيجوز أن يكونوا أرادوا هذا القول وقد يقول الإنسان للشيء الذي يلزمه رده هذا كله إثم وذنب ورابعها أن ذلك الحلي كان القبط يتزينون به في مجامع لهم يجري فيها الكفر لا جرم أنها وصفت بكونها(22/89)
أوزاراً كما يقال مثله في آلات المعاصي أما قوله فَقَذَفْنَاهَا فذكروا فيه وجوهاً في أنهم أين قذفوها الوجه الأول قذفوها في حفرة كان هارون عليه السلام أمرهم بجمع الحلي فيها انتظاراً لعود موسى عليه السلام والوجه الثاني قذفوها في موضع أمرهم السامري بذلك الوجه الثالث في موضع جمع فيه النار ثم قالوا فكذلك ألقى السامري أي فعل السامري مثل ما فعلنا أما قوله فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فاختلفوا في أنه هل كان ذلك الجسد حياً أم لا فالقول الأول لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد الضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيها منافذ ومخارق بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل والقول الثاني أنه صار حياً وخار كما يخور العجل واحتجوا عليه بوجوه أحدها قوله فَقَبَضْتُ قَبْضَة ً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ( طه 96 ) ولو لم يصر حياً لما بقي لهذا الكلام فائدة وثانيها أنه تعالى سماه عجلاً والعجل حقيقة في الحيوان وسماه جسداً وهو إنما يتناول الحي وثالثها أثبت له الخوار وأجابوا عن حجة الأولين بأن ظهور خوارق العادة على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الإلتباس وههنا كذلك فوجب أن لا يمتنع وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون عليه السلام مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال ما تصنع فقال أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي فقال اللهم أعطه ما سأل فلما مضى هارون قال السامري اللهم إني أسألك أن يخور فخار وعلى هذا التقدير يكون ذلك معجزاً للنبي أما قوله فَقَالُواْ هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى ففيه إشكال وهو أن القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات والأرض فهم مجانين وليسوا بمكلفين ولأن مثل هذا الجنون على مثل ذلك الجمع العظيم محال وإن لم يعتقدوا ذلك فكيف قالوا هذا إلهكم وإله موسى وجوابه لعلهم كانوا من الحلولية فجوزوا حلول الإله أو حلول صفة من صفاته في ذلك الجسم وإن كان ذلك أيضاً في غاية البعد لأن ظهور الخوار لا يناسب الإلهية ولكن لعل القوم كانوا في نهاية البلادة والجلافة وأما قوله فنسي ففيه وجوه الأول أنه كلام الله تعالى كأنه أخبر عن السامري أنه نسي الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لايحل في شيء ولا يحل فيه شيء ثم إنه سبحانه بين المعنى الذي يجب الاستدلال به وهو قوله أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا لاَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً أي لم يخطر ببالهم أن من لا يتكلم ولا يضر ولا ينفع لا يكون إلهاً ولا يكون للإله تعلق به في الحالية والمحلية الوجه الثاني أن هذا قول السامري وصف به موسى عليه السلام والمعنى أن هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى أن هذا هو الإله فذهب يطلبه في موضع آخر وهو قول الأكثرين الوجه الثالث فنسي وقت الموعد في الرجوع أما قوله يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً فهذا استدلال على عدم إلهيتها بأنها لا تتكلم ولا تنفع ولا تضر وهذا يدل على أن الإله لا بد وأن يكون موصوفاً بهذه الصفات وهو كقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمر لا يعول إلا على دلائل إبراهيم عليه السلام بقي ههنا بحثان
البحث الأول قال الزجاج الاختيار أن لا يرجع بالرفع بمعنى أنه لا يرجع وهذا كقوله وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَة ٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ( المائدة 71 ) بمعنى أنه لا تكون وقرىء بالنصب أيضاً على أن أن هذه هي(22/90)
الناصبة للأفعال
البحث الثاني هذه الآية تدل على وجوب النظر في معرفة الله تعالى وقال في آية أخرى أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ( الأعراف 148 ) وهو قريب في المعنى من قوله في ذم عبدة الأصنام أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ( الأعراف 195 ) وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط الثالث قال بعض اليهود لعلي عليه السلام ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فقال إنما اختلفنا عنه وما اختلفنا فيه وأنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى
اعلم أن هارون عليه السلام إنما قال ذلك شفقة منه على نفسه وعلى الخلق أما شفقته على نفسه فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان مأموراً من عند أخيه موسى عليه السلام بقوله اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( الأعراف 142 ) فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى ولأمر موسى عليه السلام وذلك لا يجوز أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم فقال يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار فقال إنهم لم يغضبوا لغضبي وقال ثابت البناني قال أنس قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أصبح وهمه غير الله تعالى فليس من الله في شيء ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم وعن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثل المؤمنين في تواددهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) وقال أبو علي الحسن الغوري كنت في بعض المواضع فرأيت زورقاً فيها دنان مكتوب عليها لطيف فقلت للملاح إيش هذا فقال أنت صوفي فضولي وهذه خمور المعتضد فقلت له أعطني ذلك المدرى فقال لغلامه اعطه حتى نبصر إيش يعمل فأخذت المدرى وصعدت الزورق فكنت أكسر دنا دنا والملاح يصيح حتى بقي واحد فأمسكت فجاء صاحب السفينة فأخذني وحملني إلى المعتضد وكان سيفه قبل كلامه فلما وقع بصره علي قال من أنت قلت المحتسب قال من ولاك الحسبة قلت الذي ولاك الخلافة قال لم كسرت هذه الدنان قلت شفقة عليك إذا لم تصل يدي إلى دفع مكروه عنك قال فلم أبقيت هذا الواحد قلت إني لما كسرت هذه الدنان فإني إنما كسرتها حمية في دين الله فلما وصلت إلى هذا أعجبت فأمسكت ولو بقيت كما كنت لكسرته فقال اخرج يا شيخ فقد وليتك الحسبة فقلت كنت أفعله لله تعالى فلا أحب أن أكون شرطياً وأما الشفقة على المسلمين فلأن الإنسان(22/91)
يجب أن يكون رقيق القلب مشفقاً على أبناء جنسه وأي شفقة أعظم من أن يرى جمعاً يتهافتون على النار فيمنعهم منها وعن أبي سعيد الخدري عنه عليه السلام ( يقول الله تعالى اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها في القاسية قلوبهم فإن فيهم غضبي ) وعند عبد الله بن أبي أوفى قال ( خرجت أريد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا أبو بكر وعمر معه فجاء صغير فبكى فقال لعمر ضم الصبي إليك فإنه ضال فأخذه عمر فإذا امرأة تولول كاشفة رأسها جزعاً على ابنها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أدرك المرأة فناداها فجاءت فأخذت ولدها وجعلت تبكي والصبي في حجرها فالتفتت فرأت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاستحيت فقال عليه السلام عند ذلك أترون هذه رحيمة بولدها قالوا يا رسول الله كفى بهذه رحمة فقال ( والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها ) ويروى ( أنه بينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس ومعه أصحابه إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا فسمع الشاب ذلك فولى فقال إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد علي بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتشعل النار بي حتى تبر يمينه ولا تشعل النار بأحد آخر فهبط جبريل عليه السلام وقال ( يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك وفدائه أمتك بنفسه وشفقته على الخلق ) إذا ثبت ذلك فاعلم أن الأمر بالمعروف والشفقة على المسلمين واجب ثم إن هارون عليه السلام رأى القوم متهافتين على النار ولم يبال بكثرتهم ولا بقوتهم بل صرح بالحق فقال قَبْلُ ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ الآية وههنا دقيقة وهي أن الرافضة تمسكوا بقوله عليه السلام لعلي ( أنت مني بمنزلة هرون من موسى ) ثم إن هرون ما منعته التقية في مثل هذا الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعة نفسه والمنع من متابعة غيره فلو كانت أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على الخطأ لكان يجب على علي عليه السلام أن يفعل ما فعله هارون عليه السلام وأن يصعد على المنبر من غير تقية وخوف وأن يقول فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى فلما لم يفعل ذلك علمنا أن الأمة كانوا على الصواب واعلم أن هرون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانياً بقوله وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ثم دعاها ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله فَاتَّبِعُونِى ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله وَأَطِيعُواْ أَمْرِى وهذا هو الترتيب الجيد لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق وهو إزالة الشبهات ثم معرفة الله تعالى هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه وإنما قال وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فخص هذا الموضع باسم الرحمن لأنه كان ينبئهم بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون ثم إنهم لجهلهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال بالتقليد والجحود فقالوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى كأنهم قالوا لا نقبل حجتك ولكن نقبل قول موسى وعادة المقلد ليس إلا ذاك
قَالَ ياهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى(22/92)
اعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون بهذه الآية من وجوه أحدها أن موسى عليه السلام إما أن يكون قد أمر هرون باتباعه أو لم يأمره فإن أمره به فإما أن يكون هرون قد اتبعه أو لم يتبعه فإن اتبعه كانت ملامة موسى لهارون معصية وذنباً لأن ملامة غير المجرم معصية وإن لم يتبعه كان هارون تاركاً للواجب فكان فاعلاً للمعصية وأما إن قلنا إن موسى عليه السلام ما أمره باتباعه كانت ملامته إياه بترك الاتباع معصية فثبت أن على جميع التقديرات يلزم إسناد المعصية إما إلى موسى أو إلى هرون وثانيها قول موسى عليه السلام أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى استفهام على سبيل الإنكار فوجب أن يكون هارون قد عصاه وأن يكون ذلك العصيان منكراً وإلا لكان موسى عليه السلام كاذباً وهو معصية فإذا فعل هارون ذلك فقد فعل المعصية وثالثها قوله أَمْرِى قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى وهذا معصية لأن هارون عليه السلام قد فعل ما قدر عليه من النصيحة والوعظ والزجر فإن كان موسى عليه السلام قد بحث عن الواقعة وبعد أن علم أن هرون قد فعل ما قدر عليه كان الأخذ برأسه ولحيته معصية وإن فعل ذلك قبل تعرف الحال كان ذلك أيضاً معصية ورابعها إن هارون عليه السلام قال لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى فإن كان الأخذ بلحيته وبرأسه جائزاً كان قول هارون لا تأخذ منعاً له عما كان له أن يفعله فيكون ذلك معصية وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزاً كان موسى عليه السلام فاعلاً للمعصية فهذه أمثلة لطيفة في هذا الباب والجواب عن الكل أنا بينا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ( البقرة 36 ) أنواعاً من الدلائل الجلية في أنه لا يجوز صدور المعصية من الأنبياء وحاصل هذه الوجوه تمسك بظواهر قابلة للتأويل ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز إذا ثبتت هذه المقدمة فاعلم أن لنا في الجواب عن هذه الإشكالات وجوهاً أحدها أنا وإن اختلفنا في جواز المعصية على الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم وإن كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنعه الآخر أعني بهما موسى وهارون عليهما السلام لعله كان أحدهما أولى والآخر كان ترك الأولى فلذلك فعَله أحدهما وتركه الآخر فإن قيل هذا التأويل غير جائز لأن كل واحد منهما كان جازماً فيما يأتي به فعلاً كان أو تركاً وفعل المندوب وتركه لا يجزم به قلنا تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع فنحن نحمل ذلك الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوماً متقرراً وثانيها أن موسى عليه السلام أقبل وهو غضبان على قومه فأخذ برأس أخيه وجره إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه ويفتل أصابعه ويقبض لحيته فأجرى موسى عليه السلام أخاه هرون(22/93)
مجرى نفسه لأنه كان أخاه وشريكه فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب فأما قوله لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى فلا يمتنع أن يكون هرون عليه السلام خاف من أن يتوهم بنو إسرائيل من سوء ظنهم أنه منكر عليه غير معاون له ثم أخذ في شرح القصة فقال إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ وثالثها أن بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى عليه السلام حتى أن هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى عليه السلام أنت قتلته فلما واعد الله تعالى موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر وكتب له في الألواح من كل شيء ثم رجع فرآى في قومه ما رآى فأخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون عليه السلام أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له فقال إشفاقاً على موسى لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي لئلا يظن القوم ما لا يليق بك ورابعها قال صاحب ( الكشاف ) كان موسى عليه السلام رجلاً حديداً مجبولاً على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء شديد الغضب لله تعالى ولدينه فلم يتمالك حين رآى قومه يعبدون عجلاً من دون الله تعالى من بعد ما رأوا من الآيات العظام أن ألقى ألواح التوراة لما غلب على ذهنه من الدهشة العظيمة غضباً لله تعالى وحمية وعنف بأخيه وخليفته على قومه فأقبل عليه إقبال العدو المكاشر واعلم أن هذا الجواب ساقط لأنه يقال هب أنه كان شديد الغضب ولكن مع ذلك الغضب الشديد هل كان يبقى عاقلاً مكلفاً أم لا فإن بقي عاقلاً مكلفاً فالأسئلة باقية بتمامها أكثر ما في الباب أنك ذكرت أنه أتى بغضب شديد وذلك من جملة المعاصي فقد زدت إشكالاً آخر فإن قلتم بأنه في ذلك الغضب لم يبق عاقلاً ولا مكلفاً فهذا مما لا يرتضيه مسلم ألبتة فهذه أجوبة من لم يجوز الصغائر وأما من جوزها فلا شك في سقوط السؤال والله أعلم أما قوله مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ ففيه وجهان الأول أن لا صلة والمراد ما منعك أن تتبعني والثاني أن يكون المراد ما دعاك إلى أن لا تتبعني فأقام منعك مقام دعاك وفي الاتباع قولان أحدهما ما منعك من اتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والثاني أن تتبعني في وصيتي إذ قلت لك اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( الأعراف 142 ) فلم تركت قتالهم وتأديبهم وهذا قول مقاتل ثم قال أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ومعناه ظاهر وهذا يدل على أن تارك المأمور به عاص والعاصي مستحق للعقاب لقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ( الجن 23 ) ولقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا ( النساء 14 ) فمجموع الآيتين يدل على أن الأمر للوجوب فأجاب هارون عليه السلام وقال قَالَ ابْنَ أُمَّ قيل إنما خاطبه بذلك ليدفعه عنه فيتركه وقيل كان أخاه لأمه لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى واعلم أنه ليس في القرآن دلالة على أنه فعل ذلك فإن النهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهى عنه كقوله وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) وقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) والذي فيه أنه أخذ برأس أخيه يجره إليه وهذا القدر لا يدل على الاستخفاف به بل قد يفعل ذلك لسائر الأغراض على ما بيناه ومن الناس من يقول إنه أخذ ذؤابتيه بيمينه ولحيته بيساره ثم قال إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى ولقائل أن يقول إن قول موسى عليه السلام ( ما منعك أن لا تتبعن أفعصيت أمري ) يدل على أنه أمره بشيء فكيف يحسن في جوابه أن يقال إنما لم أمتثل قولك خوفاً من أن تقول وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى فهل يجوز مثل هذا الكلام على العاقل والجواب لعل موسى عليه السلام إنما أمره بالذهاب إليه بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى فساد في القوم فلما قال موسى(22/94)
( ما منعك أن لا تتبعن ) قال لأنك إنما أمرتني باتباعك إذا لم يحصل الفساد فلو جئتك مع حصول الفساد ما كنت مراقباً لقولك قال الإمام أبو القاسم الأنصاري الهداية أنفع من الدلالة فإن السحرة كانوا أجانب عن الإيمان وما رأوا إلا آية واحدة فآمنوا وتحملوا العذاب الشديد في الدنيا ولم يرجعوا عن الإيمان وأما قومه فإنهم رأوا انقلاب العصا ثعباناً والتقم كل ما جمعه السحرة ثم عاد عصا ورأوا اعتراف السحرة بأن ذلك ليس بسحر وأنه أمر إلهي ورأوا الآيات التسع مدة مديدة ثم رأوا انفراق البحر إثني عشر طريقاً وأن الله تعالى أنجاهم من الغرق وأهلك أعداءهم مع كثرة عددهم ثم إن هؤلاء مع ما شاهدوا من هذه الآيات لما خرجوا من البحر ورأوا قوماً يعبدون البقر قالوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ولما سمعوا صوتاً من عجل عكفوا على عبادته وذلك يدل على أنه لا يحصل الغرض بالدلائل بل بالهداية قرأ حمزة والكسائي ( يا ابن أم ) بكسر الميم والإضافة ودلت كسرة الميم على الياء والباقون بالفتح وتقديره يا ابن أماه والله أعلم
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَة ً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَواة ِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمِّ نَسْفاً إِنَّمَآ إِلَاهُكُمُ اللَّهُ الَّذِى لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَى ْءٍ عِلْماً
اعلم أن موسى عليه السلام لما فرغ من مخاطبة هارون عليه السلام وعرف العذر له في التأخير أقبل على السامري ويجوز أن يكون قد كان حاضراً مع هارون عليه السلام فلما قطع موسى الكلام مع هارون أخذ في التكلم مع السامري ويجوز أن يكون بعيداً ثم حضر السامري من بعد أو ذهب إليه موسى ليخاطبه فقال موسى عليه السلام مَا خَطْبُكُمَا والخطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه فإذا قيل لمن يفعل شيئاً ما خطبك معناه ما طلبك له والغرض منه الإنكار عليه وتعظيم صنعه ثم ذكر السامري عذره في ذلك فقال ياسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرىء بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ بالكسر وقرأ حمزة والكسائي بما لم تبصروا بالتاء المعجمة من فوق والباقون بالياء أي بما لم يبصر به بنو إسرائيل
المسألة الثانية في الإبصار قولان قال أبو عبيدة علمت بما لم يعلموا به ومنه قولهم رجل بصير أي(22/95)
عالم وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال الزجاج في تقريره أبصرته بمعنى رأيته وبصرت به بمعنى صرت به بصيراً عالماً وقال آخرون رأيت ما لم يروه فقوله بصرت به بمعنى أبصرته وأراد أنه رأى دابة جبريل عليه السلام فأخذ من موضع حافر دابته قبضة من تراب ثم قال فَقَبَضْتُ قَبْضَة ً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن قبضة بضم القاف وهي اسم للمقبوض كالغرفة والضفة وأما القبضة فالمرة من القبض وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير وقرىء أيضاً فقبصت قبصة بالضاد والصاد فالضاد بجميع الكف والصاد بأطراف الأصابع ونظيرهما الخضم والقضم الخاء بجميع الفم والقاف بمقدمه قرأ ابن مسعود من أثر فرس الرسول
المسألة الثانية عامة المفسرين قالوا المراد بالرسول جبريل عليه السلام وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته ثم اختلفوا أنه متى رآه فقال الأكثرون إنما رآه يوم فلق البحر وعن علي عليه السلام أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى عليه السلام إلى الطور أبصره السامري من بين الناس واختلفوا في أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين سائر الناس فقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الكلبي إنما عرفه لأنه رآه في صغره وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل فكانت المرأة تلد وتطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فتأخذ الملائكة الولدان فيربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس فكان السامري ممن أخذه جبريل عليه السلام وجعل كف نفسه في فيه وارتضع منه العسل واللبن فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه فلما رآه عرفه قال ابن جريج فعلى هذا قوله بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ بمعنى رأيت ما لم يروه ومن فسر الكلمة بالعلم فهو صحيح ويكون المعنى علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء قال أبو مسلم الأصفهاني ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون فههنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به فقد يقول الرجل فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسئلة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل فقال بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئاً من سنتك ودينك فقذفته أي طرحته فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا وبماذا يأمر الأمير وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً مع جحده وكفره فعلى مثل مذهب من حكى الله عنه قوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر 6 ) وإن لم يؤمنوا بالإنزال واعلم أن هذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا مخالفة المفسرين ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه أحدها أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام كأنه تكليف بعلم الغيب وثانيها أنه لا بد فيه من الإضمار وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل وثالثها أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته ثم كيف(22/96)
عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه فبعيد لأن السامري إن عرف جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبي صادق فكيف يحاول الإضلال وإن كان ما عرفه حال البلوغ فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له في الطفولية في حصول تلك المعرفة ورابعها أنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه لكان لقائل أن يقول فلعل موسى عليه السلام اطلع على شيء آخر يشبه ذلك فلأجله أتى بالمعجزات ويرجع حاصله إلى سؤال من يطعن في المعجزات ويقول لم لا يجوز أن يقال إنهم لاختصاصهم بمعرفة بعض الأدوية التي لها خاصية أن تفيد حصول تلك المعجزة أتوا بتلك المعجزة وحينئذ ينسد باب المعجزات بالكلية أما قوله وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى فالمعنى فعلت ما دعتني إليه نفسي وسولت مأخوذ من السؤال فالمعنى لم يدعني إلى ما فعلته أحد غيري بل اتبعت هواي فيه ثم إن موسى عليه السلام لما سمع ذلك من السامري أجابه بأن بين حاله في الدنيا والآخرة وبين حال إلهه أما حاله في الدنيا فقوله فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَواة ِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وفيه وجوه أحدها أن المراد أني لا أمس ولا أمس قالوا وإذا مسه أحد حم الماس والمسوس فكان إذا أراد أحد أن يمسه صاح خوفاً من الحمى وقال لا مساس وثانيها أن المراد بقوله لاَ مِسَاسَ المنع من أن يخالط أحداً أو يخالطه أحد وقال مقاتل إن موسى عليه السلام أخرجه من محلة بني إسرائيل وقال له اخرج أنت وأهلك فخرج طريداً إلى البراري اعترض الواحدي عليه فقال الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول هو لا مساس وإنما يقال له ذلك وهذا الاعتراض ضعيف لأن الرجل إذا بقي طريداً فريداً فإذا قيل له كيف حالك فله أن يقول لا مساس أي لا يماسني أحد ولا أماس أحداً والمعنى إني أجعلك يا سامري في المطرودية بحيث لو أردت أن تخبر غيرك عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس وهذا الوجه أحسن وأقرب إلى نظم الكلام من الأول وثالثها ما ذكره أبو مسلم وهو أنه يجوز في حمله ما أريد مسي النساء فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله فلا يكون له ولد يؤنسه فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( الكهف 46 ) وقرىء لا مساس بوزن فجاز وهو إسم علم للمرة الواحدة من المس وأما شرح حاله في الآخرة فهو قوله وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ والموعد بمعنى الوعد أي هذه عقوبتك في الدنيا ثم لك الوعد بالمصير إلى عذاب الآخرة فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين قرأ أهل المدينة والكوفة لن تخلفه بفتح اللام أي لن تخلف ذلك الوعد أي سيأتيك به الله ولن يتأخر عنك وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن بكسر اللام أي تجيء إليه ولن تغيب عنه ولن تتخلف عنه وفتح اللام اختيار أبي عبيد كأنه قال موعداً حقاً لا خلف فيه وعن ابن مسعود لن نخلفه بالنون فكأنه عليه السلام حكى قول الله تعالى بلفظه كما مر بيانه في قوله لاِهَبَ لَكِ ( مريم 19 ) وأما شرح حال إلهه فهو قوله وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً قال المفضل في ظلت إنه يقرأ بفتح الظاء وكسرها وكذلك فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ( الواقعة 65 ) وأصله ظللت فحذفت اللام الأولى وذلك إنما يكون إذا كانت اللام الثانية ساكنة تستحب العرب طرح الأولى ومن كسر الظاء نقل كسرة اللام الساقطة إليها ومن فتحها ترك الظاء على حالها وكذلك يفعلون في المضاعف يقولون مسته ومسسته ثم قال لَّنُحَرّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمّ نَسْفاً وفي قوله لَّنُحَرّقَنَّهُ وجهان(22/97)
أحدهما المراد إحراقه بالنار وهذا أحد ما يدل على أنه صار لحماً ودماً لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار وقال السدي أمر موسى عليه السلام بذبح العجل فذبح فسال منه الدم ثم أحرق ثم نسف رماده وفي حرف ابن مسعود لنذبحنه ولنحرقنه وثانيهما لنحرقنه أي لنبردنه بالمبرد يقال حرقه يحرقه إذا برده وهذه القراءة تدل على أنه لم ينقلب لحماً ولا دماً فإن ذلك لا يصح أن يبرد بالمبرد ويمكن أن يقال إنه صار لحماً فذبح ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها قراءة العامة بضم النون وتشديد الراء ومعناه لنحرقنه بالنار وقرأ أبو جعفر وابن محيصن لنحرقنه بفتح النون وضم الراء خفيفة يعني لنبردنه واعلم أن موسى عليه السلام لما فرغ من إبطال ما ذهب إليه السامري عاد إلى بيان الدين الحق فقال إِنَّمَا إِلَاهُكُمُ أي المستحق للعبادة والتعظيم اللَّهُ الَّذِى لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَى ْء عِلْماً قال مقاتل يعلم من يعبده ومن لا يعبده
كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ حِمْلاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَة ً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما شرح قصة موسى عليه السلام مع فرعون أولاً ثم مع السامري ثانياً أتبعه بقوله كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ من سائر أخبار الأمم وأحوالهم تكثيراً لشأنك وزيادة في معجزاتك وليكثر الاعتبار والاستبصار للمكلفين بها في الدين وَقَدْ اتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً يعني القرآن كما قال تعالى وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ( الأنبياء 50 ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ ( الزخرف 44 ) ص وَالْقُرْءانِ ذِى ( ص 1 ) مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ ( الأنبياء 2 ) وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ ( الحجر 6 ) ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه أحدها أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم وثانيها أنه يذكر أنواع آلاء الله تعالى ونعمائه ففيه التذكير والمواعظ وثالثها فيه الذكر والشرف لك ولقومك على ما قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكراً فقال فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ ( النحل 43 ) وكما بين نعمته بذلك بين شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به من وجوه أولها قوله مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فإنه يحمل يوم القيامة وزراً والوزر هو العقوبة الثقيلة سماها وزراً تشبيهاً في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها الذي يثقل على الحامل وينقض ظهره أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم وقرىء يحمل ثم بين تعالى صفة ذلك(22/98)
الوزر من وجهين أحدهما أنه يكون مخلداً مؤبداً والثاني قوله وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ حِمْلاً أي وما أسوأ هذا الوزر حملاً أي محمولاً وحملاً منصوب على التمييز وثانيها يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ فالمراد بيان أن يوم القيامة هو يوم ينفخ في الصور وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو ننفخ بفتح النون كقوله وَنَحْشُرُ وقرأ الباقون ينفخ على ما لم يسم فاعله ونحشر بالنون لأن النافخ ملك التقم الصور والحاشر هو الله تعالى وقرىء يوم ينفخ بالياء المفتوحة على الغيبة والضمير لله تعالى أو لإسرافيل عليه السلام وأما يحشر المجرمين فلم يقرأ به إلا الحسن وقرىء في الصور بفتح الواو جمع صورة
المسألة الثانية فِى الصُّورِ قولان أحدهما أنه قرن ينفخ فيه يدعي به الناس إلى المحشر والثاني أنه جمع صورة والنفخ نفخ الروح فيه ويدل عليه قراءة من قرأ الصور بفتح الواو والأول أولى لقوله تعالى فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ ( المدثر 8 ) والله تعالى يعرف الناس أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوق عند الأسفار وفي العساكر
المسألة الثالثة المراد من هذا النفخ هو النفخة الثانية لأن قوله بعد ذلك وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً كالدلالة على أن النفخ في الصور كالسبب لحشرهم فهو نظير قوله يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً ( النبأ 18 ) أما قوله وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً ففيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة قوله الْمُجْرِمِينَ يتناول الكفار والعصاة فيدل على عدم العفو عن العصاة وقال ابن عباس رضي الله عنهما يريد بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلهاً آخر وقد تقدم هذا الكلام
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بالزرقة على وجوه أحدها قال الضحاك ومقاتل يعني زرق العيون سود الوجوه وهي زرقة تتشوه بها خلقتهم والعرب تتشاءم بذلك فإن قيل أليس أن الله تعالى أخبر أنهم يحشرون عمياً فكيف يكون أعمى وأزرق قلنا لعله يكون أعمى في حال وأزرق في حال وثانيها المراد من الزرقة العمى قال الكلبي زرقاً أي عمياً قال الزجاج يخرجون بصراء في أول مرة ويعمون في المحشر وسواد العين إذا ذهب تزرق فإن قيل كيف يكون أعمى وقد قال تعالى إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ وشخوص البصر من الأعمى محال وقد قال في حقهم اقْرَأْ كَتَابَكَ ( الإسراء 14 ) والأعمى كيف يقرأ فالجواب أن أحوالهم قد تختلف وثالثها قال أبو مسلم المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم والأزرق شاخص لأنه لضعف بصره يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره وهو كقوله إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ ( إبراهيم 41 ) ورابعها زرقاً عطاشاً هكذا رواه ثعلب عن ابن الأعرابي قال لأنهم من شدة العطش يتغير سواد عيونهم حتى تزرق ويدل على هذا التفسير قوله تعالى وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ( مريم 86 ) وخامسها حكى ثعلب عن ابن الأعرابي قال طامعين فيما لا ينالونه الصفة الثالثة من صفات الكفار يوم القيامة قوله تعالى يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى يتخافتون أي يتسارون يقال خفت يخفت وخافت مخافتة والتخافت السرار وهو نظير(22/99)
قوله تعالى فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ( طه 108 ) وإنما يتخافتون لأنه امتلأت صدورهم من الرعب والهول أو لأنهم صاروا بسبب الخوف في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر
المسألة الثانية اختلفوا في أن المراد بقوله إِن لَّبِثْتُمْ اللبث في الدنيا أو في القبر فقال قوم أرادوا به اللبث في الدنيا وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك واحتجوا عليه بقوله تعالى قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادّينَ ( المؤمنون 112 113 ) فإن قيل إما أن يقال إنهم نسوا قدر لبثهم في الدنيا أو ما نسوا ذلك والأول غير جائز إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقى الإنسان خمسين سنة في بلد ثم ينساه والثاني غير جائز لأنه كذب وأهل الآخرة لا يكذبون لا سيما وهذا الكذب لا فائدة فيه قلنا فيه وجوه أحدها لعلهم إذا حشروا في أول الأمر وعاينوا تلك الأهوال فلشدة وقعها عليهم ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدينا وما ذكروا إلا القليل فقالوا ليتنا ما عشنا إلا تلك الأيام القليلة في الدنيا حتى لا نقع في هذه الأهوال والإنسان عند الهول الشديد قد يذهل عن أظهر الأشياء وتمام تقريره مذكور في سورة الأنعام في قوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) وثانيها أنهم عالمون بمقدار عمرهم في الدنيا إلا أنهم لما قابلوا أعمارهم في الدنيا بأعمار الآخرة وجدوها في نهاية القلة فقال بعضهم ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام وقال أعقلهم بل ما لبثنا إلا يوماً واحداً أي قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى قدر لبثنا في الآخرة كعشرة أيام بل كاليوم الواحد بل كالعدم وإنما خص العشرة والواحد بالذكر لأن القليل في أمثال هذه الواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد وثالثها أنهم لما عاينوا الشدائد تذكروا أيام النعمة والسرور وتأسفوا عليها فوصفوها بالقصر لأن أيام السرور قصار ورابعها أن أيام الدنيا قد انقضت وأيام الآخرة مستقبلة والذاهب وإن طالت مدته قليل بالقياس إلى الآتي وإن قصرت مدته فكيف والأمر بالعكس ولهذه الوجوه رجح الله تعالى قول من بالغ في التقليل فقال إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَة ً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً القول الثاني أن المراد منه اللبث في القبر ويعضده قوله تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَة ٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ ( الروم 55 ) وقال الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ( الروم 56 ) فأما من جوز الكذب على أهل القيامة فلا إشكال له في الآية أما من لم يجوز قال إن الله تعالى لما أحياهم في القبر وعذبهم ثم أماتهم ثم بعثهم يوم القيامة لم يعرفوا أن قدر لبثهم في القبر كم كان فخطر ببال بعضهم أنه في تقدير عشرة أيام وقال آخرون إنه يوم واحد فلما وقعوا في العذاب مرة أخرى تمنوا زمان الموت الذي هو زمان الخلاص لما نالهم من هول العذاب
المسألة الثالثة الأكثرون على أن قوله إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً أي عشرة أيام فيكون قول من قال إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً أقل وقال مقاتل إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً أي عشر ساعات كقوله كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّة ً أَوْ ضُحَاهَا ( النازعات 46 ) وعلى هذا التقدير يكون اليوم أكثر والله أعلم واعلم أنه سبحانه وتعالى بين بهذا القول أعظم ما نالهم من الحيرة التي دفعوا عندها إلى هذا الجنس من التخافت
وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِى َ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَة ُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِى َ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَى ِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً(22/100)
اعلم أنه تعالى لما وصف أمر يوم القيامة حكى سؤال من لم يؤمن بالحشر فقال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ وفي تقرير هذا السؤال وجوه أحدها أن قوله يَتَخَافَتُونَ ( طه 103 ) وصف من الله تعالى لكل المجرمين بذلك فكأنهم قالوا كيف يصح ذلك والجبال حائلة ومانعة من هذا التخافت وثانيها قال الضحاك نزلت في مشركي مكة قالوا يا محمد كيف تكون الجبال يوم القيامة وكان سؤالهم على سبيل الاستهزاء وثالثها لعل قومه قالوا يا محمد إنك تدعي أن الدنيا ستنقضي فلو صح ما قلته لوجب أن تبتدىء أولاً بالنقصان ثم تنتهي إلى البطلان لكن أحوال العالم باقية كما كانت في أول الأمر فكيف يصح ما قلته من خراب الدنيا وهذه شبهة تمسك بها جالينوس في أن السموات لا تفنى قال لأنها لو فنيت لابتدأت في النقصان أولاً حتى ينتهي نقصانها إلى البطلان فلما لم يظهر فيها النقصان علمنا أن القول بالبطلان باطل ثم أمر الله تعالى رسوله بالجواب عن هذا السؤال وضم إلى الجواب أموراً أخر في شرح أحوال القيامة وأهوالها
الصفة الأولى قوله فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما قال فَقُلْ مع فاء التعقيب لأن مقصودهم من هذا السؤال الطعن في الحشر والنشر فلا جرم أمره بالجواب مقروناً بفاء التعقيب لأن تأخير البيان في مثل هذه المسألة الأصولية غير جائز أما في المسائل الفروعية فجائزة لذلك ذكر هناك قل من غير حرف التعقيب
المسألة الثانية الضمير في قوله يَنسِفُهَا عائد إلى الجبال والنسف التذرية أي تصير الجبال كالهباء المنثور تذرى تذرية فإذا زالت الجبال الحوائل فيعلم صدق قوله يَتَخَافَتُونَ قال الخليل يَنسِفُهَا أي يذهبها ويطيرها أما الضمير في قوله فَيَذَرُهَا فهو عائد إلى الأرض فاستغنى عن تقديم ذكرها كما في عادة الناس من الإخبار عنها بالإضمار كقولهم ما عليها أكرم من فلان وقال تعالى مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ(22/101)
وإنما قال فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ليبين أن ذلك النسف لا يزيل الاستواء لئلا يقدر أنها لما زالت من موضع إلى موضع آخر صارت هناك حائلة هذا كله إذا كان المقصود من سؤالهم الاعتراض على كيفية المخافتة أما لو كان الغرض من السؤال ما ذكرنا من أنه لا نقصان فيها في الحال فوجب أن لا ينتهي أمرها إلى البطلان كان تقرير الجواب أن بطلان الشيء قد يكون بطلاناً يقع توليدياً فحينئذ يجب تقديم النقصان على البطلان وقد يكون بطلاناً يقع دفعة واحدة وههنا لا يجب تقديم النقصان على البطلان فبين الله تعالى أنه يفرق تركيبات هذا العالم الجسماني دفعة بقدرته ومشيئته فلا حاجة ههنا إلى تقديم النقصان على البطلان
المسألة الثالثة أنه تعالى وصف الأرض ذلك الوقت بصفات أحدها كونها قاعاً وهو المكان المطمئن وقيل مستنقع الماء وثانيها الصفصف وهو الذي لا نبات عليه وقال أبو مسلم القاع الأرض الملساء المستوية وكذلك الصفصف وثالثها قوله لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً وقال صاحب ( الكشاف ) قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا العوج بالكسر في المعاني والعوج بالفتح في الأعيان فإن قيل الأرض عين فكيف صح فيها المكسور العين قلنا اختيار هذا اللفظ له موقع بديع في وصف الأرض بالاستواء ونفي الاعوجاج وذلك لأنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها وبالغت في التسوية فإذا قابلتها المقاييس الهندسية وجدت فيها أنواعاً من العوج خارجة عن الحس البصري قال فذاك القدر في الاعوجاج لما لطف جداً ألحق بالمعاني فقيل فيه عوج بالكسر واعلم أن هذه الآية تدل على أن الأرض تكون ذلك اليوم كرة حقيقية لأن المضلع لا بد وأن يتصل بعض سطوحه بالبعض لا على الاستقامة بل على الاعوجاج وذلك يبطله ظاهر الآية ورابعها الأمت النتوء اليسير يقال مد حبله حتى ما فيه أمت وتحصل من هذه الصفات الأربع أن الأرض تكون ذلك اليوم ملساء خالية عن الارتفاع والانخفاض وأنواع الانحراف والإعوجاج
الصفة الثانية ليوم القيامة قوله يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِى َ لاَ عِوَجَ لَهُ وفي الداعي قولان الأول أن ذلك الداعي هو النفخ في الصور وقوله لاَ عِوَجَ لَهُ أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكل الثاني أنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي ويقول أيتها العظام النخرة والأوصال المتفرقة واللحوم المتمزقة قومي إلى ربك للحساب والجزاء فيسمعون صوت الداعي فيتبعونه ويقال إنه إسرافيل عليه السلام يضع قدمه على الصخرة فإن قيل هذا الدعاء يكون قبل الإحياء أو بعده قلنا إن كان المقصود بالدعاء إعلامهم وجب أن يكون ذلك بعد الإحياء لأن دعاء الميت عبث وإن لم يكن المقصود إعلامهم بل المقصود مقصود آخر مثل أن يكون لطفاً للملائكة ومصلحة لهم فذلك جائز قبل الإحياء
الصفة الثالثة قوله وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً وفيه وجوه أحدها خشعت الأصوات من شدة الفزع وخضعت وخفيت فلا تسمع إلا همساً وهو الذكر الخفي قال أبو مسلم وقد علم الإنس والجن بأن لا مالك لهم سواه فلا يسمع لهم صوت يزيد على الهمس وهو أخفى الصوت ويكاد يكون كلاماً يفهم بتحريك الشفتين لضعفه وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه ويضعف صوته ويختلط قوله ويطول غمه وثانيها قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وعكرمة وابن زيد الهمس وطء الأقدام(22/102)
فالمعنى أنه لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر
الصفة الرابعة قوله يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَة ُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِى َ لَهُ قَوْلاً قال صاحب ( الكشاف ) من يصلح أن يكون مرفوعاً ومنصوباً فالرفع على البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف إليه أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن والنصب على المفعولية وأقول الاحتمال الثاني أولى لوجوه الأول أن الأول يحتاج فيه إلى الإضمار وتغيير الأعراب والثاني لا يحتاج فيه إلى ذلك والثاني أن قوله تعالى لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَة ُ يراد به من يشفع بها والاستثناء يرجع إليهم فكأنه قال لا تنفع الشفاعة أحداً من الخلق إلا شخصاً مرضياً والثالث وهو أن من المعلوم بالضرورة أن درجة الشافع درجة عظيمة فهي لا تحصل إلا لمن أذن الله له فيها وكان عند الله مرضياً فلو حملنا الآية على ذلك صارت جارية مجرى إيضاح الواضحات أما لو حملنا الآية على المشفوع له لم يكن ذلك إيضاح الواضحات فكان ذلك أولى إذا ثبت هذا فنقول المعتزلة قالوا الفاسق غير مرضي عند الله تعالى فوجب أن لا يشفع الرسول في حقه لأن هذه الآية دلت على أن المشفوع له لا بد وأن يكون مرضياً عند الله واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق لأن قوله ورضي له قولاً يكفي في صدقه أن يكون الله تعالى قد رضي له قولاً واحداً من أقواله والفاسق قد ارتضى الله تعالى قولاً واحداً من أقواله وهو شهادة أن لا إله إلا الله فوجب أن تكون الشفاعة نافعة له لأن الاستثناء من النفي إثبات فإن قيل إنه تعالى استثنى عن ذلك النفي بشرطين أحدهما حصول الإذن والثاني أن يكون قد رضي له قولاً فهب أن الفاسق قد حصل فيه أحد الشرطين وهو أنه تعالى قد رضي له قولاً لكن لم قلتم إنه أذن فيه وهذا أول المسألة قلنا هذا القيد وهو أنه رضي له قولاً كافٍ في حصول الاستثناء بدليل قوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) فاكتفى هناك بهذا القيد ودلت هذه الآية على أنه لا بد من الإذن فظهر من مجموعهما أنه إذا رضي له قولاً يحصل الإذن في الشفاعة وإذا حصل القيدان حصل الاستثناء وتم المقصود
الصفة الخامسة قوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وفيه مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله بَيْنِ أَيْدِيهِمْ عائد إلى الذين يتبعون الداعي ومن قال إن قوله مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ المراد به الشافع قال ذلك الضمير عائد إليه والمعنى لا تنفع شفاعة الملائكة والأنبياء إلا لمن أذن له الرحمن في أن تشفع له الملائكة والأنبياء ثم قال يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني ما بين أيدي الملائكة كما قال في آية الكرسي وهذا قول الكلبي ومقاتل وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفعوا له قال مقاتل يعلم ما كان قبل أن يخلق الملائكة وما كان منهم بعد خلقهم
المسألة الثانية ذكروا في قوله تعالى يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وجوهاً أحدها قال الكلبي مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الآخرة وَمَا خَلْفَهُمْ من أمر الدنيا وثانيها قال مجاهد مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا والأعمال وَمَا خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة والثواب والعقاب وثالثها قال الضحاك يعلم ما مضى وما بقي ومتى تكون القيامة
المسألة الثالثة ذكروا في قوله وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وجهين الأول أنه تعالى بين أنه يعلم ما بين أيدي العباد وما خلفهم ثم قال وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي العباد لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم(22/103)
علماً الثاني المراد لا يحيطون بالله علماً والأول أولى لوجهين أحدهما أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات والأقرب ههنا قوله مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وثانيهما أنه تعالى أورد ذلك مورد الزجر ليعلم أن سائر ما يقدمون عليه وما يستحقون به المجازاة معلوم لله تعالى
الصفة السادسة قوله وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَى ّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ومعناه أن في ذلك اليوم تعنوا الوجوه أي تذل ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره ومن لفظ العنو أخذوا العاني وهو الأسير يقال عنا يعنو عناء إذا صار أسيراً وذكر الله تعالى الْوجُوهَ وأراد به المكلفين أنفسهم لأن قوله وَعَنَتِ من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه وهو كقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَة ٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَة ٌ ( الغاشية 8 9 ) وإنما خص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يبين وفيها يظهر وتفسير الْحَى ُّ الْقَيُّومُ قد تقدم وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( اطلبوا اسم الله الأعظم في هذه السور الثلاث البقرة وآل عمران وطه قال الراوي فوجدنا المشترك في السور الثلاث قال الراوي فوجدنا المشترك في السور الثلاث اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ فبين تعالى على وجه التحذير أن ذلك اليوم لا يصح الإمتناع مما ينزل بالمرء من المجازاة وأن حاله مخالفة لحال الدنيا التي يختار فيها المعاصي ويمتنع من الطاعات أما قوله تعالى وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً فالمراد بالخيبة الحرمان أي حرم الثواب من حمل ظلماً والمراد به من وافى بالظلم ولم يتب عنه واستدلت المعتزلة بهذه الآية في المنع من العفو فقالوا قوله وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً يعم كل ظالم وقد حكم الله تعالى فيه بالخيبة والعفو ينافيه والكلام على عمومات الوعيد قد تقدم مراراً واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال يوم القيامة ختم الكلام فيها بشرح أحوال المؤمنين فقال وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً يعني ومن يعمل شيئاً من الصالحات والمراد به الفرائض فكان عمله مقروناً بالإيمان وهو قوله وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ ( طه 75 ) فقوله فَلاَ يَخَافُ في موضع جزم لكونه في موضع جواب الشرط والتقدير فهو لا يخاف ونظيره وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ( المائدة 95 ) فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً ( الجن 13 ) وقرأ ابن كثير فلا يخف على النهي وهو حسن لأن المعنى فليأمن والنهي عن الخوف أمر بالأمن والظلم هو أن يعاقب لا على جريمة أم يمنع من الثواب على الطاعة والهضم أن ينقص من ثوابه والهضيمة النقيصة ومنه هضيم الكشح أي ضامر البطن ومنه طَلْعُهَا هَضِيمٌ ( الشعراء 148 ) أي لازق بعضه ببعض ومنه انهضم طعامي وقال أبو مسلم الظلم أن ينقص من الثواب والهضم أن لا يوفي حقه من الإعظام لأن الثواب مع كونه من اللذات لا يكون ثواباً إلا إذا قارنه التعظيم وقد يدخل النقص في بعض الثواب ويدخل فيما يقارنه من التعظيم فنفى الله تعالى عن المؤمنين كلا الأمرين
وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً(22/104)
اعلم أن قوله وَكَذالِكَ عطف على قوله كَذالِكَ نَقُصُّ أي ومثل ذلك لا نزال وعلى نهجه أنزلنا القرآن كله ثم وصف القرآن بأمرين أحدهما كونه عربياً لتفهمه العرب فيقفوا على إعجازه ونظمه وخروجه عن جنس كلام البشر والثاني قوله وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي كررناه وفصلناه ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم لأن الوعيد فعل يتعلق فتكريره يقتضي بيان الأحكام فلذلك قال لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ والمراد اتقاء المحرمات وترك الواجبات ولفظ لعل قد تقدم تفسيره في سورة البقرة في قوله وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 183 ) أما قوله أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ففيه وجهان الأول أن يكون المعنى إنا إنما أنزلنا القرآن لأجل أن يصيروا متقين أي محترزين عما لا ينبغي أو يحدث القرآن لهم ذكراً يدعوهم إلى الطاعات وفعل ما ينبغي وعليه سؤالات
السؤال الأول القرآن كيف يكون محدثاً للذكر الجواب لما حصل الذكر عند قراءته أضيف الذكر إليه
السؤال الثاني لم أضيف الذكر إلى القرآن وما أضيفت التقوى إليه الجواب أن التقوى عبارة عن أن لا يفعل القبيح وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يجز إسناده إلى القرآن أما حدوث الذكر فأمر حدث بعد أن لم يكن فجازت إضافته إلى القرآن
السؤال الثالث كلمة أو للمنافاة ولا منافاة بين التقوى وحدوث الذكر بل لايصح الإتقاء إلا مع الذكر فما معنى كلمة أو الجواب هذا كقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين أي لا تكن خالياً منهما فكذا ههنا الوجه الثاني أن يقال إنا أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث القرآن لهم ذكراً وشرفاً وصيتاً حسناً فعلى هذين التقديرين يكون إنزاله تقوى ثم إنه تعالى لما عظم أمر القرآن ردفه بأن عظم نفسه فقال فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ تنبيهاً على ما يلزم خلقه من تعظيمه وإنما وصفه بالحق لأن ملكه لا يزول ولا يتغير وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره أولى به فلهذا وصف بذلك وتعالى تفاعل من العلو وقد ثبت أن علوه وعظمته وربوبيته بمعنى واحد وهو اتصافه بنعوت الجلال وأنه لا تكفيه الأوهام ولا تقدره العقول وهو منزه عن المنافع والمضار فهو تعالى إنما أنزل القرآن ليحترزوا عما لا ينبغي وليقدموا على ما ينبغي وأنه تعالى منزه عن التكمل بطاعاتهم والتضرر بمعاصيهم فالطاعات إنما تقع بتوفيقه وتيسيره والمعاصي إنما تقع عدلاً منه وكل ميسر لما خلق له أما قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى في تعلقه بما قبله وجهان الوجه الأول قال أبو مسلم إن من قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ( طه 105 ) إلى ههنا يتم الكلام وينقطع ثم قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ خطاب مستأنف فكأنه قال ويسألونك ولا تعجل بالقرآن الوجه الثاني روى أنه عليه السلام كان يخاف من أن يفوته منه شيء فيقرأ مع الملك فأمره بأن يسكت حال قراءة الملك ثم يأخذ بعد فراغه في القراءة فكأنه تعالى شرح كيفية نفع القرآن للمكلفين وبين أنه سبحانه متعال عن كل ما لا ينبغي وأنه موصوف بالإحسان والرحمة ومن كان كذلك وجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي وإذ حصل الأمان عن السهو والنسيان قال وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ(22/105)
المسألة الثانية قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ ويحتمل أن يكون المراد لا تعجل بقراءته في نفسك ويحتمل أن لا تعجل في تأديته إلى غيرك ويحتمل في اعتقاد ظاهره ويحتمل في تعريف الغير ما يقتضيه ظاهره وأما قوله مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ فيحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك تمامه ويحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك بيانه لأن هذين الأمرين لا يمكن تحصيلهما إلا بالوحي ومعلوم أنه عليه السلام لا ينهى عن قراءته لكي يحفظه ويؤديه فالمراد إذن أن لا يبعث نفسه ولا يبعث غيره عليه حتى يتبين بالوحي تمامه أو بيانه أو هما جميعاً لأنه يجب التوقف في معنى الكلام ما لم يأت عليه الفراغ لما يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات فهذا هو التحقيق في تفسير الآية ولنذكر أقوال المفسرين أحدها أن هذا كقوله تعالى لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( القيامة 16 ) وكان عليه السلام يحرص على أخذ القرآن من جبريل عليه السلام فيعجل بقراءته قبل استتمام جبريل مخافة النسيان فقيل له لا تعجل إلى أن يستتم وحيه فيكون أخذك إياه عن تثبت وسكون والله تعالى يزيدك فهماً وعلماً وهذا قول مقاتل والسدي ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وثانيها لا تعجل بالقرآن فتقرأه على أصحابك قبل أن يوحى إليك بيان معانيه وهذا قول مجاهد وقتادة وثالثها قال الضحاك إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا يا محمد أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة بأن اليهود قد غلبوا محمداً فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ أي بنزوله من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللوح المحفوظ إلى إسرافيل ومنه إلى جبريل ومنه إليك وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ورابعها روى الحسن أن امرأة أتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت زوجي لطم وجهي فقال بينكما القصاص فنزل قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ فأمسك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن القصاص حتى نزول قوله تعالى الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء ( النساء 34 ) وهذا بعيد والاعتماد على التفصيل الأول أما قوله تعالى وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً فالمعنى أنه سبحانه وتعالى أمره بالفزع إلى الله سبحانه في زيادة العلم التي تظهر بتمام القرآن أو بيان ما نزل عليه
المسألة الثالثة الاستعجال الذي نهى عنه إن كان فعله بالوحي فكيف نهى عنه الجواب لعله فعله بالاجتهاد وكان الأولى تركه فلهذا نهى عنه
وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا ياأادَمُ إِنَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى
اعلم أن هذا هي المرة السادسة من قصة آدم عليه السلام في القرآن أولها في سورة البقرة ثم في الأعراف(22/106)
ثم في الحجر ثم في الإسراء ثم في الكهف ثم ههنا واعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً أحدها أنه تعالى لما قال كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ ( طه 99 ) ثم إنه عظم أمر القرآن وبالغ فيه ذكر هذه القصة انجازاً للوعد في قوله كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وثانيها أنه لما قال وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ( طه 113 ) أردفه بقصة آدم عليه السلام كأنه قال إن طاعة بني آدم للشيطان وتركهم التحفظ من وساوسه أمر قديم فإنا قد عهدنا إلى آدم من قبل أي من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد وبالغنا في تنبيهه حيث قلنا إِنَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد فأمر البشر في ترك التحفظ من الشيطان أمر قديم وثالثها أنه لما قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) ذكر بعده قصة آدم عليه السلام فإنه بعدما عهد الله إليه وبالغ في تجديد العهد وتحذيره من العدو نسي فقد دل ذلك على ضعف القوة البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه في أن يوفقه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان ورابعها أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما قيل له وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ( طه 114 ) دل على أنه كان في الجد في أمر الدين بحيث زاد على قدر الواجب فلما وصفه بالإفراط وصف آدم بالتفريط في ذلك فإنه تساهل في ذلك ولم يتحفظ حتى نسي فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط ليعلم أن البشر لا ينفك عن نوع زلة وخامسها أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما قيل له وَلاَ تَعْجَلْ ضاق قلبه وقال في نفسه لولا أني أقدمت على ما لا ينبغي وإلا لما نهيت عنه فقيل له إن كنت فعلت ما نهيت عنه فإنما فعلته حرصاً منك على العبادة وحفظاً لأداء الوحي وإن أباك أقدم على ما لا ينبغي للتساهل وترك التحفظ فكان أمرك أحسن من أمره أما قوله تعالى وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى مِن رَّبِّهِ قَبْلُ فلا شك أن المراد بالعهد أمر من الله تعالى أو نهي منه كما يقال في أوامر الملوك ووصاياهم أشار الملك إليه وعهد إليه قال المفسرون عهدنا إليه أن لا يأكل من الشجرة ولا يقربها وفي قوله تعالى مِن قَبْلُ وجوه أحدها من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد في القرآن وثانيها قال ابن عباس من قبل أن يأكل من الشجرة عهدنا إليه أن لا يأكل منها وثالثها أي من قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن وهو قول الحسن أما قوله فَنَسِى َ فقد تكلمنا فيه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة ونعيد ههنا منه شيئاً قليلاً وفي النسيان قولان أحدهما المراد ما هو نقيض الذكر وإنما عوتب على ترك التحفظ والمبالغة في الضبط حتى تولد منه النسيان وكان الحسن رحمه الله يقول والله ما عصى قط إلا بنسيان والثاني أن المراد بالنسيان الترك وأنه ترك ما عهد إليه من الاحتراز عن الشجرة وأكل من ثمرتها وقرىء فنسي أي فنساه الشيطان وعلى هذا التقدير يحتمل أن يقال أقدم على المعصية من غير تأويل وأن يقال أقدم عليها مع التأويل والكلام فيه قد تقدم في سورة البقرة وأما قوله وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ففيه أبحاث
البحث الأول الوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومنه ولم نجد له عزماً وأن يكون نقيض العدم كأنه قال وعدمنا له عزماً
البحث الثاني العزم هو التصميم والتصلب ثم قوله وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً يحتمل ولم نجد له عزماً على القيام على المعصية فيكون إلى المدح أقرب ويحتمل أن يكون المراد ولم نجد له عزماً على ترك المعصية أو لم نجد له عزماً على التحفظ والاحتراز عن الغفلة أو لم نجد له عزماً على الاحتياط في كيفية الاجتهاد إذا قلنا إنه عليه السلام إنما أخطأ بالاجتهاد وأما قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى(22/107)
فهذا يشتمل على مسائل إحداها أن المأمورين كل الملائكة أو بعضهم وثانيتها أنه ما معنى السجود وثالثتها أن إبليس هل كان من الملائكة أم لا وإن لم يكن فكيف صح الاستثناء وبأي شيء صار مأموراً بالسجود ورابعتها أن هذا يدل على أن آدم أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أم لا وخامستها أن قوله في صفة إبليس أنه أبى كيف لزم الكفر من ذلك الإباء وأنه هل كان كافراً ابتداء أو كفر بسبب ذلك واعلم أن هذه المسائل مرت على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة أما قوله فَقُلْنَا يائَادَمُ أَن لاَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى ففيه سؤالات الأول ما سبب تلك العداوة الجواب من وجوه أحدها أن إبليس كان حسوداً فلما رآى آثار نعم الله تعالى في حق آدم عليه السلام حسده فصار عدواً له وثانيها أن آدم كان شاباً عالماً لقوله وعلم آدم الأسماء كلها وإبليس كان شيخاً جاهلاً لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله وذلك جهل والشيخ الجاهل أبداً يكون عدواً للشاب العالم وثالثها أن إبليس مخلوق من النار وآدم مخلوق من الماء والتراب فبين أصليهما عداوة فبقيت تلك العداوة
السؤال الثاني لم قال فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ مع أن المخرج لهما من الجنة هو الله تعالى الجواب لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج صح ذلك
السؤال الثالث لم أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون حواء مع اشتراكهما في الفعل الجواب من وجهين أحدهما أن في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم كما أن في ضمن سعادته سعادتهم فاختص الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على رعاية الفاصلة الثاني أريد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك على الرجل دون المرأة وروي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه أما قوله إِلا أَنْ لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وإنك بالفتح والكسر ووجه الفتح العطف على أن لا تجوع فيها فإن قيل أن لا تدخل على أن فلا يقال أن أن زيداً منطلق والواو نائبة عن أن وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها قلنا الواو لم توضع لتكون أبداً نائبة عن أن إنما هي نائبة عن كل عامل فلما لم تكن حرفاً موضوعاً للتحقيق خاصة كان لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع أن وأن
المسألة الثانية الشبع والري والكسوة والإكتنان في الظل هي الأقطاب التي يدور عليها أمر الإنسان فذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء له في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب وذكرها بلفظ النفي لأضدادها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحى ليطرق سمعه شيئاً من أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يبالغ في الاحتراز عن السبب الذي يوقعه فيها وهذه الأشياء كلها كأنها تفسير الشقاء المذكور في قوله فَتَشْقَى
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ ياأادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة ِ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى(22/108)
واعلم أنه سبحانه بين أنه عظم آدم عليه السلام بأن جعله مسجوداً للملائكة وبين أنه عرفه شدة عداوة إبليس له ولزوجه وأنه لعداوته يدعوهم إلى المعصية التي إذا وقعت زالت تلك النعم بأسرها ثم إنه مع ذلك اتفق منه ومن حواء الإقدام على الزلة ما اتفق والعجب ما روي عن أبي أمامة الباهلي قال ( لو أن أحلام بني آدم إلى قيام الساعة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في الأخرى لرجح حلمه بأحلامهم ) ولكن المكادحة مع قضاء الله تعالى ممتنعة واعلم أن واقعة آدم عجيبة وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ( طه 117 119 ) ورغبه إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وفي انتظام المعيشة بقوله وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى فكان الشيء الذي رغب الله آدم فيه هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراس عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله تعالى مولاه وناصره ومربيه أعلمه بأن إبليس عدوه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته كيف قبل في الواقعة الواحدة والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بكمال عداوته له وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه هو الناصر والمربي ومن تأمل في هذا الباب طال تعجبه وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله ولا مانع منه وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله تعالى ذلك وقدره وأما قوله فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ( الأعراف 20 ) فقد تقدم في سورة البقرة أنه كيف وسوس وبماذا وسوس فإن قيل كيف عدى وسوس تارة باللام في قوله فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ وأخرى بإلى قلنا قوله فوسوس له معناه لأجله وقوله ءاوَى إِلَيْهِ معناه أنهى إليه الوسوسة كقوله حدث له وأسر إليه ثم بين أن تلك الوسوسة كانت بتطميعه في أمرين أحدهما قوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها صار مخلداً بزعمه الثاني قوله وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى أي من أكل من هذه الشجرة دام ملكه قال القاضي ليس في الظاهر أن آدم قبل ذلك منه بل لوجدت هذه الوسوسة حال كون آدم عليه السلام نبياً لاستحال أن يكون آدم عليه السلام قبل ذلك منه لأنه لا بد وأن تحصل بين حال التكليف وحال المجازاة فترة بالموت وبالمعنى فآدم لما كان نبياً امتنع أن لا يعلم ذلك قلنا لا نسلم بأنه لا بد من حصول هذه الفترة بين حال التكليف وحال المجازاة ولم لا يجوز أن يقال لا حاجة إلى الفترة أصلاً وإن كان ولا بد فيكفي حصول الفترة بغشي أو نوم خفيف ثم إن كان ولا بد من حصول الفترة بالموت فلم قلت النبي لا بد وأن يعلم ذلك أليس قوم منكم يقولون إن موسى عليه السلام إنما سأل الرؤية لأنه ما كان يعرف امتناعها على الله تعالى فإذا جاز ذلك الجهل فلم لا يجوز هذا الجهل ثم ما الدليل على أن آدم كان نبياً في ذلك الوقت فإن مذهبنا أن واقعة الزلة إنما حصلت قبل رسالته لا بعدها ثم إن الذي يدل على أن آدم عليه السلام قبل ذلك قوله تعالى عقيب ذكر الوسوسة فأكلا منها وهذا الترتيب مشعر بالعلية كقولهم ( زنى ماعز فرجم ) ( وسها رسول الله(22/109)
فسجد ) فإن هذه الفاء تدل على أن الرجم كالمسبب للزنا والسجود كالمسبب للسهو فكذلك ههنا يجب أن يكون الأكل كالمعلل باستماع قوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى وإنما يحصل هذا التعليل لو قبل آدم ذلك منه فإنه لو رد قوله لما أقدم على الأكل بناء على قوله فثبت أن آدم عليه السلام قبل ذلك من إبليس ثم إنه سبحانه بين أنهما لما أكلا بدت لهما سوآتهما قال ابن عباس عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما وإنما جمع فقيل سوآتهما كما قال صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) فإن قيل هل كان ظهور سوآتهما كالجزاء على معصيتهما قلنا لا شك أن ذلك كالمعلق على ذلك الأكل لكن يحتمل أن لا يكون عقاباً عليه بل إنما ترتب عليه لمصلحة أخرى أما قوله وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة ِ ففيه أبحاث
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وأخذ وأنشأ وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً وبينها وبينه مسافة قصيرة وهي للشروع في أول الأمر وكاد لمقاربته والدنو منه
البحث الثاني قرى يخصفان للتكثير والتكرير من خصف النعل وهو أن يخرز عليها الخصاف أي يلزقان الورقة على سوآتهما للستر وهو ورق التين أما قوله وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى فمن الناس من تمسك بهذا في صدور الكبيرة عنه من وجهين الأول أن العاصي اسم للذم فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا ( النساء 14 ) ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلاً يعاقب عليه والوجه الثاني أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان والغي ضد الرشد ومثل هذا الإسم لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه أجاب قوم عن الكلام الأول فقالوا المعصية مخالفة الأمر والأمر قد يكون بالواجب والندب فإنهم يقولون أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني وإذا كان الأمر كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم لا لكونه تاركاً للواجب بل لكونه تاركاً للمندوب فأجاب المستدل عن هذا الاعتراض بأنا بينا أن ظاهر القرآن يدل على أن العاصي مستحق للعقاب والعرف يدل على أنه اسم ذم فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب ولأنه لو كان تارك المندوب عاصياً لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة في كل حال لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب فإن قيل وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد قلنا لما سلمت كونه مجازاً فالأصل عدمه أما قوله أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني قلنا لا نسلم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب ولئن سلمنا ذلك ولكنهم إنما يطلقون ذلك إذا جزموا على المستشير بأنه لا بد وأن يفعل ذلك الفعل وأنه لا يجوز الإخلال بذلك الفعل وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً وإن لم يكن الوجوب حاصلاً وذلك يدل على أن لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى يقتضي الوجوب فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم عليه السلام إنما كان لكونه تاركاً للواجب ومن الناس من سلم أن الآية تدل على صدور المعصية منه لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر وهذا قول عامة المعتزلة وهو أيضاً ضعيف لأنا بينا أن اسم العاصي اسم للذم ولأن ظاهر القرآن يدل على أنه يستحق العقاب وذلك لا يليق بالصغيرة وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف وكذلك القول في غوى وهذا أيضاً بعيد لأن مصالح الدنيا تكون مباحة ومن يفعلها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم للذم ولا يقال ( فدلالهما(22/110)
بغرور ) وأما التمسك بقوله تعالى فَغَوَى فأجابوا عنه من وجوه أحدها أنه خاب من نعيم الجنة وذلك لأنه لما أكل من تلك الشجرة ليصير ملكه دائماً ثم لما أكل زال فلما خاب سعيه وما نجح قيل إنه غوى وتحقيقه أن الغي ضد الرشد والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء يوصل إلى المقصود فمن توصل بشيء إلى شيء فحصل له ضد مقصوده كان ذلك غياً وثانيها قال بعضهم غوى أي بشم من كثرة الأكل قال صاحب الكشاف هذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفاً فيقول في فنى وبقى فنا وبقا وهم بنو طيء فهو تفسير خبيث واعلم أن الأولى عندي في هذا الباب والأحسم للشغب أن يقال هذه الواقعة كانت قبل النبوة وقد شرحنا ذلك في سورة البقرة وههنا بحث لا بد منه وهو أن ظاهر القرآن وإن دل على أن آدم عصى وغوى لكن ليس لأحد أن يقول إن آدم كان عاصياً غاوياً ويدل على صحة قولنا أمور أحدها قال العتبي يقال لرجل قطع ثوباً وخاطه قد قطعه وخاطه ولا يقال خائط ولا خياط حتى يكون معاوداً لذلك الفعل معروفاً به ومعلوم أن هذه الزلة لم تصدر عن آدم عليه السلام إلا مرة واحدة فوجب أن لا يجوز إطلاق هذا الاسم عليه وثانيها أن على تقدير أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرفه بالرسالة والنبوة إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن أسلم بعد الكفر إنه كافر بمعنى أنه كان كافراً بل وبتقدير أن يقال هذه الواقعة وقعت بعد النبوة لم يجز أيضاً أن يقال ذلك لأنه عليه السلام تاب عنها كما أن الرجل المسلم إذا شرب الخمر أو زنى ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك إنه شارب خمر أو زانٍ فكذا ههنا وثالثها أن قولنا عاص وغاو يوهم كونه عاصياً في أكثر الأشياء وغاوياً عن معرفة الله تعالى ولم ترد هاتان اللفظتان في القرآن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عصى فيها فكأنه قال عصى في كيت وكيت وذلك لا يوهم التوهم الباطل الذي ذكرناه ورابعها أنه يجوز من الله تعالى ما لا يجوز من غيره كما يجوز للسيد في عبيده وولده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغير السيد في عبده وولده أما قوله ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى فالمعنى ثم اصطفاه فتاب عليه أي عاد عليه بالعفو والمغفرة وهداه رشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار وقبل الله منه ذلك روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود كان بكاؤه أكثر ولو جمع كل ذلك إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر وإنما سمي نوحاً لنوحه على نفسه ولو جمع كل ذلك إلى بكاء آدم لكان بكاء آدم على خطيئته أكثر ) وقال وهب إنه لما كثر بكاؤه أوحى الله تعالى إليه وأمره بأن يقول ( لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين ) فقالها آدم عليه السلام ثم قال قل ( لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين ) ثم قال قل ( لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم ) قال ابن عباس رضي الله عنهما هذه الكلمات هي التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى َ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذالِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِأايَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَة ِ أَشَدُّ وَأَبْقَى(22/111)
اعلم أن على أول هذه الآية سؤالاً وهو أن قوله اهْبِطَا إما أن يكون خطاباً مع شخصين أو أكثر فإن كان خطاباً لشخصين فكيف قال بعده فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى وهو خطاب الجمع وإن كان خطاباً لأكثر من شخصين فكيف قال اهْبِطَا وذكروا في جوابه وجوهاً أحدها قال أبو مسلم الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبليس ومعه ذريته فلكونهما جنسين صح قوله اهْبِطَا ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم قال صاحب ( الكشاف ) لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلا للبشر والسبب اللذين منهما تفرعوا جعلا كأنهما البشر أنفسهم فخوطبا مخاطبتهم فقال فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم على لفظ الجماعة أما قوله بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فقال القاضي يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء للناس والناس أعداء لهم فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام وقوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى َ فيه دلالة على أن المراد الذرية وقد اختلفوا في المراد بالهدى فقال بعضهم الرسل وبعضهم قال الآخر والأدلة وبعضهم قال القرآن والتحقيق أن الهدى عبارة عن الدلالة فيدخل فيه كل ذلك وفي قوله فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى دلالة على أن المراد بالهدى الذي ضمن الله على اتباعه ذلك اتباع الأدلة واتباعها لا يتكامل إلا بأن يستدل بها وبأن يعمل بها ومن هذا حاله فقد ضمن الله تعالى له أن لا يضل ولا يشقى وفيه ثلاثة أوجه أحدها لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وثانيها لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة ويمكنه فيها وثالثها لا يضل ولا يشقى في الدنيا فإن قيل المتبع لهدى الله قد يحلقه الشقاء في الدنيا قلنا المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل الشقاء بسبب آخر فلا بأس ولما وعد الله تعالى من يتبع الهدى أتبعه بالوعيد فيمن أعرض فقال وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى على ما تقدم بيانه ويحتمل أن يراد به الأدلة وقوله فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ً ضَنكاً فالضنك أصله الضيق والشدة وهو مصدر ثم يوصف به فيقال منزل ضنك وعيش ضنك فكأنه قال معيشة ذات ضنك واعلم أن هذا الضيق المتوعد به إما أن يكون في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين أو في كل ذلك أو أكثره أما الأول فقال به جمع من المفسرين وذلك لأن المسلم لتوكله على الله يعيش في الدنيا عيشاً طيباً كما قال فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيّبَة ً ( النحل 97 ) والكافر بالله يكون حريصاً على الدنيا طالباً للزيادة أبداً فعيشته ضنك(22/112)
وحالته مظلمة وأيضاً فمن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره قال تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ وَالْمَسْكَنَة ُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ( البقرة 61 ) وقال وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ( المائدة 66 ) وقال تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( الأعراف 96 ) وقال اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ( نوح 10 12 ) وقال وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَة ِ لاَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ( الجن 16 ) وأما الثاني وهو عذاب القبر فهذا قول عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس ورفعه أبو هريرة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن عذاب القبر للكافر قال والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنيناً ) قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في الأسود بن عبد العزى المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيها أضلاعه وأما الثالث وهو الضيق في الآخرة في جهنم فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين فلا يموتون فيها ولا يحيون وهذا قول الحسن وقتادة والكلبي وأما الرابع وهو الضيق في أحوال الدين فقال ابن عباس رضي الله عنهما المعيشة الضنك هي أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها سئل الشبلي عن قوله عليه السلام ( إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية ) فقال أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأي معيشة أضيق وأشد من أن يرد الإنسان إلى نفسه وعن عطاء قال المعيشة الضنك هي معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب وأما الخامس وهو أن يكون المراد الضيق في كل ذلك أو أكثره فروي عن علي عليه السلام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( عقوبة المعصية ثلاثة ضيق المعيشة والعسر في الشدة وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله تعالى ) أما قوله تعالى وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ أَعْمَى ففيه وجوه أحدها هذا مثل قوله وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا ( الإسراء 97 ) وكما فسرت الزرقة بالعمى ثم قيل إنه يحشر بصيراً فإذا سيق إلى المحشر عمى والكلام فيه وعليه قد تقدم في قوله زُرْقاً ( طه 132 ) وثانيها قال مجاهد والضحاك ومقاتل يعني أعمى عن الحجة وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال القاضي هذا القول ضعيف لأن في القيامة لا بد أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه حتى يتميز لهم الحق من الباطل ومن هذا حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً والمراد به أنه كان من قبل ذلك كذلك ولا يليق بهذا قوله وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ولم يكن كذلك في حال الدنيا أقول ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا فلو كان العمى الحاصل في الآخرة بين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر كما أنه ما كان له في الدنيا بسبب ذلك ضرر واعلم أن تحقيق الجواب عن هذا الاعتراض مأخوذ من أمر آخر وهو أن الأرواح الجاهلة في الدنيا المفارقة عن أبدانها على جهالتها تبقى على تلك الجهالة في الآخرة وأن تلك الجهالة تصير هناك سبباً لأعظم الآلام الروحانية وبين هذه الطريقة وبين طريقة القاضي المبنية على أصول الاعتزال بون شديد وثالثها قال الجبائي المراد من حشره أعمى أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيراً بل يبقى واقفاً متحيراً كالأعمى الذي لا يهتدي إلى شيء أما قوله قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ففي تقرير هذا الجواب وجهان أحدهما أنه تعالى إنما أنزل به هذا(22/113)
العمى جزاء على تركه اتباع الهدى والإعراض عنه والثاني هو أن الأرواح البشرية إذا فارقت أبدانها جاهلة ضالة عن الاتصال بالروحانيات بقيت على تلك الحالة بعد المفارقة وعظمت الآلام الروحانية فلهذا علل الله تعالى حصول العمى في الآخرة بالإعراض عن الدلائل في الدنيا ومن فسر المعيشة الضنك بالضيق في الدنيا قال إنه تعالى بين أن من أعرض عن ذكره في الدنيا فله المعيشة الضنك في الدنيا والعمى في الآخرة أما قوله وَكَذالِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِئَايَاتِ رَبّهِ فقد اختلفوا فيه فبعضهم قال أشرك وكفر وبعضهم قال أسرف في أن عصى الله وقد بين تعالى المراد بذلك بقوله وَلَمْ يُؤْمِن بِئَايَاتِ رَبّهِ لأن ذلك كالتفسير لقوله أسرف وبين أنه يجزي من هذا حاله بما تقدم ذكره من المعيشة الضنك والعمى وبين بعد ذلك أن عَذَابَ الاْخِرَة ِ أَشَدُّ وَأَبْقَى أما الأشد فلعظمه وأما الأبقى فلأنه غير منقطع
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لاٌّ وْلِى النُّهَى وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَآءِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى
اعلم أنه تعالى لما بين أن من أعرض عن ذكره كيف يحشر يوم القيامة أتبعه بما يعتبر ( به ) المكلف من الأحوال الواقعة في الدنيا بمن كذب الرسل فقال أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ والقراءة العامة أفلم يهد بالياء المعجمة من تحت وفاعله هو قوله كَمْ أَهْلَكْنَا قال القفال جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم كما جعل مثل ذلك واعظاً لهم وزاجراً وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي أفلم نهد لهم بالنون قال الزجاج يعني أفلم نبين لهم بياناً يهتدون به لو تدبروا وتفكروا وأما قوله كَمْ أَهْلَكْنَا فالمراد به المبالغة في كثرة من أهلكه الله تعالى من القرون الماضية وأراد بقوله يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ أن قريشاً يشاهدون تلك الآيات العظيمة الدالة على ما كانوا عليه من النعم وما حل بهم من ضروب الهلاك وللمشاهدة في ذلك من الاعتبار ما ليس لغيره وبين أن في تلك الآيات آيات لأولى النهى أي لأهل العقول والأقرب أن للنهية مزية على العقل والنهي لا يقال إلا فيمن له عقل ينتهي به عن القبائح كما أن لقولنا أولو العزم مزية على أولو الحزم فلذلك قال بعضهم أهل الورع وأهل التقوى ثم بين تعالى الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلاً على من كذب وكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى وفيه تقديم وتأخير والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً ولا شبهة في أن الكلمة هي إخبار الله تعالى ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ أن أمته عليه السلام وإن كذبوا فسيؤخرون ولا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال واختلفوا فيما لأجله لم يفعل ذلك بأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال بعضهم لأنه علم أن فيهم من يؤمن(22/114)
وقال آخرون علم أن في نسلهم من يؤمن ولو أنزل بهم العذاب لعمهم الهلاك وقال آخرون المصلحة فيه خفية لا يعلمها إلا هو وقال أهل السنة له بحكم المالكية أن يخص من شاء بفضله ومن شاء بعذابه من غير علة إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن كانت حادثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل فلهذا قال أهل التحقيق كل شيء صنيعه لا لعلة وأما الأجل المسمى ففيه قولان أحدهما ولولا أجل مسمى في الدنيا لذلك العذاب وهو يوم بدر والثاني ولولا أجل مسمى في الآخرة لذلك العذب وهو أقرب ويكون المراد ولولا كلمة سبقت تتضمن تأخير العذاب إلى الآخرة كقوله بَلِ السَّاعَة ُ مَوْعِدُهُمْ ( القمر 46 ) لكان العقاب لازماً لهم فيما يقدمون عليه من تكذيب الرسول وأذيتهم له ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه بأنه لا يهلك أحداً قبل استيفاء أجله أمره بالصبر على ما يقولون ولا شبهة في أن المراد أن يصبر على ما يكرهه من أقوالهم فيحتمل أن يكون ذلك قول بعضهم إنه ساحر أو مجنون أو شاعر إلى غير ذلك ويحتمل أن يكون المراد تكذيبهم له فيما يدعيه من النبوة ويحتمل أيضاً تركهم القبول منه لأن كل ذلك مما يغمه ويؤذيه فرغبه تعالى في الصبر وبعثه على الإدامة على الدعاء إلى الله تعالى وإبلاغ ما حمل من الرسالة وأن لا يكون ما يقدمون عليه صارفاً له عن ذلك ثم قال الكلبي ومقاتل هذه الآية منسوخة بآية القتال ثم قال وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وهو نظير قوله وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 45 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى بِحَمْدِ رَبّكَ في موضع الحال وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه
المسألة الثانية إنما أمر عقيب الصبر بالتسبيح لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى
المسألة الثالثة اختلفوا في التسبيح على وجهين فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها أن الآية تدل على أن الصلوات الخمس لا أزيد ولا أنقص فقال ابن عباس رضي الله عنهما دخلت الصلوات الخمس فيه فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر وقبل غروبها هو الظهر والعصر لأنهما جميعاً قبل الغروب ومن آناء الليل فسبح المغرب والعشاء الأخيرة ويكون قوله وَأَطْرَافَ النَّهَارِ كالتوكيد للصلاتين الواقعتين في طرفي النهار وهما صلاة الفجر وصلاة المغرب كما اختصت في قوله حَافِظُواْ عَلَى ( البقرة 238 ) بالتوكيد القول الثاني أن الآية تدل على الصلوات الخمس وزيادة أما دلالتها على الصلوات الخمس فلأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين فأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما بقي قوله وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وأطراف النهار للنوافل القول الثالث أنها تدل على أقل من الخمس فقوله قبل طلوع الشمس للفجر وقبل غروبها للعصر ومن آناء الليل للمغرب والعتمة فيبقى الظهر خارجاً والقول الأول أقوى وبالاعتبار أولى هذا كله إذا حملنا التسبيح على الصلاة قال أبو مسلم لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره وذلك لأنه تعالى صبره أولاً على ما يقولون من تكذيبه ومن إظهار الشرك والكفر(22/115)
والذي يليق بذلك أن يأمر بتنزيهه تعالى عن قولهم حتى يكون دائماً مظهراً لذلك وداعياً إليه فلذلك قال ما يجمع كل الأوقات
المسألة الرابعة أفضل الذكر ما كان بالليل لأن الجمعية فيه أكثر وذلك لسكون الناس وهدء حركاتهم وتعطيل الحواس عن الحركات وعن الأعمال ولذلك قال سبحانه وتعالى إِنَّ نَاشِئَة َ الَّيْلِ هِى َ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً ( المزمل 6 ) وقال أَم مَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَة َ ( الزمر 9 ) ولأن الليل وقت السكون والراحة فإذا صرف إلى العبادة كانت على الأنفس أشق وللبدن أتعب فكانت أدخل في استحقاق الأجر والفضل
المسألة الخامسة لقائل أن يقول النهار له طرفان فكيف قال وَأَطْرَافَ النَّهَارِ بل الأولى أن يقول كما قال وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ ( هود 114 ) وجوابه من الناس من قال أقل الجمع اثنان فسقط السؤال ومنهم من قال إنما جمع لأنه يتكرر في كل نهار ويعود أما قوله تعالى لَعَلَّكَ تَرْضَى ففيه وجوه أحدها أن هذا كما يقول الملك الكبير يا فلان اشتغل بالخدمة فلعلك تنتفع به ويكون المراد إني أوصلك إلى درجة عالية في النعمة وهو إشارة إلى قوله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) وقوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وثانيها لعلك ترضى ما تنال من الثواب وثالثها لعلك ترضى ما تنال من الشفاعة وقرأ الكسائي وعاصم لعلك ترضى بضم التاء والمعنى لا يختلف لأن الله تعالى إذا أرضاه فقد رضيه وإذا رضيه فقد أرضاه
وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَة ُ لِلتَّقْوَى وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِأايَة ٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاٍّ ولَى وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى
اعلم أنه تعالى لما صبر رسوله عليه السلام على ما يقولون وأمره بأن يعدل إلى التسبيح أتبع ذلك(22/116)
بنهيه عن مد عينيه إلى ما متع به القوم فقال تعالى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وجهان أحدهما المراد منه نظر العين وهؤلاء قالوا مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه إعجاباً به كما فعل نظارة قارون حيث قالوا الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِى َ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ ( القصص 79 ) حتى واجههم أولوا العلم والإيمان بقولهم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ( القصص 80 ) وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه وذلك كما إذا نظر الإنسان إلى شيء مرة ثم غض ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع قيل وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تفعل ما أنت معتاد له ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمركوب وغير ذلك لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمقوى لهم على اتخاذها القول الثاني قال أبو مسلم الذي نهى عنه بقوله وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ليس هو النظر بل هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا
المسألة الثانية قال أبو رافع ( نزل ضيف بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف فقال والله لا أفعل ذلك إلا برهن فأخبرته بقوله فأمرني أن أذهب بدرعه إليه فنزل قوله تعالى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) وقال عليه السلام ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم ) وقال أبو الدرداء الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له وعن الحسن لولا حمق الناس لخربت الدنيا وعن عيسى ابن مريم عليه السلام قال لا تتخذوا الدنيا رباً فتتخذكم لها عبيداً وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رآى ما عند السلاطين يتلو هذه الآية وقال الصلاة يرحمكم الله أما قوله عز وجل إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ ( أي ) ألذذنا به والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الروائح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح يقال أمتعه إمتاعاً ومتعه تمتيعاً والتفعيل يقتضي التكثير أما قوله أَزْواجاً مّنْهُمْ أي أشكالاً وأشباهاً من الكفار وهي من المزاوجة بين الأشياء وهي المشاكلة وذلك لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب وقال ابن عباس رضي الله عنهما أصنافاً منهم وقال الكلبي والزجاج رجالاً منهم أما قوله زَهْرَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ففي انتصابه أربعة أوجه أحدها على الذم وهو النصب على الاختصاص أو على تضمين متعنا معنى أعطينا وكونه مفعولاً ثانياً له أو على إبداله من محل الجار والمجرور أو على إبداله من أزواجاً على تقدير ذوي فإن قيل ما معنى الزهرة فيمن حرك قلنا معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة كما جاء في الجهرة قرىء أرنا الله جهرة وأن يكون جمع زاهر وصفاً لهم بأنهم زهرة هذه الدنيا لصفاء ألوانهم وتهلل وجوههم بخلاف ما عليه الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب أما قوله لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ فذكروا فيه وجوهاً أحدها لنعذبهم به كقوله فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( التوبة 55 ) وثانيها قال ابن عباس رضي الله عنهما إضلالاً مني لهم وثالثها قال الكبي ومقاتل تشديداً في التكاليف عليهم لأن الإعراض عن الدنيا عند حضورها والإقبال إلى الله أشد من ذلك عند عدم حضورها ولذلك كان رجوع الفقراء إلى خدمة الله تعالى والتضرع إليه أكثر من تضرع الأغنياء ولأن على من أوتي الدنيا ضروباً من التكليف لولاها لما لزمتهم تلك التكاليف ولأن القادر على المعاصي يكون الاجتناب(22/117)
عن المعاصي أشق عليه من العاجز الفقير فمن هذه الجهات تكون الزيادة في الدنيا تشديداً في التكليف ثم قال لرسوله وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى والأظهر أن المراد أن مطلوبك الذي تجده من الثواب خير من مطلوبهم وأبقى لأنه يدوم ولا ينقطع وليس كذلك حال ما أوتوه من في الدنيا ويحتمل أن يكون المراد ما أوتيته من يسير الدنيا إذا قرنته بالطاعة خير لك من حيث العاقبة وأبقى فذكر الرزق في الدنيا ووصفه بحسن عاقبته إذا رضي به وصبر عليه ويحتمل أن يكون المراد ما أعطى من النبوة والدرجات الرفيعة وأما قوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ فمنهم من حمله على أقاربه ومنهم من حمله على كل أهل دينه وهذا أقرب وهو كقوله وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ ( مريم 55 ) وإن احتمل أن يكون المراد من يضمه المسكن إذ التنبيه على الصلاة والأمر بها في أوقاتها ممكن فيهم دون سائر الأمة يعنى كما أمرناك بالصلاة فامر أنت قومك بها أما قوله وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا فالمراد كما تأمرهم فحافظ عليها فعلاً فإن الوعظ بلسان الفعل أتم منه بلسان القول وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعلي عليهما السلام كل صباح ويقول ( الصلاة ) وكان يفعل ذلك أشهراً ثم بين تعالى أنه إنما يأمرهم بذلك لمنافعهم وأنه متعال عن المنافع بقوله لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وفيه وجوه أحدها قال أبو مسلم المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج وهو كقوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( الذاريات 56 57 ) وثانيها لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك ونرزق أهلك ففرغ بالك لأمر الآخرة وفي معناه قول الناس من كان في عمل الله كان الله في عمله وثالثها المعنى أنا لما أمرناك بالصلاة فليس ذلك لأنا ننتفع بصلاتك فعبر عن هذا المعنى بقوله لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً بل نحن نرزقك في الدنيا بوجوه النعم وفي الآخرة بالثواب قال عبد الله بن سلام ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية ) واعلم أنه ليس في الآية رخصة في ترك التكسب لأنه تعالى قال في وصف المتقين رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( النور 37 ) أما قوله والعاقبة للتقوى فالمراد والعاقبة الجميلة لأهل التقوى يعني تقوى الله تعالى ثم إنه سبحانه بعد هذه الوصية حكى عنهم شبهتهم فكأنه من تمام قوله فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( طه 130 ) وهي قولهم لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَة ٍ مّن رَّبّهِ أوهموا بهذا الكلام أنه يكلفهم الإيمان من غير آية وقالوا في موضع آخر بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ( الأنبياء 5 ) وأجاب الله تعالى عنه بقوله أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى وفيه وجوه أحدها أن ما في القرآن إذ وافق ما في كتبهم مع أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشتغل بالدراسة والتعلم وما رأى أستاذاً ألبتة كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً وثانيها أن بينة ما في الصحف الأولى ما فيها من البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبنبوته وبعثته وثالثها ذكر ابن جرير والقفال ( أن ) المعنى أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات وكفروا بها كيف عاجلناهم بالعقوبة فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه بَيّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى واعلم أنه إنما ذكر الضمير الراجع إلى البينة لأنها في معنى البرهان والدليل ثم بين أنه تعالى أزاح لهم كل عذر وعلة في التكليف فقال وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً والمراد كان لهم أن يقولوا ذلك فيكون عذراً لهم فأما الآن وقد أرسلناك وبينا على لسانك لهم ما(22/118)
عليهم وما لهم فلا حجة لهم البتة بل الحجة عليهم ومعنى مِن قَبْلِهِ يحتمل من قبل إرساله ويحتمل من قبل ما أظهره من البينات فإن قيل فما معنى قوله وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ لَقَالُواْ ( طه 134 ) والهالك لا يصح أن يقول قلنا المعنى لكان لهم أن يقولوا ذلك يوم القيامة ولذلك قال مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى وذلك لا يليق إلا بعذاب الآخرة روي أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال عليه السلام ( يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك لك وتلا قوله لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلاً أنتفع به ويقول الصبي كنت صغيراً لا أعقل فترفع لهم نار ويقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله تعالى أنه شقي ويبقى من في علمه أنه سعيد فيقول الله تعالى لهم ( عصيتم اليوم فكيف برسلي لو أتوكم ) والقاضي طعن في الخبر وقال لا يحسن العقاب على من لا يعقل واعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى قال الجبائي هذه الآية تدل على وجوب فعل اللطف إذ المراد أنه يجب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده ولو لم يفعل لكان لهم أن يقولوا هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن وهلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك وإن كان المعلوم أنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم الرسول لم يكن في ذلك حجة فصح أنه إنما يكون حجة لهم إذا كان في المعلوم أنهم يؤمنون عنده إذا أطاعوه
المسألة الثانية قال الكعبي قوله لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً أوضح دليل على أنه تعالى يقبل الاحتجاج من عباده وأنه ليس قوله لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ( الأنبياء 23 ) كما ظنه أهل الجبر من أن ما هو جور منا يكون عدلاً منه بل تأويله أنه لا يقع منه إلا العدل فإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة
المسألة الثالثة قال أصحابنا الآية تدل على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع إذ لو تحقق العقاب قبل مجيء الشرع لكان العقاب حاصلاً قبل مجيء الشرع
ثم إنه سبحانه ختم السورة بضرب من الوعيد فقال قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ أي كل منا ومنكم منتظر عاقبة أمره وهذا الانتظار يحتمل أن يكون قبل الموت إما بسبب الأمر بالجهاد أو بسبب ظهور الدولة والقوة ويحتمل أن يكون بالموت فإن كل واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه ويحتمل أن يكون بعد الموت وهو ظهور أمر الثواب والعقاب فإنه يتميز في الآخرة المحق من المبطل بما يظهر على المحق من أنواع كرامة الله تعالى وعلى المبطل من أنواع إهانته فَسَتَعْلَمُونَ عند ذلك مَنْ أَصْحَابُ الصّرَاطِ السَّوِيّ وَمَنِ اهْتَدَى إليه وليس هو بمعنى الشك والترديد بل هو على سبيل التهديد والزجر للكفار والله أعلم(22/119)
سورة الأنبياء عليهم السلام
مائة واثنتا عشرة آية مكية
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَة ً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
اعلم أن قوله تعالى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ فيه مسائل
المسألة الأولى القرب لا يعقل إلا في المكان والزمان والقرب المكاني ههنا ممتنع فتعين القرب الزماني والمعنى اقترب للناس وقت حسابهم
المسألة الثانية لقائل أن يقول كيف وصف بالاقتراب وقد عبر بعد هذا القول قريب من ستمائة عام والجواب من ثلاثة أوجه أحدها أنه مقترب عند الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَة ٍ مّمَّا تَعُدُّونَ ( الحج 47 ) وثانيها أن كل آت قريب وإن طالت أوقات ترقبه وإنما البعيد هو الذي انقرض قال الشاعر فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
وثالثها أن المعاملة إذا كانت مؤجلة إلى سنة ثم انقضى منها شهر فإنه لا يقال اقترب الأجل أما إذا كان الماضي أكثر من الباقي فإنه يقال اقترب الأجل فعلى هذا الوجه قال العلماء إن فيه دلالة على قرب(22/120)
القيامة ولهذا الوجه قال عليه السلام ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وهذا الوجه قيل إنه عليه السلام ختم به النبوة كل ذلك لأجل أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي
المسألة الثالثة إنما ذكر تعالى هذا الاقتراب لما فيه من المصلحة للمكلفين فيكون أقرب إلى تلافي الذنوب والتحرر عنها خوفاً من ذلك والله أعلم
المسألة الرابعة إنما لم يعين الوقت لأجل أن كتمانه أصلح كما أن كتمان وقت الموت أصلح
المسألة الخامسة الفائدة في تسمية يوم القيامة بيوم الحساب أن الحساب هو الكاشف عن حال المرء فالخوف من ذكره أعظم
المسألة السادسة يجب أن يكون المراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون دون من لا مدخل له ثم قال ابن عباس المراد بالناس المشركون وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين أما قوله تعالى وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ مُّعْرِضُونَ فاعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين الغفلة والإعراض أما الغفلة فالمعنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسىء ثم إذا انتبهوا من سنة الغفلة ورقدة الجهالة مما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم
أما قوله مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن أبي عبلة محدث بالرفع صفة للمحل
المسألة الثانية إنما ذكر الله تعالى ذلك بياناً لكونهم معرضين وذلك لأن الله تعالى يجدد لهم الذكر وقتاً فوقتاً ويظهر لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون فما يزيدهم ذلك إلا لعباً واستسخاراً
المسألة الثالثة المعتزلة احتجوا على حدوث القرآن بهذه الآية فقالوا القرآن ذكر والذكر محدث فالقرآن محدث بيان أن القرآن ذكر قوله تعالى في صفة القرآن إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( ص 87 ) وقوله وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وقوله ص وَالْقُرْءانِ ذِى الذّكْرِ ( ص 1 ) وقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) وقوله وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ ( يس 69 ) وقوله وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ( الأنبياء 5 ) وبيان أن الذكر محدث قوله في هذا الموضع مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ وقوله في سورة الشعراء مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ ثم قالوا فصار مجموع هاتين المقدمتين المنصوصتين كالنص في أن القرآن محدث والجواب من وجهين الأول أن قوله إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وقوله وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ إشارة إلى المركب من الحروف والأصوات فإذا ضممنا إليه قوله مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ لزم حدوث المركب من الحروف والأصوات وذلك مما لا نزاع فيه بل حدوثه معلوم بالضرورة وإنما النزاع في قدم كلام الله تعالى بمعنى آخر الثاني أن قوله مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً بل على ذكر ما محدث كما أن قول القائل لا يدخل هذه البلدة رجل فاضل إلا يبغضونه فإنه لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلاً بل(22/121)
على أن في الرجال من هو فاضل وإذا كان كذلك فالآية لا تدل إلا على أن بعض الذكر محدث فيصير نظم الكلام هكذا القرآن ذكر وبعض الذكر محدث وهذا لا ينتج شيئاً كما أن قول القائل الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس لا ينتج شيئاً فظهر أن الذي ظنوه قاطعاً لا يفيد ظناً ضعيفاً فضلاً عن القطع أما قوله إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَة ً قُلُوبُهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أن ذلك ذم للكفار وزجر لغيرهم عن مثله لأن الإنتفاع بما يسمع لا يكون إلا بما يرجع إلى القلب من تدبر وتفكر وإذا كانوا عند استماعه لاعبين حصلوا على مجرد الاستماع الذي قد تشارك البهيمة فيه الإنسان ثم أكد تعالى ذمهم بقوله لاَهِيَة ً قُلُوبُهُمْ واللاهية من لهى عنه إذا ذهل وغفل وإنما ذكر اللعب مقدماً على اللهو كما في قوله تعالى إِنَّمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ( محمد 36 ) تنبيهاً على أن اشتغالهم باللعب الذي معناه السخرية والإستهزاء معلل باللهو الذي معناه الذهول والغفلة فإنهم أقدموا على اللعب للهوهم وذهولهم عن الحق والله أعلم بالصواب
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَة ً قُلُوبُهُمْ حالان مترادفان أو متداخلان ومن قرأ لاهية بالرفع فالحال واحدة لأن لاهية قلوبهم خبر بعد خبر لقوله وَهُمْ
أما قوله وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ففيه سؤالان
السؤال الأول النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية فما معنى قوله وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الجواب معناه بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم
السؤال الثاني لم قال وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الجواب أبدل الذين ظلموا من أسروا إشعاراً بأنهم هم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به أو جاء على لغة من قال أكلوني البراغيث أو هو منصوب المحل على الذم أو هو مبتدأ خبره أَسَرُّواْ النَّجْوَى قدم عليه والمعنى وهؤلاء أسروا النجوى فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم
أما قوله هَلْ هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف هذا الكلام كله في محل النصب بدلاً من النجوى أي وأسروا هذا الحديث ويحتمل أن يكون التقدير وأسروا النجوى وقالوا هذا الكلام
المسألة الثانية إنما أسروا هذا الحديث لوجهين أحدهما أنه كان ذلك شبهة التشاور فيما بينهم والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره وعادة المتشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرهم عن أعدائهم الثاني يجوز أن يسروا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله والمؤمنين إن كان ما تدعونه حقاً فأخبرونا بما أسررناه
المسألة الثالثة أنهم طعنوا في نبوته بأمرين أحدهما أنه بشر مثلهم والثاني أن الذي أتى به سحر وكلا الطعنين فاسد أما الأول فلأن النبوة تقف صحتها على المعجزات والدلائل لا على الصور إذ لو بعث الملك إليهم لما علم كونه نبياً لصورته وإنما كان يعلم بالعلم فإذا ظهر ذلك على من هو بشر فيجب أن يكون نبياً بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشراً لأن المرء إلى القبول من أشكاله أقرب(22/122)
وهو به آنس وأما الثاني وهو أن ما أتى به الرسول عليه السلام سحر وأنهم يرون كونه سحراً فجهل أيضاً لأن كل ما أتى به الرسول من القرآن وغيره ظاهر الحال لا تمويه فيه ولا تلبيس فيه فقد كان عليه السلام يتحداهم بالقرآن حالاً بعد حال مدة من الزمان وهم أرباب الفصاحة والبلاغة وكانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره وأقوى الأمور في إبطال أمره معارضة القرآن فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها لأن الفعل عند توافر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع فلما لم يأتوا بها دلنا ذلك على أنه في نفسه معجزة وأنهم عرفوا حاله فكيف يجوز أن يقال إنه سحر والحال على ما ذكرناه وكل ذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بصدقه إلا أنهم كانوا يموهون على ضعفائهم بمثل هذا القول وإن كانوا فيه مكابرين
قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَآءِ والأرض وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِأايَة ٍ كَمَآ أُرْسِلَ الاٌّ وَّلُونَ مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ
أما قوله قَالَ رَبّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَاء وَالاْرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء قَالَ رَبّى حكاية لقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وقرأ الباقون قل بضم القاف وحذف الألف وسكون اللام
المسألة الثانية أنه تعالى لما أورد هذا الكلام عقيب ما حكى عنهم وجب أن يكون كالجواب لما قالوه فكأنه قال إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فإن ربي عالم بذلك وإنه من وراء عقوبته فتوعدوا بذلك لكي لا يعودوا إلى مثله
المسألة الثالثة قال صاحب الكشاف فإن قلت فهلا قيل له يعلم السر لقوله وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى ( الأنبياء 3 ) قلت القول علام يشمل السر والجهر فكأن في العلم به العلم بالسر وزيادة فكأن آكد في بيان الإطلاع على نجواهم من أن يقول يَعْلَمُ السّرَّ كما أن قوله تعالى يَعْلَمُ السّرَّ آكد من أن يقول يعلم سرهم فإن قلت فلم ترك الآكد في سورة الفرقان في قوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الفرقان 6 ) قلت ليس بواجب أن يجيء بالآكد في قوله في كل موضع ولكن يجيء بالتوكيد مرة وبالآكد مرة أخرى ثم الفرق أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى فكأنه أراد أن يقول إن ربي يعلم ما أسروه فوضع القول موضع ذلك للمبالغة وثمة قصد وصف ذاته بأن قال أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فهو كقوله عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( سبأ 48 ) عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ ( سبأ 3 )
المسألة الرابعة إنما قدم السميع على العليم لأنه لا بد من سماع الكلام أولاً ثم من حصول العلم بمعناه أما قوله بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِئَايَة ٍ كَمَا أُرْسِلَ الاْوَّلُونَ فاعلم أنه(22/123)
تعالى عاد إلى حكاية قولهم المتصل بقوله هَلْ هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ ( الأنبياء 3 ) ثم قال بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فحكى عنهم ثم هذه الأقوال الخمسة فترتيب كلامهم كأنهم قالوا ندعي أن كونه بشراً مانع من كونه رسولاً لله تعالى سلمنا أنه غير مانع ولكن لا نسلم أن هذا القرآن معجز ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدور البشر قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك سحراً وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا إنها أضغاث أحلام وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراه وإن ادعينا إنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعراء وعلى جميع هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزاً ولما فرغوا من تعديد هذه الاحتمالات قالوا بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ فالمراد أنهم طلبوا آية جلية لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كالآيات المنقولة عن موسى وعيسى عليهما السلام ثم إن الله تعالى بدأ بالجواب عن هذا السؤال الأخير بقوله مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ والمعنى أنهم في العتو أشد من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا فأهلكهم الله فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثاً قال الحسن رحمه الله تعالى إنهم لم يجابوا لأن حكم الله تعالى أن من كذب بعد الإجابة إلى ما اقترحه من الآيات فلا بد من أن ينزل به عذاب الاستئصال وقد مضى حكمه في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم
وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
اعلم أنه تعالى أجاب عن سؤالهم الأول وهو قولهم مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( المؤمنون 33 ) بقوله وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فبين أن هذه عادة الله تعالى في الرسل من قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يمنع ذلك من كونهم رسلاً للآيات التي ظهرت عليهم فإذا صح ذلك فيهم فقد ظهر على محمد مثل آياتهم فلا مقال عليه في كونه بشراً فأما قوله تعالى فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ فالمعنى أنه تعالى أمرهم أن يسألوا أهل الذكر وهم أهل الكتاب حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشراً ولم يكونوا ملائكة وإنما أحالهم على هؤلاء لأنهم كانوا يتابعون المشركين في معاداة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال تعالى وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( آل عمران 186 ) فإن(22/124)
قيل إذا لم يوثق باليهود والنصارى فكيف يجوز أن يأمرهم بأن يسألوهم عن الرسل قلنا إذا تواتر خبرهم وبلغ حد الضرورة جاز ذلك كما قد يعمل بخبر الكفار إذا تواتر مثل ما يعمل بخبر المؤمنين ومن الناس من قال المراد بأهل الذكر أهل القرآن وهو بعيد لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للعامي أن يرجع إلى فتيا العلماء وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر فبعيد لأن هذه الآية خطاب مشافة وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين ثم بين تعالى أنه لم يجعل الرسل قبله جسداً لا يأكلون الطعام وفيه أبحاث
البحث الأول قوله لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ صفة جسد والمعنى وما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين
البحث الثاني وحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال ذوي ضرب من الأجساد
البحث الثالث أنهم كانوا يقولون مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ( الفرقان 7 ) فأجاب الله بقوله وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ فبين تعالى أن هذه عادة الله في الرسل من قبل وأنه لم يجعلهم جسداً لا يأكلون بل جسداً يأكلون الطعام ولا يخلدون في الدنيا بل يموتون كغيرهم ونبه بذلك على أن الذي صاروا به رسلاً غير ذلك وهو ظهور المعجزات على أيديهم وبراءتهم عن الصفات القادحة في التبليغ أما قوله تعالى ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فقال صاحب ( الكشاف ) هو مثل قوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ( الأعراف 155 ) والأصل في الوعد ومن قومه ومنه صدقوهم المقال وَمَن نَّشَاء هم المؤمنون قال المفسرون المراد منه أنه تقدم وعده جل جلاله بأنه إنما يهلك بعذاب الاستئصال من كذب الرسل دون نفس الرسل ودون من صدق بهم وجعل الوفاء بما وعد صدقاً من حيث يكشف عن الصدق ومعنى وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ أي بعذاب الاستئصال وليس المراد عذاب الآخرة لأنه إخبار عما مضى وتقدم ثم بين تعالى بقوله لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ عظيم نعمته عليهم بالقرآن في الدين والدنيا فلذلك قال فيه ذِكْرُكُمْ وفيه ثلاثة أوجه أحدها ذكركم شرفكم وصيتكم كما قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وثانيها المراد فيه تذكرة لكم لتحذروا ما لا يحل وترغبوا فيما يجب ويكون المراد بالذكر الوعد والوعيد كما قال وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( الذاريات 55 ) وثالثها المراد ذكر دينكم ما يلزم وما لا يلزم لتفوزوا بالجنة إذا تمسكتم به وكل ذلك محتمل وقوله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ كالبعث على التدبر في القرآن لأنهم كانوا عقلاء لأن الخوض من لوازم الغفلة والتدبر دافع لذلك الخوض ودفع الضرر عن النفس من لوازم الفعل فمن لم يتدبر فكأنه خرج عن العقل
وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَة ٍ كَانَتْ ظَالِمَة ً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ(22/125)
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم تلك الاعتراضات وكانت تلك الاعتراضات ظاهرة السقوط لأن شرائط الإعجاز لما تمت في القرآن ظهر حينئذ لكل عاقل كونه معجزاً وعند ذلك ظهر أن اشتغالهم بإيراد تلك الاعتراضات كان لأجل حب الدنيا وحب الرياسة فيها فبالغ سبحانه في زجرهم عن ذلك فقال وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَة ٍ قال صاحب ( الكشاف ) القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف القصم وذكر القرية وأنها ظالمة وأراد أهلها توسعاً لدلالة العقل على أنها لا تكون ظالمة ولا مكلفة ولدلالة قوله تعالى وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَة ٍ فالمعنى أهلكنا قوماً وأنشأنا قوماً آخرين وقال فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إلى قوله قَالُواْ يأَبَانَا قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ وكل ذلك لا يليق إلا بأهلها الذين كلفوا بتصديق الرسل فكذبوهم ولولا هذه الدلائل لما جاز منه سبحانه ذكر المجاز لأنه يكون ذلك موهماً للكذب واختلفوا في هذا الإهلاك فقال ابن عباس المراد منه القتل بالسيوف والمراد بالقرية حضور وهي وسحول قريتان باليمن ينسب إليهما الثياب وفي الحديث ( كفن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ثوبين سحوليين ) وروى ( حضوريين بعث الله إليهم نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم ) وروى ( أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء ) فندموا واعترفوا بالخطأ وقال الحسن المراد عذاب الاستئصال واعلم أن هذا أقرب لأن إضافة ذلك إلى الله تعالى أقرب من إضافته إلى القاتل ثم بتقدير أن يحمل ذلك على عذاب القتل فما الدليل على قول ابن عباس ولعل ابن عباس ذكر حضور بأنها إحدى القرى التي أرادها الله تعالى بهذه الآية وأما قوله تعالى فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ فالمعنى لما علموا شدة عذابنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا في ديارهم والركض ضرب الدابة بالرجل ومنه قوله تعالى ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فيجوز أن يكونوا ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين أما قوله لاَ تَرْكُضُواْ قال صاحب ( الكشاف ) القول محذوف فإن قلت من القائل قلنا يحتمل أن يكون بعض الملائكة ومن ثم من المؤمنين أو يكونوا خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثون به نفوسهم أما قوله وَارْجِعُواْ إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ أي من العيش والرفاهية والحال الناعمة والإتراف إبطار النعمة وهي الترفه أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ فهو تهكم بهم وتوبيخ ثم فيه وجوه أحدها أي ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة وثانيها ارجعوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم بم تأمرون وماذا ترسمون كعادة المخدومين وثالثها تسألكم الناس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات ويستعينون بآرائكم ورابعها يسألكم الوافدون عليكم والطامعون فيكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم وتوبيخاً إلى توبيخ أما قوله تعالى فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ فَقَالَ لأنها عدوى كأنه قيل فما زالت تلك الدعوى دعواهم(22/126)
والدعوى بمعنى الدعوة قال تعالى تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) فإن قلت لم سميت دعوى قلت لأنهم كانوا دعوا بالويل فَقَالُواْ يالَيْتَنَا أي يا ويل احضر فهذا وقتك وتلك مرفوع أو منصوب إسماً أو خبراً وكذلك كَانَ دَعْوَاهُمْ قال المفسرون لم يزالوا يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) أما قوله حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ فالحصيد الزرع المحصود أي جعلناهم مثل الحصيد شبههم به في استئصالهم كما تقول جعلناهم رماداً أي مثل الرماد فإن قيل كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل قلت حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد والمعنى جعلناهم جامعين لهذين الوصفين والمراد أنهم أهلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق لهم حس ولا حركة وجفوا كما يجف الحصيد وخمدوا كما تخمد النار
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
اعلم أن فيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما بين إهلاك أهل القرية لأجل تكذيبهم اتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً منه ومجازاة على ما فعلوا فقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ أي وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب والغرائب كما تسوى الجبابرة سقوفهم وفرشهم للهو واللعب وإنما سويناهم لفوائد دينية ودنيوية أما الدينية فليتفكر المتفكرون فيها على ما قال تعالى وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 191 ) وأما الدنيوية فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعد ولا تحصى وهذا كقوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ( ص 27 ) وقوله مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 39 ) والثاني أن الغرض منه تقرير نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والرد على منكريه لأنه أظهر المعجزة عليه فإن كان محمد كاذباً كان إظهار المعجزة عليه من باب اللعب وذلك منفي عنه وإن كان صادقاً فهو المطلوب وحينئذ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن
المسألة الثانية قال القاضي عبد الجبار دلت الآية على أن اللعب ليس من قبله تعالى إذ لو كان كذلك لكان لاعباً فإن اللاعب في اللغة اسم لفاعل اللعب فنفى الاسم الموضوع للفعل يقتضي نفي الفعل والجواب يبطل ذلك بمسألة الداعي عن ما مر غيره مرة أما قوله لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ فاعلم أن قوله لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا معناه من جهة قدرتنا وقيل اللهو الولد بلغة اليمن وقيل المرأة وقيل من لدنا أي من الملائكة لا من الإنس رداً لمن قال بولادة المسيح وعزيز فأما قوله تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فاعلم أن قوله بَلِ اضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه منه لذاته كأنه قال سبحاننا(22/127)
أن نتخذ اللهو واللعب بل من عادتنا وموجب حكمتنا أن نغلب اللعب بالجد وندحض الباطل بالحق واستعار لذلك القذف والدمغ تصويراً لإبطاله فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلاً قذف به على جرم رخو فدمغه فأما قوله تعالى وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ يعني من تمسك بتكذيب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام إلى غير ذلك من الأباطيل وهو الذي عناه بقوله مِمَّا تَصِفُونَ
وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما نفى اللعب عن نفسه ونفي اللعب لا يصح إلا بنفي الحاجة ونفي الحاجة لا يصح إلا بالقدرة التامة لا جرم عقب تلك الآية بقوله وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لدلالة ذلك على كمال الملك والقدرة الثاني وهو الأقرب أنه تعالى لما حكى كلام الطاعنين في النبوات وأجاب عنها وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد وعدم الإنقياد بين في هذه الآية أنه تعالى منزه عن طاعتهم لأنه هو المالك لجميع المحدثات والمخلوقات ولأجل أن الملائكة مع جلالتهم مطيعون له خائفون منه فالبشر مع نهاية الضعف أولى أن يطيعوه
المسألة الثانية قوله وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ معناه أن كل المكلفين في السماء والأرض فهم عبيده وهو الخالق لهم والمنعم عليهم بأصناف النعم فيجب على الكل طاعته والانقياد لحكمه
المسألة الثالثة دلالة قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ على أن الملك أفضل من البشر من ثلاثة أوجه قد تقدم بيانها في سورة البقرة
المسألة الرابعة قوله وَمَنْ عِندَهُ المراد بهم الملائكة بإجماع الأمة ولأنه تعالى وصفهم بأنهم يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ وهذا لا يليق بالبشر وهذه العندية عندية الشرف والرتبة لا عندية المكان والجهة فكأنه تعالى قال الملائكة مع كمال شرفهم ونهاية جلالتهم لا يستكبرون عن طاعته فكيف يليق بالبشر الضعيف التمرد عن طاعته
المسألة الخامسة قال الزجاج ولا يستحسرون ولا يتعبون ولا يعيون قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت الاستحسار مبالغة في الحسور فكأن الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور قلت في الأستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه وأنهم أحقاء لتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا فيما يفعلون أما قوله تعالى يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ فالمعنى أن تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم لا يتخلله فترة بفراغ أو بشغل آخر روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال قلت لكعب أرأيت قول الله تعالى يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ثم قال جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) أفلا تكون تلك الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح وأيضاً قال أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( البقرة 161 )(22/128)
فكيف يشتغلون باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح أجاب كعب الأحبار فقال التسبيح لهم كالتنفس لنا فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذا اشتغالهم بالتبسيح لا يمنعهم من سائر الأعمال فإن قيل هذا القياس غير صحيح لأن الإشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام لأن آلة التنفس غير آلة الكلام أما التسبيح واللعن فهمنا من جنس الكلام فاجتماعهما محال والجواب أي استبعاد في أن يخلق الله تعالى لهم ألسنة كثيرة ببعضها يسبحون الله وببعضها يلعنون أعداء الله أو يقال معنى قوله لاَ يَفْتُرُونَ أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال إن إفلانا يواظب على الجماعات لا يفتر عنها لا يراد به أنه أبداً مشتغل بها بل يراد به أنه مواظب على العزم على أدائها في أوقاتها
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَة ً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَة ً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِى َ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ
اعلم أن الكلام من أول السورة إلى ههنا كان في النبوات وما يتصل بها من الكلام سؤالاً وجواباً وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الأضداد والأنداد
أما قوله تعالى أَمِ اتَّخَذُواْ الِهَة ً مّنَ الاْرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) أم ههنا هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة قد أذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها والمنكر هو اتخاذهم آلهم من الأرض ينشرون الموتى ولعمري إن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات فإن قلت كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة ينشرون وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم بل كانوا في نهاية البعد عن هذه الدعوى فإنهم كانوا مع إقرارهم بالله وبأنه خالق السموات والأرض منكرين للبعث ويقولون مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة ألبتة قلت لأنهم لما اشتغلوا بعبادتها ولا بد للعبادة من فائدة هي الثواب فإقدامهم على عبادتها يوجب عليهم الإقرار بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم والتجهيل يعني إذا كانوا غير قادرين على أن يحيوا ويميتوا ويضروا وينفعوا فأي عقل يجوز اتخاذهم آلهة
المسألة الثانية قوله مّنَ الاْرْضِ كقولك فلان من مكة أو من المدينة تريد مكي أو مدني إذ معنى(22/129)
نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لأن الآلهة على ضربين أرضية وسماوية ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض لأنها إما أن تكون منحوتة من بعض الحجارة أو معمولة من بعض جواهر الأرض
المسألة الثالثة النكتة في هُمْ يُنشِرُونَ معنى الخصوصية كأنه قيل أم اتخذوا آلهة من الأرض لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم
المسألة الرابعة قرأ الحسن ( ينشرون ) وهما لغتان أنشر الله الموتى ونشرها
أما قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال أهل النحو إلا ههنا بمعنى غير أي لو كان يتولاهما ويدير أمورهما شيء غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا ولا يجوز أن يكون بمعنى الاستثناء لأنا لو حملناه على الإستثناء لكان المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد وذلك باطل لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء لم يكن الله معهم أو كان فالفساد لازم ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت أن المراد ما ذكرناه
المسألة الثانية قال المتكلمون القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالاً إنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلا بد وأن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك زيد وتسكينه فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه والآخر تسكينه فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس فلو امتنعا معاً لوجدا معاً وذلك محال أو يقع مراد أحدهما دون الثاني وذلك محال أيضاً لوجهين أحدهما أنه لو كان كل واحد منهما قادراً على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لا بد وأن يستويا في القدرة وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح وثانيهما أنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده يكون قادراً والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً والعجز نقص وهو على الله محال فإن قيل الفساد إنما يلزم عند اختلافهما في الإرادة وأنتم لا تدعون وجوب اختلافهما في الإرادة بل أقصى ما تدعونه أن اختلافهما في الإرادة ممكن فإذا كان الفساد مبنياً على الإختلاف في الإرادة وهذا الإختلاف ممكن والمبني على الممكن ممكن فكان الفساد ممكناً لا واقعاً فكيف جزم الله تعالى بوقوع الفساد قلنا الجواب من وجهين أحدهما لعله سبحانه أجرى الممكن مجرى الواقع بناء على الظاهر من حيث إن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والثاني وهو الأقوى أن نبين لزوم الفساد لا من الوجه الذي ذكرناه بل من وجه آخر فنقول لو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادراً على جميع المقدّورات فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد وهو محال لأن استناد الفعل إلى الفاعل لإمكانه فإذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلاً منهما(22/130)
جميعاً فيلزم استغناؤه عنهما معاً واحتياجه إليهما معاً وذلك محال وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد فنقول القول بوجود الإلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور لواحد منهما وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع ألبتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعاً أو نقول لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات فإن قلت لم لا يجوز أن يتفقا على الشيء الواحد ولا يلزم الفساد لأن الفساد إنما يلزم لو أراد كل واحد منهما أن يوجده هو وهذا اختلاف أما إذا أراد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما بعينه فهناك لا يلزم وقوع مخلوق بين خالقين قلت كونه موجداً له إما أن يكون نفس القدرة والإرادة أو نفس ذلك الأثر أو أمراً ثالثاً فإن كان الأول لزم الإشتراك في القدرة والإرادة والاشتراك في الموجد وإن كان الثاني فليس وقوع ذلك الأثر بقدرة أحدهما وإرادته أولى من وقوعه بقدرة الثاني لأن لكل واحد منهما إرادة مستقلة بالتأثير وإن كان الثالث وهو أن يكون الموجد له أمراً ثالثاً فذلك الثالث إن كان قديماً استحال كونه متعلق الإرادة وإن كان حادثاً فهو نفس الأثر ويصير هذا القسم هو القسم الثاني الذي ذكرناه واعلم أنك لما وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل وحدانية الله تعالى بل وجود كل واحد من الجواهر والأعراض دليل تام على التوحيد من الوجه الذي بيناه وهذه الدلالة قد ذكرها الله تعالى في مواضع من كتابه واعلم أن ههنا أدلة أخرى على وحدانية الله تعالى أحدها وهو الأقوى أن يقال لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لذاتيهما فلا بد وأن يشتركا في الوجود ولا بد وأن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بنفسه وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً مما به يشارك الآخر ومما به امتاز عنه وكل مركب فهو مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف فإذن واجب الوجود ليس إلا الواحد وكل ما عداه فهو ممكن مفتقر إليه وكل مفتقر في وجوده إلى الغير فهو محدث فكل ما سوى الله تعالى محدث ويمكن جعل هذه الدلالة تفسيراً لهذه الآية لأنا إنما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجباً وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات وحينئذ يلزم الفساد فثبت أنه يلزم من وجود إلهين وقوع الفساد في كل العالم وثانيها أنا لو قدرنا إلهين لوجب أن يكون كل واحد منهما مشاركاً للآخر في الإلهية ولا بد وأن يتميز كل واحد منهما عن الآخر بأمر ما وإلا لما حصل التعدد فما به الممايزة إما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال فالخالي عنه يكون خالياً عن الكمال فيكون ناقصاً والناقص لا(22/131)
يكون إلهاً وإن لم يكن صفة كمال فالموصوف به يكون موصوفاً بما لايكون صفة كمال فيكون ناقصاً ويمكن أن يقال ما به الممايزة إن كان معتبراً في تحقق الإلهية فالخالي عنه لا يكون إلهاً وإن لم يكن معتبراً في الإلهية لم يكن الاتصاف به واجباً فيفتقر إلى المخصص فالموصوف به مفتقر ومحتاج وثالثها أن يقال لو فرضنا إلهين لكان لا بد وأن يكونا بحيث يتمكن الغير من التمييز بينهما لكن الامتياز في عقولنا لا يحصل إلا بالتباين في المكان أو في الزمان أو في الوجوب والإمكان وكل ذلك على الإله محال فيمتنع حصول الإمتياز ورابعها أن أحد الإلهين إما أن يكون كافياً في تدبير العالم أو لا يكون فإن كان كافياً كان الثاني ضائعاً غير محتاج إليه وذلك نقص والناقص لا يكون إلهاً وخامسها أن العقل يقتضي احتياج المحدث إلى الفاعل ولا امتناع في كون الفاعل الواحد مدبراً لكل العالم فأما ما وراء ذلك فليس عدد أولى من عدد فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها وذلك محال فالقول بوجود الآلهة محال وسادسها أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يخص نفسه بدليل يدل عليه ولا يدل على غيره أو لا يقدر عليه والأول محال لأن دليل الصانع ليس إلا بالمحدثات وليس في حدوث المحدثات ما يدل على تعيين أحدهما دون الثاني والتالي محال لأنه يفضي إلى كونه عاجزاً عن تعريف نفسه على التعيين والعاجز لا يكون إلهاً وسابعها أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يستر شيئاً من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر فإن قدر لزم أن يكون المستور عنه جاهلاً وإن لم يقدر لزم كونه عاجزاً وثامنها لو قدرنا إلهين لكان مجموع قدرتيهما بينهما أقوى من قدرة كل واحد منهما وحده فيكون كل واحد من القدرتين متناهياً والمجموع ضعف المتناهي فيكون الكل منتاهياً وتاسعاً العدد ناقص لاحتياجه إلى الواحد والواحد الذي يوجد من جنسه عدد ناقص ناقص لأن العدد أزيد منه والناقص لا يكون إلهاً فالإله واحد لا محالة وعاشرها أنا لو فرضنا معدوماً ممكن الوجود ثم قدرنا إلهين فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كل واحد منهما عاجزاً والعاجز لا يكون إلهاً وإن قدر أحدهما دون الآخر فهذا الآخر يكون إلهاً وإن قدرا جميعاً فإما أن يوجداه بالتعاون فيكون كل واحد منهما محتاجاً إلى إعانة الآخر وإن قدر كل واحد على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإما أن يبقى الثاني قادراً عليه وهو محال لأن إيجاد الموجود محال وإن لم يبق فحينئذ يكون الأول قد أزال قدرة الثاني وعجزه فيكون مقهوراً تحت تصرفه فلا يكون إلهاً فإن قيل الواجد إذا أوجد مقدوره فقد زالت قدرته عنه فيلزمكم العجز قلنا الواحد إذا أوجده فقد نفذت قدرته فنفاذ القدرة لا يكون عجزاً أما الشريك فإنه لما نفذت قدرته لم يبق لشريكه قدرة ألبتة بل زالت قدرته بسبب قدرة الأول فيكون تعجيزاً الحادي عشر أن نقرر هذه الدلالة على وجه آخر وهو أن نعين جسماً وتقول هل يقدر كل واحد منهما على خلق الحركة فيه بدلاً عن السكون وبالعكس فإن لم يقدر كان عاجزاً وإن قدر فنسوق الدلالة إلى أن نقول إذا خلق أحدهما فيه حركة امتنع على الثاني خلق السكون فالأول أزال قدرة الثاني وعجزه فلا يكون إلهاً وهذان الوجهان يفيدان العجز نظراً إلى قدرتيهما والدلالة الأولى إنما تفيد العجز بالنظر إلى أرادتيهما وثاني عشرها أنهما لما كانا عالمين بجميع المعلومات كان علم كل واحد منهما متعلقاً بعين معلوم الآخر فوجب تماثل علميهما والذات القابلة لأحد المثلين قابلة للمثل الآخر فاختصاص كل واحد منهما بتلك الصفة مع جواز اتصافه بصفة الآخر على البدل يستدعي مخصصاً يخصص كل واحد منهما بعلمه وقدرته فيكون كل واحد منهما عبداً فقيراً ناقصاً وثالث عشرها أن الشركة عيب ونقص في الشاهد والفردانية والتوحد صفة كمال ونرى الملوك يكرهون الشركة في الملك الحقير المختصر أشد الكراهية ونرى أنه كلما كان الملك أعظم كانت النفرة عن الشركة أشد فما ظنك بملك الله عز وجل وملكوته فلو أراد أحدهما استخلاص الملك لنفسه فإن قدر عليه كان المغلوب فقيراً عاجزاً فلا يكون إلهاً وإن لم يقدر عليه كان في أشد الغم والكراهية فلا يكون إلهاً ورابع عشرها أنا لو قدرنا إلهين لكان إما أن يحتاج كل واحد منهما إلى الآخر أو يستغني كل واحد منهما عن الآخر أو يحتاج أحدهما إلى الآخر والآخر يستغني عنه فإن كان الأول كان كل واحد منهما ناقصاً لأن المحتاج ناقص وإن كان الثاني كان كل واحد منهما مستغنياً عنه والمستغني عنه ناقص ألا ترى أن البلد إذا كان له رئيس والناس يحصلون مصالح البلد(22/132)
من غير رجوع منهم إليه ومن غير التفات منهم إليه عد ذلك الرئيس ناقصاً فالإله هو الذي يستغني به ولا يستغنى عنه وإن احتاج أحدهما إلى الآخر من غير عكس كان المحتاج ناقصاً والمحتاج إليه هو الإله واعلم أن هذه الوجوه ظنية إقناعية والاعتماد على الوجوه المتقدمة أما الدلائل السمعية فمن وجوه أحدها قوله تعالى هُوَ الاْوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ( الحديد 3 ) فالأول هو الفرد السابق ولذلك لو قال أول عبد اشتريته فهو حر فلو اشترى أولا عبدين لم يحنث لأن شرط الأول أن يكون فرداً وهذا ليس بفرد فلو اشترى بعد ذلك واحداً لم يحنث أيضاً لأن شرط الفرد أن يكون سابقاً وهذا ليس بسابق فلما وصف الله تعالى نفسه بكونه أولاً وجب أن يكون فرداً سابقاً فوجب أن لا يكون له شريك وثانيها قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) فالنص يقتضي أن لا يكون له شريك وثالثها أن الله تعالى صرح بكلمة لاَ إله إِلاَّ هُوَ ( البقرة 163 ) في سبعة وثلاثين موضعاً من كتابه وصرح بالوحدانية في مواضع نحو قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ( البقرة 163 ) وقوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) وكل ذلك صريح في الباب ورابعها قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ حكم بهلاك كل ما سواه ومن عدم بعد وجوده لا يكون قديماً ومن لا يكون قديماً لا يكون إلهاً وخامسها قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا وهو كقوله وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( المؤمنون 91 ) وقوله إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ( الإسراء 42 ) وسادسها قوله وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 17 ) وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ ( يونس 107 ) وقال في آية أخرى قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِى َ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَة ٍ هَلْ ( الزمر 38 ) وسابعها قوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ( الأنعام 46 ) وهذا الحصر يدل على نفي الشريك وثامنها قوله تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) فلو وجد الشريك لم يكن خالقاً فلم يكن فيه فائدة واعلم أن كل مسألة لا تتوقف معرفة صدق الرسل عليها فإنه يمكن إثباتها بالسمع والوحدانية لا تتوقف معرفة صدق الرسل عليها فلا جرم يمكن إثباتها بالدلائل السمعية واعلم أن من طعن في دلالة التمانع فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة تقول بإلهيتها عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم قالوا وهذا أولى لأنه تعالى حكى عنهم قوله أَمِ اتَّخَذُواْ الِهَة ً مّنَ الاْرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ثم ذكر الدلالة على فساد هذا فوجب أن يختص الدليل به وبالله التوفيق
أما قوله تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى أنه سبحانه لما أقام الدلالة القاطعة على التوحيد قال بعده فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي هو منزه لأجل هذه الأدلة عن وصفهم بأن معه إلهاً وهذا تنبيه على أن الإشتغال بالتسبيح إنما ينفع بعد إقامة الدلالة على كونه تعالى منزهاً وعلى أن طريقة التقليد طريقة مهجورة
المسألة الثانية لقائل أن يقول أي فائدة لقوله فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ولمَ لم يكتف بقوله فَسُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ وجوابه أن هذه المناظرة إنما وقعت مع عبدة الأصنام إلا أن الدليل الذي ذكره الله تعالى يعم جميع المخالفين ثم إنه تعالى بعد ذكر الدليل العام نبه(22/133)
على نكتة خاصة بعبدة الأصنام وهي أنه كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الذي لا يعقل ولا يحس شريكاً في الإلهية لخالق العرش العظيم وموجد السموات والأرضين ومدبر الخلائق من النور والظلمة واللوح والقلم والذات والصفات والجماد والنبات وأنواع الحيوانات أجمعين
أما قوله تعالى لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فاعلم أنه مشتمل على بحثين أحدهما أن الله تعالى لا يسأل عن شيء من أفعاله ولا يقال له لم فعلت والثاني أن الخلائق مسؤولون عن أفعالهم أما البحث الأول ففيه مسألتان
المسألة الأولى وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن عمدة من أثبت لله شريكاً ليست إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى قالوا رأينا في العالم خيراً وشراً ولذة وألماً وحياة وموتاً وصحة وسقماً وغنى وفقراً وفاعل الخير خير وفاعل الشر شرير ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيراً وشريراً معاً فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلاً للخير والآخر فاعلاً للشر ويرجع حاصل هذه الشبهة إلى أن مدبر العالم لو كان واحداً لما خص هذا بالحياة والصحة والغنى وخص ذلك بالموت والألم والفقر فيرجع حاصله إلى طلب اللمية في أفعال الله تعالى فلما كان مدار أمر القائلين بالشريك على طلب اللمية لا جرم أنه سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يقع الإبتداء بذكر الدليل المثبت للمطلوب ثم يذكر بعده ما هو الجواب عن شبهة الخصم
المسألة الثانية في الدلالة على أنه سبحانه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أما أهل السنة فإنهم استدلوا عليه بوجوه أحدها أنه لو كان كل شيء معللاً بعلة لكانت علية تلك العلة معللة بعلة أخرى ويلزم التسلسل فلا بد في قطع التسلسل من الإنتهاء إلى ما يكون غنياً عن العلة وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى وصفاته وكما أن ذاته منزهة عن الإفتقار إلى المؤثر والعلة وصفاته مبرأة عن الافتقار إلى المبدع والمخصص فكذا فاعليته يجب أن تكون مقدسة عن الإستناد إلى الموجب والمؤثر وثانيها أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة إما أن تكون واجبة أو ممكنة فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونه فاعلاً وحينئذ يكون موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلاً لله تعالى أيضاً فتفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال وثالثها أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقر إلى علة أخرى ولزم التسلسل ورابعها أن من فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون متمكناً من تحصل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة أو لا يكون متمكناً منه فإن كان متمكناً منه كان توسط تلك الواسطة عبثاً وإن لم يكن متمكناً منه كان عاجزاً والعجز على الله تعالى محال أما العجز علينا فغير ممتنع فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض وكل ذلك في حق الله تعالى محال وخامسها أنه لو كان فعله معللاً بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى أو إلى العباد والأول محال لأنه منزه عن النفع والضر وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وأن يكون عائداً إلى العباد ولا غرض للعباد إلا حصول اللذات وعدم حصول الآلام والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء من غير شيء من الوسائط وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئاً لأجل(22/134)
شيء وسادسها هو أنه لو فعل فعلاً لغرض لكان وجود ذلك الغرض وعدمه بالنسبة إليه إما أن يكون على السواء أو لا يكون فإن كان على السواء استحال أن يكون غرضاً وإن لم يكن على السواء لزم كونه تعالى ناقصاً بذاته كاملاً بغيره وذلك محال فإن قلت وجود ذلك الغرض وعدمه وإن كان بالنسبة إليه على السواء أما بالنسبة إلى العباد فالوجود أولى من العدم قلنا تحصيل تلك الأولوية للعبد وعدم تحصيلها له إما أن يكون بالنسبة إليه على السوية أو لا على السوية ويعود التقسيم الأول وسابعها وهو أن الموجود إما هو سبحانه أو ملكه وملكه ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ذلك وثامنها وهو أن من قال لغيره لم فعلت ذلك فهذا السؤال إنما يحسن حيث يحتمل أن يقدر السائل على منع المسؤول منه عن فعله وذلك من العبد في حق الله تعالى محال فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك إما بأن يهدده بالعقاب والإيلام وذلك على الله تعالى محال أو بأن يهدده باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والإنصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة وذلك أيضاً محال لأن استحقاقه للمدح واتصافه بصفات الحكمة والجلال أمور ذاتية له وما ثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات العرضية الخارجية فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله لم فعلت هذا الفعل فإن كل شيء صنعه ولا علة لصنعه وأما المعتزلة فإنهم سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت هذا الفعل ولكنهم بنوا ذلك على أصل آخر وهو أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنياً عنها ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح وإذا عرفنا ذلك عرفنا إجمالاً أن كل ما يفعله الله تعالى فهو حكمة وصواب وإذا كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله لم فعلت هذا
أما البحث الثاني وهو قوله تعالى وَهُمْ يُسْئَلُونَ فهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن الكلام في هذا السؤال إما في الإمكان العقلي أو في الوقوع السمعي أما الإمكان العقلي فالخلاف فيه مع منكري التكاليف واحتجوا على قولهم بوجوه أحدها قالوا التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحدهما على الآخر والأول محال لأن حال الاستواء يمتنع الترجيح وحال امتناع الترجيح يكون التكليف بالترجيح تكليفاً بالمحال والثاني محال لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع والمرجوع ممتنع الوقوع والتكليف بإيقاع ما يكون واجب الوقوع عبث وبإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف بما لا يطاق وثانيها قالوا كل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع فيكون التكليف به عبثاً وكل ما علم الله تعالى عدمه كان ممتنع الوقوع فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يطاق وثالثها قالوا سؤال العبد ما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة فإن كان لفائدة فتلك الفائدة إن عادت إلى الله تعالى كان محتاجاً وهو محال وإن عادت إلى العبد فهو محال لأن سؤاله لما كان سبباً لتوجيه العقاب عليه لم يكن هذا نفعاً عائداً إلى العبد بل ضرراً عائداً إليه وإن لم يكن في السؤال فائدة كان عبثاً وهو غير جائز على الحكيم بل كان إضراراً وهو غير جائز على الرحيم والجواب عنها من وجهين الأول أن غرضكم من إيراد هذه الشبهة النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم تكلفونا بنفي التكليف وهو متناقض والثاني وهو أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد وهو أن التكاليف كلها تكاليف بما لا يطاق فلا يجوز من الحكيم أن يوجبها على العباد فيرجع حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال له تعالى لم(22/135)
كلفت عبادك إلا أن قد بينا أنه سبحانه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فظهر بهذا أن قوله لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ كالأصل والقاعدة لقوله وَهُمْ يُسْئَلُونَ فتأمل في هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن وأما الوقوع السمعي فلقائل أن يقول إن قوله وَهُمْ يُسْئَلُونَ وإن كان متأكداً بقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) وبقوله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( الصافات 24 ) إلا أنه يناقضه قوله تُكَذّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 ) والجواب أن يوم القيامة يوم طويل وفيه مقامات فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام آخر دفعاً للتناقض
المسألة الثانية قالت المعتزلة فيه وجوه أحدها أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل بل كان يذم بما حقه الذم كما يحمد بما حقه المدح وثانيها أنه كان يجب أن لا يسأل عن الأمور إذا كان لا فاعل سواه وثالثها أنه كان لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم ورابعها أن أعمالهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنها من حيث خلقها وأوجدها فيهم وخامسها أنه تعالى صرح في كثير من المواضع بأنه يقبل حجة العباد عليه كقوله رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) وهذا يقتضي أن لهم عليه الحجة قبل بعثة الرسل وقال وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( طه 134 ) ونظائر هذه الآيات كثيرة وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على الله تعالى وسادسها قال ثمامة إذا وقف العبد يوم القيامة فيقول الله تعالى ما حملك على معصيتي فيقول على مذهب الجبر يا رب إنك خلقتني كافراً وأمرتني بما لا أقدر عليه وحلت بيني وبينه ولا شك أنه على مذهب الجبر يكون صادقاً وقال الله تعالى هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( المائدة 119 ) فوجب أن ينفعه هذا الكلام فقيل له ومن يدعه يقول هذا الكلام أو يحتج فقال ثمامة أليس إذا منعه الله الكلام والحجة فقد علم أنه منعه مما لو لم يمنعه منه لانقطع في يده وهذا نهاية الانقطاع والجواب عن هذه الوجوه أنها معارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه الثمانية التي بينا فيها أنه يستحيل طلب لمية أفعال الله تعالى وأحكامه
وأما قوله تعالى أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فاعلم أنه سبحانه كرر قوله أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً استعظاماً لكفرهم أي وصفتم الله بأن له شريكاً فهاتوا برهانكم على ذلك أما من جهة العقل أو من جهة النقل فإنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد أولاً وقرر الأصل الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية ثانياً أخذ يطالبهم بذكر شبهتهم ثالثاً
أما قوله تعالى هَاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِى َ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى ففيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسيره وفيه أقوال أحدها هَاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِى َ أي هذا هو الكتاب المنزل على من معي وَهَاذَا ذِكْرٌ مِّن قَبْلِى أي الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وهو التوراة والإنجيل والزبور والصحف وليس في شيء منها أنى أذنت بأن تتخذوا إلهاً من دوني بل ليس فيها إلا إِنّى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ كما قال بعد هذا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ وهذا قول ابن عباس واختيار القفال والزجاج والثاني وهو قول سعيد ابن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله وَذِكْرُ مَن قَبْلِى صفة للقرآن فإنه كما يشتمل على أحوال هذه الأمة فكذا يشتمل على أحوال الأمم(22/136)
الماضية الثالث ما ذكره القفال وهو أن المعنى قل لهم هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على بيان أحوال من معي من المخالفين والموافقين وعلى بيان أحوال من قبلي من المخالفين والموافقين فاختاروا لأنفسكم كأن الغرض منه التهديد
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء هَاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِى َ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى بالتنوين ومن مفعول منصوب بالذكر كقوله أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ يَتِيماً ( البلد 14 15 ) وهو الأصل والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( الروم 2 3 ) وقرىء من معي ومن قبلي بكسر ميم من على ترك الإضافة في هذه القراءة وإدخال الجار على مع غريب والعذر فيه أنه اسم هو ظرف نحو قبل وبعد فدخل من عليه كما يدخل على إخواته وقرىء ذكر معي وذكر قبلي
وأما قوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد وطالبهم بالدلالة على ما ادعوه وبين أنه لا دليل لهم ألبتة عليه لا من جهة العقل ولا من جهة السمع ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل ذلك لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد كله وهو عدم العلم ثم ترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء الْحَقّ بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل
أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ فاعلم أن يوحى ونوحى قراءتان مشهورتان وهذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد
وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَاهٌ مِّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين بالدلائل الباهرة كونه منزهاً عن الشريك والضد والند أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد فقال وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله وأضافوا إلى ذلك أنه تعالى صاهر الجن على ما حكى الله تعالى عنهم فقال وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً(22/137)
( الصافت 158 ) ثم إنه سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله سبحانه لأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه ثم لا بد وأن يخالفه من وجه آخر وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات الله سبحانه وتعالى وكل مركب ممكن فاتخاذه للولد يدل على كونه ممكناً غير واجب وذلك يخرجه عن حد الإلهية ويدخله في حد العبودية ولذلك نزه نفسه عنه
أما قوله بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ فاعلم أنه سبحانه لما نزه نفسه عن الولد أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم مكرمون مفضلون على سائر العباد وقرىء مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ من سابقته فسبقته أسبقه والمعنى أنهم يتبعونه في قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله فلا يسبق قولهم قوله وكما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضاً كذلك مبني على أمره لا يعملون عملاً ما لم يؤمروا به
ثم إنه سبحانه ذكر ما يجري مجرى السبب لهذه الطاعة فقال يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ والمعنى أنهم لما علموا كونه سبحانه عالماً بجميع المعلومات علموا كونه عالماً بظواهرهم هم وبواطنهم فكان ذلك داعياً لهم إلى نهاية الخضوع وكمال العبودية وذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها قال ابن عباس يعلم ما قدموا وما أخروا من أعمالهم وثانيها ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا وقيل على عكس ذلك وثالثها قال مقاتل يعلم ما كان قبل أن يخلقهم وما يكون بعد خلقهم وحقيقة المعنى أنهم يتقلبون تحت قدرته في ملكوته وهو محيط بهم وإذا كانت هذه حالتهم فكيف يستحقون العبادة وكيف يتقدمون بين يدي الله تعالى فيشفعون لمن لم يأذن الله تعالى له ثم كشف عن هذا المعنى فقال وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى أي لمن هو عند الله مرضي وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي من خشيتهم منه فأضيف المصدر إلى المفعول ومشفقون خائفون ولا يأمنون مكره وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله تعالى ) ونظيره قوله تعالى لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ( النساء 38 )
أما قوله تعالى وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ فالمعنى أن كل من يقول من الملائكة ذلك القول فإنا نجازي ذلك القائل بهذا الجزاء وهذا لا يدل على أنهم قالوا ذلك أو ما قالوه وهو قريب من قوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وههنا مسائل
المسألة الأولى هذه الصفات تدل على العبودية وتنافي الولادة لوجوه أحدها أنهم لما بالغوا في الطاعة إلى حيث لا يقولون قولاً ولا يعملون عملاً إلا بأمره فهذه صفات للعبيد لا صفات الأولاد وثانيها أنه سبحانه لما كان عالماً بأسرار الملائكة وهم لا يعلمون أسرار الله تعالى وجب أن يكون الإله المستحق للعبادة هو لا هؤلاء الملائكة وهذه الدلالة هي نفس ما ذكره عيسى عليه السلام في قوله تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) وثالثها أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ومن يكن إلهاً أو ولداً للإله لا يكون كذلك ورابعها أنهم على نهاية الإشفاق والوجل وذلك ليس إلا من صفات العبيد وخامسها نبه تعالى بقوله وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ على أن حالهم حال سائر العبيد المكلفين في الوعد والوعيد فكيف يصح كونهم آلهة
المسألة الثانية احتجت المعتزلة بقوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر لأنه لا يقال في أهل الكبائر إن الله يرتضيهم والجواب قال ابن عباس رضي الله(22/138)
عنهما والضحاك إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى أي لمن قال لا إله إلا الله واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر وتقريره هو أن من قال لا إله إلا الله فقد ارتضاه تعالى في ذلك ومتى صدق عليه أنه ارتضاه الله تعالى في ذلك فقد صدق عليه أنه ارتضاه الله لأن المركب متى صدق فقد صدق لا محالة كل واحد من أجزائه وإذا ثبت أن الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية فثبت بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على ما قرره ابن عباس رضي الله عنهما
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أمور ثلاثة أحدها تدل على كون الملائكة مكلفين من حيث قال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ومن حيث الوعيد وثانيها تدل أيضاً على أن الملائكة معصومون لأنه قال وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وثالثها قال القاضي عبد الجبار قوله كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ يدل على أن كل ظالم يجزيه الله جهنم كما توعد الملائكة به وذلك يوجب القطع على أنه تعالى لا يغفر لأهل الكبائر في الآخرة والجواب أقصى ما في الباب أن هذا العموم مشعر بالوعيد وهو معارض بعمومات الوعيد
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَى ْءٍ حَى ٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِى الأرض رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءَايَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع وهذه الدلائل أيضاً دالة على كونه منزهاً عن الشريك لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم ووجود الإلهين يقتضي وقوع الفساد فهذه الدلائل تدل من جهة على التوحيد فتكون كالتوكيد لما تقدم وفيها أيضاً رد على عبدة الأوثان من حيث إن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات الشريفة كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع فهذا وجه تعلق هذه الآية بما قبلها واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر ههنا ستة أنواع من الدلائل
النوع الأول قوله أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ألم ير بغير الواو والباقون بالواو وإدخال الواو يدل على العطف لهذا القول على أمر تقدمه قال صاحب ( الكشاف ) قرىء رتقاً بفتح التاء وكلاهما في معنى المفعول كالخلق والنفض(22/139)
أي كانتا مرتوقتين فإن قلت الرتق صالح أن يقع موقع مرتوقتين لأنه مصدر فما بال الرتق قلت هو على تقدير موصوف أي كانتا شيئاً رتقاً
المسألة الثانية لقائل أن يقول المراد من الرؤية في قوله تعالى أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إما الرؤية وإما العلم والأول مشكل أما أولاً فلأن القوم ما رأوهما كذلك البتة وأما ثانياً فلقوله سبحانه وتعالى مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الكهف 51 ) وأما العلم فمشكل لأن الأجسام قابلة للفتق والرتق في أنفسها فالحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا سبيل إليه إلا السمع والمناظرة مع الكفار الذين ينكرون الرسالة فكيف يجوز التمسك بمثل هذا الاستدلال والجواب المراد من الرؤية هو العلم وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه أحدها أنا نثبت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسائر المعجزات ثم نستدل بقوله ثم نجعله دليلاً على حصول النظام في العالم وانتقاء الفساد عنه وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد وثانياً أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق والعقل يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً وثالثها أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك فإنه جاء في التوراة إن الله تعالى خلق جوهرة ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم خلق السموات والأرض منها وفتق بينها وكان بين عبدة الأوثان وبين اليهود نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك
المسألة الثالثة إنما قال كانتا رتقاً ولم يقل كن رتقاً لأن السموات لفظ الجمع والمراد به الواحد الدال على الجنس قال الأخفش السموات نوع والأرض نوع ومثله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ومن ذلك قولهم أصلحنا بين القومين ومرت بنا غنمان أسودان لأن هذا القطيع غنم وذلك غنم
المسألة الرابعة الرتق في اللغة السد يقال رتقت الشيء فارتتق والفتق الفصل بين الشيئين الملتصقين قال الزجاج الرتق مصدر والمعنى كانتا ذواتي رتق قال المفضل إنما لم يقل كانتا رتقين كقوله وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ( الأنبياء 8 ) لأن كل واحد جسد كذلك فيما نحن فيه كل واحد رتق
المسألة الخامسة اختلف المفسرون في المراد من الرتق والفتق على أقوال أحدها وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أن المعنى كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء لأنه تعالى لما فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية قال كعب خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحاً توسطتهما ففتقهما بها وثانيها وهو قول أبي صالح ومجاهد أن المعنى كانت السموات مرتفعة فجعلت سبع سموات وكذلك الأرضون وثالثها وهو قول ابن عباس والحسن وأكثر المفسرين أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر ونظيره قوله تعالى وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ وَالاَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ( الطارق 11 12 ) ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا فإن قيل هذا الوجه مرجوح لأن المطر لا ينزل من السموات بل(22/140)
من سماء واحدة وهي سماء الدنيا قلنا إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء كما يقال ثوب أخلاق وبرمة أعشار واعلم أن هذا التأويل يجوز حمل الرؤية على الإبصار ورابعها قول أبي مسلم الأصفهاني يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الشورى 11 ) وكقوله قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الَّذِى فطَرَهُنَّ ( الأنبياء 56 ) فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق أقول وتحقيقه أن العدم نفي محض فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة بل كأنه أمر واحد متصل متشابه فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض وينفصل بعضها عن بعض فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازاً عن العدم والفتق عن الوجود وخامسها أن الليل سابق على النهار لقوله تعالى وَءايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ( يس 37 ) وكانت السموات والأرض مظلمة أولاً ففتقهما الله تعالى بإظهار النهار المبصر فإن قيل فأي الأقاويل أليق بالظاهر قلنا الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه والأرض على ما هي عليه كانتا رتقاً ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان والرتق ضد الفتق فإذا كان الفتق هو المفارقة فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة وبهذا الطريق صار الوجه الرابع والخامس مرجوحاً ويصير الوجه الأول أولى الوجوه ويتلوه الوجه الثاني وهو أن كل واحد منهما كان رتقاً ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعاً ويتلوه الثالث وهو أنهما كانا صلبين من غير فطور وفرج ففتقهما لينزل المطر من السماء ويظهر النبات على الأرض
المسألة السادسة دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع وعلى وحدانيته ظاهرة لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك والأقرب أنه سبحانه خلقهما رتقاً لما فيه من المصلحة للملائكة ثم لما أسكن الله الأرض أهلها جعلهما فتقاً لما فيه من منافع العباد
النوع الثاني من الدلائل قوله تعالى وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قوله وجعلنا لا يخلو إما أن يتعدى إلى واحد أو اثنين فإن تعدى إلى واحد فالمعنى خلقنا من الماء كل حيوان كقوله وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء ( النور 45 ) أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( الأنبياء 37 ) وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه ومن هذا نحو من في قوله عليه السلام ( ما أنا من دد ولا الدد مني ) وقرىء حياً وهو المفعول الثاني
المسألة الثانية لقائل أن يقول كيف قال وخلقنا من الماء كل حيوان وقد قال وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى ( المائدة 110 ) وقال في حق آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) والجواب اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك
المسألة الثالثة اختلف المفسرون فقال بعضهم المراد من قوله كُلَّ شَى ْء حَى ّ الحيوان فقط وقال آخرون بل يدخل فيه النبات والشجر لأنه من الماء صار نامياً وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر وهذا(22/141)
القول أليق بالمعنى المقصود كأنه تعالى قال ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً حجة القول الأول أن النبات لا يسمى حياً قلنا لا نسلم والدليل عليه قوله تعالى كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الروم 50 ) أما قوله تعالى أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ فالمراد أفلا يؤمنون بأن يتدبروا هذه الأدلة فيعلموا بها الخالق الذي لا يشبه غيره ويتركوا طريقة الشرك
النوع الثالث قوله تعالى وَجَعَلْنَا فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن تميد بهم كراهة أن تميد بهم أو لئلا تميد بهم فحذف لا واللام الأولى وإنما جاز حذف لا لعدم الالتباس كما ترى ذلك في قوله لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ
المسألة الثانية الرواسي الجبال والراسي هو الداخل في الأرض
المسألة الثالثة قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الأرض بسطت على الماء فكانت تنكفىء بأهلها كما تنكفىء السفينة لأنها بسطت على الماء فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال
النوع الرابع قوله تعالى وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الفج الطريق الواسع فإن قلت في الفجاج معنى الوصف فمالها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً قلت لم تقدم وهي صفة ولكنها جعلت حالاً كقوله لعزة موحشاً طلل قديم
والفرق من جهة المعنى أن قوله سبلاً فجاجاً إعلام بأنه سبحانه جعل فيها طرقاً واسعة وأما قوله فِجَاجاً سُبُلاً فهو إعلام بأنه سبحانه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذه الآية بيان لما أبهم في الآية الأولى
المسألة الثانية في قوله فِيهَا قولان أحدهما أنها عائدة إلى الجبال أي وجعلنا في الجبال التي هي رواسي فجاجاً سبلاً أي طرقاً واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً الثاني أنها عائدة إلى الأرض أي وجعلنا في الأرض فجاجاً وهي المسالك والطرق وهو قول الكلبي
المسألة الثالثة قوله لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ معناه لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله تعالى
المسألة الرابعة في يهتدون قولان الأول ليهتدوا إلى البلاد والثاني ليهتدوا إلى وحدانية الله تعالى بالاستدلال قالت المعتزلة وهذا التأويل يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء والكلام عليه قد تقدم وفيه قول ثالث وهو أن الإهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في مفهوم واحد وهو أصل الاهتداء فيحمل اللفظ على ذلك المشترك وحينئذ تكون الآية متناولة للأمرين ولا يلزم منه كون اللفظ المشترك مستعملاً في مفهوميه معاً
النوع الخامس قوله تعالى وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءايَاتِهَا مُعْرِضُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى سمى السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت(22/142)
المسألة الثانية في المحفوظ قولان أحدهما أن محفوظ من الوقوع والسقوط الذين يجري مثلهما على سائر السقوف كقوله وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( الحج 65 ) وقال وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالاْرْضُ بِأَمْرِهِ ( الروم 25 ) وقال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ( فاطر 41 ) وقال وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا ( البقرة 255 ) الثاني محفوظاً من الشياطين قال تعالى وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ( الحجر 17 ) ثم ههنا قولان أحدهما أنه محفوظ بالملائكة من الشياطين والثاني أنه محفوظ بالنجوم من الشياطين والقول الأول أقوى لأن حمل الآيات عليه مما يزيد هذه النعمة عظماً لأنه سبحانه كالمتكفل بحفظه وسقوطه على المكلفين بخلاف القول الثاني لأنه لا يخاف على السماء من استراق سمع الجن
المسألة الثالثة قوله تعالى وَهُمْ عَنْ ءايَاتِهَا مُعْرِضُونَ معناه عما وضع الله تعالى فيها من الأدلة والعبر في حركاتها وكيفية حركاتها وجهات حركاتها ومطالعها ومغاربها واتصالات بعضها ببعض وانفصالاتها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة
المسألة الرابعة قرىء عن آيتها على التوحيد والمراد الجنس أي هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية كالاستضاءة بقمرها والاهتداء بكواكبها وحياة الأرض بأمطارها وهم عن كونها آية بينة على وجود الخالق ووحدانيته معرضون
النوع السادس قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه لما قال وَهُمْ عَنْ ءايَاتِهَا مُعْرِضُونَ فصل تلك الآيات ههنا لأنه تعالى لو خلق السماء والأرض ولم يخلق الشمس والقمر ليظهر بهما الليل والنهار ويظهر بهما من المنافع بتعاقب الحر والبرد لم تتكامل نعم الله تعالى على عباده بل إنما يكون ذلك بسبب حركاتها في أفلاكها فلهذا قال كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وتقريره أن نقول قد ثبت بالأرصاد أن للكواكب حركات مختلفة فمنها حركة تشملها بأسرها آخذة من المشرق إلى المغرب وهي حركة الشمس اليومية ثم قال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة وههنا حركة أخرى من المغرب إلى المشرق قالوا وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة واستدلوا عليها بأنا وجدنا الكواكب السيارة كلما كان منها أسرع حركة إذا قارن ما هو أبطأ حركة فإنه بعد ذلك يتقدمه نحو المشرق وهذا في القمر ظاهر جداً فإنه يظهر بعد الإجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس ثم يزداد كل ليلة بعداً منها إلى أن يقابلها على قريب من نصف الشهر وكل كوكب كان شرقياً منه على طريقته في ممر البروج يزداد كل ليلة قرباً منه ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي وتنكسف تلك الكواكب عنه بطرفه الغربي فعرفنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق وكذلك وجدنا للكواكب الثابتة حركة بطيئة على توالي البروج فعرفنا أن لها حركة من المغرب إلى المشرق هذا ما قالوه ونحن خالفناهم فيه وقلنا إن ذلك محال لأن الشمس مثلاً لو كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة ولا شك أنها متحركة بسبب الحركة اليومية من المغرب إلى المشرق لزم كون الجرم الواحد متحركاً حركتين إلى جهتين مختلفتين دفعة احدة وذلك محال لأن الحركة إلى الجهة تقتضي حصول(22/143)
المتحرك في الجهة المنتقل إليها فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين وهو محال فإن قيل لم لا يجوز أن يقال الشمس حال حركتها إلى الجانب الشرقي تنقطع حركتها إلى الجانب الغربي وبالعكس وأيضاً فما ذكرتموه ينتقض بحركة الرحى إلى جانب والنملة التي تكون عليها تتحرك إلى خلاف ذلك الجانب قلنا أما الأول فلا يستقيم عل أصولكم لأن حركات الأفلاك مصونة عن الانقطاع عندكم وأما الثاني فهو مثال محتمل وما ذكرناه برهان قاطع فلا يتعارضان أما الذي احتجوا به على أن للكواكب حركة من المغرب إلى المشرق فهو ضعيف فإنه يقال لم لا يجوز أن يقال إن جميع الكواكب متحركة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض فيتخلف بعضها عن بعض بسبب ذلك التخلف فيظن أنها تتحرك إلى خلاف تلك الجهة مثلاً الفلك الأعظم استدارته من أول اليوم الأول إلى أول اليوم الثاني دورة تامة وفلك الثوابت استدارته من أول اليوم الأولى إلى أول اليوم الثاني دورة تامة إلا مقدار ثانية فيظن أن فلك الثوابت تحرك من الجهة الأخرى مقدار ثانية ولا يكون كذلك بل ذلك لأنه تخلف بمقدار ثانية وعلى هذا التقدير فجميع الجهات شرقية وأسرعها الحركة اليومية ثم يليها في السرعة فلك الثوابت ثم يليها زحل وهكذا إلى أن ينتهي إلى فلك القمر فهو أبطأ الأفلاك حركة وهذا الذي قلناه مع ما يشهد له البرهان المذكور فهو أقرب إلى ترتيب الوجود فإن على هذا التقدير تكون نهاية الحركة الفلك المحيط وهو الفلك الأعظم ونهاية السكون الجرم الذي هو في غاية البعد وهو الأرض ثم إن كل ما كان أقرب إلى الفلك المحيط كان أسرع حركة وما كان منه أبعد كان أبطأ فهذا ما نقوله في حركات الأفلاك في أطوالها وأما حركاتها في عروضها فظاهرة وذلك بسبب اختلاف ميولها إلى الشمال والجنوب إذا ثبت هذا فنقول لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصاً ببقعة واحدة فكان سائر الجوانب تخلو عن المنافع الحاصلة منه وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال وكانت القوة هناك لكيفية واحدة فإن كانت حارة أفنت الرطوبات فأحالتها كلها إلى النارية وبالجملة فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى وخط المتوسط بينهما على كيفية أخرى فيكون في موضع شتاء دائم ويكون فيه الهواء والعجاجة وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم تكن عودات متتالية وكان الكوكب يتحرك بطيئاً لكان الميل قليل المنفعة والتأثير شديد الإفراط وكان يعرض قريباً مما لو لم يكن ميل ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت وأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة ثم ينتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة ويبقى في كل جهة برهة تم بذلك تأثيره بحيث يبقى مصوناً عن طرفي الإفراط والتفريط وبالجملة فالعقول لا تقف إلا على القليل من أسرار المخلوقات فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية
المسألة الثانية أنه لا يجوز أن يقول وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ إلا ويدخل في الكلام مع الشمس والقمر النجوم ليثبت معنى الجمع ومعنى الكل فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة أولاً فإنها مذكورة لعود هذا الضمير إليها والله أعلم
المسألة الثالثة الفلك في كلام العرب كل شيء دائر وجمعه أفلاك واختلف العقلاء فيه فقال بعضهم الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم وهو قول الضحاك وقال الأكثرون بل هي أجسام تدور النجوم(22/144)
عليها وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن ثم اختلفوا في كيفيته فقال بعضهم الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه وقال الكلبي ماء مجموع تجري فيه الكواكب واحتج بأن السباحة لا تكون إلا في الماء قلنا لا نسلم فإنه يقال في الفرس الذي يمد يديه في الجري سابح وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة إنها أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والإلتئام والنمو والذبول فأما الكلام على الفلاسفة فهو مذكور في الكتب اللائقة به والحق أنه لا سبيل إلى معرفة صفات السموات إلا بالخبر
المسألة الرابعة اختلف الناس في حركات الكواكب والوجوه الممكنة فيها ثلاثة فإنه إما أن يكون الفلك ساكناً والكواكب تتحرك فيه كحركة السمك في الماء الراكد وإما أن يكون الفلك متحركاً والكواكب تتحرك فيه أيضاً إما مخالفاً لجهة حركته أو موافقاً لجهته إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة وإما أن يكون الفلك متحركاً والكوكب ساكناً أما الرأي الأول فقالت الفلاسفة إنه باطل لأنه يوجب خرق الأفلاك وهو محال وأما الرأي الثاني فحركة الكواكب إن فرضت مخالفة لحركة الفلك فذاك أيضاً يوجب الخرق وإن كانت حركتها إلى جهة الفلك فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء لزم الانخراق وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضاً لازم لأن الكواكب تتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أن يكون الكوكب مغروزاً في الفلك واقفاً فيه والفلك يتحرك فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك واعلم أن مدار هذا الكلام على امتناع الخرق على الأفلاك وهو باطل بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي يدل عليه لفظ القرآن أن تكون الأفلاك واقفة والكواكب تكون جارية فيها كما تسبح السمكة في الماء
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) كُلٌّ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي كلهم في فلك يسبحون والله أعلم
المسألة السادسة احتج أبو علي بن سينا على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله يَسْبَحُونَ قال والجمع بالواو والنون لا يكون إلا للعقلاء وبقوله تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) والجواب إنما جعل واو الضمير للعقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت الجملة ما محلها قلت النصب على الحال من الشمس والقمر أو لا محل لها لاستئنافها فإن قلت لكل واحد من القمرين فلك على حدة فكيف قيل جميعهم يسبحون في فلك قلت هذا كقولهم كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفاً أي كل واحد منهم
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَة ُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ(22/145)
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما استدل بالأشياء الستة التي شرحناها في الفصل المتقدم وكانت تلك الأشياء من أصول النعم الدنيوية أتبعه بما نبه به على أن هذه الدنيا جعلها كذلك لا لتبقى وتدوم أو يبقى فيها من خلقت الدنيا له بل خلقها سبحانه وتعالى للإبتلاء والامتحان ولكي يتوصل بها إلى الآخرة التي هي دار الخلود
فأما قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ففيه ثلاثة أوجه أحدها قال مقاتل أنا أناساً كانوا يقولون إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لا يموت فنزلت هذه الآية وثانيها كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا أي قضى الله تعالى أن لا يخلد في الدنيا بشراً فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت أفائن مت أنت أيبقى هؤلاء لا وفي معناه قول القائل فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
وثالثها يحتمل أنه لما ظهر أنه عليه السلام خاتم الأنبياء جاز أن يقدر مقدر أنه لا يموت إذ لو مات لتغير شرعه فنبه الله تعالى على أن حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام في الموت
أما قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ ففيه أبحاث
البحث الأول أن هذا العموم مخصوص فإنه تعالى نفس لقوله تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) مع أن الموت لا يجوز عليه وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت والعام المخصوص حجة فيبقى معمولاً به فيما عدا هذه الأشياء وذلك يبطل قول الفلاسفة في أن الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية لا تموت والثاني الذوق ههنا لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن الموت ليس من جنس المطعوم حتى يذاق بل الذوق إدراك خاص فيجوز جعله مجازاً عن أصل الإدراك وأما الموت فالمراد منه ههنا مقدماته من الآلام العظيمة لأن الموت قبل دخوله في الوجود يمتنع إدراكه وحال وجوده يصير الشخص ميتاً ولا يدرك شيئاً والثالث الإضافة في ذائقة الموت في تقدير الإنفصال لأنه لما يستقبل كقوله غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ ( المائدة 1 ) و هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 )
أما قوله تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى الابتلاء لا يتحقق إلا مع التكليف فالآية دالة على حصول التكليف وتدل على أنه سبحانه وتعالى لم يقتصر بالمكلف على ما أمر ونهى وإن كان فيه صعوبة بل ابتلاه بأمرين أحدهما ما سماه خيراً وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور والتمكين من المرادات والثاني ما سماه شراً وهو المضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين فبين تعالى أن العبد مع التكليف يتردد بين هاتين الحالتين لكي يشكر على المنح ويصبر في المحن فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم
المسألة الثانية إنما سمي ذلك ابتلاء وهو عالم بما سيكون من أعمال العالمين قبل وجودهم لأنه في(22/146)
صورة الاختبار
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) فِتْنَة ً مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه
المسألة الرابعة احتجت التناسخية بقوله وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ فإن الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه والجواب أنه مذكور مجازاً
المسألة الخامسة المراد من قوله وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ أنهم يرجعون إلى حكمه ومحاسبته ومجازاته فبين بذلك بطلان قولهم في نفي البعث والمعاد واستدلت التناسخية بهذه الآية وقالوا إن الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه وقد كنا موجودين قبل دخولنا في هذا العالم واستدلت المجسمة بأنا أجسام فرجوعنا إلى الله تعالى يقتضي كون الله تعالى جسماً والجواب عنه قد تقدم في مواضع كثيرة
أما قوله تعالى وَإِذَا رَاكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ قال السدي ومقاتل نزلت هذه الآية في أبي جهل مر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان أبو سفيان مع أبي جهل فقال أبو جهل لأبي سفيان هذا نبي بني عبد مناف فقال أبو سفيان وما تنكر أن يكون نبياً في بني عبد مناف فسمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قولهما فقال لأبي جهل ( ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية ) فنزلت هذه الآية ثم فسر الله تعالى ذلك بقوله هُزُواً أَهَاذَا الَّذِى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ والذكر يكون بخير وبخلافه فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد كقولك للرجل سمعت فلاناً يذكرك فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء وإن كان عدواً فهو ذم ومنه قوله تعالى سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ( الأنبياء 60 ) والمعنى أنه يبطل كونها معبودة ويقبح عبادتها
وأما قوله تعالى وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ فالمعنى أنه يعيبون عليه ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء مع أَنَّهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت كَافِرُونَ ولا فعل أقبح من ذلك فيكون الهزؤ واللعب والذم عليهم يعود من حيث لا يشعرون ويحتمل أن يراد بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ القرآن والكتب والمعنى في أعادتهم أن الأولى إشارة إلى القوم الذين كانوا يفعلون ذلك الفعل والثانية إبانة لاختصاصهم به وأيضاً فإن في أعادتها تأكيداً وتعظيماً لفعلهم
خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَاتِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَة ً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِى ءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(22/147)
أما قوله تعالى خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى في المراد من الإنسان قولان أحدهما أنه النوع والثاني أنه شخص معين أما القول الأول فتقريره أنهم كانوا يستعجلون عذاب الله تعالى وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ ( الملك 25 ) فأراد زجرهم عن ذلك فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة ثم نهاهم وزجرهم كأنه قال لا يبعد منكم أن تستعجلوا فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتمك فإن قيل مقدمة الكلام لا بد وأن تكون مناسبة للكلام وكون الإنسان مخلوقاً من العجل يناسب كونه معذوراً فيه فلم رتب على هذه المقدمة قوله فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ قلنا لأن العائق كلما كان أشد كانت القدرة عليه مخالفته أكمل فكأنه سبحانه نبه بهذا على أن ترك الاستعجال حالة شريفة عالية مرغوب فيها أما القول الثاني وهو أن المراد شخص معين فهذا فيه وجهان أحدهما أن المراد آدم عليه السلام وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والكلبي ومقاتل والضحاك وروى ابن جريج وليث بن أبي سليم عن مجاهد قال خلق الله آدم عليه السلام بعد كل شيء من آخر نهار الجمعة فلما دخل الروح رأسه ولم يبلغ أسفله قال يا رب استعجل خلقي قبل غروب الشمس قال ليث فذلك قوله تعالى خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ وعن السدي لما نفخ فيه الروح فدخل في رأسه عطس فقالت له الملائكة قل الحمد لله فقال ذلك فقال الله له يرحمك ربك فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ولما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه إلى ثمار الجنة وهذا هو الذي أورث أولاده العجلة وثانيهما قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث والمراد بالإنسان هو واعلم أن القول الأول أولى لأن الغرض ذم القوم وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا لفظ الإنسان على النوع
المسألة الثانية من المفسرين من أجرى هذه الآية على ظاهرها ومنهم من قلبها أما الأولون فلهم فيها أقوال أحدها قول المحققين وهو أن قوله خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ أي خلق عجولاً وذلك على المبالغة كما قيل للرجل الذكي هو نار تشتعل والعرب قد تسمي المرء بما يكثر منه فتقول ما أنت إلا أكل ونوم وما هو إلا إقبال وإدبار قال الشاعر أما إذا ذكرت حتى إذا غفلت
فإنما هي إقبال وإدبار
وهذا الوجه متأكد بقوله تعالى وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً ( الإسراء 11 ) قال المبرد خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ أي من شأنه العجلة كقوله خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ( الروم 54 ) أي ضعفاء وثانيها قال أبو عبيد العجل الطين بلغة حمير وأنشدوا والنخل يثبت بين الماء والعجل(22/148)
وثالثها قال الأخفش ( من عجل ) أي من تعجيل من الأمر وهو قوله كن ورابعها من عجل أي من ضعف عن الحسن أما الذين قلبوها فقالوا المعنى خلق العجل من الإنسان كقوله وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ ( الأحقاف 20 ) أي تعرض النار عليهم والقول الأول أقرب إلى الصواب وأبعد الأقوال هذا القلب لأنه إذا أمكن حمل الكلام على معنى صحيح وهو على ترتيبه فهو أولى من أن يحمل على أنه مقلوب وأيضاً فإن قوله خلقت العجلة من الإنسان فيه وجوه من المجاز فما الفائدة في تغيير النظم إلى ما يجري مجراه في المجاز
المسألة الثالثة لقائل أن يقول القوم استعجلوا الوعد على وجه التكذيب ومن هذا حاله لا يكون مستعجلاً على الحقيقة قلنا استعجالهم على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه إذا ذم المرء استعجال الأمر المعلوم فبأن يذم على استعجال ما لا يكون معلوماً له كان أولى وأيضاً فإن استعجالهم بما توعدهم من عقاب الآخرة أو هلاك الدنيا يتضمن استعجال الموت وهم عالمون بذلك فكانوا مستعجلين في الحقيقة
أما قوله تعالى ءايَاتِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ وَيَقُولُونَ فقد اختلفوا في المراد بالآيات على أقوال أحدها أنه هي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة ولذلك قال فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها وثانيها أنها أدلة التوحيد وصدق الرسول وثالثها أنها آثار القرون الماضية بالشام واليمن والأول أقرب إلى النظم
أما قوله تعالى وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فاعلم أن هذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء وهو كقوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ الْعَذَابُ ( العنكبوت 53 ) فبين تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم ثم إنه سبحانه ذكر في رفع هذا الحزن عن قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجهين الأول بأن بين ما لصاحب هذا الاستهزاء من العقاب الشديد فقال لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ قال صاحب ( الكشاف ) جواب لو محذوف وحين مفعول به ليعلم أي لو يعلمون الوقت الذي يسألون عنه بقولهم مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من قدام ومن خلف فلا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ولا يجدون أيضاً ناصراً ينصرهم لقوله تعالى فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءنَا ( غافر 29 ) لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم به هو الذي هونه عليهم وإنما حسن حذف الجواب لأن ما تقدم يدل عليه وهذا أبلغ ومثله وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( البقرة 165 ) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الأنفال 50 ) وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) وإنما خص الوجوه والظهور لأن مس العذاب لهما أعظم موقعاً ولكثرة ما يستعمل ذكرهما في دفع المضرة عن النفس ثم إنه تعالى لما بين شدة هذا العذاب بين أن وقت مجيئه غير معلوم لهم بل تأتيهم الساعة بغتة وهم لها غير محتسبين ولا لأمرها مستعدين فتبهتهم أي تدعهم حائرين واقفين لا يستطيعون حيلة في ردها ولا عما يأتيهم منها مصرفاً ولا هم ينظرون أي لا يمهلون لتوبة ولا معذرة واعلم أن الله تعالى إنما لم يعلم المكلفين وقت الموت والقيامة لما فيه من المصلحة لأن المرء مع كتمان ذلك أشد حذراً وأقرب إلى التلافي ثم إنه سبحانه ذكر الوجه الثاني في دفع الحزن عن قلب رسوله فقال وَلَقَدِ اسْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون(22/149)
والمعنى ولقد استهزئ برسل من قبلك يا محمد كما استهزأ بك قومك فَحَاقَ أي نزل وأحاط بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أي عقوبة استهزائهم وحاق وحق بمعنى كزال وزل وفي هذا تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم
قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَة ٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ بَلْ مَتَّعْنَا هَاؤُلا ءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار بسائر ما وصفهم به أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة فقال لرسوله قل لهؤلاء الكفار الذين يستهزءون ويغترون بما هم عليه مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وهذا كقول الرجل لمن حصل في قبضته ولا مخلص له منه إلى أين مقرك منى هل لك محيص عنيا والكالىء الحافظ
وأما قوله مّنَ الرَّحْمَنِ ففيه مسائل
المسألة الأولى في معناه وجوه أحدها مَن يَكْلَؤُكُم مّنَ الرَّحْمَنِ أي مما يقدر على إنزاله بكم من عذاب تستحقونه وثانيها من بأس الله في الآخرة وثالثها من القتل والسبي وسائر ما أباحه الله لكفرهم فبين سبحانه أنه لا حافظ لهم ولا دافع عن هذه الأمور لو أنزلها بهم ولولا تفضله بحفظهم لما عاشوا ولما متعوا بالدنيا
المسألة الثانية إنما خص ههنا اسم الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالىء يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك كما في قوله مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الانفطار 6 ) إنما خص اسم الكريم بالذكر تلقيناً للجواب
المسألة الثالثة إنما ذكر الليل والنهار لأن لكل واحد من الوقتين آفات تختص به والمعنى من يحفظكم بالليل إذا نمتم وبالنهار إذا تصرفتم في معايشكم
أما قوله بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ فالمعنى أنه تعالى مع إنعامه عليهم ليلاً ونهاراً بالحفظ والحراسة فهم عن ذكر ربهم الذي هو الدلائل العقلية والنقلية ولطائف القرآن معرضون فلا يتأملون في شيء منها ليعرفوا أنه لا كالىء لهم سواه ويتركون عبادة الأصنام التي لا حظ لها في حفظهم ولا في الإنعام عليهم(22/150)
أما قوله تعالى أَمْ لَهُمْ الِهَة ٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ فاعلم أن الميم صلة يعني ألهم آلهة تكلؤهم من دوننا والتقدير ألهم آلهة من تمنعهم وتم الكلام ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وهذا خبر مبتدأ محذوف أي فهذه الآلهة لا تستطيع حماية أنفسها عن الآفات وحماية النفس أولى من حماية الغير فإذا لم تقدر على حماية نفسها فكيف تقدر على حماية غيرها وفي قوله وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ قولان الأول قال المازني أصحبت الرجل إذا منعته فقوله وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ من ذلك لا من الصحبة الثاني أن الصحبة ههنا بمعنى النصرة والمعونة وكلها سواء في المعنى يقال صحبك الله ونصرك الله ويقال للمسافر في صحبة الله وفي حفظ الله فالمعنى ولا هم منا في نصرة ولا إعانة والحاصل أن من لا يكون قادراً على دفع الآفات ولا يكون مصحوباً من الله بالإعانة كيف يقدر على شيء ثم بين سبحانه تفضله عليهم مع كل ذلك بقوله بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ يعني ما حملهم على الإعراض إلا الإغترار بطول المهلة يعني طالت أعمارهم في الغفلة فنسوا عهدنا وجهلوا موقع مواقع نعمتنا واغتروا بذلك
أما قوله تعالى أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا فالمعنى أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها نأخذ الواحد بعد الواحد ونفتح البلاد والقرى مما حول مكة ونزيدها في ملك محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونميت رؤساء المشركين الممتعين بالدنيا وننقص من الشرك بإهلاك أهلم أما كان لهم في ذلك عبرة فيؤمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويعلموا أنهم لا يقدرون على الامتناع من الله وإرادته فيهم ولا يقدرون على مغالبته ثم قال أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ أي فهؤلاء هم الغالبون أم نحن وهو استفهام بمعنى التقرير والتقريع والمعنى بل نحن الغالبون وهم المغلوبون وقد مضى الكلام في هذه الآية في سورة الرعد وفي تفسير النقصان وجوه أحدها قال ابن عباس ومقاتل والكلبي رضي الله عنهم ننقصها بفتح البلدان وثانيها قال ابن عباس في رواية أخرى يريد نقصان أهلها وبركتها وثالثها قال عكرمة تخريب القرى عند موت أهلها ورابعها بموت العلماء وهذه الرواية إن صحت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يعدل عنها وإلا فالأظهر من الأقاويل ما يتعلق بالغلبة فلذلك قال أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ والذي يليق بذلك أنه ينقصها عنهم ويزيدها في بلاد الإسلام قال القفال نزلت هذه الآية في كفار مكة فكيف يدخل فيها العلماء والفقهاء فبين تعالى أن كل ذلك من العبر التي لو استعملوا عقلهم فيها لأعرضوا عن جهلهم
قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْى ِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَة ٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(22/151)
اعلم أنه سبحانه لما كرر في القرآن الأدلة وبالغ في التنبيه عليها على ما تقدم أتبعه بقوله قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْى ِ أي بالقرآن الذي هو كلام ربكم فلا تظنوا أن ذلك من قبلي بل الله آتيكم به وأمرني بإنذاركم فإذا قمت بما ألزمني ربي فلم يقع منكم القبول والإجابة فالوبال عليكم يعود ومثلهم من حيث لم ينتفعوا بما سمعوا من إنذاره مع كثرته وتواليه بالصم الذين لا يسمعون أصلاً إذ الغرض بالإنذار ليس السماع بل التمسك به في إقدام على واجب وتحرز عن محرم ومعرفة بالحق فإذا لم يحصل هذا الغرض صار كأنه لم يسمع قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ولا تسمع الصم الدعاء بالتاء والياء أي لا تسمع أنت أو لا يسمع رسول الله أو لا يسمع الصم من أسمع فإن قلت الصم لا تسمع دعاء البشر كما لا يسمعون دعاء المنذر فكيف قال إذا ما ينذرون قلت اللام في الصم إشارة إلى هؤلاء المنذرين كائنة للعهد لا للجنس والأصل ولا يسمعون الدعاء إذا ما ينذرون فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصاممهم وسدهم أسماعهم إذا أنذروا أي هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصامم عن آيات الإنذار ثم بين تعالى أن حالهم سيتغير إلى أن يصيروا بحيث إذا شاهدوا اليسير مما أنذروا به فعنده يسمعون ويعتذرون ويعترفون حين لا ينتفعون وهذا هو المراد بقوله وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَة ٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ لَيَقُولُنَّ ياويْلَنَا قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ وأصل النفح من الريح اللينة والمعنى ولئن مسهم شيء قليل من عذاب الله كالرائحة من الشيء دون جسمه لتنادوا بالويل واعترفوا على أنفسهم بالظلم قال صاحب ( الكشاف ) في المس والنفحة ثلاث مبالغات لفظ المس وما في النفح من معنى القلة والنزارة يقال نفحته الدابة وهو رمح يسير ونفحه بعطية رضخه ولفظ المرة ثم بين سبحانه وتعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلا عدلاً فهم وإن ظلموا أنفسهم في الدنيا فلن يظلموا في الآخرة وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى وَنَضَعُ الْمَوازِينَ بِالْقِسْطِ وصفها الله تعالى بذلك لأن الميزان قد يكون مستقيماً وقد يكون بخلافه فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل والقسط وأكد ذلك بقوله فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وههنا مسائل
المسألة الأولى معنى وضعها إحضارها قال الفراء القسط صفة الموازين وإن كان موحداً وهو كقولك للقوم أنتم عدل وقال الزجاج ونضع الموازين ذوات القسط وقوله لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ قال الفراء في يوم القيامة وقيل لأهل يوم القيامة
المسألة الثانية في وضع الموازين قولان أحدهما قال مجاهد هذا مثل والمراد بالموازين العدل ويروى مثله عن قتادة والضحاك والمعنى بالوزن القسط بينهم في الأعمال فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه يعني أن حسناته تذهب بسيئاته ومن أحاطت سيئاته بحسناته فقد خفت موازينه أي أن سيئاته تذهب بحسناته حكاه ابن جرير هكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما الثاني وهو قول أئمة السلف أنه سبحانه يضع الموازين الحقيقية فتوزن بها الأعمال وعن الحسن هو ميزان له كفتان ولسان وهو بيد جبريل عليه السلام ويروى ( أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه فلما أفاق قال يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات فقال يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة ) ثم على هذا القول في كيفية وزن الأعمال طريقان أحدهما أن توزن صحائف الأعمال والثاني يجعل في(22/152)
كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل أهل القيامة إما أن يكونوا عالمين بكونه سبحانه وتعالى عادلاً غير ظالم أو لا يعلمون ذلك فإن علموا ذلك كان مجرد حكمة كافياً في معرفة أن الغالب هو الحسنات أو السيئات فلا يكون في وضع الميزان فائدة ألبتة وإن لم يعلموا لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف لاحتمال أنه سبحانه جعل إحدى الصحيفتين أثقل أو أخف ظلماً فثبت أن وضع الميزان على كلا التقديرين خالٍ عن الفائدة وجوابه على قولنا قوله تعالى لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) وأيضاً ففيه ظهور حال الولي من العدو في مجمع الخلائق فيكون لأحد القبيلين في ذلك أعظم السرور وللآخر أعظم الغم ويكون ذلك بمنزلة نشر الصحف وغيره إذا ثبت هذا فنقول الدليل على وجود الموازين الحقيقية أن حمل هذا اللفظ على مجرد العدل مجاز وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز لا سيما وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في هذا الباب
المسألة الثالثة قال قوم إن هذه الآية يناقضها قوله تعالى فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً ( الكهف 105 ) والجواب أنه لا يكرمهم ولا يعظمهم
المسألة الرابعة إنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم وهو جمع تفخيم ويجوز أن يرجع إلى الموزونات
أما قوله تعالى وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا فالمعنى أنه لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيىء وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء مِثْقَالَ حَبَّة ٍ على كان التامة كقوله تعالى وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما أَتَيْنَا بِهَا وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء وقرأ حميد أثبنا بها من الثواب وفي حرف أبي جئنا بها
المسألة الثانية لم أنث ضمير المثقال قلنا لإضافته إلى الحبة كقولهم ذهبت بعض أصابعه
المسألة الثالثة زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزء من الثواب فهذا الأقل يتحبط بالأكثر ويبقى الأكثر كما كان واعلم أن هذه الآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة
المسألة الرابعة قالت المعتزلة قوله فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً فيه دلالة على أن مثل ذلك لو ابتدأه الله تعالى لكان قد ظلم فدل هذا الوجه على أنه تعالى لا يعذب من لا يستحق ولا يفعل المضار في الدنيا إلا للمنافع والمصالح والجواب الظلم هو التصرف في ملك الغير وذلك في حق الله تعالى محال لأنه المالك المطلق ثم الذي يدل على استحالة الظلم عليه عقلاً أن الظلم عند الخصم مستلزم للجهل أو الحاجة المحالين على الله تعالى ومستلزم المحال محال فالظلم على الله تعالى محال وأيضاً فإن الظالم سفيه خارج عن الإلهية فلو صح منه الظلم لصح خروجه عن الإلهية فحينئذ يكون كونه إلهاً من الجائزات لا من الواجبات وذلك يقدح في إلهيته
المسألة الخامسة إن قيل الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال حبة من خردل قلنا الوجه فيه أن(22/153)
تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار والغرض المبالغة في أن شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع عند الله تعالى
أما قوله تعالى وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ فالغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء حقيق بالعاقل أن يكون في أشد الخوف منه ويروي عن الشبلي رحمه الله تعالى أنه رئي في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال حاسبونا فدققوا
ثم منوا فأعتقوا
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَة ِ مُشْفِقُونَ وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية للرسول عليه السلام فيما يناله من قومه وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر على كل عارض دونها وذكر ههنا منها قصصاً
( القصة الأولى قصة موسى عليه السلام )
ووجه الإتصال أنه تعالى لما أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْى ِ ( الأنبياء 45 ) أتبعه بأن هذه عادة الله تعالى في الأنبياء قبله فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرَى لّلْمُتَّقِينَ واختلفوا في المراد بالفرقان على أقوال أحدها أنه هو التوراة فكان فرقاناً إذ كان يفرق به بين الحق والباطل وكان ضياء إذ كان لغاية وضوحه يتوصل به إلى طرق الهدى وسبل النجاة في معرفة الله تعالى ومعرفة الشرائع وكان ذكرى أي موعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف أما الواو في قوله وَضِيَاء فروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ ضياء بغير واو وهو حال من الفرقان وأما القراءة المشهورة فالمعنى آتيناهم الفرقان وهو التوراة وآتينا به ضياء وذكرى للمتقين والمعن أنه في نفسه ضياء وذكرى أو آتيناهما بما فيه الشرائع والمواعظ ضياء وذكرى القول الثاني أن المراد من الفرقان ليس التوراة ثم فيه وجوه أحدها عن ابن عباس رضي الله عنهما الفرقان هو النصر الذي أوتي موسى عليه السلام كقوله وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ(22/154)
( الأنفال 41 ) يعني يوم بدر حين فرق بين الحق وغيره من الأديان الباطلة وثانيها هو البرهان الذي فرق به دين الحق عن الأديان الباطلة عن ابن زيد وثالثها فلق البحر عن الضحاك ورابعها الخروج عن الشبهات قال محمد بن كعب واعلم أنه تعالى إنما خصص الذكرى بالمتقين لما في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) أما قوله تعالى الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ فقال صاحب ( الكشاف ) محل الذين جر على الوصفية أو نصب على المدح أو رفع عليه وفي معنى الغيب وجوه أحدها يخشون عذاب ربهم فيأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه وإيمانهم بالله غيبي استدلالي فالعباد يعملون لله في الغيب والله لا يغيب عنه شيء عن ابن عباس رضي الله عنهما وثانيها يخشون ربهم وهم غائبون عن الآخرة وأحكامها وثالثها يخشون ربهم في الخلوات إذا غابوا عن الناس وهذا هو الأقرب والمعنى أن خشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم إلا أن ذلك مما يظهرونه في الملا دون الخلا وَهُمْ مّنَ عذاب السَّاعَة َ وسائر ما يجري فيها من الحساب والسؤال مُشْفِقُونَ فيعدلون بسبب ذلك الإشفاق عن معصية الله تعالى ثم قال وكما أنزلت عليهم الفرقان فكذلك هذا القرآن المنزل عليك وهو معنى قوله وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ بركته كثرة منافعه وغزارة علومه وقوله أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ فالمعنى أنه لا إنكار في إتزانه وفي عجائب ما فيه فقد آتينا موسى وهرون التوراة ثم هذا القرآن معجز لاشتماله على النظم العجيب والبلاغة البديعة واشتماله على الأدلة العقلية وبيان الشرائع فمثل هذا الكتاب مع كثرة منافعه كيف يمكنكم إنكاره
( القصة الثانية ( قصة ) إبراهيم عليه السلام )
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ
اعلم أن قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ فيه مسائل
المسألة الأولى في الرشد قولان الأول أنه النبوة واحتجوا عليه بقوله وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ قالوا لأنه تعالى إنما يخص بالنبوة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحقها ويجتنب ما لا يليق بها ويحترز عما ينفر قومه من القبول والثاني أنه الاهتداء لوجوه الصلاح في الدين والدنيا قال تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ وفيه قول ثالث وهو أن تدخل النبوة والاهتداء تحت الرشد إذ لا يجوز أن يبعث نبي إلا وقد دله الله تعالى على ذاته وصفاته ودله أيضاً على مصالح نفسه ومصالح قومه وكل ذلك من الرشد(22/155)
المسألة الثانية احتج أصحابنا في أن الإيمان مخلوق لله تعالى بهذه الآية فإنه لو كان الرشد هو التوفيق والبيان فقد فعل الله تعالى ذلك بالكفار فيجب أن يكون قد آتاهم رشدهم أجاب الكعبي بأن هذا يقال فيمن قبل لا فيمن رد وذلك كمن أعطى المال لولدين فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال أغنى فلان ابنه فيمن أثمر المال ولا يقال مثله فيمن ضيع والجواب عنه هذا الجواب لا يتم إلا إذا جعلنا قبوله جزءاً من مسمى الرشد وذلك باطل لأن المسمى إذا كان مركباً من جزأين ولا يكون أحدهما مقدور الفاعل لم يجز إضافة ذلك المسمى إلى ذلك الفاعل فكان يلزم أن لا يجوز إضافة الرشد إلى الله تعالى بالمفعولية لكن النص وهو قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ صريح أن ذلك الرشد إنما حصل من الله تعالى فبطل ما قالوه
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء رشده كالعدم والعدم ومعنى إضافته إليه أنه رشد مثله وأنه رشد له شأن
أما قوله تعالى مِن قَبْلُ ففيه وجوه أحدها آتينا إبراهيم نبوته واهتداءه من قبل موسى عليه السلام عن ابن عباس وابن جرير وثانيها في صغره قبل بلوغه حين كان في السرب وظهرت له الكواكب فاستدل بها وهذا على قول من حمل الرشد على الاهتداء وإلا لزمه أن يحكم بنبوته عليه السلام قبل البلوغ عن مقاتل وثالثها يعني حين كان في صلب آدم عليه السلام حين أخذ الله ميثاق النبيين عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الضحاك
أما قوله تعالى وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ فالمراد أنه سبحانه علم منه أحوالاً بديعة وأسراراً عجيبة وصفات قد رضيها حتى أهله لأن يكون خليلاً له وهذا كقولك في رجل كبير أنا عالم بفلان فإن هذا الكلام في الدلالة على تعظيمه أدل مما إذا شرحت جلال كماله
أما قوله تعالى إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ فقال صاحب ( الكشاف ) إذ إما أن تتعلق بآتينا أو برشده أو بمحذوف أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت
أما قوله مَا هَاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى التمثال اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله تعالى وأصله من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به واسم ذلك الممثل تمثال
المسألة الثانية أن القوم كانوا عباد أصنام على صور مخصوصة كصورة الإنسان أو غيره فجعل عليه السلام هذا القول منه ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيبطلها عليهم
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) لم ينو للعاكفين مفعولاً وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقولك فاعلون للعكوف أو واقفون لها قال فإن قلت هلا قيل عليها عاكفون كقوله يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قلت لو قصد التعدية لعداه بصلته التي هي على
أما قوله قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ فاعلم أن القوم لم يجدوا في جوابه إلا طريقة التقليد الذي يوجب مزيد النكير لأنهم إذا كانوا على خطأ من أمرهم لم يعصمهم من هذا الخطأ أن آباءهم أيضاً سلكوا(22/156)
هذا الطريق فلا جرم أجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فبين أن الباطل لا يصير حقاً بسبب كثرة المتمسكين به فلما حقق عليه السلام ذلك عليهم ولم يجدوا من كلامه مخلصاً ورأوه ثابتاً على الإنكار قوى القلب فيه وكانوا يستبعدون أن يجري مثل هذا الإنكار عليهم مع كثرتهم وطول العهد بمذهبهم فعند ذلك قالوا له أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ موهمين بهذا الكلام أنه يبعد أن يقدم على الإنكار عليهم جاداً في ذلك فعنده عدل ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بيان التوحيد
قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض الَّذِى فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِأالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
اعلم أن القوم لما أوهموا أنه يمازح بما خاطبهم به في أصنامهم أظهر عليه السلام ما يعلمون به أنه مجد في إظهار الحق الذي هو التوحيد وذلك بالقول أولاً وبالفعل ثانياً أما الطريقة القولية فهي قوله بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الَّذِى فطَرَهُنَّ وهذه الدلالة تدل على أن الخالق الذي خلقهما لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن من يقدر على ذلك يقدر على أن يضر وينفع في الدار الآخرة بالعقاب والثواب فيرجع حاصل هذه الطريقة إلى الطريقة التي ذكرها لأبيه في قوله لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) قال صاحب ( الكشاف ) الضمير في فطرهن للسموات والأرض أو للتماثيل وكونه للتماثيل أدخل في الاحتجاج عليهم
أما قوله وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ ففيه وجهان الأول أن المقصود منه المبالغة في التأكيد والتحقيق كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه أشهد أنه كريم أو ذميم والثاني أنه عليه السلام عنى بقوله وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ ادعاء أنه قادر على إثبات ما ذكره بالحجة وأني لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم وأما الطريقة الفعلية فهي قوله وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فإن القوم لما لم ينتفعوا بالدلالة العقلية عدل إلى أن أراهم عدم الفائدة في عبادتها وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرأ معاذ بن جبل رضي الله عنه وبالله وقرىء تولوا بمعنى تتولوا ويقويها قوله فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ فإن قلت ما الفرق بين الباء والتاء قلت إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها والتاء فيها زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده لأن(22/157)
ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته
المسألة الثانية إن قيل لماذا قال لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ والكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به وذلك لا يتأتى في الأصنام وجوابه قال ذلك توسعاً لما كان عندهم أن الضرر يجوز عليها وقيل المراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل قد أنزل بهم الغم
المسألة الثالثة في كيفية أول القصة وجهان أحدهما قال السدي كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم عليه السلام لو خرجت معنا فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي فلما مضوا وبقي ضعفاء الناس نادى وقال تَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ واحتج هذا القائل بقوله تعالى قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ وثانيها قال الكلبي كان إبراهيم عليه السلام من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه أراني أشتكي غداً فذلك قوله فَنَظَرَ نَظْرَة ً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ ( الصافات 88 89 ) وأصبح من الغد معصوباً رأسه فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال أما والله لأكيدن أصنامكم وسمع رجل منهم هذا القول فحفظه عليه ثم إن ذلك الرجل أخبر غيره وانتشر ذلك في جماعة فلذلك قال تعالى قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ واعلم أن كلا الوجهين ممكن ثم تمام القصة أن إبراهيم عليه السلام لما دخل بيت الأصنام وجد سبعين صنماً مصطفة وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وكان في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلا الكبير ثم علق الفأس في عنقه
أما قوله تعالى فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى إن قيل لم قال فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً وهذا جمع لا يليق إلا بالناس جوابه من حيث اعتقدوا فيها أنها كالناس في أنها تعظم ويتقرب اليها ولعل كان فيهم من يظن أنها تضر وتنفع
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) جذاذاً قطعاً من الجذ وهو القطع وقرىء بالكسر والفتح وقرىء جذاذاً جمع جذيذ وجذذاً جمع جذة
المسألة الثالثة إن قيل ما معنى إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ قلنا يحتمل الكبير في الخلقة ويحتمل في التعظيم ويحتمل في الأمرين
وأما قوله لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيحتمل رجوعهم إلى إبراهيم عليه السلام ويحتمل رجوعهم إلى الكبير أما الأول فتقريره من وجهين الأول أن المعنى أنهم لعلهم يرجعون إلى مقالة إبراهيم ويعدلون عن الباطل والثاني أنه غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فبكتهم بما أجاب به من قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا فَاسْئَلُوهُمْ ( الأنبياء 63 ) أما إذا قلنا الضمير راجع إلى الكبير ففيه وجهان الأول أن المعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحاً والفأس على عاتقك وهذا قول الكلبي وإنما قال ذلك بناء على كثرة جهالاتهم(22/158)
فلعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تجيب وتتكلم والثاني أنه عليه السلام قال ذلك مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكلات
المسألة الرابعة إن قيل أولئك الأقوام إما أن يقال إنهم كانوا عقلاء أو ما كانوا عقلاء فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أن تلك الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر فأي حاجة في إثبات ذلك إلى كسرها أقصى ما في الباب أن يقال القوم كانوا يعظمونها كما يعظم الواحد منا المصحف والمسجد والمحراب وكسرها لا يقدح في كونها معظمة من هذا الوجه وإن قلنا إنهم ما كانوا عقلاء وجب أن لا تحسن المناظرة معهم ولا بعثة الرسل إليهم الجواب أنهم كانوا عقلاء وكانوا عالمين بالضرورة أنها جمادات ولكن لعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تماثيل الكواكب وأنها طلسمات موضوعة بحيث أن كل من عبدها انتفع بها وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد ثم إن إبراهيم عليه السلام كسرها مع أنه ما ناله منها ألبتة ضرر فكان فعله دالاً على فساد مذهبهم من هذا الوجه
أما قوله تعالى قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي ( أن ) من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم معدود في الظلمة إما لجراءته على الآلهة الحقيقة بالتوقير والإعظام وإما لأنهم رأوا إفراطاً في كسرها وتمادياً في الاستهانة بها
أما قوله تعالى قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال الزجاج ارتفع إبراهيم على وجهين أحدهما على معنى يقال هو إبراهيم والثاني على النداء على معنى يقال له يا إبراهيم قال صاحب ( الكشاف ) والصحيح أنه فاعل يقال لأن المراد الاسم دون المسمى
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن القائلين جماعة لا واحد فكأنهم كانوا من قبل قد عرفوا منه وسمعوا ما يقوله في آلهتهم فغلب على قلوبهم أنه الفاعل ولو لم يكن إلا قوله ما هذه التماثيل إلى غير ذلك لكفى
قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَاذَا بِأالِهَتِنَا ياإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَاؤُلا ءِ يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(22/159)
اعلم أن القوم لما شاهدوا كسر الأصنام وقيل إن فاعله إبراهيم عليه السلام قالوا فيما بينهم فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ قال صاحب ( الكشاف ) على أعين الناس في محل الحال أي فأتوا به مشاهداً أي بمرأى منهم ومنظر فإن قلت ما معنى الاستعلاء في على قلت هو وارد على طريق المثل أي يثبت إثباته في الأعين ثبات الراكب على المركوب أما قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ففيه وجهان أحدهما أنهم كرهوا أن يأخذوه بغير بينة فأرادوا أن يجيئوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عليه بما قاله فيكون حجة عليه بما فعل وهذا قول الحسن وقتادة والسدي وعطاء وابن عباس رضي الله عنهم وثانيهما وهو قول محمد بن إسحق أي يحضرون فيبصرون ما يصنع به فيكون ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على مثل فعله وفيه قول ثالث وهو قول مقاتل والكلبي أن المراد مجموع الوجهين فيشهدون عليه بفعله ويشهدون عقابه
أما قوله تعالى قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هَاذَا فاعلم أن في الكلام حذفاً وهو فأتوا به وقالوا أأنت فعلت طلبوا منه الاعتراف بذلك ليقدموا على إيذائه فظهر منه ما انقلب الأمر عليهم حتى تمنوا الخلاص منه فقال بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا وقد علق الفأس على رقبته لكي يورد هذا القول فيظهر جهلهم في عبادة الأوثان فإن قيل قوله بل فعله كبيرهم كذب والجواب للناس فيه قولان أحدهما وهو قول كافة المحققين أنه ليس بكذب وذكروا في الاعتذار عنه وجوهاً أحدها أن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم إنما قصد تقرير لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط أأنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة فقلت له بل كتبته أنت كأن قصدك بهذا الجواب تقرير ذلك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء به وإثبات للقادر وثانيها أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزبنة وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته بها وحطمه لها والفعل كما يسند إلى مباشره يسد إلى الحامل عليه وثالثها أن يكون حكاية لما يلزم على مذهبهم كأنه قال لهم ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إلهاً أن يقدر على هذا وأشد منه وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها صاحب ( الكشاف ) ورابعها أنه كناية عن غير مذكور أي فعله من فعله وكبيرهم هذا ابتداء الكلام ويروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله ثم يبتدىء كبيرهم هذا وخامسها أنه يجوز أن يكون فيه وقف عند قوله كبيرهم ثم يبتدىء فيقول هذا فاسألوهم والمعنى بل فعله كبيرهم وعنى نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم وسادسها أن يكون في الكلام تقديم وتأخير كأنه قال بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم فتكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطاً بكونهم ناطقين فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين وسابعها قرأ محمد بن السميفع فعله كبيرهم أي فلعل الفاعل كبيرهم القول الثاني وهو قول طائفة من أهل الحكايات أن ذلك كذب واحتجوا بما(22/160)
روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله تعالى قوله إِنّى سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا وقوله لسارة هي أختي ) وفي خبر آخر ( أن أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة قال إني كذبت ثلاث كذبات ) ثم قرروا قولهم من جهة العقل وقالوا الكذب ليس قبيحاً لذاته فإن النبي عليه السلام إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان وجاء الظالم وسأل عن حاله فإنه يجب الكذب فيه وإذا كان كذلك فأي بعد في أن يأذن الله تعالى في ذلك لمصلحة لا يعرفها إلا هو واعلم أن هذا القول مرغوب عنه أما الخبر الأول وهو الذي رووه فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه فلنجوز هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه وفي كل ما أخبر الله تعالى عنه وذلك يبطل الوثوق بالشرائع وتطرق التهمة إلى كلها ثم إن ذلك الخبر لو صح فهو محمول على المعاريض على ما قال عليه السلام ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب )
فأما قوله تعالى إِنّى سَقِيمٌ فلعله كان به سقم قليل واستقصاء الكلام فيه يجيء في موضعه
وأما قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فقط ظهر الجواب عنه
أما قوله لسارة إنها أختي فالمراد أنها أخته في الدين وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء عليهم السلام فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلا زنديق
أما قوله تعالى فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ففيه وجوه الأول أن إبراهيم عليه السلام لما نبههم بما أورده عليهم على قبح طريقهم تنبهوا فعلموا أن عبادة الأصنام باطلة وأنهم على غرور وجهل في ذلك والثاني قال مقاتل فرجعوا إلى أنفسهم فلاموها وقالوا إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير وثالثها المعنى أنكم أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتم منه عن ذلك حتى أخذ يستهزىء بكم في الجواب والأقرب هو الأول
أما قوله تعالى ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُؤُوسَهُمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ فقال صاحب ( الكشاف ) نكسه قلبه فجعل أسفله أعلاه وفيه مسألتان
المسألة الأولى في المعنى وجوه أحدها أن المراد استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وأتوا بالفكرة الصالحة ثم انتكسوا فقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا ( في ) المجادلة بالباطل وأن هؤلاء مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق آلهة معبودة وثانيها قلبوا على رؤوسهم حقيقة لفرط إطراقهم خجلاً وانكساراً وانخذالاً مما بهتهم به إبراهيم فما أحاروا جواباً إلا ما هو حجة عليهم وثالثها قال ابن جرير ثم نكسوا على رؤوسهم في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم أي قلبوا في الحجة واحتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم فقالوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ فأقروا بهذه للحيرة التي لحقتهم قال والمعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم
المسألة الثانية قرىء نكسوا بالتشديد ونكسوا على لفظ ما لم يسم فاعله أي نكسوا أنفسهم على رؤوسهم وهي قراءة رضوان بن عبد المعبود(22/161)
أما قوله تعالى قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ فالمعنى ظاهر قال صاحب ( الكشاف ) أف صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر وإن إبراهيم عليه السلام أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل فتأفف بهم ثم يحتمل أنه قال لهم ذلك وقد عرفوا صحة قوله ويحتمل أنه قال لهم ذلك وقد ظهرت الحجة وإن لم يعقلوا وهذا هو الأقرب لقوله أَفَتَعْبُدُونَ ولقوله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاٌّ خْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين ما أظهره إبراهيم عليه السلام من دلائل التوحيد وإبطال ما كانوا عليه من عبادة التماثيل أتبعه بما يدل على جهلهم وأنهم قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ وههنا مسائل
المسألة الأولى ليس في القرآن من القائل لذلك والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح وقال مجاهد سمعت ابن عمر يقول إنما أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام رجل من الكرد من أعراب فارس وروى ابن جريج عن وهب عن شعيب الجبائي قال إن الذي قال حرقوه رجل اسمه هبرين فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة
المسألة الثانية أما كيفية القصة فقال مقاتل لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنياناً كالحظيرة وذلك قوله قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ ( الصافات 97 ) ثم جمعوا له الحطب الكثير حتى أن المرأة لو مرضت قالت إن عافاني الله لأجعلن حطباً لإبراهيم ونقلوا له الحطب على الدواب أربعين يوماً فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم عليه السلام ورفعوه على رأس البنيان وقيدوه ثم اتخذوا منجنيقاً ووضعوه فيه مقيداً مغلولاً فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة إلا الثقلين صيحة واحدة أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته فقال سبحانه إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح فقال إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم عليه السلام لا حاجة بي إليكم ثم رفع رأسه إلى السماء وقال ( اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض أحد يعبدك غيري أنت حسبنا ونعم الوكيل ) وقيل إنه حين ألقي في النار قال ( لا إله إلا أنت سبحانك ربك العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ) ثم وضعوه في المنجنيق ورموا به النار فأتاه جبريل عليه السلام وقال يا إبراهيم هل لك حاجة قال أما إليك فلا قال فاسأل ربك قال حسبي من سؤالي علمه(22/162)
بحالي فقال الله تعالى قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ ( الأنبياء 69 ) وقال السدي إنما قال ذلك جبريل عليه السلام قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية مجاهد ولو لم يتبع برداً سلاماً لمات إبراهيم من بردها قال ولم يبق يومئذ في الدنيا نار إلا طفئت ثم قال السدي فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه في الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار منه إلا وثاقه وقال المنهال بن عمرو أخبرت أن إبراهيم عليه السلام لما ألقى في النار كان فيها إما أربعين يوماً أو خمسين يوماً وقال ما كنت أياماً أطيب عيشاً مني إذ كنت فيها وقال ابن إسحق بعث الله ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة وقال يا إبراهيم إن ربك يقول أما علمت أن النار لا تضر أحبابي ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ورأى الملك قاعداً إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب فناداه نمروذ يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها قال نعم قال قم فاخرج فقام يمشي حتى خرج منها فلما خرج قال له نمروذ من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قال ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني فيها فقال نمروذ إني مقرب إلى ربك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك فإني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال إبراهيم عليه السلام لا يقبل الله منك ما دمت على دينك فقال نمروذ لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له ثم ذبحها له وكف عن إبراهيم عليه السلام ورويت هذه القصة على وجه آخر وهي أنهم بنوا لإبراهيم بنياناً وألقوه فيه ثم أوقدوا عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوا عليه ثم فتحوا عليه من الغد فإذا هو غير محترق يعرق عرقاً فقال لهم هاران أبو لوط إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته
المسألة الثالثة إنما اختاروا المعاقبة بالنار لأنها أشد العقوبات ولهذا قيل إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ أي إن كنتم تنصرون آلهتكم نصراً شديداً فاختاروا أشد العقوبات وهي الإحراق
أما قوله تعالى قُلْنَا ياذَا نَّارٍ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم الأصفهاني في تفسير قوله تعالى قُلْنَا ياذَا نَّارٍ كُونِى بَرْداً المعنى أنه سبحانه جعل النار برداً وسلاماً لا أن هناك كلاماً كقوله أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ أي يكونه وقد احتج عليه بأن النار جماد فلا يجوز خطابه والأكثرون على أنه وجد ذلك القول ثم هؤلاء لهم قولان أحدهما وهو قول سدي أن القائل هو جبريل عليه السلام والثاني وهو قول الأكثرين أن القائل هو الله تعالى وهذا هو الأليق الأقرب بالظاهر وقوله النار جماد فلا يكون في خطابها فائدة قلنا لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذلك الأمر مصلحة عائدة إلى الملائكة
المسألة الثانية اختلفوا في أن النار كيف بردت على ثلاثة أقوال أحدها أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير وثانيها أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار وثالثها أنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع من وصول أثر النار إليه قال المحققون والأول أولى لأن(22/163)
ظاهر قوله قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها لا أن النار بقيت كما كانت فإن قيل النار جسم موصوف بالحرارة واللطافة فإذا كانت الحرارة جزء من مسمى النار امتنع كون النار باردة فإذاً وجب أن يقال المراد من النار الجسم الذي هو أحد أجزاء مسمى النار وذلك مجاز فلم كان مجازكم أولى من المجازين الآخرين قلنا المجاز الذي ذكرناه يبقى معه حصول البرد وفي المجازين اللذين ذكرتموهما لا يبقى ذلك فكان مجازنا أولى
أما قوله تعالى كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ فالمعنى أن البرد إذا أفرط أهلك كالحر بل لا بد من الإعتدال ثم في حصول الاعتدال ثلاثة أوجه أحدها أنه يقدر الله تعالى بردها بالمقدار الذي لا يؤثر وثانيها أن بعض النار صار برداً وبقي بعضها على حرارته فتعادل الحر والبرد وثالثها أنه تعالى جعل في جسمه مزيد حر فسلم من ذلك البرد بل قد انتفع به والتذ ثم ههنا سؤالات
السؤال الأول أو كل النار زالت وصارت برداً الجواب أن النار هو اسم الماهية فلا بد وأن يحصل هذا البرد في الماهية ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية وقيل بل اختص بتلك النار لأن الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار وفي النار منافع للخلق فلا يجوز تعطيلها والمراد خلاص إبراهيم عليه السلام لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق
السؤال الثاني هل يجوز ما روي عن الحسن من أنه سلام من الله تعالى على إبراهيم عليه السلام الجواب الظاهر كما أنه جعل النار برداً جعلها سلاماً عليه حتى يخلص فالذي قاله يبعد وفيه تشتيت الكلام المرتب
السؤال الثالث أفيجوز ما روي من أنه لو لم يقل وسلاماً لأتى البرد عليه والجواب ذلك بعيد لأن برد النار لم يحصل منها وإنما حصل من جهة الله تعالى فهو القادر على الحر والبرد فلا يجوز أن يقال كان البرد يعظم لولا قوله سلاماً
السؤال الرابع أفيجوز ما قيل من أنه كان في النار أنعم عيشاً منه في سائر أحواله والجواب لا يمتنع ذلك لما فيه من مزيد النعمة عليه وكمالها ويجوز أن يكون إنما صار أنعم عيشاً هناك لعظم ما ناله من السرور بخلاصه من ذلك الأمر العظيم ولعظم شروره بظفره بأعدائه وبما أظهره من دين الله تعالى
أما قوله تعالى وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاْخْسَرِينَ أي أرادوا أن يكيدوه فما كانوا إلا مغلوبين غالبوه بالجدال فلقنه الله تعالى الحجة المبكتة ثم عدلوا القوة والجبروت فنصره وقواه عليهم ثم إنه سبحانه أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجى لوطاً معه وهو ابن أخيه وهو لوط بن هاران إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين وفي الأخبار أن هذه الواقعة كانت في حدود بابل فنجاه الله تعالى من تلك البقعة إلى الأرض المباركة ثم قيل إنها مكة وقيل أرض الشام لقوله تعالى إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( الإسراء 1 ) والسبب في بركتها أما في الدين فلأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا منها وانتشرت شرائعهم وآثارهم الدينية فيها وأما في الدنيا فلأن الله تعالى بارك فيها بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب العيش وقيل ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس(22/164)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَة ً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلواة وَإِيتَآءَ الزَّكَواة ِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ
اعلم أنه تعالى بعد ذكره لإنعامه على إبراهيم وعلى لوط بأن نجاهما إلى الأرض المباركة أتبعه بذكر غيره من النعم وإنما جمع بينهما لأن في كون لوط معه مع ما كان بينهما من القرابة والشركة في النبوة مزيد إنعام ثم إنه سبحانه ذكر النعم التي أفاضها على إبراهيم عليه السلام ثم النعم التي أفاضها على لوط أما الأول فمن وجوه أحدها وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَة ً واعلم أن النافلة العطية خاصة وكذلك النفل ويسمى الرجل الكثير العطايا نوفلاً ثم للمفسرين ههنا قولان الأول أنه ههنا مصدر من وهبنا له مصدر من غير لفظه ولا فرق بين ذلك وبين قوله وَوَهَبْنَا لَهُ هبة أي وهبناهما له عطية وفضلاً من غير أن يكون جزاء مستحقاً وهذا قول مجاهد وعطاء والثاني وهو قول أبي بن كعب وابن عباس وقتادة والفراء والزجاج أن إبراهيم عليه السلام لما سأل الله ولداً قال رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ ( الصافات 100 ) فأجاب الله دعاءه ووهب له إسحق وأعطاه يعقوب من غير دعائه فكان ذلك نَافِلَة ً كالشيء المتطوع به من الآدميين فكأنه قال وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ إجابة لدعائه ووهبنا له يعقوب نافلة على ما سأل كالصلاة النافلة التي هي زيادة على الفرض وعلى هذا النافلة يعقوب خاصة
والوجه الأول أقرب لأنه تعالى جمع بينهما ثم ذكر قوله نافلة فإذا صلح أن يكون وصفاً لهما فهو أولى
النعمة الثانية قوله تعالى وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ أي وكلا من إبراهيم وإسحق ويعقوب أنبياء مرسلين هذا قول الضحاك وقال آخرون عاملين بطاعة الله عز وجل مجتنبين محارمه
والوجه الثاني أقرب لأن لفظ الصلاح يتناول الكل لأنه سبحانه قال بعد هذه الآية وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ فلو حملنا الصلاح على النبوة لزم التكرار واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأن قوله وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ يدل على أن ذلك الصلاح من قبله أجاب الجبائي بأنه لو كان كذلك لما وصفهم بكونهم صالحين وبكونهم أئمة وبكونهم عابدين ولما مدحهم بذلك ولما أثنى عليهم وإذا ثبت ذلك فلا بد من التأويل وهو من وجهين الأول أن يكون المراد أنه سبحانه آتاهم من لطفه وتوفيقه ما صلحوا به والثاني أن يكون المراد أنه سماهم بذلك كما يقال زيد فسق فلاناً وضلله وكفره إذا وصفه بذلك وكان مصدقاً عند الناس وكما يقال في الحاكم زكى فلاناً وعدله وجرحه إذا حكم بذلك واعلم أن هذه الوجوه مختلة أما اعتمادهم على المدح والذم فالجواب المعهود أن نعارضه بمسألتي الداعي والعلم وأما الحمل على اللطف فباطل لأن فعل الإلطاف عام في المكلفين فلا بد في هذا التخصيص من(22/165)
مزيد فائدة وأيضاً فلأن قوله جعلته صالحاً كقوله جعلته متحركاً فحمله على تحصيل شيء سوى الصلاح ترك للظاهر وأما الحمل على التسمية فهو أيضاً مجاز أقصى ما في الباب أنه قد يصار إليه عند الضرورة في بعض المواضع وههنا لا ضرورة إلا أن يرجعوا مرة أخرى إلى فصل المدح والذم فحينئذ نرجع أيضاً إلى مسألتي الداعي والعلم
النعمة الثالثة قوله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وفيه قولان أحدهما أي جعلناهم أئمة يدعون الناس إلى دين الله تعالى والخيرات بأمرنا وإذننا الثاني قول أبي مسلم أن هذه الإمامة هي النبوة والأول أولى لئلا يلزم التكرار واحتج أصحابنا بهذه الآية على أمرين أحدهما على خلق الأفعال بقوله وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً وتقريره ما مضى والثاني على أن الدعوة إلى الحق والمنع عن الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى لأن الأمر لو لم يكن معتبراً لما كان في قوله بأمرنا فائدة
النعمة الرابعة قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة وذلك من أعظم النعم على الأب قال الزجاج حذف الهاء من إقامة الصلاة لأن الإضافة عوض عنه وقال غيره الإقام والإقامة مصدر قال أبو القاسم الأنصاري الصلاة أشرف العبادات البدنية وشرعت لذكر الله تعالى والزكاة أشرف العبادات المالية ومجموعهما التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله واعلم أنه سبحانه وصفهم أولاً بالصلاح لأنه أول مراتب السائرين إلى الله تعالى ثم ترقى فوصفهم بالإمامة ثم ترقى فوصفهم بالنبوة والوحي وإذا كان الصلاح الذي هو العصمة أول مراتب النبوة دل ذلك على أن الأنبياء معصومون فإن المحروم عن أول المراتب أولى بأن يكون محروماً عن النهاية ثم إنه سبحانه كما بين أصناف نعمه عليهم بين بعد ذلك اشتغالهم بعبوديته فقال وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ كأنه سبحانه وتعالى لما وفى بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام فهم أيضاً وفوا بعهد العبودية وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة
القصة الثالثة قصة لوط عليه السلام
وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِى رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
اعلم أنه سبحانه بعد بيان ما أنعم به على إبراهيم عليه السلام أتبعه بذكر نعمه على لوط عليه السلام لما جمع بينهما من قبل وههنا مسألتان
المسألة الأولى في الواو في قوله وَلُوطاً قولان أحدهما وهو قول الزجاج أنه عطف على قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ ( الأنبياء 73 ) والثاني قول أبي مسلم أنه عطف على قوله إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن ( الأنبياء 51 ) ولا بد من ضمير في قوله وَلُوطاً فكأنه قال وآتينا لوطاً فأضمر ذكره(22/166)
المسألة الثانية في أصناف النعم وهي أربعة وجوه أحدها الحكم أي الحكمة وعي التي يجب فعلها أو الفصل بين الخصوم وقيل هي النبوة وثانيها العلم واعلم أن إدخال التنوين عليهما يدل على علو شأن ذلك العلم وذلك الحكم وثالثها قوله وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ والمراد أهل القرية لأنهم هم الذين يعملون الخبائث دون نفس القرية ولأن الهلاك بهم نزل فنجاه الله تعالى من ذلك ثم بين سبحانه وتعالى بقوله إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فَاسِقِينَ ما أراده بالخبائث وأمرهم فيما كانوا يقدمون عليه ظاهر ورابعها قوله وَأَدْخَلْنَاهُ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وفي تفسير الرحمة قولان الأول أنه النبوة أي أنه لما كان صالحاً للنبوة أدخله الله في رحمته لكي يقوم بحقها عن مقاتل الثاني أنه الثواب عن ابن عباس والضحاك ويحتمل أن يقال إنه عليه السلام لما آتاه الله الحكم والعلم وتخلص عن جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الإلهية وهي بحر لا ساحل له وهي الرحمة في الحقيقة
( القصة الرابعة قصة نوح عليه السلام )
وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
أما قوله تعالى إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى لا شبهة في أن المراد من هذا النداء دعاؤه على قومه بالعذاب ويؤكده حكاية الله تعالى عنه ذلك تارة على الإجمال وهو قوله فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ( القمر 10 ) وتارة على التفصيل وهو قوله وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) ويدل عليه أيضاً أن الله تعالى أجابه بقوله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهذا الجواب يدل على أن الإنجاء المذكور فيه كان هو المطلوب في السؤال فدل هذا على أن نداءه ودعاءه كان بأن ينجيه مما يلحقه من جهتهم من ضروب الأذى بالتكذيب والرد عليه وبأن ينصره عليهم وأن يهلكهم فلذلك قال بعده وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا
المسألة الثانية أجمع المحققون على أن ذلك النداء كان بأمر الله تعالى لأنه لو لم يكن بأمره لم يؤمن أن يكون الصلاح أن لايجاب إليه فيصير ذلك سبباً لنقصان حال الأنبياء ولأن الإقدام على أمثال هذه المطالب لو لم يكن بالأمر لكان ذلك مبالغة في الإضرار وقال آخرون إنه عليه السلام لم يكن مأذوناً له في ذلك وقال أبو أمامة لم يتحسر أحد من خلق الله تعالى كحسرة آدم ونوح فحسرة آدم على قبول وسوسة إبليس وحسرة نوح على دعائه على قومه فأوحى الله تعالى إليه أن لا تتحسر فإن دعوتك وافقت قدري
أما قوله تعالى فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فالمراد بالأهل ههنا أهل دينه وفي تفسير الكرب وجوه أحدها أنه العذاب النازل بالكفار وهو الغرق وهو قول أكثر المفسرين وثانيها أنه تكذيب قومه إياه(22/167)
وما لقي منهم من الأذى وثالثها أنه مجموع الأمرين وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وهو الأقرب لأنه عليه السلام كان قد دعاهم إلى الله تعالى مدة طويلة وكان قد ينال منهم كل مكروه وكان الغم يتزايد بسبب ذلك وعند إعلام الله تعالى إياه أنه يغرقهم وأمره باتخاذ الفلك كان أيضاً على غم وخوف من حيث لم يعلم من الذي يتخلص من الغرق ومن الذي يغرق فأزال الله تعالى عنه الكرب العظيم بأن خلصه من جميع ذلك وخلص جميع من آمن به معه
أما قوله تعالى وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ فقراءة أبي بن كعب ونصرناه على القوم ثم قال المبرد تقديره ونصرناه من مكروه القوم وقال تعالى فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ ( غافر 29 ) أي يعصمنا من عذابه قال أبو عبيدة من بمعنى على وقال صاحب ( الكشاف ) إنه نصر الذي مطاوعه انتصر وسمعت هذلياً يدعو على سارق اللهم انصرهم منه أي اجعلهم منتصرين منه
أما قوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فالمعنى أنهم كانوا قوم سوء لأجل ردهم عليه وتكذيبهم له فأغرقناهم أجمعين فبين ذلك الوجه الذي به خلصه منهم
( القصة الخامسة قصة داود وسليمان عليهما السلام
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَة ً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَى ْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذالِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
اعلم أن قوله تعالى وداود وسليمان وأيوب وزكريا وذا النون كله نسق على ما تقدم من قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ ( الأنبياء 51 ) ومن قوله وَلُوطاً اتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ( الأنبياء 74 ) واعلم أن المقصود ذكر نعم الله تعالى على داود وسليمان فذكر أولاً النعمة المشتركة بينهما ثم ذكر ما يختص به كل واحد منهما من النعم أما النعمة المشتركة فهي القصة المذكورة وهي قصة الحكومة ووجه النعمة فيها أن الله تعالى زينهما بالعلم(22/168)
والفهم في قوله وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ثم في هذا تنبيه على أن العلم أفضل الكمالات وأعظمها وذلك لأن الله تعالى قدم ذكره ههنا على سائر النعم الجليلة مثل تسخير الجبال والطير والريح والجن وإذا كان العلم مقدماً على أمثال هذه الأشياء فما ظنك بغيرها وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن السكيت النفش أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع وهذا قول جمهور المفسرين وعن الحسن أنه يجوز ذلك ليلاً ونهاراً
المسألة الثانية أكثر المفسرين على أن الحرث هو الزرع وقال بعضهم هو الكرم والأول أشبه بالعرف
المسألة الثالثة احتج من قال أقل الجمع إثنان بقوله تعالى وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ مع أن المراد داود وسليمان جوابه أن الحكم كما يضاف إلى الحاكم فقد يضاف إلى المحكوم له فإذا أضيف الحكم إلى المتحاكمين كان المجموع أكثر من الإثنين وقرىء وكنا لحكمهما شاهدين
المسألة الرابعة في كيفية القصة وجهان الأول قال أكثر المفسرين دخل رجلان على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث إن غنم هذا دخلت حرثي وما أبقت منه شيئاً فقال داود عليه السلام اذهب فإن الغنم لك فخرجا فمرا على سليمان فقال كيف قضى بينكما فأخبراه فقال لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا فأخبر بذلك داود عليه السلام فدعاه وقال كيف كنت تقضي بينهما فقال ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا كان الحرث من العام المستقبل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه الثاني قال ابن مسعود وشريح ومقاتل رحمهم الله أن راعياً نزل ذات ليلة بجنب كرم فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود عليه السلام فقضى له بالغنم لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الغنم تفاوت فخرجوا ومروا بسليمان فقال لهم كيف قضى بينكما فأخبراه به فقال غير هذا أرفق بالفريقين فأخبر داود عليه السلام بذلك فدعا سليمان وقال له بحق الأبوة والنبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين فقال تسلم الغنم إلى صاحب الكرم حتى يرتفق بمنافعها ويعمل الراعي في إصلاح الكرم حتى يصير كما كان ثم ترد الغنم إلى صاحبها فقال داود عليه السلام إنما القضاء ما قضيت وحكم بذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما حكم سليمان بذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة وههنا أمور ولا بد من البحث عنها
السؤال الأول هل في الآية دلالة على أنهما عليهما السلام اختلفا في الحكم أم لا فإن أبا بكر الأصم قال إنهما لم يختلفا ألبتة وأنه تعالى بين لهما الحكم لكنه بينه على لسان سليمان عليه السلام الجواب الصواب أنهما اختلفا والدليل إجماع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على ما رويناه وأيضاً فقد قال الله تعالى وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ثم قال فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ والفاء للتعقيب فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقاً على هذا التفهيم وذلك الحكم السابق إما أن يقال اتفقا فيه أو اختلفا فيه فإن اتفقا فيه لم يبق لقوله فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ فائدة وإن اختلفا فيه فذلك هو المطلوب
السؤال الثاني سلمنا أنهما اختلفا في الحكم ولكن هل كان الحكمان صادرين عن النص أو عن(22/169)
الاجتهاد الجواب الأمران جائزان عندنا وزعم الجبائي أنهما كانا صادرين عن النص ثم إنه تارة يبني ذلك على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء وأخرى على أن الاجتهاد وإن كان جائزاً منهم في الجملة ولكنه غير جائز في هذه المسألة
أما المأخذ الأول فقد تكلمنا فيه في الجملة في كتابنا المسمى بالمحصول في الأصول ولنذكر ههنا أصول الكلام من الطرفين احتج الجبائي على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء عليهم السلام بأمور أحدها قوله تعالى قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( يونس 15 ) وقوله تعالى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) وثانيها أن الاجتهاد طريقه الظن وهو قادر على إدراكه يقيناً فلا يجوز مصيره إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له أن يجتهد ثالثها أن مخالفة الرسول توجب الكفر لقوله تعالى فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ( النساء 65 ) ومخالفة المظنون والمجتهدات لا توجب الكفر ورابعها لو جاز أن يجتهد في الأحكام غير جائز عليه وخامسها أن الاجتهاد إنما يجوز المصير إليه عند فقد النص لكن فقدان النص في حق الرسول كالممتنع فوجب أن لا يجوز الاجتهاد منه وسادسها لو جاز الاجتهاد من الرسول لجاز أيضاً من جبريل عليه السلام وحينئذ لا يحصل الأمان بأن هذه الشرائع التي جاء بها أهي من نصوص الله تعالى أو من اجتهاد جبريل والجواب عن الأول أن قوله تعالى قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( يونس 15 ) لا يدل على قولكم لأنه وارد في إبدال آية بآية لأنه عقيب قوله قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْءانٍ غَيْرِ هَاذَا أَوْ بَدّلْهُ ( يونس 15 ) ولا مدخل للاجتهاد في ذلك وأما قوله تعالى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) فبعيد لأن من يجوز له الاجتهاد يقول إن الذي اجتهد فيه هو عن وحي على الجملة وإن لم يكن كذلك على التفصيل وإن الآية واردة في الأداء عن الله تعالى لا في حكمه الذي يكون بالعقل والجواب عن الثاني أن الله تعالى إذا قال له إذا غلب على ظنك كون الحكم معللاً في الأصل بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فههنا الحكم مقطوع به والظن غير واقع فيه بل في طريقه والجواب عن الثالث أنا لا نسلم أن مخالفة المجتهدات جائزة مطلقاً بل جواز مخالفتها مشروط بصدورها عن غير المعصوم والدليل عليه أنه يجوز على الأمة أن يجمعوا اجتهاداً ثم يمتنع مخالفتهم وحال الرسول أؤكد والجواب عن الرابع لعله عليه السلام كان ممنوعاً من الاجتهاد في بعض الأنواع أو كان مأذوناً مطلقاً لكنه لم يظهر له في تلك الصورة وجه الاجتهاد فلا جرم أنه توقف والجواب عن الخامس لم لا يجوز أن يحبس النص عنه في بعض الصور فحينئذ يحصل شرط جواز الاجتهاد والجواب عن السادس أن هذا الاحتمال مدفوع باجماع الأمة على خلافه فهذا هو الجواب عن شبه المنكرين والذي يدل على جواز الاجتهاد عليهم وجوه أحدها أنه عليه السلام إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل معلل بمعنى ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل وعنده مقدمة يقينية وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون وعند هذا إما أن يقدم على الفعل والترك معاً وهو محال لاستحالة الجمع بين النقيضين أو يتركهما وهو محال لاستحالة الخلو عن النقيضين أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل أو يرجح(22/170)
الراجح على المرجوح وذلك هو العمل بالقياس وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس وهي قائمة أيضاً في حق الأنبياء عليهم السلام وهذا يتوجه على جواز الاجتهاد من جبريل عليه السلام وثانيها قوله تعالى فَاعْتَبِرُواْ أمر للكل بالإعتبار فوجب اندراج الرسول عليه السلام فيه لأنه إمام المعتبرين وأفضلهم وثالثها أن الإستنباط أرفع درجات العلماء فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب فإن قيل هذا إنما يلزم لو لم تكن درجة أعلى من الإعتبار وليس الأمر كذلك لأنه كان يستدرك الأحكام وحياً على سبيل اليقين فكان أرفع درجة من الاجتهاد الذي ليس قصاراه إلا الظن قلنا لا يمتنع أن لا يجد النص في بعض المواضع فلو لم يتمكن من الاجتهاد لكان أقل درجة من المجتهد الذي يمكنه أن يعرف ذلك الحكم من الإجتهاد وأيضاً قد بينا أن الله تعالى لما أمره بالإجتهاد كان ذلك مفيداً للقطع بالحكم ورابعها قال عليه السلام ( العلماء ورثة الأنبياء ) فوجب أن يثبت للأنبياء درجة الإجتهاد ليرث العلماء عنهم ذلك هذا تمام القول في هذه المسألة وخامسها أنه تعالى قال عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ فذاك الإذن إن كان بإذن الله تعالى استحال أن يقول لم أذنت لهم وإن كان بهوى النفس فهو غير جائز وإن كان بالاجتهاد فهو المطلوب
المأخذ الثاني قال الجبائي لو جوزنا الاجتهاد من الأنبياء عليهم السلام ففي هذه المسألة يجب أن لا يجوز لوجوه أحدها أن الذي وصل إلى صاحب الزرع من در الماشية ومن منافعها مجهول المقدار فكيف يجوز في الاجتهاد جعل أحدهما عوضاً عن الآخر وثانيها أن اجتهاد داود عليه السلام إن كان صواباً لزم أن لا ينقض لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وإن كان خطأ وجب أن يبين الله تعالى توبته كسائر ما حكاه عن الأنبياء عليهم السلام فلما مدحهما بقوله وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً دل على أنه لم يقع الخطأ من داود وثالثها لو حكم بالاجتهاد لكان الحاصل هناك ظناً لا علماً لأن الله تعالى قال وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ورابعها كيف يجوز أن يكون عن اجتهاد من مع قوله فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ والجواب عن الأول أن الجهالة في القدر لا تمنع من الاجتهاد كالجعالات وحكم المصراة وعن الثاني لعله كان خطأ من باب الصغائر وعن الثالث بينا أن من تمسك بالقياس فالظن واقع في طريق إثبات الحكم فأما الحكم فمقطوع به وعن الرابع أنه إذا تأمل واجتهد فأداه اجتهاده إلى ما ذكرنا كان الله تعالى فهمه من حيث بين له طريق ذلك فهذه جملة الكلام في بيان أنه لا يمتنع أن يكون اختلاف داود وسليمان عليهما السلام في ذلك الحكم إنما كان بسبب الاجتهاد وأما بيان أنه لا يمتنع أيضاً أن يكون اختلافهما فيه بسبب النص فطريقه أن يقال إن داود عليه السلام كان مأموراً من قبل الله تعالى في هذه المسألة بالحكم الذي حكم به ثم إنه سبحانه نسخ ذلك بالوحي إلى سليمان عليه السلام خاصة وأمره أن يعرف داود ذلك فصار ذلك الحكم حكمهما جميعاً فقوله فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ أي أوحينا إليه فإن قيل هذا باطل لوجهين الأول لما أنزل الله تعالى الحكم الأول على داود وجب أن ينزل نسخه أيضاً على داود لا على سليمان الثاني أن الله تعالى مدح كلا منهما على الفهم ولو كان ذلك على سبيل النص لم يكن في فهمه كثير مدح إنما المدح الكثير على قوة الخاطر والحذاقة في الاستنباط
المسألة الثالثة إذا أثبتم أنه يجوز أن يكون اختلافهما لأجل النص وأن يكون لأجل الاجتهاد فأي(22/171)
القولين أولى والجواب الاجتهاد أرجح لوجوه أحدها أنه روى في الأخبار الكثيرة أن داود عليه السلام لم يكن قد بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان أن غير ذلك أولى وفي بعضها أن داود عليه السلام ناشده لكي يورد ما عنده وكل ذلك لا يليق بالنص لأنه لو كان نصاً لكان يظهره ولا يكتمه
السؤال الرابع بينوا أنه كيف كان طريق الاجتهاد الجواب أن وجه الاجتهاد فيه ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن داود عليه السلام قوم قدر الضرر بالكرم فكان مساوياً لقيمة الغنم فكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر أن يزال بمثله من النفع فلا جرم سلم الغنم إلى المجنى عليه كما قال أبو حنيفة رحمه الله في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه وأما سليمان عليه السلام فإن اجتهاده أدى إلى أن يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد فأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائز لأنه يقتضي الحيف والجور ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الكرم فحكم به كما قال الشافعي رضي الله عنه فيمن غصب عبداً فأبق من يده أنه يضمن القيمة لينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد فإذا ظهر ترادا
السؤال الخامس على تقدير أن ثبت قطعاً أن تلك المخالفة كانت مبنية على الاجتهاد فهل تدل هذه القصة على أن المصيب واحد أو الكل مصيبون الجواب أما القائلون بأن المصيب واحد ففيهم من استدل بقوله تعالى فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ قال ولو كان الكل مصيباً لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة وأما القائلون بأن الكل مصيبون ففيهم من استدل بقوله وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ولو كان المصيب واحداً ومخالفه مخطئاً لما صح أن يقال وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً واعلم أن الإستدلالين ضعيفان أما الأول فلأن الله تعالى لم يقل إنه فهمه الصواب فيحتمل أنه فهمه الناسخ ولم يفهم ذلك داود عليه السلام لأنه لم يبلغه وكل واحد منهما مصيب فيما حكم به على أن أكثر ما في الآية أنها دالة على أن داود وسليمان عليهما السلام ما كانامصيبين وذلك لا يوجب أن يكون الأمر كذلك في شرعنا وأما الثاني فلأنه تعالى لم يقل إن كلا آتيناه حكماً وعلماً بما حكم به بل يجوز أن يكون آتيناه حكماً وعلماً بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام على أنه لا يلزم من كون كل مجتهد مصيباً في شرعهم أن يكون الأمر كذلك في شرعنا
السؤال السادس لو وقعت هذه الواقعة في شرعنا ما حكمها الجواب قال الحسن البصري هذه الآية محكمة والقضاة بذلك يقضون إلى يوم القيامة واعلم أن كثيراً من العلماء يزعمون أنه منسوخ بالإجماع ثم اختلفوا في حكمه فقال الشافعي رحمه الله إن كان ذلك بالنهار لا ضمان لأن لصاحب الماشية تسييب ماشيته بالنهار وحفظ الزرع بالنهار على صاحبه وإن كان ليلاً يلزمه الضمان لأن حفظها بالليل عليه وقال أبو حنيفة رحمه الله لا ضمان عليه ليلاً كان أو نهاراً إذا لم يكن متعدياً بالإرسال لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( جرج العجماء جبار ) واحتج الشافعي رحمه الله بما روي عن البراء بن عازب أنه قال ( كانت ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدته فذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل ) وهذا تمام القول في هذه الآية ثم إن الله تعالى ذكر بعد ذلك من النعم التي خص بها داود عليه أمرين الأول قوله تعالى وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وفيه مسائل(22/172)
المسألة الأولى في تفسير هذا التسبيح وجهان أحدهما أن الجبال كانت تسبح ثم ذكروا وجوهاً أحدها قال مقاتل إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه وثانيها قال الكلبي إذا سبح داود أجابته الجبال وثالثها قال سليمان بن حيان كان داود عليه السلام إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطاً واشتياقاً القول الثاني وهو اختيار بعض أصحاب المعاني أنه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال والطير بمثابة قوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وتخصيص داود عليه السلام بذلك إنما كان بسبب أنه عليه السلام كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقيناً وتعظيماً والقول الأول أقرب لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره وأما المعتزلة فقالوا لو حصل الكلام من الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله تعالى فيه والأول محال لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة والعلم والقدرة وما لا يكون حياً عالماً قادراً يستحيل منه الفعل والثاني أيضاً محال لأن المتكلم عندهم من كان فاعلاً للكلام لا من كان محلاً للكلام فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله تعالى لكان المتكلم هو الله تعالى لا الجبل فثبت أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره فعند هذا قالوا في وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ ومثله قوله تعالى فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ ( سبإ 10 ) معناه تصرفي معه وسيري بأمره ويسبحن من السبح الذي السباحة خرج اللفظ فيه على التكثير ولو لم يقصد التكثير لقيل يسبحن فلما كثر قيل يسبحن معه أي سيرى وهو كقوله إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً ( المزمل 7 ) أي تصرفاً ومذهباً إذا ثبت هذا فنقول إن سيرها هو التسبيح لدلالته على قدرة الله تعالى وعلى سائر ما تنزه عنه واعلم أن مدار هذا القول على أن بنية الجبل لا تقبل الحياة وهذا ممنوع وعلى أن التكلم من فعل الله وهو أيضاً ممنوع
المسألة الثانية أما الطير فلا امتناع في أن يصدر عنها الكلام ولكن أجمعت الأمة على أن المكلفين إما الجن أو الإنس أو الملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف بل تكون على حالة كحال الطفل في أن يؤمر وينهي وإن لم يكن مكلفاً فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق وأيضاً فيه دلالة على قدرة الله تعالى وعلى تنزهه عما لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) يسبحن حال بمعنى مسبحات أو استئناف كأن قائلاً قال كيف سخرهن فقال يسبحن والطير إما معطوف على الجبال وإما مفعول معه فإن قلت لم قدمت الجبال على الطير قلت لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق
أما قوله وَكُنَّا فَاعِلِينَ فالمعنى أنا قادرون على أن نفعل هذا وإن كان عجباً عندكم وقيل نفعل ذلك بالأنبياء عليهم السلام
الإنعام الثالث قوله تعالى وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اللبوس اللباس قال ألبس لكل حالة لبوسها
المسألة الثانية لتحصنكم قرىء بالنون والياء والتاء وتخفيف الصاد وتشديدها فالنون لله عز وجل والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع والياء لله تعالى أو لداود أو للبوس(22/173)
المسألة الثالثة قال قتادة أول من صنع الدرع داود عليه السلام وإنما كانت صفائح قبله فهو أول من سردها واتخذها حلقاً ذكر الحسن أن لقمان الحكيم عليه السلام حضره وهو يعمل الدرع فأراد أن يسأل عما يفعل ثم سكت حتى فرغ منها ولبسها على نفسه فقال الصمت حكمة وقليل فاعله قالوا إن الله تعالى ألان الحديد له يعمل منه بغير نار كأنه طين
المسألة الرابعة البأس ههنا الحرب وإن وقع على السوء كله والمعنى ليمنعكم ويحرسكم من بأسكم أي من الجرح والقتل والسيف والسهم والرمح
المسألة الخامسة فيه دلالة على أن أول من عمل الدرع داود ثم تعلم الناس منه فتوارث الناس عنه ذلك فعمت النعمة بها كل المحاربين من الخلق إلى آخر الدهر فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة فقال فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ أي اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة واعلم أنه سبحانه لما ذكر النعم التي خص داود بها ذكر بعده النعم التي خص بها سليمان عليه السلام وقال قتادة ورث الله تعالى سليمان من داود ملكه ونبوته وزاده عليه أمرين سخر له الريح والشياطين
الإنعام الأول قوله تعالى وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَة ً تَجْرِى بِأَمْرِهِ أي جعلناها طائعة منقادة له بمعنى أنه إن أرادها عاصفة كانت عاصفة وإن أرادها لينة كانت لينة والله تعالى مسخرها في الحالتين فإن قيل العاصف الشديدة الهبوب وقد وصفها الله تعالى بالرخاوة في قوله رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ فكيف يكون الجمع بينهما والجواب من وجهين الأول أنها كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وكانت جامعة بين الأمرين رخاء في نفسها وعاصفة في عملها مع طاعتها لسليمان عليه السلام وهبوبها على حسب ما يريد ويحكم آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة الثاني أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفاً لأجل هبوبها على حكم إرادته
المسألة السادسة قرىء الريح والرياح بالرفع والنصب فيهما فالرفع على الابتداء والنصب للعطف على الجبال فإن قيل قال في دواد وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالُ وقال في حق سليمان وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ فذكره في حق داود عليه السلام بكلمة مع وفي حق سليمان عليه السلام باللام وراعى هذا الترتيب أيضاً في قوله فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وقال فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ فما الفائدة في تخصيص داود عليه السلام بلفظ مع وسليمان باللام قلنا يحتمل أن الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف فما أضيف إليه بلام التمليك أما الريح فلم يصدر عنه إلا ما يجري مجرى الخدمة فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك وهذا إقناعي
أما قوله إِلَى الاْرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ أي إلى المضي إلى بيت المقدس قال الكلبي كانت تسير في اصطخر إلى الشام يركب عليها سليمان وأصحابه
أما قوله وَكُنَّا بِكُلّ شَى ْء عَالِمِينَ أي لعلمنا بالأشياء صح منا أن ندبر هذا التدبير في رسلنا وفي(22/174)
خلقنا وأن نفعل هذه المعجزات القاهرة
الإنعام الثاني قوله تعالى وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذالِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد أنهم يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما قال يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ وأما الصناعات فكاتخاذ الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون
المسألة الثانية قوله وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ يعني وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له فيكون في موضع النصب نسقاً على الريح قال الزجاج ويجوز أن يكون في موضع رفع من وجهين أحدهما النسق على الريح وأن يكون المعنى ولسليمان الريح وله من يغوصون له من الشياطين ويجوز أن يكون رفعاً على الابتداء ويكون له هو الخبر
المسألة الثالثة يحتمل أن يكون من يغوص منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال ويحتمل أنهم فرقة أخرى ويكون الكل داخلين في لفظة من وإن كان الأول هو الأقرب
المسألة الرابعة ليس في الظاهر إلا أنه سخرهم لكنه قد روى أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين وهو الأقرب من وجهين أحدهما إطلاق لفظ الشياطين والثاني قوله وكنا لهم حافظين فإن المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد وإنما يجب ذلك في الكافر
المسألة الخامسة في تفسير قوله وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ وجوه أحدها أنه تعالى وكل بهم جمعاً من الملائكة أو جمعاً من مؤمني الجن وثانيها سخرهم الله تعالى بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم من مخالفته وثالثها قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد وسلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء فإن قيل وعن أي شيء كانوا محفوظين قلنا فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه تعالى كان يحفظهم عليه لئلا يذهبوا ويتركوه وثانيها قال الكلبي كان يحفظهم من أن يهيجوا أحداً في زمانه وثالثها كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا فكان دأبهم أنهم يعملون بالنهار ثم يفسدونه في الليل
المسألة السادسة سأل الجبائي نفسه وقال كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل وإنما يمكنهم الوسوسة وأجاب بأنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزاً لسليمان عليه السلام فلما مات سليمان ردهم الله إلى الخلقة الأولى لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس ولو ادعى متنبى النبوة وجعله دلالة لكان كمعجزات الرسل فلذا ردهم إلى خلقتهم الأولى واعلم أن هذا الكلام ساقط من وجوه أحدها لم قلت إن الجن من الأجسام ولم لا يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ويكون الجن منهم فإن قلت لو كان الأمر كذلك لكان مثلاً للباري تعالى قلت هذا ضعيف لأن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فكيف اللوازم السلبية سلمنا أنه جسم لكن لا يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف وكلامه بناء على البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف سلمنا أنه لا(22/175)
بد من تكثيف أجسامهم لكن لم قلت بأنه لا بد من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت سليمان عليه السلام فإن قال لئلا يفضي إلى التلبيس قلنا التلبيس غير لازم لأن المتنبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه فللمدعي أن يقول لم لا يجوز أن يقال إن قوة أجسادهم كانت معجزة لنبي آخر قبلك ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة أما الكثيف فأكثف الأجسام الحجارة والحديد وقد جعلهما الله تعالى معجزة لداود عليه السلام فأنطق الحجر ولين الحديد وكل واحد منهما كما يدل على التوحيد والنبوة يدل على صحة الحشر لأنه لما قدر على إحياء الحجارة فأي بعد في إحياء العظام الرميمة وإذا قدر على أن يجعل في إصبع داود عليه السلام قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة فأي بعد في أن يجعل التراب اليابس جسماً حيوانياً وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار وقد جعلهما الله معجزة لسليمان عليه السلام أما الهواء فقوله تعالى فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ وأما النار فلأن الشياطين مخلوقون منها وقد سخرهم الله تعالى فكان يأمرهم بالغوص في المياه والنار تنطفيء بالماء وهم ما كان يضرهم ذلك وذلك يدل على قدرته على إظهار الضد من الضد
( القصة السادسة قصة أيوب عليه السلام )
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِى َ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَة ً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ
اعلم أن في أمر أيوب عليه السلام وما ذكره الله تعالى من شأنه ههنا وفي غيره من ا لقرآن من العبر والدلائل ما ليس في غيره لأنه تعالى مع عظيم فضله أنزل به من المرض العظيم ما أنزله مما كان غيره له ولغيره ولسائر من سمع بذلك وتعريفاً لهم أن الدنيا مزرعة الآخرة وأن الواجب على المرء أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها ويجتهد في القيام بحق الله تعالى ويصبر على حالتي الضراء والسراء وفيه مسائل
المسألة الأولى قال وهب بن منبه كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم وهو أيوب ابن أنوص وكان من ولد عيص بن إسحق وكانت أمه من ولد لوط وكان الله تعالى قد اصطفاه وجعله نبياً وكان مع ذلك قد أعطاه من الدنيا حظاً وافراً من النعم والدواب والبساتين وأعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء وكان رحيماً بالمساكين وكان يكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وعرفوا فضله قال وهب وإن لجبريل عليه السلام بين يدي الله تعالى مقاماً ليس لأحد من الملائكة مثله في القربة والفضيلة وهو الذي يتلقى الكلام فإذا ذكر الله عبداً بخير تلقاه جبريل عليه السلام ثم تلقاه ميكائيل عليه السلام ثم من حوله من الملائكة المقربين فإذا شاع ذلك فهم يصلون عليه ثم صلت ملائكة السموات ثم ملائكة الأرض وكان إبليس لم يحجب عن شيء من السموات وكان يقف فيهن حيثما أراد ومن هناك وصل إلى(22/176)
آدم عليه السلام حتى أخرجه من الجنة ولم يزل على ذلك حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع فكان يصعد بعد ذلك إلى ثلاث إلى زمان نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فحجب عند ذلك عن جميع السموات إلا من استرق السمع قال فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب فأدركه الحسد فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه فقال يا رب إنك أنعمت على عبدك أيوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجربه بشدة ولا بلاء وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك فقال الله تعالى انطلق فقد سلطتك على ماله فانقض الملعون حتى وقع إلى الأرض وجمع عفاريت الشياطين وقال لهم ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب قال عفريت أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار فأحرقت كل شيء آتى عليه فقال إبليس فأت الإبل ورعاءها فذهب ولم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها شيء إلا احترق فلم يزل يحرقها ورعاءها حتى أتى على آخرها فذهب إبليس على شكل بعض أولئك الرعاة إلى أيوب فوجده قائماً يصلي فلما فرغ من الصلاة قال يا أيوب هل تدري ما صنع ربك الذي اخترته بإبلك ورعائها فقال أيوب إنها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه قال إبليس فإن ربك أرسل عليها ناراً من السماء فاحترقت ورعاؤها كلها وتركت الناس مبهوتين متعجبين منها فمن قائل يقول ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور ومن قائل يقول لو كان إله أيوب يقدر على شيء لمنع من وليه ومن قائل آخر يقول بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت عدوه به ويفجع به صديقه فقال أيوب عليه السلام الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود في التراب وعرياناً أحشر إلى الله تعالى ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيداً وآجرني فيك ولكن الله علم منك شراً فأخرك فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً فقال عفريت آخر عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه فقال إبليس فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها فخرج إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول ورد عليه أيوب الرد الأول فرجع إبليس صاغراً فقال عفريت آخر عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال فاذهب إلى الحرث والثيران فأتاهم فأهلكهم ثم رجع إبليس متمثلاً حتى جاء أيوب وهو يصلي فقال مثل قوله الأول فرد عليه أيوب الرد الأول فجعل إبليس يصيب أمواله شيئاً فشيئاً حتى أتى على جميعها فلما رأى إبليس صبره على ذلك وقف الموقف الذي كان يقفه عند الله تعالى وقال يا إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة المضلة فقال الله تعالى انطلق فقد سلطتك على ولده فأتى أولاد أيوب في قصرهم فلم يزل يزلزله بهم من قواعده حتى قلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب متمثلاً بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب عليه السلام وبكى وقبض قبضة من التراب ووضعها على رأسه فاغتنم ذلك إبليس ثم لم يلبث أيوب عليه السلام حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال يا إلهي إنما يهون على أيوب خطر المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك فقال تعالى انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه فانقض عدو الله سريعاً فوجد أيوب عليه السلام ساجداً لله تعالى فأتاه من قبل الأرض فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وخرج به من فرقه إلى قدمه(22/177)
ثآليل وقد وقعت فيه حكة لا يملكها وكان يحك بأظفاره حتى سقطت أظفاره ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم بالفخار والحجارة ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير ونتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشاً ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت افرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره ثم إن وهبا طول في الحكاية إلى أن قال إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثاً متضرعاً إليه فقال يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي ويا ليتني كنت عرفت الذنب الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم ولياً وللأرملة قيماً إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء غرضاً وللفتنة نصباً وسلطت علي ما لو سلطته على جبل لضعف من حمله إلهي تقطعت أصابعي وتساقطت لهواتي وتناثر شعري وذهب المال وصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها علي ويعيرني بفقري وهلاك أولادي قال الإمام أبو القاسم الأنصاري رحمه الله وفي جملة هذا الكلام ليتك لو كرهتني لم تخلقني ثم قال ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى وأن يخرجه عن حلية الصابرين والله تعالى لم يخبر عنه إلا قوله أَنّى مَسَّنِى َ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ثم قال إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( ص 44 ) واختلف العلماء في السبب الذي قال لأجله أَنّى مَسَّنِى َ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وفي مدة بلائه فالرواية الأولى روى ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان ويروحان إيه فقال أحدهما للآخر ذات يوم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين فقال له صاحبه وما ذاك فقال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى ولم يكشف ما به فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب عليه السلام فقال أيوب ما أدري ما تقولون غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله عز وجل فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق وفي رواية أخرى أن الرجلين لما دخلا عليه وجدا ريحاً فقالا لو كان لأيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة قال فما شق على أيوب شيء مما ابتلى به أشد مما سمع منهما فقال اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعاناً وأنا أعلم بمكان جائع فصدقني فصدقه وهما يسمعان ثم خر أيوب عليه السلام ساجداً ثم قال اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي قال فكشف الله ما به الرواية الثانية قال الحسن رحمه الله مكث أيوب عليه السلام بعد ما ألقى على الكناسة سبع سنين وأشهراً ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته رحمة صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام وتحمد الله تعالى مع أيوب وكان أيوب مواظباً على حمد الله تعالى والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعاً من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض وقالوا له ما خبرك قال أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فلم أدع له مالاً ولا ولداً ولم يزدد بذلك إلا صبراً وحمداً لله تعالى ثم سلطت على جسده فتركته ملقى في كناسة وما يقربه إلا امرأته وهو مع ذلك لا يفتر عن الذكر والحمد لله فاستعنت بكم لتعينوني عليه فقالوا له أين مكركا أين عملك الذي أهلكت به من مضى قال بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا علي قالوا أدليت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته قال من قبل امرأته قالوا(22/178)
فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقر به أحد غيرها قال أصبتم فانطلق حتى أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال أين بعلك يا أمة الله قالت هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده فلما سمعها طمع أن يكون ذلك كله جزعاً فوسوس إليها وذكرها ما كان لها من النعم والمال وذكرها جمال أيوب وشبابه قال الحسن رحمه الله فصرخت فلما صرخت علم أنها قد جزعت فأتاها بسخلة وقال ليذبح هذه لي أيوب ويبرأ قال فجاءت تصرخ إلى أيوب يا أيوب حتى متى يعذبك ربك ألا يرحمك أين المال أين الماشية أين الولد أين الصديق أين اللون الحسن أين جسمك الذي قد بلى وصار مثل الرماد وتردد فيه الدواب أذبح هذه السخلة واسترح فقال أيوب عليه السلام أتاك عدو الله ونفخ فيك فأجبتيها ويلك أترين ما تبكين عليه مما تذكرين مما كنا فيه من المال والولد والصحة من أعطانا ذلك قالت الله قال فكم متعنا به قالت ثمانين سنة قال فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء قالت منذ سبع سنين وأشهر قال ويلك والله ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله وحرام علي أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به فطردها فذهبت فلما نظر أيوب في شأنه وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت امرأته خر ساجداً وقال رَبّ إِنّى مَسَّنِى َ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فقال ارفع رأسك فقد استجبت لك ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت منه ثم ضرب برجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحاً وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن ما كان ثم كسى حلة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من الأهل والولد والمال إلا وقد ضعفه الله تعالى حتى صار أحسن مما كان حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب قال فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها قال فخرج حتى جلس على مكان مشرف ثم إن امرأته قالت هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعاً وتأكله السباع لأرجعن إليه فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ولا تلك الحال وإذا بالأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب عليه السلام وهابت صاحب الحلة أن تأتيه وتسأله عنه فأرسل إليها أيوب عليه السلام ودعاها وقال ما تريدين يا أمة الله فبكت وقالت أردت ذلك المبتلي الذي كان ملقى على الكناسة فقال لها أيوب عليه السلام ما كان منك فبكت وقالت بعلي فقال أتعرفينه إذا رأيتيه قالت وهل يخفى على أحد يراها فتبسم وقال أنا هو فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال إنك أمرتيني أن أذبح سخلة لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله تعالى فرد علي ما ترين الرواية الثالثة قال الضحاك ومقاتل بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات وقال وهب رحمه الله بقي في البلاء ثلاث سنين فلما غلب أيوب إبليس لعنه الله ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها أنت صاحبة أيوب قالت نعم قال فهل تعرفيني قالت لا قال أنا إله الأرض أنا صنعت بأيوب ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك وعليه جميع مالكما من مال وولد فإن ذلك عندي قال وهب وسمعت أنه قال لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم الله تعالى لعوفي مما هو فيه(22/179)
من البلاء وفي رواية أخرى بل قال لها لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها فقال لها أيوب أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك ثم أقسم لئن عافاني الله لأجدلنك مائة جلدة وقال عند ذلك مَسَّنِى َ الضُّرُّ يعني من طمع إبليس في سجودي له وسجود زوجتي ودعائه إياها وإياي إلى الكفر الرواية الرابعة قال وهب كانت امرأة أيوب عليه السلام تعمل للناس وتأتيه بقوته فلما طال عليه البلاء سئمها الناس فلم يستعملوها فالتمست ذات يوم شيئاً من الطعام فلم تجد شيئاً فجزت قرناً من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها أين قرنك فأخبرته بذلك فحينئذ قال مَسَّنِى َ الضُّرُّ الرواية الخامسة قال إسماعيل السدي لم يقل أيوب مسني الضر إلا لأشياء ثلاث أحدها قول الرجلين له لو كان عملك الذي كنا نرى لله تعالى لما أصابك الذي أصابك وثانيها كان لامرأته ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزاً ولحماً فجاءت إلى أيوب عليه السلام فقال من أين هذا فقالت كل فإنه حلال فلما كان من الغد لم تجد شيئاً فباعت الثانية وكذلك فعلت في اليوم الثالث وقالت كل فإنه حلال فقال لا آكل ما لم تخبريني فأخبرته فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم وقيل إنما باعت ذوائبها لأن إبليس تمثل لقوم في صورة بشر وقال لئن تركتم أيوب في قريتكم فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فأخرجوه إلى باب البلد ثم قال لهم إن امرأته تدخل في بيوتكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها وثالثها حين قالت له امرأته ما قالت فحينئذ دعا الرواية السادسة قيل سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها إلى موضعها وقال قد جعلني الله تعالى طعمة لك فعضته عضة شديدة فقال مسني الضر فأوحى الله تعالى إليه لولا أني جعلت تحت كل شعرة منك صبراً لما صبرت
المسألة الثانية إعلم أن المعتزلة قد طعنوا في هذه القصة من وجوه أحدها قال الجبائي ذهب بعض الجهال إلى أن ما كان به من المرض كان فعلاً للشيطان سلطه الله عليه لقوله تعالى حكاية عنه مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ وهذا جهل أما أولاً فلأنه لو قدر على إحداث الأمراض والأسقام وضدهما من العافية لتهيأ له فعل الأجسام ومن هذا حاله يكون إلهاً وأما ثانياً فلأن الله تعالى أخبر عنه وعن جنوده بأنه قال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) والواجب تصديق خبر الله تعالى دون الرجوع إلى ما يروى عن وهب بن منبه رضي الله عنه واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف لأن المذكور في الحكاية أن الشيطان نفخ في منخره فوقعت الحكة فيه فلم قلتم إن القادر على النفخة التي تولد مثل هذه الحكة لا بد وأن يكون قادراً على خلق الأجسام وهل هذا إلا محض التحكم وأما التمسك بالنص فضعيف لأنه إنما يقدم على هذا الفعل متى علم أنه لو أقدم عليه لما منعه الله تعالى عنه وهذه الحالة لم تحصل إلا في حق أيوب عليه السلام على ما دلت الحكاية عليه من أنه استأذن الله تعالى فأذن له فيه ومتى كان كذلك لم يبق بين ذلك النص وبين هذه الحكاية مناقضة وثانيها قالوا ما روي أنه عليه السلام لم يسأل إلا عند أمور مخصوصة فبعيد لأن الثابت في العقل أنه يحسن من المرء أن يسأل في ذلك ربه ويفزع إليه كما يحسن منه المداواة وإذا جاز أن يسأل ربه عند الغم مما يراه من إخوانه وأهله جاز أيضاً أن يسأل ربه(22/180)
من قبل نفسه فإن قيل أفلا يجوز أنه تعالى تعبده بأن لا يسأل الكشف إلا في آخر أمره قلنا يجوز ذلك بأن يعلمه بأن إنزال ذلك به مدة مخصوصة من مصالحه ومصالح غيره لا محالة فعلم عليه السلام أنه لا وجه للمسألة في هذا الأمر الخاص فإذا قرب الوقت جاز أن يسأل ذلك من حيث يجوز أن يدوم ويجوز أن ينقطع وثالثها قالوا انتهاء ذلك المرض إلى حد التنفير عنه غير جائز لأن الأمراض المنفرة من القبول غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام فهذا جملة ما قيل في هذه الحكاية
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قوله تعالى أَنّى مَسَّنِى َ الضُّرُّ أي ناداه بأني مسني الضر وقرىء إني بالكسر على إضمار القول أو لتضمين النداء معناه والضر بالفتح الضرر في كل شيء وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال
المسألة الرابعة أنه عليه السلام ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب فإن قيل أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابراً والجواب قال سفيان بن عيينة رحمه الله من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ( يوسف 86 ) أما قوله وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ فالدليل على أنه سبحانه أَرْحَمُ الرحِمِينَ أمور أحدها أن كل من رحم غيره فأما أن يرحمه طلباً للثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو دفعاً للرقة الجنسية عن الطبع وحينئذ يكون مطلوب ذلك الراحم منفعة نفسه أما الحق سبحانه فإنه يرحم عباده من غير وجه من هذه الوجوه ومن غير أن يعود إليه من تلك الرحمة زيادة ولا نقصان من الثناء ومن صفات الكمال فكان سبحانه أرحم الراحمين وثانيها أن كل من يرحم غيره فلا يكون ذلك إلا بمعونة رحمة الله تعالى لأن من أعطى غيره طعاماً أو ثوباً أو دفع عنه بلاء فلولا أنه سبحانه خلق المطعوم والملبوس والأدوية والأغذية وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء ثم بعد وصول تلك العطية إليه فلولا أنه سبحانه جعله سبباً للراحة لما حصل النفع بذلك فإذاً رحمة العباد مسبوقة برحمة الله تعالى وملحوقة برحمته بل رحمتهم فيما بين الطرفين كالقطرة في البحر فوجب أن يكون تعالى هو أرحم الراحمين وثالثها أن الله تعالى لو لم يخلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور ذلك الفعل عنه فكان الراحم هو الحق سبحانه من حيث إنه هو الذي أنشأ تلك الداعية فثبت أنه أرحم الراحمين فإن قيل كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه سبحانه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام وسلط البعض على البعض بالذبح والكسر والإيذاء وكان قادراً على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وإيذائه والجواب أن كونه سبحانه ضاراً لا ينافي كونه نافعاً بل هو الضار النافع فإضراره ليس لدفع مشقة وإنفاعه ليس لجلب منفعة بل لا يسأل عما يفعل
أما قوله تعالى فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فإنه يدل على أنه دعا ربه لكن هذا الدعاء قد يجوز أن يكون واقعاً منه على سبيل التعريض كما يقال إن رأيت أو أردت أو أحببت فافعل كذا ويجوز أن يكون على سبيل التصريح وإن كان الأليق بالأدب وبدلالة الآية هو الأول ثم إنه سبحانه بين أن كشف ما به من ضر وذلك يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله وبين الله تعالى أنه آتاه أهله ويدخل فيه من ينسب إليه من زوجة وولد(22/181)
وغيرهما ثم فيه قولان أحدهما وهو قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والكلبي وكعب رضي الله عنهم أن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم والثاني روى الليث رضي الله عنه قال أرسل مجاهد إلى عكرمة وسأله عن الآية فقال قيل له إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا فقال يكونون لي في الآخرة وأوتي مثلهم في الدنيا والقول الأول أولى لأن قوله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ يدل بظاهره على أنه تعالى أعادهم في الدنيا وأعطاه معهم مثلهم أيضاً
وأما قوله تعالى وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ففيه دلالة على أنه تعالى فعل ذلك لكي يتفكر فيه فيكون داعية للعابدين في الصبر والإحتساب وإنما خص العابدين بالذكر ( ى ) لأنهم يختصون بالانتفاع بذلك
( القصة السابعة )
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصَّالِحِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر صبر أيوب عليه السلام وانقطاعه إليه أتبعه بذكر هؤلاء فإنهم كانوا أيضاً من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة أما إسمعيل عليه السلام فلأنه صبر على الإنقياد للذبح وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء وصبر في بناء البيت فلا جرم أكرمه الله تعالى وأخرج صلبه خاتم النبيين وأما إدريس عليه السلام فقد تقدمت قصته في سورة مريم عليها السلام قال ابن عمر رضي الله عنهما ( بعث إلى قومه داعياً لهم إلى الله تعالى فأبوا فأهلكهم الله تعالى ورفع إدريس إلى السماء الرابعة ) وأما ذوا الكفل ففيه مسائل
المسألة الأولى فيها بحثان
الأول قال الزجاج الكفل في اللغة الكساء الذي يجعل على عجز البعير والكفل أيضاً النصيب واختلفوا في أنه لم سمي بهذا الاسم على وجوه أحدها وهو قول المحققين أنه كان له ضعف عمل الأنبياء عليهم السلام في زمانه وضعف ثوابهم وثانيها قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية ( إن نبياً من أنبياء بني إسرائيل آتاه الله الملك والنبوة ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك فأعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل حتى يصبح ويصوم بالنهار فلا يفطر ويقضي بين الناس فلا يغضب فادفع ملكك إليه فقام ذلك النبي في بني إسرائيل وأخبرهم بذلك فقام شاب وقال أنا أتكفل لك بهذا فقال في القوم من هو أكبر منك فاقعد ثم صاح الثانية والثالثة فقام الرجل وقال أتكفل لك بهذه الثلاث فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن فحسده إبليس فأتاه وقت ما يريد أن يقيل فقال إن لي غريماً قد مطلني(22/182)
حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة ودعا إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح ثم أتاه من الغد عند القيلولة فقال إن الرجل الذي استأذنتك له في موضع كذا فلا تبرح حتى آتيك به فذهب وبقي منتظراً حتى فاتته القيلولة ثم أتاه فقال له هرب مني فمضى ذو الكفل إلى صلاته فصلى ليلته حتى أصبح فأتاه إبليس وعرفه نفسه وقال له حسدتك على عصمة الله إياك فأردت أن أخرجك حتى لا تفي بما تكفلت به فشكره الله تعالى على ذلك ونبأه فسمي ذا الكفل ) وعلى هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة وثالثها قال مجاهد لما كبر اليسع عليه السلام قال لو أني استخلفت رجلاً على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل فجمع الناس وقال من يتقبل مني حتى استخلفه ثلاثاً يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي فلا يغضب وذكر علي كرم الله وجهه نحو ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه من فعل إبليس وتفويته عليه القيلولة ثلاثة أيام وزاد أن ذا الكفل قال للبواب في اليوم الثالث قد غلب علي النعاس فلا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق علي النعاس فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة في البيت وتسور فيها فإذا هو يدق الباب من داخل فاستيقظ الرجل وعاتب البواب فقال أما من قبلي فلم تؤت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ معه في البيت فقال له أتنام والخصوم على الباب فعرفه فقال أنت إبليس قال نعم أعييتني في كل شيء ففعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بما تكفل به
المسألة الثانية قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ومجاهد ذو الكفل لم يكن نبياً ولكن كان عبداً صالحاً وقال الحسن والأكثرون إنه من الأنبياء عليهم السلام وهذا أولى الوجوه أحدها أن ذا الكفل يحتمل أن يكون لقباً وأن يكون اسماً والأقرب أن يكون مفيداً لأن الاسم إذا أمكن حمله على ما يفيد فهو أولى من اللقب إذا ثبت هذا فنقول الكفل هو النصيب والظاهر أن الله تعالى إنما سماه بذلك على سبيل التعظيم فوجب أن يكون ذلك الكفل هو كفل الثواب فهو إنما سمي بذلك لأن عمله وثواب عمله كان ضعف عمل غيره وضعف ثواب غيره ولقد كان في زمنه أنبياء على ما روي ومن ليس بنبي لا يكون أفضل من الأنبياء وثانيها أنه تعالى قرن ذكره بذكر إسمعيل وإدريس والغرض ذكر الفضلاء من عباده ليتأسى بهم وذلك يدل على نبوته وثالثها أن السورة ملقبة بسورة الأنبياء فكل من ذكره الله تعالى فيها فهو نبي
المسألة الثالثة قيل إن ذا الكفل زكريا وقيل يوشع وقيل إلياس ثم قالوا خمسة من الأنبياء سماهم الله تعالى باسمين إسرائيل ويعقوب إلياس وذو الكفل عيسى والمسيح يونس وذو النون محمد وأحمد
وأما قوله تعالى كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ أي على القيام بأمر الله تعالى واحتمال الأذى في نصرة دينه وقوله وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا قال مقاتل الرحمة النبوة وقال آخرون بل يتناول جميع أعمال البر والخير
( القصة الثامنة قصة يونس عليه السلام )
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذالِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ(22/183)
اعلم أن هنها مسائل
المسألة الأولى أنه لا خلاف في أن ذا النون هو يونس عليه السلام لأن النون هو السمكة وقد ذكرنا أن الاسم إذا دار بين أن يكون لقباً محضاً وبين أن يكون مفيداً فحمله على المفيد أولى خصوصاً إذا علمت الفائدة التي يصلح لها ذلك الوصف
المسألة الثانية اختلفوا في أن وقوعه عليه السلام في بطن السمكة كان قبل اشتغاله بأداء رسالة الله تعالى أو بعده أما القول الأول فقال ابن عباس رضي الله عنه كان يونس عليه السلام وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبي عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبياً قوياً أميناً فإني ألقى في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك فمن ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء فقال يونس بن متى فإنه قوي أمين فدعا الملك بيونس وأمره أن يخرج فقال يونس هل أمرك الله بإخراجي قال لا قال فهل سماني لك قال لا قال فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضباً للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوماً هيأوا سفينة فركب معهم فلما تلججت السفينة تكفأت بهم وكادوا أن يغرقوا فقال الملاحون ههنا رجل عاص أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح إلا وفيها رجل عاص ومن رسمنا أنا إذا ابتلينا بمثل هذا البلاء أن نقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر ولأن يغرق ( و ) أحد خير من أن تغرق السفينة فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فيها كلها على يونس عليه السلام فقال أنا الرجل العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فجاء حوت فابتلعه فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجناً له ولم أجعله طعاماً لك ثم لما نجاه الله تعالى من بطن الحوت نبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس عليه السلام فقيل له أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب راحتهم ثم أوحى الله إليه وأمره أن يذهب إليهم فتوجه يونس عليه السلام نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فأتاهم يونس عليه السلام وقال لملكهم إن الله تعالى أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل فقالوا ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم فلو كان كما تقول لمنعنا الله عنكم فطاف ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله تعالى إليه قل لهم إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه ثم ذكروا أمرهم وأمر يونس للعلماء الذين كانوا في دينهم فقالوا انظروا واطلبوه في المدينة فإن كان فيها فليس مما ذكر من نزول العذاب شيء وإن كان قد خرج فهو كما قال فطلبوه فقيل لهم إنه خرج العشي فلما آيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم ولا غنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ثم قاموا ينتظرون الصبح فلما انشق الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت الأغنام والبقر فرفع الله تعالى عنهم(22/184)
العذاب فبعثوا إلى يونس عليه السلام فآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل فعلى هذا القول كانت رسالة يونس عليه السلام بعد ما نبذه الحوت ودليل هذا القول قوله تعالى في سورة الصافات فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَة ً مّن يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 145 147 ) وفي هذا القول رواية أخرى وهي أن جبريل عليه السلام قال ليونس عليه السلام انطلق إلى أهل نينوى وأنذرهم أن العذاب قد حضرهم فقال يونس عليه السلام التمس دابة فقال الأمر أعجل من ذلك فغضب وانطلق إلى السفينة وباقي الحكاية كما مرت إلى أن التقمه الحوت فانطلق إلى أن وصل إلى نينوى فألقاه هناك أما القول الثاني وهو أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم قالوا إنهم لما لم يؤمنوا وعدهم بالعذاب فلما كشف العذاب عنهم بعد ما توعدهم به خرج منهم مغاضباً ثم ذكروا في سبب الخروج والغضب أموراً أحدها أنه استحى أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الكذب وثانيها أنه كان من عادتهم قتل الكاذب وثالثها أنه دخلته الأنفة ورابعها لما لم ينزل العذاب بأولئك وأكثر العلماء على القول بأن قصة الحوت وذهاب يونس عليه السلام مغاضباً بعد أن أرسله الله تعالى إليهم وبعد رفع العذاب عنهم
المسألة الثالثة احتج القائلون بجواز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه أحدها أن أكثر المفسرين على أنه ذهب يونس مغاضباً لربه ويقال هذا قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب واختيار ابن قتيبة ومحمد بن جرير فإذا كان كذلك فيلزم أن مغاضبته لله تعالى من أعظم الذنوب ثم على تقدير أن هذه المغاضبة لم تكن مع الله تعالى بل كانت مع ذلك الملك أو مع القوم فهو أيضاً كان محظوراً لأن الله تعالى قال فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( القلم 48 ) وذلك يقتضي أن ذلك الفعل من يونس كان محظوراً وثانيها قوله تعالى فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ وذلك يقتضي كونه شاكاً في قدرة الله تعالى وثالثها قوله إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ والظلم من أسماء الذم لقوله تعالى أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) ورابعها أنه لو لم يصدر منه الذنب فلم عاقبه الله بأن ألقاه في بطن الحوت وخامسها قوله تعالى في آية أخرى فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( الصافات 142 ) والمليم هو ذو الملامة ومن كان كذلك فهو مذنب وسادسها قوله وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ فإن لم يكن صاحب الحوت مذنباً لم يجز النهي عن التشبه به وإن كان مذنباً فقد حصل الغرض وسابعها أنه قال وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ وقال فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ( الأحقاف 35 ) فلزم أن لا يكون يونس من أولي العزم وكان موسى من أولي العزم ثم قال في حقه لو كان ابن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي وقال في يونس ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) وهذا خارج عن تفسير الآية والجواب عن الأول أنه ليس في الآية من غاضبه لكنا نقطع على أنه لا يجوز على نبي الله أن يغاضب ربه لأن ذلك صفة من يجهل كون الله مالكاً للأمر والنهي والجاهل بالله لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون نبياً وأما ما روي أنه خرج مغاضباً لأمر يرجع إلى الاستعداد وتناول النفل فمما يرتفع حال الأنبياء عليهم السلام عنه لأن الله تعالى إذا أمرهم بشيء فلا يجوز أن يخالفوه لقوله تعالى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَة ٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة ُ مِنْ أَمْرِهِمْ ( الأحزاب 36 ) وقوله فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ إلى قوله ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ(22/185)
( النساء 65 ) فإذا كان في الاستعداد مخالفة لم يجز أن يقع ذلك منهم وإذا ثبت أنه لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى الله تعالى وجب أن يكون المراد أنه خرج مغاضباً لغير الله والغالب أنه إنما يغاضب من يعصيه فيما يأمره به فيحتمل قومه أو الملك أو هما جميعاً ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العذاب عليهم عندها وقرأ أبو شرف مغضباً
أما قوله مغاضبة القوم أيضاً كانت محظورة لقوله تعالى وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( القلم 48 ) قلنا لا نسلم أنها كانت محظورة فإن الله تعالى أمره بتبليغ تلك الرسالة إليهم وما أمره بأن يبقى معهم أبداً مظاهر الأمر لا يقتضي التكرار فلم يكن خروجه من بينهم معصية وأما الغضب فلا نسلم أنه معصية وذلك لأنه لما لم يكن منهياً عنه قبل ذلك فظن أن ذلك جائز من حيث إنه لم يفعله إلا غضباً لله تعالى وأنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله بل كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في المهاجرة عنهم ولهذا قال تعالى وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ كأن الله تعالى أراد لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل المنازل وأعلاها والجواب عن الشبهة الثانية وهي التمسك بقوله تعالى فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أن نقول من ظن عجز الله تعالى فهو كافر ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين فكيف إلى الأنبياء عليهم السلام فإذن لا بد فيه من التأويل وفيه وجوه أحدها فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ لن نضيق عليه وهو كقوله تعالى اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ( العنكبوت 12 ) أي يضيق وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( الفجر 16 ) أي ضيق وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ( الطلاق 7 ) أي ضيق ومعناه أن لن نضيق عليه واعلم أن على هذا التأويل تصير الآية حجة لنا وذلك لأن يونس عليه السلام ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره وكان في المعلوم أن الصلاح في تأخر خروجه وهذا من الله تعالى بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج لا على تعمد المعصية لكن لظنه أن الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر وكان الصلاح خلاف ذلك وثانيها أن يكون هذا من باب التمثيل بمعنى فكانت حالته ممثلة بحالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر الله تعالى وثالثها أن تفسر القدرة بالقضاء فالمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي ورواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهم واختيار الفراء والزجاج قال الزجاج نقدر بمعنى نقدر يقال قدر الله الشيء قدراً وقدره تقديراً فالقدر بمعنى التقدير وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري ( فظن أن لن نقدر عليه بضم ) النون والتشديد من التقدير وقرأ عبيد بن عمر بالتشديد على المجهول وقرأ يعقوب ( يقدر عليه ) بالتخفيف على المجهول وروي أنه دخل ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه فقال معاوية لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فعرفت فيها فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك فقال وما هي قال يظن نبي الله أن لن يقدر الله عليه فقال ابن عباس رضي الله عنهما هذا من القدر لا من القدرة ورابعها فظن أن لن نقدر أي فظن أن لن نفعل لأن بين القدرة والفعل مناسبة فلا يبعد جعل أحدهما مجازاً عن الآخر وخامسها أنه استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه عن ابن زيد وسادسها أن على قول من يقول هذه الواقعة كانت قبل رسالة يونس عليه السلام كان هذا الظن حاصلاً قبل الرسالة ولا يبعد في حق غير الأنبياء والرسل أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ثم إنه يرده بالحجة والبرهان والجواب عن الثالث وهو التمسك بقوله إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فهو أن نقول إنا لو حملناه على ما قبل النبوة فلا كلام ولو حملناه على ما بعدها فهي واجبة(22/186)
التأويل لأنا لو أجريناها على ظاهرها لوجب القول بكون النبي مستحقاً للعن وهذا لا يقوله مسلم وإذا وجب التأويل فنقول لا شك أنه كان تاركاً للأفضل مع القدرة على تحصيل الأفضل فكان ذلك ظلماً والجواب عن الرابع أنا لا نسلم أن ذلك كان عقوبة إذ الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا بل المراد به المحنة لكن كثير من المفسرين يذكرون في كل مضرة تفعل لأجل ذنب أنها عقوبة والجواب عن الخامس أن الملامة كانت بسبب ترك الأفضل
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) في الظلمات أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ( البقرة 17 ) وقوله يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ( البقرة 257 ) ومنهم من اعتبر أنواعاً مختلفة من الظلمات فإن كان النداء في الليل فهناك ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت وإن كان في النهار أضيف إليه ظلمة أمعاء الحوت أو أن حوتاً ابتلع الحوت الذي هو في بطنه أو لأن الحوت إذا عظم غوصه في قعر البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة أما قول من قال إن الحوت الذي ابتلعه غاص في الأرض السابعة فإن ثبت ذلك بخبر فلا كلام وإن قيل بذلك لكي يقع نداؤه في الظلمات فما قدمناه يغني عن ذلك
أما قوله أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ فالمعنى بأنه لا إله إلا أنت أو بمعنى أي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له ) وعن الحسن ما نجاه الله تعالى إلا بإقراره عن نفسه بالظلم
أما قوله سبحانك فهو تنزيه عن كل النقائص ومنها العجز وهذا يدل على أنه ما كان مراده من قوله فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أنه ظن العجز وإنما قال سُبْحَانَكَ لأن تقديره سبحانك أن تفعل ذلك جوراً أو شهوة للانتقام أو عجزاً عن تخليصي عن هذا الحبس بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة
أما قوله إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فالمعنى ظلمت نفسي بفراري من قومي بغير إذنك كأنه قال كنت من الظالمين وأنا الآن من التائبين النادمين فاكشف عني المحنة يدل عليه قوله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وفيه وجه آخر وهو أنه عليه السلام وصفه بقوله لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ بكمال الربوبية ووصف نفسه بقوله إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ بضعف البشرية والقصور في أداء حق الربوبية وهذا القدر يكفي في السؤال على ما قال المتنبي وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي كلام عندها وخطاب
وروى عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لما أراد الله حبس يونس عليه السلام أوحى إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً ) فأخذه وهوى به إلى أسفل البحر فسمع يونس عليه السلام حساً فقال في نفسه ما هذا فأوحى الله إليه هذا تسبيح دواب البحر قال فسبح فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا مثله
أما قوله وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت وبسبب خطيئته وكما أنجينا يونس عليه السلام من كرب الحبس إذ دعانا كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا روى سعد بن أبي وقاص عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( دعوة ذي النون في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها عبد مسلم قط وهو مكروب إلا استجاب الله دعاءه ) قال صاحب ( الكشاف ) قرى ء(22/187)
ننجي وننجي ونجى والنون لا تدغم في الجيم ومن تمحل لصحته فجعله فعل وقال نجى النجاء المؤمنين فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره ونصب المؤمنين بالنجاء فتعسف بارد التعسف
( القصة التاسعة قصة زكريا عليه السلام )
وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ
اعلم أنه تعالى بين انقطاع زكريا عليه السلام إلى ربه تعالى لما مسه الضر بتفرده وأحب من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه ويكون قائماً مقامه بعد موته فدعا الله تعالى دعاء مخلص عارف بأنه قادر على ذلك وإن انتهت الحال به وبزوجته من كبر وغيره إلى اليأس من ذلك بحكم العادة وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان سنه مائة وسن زوجته تسعاً وتسعين
أما قوله وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ففيه وجهان أحدهما أنه عليه السلام إنما ذكره في جملة دعائه على وجه الثناء على ربه ليكشف عن علمه بأن مآل الأمور إلى الله تعالى والثاني كأنه عليه السلام قال ( إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث )
وأما قوله تعالى فَاسْتَجَبْنَا لَهُ أي فعلنا ما أراده لأجل سؤاله وفي ذلك إعظام له فلذلك تقول العلماء بأن الاستجابة ثواب لما فيه من الإعظام
وأما قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى فهو كالتفسير للاستجابة وفي تفسير قوله وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ثلاثة أقوال أحدها أصلحها للولادة بأن أزال عنها المانع بالعادة وهذا أليق بالقصة والثاني أنه أصلحها في أخلاقها وقد كانت على طريقة من سوء الخلق وسلاطة اللسان تؤذيه وجعل ذلك من نعمه عليه والثالث أنه سبحانه جعلها مصلحة في الدين فإن صلاحها في الدين من أكبر أعوانه في كونه داعياً إلى الله تعالى فكأنه عليه السلام سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعاً وهذا كأنه أقرب إلى الظاهر لأنه إذا قيل أصلح الله فلاناً فالأظهر فيه ما يتصل بالدين واعلم أن قوله وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ يدل على أن الواو لا تفيد الترتيب لأن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد مع أنه تعالى أخره في اللفظ وبين تعالى مصداق ما ذكرناه فقال إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وأراد بذلك زكريا وولده وأهله فبين أنه آتاهم ما طلبوه وعضد بعضهم ببعض من حيث كانت طريقتهم أنهم يسارعون في الخيرات والمسارعة في طاعة الله تعالى من أكبر ما يمدح المرء به لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة
أما قوله تعالى وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً قرىء رغباً ورهباً وهو كقوله يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَّحْمَة ِ رَبّهِ(22/188)
والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين أحدهما الفزع إلى الله تعالى لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة في عقابه والثاني الخشوع وهو المخافة الثابتة في القلب فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفاً من الإثم
( القصة العاشرة قصة مريم عليها السلام )
وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ ءَايَة ً لِّلْعَالَمِينَ
اعلم أن التقدير واذكر التي أحصنت فرجها ثم فيه قولان أحدهما أنها أحصنت فرجها إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً كما قالت وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ( مريم 20 ) والثاني من نفخة جبريل عليه السلام حيث منعته من جيب درعها قبل أن تعرفه والأول أولى لأنه الظاهر من اللفظ
وأما قوله فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا فلقائل أن يقول نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه قال تعالى فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) أي أحييته وإذا ثبت ذلك كان قوله فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ظاهر الأشكال لأنه يدل على إحياء مريم عليها السلام والجواب من وجوه أحدها معناه فنفخنا الروح في عيسى فيها أي أحييناه في جوفها كما يقول الزمار نفخت في بيت فلان أي في المزمار في بيته وثانيها فعلنا النفخ في مريم عليها السلام من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها ثم بين تعالى بأخصر الكلام ما خص به مريم وعيسى عليهما السلام من الآيات فقال وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ أما مريم فآياتها كثيرة أحدها ظهور الحبل فيها لا من ذكر فصار ذلك آية ومعجزة خارجة عن العادة وثانيها أن رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة وهو قوله تعالى أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وثالثها ورابعها قال الحسن إنها لم تلتقم ثدياً يوماً قط وتكلمت هي أيضاً في صباها كما تكلم عيسى عليه السلام وأما آيات عيسى عليه السلام فقد تقدم بيانها فبين سبحانه أنه جعلهما آية للناس يتدبرون فيما خصا به من الآيات ويستدلون به على قدرته وحكمته سبحانه وتعالى فإن قيل هلا قيل آيتين كما قال وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ ( الإسراء 12 ) قلنا لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل وهنا آخر القصص
إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ
قال صاحب ( الكشاف ) الأمة الملة وهو إشارة إلى ملة الإسلام أي أن ملة الإسلام هي ملتكم التي(22/189)
يجب أن تكونوا عليها يشار إليها بملة واحدة غير مختلفة وأنا إلهكم إله واحد فاعبدون ونصب الحسن ( أمتكم ) على البدل من هذه ورفع أمة خبراً وعنه رفعهما جميعاً خبرين أو نوى للثاني المبتدأ
أما قوله تعالى وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ والأصل وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريق الالتفات كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم ويقول لهم ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً كما تتوزع الجماعة الشيء ويقسمونه فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى
أما قوله تعالى كُلٌّ إِلَيْنَا راجِعُونَ فقد توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون فهو محاسبهم ومجازيهم وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة فتهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة واحدة قالوا يا رسول الله من تلك الفرقة الناجية قال الجماعة الجماعة الجماعة ) فتبين بهذا الخبر أن المراد بقوله تعالى وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات وأن في قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الناجية إنها الجماعة إشارة إلى أن هذه أشار بها إلى أمة الإيمان وإلا كان قوله في تعريف الفرقة الناجية إنها الجماعة لغواً إذ لا فرقة تمسكت بباطل أو بحق إلا وهي جماعة من حيث العدد وطعن بعضهم في صحة هذا الخبر فقال إن أراد بالثنتين والسبعين فرقة أصول الأديان فلم يبلغ هذا القدر وإن أراد الفروع فإنها تتجاوز هذا القدر إلى أضعاف ذلك وقيل أيضاً قد روى ضد ذلك وهو أنها كلها ناجية إلا فرقة واحدة والجواب المراد ستفترق أمتي في حال ما وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال لا يجوز أن يزيد وينقص
فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِى َ شَاخِصَة ٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ياوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَة ٍ مِّنْ هَاذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر أمر الأمة من قبل وذكر تفرقهم وأنهم أجمع راجعون إلى حيث لا أمر إلا له أتبع ذلك بقوله فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ بين أن من جمع بين أن يكون مؤمناً وبين أن يعمل الصالحات فيدخل في الأول العلم والتصديق بالله ورسوله وفي الثاني فعل الواجبات وترك المحظورات فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ أي لا بطلان لثواب عمله وهو كقوله تعالى وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَة َ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا(22/190)
( الإسراء 19 ) فالكفران مثل في حرمان الثواب والشكر مثل في إعطائه وقوله فَلاَ كُفْرَانَ المراد نفي الجنس ليكون في نهاية المبالغة لأن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها
وأما قوله تعالى وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ فالمراد وإنا لسعيه كاتبون فقيل المراد حافظون لنجازي عليه وقيل كاتبون إما في أم الكتاب أو في الصحف التي تعرض يوم القيامة والمراد بذلك ترغيب العباد في التمسك بطاعة الله تعالى
أما قوله وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ فاعلم أن قوله وَحَرَامٌ خبر فلا بد له من مبتدأ وهو إما قوله أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أو شيء آخر أما الأول فالتقدير أن عدم رجوعهم حرام أي ممتنع وإذا كان عدم رجوعهم ممتنعاً كان رجوعهم واجباً فهذا الرجوع إما أن يكون المراد منه الرجوع إلى الآخرة أو إلى الدنيا أما الأول فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث وتحقيق ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد فإنه سبحانه سيعطيه الجزاء على ذلك يوم القيامة وهو تأويل أبي مسلم بن بحر وأما الثاني فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الدنيا واجب لكن المعلوم أنهم لم يرجعوا إلى الدنيا فعند هذا ذكر المفسرون وجهين الأول أن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب والدليل عليه الآية والاستعمال والشعر أما الآية فقوله تعالى قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ( الأنعام 151 ) وترك الشرك واجب وليس بمحرم وأما الشعر فقول الخنساء وإن حراماً لا أرى الدهر باكيا
على شجوه إلا بكيت على عمرو
يعني وإن واجباً وأما الاستعمال فلأن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) إذا ثبت هذا فالمعنى أنه واجب على أهل كل قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ثم ذكروا في تفسير الرجوع أمرين أحدهما أنهم لا يرجعون عن الشرك ولا يتولون عنه وهو قول مجاهد والحسن وثانيها لا يرجعون إلى الدنيا وهو قول قتادة ومقاتل الوجه الثاني أن يترك قوله وحرام على ظاهره ويجعل في قوله لاَ يَرْجِعُونَ صلة زائدة كما أنه صلة في قوله مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ ( الأعراف 12 ) والمعنى حرام على قرية أهلكناها رجوعهم إلى الدنيا وهو كقوله فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَة ً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ( يس 50 ) أو يكون المعنى وحرام عليهم رجوعهم عن الشرك وترك الأيمان وهذا قول طائفة من المفسرين وهذا كله إذا جعلنا قوله وحرام خبراً لقوله أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أما إذا جعلناه خبراً لشيء آخر فالتقدير وحرام على قرية أهلكناها ذاك وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور ثم علل فقال أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ عن الكفر فكيف لا يمتنع ذلك هذا على قراءة إنهم بالكسر والقراءة بالفتح يصح حملها أيضاً على هذا أي أنهم لا يرجعون
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِى َ شَاخِصَة ٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أن حتى متعلقة بحرام فأما على تأويل أبي مسلم فالمعنى أن رجوعهم إلى الآخرة واجب حتى أن وجوبه يبلغ إلى حيث أنه إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة(22/191)
أبصار الذين كفورا والمعنى أنهم يكونون أول الناس حضوراً في محفل القيامة فحتى متعلقة بحرام وهي غاية له ولكنه غاية من جنس الشيء كقولك دخل الحاج حتى المشاة وحتى ههنا هي التي يحكى بعدها الكلام والكلام المحكى هو هذه الجملة من الشرط والجزاء أعني قوله وَإِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فهناك يتحقق شخوص أبصار الذين كفروا وذلك غير جائز لأن الشرط إنما يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل في يوم القيامة والشرط والجزاء لا بد وأن يكونا متقاربين قلنا التفاوت القليل يجري مجرى المعدوم وأما على التأويلات الباقية فالمعنى أن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم الساعة
المسألة الثانية قوله حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ المعنى فتح سد يأجوج ومأجوج فحذف المضاف وأدخلت علامة التأنيث في فتحت لما حذف المضاف لأن يأجوج ومأجوج مؤنثان بمنزلة القبيلتين وقيل حتى إذا فتحت جهة يأجوج
المسألة الثالثة هما قبيلتان من جنس الإنس يقال الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد
المسألة الرابعة قيل السد يفتحه الله تعالى ابتداء وقيل بل إذا جعل الله تعالى الأرض دكاً زالت الصلابة عن أجزاء الأرض فحينئذ ينفتح السد
أما قوله تعالى وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ فحشو في أثناء الكلام والمعنى إذا فتحت يأجوج واقترب الوعد الحق شخصت أبصار الذين كفروا والحدب النشز من الأرض ومنه حدبة الأرض ومنه حدبة الظهر وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما مِن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ اعتباراً بقوله فَإِذَا هُم مّنَ الاْجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ ( يس 51 ) وقرىء بضم السين ونسل وعسل أسرع ثم فيه قولان قال أكثر المفسرين إنه كناية عن يأجوج ومأجوج وقال مجاهد هو كناية عن جميع المكلفين أي يخرجون من قبورهم من كل موضع فيحشرون إلى موقف الحساب والأول هو الأوجه وإلا لتفكك النظم وأن يأجوج ومأجوج إذا كثروا على ما روى في ( الخبر ) فلا بد من أن ينشروا فيظهر إقبالهم على الناس من كل موضع مرتفع
أما قوله تعالى وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فلا شبهة أن الوعد المذكور هو يوم القيامة
أما قوله فَإِذَا هِى َ فاعلم أن إذا ههنا للمفاجأة فسمى الموعد وعداً تجوزاً وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ( الروم 36 ) فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ولو قيل إِذَا هِى َ شَاخِصَة ٌ أو فهي شاخصة كان سديداً أما لفظة هِى َ فقد ذكر النحويون فيها ثلاثة أوجه أحدها أن تكون كناية عن الأبصار والمعنى فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة أبصارهم كني عن الإبصار ثم أظهر والثاني أن تكون عماداً ويصلح في موضعها هو فيكون كقوله إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ ومثله فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وجاز التأنيث لأن الأبصار مؤنثة وجاز التذكير للعماد وهو قول الفراء وقال سيبويه الضمير للقصة بمعنى فإذا القصة شاخصة يعني أن القصة أن أبصار الذين كفروا تشخص عند ذلك ومعنى الكلام أن القيامة إذا قامت شخصت أبصار هؤلاء من شدة الأهوال فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم ومن توقع ما يخافونه ويقولون كَفَرُواْ ياوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَة ٍ مّنْ هَاذَا يعني في الدنيا(22/192)
حيث كذبناه وقلنا إنه غير كائن بل كنا ظالمين أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعبادة الأوثان واعلم أنه لا بد قبل قوله يا ويلنا من حذف والتقدير يقولون يا ويلنا
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَاؤُلا ءِ ءَالِهَة ً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ
اعلم أن قوله إِنَّكُمْ خطاب لمشركي مكة وعبدة الأوثان
أما قوله تعالى وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ روي أنه عليه السلام دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأفحمه ثم تلا عليهم إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآية فأقبل عبد الله بن الزبعري فرآهم يتهامسون فقال فيم خوضكم فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عبد الله أما والله لو وجدته لخصمته فدعوه فقال ابن الزبعري أأنت قلت ذلك قال نعم قال قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح وبنوا مليح عبدوا الملائكة ثم روى في ذلك روايتان إحداهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سكت ولم يجب فضحك القوم فنزل قوله تعالى وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( الزخرف 57 58 ) ونزل في عيسى والملائكة إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى ( الأنبياء 101 ) الآية هذا قول ابن عباس الرواية الثانية أنه عليه السلام أجاب وقال بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى ( الأنبياء 101 ) الآية يعني عزيراً والمسيح والملائكة واعلم أن سؤال ابن الزبعري ساقط من وجوه أحدها أن قوله إِنَّكُمْ خطاب مشافهة وكان ذلك مع مشركي مكة وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط وثانيها أنه لم يقل ومن تعبدون بل قال ما تعبدون وكلمة ما لا تتناول العقلاء
أما قوله تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وقوله لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الكافرون 2 ) فهو محمول على الشيء ونظيره ههنا أن يقال إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم فلا يتوجه سؤال ابن الزبعري وثالثها أن من عبد الملائكة لا يدعي أنهم آلهة وقال سبحانه لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَة ً مَّا وَرَدُوهَا ورابعها هب أنه ثبت العموم لكنه مخصوص بالدلائل العقلية والسمعية في حق الملائكة والمسيح وعزير لبراءتهم من الذنوب والمعاصي ووعد الله إياهم بكل مكرمة(22/193)
وهذا هو المراد من قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) وخامسها الجواب الذي ذكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو أنهم كانوا يعبدون الشياطين فإن قيل الشياطين عقلاء ولفظ ما لا يتناولهم فكيف قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك قلنا كأنه عليه السلام قال لو ثبت لكم أنه يتناول العقلاء فسؤالكم أيضاً غير لازم من هذا الوجه وأما ما قيل إنه عليه السلام سكت عند إيراد ابن الزبعري هذا السؤال فهو خطأ لأنه لا أقل من أنه عليه السلام كان يتنبه لهذه الأجوبة التي ذكرها المفسرون لأنه عليه السلام كان أعلم منهم باللغة وبتفسير القرآن فكيف يجوز أن تظهر هذه الأجوبة لغيره ولا يظهر شيء منها له عليه السلام فإن قيل جوزوا أن يسكت عليه السلام انتظاراً للبيان قلنا لما كان البيان حاضراً معه لم يجز عليه السكوت لكي لا يتوهم فيه الانقطاع عن سؤالهم ومن الناس من أجاب عن سؤال ابن الزبعري فقال إن الله تعالى يصور لهم في النار ملكاً على صورة من عبدوه وحينئذ تبقى الآية على ظاهرها واعلم أن هذا ضعيف من وجهين الأول أن القوم لم يعبدوا تلك الصورة وإنما عبدوا شيئاً آخر لم يحصل معهم في النار الثاني وهو أن الملك لا يصير حصب جهنم في الحقيقة وإن صح أن يدخلها فإن خزنة النار يدخلونها مع أنهم ليسوا حصب جهنم
المسألة الثانية الحكمة في أنهم قرنوا بآلهتهم أمور أحدها أنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة لأنهم ما وقعوا في ذلك العذاب إلا بسببهم والنظر إلى وجه العدو باب من العذاب وثانيها أن القوم قدروا أنهم يشفعون لهم في الآخرة في دفع العذاب فإذا وجدوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم وثالثها أن إلقاءها في النار يجري مجرى الاستهزاء بعبادها ورابعها قيل ما كان منها حجراً أو حديداً يحمى ويلزق بعبادها وما كان خشباً يجعل جمرة يعذب بها صاحبها
أما قوله تعالى حَصَبُ جَهَنَّمَ فالمراد يقذفون في نار جهنم فشبههم بالحصباء التي يرمى بها الشيء فلما رمى بها كرمي الحصباء جعلهم حصب جهنم تشبيهاً قال صاحب ( الكشاف ) الحصب الرمي وقرىء بسكون الصاد وصفاً بالمصدر وقرىء حطب وحضب بالضاد المنقوطة متحركاً وساكناً
أما قوله تعالى أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ فإنما جاز مجيء اللام في لها لتقدمها على الفعل تقول أنت لزيد ضارب كقوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ( المؤمنون 8 ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ ( المؤمنون 5 ) أي أنتم فيها داخلون والمعنى أنه لا بد وأن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها
أما قوله تعالى لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَة ً مَّا وَرَدُوهَا فاعلم أن قوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ بالأصنام أليق لدخول لفظة ما وهذا الكلام بالشياطين أليق لقوله هؤلاء ويحتمل أن يريد الشياطين والأصنام فيغلب بأن يذكروا بعبارة العقلاء ونبه الله تعالى على أن من يرمى إلى النار لا يمكن أن يكون إلهاً وههنا سؤال وهو أن قوله لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَة ً مَّا وَرَدُوهَا لكنهم وردوها فهم ليسوا آلهة حجة وهذه الحجة إما أن يكون ذكرها لنفسه أو لغيره فإن ذكرها لنفسه فلا فائدة فيه لأنه كان عالماً بأنها ليست آلهة(22/194)
وإن ذكرها لغيره فإما أن يذكرها لمن يصدق بنبوته أو لمن يكذب بنبوته فإن ذكرها لمن صدق بنبوته فلا حاجة إلى هذه الحجة لأن كل من صدق بنبوته لم يقل بإلهية هذه الأصنام وإن ذكرها لمن يكذب بنبوته فذلك المكذب لا يسلم أن تلك الآلهة يردون النار ويكذبونه في ذلك فكان ذكره هذه الحجة ضائعاً كيف كان وأيضاً فالقائلون بآلهيتها لم يعتقدوا فيها كونها مدبرة للعالم وإلا لكانوا مجانين بل اعتقدوا فيها كونها تماثيل الكواكب أو صور الشفعاء وذلك لا يمنع من دخولها في النار وأجيب عن ذلك بأن المفسرين قالوا المعنى لو كان هؤلاء يعني الأصنام آلهة على الحقيقة ما وردوها أي ما دخل عابدوها النار ثم إنه سبحانه وصف ذلك العذاب بأمور ثلاثة أحدها الخلود فقال وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ يعني العابدين والمعبودين وهو تفسير لقوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وثانيها قوله لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ قال الحسن الزفير هو اللهيب أي يرتفعون بسبب لهب النار حتى إذا ارتفعوا ورجوا الخروج ضربوا بمقامع الحديد فهووا إلى أسفلها سبعين خريفاً قال الخليل الزفير أن يملأ الرجل صدره غماً ثم ينتفس قال أبو مسلم وقوله لهم عام لكل معذب فنقول لهم زفير من شدة ما ينالهم والضمير في قوله وَهُمْ فِيهَا يَسْمَعُونَ يرجع إلى المعبودين أي لا يسمعون صراخهم وشكواهم ومعناه أنهم لا يغيثونهم وشبهه سمع الله لمن حده أي أجاب الله دعاءه وثالثها قوله وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ وفيه وجهان أحدهما أنه محمول على الأصنام خاصة على ما حكيناه عن أبي مسلم والثاني أنها محمولة على الكفار ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن الكفار يحشرون صماً كما يحشرون عمياً زيادة في عذابهم وثانيها أنهم لا يسمعون ما ينفعهم لأنهم إنما يسمعون أصوات المعذبين أو كلام من يتولى تعذيبهم من الملائكة وثالثها قال ابن مسعود إن الكفار يجعلون في توابيت من نار والتوابيت في توابيت أخر فلذلك لا يسمعون شيئاً والأول ضعيف لأن أهل النار يسمعون كلام أهل الجنة فلذلك يستغيثون بهم على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاٌّ كْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ
اعلم أن من الناس من زعم أن ابن الزبعري لما أورد ذلك السؤال على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقي ساكتاً حتى أنزل الله تعالى هذه الآية جواباً عن سؤاله لأن هذه الآية كالإستثناء من تلك الآية وأما نحن فقد بينا فساد هذا القول وذكرنا أن سؤاله لم يكن وارداً وأنه لا حاجة في دفع سؤاله إلى نزول هذه الآية وإذا ثبت هذا لم يبق ههنا إلا أحد أمرين الأول أن يقال إن عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار فلهذا السبب ذكر هذه الآية عقيب تلك فهي عامة في حق كل المؤمنين الثاني أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعري ثم من قال العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهو الحق أجراها على عمومها فتكون الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام داخلين فيها لا أن(22/195)
الآية مختصة بهم ومن قال العبرة بخصوص السبب خصص قوله إِنَّ الَّذِينَ بهؤلاء فقط
أما قوله تعالى سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى فقال صاحب ( الكشاف ) الحسنى الخصلة المفضلة والحسنى تأنيث الأحسن وهي إما السعادة وإما البشرى بالثواب وإما التوفيق للطاعة والحاصل أن مثبتي العفو حملوا الحسنى على وعد العفو ومنكري العفو حملوه على وعد الثواب ثم إنه سبحانه وتعالى شرح من أحوال ثوابهم أمور خمسة أحدها قوله أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ فقال أهل العفو معناه أولئك عنها مخرجون واحتجوا عليه بوجهين الأول قوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( مرمي 71 ) أثبت الورود وهو الدخول فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج الثاني أن أبعاد الشيء عن الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن اخر لأن تحصيل الحاصل محال واحتج القاضي عبد الجبار على فساد هذا القول الأول بأمور أحدها أن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى يقتضي أن الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا وليس هذا حال من يخرج من النار لو صح ذلك وثانيها أنه تعالى قال أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ وكيف يدخل في ذلك من وقع فيها وثالثها قوله تعالى لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وقوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ يمنع من ذلك والجواب عن الأول لا نسلم أن ( يقال ) المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم ولم لا يجوز أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالعفو سلمنا أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالثواب لكن لم قلتم إن الوعد بالثواب لا يليق بحال من يخرج من النار فإن عندنا المحابطة باطلة ويجوز الجمع بين استحقاق الثواب والعقاب وعن الثاني أنا بينا أن قوله أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار وعن الثالث أن قوله لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا مخصوص بما بعد الخروج
أما قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ فالفزع الأكبر هو عذاب الكفار وهذا بطريق المفهوم يقتضي أنهم يحزنهم الفزع الأصغر فإن لم يدل عليه فلا أقل من أن لا يدل على ثبوته ولا على عدمه الوجه الثاني في تفسير قوله أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ أن المراد الذين سبقت لهم منا الحسنى لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة وعلى هذا القول بطل قول من يقول إن جميع الناس يردون النار ثم يخرجون إلى الجنة لأن هذه الآية مانعة منه وحينئذ يجب التوفيق بينه وبين قوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( مريم 71 ) وقد تقدم الصفة الثانية قوله تعالى لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا والحسيس الصوت الذي يحس وفيه سؤالان الأول أي وجه في أن لا يسمعوا حسيسها من البشارة ولو سمعوه لم يتغير حالهم قلنا المراد تأكيد بعدهم عنها لأن من لم يدخلها وقرب منها قد يسمع حسيسها السؤال الثاني أليس أن أهل الجنة يرون أهل النار فكيف لا يسمعون حسيس النار الجواب إذا حملناه على التأكيد زال هذا السؤال الصفة الثالثة قوله وَهُمْ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ والشهوة طلب النفس للذة يعني نعيمها مؤبد قال العارفون للنفوس شهوة وللقلوب شهوة وللأرواح شهوة وقال الجنيد سبقت العناية في البداية فظهرت الولاية في النهاية الصفة الرابعة قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ وفيه وجوه أحدها أنها النفخة الأخيرة لقوله تعالى وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( النمل 87 ) وثانيها أنه الموت قالوا إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بعث الله تعالى جبريل عليه السلام ومعه الموت في صورة كبش أملح فيقول لأهل الدارين أتعرفون هذا فيقولون لا فيقول هذا الموت ثم يذبحه ثم ينادي يا أهل الجنة خلود ولا موت أبداً وكذلك لأهل النار(22/196)
واحتج هذا القائل بأن قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ إنما ذكر بعد قوله وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 25 ) فلا بد وأن يكون لأحدهما تعلق بالآخر والفزع الأكبر الذي هو ينافي الخلود هو الموت وثالثها قال سعيد بن جبير هو إطباق النارعلى أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة قال القاضي عبد الجبار الأولى في ذلك إنه الفزع من النار عند مشاهدتها لأنه لا فزع أكبر من ذلك فإذا بين تعالى أن ذلك لا يحزنهم فقد صح أن المؤمن آمن من أهوال يوم القيامة وهذا ضعيف لأن عذاب النار على مراتب فعذاب الكفار أشد من عذاب الفساق وإذا كانت مراتب التعذيب بالنار متفاوتة كانت مراتب الفزع منها متفاوتة فلا يلزم من نفي الفزع الأكبر نفي الفزع من النار
الصفة الخامسة قوله وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ قال الضحاك هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم ويقولون لهم مبشرين هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ
يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ كَطَى ِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِى هَاذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لِّلْعَالَمِينَ
اعلم أن التقدير لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء أو وتتلقاهم الملائكة يوم نطوي السماء وقرىء يوم تطوى السماء على البناء للمفعول والسجل بوزن العتل والسجل بوزن الدلو وروى فيه الكسر وفي السجل قولان أحدهما أنه اسم للطومار الذي يكتب فيه والكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة فيكون معنى طي السجل للكتاب كون السجل ساتراً لتلك الكتابة ومخفياً لها لأن الطي ضد النشر الذي يكشف والمعنى نطوي السماء كما يطوى الطومار الذي يكتب فيه
القول الثاني أنه ليس اسماً للطومار ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما السجل اسم ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه وهو مروي عن علي عليه السلام وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسم كاتب كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا بعيد لأن كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا معروفين وليس فيهم من سمي بهذا وقال الزجاج هو الرجل بلغة الحبشة وعلى هذه الوجوه فهو على نحو ما يقال كطي زيد الكتاب واللام في للكتاب زائدة كما في قوله ردف لكم وإذا قلنا المراد بالسجل الطومار فالمصدر وهو الطي مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف والتقدير كطي الطاوي السجل وهذا الأخير هو قول الأكثرين(22/197)
أما قوله تعالى كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الفراء انقطع الكلام عند قوله الكتاب ثم ابتدأ فقال كَمَا بَدَأْنَا ومنهم من قال إنه تعالى لما قال وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( الأنبياء 103 ) عقبه بقوله يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَى ّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ فوصف اليوم بذلك ثم وصفه بوصف آخر فقال كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) رحمه الله أَوَّلَ خَلْقٍ مفعول نعيد الذي يفسره نعيده والكاف مكفوفة بما والمعنى نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالابتداء فإن قلت ما بال خلق منكراً قلت هو كقولك أول رجل جاءني زيد تريد أول الرجال ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً فكذلك معنى أول خلق أول الخلق بمعنى أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع
المسألة الثالثة اختلفوا في كيفية الإعادة فمنهم من قال إن الله تعالى يفرق أجزاء الأجسام ولا يعدمها ثم إنه يعيد تركيبها فذلك هو الإعادة ومنهم من قال إنه تعالى يعدمها بالكلية ثم إنه يوجدها بعينها مرة أخرى وهذه الآية دلالة على هذا الوجه لأنه سبحانه شبه الإعادة بالإبتداء ولما كان الابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة بل عن الوجود بعد العدم وجب أن يكون الحال في الإعادة كذلك واحتج القائلون بالمذهب الأول بقوله تعالى وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( الزمر 67 ) فدل هذا على أن السموات حال كونها مطوية تكون موجودة وبقوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وهذا يدل على أن أجزاء الأرض باقية لكنها جعلت غير الأرض
أما قوله تعالى وَعْداً عَلَيْنَا ففيه قولان أحدهما أن وعداً مصدر مؤكد لأن قوله نُّعِيدُهُ عدة للإعادة الثاني أن يكون المراد حقاً علينا بسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه مع أن وقوع ما علم الله وقوعه واجب ثم إنه تعالى حقق ذلك بقوله إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ أي سنفعل ذلك لا محالة وهو تأكيد لما ذكره من الوعد
أما قوله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة بضم الزاي والباقون بفتحها يعني الزبور كالحلوب والركوب يقال زبرت الكتاب أي كتبته والمزبور بضم الزاي جمع زبر كقشر وقشور ومعنى القراءتين واحد لأن الزبور هو الكتاب
المسألة الثانية في الزبور والذكر وجوه أحدها وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد الزبور هو الكتب المنزلة والذكر الكتاب الذي هو أم الكتاب في السماء لأن فيها كتابة كل ما سيكون اعتباراً للملائكة وكتب الأنبياء عليهم السلام من ذلك الكتاب تنسخ وثانيها الزبور هو القرآن والذكر هو التوراة وهو قول قتادة والشعبي وثالثها الزبور زبور داود عليه السلام والذكر هو الذي يروى عنه عليه السلام قال كان الله تعالى ولم يكن معه شيء ثم خلق الذكر وعندي فيه وجه رابع وهو أن المراد بالذكر العلم أي كتبنا ذلك في الزبور بعد أن كنا عالمين علماً لا يجوز السهو والنسيان علينا فإن من كتب شيئاً والتزمه ولكنه يجوز السهو عليه فإنه لا يعتمد عليه أما من لم يجز عليه السهو والخلف فإذا التزم شيئاً كان ذلك الشيء واجب الوقوع(22/198)
أما قوله تعالى أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ففيه وجوه أحدها الأرض أرض الجنة والعباد الصالحون هم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى فالمعنى أن الله تعالى كتب في كتب الأنبياء عليهم السلام وفي اللوح المحفوظ أنه سيورث الجنة من كان صالحاً من عباده وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وأبي العالية وهؤلاء أكدوا هذا القول بأمور أما أولاً فقوله تعالى وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّة ِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( الزمر 74 ) وأما ثانياً فلأنها الأرض التي يختص بها الصالحون لأنها لهم خلقت وغيرهم إذا حصل معهم في الجنة فعلى وجه التبع فأما أرض الدنيا فلأنها للصالح وغير الصالح وأما ثالثاً فلأن هذه الأرض مذكورة عقيب الإعادة وبعد الإعادة الأرض التي هذا وصفها لا تكون إلا الجنة وأما رابعاً فقد روى في الخبر أنها أرض الجنة فإنها بيضاء نقية وثانيها أن المراد من الأرض أرض الدنيا فإنه سبحانه وتعالى سيورثها المؤمنين في الدنيا وهو قول الكلبي وابن عباس في بعض الروايات ودليل هذا القول قوله سبحانه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ إلى قوله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ ( النور 55 ) وقوله تعالى قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ( الأعراف 128 ) وثالثها هي الأرض المقدسة يرثها الصالحون ودليله قوله تعالى وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا ( الأعراف 137 ) ثم بالآخرة يورثها أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام
أما قوله تعالى إِنَّ فِى هَاذَا لَبَلَاغاً لّقَوْمٍ عَابِدِينَ فقوله هذا إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة والبلاغ الكفاية وما تبلغ به البغية وقيل في العابدين إنهم العالمون وقيل بل العاملون والأولى أنهم الجامعون بين الأمرين لأن العلم كالشجر والعمل كالثمر والشجر بدون الثمر غير مفيد والثمر بدون الشجر غير كائن
أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا أما في الدين فلأنه عليه السلام بعث والناس في جاهلية وضلالة وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم فبعث الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والإستكبار وكان التوفيق قريناً له قال الله تعالى قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء إلى قوله وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ( فصلت 44 ) وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب ونصروا ببركة دينه فإن قيل كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال قلنا الجواب من وجوه أحدها إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم ثم هو منتقم من العصاة وقال وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً ( ق 9 ) ثم قد يكون سبباً للفساد وثانيها أن كل نبي قبل نبينا كان إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) لا يقال أليس أنه تعالى قال قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ(22/199)
( التوبة 14 ) وقال تعالى لّيُعَذّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ ( الأحزاب 73 ) لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه وثالثها أنه عليه السلام كان في نهاية حسن الخلق قال تعالى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 4 ) وقال أبو هريرة رضي الله عنه ( قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أدع على المشركين قال إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً ) وقال في رواية حذيفة ( إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة يوم القيامة ) ورابعها قال عبد الرحمن بن زيد إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) يعني المؤمنين خاصة قال الإمام أبو القاسم الأنصاري والقولان يرجعان إلى معنى واحد لما بينا أنه كان رحمة للكل لو تدبروا في آيات الله وآيات رسوله فأما من أعرض واستكبر فإنما وقع في المحنة من قبل نفسه كما قال وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ( فصلت 44 )
المسألة الثانية قالت المعتزلة لو كان الله تعالى أراد من الكافرين الكفر ولم يرد منهم القبول من الرسول بل ما أراد منهم إلا الرد عليه وخلق ذلك فيهم ولم يخلقهم إلا كذلك كما يقوله أهل السنة لوجب أن يكون إرساله نقمة وعذاباً عليهم لا رحمة وذلك على خلاف هذا النص لا يقال إن رسالته عليه السلام رحمة للكفار من حيث لم يعجل عذابهم في الدنيا كما عجل عذاب سائر الأمم لأنا نقول إن كونه رحمة للجميع على حد واحد وما ذكرتموه للكفار فهو حاصل للمؤمنين أيضاً فإذا يجب أن يكون رحمة للكافرين من الوجه الذي صار رحمة للمؤمنين وأيضاً فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته ( صلى الله عليه وسلم ) كحصولها بعده بل كانت نعمهم في الدنيا قبل بعثته أعظم لأن بعد بعثته نزل بهم الغم والخوف منه ثم أمر بالجهاد الذي فني أكثرهم فيه فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد والجواب أن نقول لما علم الله سبحانه وتعالى أن أبا لهب لا يؤمن ألبتة وأخبر عنه أنه لا يؤمن كان أمره إياه بالإيمان أمراً يقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وذلك محال فكان قد أمره بالمحال وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة فلم لا يجوز أن يقال البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر ولأن قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازم وإن كانت صالحة للضدين توقف للترجيح على مرجح من قبل الله تعالى قطعاً للتسلسل وحينئذ يعود الإلزام ثم نقول لم لا يجوز أن يكون رحمة للكافر بمعنى تأخير عذاب الاستئصال عنه قوله أولاً لما كان رحمة للجميع على حد واحد وجب أن يكون رحمة للكفار من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين قلنا ليس في الآية أنه عليه السلام رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين فدعواك بكون الوجه واحداً تحكم قوله نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل قلنا نعم ولكنه عليه السلام لكونه رحمة للمؤمنين لما بعث حصل الخوف للكفار من نزول العذاب فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار
المسألة الثالثة تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة قالوا لأن الملائكة من العالمين فوجب بحكم هذه الآية أن يكون عليه السلام رحمة للملائكة فوجب أن يكون أفضل منهم والجواب أنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( غافر 7 ) وذلك رحمة منهم في حق المؤمنين والرسول عليه السلام داخل في المؤمنين وكذا قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ ( الأحزاب 56 )(22/200)
قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَة ٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما أورد على الكفار الحجج في أن لا إله سواه من الوجوه التي تقدم ذكرها وبين أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين أتبع ذلك بما يكون إعذاراً وإنذاراً في مجاهدتهم والإقدام عليهم فقال قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَى َّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) إنما يقصر الحكم على شيء أو يقصر الشيء على حكم كقولك إنما زيد قائم أو إنما يقوم زيد وقد اجتمع المثالان في هذه الآية لأن إِنَّمَا يُوحَى إِلَى َّ مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وَإِنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ بمنزلة إنما زيد قائم وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مقصور على إثبات وحدانية الله تعالى وفي قوله فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ أن الوحي الوارد على هذا السنن يوجب أن تخلصوا التوحيد له وأن تتخلصوا من نسبة الأنداد وفيه أنه يجوز إثبات التوحيد بالسمع فإن قيل لو دلت إنما على الحصر لزم أن يقال إنه لم يوح إلى الرسول شيء إلا التوحيد ومعلوم أن ذلك فاسد قلنا المقصود منه المبالغة أما قوله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء فقال صاحب ( الكشاف ) آذن منقول من أذن إذا علم ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار ومنه قوله فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( البقرة 279 ) إذا عرفت هذا فنقول المفسرون ذكروا فيه وجوهاً أحدها قال أبو مسلم الإيذان على السواء الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء ( الأنفال 58 ) وفائدة ذلك أنه كان يجوز أن يقدر على من أشرك من قريش أن حالهم مخالف لسائر الكفار في المجاهدة فعرفهم بذلك أنهم كالكفار في ذلك وثانيها أن المراد فقد أعلمتكم ما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره على السواء فلم أفرق في الإبلاغ والبيان بينكم لأني بعثت معلماً والغرض منه إزاحة العذر لئلا يقولوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ( طه 134 ) وثالثها على سواء على إظهار وإعلان ورابعها على مهل والمراد أني لا أعاجل بالحرب الذي آذنتكم به بل أمهل وأؤخر رجاء الإسلام منكم
أما قوله وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ففيه وجهان أحدهما أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ من يوم القيامة ومن عذاب الدنيا ثم قيل نسخه قوله وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ( الأنبياء 97 ) يعني منهما فإن مثل هذا الخبر لا يجوز نسخه وثانيها المراد أن الذي آذنهم فيه من الحرب لا يدري هو قريب(22/201)
أم بعيد لئلا يقدر أنه يتأخر كأنه تعالى أمره بأن ينذرهم بالجهاد الذي يوحى إليه أن يأتيه من بعد ولم يعرفه الوقت فلذلك أمره أن يقول إنه لا يعلم قربه أم بعده تبين بذلك أن السورة مكية وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة وثالثها أن ما يوعدون به من غلبة المسلمين عليهم كائن لا محالة ولا بد أن يلحقهم بذلك الذل والصغار وإن كنت لا أدري متى يكون وذلك لأن الله تعالى لم يطلعني عليه
أما قوله تعالى إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ فالمقصود منه الأمر بالإخلاص وترك النفاق لأنه تعالى إذا كان عالماً بالضمائر وجب على العاقل أن يبالغ في الإخلاص
أما قوله تعالى وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَة ٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ففيه وجوه أحدها لعل تأخير العذاب عنكم وثانيها لعل إبهام الوقت الذي ينزل بكم العذاب فيه فتنة لكم أي بلية واختبار لكم ليرى صنعكم وهل تحدثون توبة ورجوعاً عن كفركم أم لا وثالثها قال الحسن لعل ما أنتم فيه من الدنيا بلية لكم والفتنة البلوى والاختبار ورابعها لعل تأخير الجهاد فتنة لكم إذا أنتم دمتم على كفركم لأن ما يؤدي إلى الضرر العظيم يكون فتنة وإنما قال لا أدري لتجويز أن يؤمنوا فلا يكون تبقيتهم فتنة بل ينكشف عن نعمة ورحمة وخامسها أن يكون المراد وإن أدرى لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت فتنة لكم لأنه زيادة في عذابكم إن لم تؤمنوا لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالاً بعد حال يكون عذابه أشد وإذا متعه الله تعالى بالدنيا يكون ذلك كالحجة عليه
أما قوله تعالى قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء قل رب أحكم بالحق على الإكتفاء بالكسرة ( ورب احكم ) على الضم ( وربي أحكم ) أفعل التفضيل ( وربي أحكم ) من الإحكام
المسألة الثانية رَبّ احْكُم بِالْحَقّ فيه وجوه أحدها أي ربي اقض بيني وبين قومي بالحق أي بالعذاب كأنه قال اقص بيني وبين من كذبني بالعذاب وقال قتادة أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ ( الأعراف 89 ) فلا جرم حكم الله تعالى عليهم بالقتل يوم بدر وثانيها افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع وهو أن تنصرني عليهم
أما قوله تعالى وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ففيه وجهان أحدهما أي من الشرك والكفر وما تعراضون به دعوتي من الأباطيل والتكذيب كأنه سبحانه قال قل داعياً لي رَبّ احْكُم بِالْحَقّ وقل متوعداً للكفار وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ قرأ ابن عامر بالياء المنقوطة من تحت أي قل لأصحابك المؤمنين وربنا الرحمن المستعان على ما يصف الكفار من الأباطيل أي من العون على دفع أباطيلهم وثانيها كانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين وخذلهم قال القاضي إنما ختم الله هذه السورة بقوله قُل رَّبّ احْكُم بِالْحَقّ لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان الغاية لهم وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له وتعريفاً أن المقصود مصلحتهم فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم فعليك بالانقطاع إلى ربك ليحكم بينك وبينهم بالحق إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره وإما بتأخير ذلك فإن أمرهم وإن تأخر فما هو كائن قريب وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول(22/202)
كالاستعجال للأمر بمجاهدتهم وبالله التوفيق وصلاته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وسلم تسليماً آمين(22/203)
بداية الجزء الثالث والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(23/2)
سورة الحج
سبعون وست آيات وهي مكية
إلا ثلاث آيات هذان خصمان إلى قوله صراط الحميد
ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
اعلم أنه تعالى أمر الناس بالتقوى فدخل فيه أن يتقي كل محرم ويتقي ترك كل واجب وإنما دخل فيه الأمران لأن المتقي إنما يتقي ما يخافه من عذاب الله تعالى فيدع لأجله المحرم ويفعل لأجله الواجب ولا يكاد يدخل فيه النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب وإنما يرجو بفعلها الثواب فإذا قال اتَّقُواْ رَبَّكُمُ فالمراد اتقوا عذاب ربكم
أما قوله إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى الزلزلة شدة حركة الشيء قال صاحب الكشاف ولا تخلو الساعة من أن تكون على تقدير الفاعلة لها كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي فتكون الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعله أو على تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( سبأ 33 ) وهي الزلزلة المذكورة في قوله إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا ( الزلزلة 1 )
المسألة الثانية اختلفوا في وقتها فعن علقمة والشعبي أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا وهي التي يكون معها طلوع الشمس من مغربها وقيل هي التي تكون معها الساعة وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث الصور ( إنه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعقة ونفخة القيام لرب العالمين وإن عند نفخة الفزع يسير الله الجبال وترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة وتكون الأرض(23/3)
كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلق ترجرجه الرياح ) وقال مقاتل وابن زيد هذا في أول يوم من أيام الآخرة واعلم أنه ليس في اللفظ دلالة على شيء من هذه الأقسام لأن هذه الإضافة تصح وإن كانت الزلزلة قبلها وتكون من أماراتها وأشراطها وتصح إذا كانت فيها ومعها كقولنا آيات الساعة وأمارات الساعة
المسألة الثالثة روى ( أن هاتين الآيتين نزلتا بالليل والناس يسيرون فنادى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم فلم ير باكياً أكثر من تلك الليلة فلما أصبحوا لم يحطوا السرج ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا القدور والناس بين باك وجالس حزين متفكر فقال عليه السلام ( أتدرون أي ذلك اليوم هو قالوا الله ورسوله أعلم قال ذلك يوم يقول الله لآدم عليه السلام قم فابعث بعث النار من ولدك فيقول آدم وما بعث النار يعني من كم كم فيقول الله عز وجل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة فعند ذلك يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى فكبر ذلك على المؤمنين وبكوا وقالوا فمن ينجو يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام أبشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانا في قوم إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ثم قال إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً ثمانون منها أمتي وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ثم قال ويدخل من أمتي سبعون ألفاً إلى الجنة بغير حساب فقال عمر سبعون ألفاً قال نعم ومع كل واحد سبعون ألفاً فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم فقام رجل من الأنصار فقال مثل قوله فقال سبقك بها عكاشة ) فخاض الناس في السبعين ألفاً فقال بعضهم هم الذين ولدوا على الإسلام وقال بعضهم هم الذين آمنوا وجاهدوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبروا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما قالوا فقال ( هم الذين لا يكتوون ولا يكوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون )
المسألة الرابعة أنه سبحانه أمر الناس بالتقوى ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة والمعنى أن التقوى تقتضي دفع مثل هذا الضرر العظيم عن النفس ودفع الضرر عن النفس معلوم الوجوب فيلزم أن تكون التقوى واجبة
المسألة الخامسة احتجت المعتزلة بقوله تعالى إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة واحتجوا أيضاً بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ ( البقرة 20 ) فالشيء الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجوداً أو معدوماً والأول محال وإلا لزم كون القادر قادراً على إيجاد الموجود وإذا بطل هذا ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم فالمعدوم شيء واحتجوا أيضاً بقوله تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً ( الكهف 23 ) أطلق اسم الشيء في الحال على ما يصير مفعولاً غداً والذي يصير مفعولاً غداً يكون معدوماً في الحال فالمعدوم شيء والله أعلم والجواب عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة وهي جواهر قامت بها أعراض وتحقق ذلك في المعدوم محال فالزلزلة يستحيل أن تكون شيئاً حال عدمها فلا بد من التأويل بالاتفاق ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئاً وهذا هو الجواب عن البواقي
المسألة السادسة وصف الله تعالى الزلزلة بالعظيم ولا عظيم أعظم مما عظمه الله تعالى أما قوله(23/4)
تعالى يَوْمَ تَرَوْنَهَا فهو منصوب بتذهل أي تذهل في ذلك اليوم والضمير في ترونها يحتمل أن يرجع إلى الزلزلة وأن يرجع إلى الساعة لتقدم ذكرهما والأقرب رجوعه إلى الزلزلة لأن مشاهدتها هي التي توجب الخوف الشديد واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر من أهوال ذلك اليوم أموراً ثلاثة أحدها قوله تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أي تذهلها الزلزلة والذهول الذهاب عن الأمر مع دهشة فإن قيل لم قال مرضعة دون مرضع قلت المرضعة هي التي في حال الإرضاع وهي ملقمة ثديها الصبي والمرضع شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة وقوله عَمَّا أَرْضَعَتْ أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل فتكون ما بمعنى من على هذا التأويل وثانيها قوله وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا والمعنى أنها تسقط ولدها لتمام أو لغير تمام من هول ذلك اليوم وهذا يدل على أن هذه الزلزلة إنما تكون قبل البعث قال الحسن تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام وألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام وقال القفال يحتمل أن يقال من ماتت حاملاً أو مرضعة تبعث حاملاً أو مرضعة تضع حملها من الفزع ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحمل على جهة المثل كما قد تأول قوله يَوْمٍ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وثالثها قوله وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وفيه مسائل(23/5)
المسألة الأولى قرىء وترى بالضم تقول أريتك قائماً أو رأيتك قائماً والناس بالنصب والرفع أما النصب فظاهر وأما الرفع فلأنه جعل الناس اسم ما لم يسم فاعله وأنثه على تأويل الجماعة وقرىء سكرى وسكارى وهو نظير جوعى وعطشى في جوعان وعطشان سكارى وسكارى نحو كسالى وعجالى وعن الأعمش سكرى وسكرى بالضم وهو غريب
المسألة الثانية المعنى وتراهم سكارى على التشبيه وَمَا هُم بِسُكَارَى على التحقيق ولكن ما أرهقهم من هول عذاب الله تعالى هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وقال ابن عباس والحسن ونراهم سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب فإن قلت لم قيل أولا ترون ثم قيل ترى على الإفراد قلنا لأن الرؤية أولاً علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعاً رائين لها وهي معلقة آخراً بكون الناس على حال من السكر فلا بد وأن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم
المسألة الثالثة إن قيل أتقولون إن شدة ذلك اليوم تحصل لكل أحد أو لأهل النار خاصة قلنا قال قوم إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون وقيل بل يحصل للكل لأنه سبحانه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله وليس لأحد عليه حق
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجهان الأول أخبر تعالى فيما تقدم عن أهوال يوم القيامة وشدتها ودعا الناس إلى تقوى الله ثم بين في هذه الآية قوماً من الناس الذين ذكروا في الأول وأخبر عن مجادلتهم الثاني أنه تعالى بين أنه مع هذا التحذير الشديد بذكر زلزلة الساعة وشدائدها فإن من الناس من يجادل في الله بغير علم ثم في قوله وَمِنَ النَّاسِ وجهان الأول أنهم الذين ينكرون البعث ويدل عليه قوله أَوَ لَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ ( يس 77 ) إلى آخر الآية وأيضاً فإن ما قبل هذه الآية وصف البعث وما بعدها في الدلالة على البعث فوجب أن يكون المراد من هذه المجادلة هو المجادلة في البعث والثاني أنها نزلت في النضر بن الحرث كان يكذب بالقرآن ويزعم أنه أساطير الأولين ويقول ما يأتيكم به محمد كما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما
المسألة الثانية هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة فالمجادلة الباطلة هي المراد من قوله مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ ( الزخرف 58 ) والمجادلة الحقة هي المراد من قوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 )
المسألة الثالثة في قوله وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ قولان أحدهما يجوز أن يريد شياطين الإنس وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر والثاني أن يكون المراد بذلك إبليس وجنوده قال الزجاج المريد والمارد المرتفع الأملس يقال صخرة مرداء أي ملساء ويجوز أن يستعمل في غير الشيطان إذا جاوز حد مثله
أما قوله كُتِبَ عَلَيْهِ ففيه وجهان أحدهما أن الكتبة عليه مثل أي كأنما كتب إضلال من عليه ورقم به لظهور ذلك في حاله والثاني كتب عليه في أم الكتاب واعلم أن هذه الهاء بعد ذكر من يجادل وبعد ذكر الشيطان يحتمل أن يكون راجعاً إلى كل واحد منهما فإن رجع إلى من يجادل فإنه يرجع إلى لفظه الذي هو موحد فكأنه قال كتب على من يتبع الشيطان أنه من تولى الشيطان أضله عن الجنة وهداه إلى النار وذلك زجر منه تعالى فكأنه تعالى قال كتب على من هذا حاله أنه يصير أهلاً لهذا الوعيد فإن رجع إلى الشيطان كان المعنى ويتبع كل شيطان مريد قد كتب عليه أنه من يقبل منه فهو في ضلال وعلى هذا الوجه أيضاً يكون زجراً عن اتباعه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي عبد الجبار إذا قيل المراد بقوله كُتِبَ عَلَيْهِ قضى عليه فلا جائز أن يرد إلا إلى من يتبع الشيطان لأنه تعالى لا يجوز أن يقضي على الشيطان أنه يضل ويجوز أن يقضي على من يقبله بقوله قد أضله عن الجنة وهداه إلى النار قال أصحابنا رحمهم الله لما كتب ذلك عليه فلو لم يقع لانقلب خبر الله الصدق كذباً وذلك محال ومستلزم المحال محال فكان لا وقوعه محالاً
المسألة الثانية دلت الآية على أن المجادل في الله إن كان لا يعرف الحق فهو مذموم معاقب فيدل على أن المعارف ليست ضرورية
المسألة الثالثة قال القاضي فيه دلالة على أن المجادلة في الله ليست من خلق الله تعالى وبإرادته وإلا لما كانت مضافة إلى اتباع الشيطان وكان لا يصح القول بأن الشيطان يضله بل كان الله تعالى قد أضله(23/6)
والجواب المعارضة بمسألة العلم وبمسألة الداعي
المسألة الرابعة قرىء أنه بالفتح والكسر فمن فتح فلأن الأول فاعل كتب والثاني عطف عليه ومن كسر فعلى حكاية المكتوب كما هو كأنما كتب عليه هذا الكلام كما يقول كتبت أن الله هو الغني الحميد أو على تقدير قيل أو على أن كتب فيه معنى القول
ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَة ٍ مُّخَلَّقَة ٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة ٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الاٌّ رْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرض هَامِدَة ً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْى ِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَة َ ءَاتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ
القراءة قرأ الحسن مّنَ الْبَعْثِ بالتحريك ونظيره الحلب والطرد في الحلب وفي الطرد مُّخَلَّقَة ٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة ٍ بجر التاء والراء وقرأ ابن أبي عبلة بنصبهما القراءة المعروفة بالنون في قوله لّنُبَيّنَ وفي قوله وَنُقِرُّ وفي قوله ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ابن أبي عبلة بالياء في هذه الثلاثة أما القراءة بالنون ففيها وجوه أحدها القراءة المشهورة وثانيها روى السيرافي عن داود عن يعقوب ونقر بفتح النون وضم القاف والراء وهو من قر الماء إذا صبه وفي رواية أخرى عنه كذلك إلا أنه بنصب الراء وثالثها ونقر ونخرجكم بنصب الراء والجيم أما القراءة بالياء ففيها وجوه أحدها يقر ويخرجكم بفتح القاف والراء والجيم وثانيها يقر ويخرجكم بضم القاف والراء والجيم وثالثها بفتح الياء وكسر القاف وضم الراء أبو حاتم وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى بفتح الياء أي يتوفاه الله تعالى ابن عمرة والأعمش الْعُمُرُ بإسكان الميم القراءة المعروفة وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وفي حرف عبدالله ومنكم من يتوفى ومنكم من يكون شيوخاً بغير القراءة المعروفة وربت أبو جعفر وربأت أي ارتفعت وروى العمري عنه بتليين الهمزة وقرىء وأنه باعث(23/7)
المعاني اعلم أنه سبحانه لما حكى عنهم الجدال بغير العلم في إثبات الحشر والنشر وذمهم عليه فهو سبحانه أورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين أحدهما الاستدلال بخلقة الحيوان أولاً وهو موافق لما أجمله في قوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( يس 79 ) وقوله فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الإسراء 51 ) فكأنه سبحانه وتعالى قال إن كنتم في ريب مما وعدناكم من البعث فتذكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أن القادر على خلقكم أولاً قادر على خلقكم ثانياً ثم إنه سبحانه ذكر من مراتب الخلقة الأولى أموراً سبعة المرتبة الأولى قوله فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ وفيه وجهان أحدهما إنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه السلام من تراب لقوله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) وقوله مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ( طه 55 ) والثاني أن خلقة الإنسان من المنى ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية والأغذية إما حيوان أو نبات وغذاء الحيوان ينتهي قطعاً للتسلسل إلى النبات والنبات إنما يتولد من الأرض والماء فصح قوله إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن تُرَابٍ المرتبة الثانية قوله ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ والنطفة اسم للماء القليل أي ماء كان وهو ههنا ماء الفحل فكأنه سبحانه يقول أنا الذي قلبت ذلك التراب اليابس ماء لطيفاً مع أنه لا مناسبة بينهما ألبتة المرتبة الثالثة قوله ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ٍ العلقة قطعة الدم الجامدة ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة المرتبة الرابعة قوله ثُمَّ مِن مُّضْغَة ٍ مُّخَلَّقَة ٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة ٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ مَا نَشَاء فالمضغة اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ والمخلقة المسواة الملساء السالمة من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود إذا سواه وملسه من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء ثم للمفسرين فيه أقوال أحدها أن يكون المراد من تمت فيه أحوال الخلق ومن لم تتم كأنه سبحانه قسم المضغة إلى قسمين أحدهما تامة الصور والحواس والتخاطيط وثانيهما الناقصة في هذه الأمور فبين أن بعد أن صيره مضعة منها ما خلقه إنساناً تاماً بلا نقص ومنها ما ليس كذلك وهذا قول قتادة والضحاك فكأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم وثانيها المخلقة الولد الذي يخرج حياً وغير المخلقة السقط وهو قول مجاهد وثالثها المخلقة المصورة وغير المخلقة أي غير المصورة وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وتشكيل واحتجوا بما روى علقمة عن عبدالله قال ( إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً وقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة فءن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دماً وإن قال مخلقة قال يا رب فما صفتها أذكر أم أنثى ما رزقها ما أجلها أشقى أم سعيد فيقول الله سبحانه انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها ) ورابعها قال القفال التخليق مأخوذ من الخلق فما تتابع عليه الأطوار وتوارد عليه الخلق بعد الخلق فذاك هو المخلق لتتابع الخلق عليه قالوا فما تم فهو المخلق وما لم يتم فهو غير المخلق لأنه لم يتوارد عليه التخليقات والقول الأول أقرب لأنه تعالى قال في أول الآية فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ وأشار إلى الناس فيجب أن تحمل مخلقة وغير مخلقة على من سيصير إنساناً وذلك يبعد في السقط لأنه قد يكون سقطاً ولم يتكامل فيه الخلقة فإن قيل هلا حملتم ذلك على السقط لأجل قوله وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ مَا نَشَاء وذلك كالدلالة على أن فيه مالا يقره في الرحم وهو السقط فلنا إن ذلك لا يمنع من صحة ما ذكرنا(23/8)
في كون المضغة مخلقة وغير مخلقة لأنه بعد أن تمم خلقة البعض ونقص خلقة البعض لا يجب أن يتكامل ذلك بل فيه ما يقره الله في الرحم وفيه مالا يقره وإن كان قد أظهر فيه خلقة الإنسان فيكون من هذا الوجه قد دخل فيه السقط
أما قوله تعالى لّنُبَيّنَ لَكُمْ ففيه وجهان أحدهما لنبين لكم أن تغيير المضغة إلى المخلقة هو باختيار الفاعل المختار ولولاه لما صار بعضه مخلقاً وبعضه غير مخلق وثانيهما التقدير إن كنتم في ريب من البعث فإنا أخبرناكم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبين لكم ما يزيل عنكم ذلك الريب في أمر بعثكم فإن القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزاً عن الإعادة
أما قوله تعالى وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فالمراد منه من يبلغه الله تعالى حد الولادة والأجل المسمى هو الوقت المضروب للولادة وهو آخر ستة أشهر أو تسعة أو أربع سنين أو كما شاء وقدر الله تعالى فإن كتب ذلك صار أجلاً مسمى المرتبة الخامسة قوله ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً وإنما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس ويحتمل أن يخرج كل واحد منكم طفلاً كقوله وَالْمَلَئِكَة ُ بَعْدَ ذالِكَ ظَهِيرٌ ( التحريم 4 ) المرتبة السادسة قوله ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ والأشد كمال القوة والعقل والتمييز وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد وكأنها شدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع والمراد والله أعلم ثم سهل في تربيتكم وأغذيتكم أموراً لتبلغوا أشدكم فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه وبين بلوغ الأشد ويكون بين الحالتين وسائط وذكر بعضهم أنه ليس بين حال الطفولية وبين ابتداء حال بلوغ الأشد واسطة حتى جوز أن يبلغ في السن ويكون طفلاً كما يكون غلاماً ثم يدخل في الأشد المرتبة السابعة قوله وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً والمعنى أن منكم من يتوفى على قوته وكماله ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو الهرم والخرف فيصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم فإن قيل كيف قال لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً مع أنه يعلم بعض الأشياء كالطفل قلنا المراد أنه يزول عقله فيصير كأنه لا يعلم شيئاً لأن مثل ذلك قد يذكر في النفي لأجل المبالغة ومن الناس من قال هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وهو ضعيف لأن معنى قوله ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( التين 5 ) هو دلالة على الذم فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة ولذلك قال إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( التين 6 ) فهذا تمام الاستدلال بحال خلقة الحيوان على صحة البعث الوجه الثاني الاستدلال بحال خلقة النبات على ذلك وهو قوله سبحانه وتعالى وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً وهمودها يبسها وخلوها عن النبات والخضرة فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ والاهتزاز الحركة على سرور فلا يكاد يقال اهتز فلان لكيت وكيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع فقوله اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أي تحركت بالنبات وانتفخت
أما قوله وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ فهو مجاز لأن الأرض ينبت منها والله تعالى هو المنبت لذلك لكنه يضاف إليها توسعاً ومعنى مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ من كل نوع من أنواع النبات من زرع وغرس والبهجة حسن الشيء ونضارته والبهيج بمعنى المبهج قال المبرد وهو الشيء المشرق الجميل ثم إنه(23/9)
سبحانه لما قرر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة وذكر أموراً خمسة أحدها قوله ذلك بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ والحق هو الموجود الثابت فكأنه سبحانه بين أن هذه الوجوه دالة على وجود الصانع وحاصلها راجع إلى أن حدوث هذه الأمراض المتنافية وتواردها على الأجسام يدل على وجود الصانع وثانيها قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ فهذا تنبيه على أنه لما لم يستبعد من الإله إيجاد هذه الأشياء فكيف يستبعد منه إعادة الأموات وثالثها قوله وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ يعني أن الذي يصح منه إيجاد هذه الأشياء لا بد وأن يكون واجب الإنصاف لذاته بالقدرة ومن كان كذلك كان قادراً على جميع الممكنات ومن كان كذلك فإنه لا بد وأن يكون قادراً على الإعادة ورابعها قوله وَأَنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ والمعنى أنه لما أقام الدلائل عى أن الإعادة في نفسها ممكنة وأنه سبحانه وتعالى قادر على كل الممكنات وجب القطع بكونه قادراً على الإعادة في نفسها وإذا ثبت الإمكان والصادق أخبر عن وقوعه فلا بد من القطع بوقوعه واعلم أن تحرير هذه الدلالة على الوجه النظري أن يقال الإعادة في نفسها ممكنة والصادق أخبر عن وقوعها فلا بد من القطع بوقوعها أما بيان الإمكان فالدليل عليه أن هذه الأجسام بعد تفرقها قابلة لتلك الصفات التي كانت قائمة بها حال كونها حية عاقلة والبارىء سبحانه عالم بكل المعلومات قادر على كل المقدورات الممكنة وذلك يقتضي القطع بإمكان الإعادة لما قلنا إن تلك الإجسام بعد تفرقها قابلة لتلك الصفات لأنها لو لم تكن قابلة لها في وقت لما كانت قابلة لها في شيء من الأوقات لأن الأمور الذاتية لا تزول ولو لم تكن قابلة لها في شيء من الأوقات لما كانت حية عاقلة في شيء من الأوقات لكنها كانت حية عاقلة فوجب أن تكون قابلة أبداً لهذه الصفات وأما أن البارىء سبحانه يمكنه تحصيل ذلك الممكن فلأنه سبحانه عالم بكل المعلومات فيكون عالماً بأجزاء كل واحد من المكلفين على التعيين وقادراً على كل الممكنات فيكون قادراً على إيجاد تلك الصفات في تلك الذوات فثبت أن الإعادة في نفسها ممكنة وأنه سبحانه يمكنه تحصيل ذلك الممكن فثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها فإذا أخبر الصادق عن وقوعها فلا بد من القطع بوقوعها فهذا هو الكلام في تقرير هذا الأصل فإن قيل فأي منفعة لذكر مراتب خلقة الحيوانات وخلقة النبات في هذه الدلالة قلنا إنها تدل على أنه سبحانه قادر على كل الممكنات وعالم بكل المعلومات ومتى صح ذلك فقد صح كون الإعادة ممكنة فإن الخصم لا ينكر المعاد إلا بناء على إنكار أحد هذين الأصلين ولذلك فإن الله تعالى حيث أقام الدلالة على البعث في كتابه ذكر معه كونه قادراً عالماً كقوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ فقوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا بيان للقدرة وقوله وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( يس 79 ) بيان للعلم والله أعلم
ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِى َ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلعَبِيدِ(23/10)
القراءة ثَانِى َ عِطْفِهِ بكسر العين الحسن وحده بفتح العين لِيُضِلَّ قرىء بضم الياء وفتحها القراءة المعروفة وَنُذِيقُهُ بالنون وقرأ زيد بن علي أذيقه المعاني في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن المراد بقوله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ( الحج 3 ) من هم على وجوه أحدها قال أبو مسلم الآية الأولى وهي قوله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويتبع كل شيطان مريد واردة في الأتباع المقلدين وهذه الآية واردة في المتبوعين المقلدين فإن كلا المجادلين جادل بغير علم وإن كان أحدهما تبعاً والآخر متبوعاً وبين ذلك قوله وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ فإن مثل ذلك لا يقال في المقلد وإنما يقال فيمن يخاصم بناء على شبهة فإن قيل كيف يصح ما قلتم والمقلد لا يكون مجادلاً قلنا قد يجادل تصويباً لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد وثانيها أن الآية الأولى نزلت في النضر بن الحرث وهذه الآية في أبي جهل وثالثها أن هذه الآية نزلت أيضاً في النضر وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وفائدة التكرير المبالغة في الذم وأيضاً ذكر في الآية الأولى اتباعه للشيطان تقليداً بغير حجة وفي الثانية مجادلته في الدين وإضلاله غيره بغير حجة والوجه الأول أقرب لما تقدم
المسألة الثانية الآية دالة على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب المنير حق حسن على ما مر تقريره
المسألة الثالثة المراد بالعلم العلم الضروري وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير الوحي والمعنى أنه يجادل من غير مقدمة ضرورية ولا نظرية ولا سمعية وهو كقوله وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ( الحج 71 ) وقوله ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَاذَا ( الأحقاف 4 ) أما قوله ثَانِى َ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فاعلم أن ثنى العطف عبارة عن الكبر والخيلاء كتصعير الخد ولي الجيد وقوله لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فأما القراءة بضم الياء فدلالة على أن هذا المجادل فعل الجدال وأظهر التكبر لكي يتبعه غيره فيضله عن طريق الحق فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير وأما القراءة بفتح الياء فالمعنى أنه لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه ثم إنه سبحانه وتعالى شرح حاله في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فيوم بدر روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما نزلت في النضر بن الحرث وأنه قتل يوم بدر وأما الذين لم يخصصوا هذه الآية بواحد معين قالوا المراد بالخزي في الدنيا ما أمر المؤمنون بذمه ولعنه ومجاهدته وأما في الآخرة فقوله وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ثم بين تعالى أن هذا الخزي المعجل وذلك العقاب المؤجل لأجل ما قدمت يداه قالت المعتزلة هذه الآية تدل على مطالب
الأول دلت الآية على أنه إنما وقع في ذلك العقاب بسبب عمله وفعله فلو كان فعله خلقاً لله تعالى لكان حينما خلقه الله سبحانه وتعالى استحال منه أن ينفك عنه وحينما لا يخلقه الله تعالى استحال منه أن(23/11)
يتصف به فلا يكون ذلك العقاب بسبب فعله فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم وذلك على خلاف النص
الثاني أن قوله بعد ذلك وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ دليل على أنه سبحانه إنما لم يكن ظالماً بفعل ذلك العذاب لأجل أن المكلف فعل فعلاً استحق به ذلك العقاب وذلك يدل على أنه لو عاقبه لا بسبب فعل يصدر من جهته لكان ظالماً وهذا يدل على أنه لا يجوز تعذيب الأطفال بكفر آبائهم
الثالث أنه سبحانه تمدح بأنه لا يفعل الظلم فوجب أن يكون قادراً عليه خلاف ما يقوله النظام وأن يصح ذلك منه خلاف ما يقوله أهل السنة
الرابع وهو أن لا يجوز الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يظلم لأن عندهم صحة نبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) موقوفة على نفي الظلم فلو أثبتنا ذلك بالدليل السمعي لزم الدور والجواب عن الكل المعارضة بالعلم والداعي
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة َ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذالِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ
القراءة قرىء فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَة ِ بالنصب والرفع فالنصب على الحال والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وفي حرف عبدالله مِنْ ضَرُّهُ بغير لام واعلم أنه تعالى لما بين حال المظهرين للشرك المجادلين فيه على ما ذكرنا عقبه بذكر المنافقين فقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ وفي تفسير الحرف وجهان الأول ما قاله الحسن وهو أن المرء في باب الدين معتمدة القلب واللسان فهما حرفا الدين فإذا وافق أحدهما الآخر فقد تكامل في الدين وإذا أظهر بلسانه الدين لبعض الأغراض وفي قلبه النفاق جاز أن يقال فيه على وجه الذم يعبد الله على حرف الثاني قوله عَلَى حَرْفٍ أي على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون طمأنينة كالذي يكون على طرف من العسكر فإن أحس بغنيمة قر واطمأن وإلا فر وطار على وجهه وهذا هو المراد فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ لأن الثبات في الدين إنما يكون لو كان الغرض منه إصابة الحق وطاعة الله والخوف من عقابه فأما إذا كان غرضه الخير المعجل فإنه يظهر الدين عند السراء ويرجع عنه عند الضراء فلا يكون إلا منافقاً مذموماً وهو مثل قوله تعالى يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ ( النساء 143 ) وكقوله فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ(23/12)
( النساء 141 )
المسألة الثانية قال الكلبي نزلت هذه الآية في أعراب كانوا يقدمون على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا صح بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته رضي به واطمأن إليه وإن أصابه وجع وولدت امرأته جارية أو أجهضت رماكه وذهب ماله وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان وقال له ما جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين فينقلب عن دينه وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والحسن ومجاهدة وقتادة وثانيها وهو قول الضحاك نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس قال بعضهم لبعض ندخل في دين محمد فإن أصبنا خيراً عرفنا أنه حق وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل وثالثها قال أبو سميد الخدري ( أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فقال يا رسول الله أقلني فإني لم أصب من ديني هذا خيراً ذهب بصري وولدي ومالي فقال ( صلى الله عليه وسلم ) إن الإسلام لا يقال إن الإسلام ليسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة ) فنزلت هذه الآية
وأما قوله وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ففيه سؤالات الأول كيف قال وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ والخير أيضاً فتنة لأنه امتحان وقال تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً والجواب مثل هذا كثير في اللغة لأن النعمة بلاء وابتلاء لقوله فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ( الفجر 15 ) ولكن إنما يطلق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع والمنافق ليس عنده الخير إلا الخير الدنيوي وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي لأنه لا دين له فلذلك وردت الآية على ما يعتقدونه وإن كان الخير كله فتنة لكن أكثر ما يستعمل فيما يشتد ويثقل
السؤال الثاني إذا كانت الآية في المنافق فما معنى قوله انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب ويرتد والجواب المراد أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره فصار يذم الدين عند الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب في الحقيقة
السؤال الثالث قال مقاتل الخير هو ضد الشر فلما قال فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ كان يجب أن يقول وإن أصابه شر انقلب على وجهه الجواب لما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى وإن أصابه شر بل وصفه بما لا يفيد فيه القبح
أما قوله تعالى خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَة َ فذلك لأنه يخسر في الدنيا العزة والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ولا يبقى ماله ودمه مصوناً وأما في الآخرة فيفوته الثواب الدائم ويحصل له العقاب الدائم وَذالِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ
أما قوله يَدْعُو مِن اللَّهِ مَالاً يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ فالأقرب أنه المشرك الذي يعبد الأوثان وهذا كالدلالة على أن الآية لم ترد في اليهودي لأنه ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام والأقرب أنها واردة في المشركين الذين انقطعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على وجه النفاق وبين تعالى أن ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ وأراد به عظم ضلالهم وكفرهم ويحتمل أن يعني بذلك بعد ضلالهم عن الصواب لأن جميعه وإن كان(23/13)
يشترك في أنه خطأ فبعضه أبعد من الحق من البعض واستعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالاً وطالت وبعدت مسافة ضلاله
أما قوله تعالى يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في تفسيره على وجهين أحدهما أن المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا وحجة هذا القول أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضاراً نافعاً فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض القول الثاني أن المراد الوثن وأجابوا عن التناقض بأمور أحدها أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها سبب الضرر وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها كقوله تعالى رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سبباً للضلال فكذا ههنا نفي الضرر عنهم في الآية الأولى بمعنى كونها فاعلة وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر وثانيها كأنه سبحانه وتعالى بين في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع ثم قال في الآية الثانية لو سلمنا كونها ضارة نافعة لكن ضررها أكثر من نفعها وثالثها كان الكفار إذا أنصفوا علموا أنه لا يحصل منها نفع ولا ضرر في الدنيا ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها فكأنهم يقولون لها في الآخرة إن ضرركم أعظم من نفعكم
المسألة الثانية اختلف النحويون في إعراب قوله لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ
أما قوله لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ فالمولى هو الولي والناصر والعشير الصاحب والمعاشر واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق لأن ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله تعالى الذي يجمع خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء ثم ذم الرؤساء بقوله لَبِئْسَ الْمَوْلَى والمراد ذم من انتصر بهم والتجأ إليهم
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ
إعلم أنه سبحانه لما بين في الآية السابقة حال عبادة المنافقين وحال معبودهم بن في هذه الآية صفة عبادة المؤمنين وصفة معبودهم أما عبادتهم فقد كانت على الطريق الذي لا يمكن صوابه وأما معبودهم(23/14)
فلا يضر ولا ينفع وأما المؤمنون فعبادتهم حقيقية ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة ثم بين كمال الجنة التي تجمع بين الزرع والشجر وأن تجري من تحتها الأنهار وبين تعالى أنه يفعل ما يريد بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال تعالى فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ واحتج أصحابنا في خلق الأفعال بقوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ قالوا أجمعنا على أنه سبحانه يريد الإيمان ولفظة ما للعموم فوجب أن يكون فاعلاً للإيمان لقوله إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ أجاب الكعبي عنه بأن الله تعالى يفعل ما يريد أن يفعله لا ما يريد أن يفعله غيره والجواب أن قوله ما يريد أعم من قولنا ما يريد أن يفعله ومن قولنا ما يريد أن يفعله غيره فالتقييد خلاف النص
أما قوله مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ فالهاء إلى ماذا يرجع فيه وجهان الأول وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يريد أن من ظن أن لن ينصر الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله فيجب البحث ههنا عن أمرين أحدهما أنه من الذي كان يظن أن الله تعالى لا ينصر محمدًا ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أنه ما معنى قوله فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لْيَقْطَعْ
أما البحث الأول فذكروا فيه وجوهاً أحدها كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر فنزلت هذه الآية وثانيها قال مقاتل نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا نخاف أن الله لا ينصر محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا وثالثها أن حساده وأعداءه كانوا يتوقعون أن لا ينصره الله وأن لا يعليه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك
وأما البحث الثاني فاعلم أن في لفظ السبب قولين أحدهما أنه الحبل وهؤلاء اختلفوا في السماء فمنهم من قال هو سماء البيت ومنهم من قال هو السماء في الحقيقة فقالوا المعنى من كان يظن أن لن ينصره الله ثم يغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مد حبلاً إلى سماء بيته فاختنق فلينظر أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه وعلى هذا القول اختلفوا في القطع فقال بعضهم سمى الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه وسمى فعله كيداً لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء إلا أنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ وهذا قول الكلبي ومقاتل وقال ابن عباس رضي الله عنه يشد الحبل في عنقه وفي سقف البيت ثم ليقطع الحبل حتى يختنق ويهلك هذا كله إذا حملنا السماء على سقف البيت وهو قول كثير من المفسرين وقال آخرون المراد منه نفس السماء فإنه يمكن حمل الكلام على نفس السماء فهو أولى من حمله على سماء البيت لأن ذلك لا يفهم منه إلا مقيداً ولأن الغرض ليس الأمر بأن يفعل ذلك بل الغرض أن يكون ذلك صارفاً له عن الغيظ إلى طاعة الله تعالى وإذا كان كذلك فكل ما كان المذكور أبعد من الإمكان كان أولى بأن يكون هو المراد(23/15)
ومعلوم أن مد الحبل إلى سماء الدنيا والاختناق به أبعد في الإمكان من مده إلى سقف البيت لأن ذلك ممكن أما الذين قالوا السبب ليس هو الحبل فقد ذكروا وجهين الأول كأنه قال فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع بذلك السبب المسافة ثم لينظر فإنه يعلم أن مع تحمل المشقة فيما ظنه خاسر الصفقة كأن لم يفعل شيئاً وهو قول أبي مسلم والثاني كأنه قال فليطلب سبباً يصل به إلى السماء فليقطع نصر الله لنبيه ولينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بحيلة وهل يتهيأ له أن يقطع بذلك نصر الله عن رسوله فإذا كان ذلك ممتنعاً كان غيظه عديم الفائدة واعلم أن المقصد على كل هذه الوجوه معلوم فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه وهو في معنى قوله فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَاء ( الأنعام 35 ) مبيناً بذلك أنه لا حيلة له في الآيات التي اقترحوها القول الثاني أن الهاء في قوله لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ راجع إلى من في أول الآية لأنه المذكور ومن حق الكناية أن ترجع إلى مذكور إذا أمكن ذلك ومن قال بذلك حمل النصرة على الرزق وقال أبو عبيدة وقف علينا سائل من بني بكر فقال من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله فكأنه قال من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كما وصفه تعالى في قوله وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ( الحج 11 ) فيبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يغلب التسمية ويجعله مرزوقاً
أما قوله وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ فمعناه ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات بينات
أما قوله وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ فقد احتج أصحابنا به فقالوا المراد من الهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز لأنه تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ولأن قوله يَهْدِى مَن يُرِيدُ دليل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته سبحانه ووضع الأدلة عند الخصم واجب فبقي أن المراد منه خلق المعرفة قال القاضي عبد الجبار في الاعتذار هذا يحتمل وجوهاً أحدها يكلف من يريد لأن من كلف أحداً شيئاً فقد وصفه له وبينه له وثانيها أن يكون المراد يهدي إلى الجنة والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحاً وثالثها أن يكون المراد أن الله تعالى يلطف بمن يريد ممن علم أنه إذا زاده هدى ثبت على إيمانه كقوله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وهذا الوجه هو الذي أشار الحسن إليه بقوله إن الله يهدي من قبل لا من لم يقبل والوجهان الأولان ذكرهما أبو علي والجواب عن الأول أن الله تعالى ذكر ذلك بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف وأما الوجهان الأخيران فمدفوعان لأنهما عندك واجبان على الله تعالى وقوله يَهْدِى مَن يُرِيدُ يقتضي عدم الوجوب
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَة ِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الأرض وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ(23/16)
القراءة قرى حَقّ بالضم وقرىء حقاً أي حق عليه العذاب حقاً وقرىء مُّكْرِمٍ بفتح الراء بمعنى الإكرام واعلم أنه تعالى لما قال وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ أتبعه في هذه الآية ببيان من يهديه ومن لا يهديه واعلم أن المسلم لا يخالفه في المسائل الأصولية إلا طبقات ثلاثة أحدها الطبقة المشاركة له في نبوة نبيه كالخلاف بين الجبرية والقدرية في خلق الأفعال البشرية والخلاف بين مثبتي الصفات والرؤية ونفاتها وثانيها الذين يخالفونه في النبوة ولكن يشاركونه في الاعتراف بالفاعل المختار كالخلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعيسى وموسى عليهما السلام وثالثها الذين يخالفونه في الإله وهؤلاء هم السوفسطائية المتوقفون في الحقائق والدهرية الذين لا يعترفون بوجود مؤثر في العالم والفلاسفة الذين يثبتون مؤثراً موجباً لا مختاراً فإذا كانت الاختلافات الواقعة في أصول الأديان محصورة في هذه الأقسام الثلاثة ثم لا يشك أن أعظم جهات الخلاف هو من جهة القسم الأخير منها وهذا القسم الأخير بأقسامه الثلاثة لا يوجدون في العام المتظاهرين بعقائدهم ومذاهبهم بكل يكونون مستترين أما القسم الثاني وهو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السلام فتقسيمه أن يقال القائلون بالفاعل المختار إما أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء أو لا يكونوا معترفين بذلك فإما أن يكونوا أتباعاً لمن كان نبياً في الحقيقة أو لمن كان متنبئاً أما أتباع الأنبياء عليهم السلام فهم المسلمون واليهود والنصارى وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى وهم الصابئون وأما أتباع المتنبىء فهم المجوس وأما المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام والأوثان وهم المسمون بالمشركين ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم فثبت أن الأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء عليهم السلام هي هذه الستة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قال قتادة ومقاتل الأديان ستة واحدة لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في سورة البقرة
أما قوه إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَة ِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال الزجاج هذا خبر لقول الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ كما تقول إن أخاك إن الدين عليه لكثير قال جرير إن الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به ترجى الخواتيم
المسألة الثانية الفصل مطلق فيحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاء واحداً بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد وقيل يفصل بينهم يقضي بينهم
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ فالمراد أنه يفصل بينهم وهو عالم بما يستحقه كل منهم فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف(23/17)
أما قوله سبحانه وتعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ ففيه أسئلة
السؤال الأول ما الرؤية ههنا الجواب أنها العلم أي ألم تعلم أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض وإنما عرف ذلك بخبر الله لا أنه رآه
السؤال الثاني ما السجود ههنا قلنا فيه وجوه أحدها قال الزجاج أجود الوجوه في سجود هذه الأمور أنها تسجد مطيعة لله تعالى وهو كقوله ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( البقرة 74 ) وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 )(23/18)
وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي يحدثها الله تعالى فيها من غير امتناع ألبتة أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود فإن قيل هذا التأويل يبطله قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ فإن السجود بالمعنى الذي ذكرته عام في كل الناس فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصاً من غير فائدة والجواب من وجوه أحدها أن السجود بالمعنى الذي ذكرناه وإن كان عاماً في حق الكل إلا أن بعضهم تمرد وتكبر وترك السجود في الظاهر فهذا الشخص وإن كان ساجداً بذاته لكنه متمرد بظاهره أما المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر وثانيها أن نقطع قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ عما قبله ثم فيه ثلاثة أوجه الأول أن نقول تقدير الآية ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد والثاني بمعنى الطاعة والعبادة وإنما فعلنا ذلك لأنه قامت الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعاً الثاني أن يكون قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ والثالث أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف كثير على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قيل وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب وثالثها أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعاً يقول المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة وفي حق الجمادات الانقياد ومن ينكر ذلك يقول إن الله تعالى تكلم بهذه اللفظة مرتين فعنى بها في حق العقلاء الطاعة وفي حق الجمادات الانقياد
السؤال الثالث قوله وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ الاْرْضِ ( الرعد 15 ) لفظه لفظ العموم فيدخل فيه الناس فلم قال مرة أخرى وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ الجواب لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيراً منهم يسجدون طوعاً دون كثير منهم فإنه يمتنع عن ذلك وهم الذين حق عليهم العذاب القول الثاني في تفسير السجود أن كل ما سوى الله تعالى فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) وكما أن الإمكان لازم للممكن حال حدوثه وبقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه وحال بقائه وهذا الافتقار الذاتي اللازم للماهية أدل على الخضوع والتواضع من وضع الجبهة على الأرض فإن ذلك علامة وضعية للافتقار الذاتي قد يتطرق إليها الصدق والكذب أما نفس الافتقار الذاتي فإنه ممتنع التغير والتبدل فجميع الممكنات ساجدة بهذا المعنى لله تعالى أي خاضعة متذللة معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليفه وتكوينه وعلى هذا تأولوا قوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وهذا قول القفال رحمه الله القول الثالث أن سجود هذه الأشياء سجود ظلها كقوله تعالى يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ( النحل 48 ) وهو قول مجاهد
وأما قوله كَثِيرٍ مّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فقال ابن عباس في رواية عطاء وكثير من الناس يوحده وكثير حق عليه العذاب ممن لا يوحده وروى عنه أيضاً أنه قال وكثير من الناس في الجنة وهذه الرواية تؤكد ما ذكرنا أن قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ مبتدأ وخبره محذوف وقال آخرون الوقف على قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ ثم استأنف فقال وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ أي وجب بإبائه وامتناعه من السجود
وأما قوله تعالى وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم فيكون مكرماً لهم ثم بين بقوله إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب والله أعلم
هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ
القراءة روي عن الكسائي خَصْمَانِ بكسر الخاء وقرىء قُطّعَتْ بالتخفيف كان الله يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة قرأ الأعمش كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ رُدُّواْ فِيهَا الحسن يُصْهَرُ بتشديد الهاء للمبالغة وقرىء وَلُؤْلُؤاً بالنصب على تقدير ويؤتون لؤلؤاً كقوله وحوراً عيناً ولؤلؤاً بقلب الهمزة الثانية واواً واعلم أنه سبحانه لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله ومنهم من حق عليه العذاب ذكر ههنا كيفية اختصامهم وفيه مسائل(23/19)
المسألة الأولى احتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ والجواب الخصم صفة وصف بها الفوج أو الفريق فكأنه قيل هذان فوجان أو فريقان يختصمان فقوله هَاذَانِ للفظ واختصموا للمعنى كقوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ
المسألة الثانية ذكروا في تفسير الخصمين وجوهاً أحدها المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم وطائفة الكفار وجماعتهم وأن كل الكفار يدخلون في ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما يرجع إلى أهل الأديان الستة فِى رَبّهِمْ أي في ذاته وصفاته وثانيها روى أن أهل الكتاب قالوا نحن أحق بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم وقال المؤمنون نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً فهذه خصومتهم في ربهم وثالثها روى قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري رحمه الله أنه كان يحلف بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وقال علي عليه السلام أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة ورابعها قال عكرمة هما الجنة والنار قالت النار خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة خلقني الله لرحمته فقص الله من خبرهما على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك والأقرب هو الأول لأن السبب وإن كان خاصاً فالواجب حمل الكلام على ظاهره قوله هَاذَانِ كالإشارة إلى من تقدم ذكره وهم أهل الأديان الستة وأيضاً ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب فوجب أن يكون رجوع ذلك إليهما فمن خص به مشركي العرب أو اليهود من حيث قالوا في كتابهم ونبيهم ما حكيناه فقد أخطأ وهذا هو الذي يدل عليه قوله إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أراد به الحكم لأن ذكر التخاصم يقتضي الواقع بعده يكون حكماً فبين الله تعالى حكمه في الكفار وذكر من أحوالهم أموراً ثلاثة أحدها قوله قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ( الأعراف 41 ) عن أنس وقال سعيد بن جبير من نحاس أذيب بالنار أخذاً من قوله تعالى سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ ( إبراهيم 5 ) وأخرج الكلام بلفظ الماضي كقوله تعالى وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ( الكهف 99 ) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ق 21 ) لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع وثانيها قوله يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الْحَمِيمُ يصهر به ما في بطونهم والجلود الحميم الماء الحار قال ابن عباس رضي الله عنهما لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها يصهر أي يذاب أي إذا صب الحميم على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ( محمد 15 ) وثالثها قوله وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ المقامع السياط وفي الحديث ( لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها ) وأما قوله كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا فاعلم أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج والمعنى كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقاطع فهووا فيها سبعين خريفاً وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق والحريق الغليظ من النار العظيم الإهلاك ثم إنه سبحانه ذكر حكمه في المؤمنين من أربعة أوجه(23/20)
أحدها المسكن وهو قوله إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وثانيها الحلية وهو قوله يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ فبين تعالى أنه موصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا من هذه الأمور وإن كان من أحله لهم أيضاً شاركهم فيه لأن المحلل للنساء في الدنيا يسير بالإضافة إلى ما سيحصل لهم في الآخرة وثالثها الملبوس وهو قوله وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ورابعها قوله وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ وفيه وجوه أحدها شهادة أن لا إله إلا الله هو الطيب من القول لقوله وَمَثَلاً كَلِمَة ً طَيّبَة ً ( إبراهيم 24 ) وقوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) وهو صراط الحميد لقوله وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الشورى 52 ) وثانيها قال السدي وهدوا إلى الطيب من القول هو القرآن وثالثها قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء هو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده ورابعها أنهم إذا ساروا إلى الدار الآخرة هدوا إلى البشارات التي تأتيهم من قبل الله تعالى بدوام النعيم والسرور والسلام وهو معنى قوله وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) وعندي فيه وجه خامس وهو أن العلاقة البدنية جارية مجرى الحجاب للأرواح البشرية في الاتصال بعالم القدس فإذا فارقت أبدانها انكشف الغطاء ولاحت الأنوار الإلهية وظهور تلك الأنوار هو المراد من قوله وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِراطِ الْحَمِيدِ والتعبير عنها هو المراد من قوله وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
اعلم أنه تعالى بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمه البيت وعظم كفر هؤلاء فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد لأنهم كانوا يأبون ذلك وفيه إشكال وهو أنه كيف عطف المستقبل وهو قوله وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ الماضي وهو قوله كَفَرُواْ والجواب عنه من وجهين الأول أنه يقال فلان يحسن إلى الفقراء ويعين الضعفاء لا يراد به حال ولا استقبال وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه في جميع أزمنته وأوقاته فكأنه قيل إن الذين كفروا من شأنهم الصد عن سبيل الله ونظيره قوله الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وثانيهما قال أبو علي الفارسي التقدير إن الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدون ويدخل فيه أنهم يفعلون ذلك في الحال والمستقبل أما قوله وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني ويصدوهم أيضاً عن المسجد الحرام قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عام الحديبية عن المسجد الحرام عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدى فكره(23/21)
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قتالهم وكان محرماً بعمرة ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل
أما قوله الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو علي الفارسي أي جعلناه للناس منسكاً ومتعبداً وقوله سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ رفع على أنه خبر مبتدأ مقدم أي العاكف والباد فيه سواء وتقدير الآية المسجد الحرام الذي جعلناه للناس منسكاً فالعاكف والبادي فيه سواء وقرأ عاصم ويعقوب سواء بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين والله أعلم
المسألة الثانية العاكف المقيم به الحاضر والبادي الطارىء من البدو وهو النازع إليه من عربته وقال بعضهم يدخل في العاكف القريب إذا جاور ولزمه للتعبد وإن لم يكن من أهله
المسألة الثالثة اختلفوا في أنهما في أي شيء يستويان قال ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات إنهما يستويات في سكنى مكة والنزول بها فليس أحدهما أحق بالمنزل الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون واحد سبق إلى المنزل وهو قول قتادة وسعيد بن جبير ومن مذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام واحتجوا عليه بالآية والخبر أما الآية فهي هذه قالوا إن أرض مكة لا تملك فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي فلما استويا ثبت أن سبيله سبيل المساجد وأما الخبر فقوله عليه السلام ( مكة مباح لمن سبق إليها ) وهذا مذهب ابن عمر وعمر بن عبد العزيز ومذهب أبي حنيفة وإسحق الحنظلي رضي الله عنهم وعلى هذا المراد بالمسجد الحرام الحرم كله لأن إطلاق لفظ المسجد الحرام والمراد منه البلد جائز بدليل قوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الإسراء 1 ) وههنا قد دل الدليل وهو قوله الْعَاكِفُ لأن المراد منه المقيم إقامة وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل فيجب أن يقال ذكر المسجد وأراد مكة القول الثاني المراد جعل الله الناس في العبادة في المسجد سواء ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس قال عليه السلام ( يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة من ليل أو نهار ) وهذا قول الحسن ومجاهد وقول من أجاز بيع دور مكة وقد جرت مناظرة بين الشافعي وإسحق الحنظلي بمكة وكان إسحق لا يرخص في كراء بيوت مكة واحتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ ( الحج 4 ) فأضيفت الدار إلى مالكها وإلى غير مالكها وقال عليه السلام يوم فتح مكة ( من أغلق بابه فهو آمن ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( هل ترك لنا عقيل من ربع ) وقد اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما دار السجن أترى أنه اشتراها من مالكها أو من غير مالكها قال إسحق فلما علمت أن الحجة قد لزمتني تركت قولي أما الذي قالوه من حمل لفظ المسجد على مكة بقرينة قوله العاكف فضعيف لأن العاكف قد يراد به الملازم للمسجد المعتكف فيه على الدوام أو في الأكثر فلا يلزم ما ذكروه ويحتمل أن يراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من التعبد فيه فلا وجه لصرف الكلام عن ظاهره مع هذه الاحتمالات
أما قوله وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ففيه مسائل(23/22)
المسألة الأولى قرىء يُرِدْ بفتح الياء من الورود ومعناه من أتى فيه بإلحاد وعن الحسن ومن يرد إلحاده بظلم والمعنى ومن يرد إيقاع إلحاد فيه فالإضافة صحيحة على الاتساع في الظرف كمكر الليل والنهار ومعناه ومن يرد أن يلحد فيه ظالماً
المسألة الثانية الإلحاد العدول عن القصد وأصله إلحاد الحافر وذكر المفسرون في تفسير الإلحاد وجوهاً أحدها أنه الشرك يعني من لجأ إلى حرم الله ليشرك به عذبه الله تعالى وهو إحدى الروايات عن ابن عباس وقول عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وقتادة ومقاتل وثانيها قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في عبدالله بن سعد حيث استسلمه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فارتد مشركاً وفي قيس بن ضبابة وقال مقاتل نزلت في عبدالله بن خطل حين قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافراً فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله يوم الفتح كافراً وثالثها قتل ما نهى الله تعالى عنه من الصيد ورابعها دخول مكة بغير إحرام وارتكاب ما لا يحل للمحرم وخامسها أنه الاحتكار عن مجاهد وسعيد بن جبير وسادسها المنع من عمارته وسابعها عن عطاء قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله وعن عبد الله بن عمر أنه كان له قسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل لا والله وبلى والله وثامنها وهو قول المحققين أن الإلحاد بظلم عام في كل المعاصي لأن كل ذلك صغر أم كبر يكون هناك أعظم منه في سائر البقاع حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لو أن رجلاً بعدن هم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذاباً أليماً وقال مجاهد تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات فإن قيل كيف يقال ذلك مع أن قوله نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ غير لائق بكل المعاصي قلنا لا نسلم فإن كل عذاب يكون أليماً إلا أنه تختلف مراتبه على حسب اختلاف المعصية
المسألة الثالثة الباء في قوله بِإِلْحَادٍ فيه قولاه أحدهما وهو الأولى وهو اختيار صاحب ( الكشاف ) أن قوله بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً نذقه من عذاب أليم يعني أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده الثاني قال أبو عبيدة مجازه ومن يرد فيه إلحاداً والباء من حروف الزوائد
المسألة الرابعة لما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بين الله تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلاً إلى الظلم فلهذا قرن الظلم بالإلحاد لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم ولذلك قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
أما قوله تعالى نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فهو بيان الوعيد وفيه مسائل
المسألة الأولى من قال الآية نزلت في ابن خطل قال المراد بالعذاب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قتله يوم الفتح ولا وجه للتخصيص إذا أمكن التعميم بل يجب أن يكون المراد العذاب في الآخرة لأنه من أعظم ما يتوعد به
المسألة الثانية أن هذه الآية تدل على أن المرء يستحق العذاب بإرادته للظلم كما يستحقه على عمل جوارحه(23/23)
المسألة الثالثة ذكروا قولين في خبر إن المذكور في أول الآية الأول التقدير إن الذين كفروا ويصدون ومن يرد فيه بإلحاد نذقه من عذاب فهو عائد إلى كلتا الجملتين الثاني أنه محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم وكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك
وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِى َ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَة ِ الاٌّ نْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
اعلم أن قوله وَإِذْ بَوَّأْنَا أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة وكان قد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله تعالى إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله فبناه على وضعه الأول وقيل أمر إبراهيم بأن يأتي موضع البيت فيبنى فانطلق فخفي عليه مكانه فبعث الله تعالى على قدر البيت الحرام في العرض والطول غمامة وفيها رأس يتكلم وله لسان وعينان فقال يا إبراهيم ابن علي قدري وحيالى فأخذ في البناء وذهبت السحابة وههنا سؤالات
السؤال الأول لا شك أن ( أن ) هي المفسرة فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة الجواب أنه سبحانه لما قال جعلنا البيت مرجعاً لإبراهيم فكأنه قيل ما معنى كون البيت مرجعاً له فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه موحداً لرب البيت عن الشريك والنظير وبقالبه مشتغلاً بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام
السؤال الثاني أن إبراهيم لما لم يشرك بالله فكيف قال أن لا تشرك بي الجواب المعنى لا تجعل في العبادة لي شريكاً ولا تشرك بي غرضاً آخر في بناء البيت
السؤال الثالث البيت ما كان معموراً قبل ذلك فكيف قال وطهر بيتي الجواب لعل ذلك المكان كان صحراء وكانوا يرمون إليها الأقذار فأمر إبراهيم ببناء البيت في ذلك المكان وتطهيره من الأقذار وكانت(23/24)
معمورة فكانوا قد وضعوا فيها أصناماً فأمره الله تعالى بتخريب ذلك البناء ووضع بناء جديد وذلك هو التطهير عن الأوثان أو يقال المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا ينبغي من الشرك وقول الزور
وأما قوله لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ فقال ابن عباس رضي الله عنهما للطائفين بالبيت من غير أهل مكة وَالْقَائِمِينَ أي المقيمين بها وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي من المصلين من الكل وقال آخرون القائمون وهم المصلون لأن المصلي لا بد وأن يكون في صلاته جامعاً بين القيام والركوع والسجود والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن محيصن وَأَذّن بمعنى أعلم
المسألة الثانية في المأمور قولان أحدهما وعليه أكثر المفسرين أنه هو إبراهيم عليه السلام قالوا لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال سبحانه وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ قال يا رب وما يبلغ صوتي قال عليك الأذان وعلى البلاغ فصعد إبراهيم عليه السلام الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس وفي رواية أخرى على المقام قال إبراهيم كيف أقول قال جبريل عليه السلام قل لبيك اللهم لبيك فهو أول من لبى وفي رواية أخرى أنه صعد الصفا فقال يا أيها الناس إن الله كتب عليكم حج البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول لبيك اللهم لبيك وفي رواية أخرى إن الله يدعوكم إلى حج البيت الحرام ليثيبكم به الجنة ويخرجكم من النار فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وكل من وصل إليه صوته من حجر أو شجر ومدر وأكمة أو تراب قال مجاهد فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء فمن أجاب مرة حج مرة ومن أجاب مرتين أو أكثر فالحج مرتين أو أكثر على ذلك المقدار وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما أمر إبراهيم عليه السلام بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى قال القاضي عبد الجبار يبعد قولهم إنه أجابه الصخر والمدر لأن الإعلام لا يكون إلا لمن يؤمر بالحج دون الجماد فأما من يسمع من أهل المشرق والمغرب نداءه فلا يمتنع إذا قواه الله تعالى ورفع الموانع ومثل ذلك قد يجوز في زمان الأنبياء عليهم السلام القول الثاني أن المأمور بقوله وَأَذّن هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول الحسن واختيار أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأن ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) هو المخاطب به فهو أولى وتقدم قوله وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ لا يوجب أن يكون قوله وَأَذّن يرجع إليه إذ قد بينا أن معنى قوله وَإِذْ بَوَّأْنَا أي واذكر يا محمد إِذْ بَوَّأْنَا فهو في حكم المذكور فإذا قال تعالى وَأَذّن فإليه يرجع الخطاب وعلى هذا القول ذكروا في تفسير قوله تعالى وَأَذّن وجوهاً أحدها أن الله تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يعلم الناس بالحج وثانيها قال الجبائي أمره الله تعالى أن يعلن التلبية فيعلم الناس أنه حاج فيحجوا معه قال وفي قوله يَأْتُوكَ دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدي به وثالثها أنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول ( صلى الله عليه وسلم )
أما قوله يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى الرجال المشاة واحدهم راجل كنيام ونائم وقرىء رجال بضم الراء مخفف الجيم ومثقله ورجال كعجال عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ أي ركباناً والضمور الهزال(23/25)
ضمر يضمر ضموراً والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها وإنما قال يَأْتِينَ أي جماعة الإبل وهي الضوامر لأن قوله وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ معناه على إبل ضامرة فجعل الفعل بمعنى كل ولو قال يأتي على اللفظ صح وقرىء يأتون صفة للرجال والركبان والفج الطريق بين الجبلين ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعاً والعميق البعيد قرأ ابن مسعود معيق يقال بئر بعيدة العمق والمعق
المسألة الثانية المعنى وأذن ليأتوك رجالاً وعلى كل ضامر أي وأذن ليأتوك على هاتين الصفتين أو يكون المراد وأذن فإنهم يأتوك على هاتين الصفتين
المسألة الثالثة بدأ الله بذكر المشاة تشريفاً لهم وروى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال الحسنة بمائة ألف حسنة )
المسألة الرابعة إنما قال يَأْتُوكَ رِجَالاً لأنه هو المنادي فمن أتى بمكة حاجاً فكأنه أتى إبراهيم عليه السلام لأنه يجيب نداءه
أما قوله لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما أمر بالحج في قوله وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ ذكر حكمة ذلك الأمر في قوله لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ واختلفوا فيها فبعضهم حملها على منافع الدنيا وهي أن يتجرو في أيام الحج وبعضهم حملها على منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة عن محمد الباقر عليه السلام وبعضهم حملها على الأمرين جميعاً وهو الأولى
المسألة الثانية إنما نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات
المسألة الثالثة كنى عن الذبح والنحر بذكر اسم الله تعالى لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن دكر اسمه إذا نحروا وذبحوا وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسم الله تعالى وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان قال مقاتل إذا ذبحت فقل بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك وتستقبل القبلة وزاد الكلبي فقال إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين قال القفال وكان المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدى نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلباً لمرضاة الله تعالى واعترافاً بأن تقصيره كاد يستحق مهجته
المسألة الرابعة أكثر العلماء صاروا إلى أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله واحتجوا بأنها معلومة عند الناس لحرصهم على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة والمشعر الحرام وكذلك الذبائح لها وقت منها وهو يوم النحر وقال ابن عباس في رواية عطاء إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده وهو اختيار أبي مسلم قال لأنها كانت معروفة عند العرب بعدها وهي أيام النحر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله(23/26)
أما قوله بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ فقال صاحب ( الكشاف ) البهمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز
أما قوله تعالى فَكُلُواْ مِنْهَا فمن الناس من قال إنه أمر وجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها ترفعاً على الفقراء فأمر المسلمين بذلك لما فيه من مخالفة الكفار ومساواة الفقراء واستعمال التواضع وقال الأكثرون إنه ليس على الوجوب ثم قال العلماء من أهدى أو ضحى فحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ومنهم من قال يأكل الثلث ويدخر الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث ومذهب الشافعي رحمه الله أن الأكل مستحب والإطعام واجب فإن أطعم جميعها أجزأه وإن أكل جميعها لم يجزه هذا فيما كان تطوعاً فأما الواجبات كالنذور والكفارات والجبرانات لنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودماء القلم والحلق فلا يؤكل منها
أما قوله وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ فلا شبهة في أنه أمر إيجاب والبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقيرة الذي أضعفه الإعسار وهو مأخوذ من فقار الظهر قال ابن عباس البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني
أما قوله ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ قال الزجاج إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير وقال المبرد أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها والمراد ههنا قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العامة والمراد من القضاء إزالة التفث وقال القفال قال نفطويه سألت أعرابياً فصيحاً ما معنى قوله ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ فقال ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل ما أتفثك وما أدرنك ثم قال القفال وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي
أما قوله وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ فقرىء بتشديد الفاء ثم يحتمل ذلك ما أوجبه الدخول في الحج من أنواع المناسك ويحتمل أن يكون المراد ما أوجبوه بالنذر الذي هو القول وهذا القول هو الأقرب فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدى وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه فأمر الله تعالى بالوفاء بذلك
أما قوله وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فالمراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة أما كون هذا الطواف بعد الوقوف ورمي الجمار والحلق ثم هو في يوم النحر أو بعده ففيه تفصيل وسمى البيت العتيق لوجوه أحدها العتيق القديم لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن وثانيها لأنه أعتق من الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى وهو قول ابن عباس وقول ابن الزبير ورووه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولما قصد أبرهة فعل به ما فعل فإن قيل فقد تسلط الحجاج عليه فالجواب قلنا ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به عبدالله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه وثالثها لم يملك قط عن ابن عيينة ورابعها أعتق من الغرق عن مجاهد وخامسها بيت كريم من قولهم عتاق الطير والخيل واعلم أن اللام في ليقضوا وليوفوا وليطوفوا لام الأمر وفي قراءة ابن كثير ونافع والأكثرين تخفيف هذه اللامات وفي قراءة أبي عمرو تحريكها بالكسر(23/27)
ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاٌّ نْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الاٌّ وْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ(23/28)
قال صاحب ( الكشاف ) ذالِكَ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا وقد كان كذا والحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها يحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمشعر الحرام وقال المتكلمون ولا تدخل النوافل في حرمات الله تعالى فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ أي فالتعظيم خير له للعلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظها وقوله عِندَ رَبّهِ يدل على الثواب المدخر لأنه لا يقال عند ربه فيما قد حصل من الخيرات قال الأصم فهو خير له من التهاون بذلك ثم إنه تعالى عاد إلى بيان حكم الحج فقال وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاْنْعَامُ فقد كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضاً تحرم فبين الله تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها فهي محللة واستثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم وهو المذكور في سورة المائدة وهو قوله تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وقوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ وقوله وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ( الأنعام 121 ) ثم إنه سبحانه لما حث على تعظيم حرماته وحمد من يعظمها أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور لأن توحيد الله تعالى وصدق القول أعظم الخيرات وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد لأن الشرك من باب الزور لأن المشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة فكأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله ولا تقربوا منه شيئاً لتماديه في القبح والسماجة وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان وسمى الأوثان رجساً لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات ثم قال الأصم إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في المتقربات أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها وهذا بعيد وقيل إنه إنما وصفها بذلك استحقاراً واستخفافاً وهذا أقرب وقوله مِنَ الاْوْثَانِ بيان للرجس وتمييز له كقوله عندي عشرون من الدراهم لأن الرجس لما فيه من الإيهام يتناول كل شيء فكأنه قال فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان وليس المراد أن بعضها ليس كذلك والزور من الزور والإزورار وهو الانحراف كما أن الأفك من أفكه إذا صرفه والمفسرون ذكروا في قول الزور وجوهاً أحدها أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام وما أشبه ذلك من افترائهم وثانيها شهادة الزور عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه صلى الصبح فلما سلم قام قائماً واستقبل الناس بوجهه وقال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ) وتلا هذه الآية وثالثها الكذب والبهتان ورابعها قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك
أما قوله تعالى حُنَفَاء للَّهِ فقد تقدم ذكر تفسير ذلك وأنه الاستقامة على قول بعضهم والميل إلى الحق على قول البعض والمراد في هذا الموضع ما قيل من أنه الإخلاص فكأنه قال تمسكوا بهذه الأمور التي أمرت ونهيت على وجه العبادة لله وحده لا على وجه إشراك غير الله به ولذلك قال غير مشركين به وهذا يدل على أن الواجب على المكلف أن ينوي بما يأتيه من العبادة الإخلاص فبين تعالى مثلين للكفر لا مزيد عليهما في بيان أن الكافر ضار بنفسه غير منتفع بها وهو قوله وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ قال صاحب ( الكشاف ) إن كان هذا تشبيهاً مركباً فكأنه قيل من أشرك بالله فقد أهلك نسه إهلاكاً ليس وراءه هلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرقت أجزاؤه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة وإن كان تشبيهاً مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله كالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المختلفة وقرىء بكسر الخاء والطاء وبكسر الفاء مع كسرهما وهي قراءة الحسن وأصلها تختطفه وقرىء الرياح ثم إنه سبحانه أكد ما تقدم فقال ذلك ومن يعظم شعائر الله واختلفوا فقال بعضهم يدخل فيه كل عبادة وقال بعضهم بل المناسك في الحج وقال بعضهم بل المراد الهدى خاصة والأصل في الشعائر الأعلام التي بها يعرف الشيء فإذا فسرنا الشعائر بالهدايا فتعظيمها على وجهين أحدهما أن يختارها عظام الأجسام حساناً جساماً سماناً غالية الأثمان ويترك المكاس في شرائها فقد كانوا يتغالون في ثلاثة ويكرهون المكاس فيهن الهدى والأضحية والرقبة روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه ( أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار فسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فنهاه عن ذلك وقال بل أهدها ) ( وأهدى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب ) والوجه الثاني في تعظيم شعائر الله تعالى أن يعتقد أن طاعة الله تعالى في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بد وأن يحتفل به ويتسارع فيه فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ أي إن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى من ارتبط به وإنما ذكرت القلوب لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه ولكن لما كان قلبه خالياً عنها لا جرم لا يكون مجداً في أداء الطاعات أما المخلص الذي تكون التقوى متمكنة في قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص فإن قال قائل ما الحكمة في أن الله تعالى بالغ في تعظيم ذبح الحيوانات هذه المبالغة فالجواب
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَة ِ الاٌّ نْعَامِ فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِى الصَّلَواة ِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(23/29)
اعلم أن قوله تعالى لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لا يليق إلا بأن تحمل الشعائر على الهدى الذي فيه منافع إلى وقت النحر ومن يحمل ذلك على سائر الواجبات يقول لكم فيها أي في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده والأول هو قول جمهور المفسرين ولا شك أنه أقرب وعلى هذا القول فالمنافع مفسرة بالدر والنسل والأوبار وركوب طهورها فأما قوله إلى أجل مسمى ففيه قولان أحدهما أن لكم أن تنتفعوا بهذه البهائم إلى أن تسموها ضحية وهدياً فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك وقال آخرون لكم فيها أي في البدن منافع مع تسميتها هدياً بأن تركبوها إن احتجتم إليها وأن تشربوا ألبانها إذا اضطررتم إليها إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها هذه هي الرواية الثانية عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو اختيار الشافعي وهذا القول أولى لأنه تعالى قال لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ أي في الشعائر ولا تسمى شعائر قبل أن تسمى هدياً وروى أبو هريرة أنه عليه السلام ( مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال عليه السلام اركبها فقال يا رسول الله إنها هدى فقال اركبها ويلك ) وروى جابر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( اركبوا الهدى بالمعروف حتى تجدوا ظهراً ) واحتج أبو حنيفة رحمه الله على أنه لا يملك منافعها بأن لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكاً لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات وهذا ضعيف لأن أم الولد لا يمكنه بيعها ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا
أما قوله تعالى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فالمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافع محلها إلى البيت العتيق أي وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ وبالجملة فقوله مَحِلُّهَا يعني حيث يحل نحرها وأما البيت العتيق فالمراد به الحرم كله ودليله قوله تعالى فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا ( التوبة 28 ) أي الحرم كله فالمنحر على هذا القول كل مكة ولكنها تنزهت عن الدماء إلى منى ومنى من مكة قال عليه السلام ( كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر ) قال القفال هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت منى فأما الهدى المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه
أما قوله تعالى وَلِكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فالمعنى شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من عهد إبراهيم عليه السلام إلى من بعده ضرباً من القربان وجعل العلة في ذلك أن يذكروا اسم الله تقدست أسماؤه على المناسك وما كانت العرب تذبحه للصنم يسمى العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً منسكاً بكسر السين وقرأ الباقون بالفتح وهو مصدر بمعنى النسك والمكسور بمعنى الموضع(23/30)
أما قوله تعالى فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ففي كيفية النظم وجهان أحدهما أن الإله واحد وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح الثاني فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله فَلَهُ أَسْلِمُواْ أي اخلصوا له الذكر خاصة بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة والمراد الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه ومن انقاد له كان مخبتاً فلذلك قال بعده وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ والمخبت المتواضع الخاشع قال أبو مسلم حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض يقال أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال أنجد وأشأم وأتهم والخبت هو المطمئن من الأرض وللمفسرين فيه عبارات أحدها المخبتين المتواضعين عن ابن عباس وقتادة وثانيها المجتهدين في العبادة عن الكلبي وثالثها المخلصين عن مقاتل ورابعها الطمئنين إلى ذكر الله تعالى والصالحين عن مجاهد وخامسها هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا عن عمرو بن أوس
ثم وصفهم الله تعالى بقوله الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فيظهر عليهم الخوف من عقاب الله تعالى والخشوع والتواضع لله ثم لذلك الوجل أثران أحدهما الصبر على المكاره وذلك هو المراد بقوله وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وعلى ما يكون من قبل الله تعالى لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن والمصائب فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة والثاني الاشتغال بالخدمة وأعز الأشياء عند الإنسان نفسه وماله أما الخدمة بالنفس فهي الصلاة وهو المراد بقوله الَّذِينَ إِذَا وأما الخدمة بالمال فهو المراد من قوله وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ قرأ الحسن الَّذِينَ إِذَا بالنصب على تقدير النون وقرأ ابن مسعود والمقيمين الصلاة على الأصل
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أن قوله تعالى وَالْبُدْنَ فيه مسائل
المسألة الأولى البدن جمع بدنة كخشب وخشبة سميت بذلك إذا أهديت للحرم لعظم بدنها وهي الإبل خاصة ولكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ألحق البقر بالإبل حين قال ( البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ) ولأنه قال(23/31)
فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا وهذا يختص بالإبل فإنها تنحر قائمة دون البقر وقال قوم البدن الإبل والبقر التي يتقرب بها إلى الله تعالى في الحج والعمرة لأنه إنما سمى بذلك لعظم البدن فالأولى دخولها فيه أما الشاة فلا تدخل وإن كانت تجوز في النسك لأنها صغيرة الجسم فلا تسمى بدنة
المسألة الثانية قرأ الحسن والبدن بضمتين كثمر في جمع ثمرة وابن أبي إسحق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف وقرىء بالنصب والرفع كقوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ والله أعلم
المسألة الثالثة إذا قال لله على بدنة هل يجوز له نحرها في غير مكة قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز إلا بمكة واتفقوا فيمن نذر هدياً أن عليه ذبحه بمكة ولو قال لله على جزور أنه يذبحه حيث شاء وقال أبو حنيفة رحمه الله البدنة بمنزلة الجزور فوجب أن يجوز له نحرها حيث يشاء بخلاف الهدى فإنه تعالى قال هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( يس 39 ) فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدى واحتج أبو يوسف رحمه الله بقوله تعالى وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللَّهِ فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدى أجاب أبو حنيفة رحمه الله بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن
أما قوله تعالى جَعَلْنَاهَا لَكُمْ فاعلم أنه سبحانه لما خلق البدن وأوجب أن تهدي في الحج جاز أن يقول جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللَّهِ أما قوله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فالكلام فيه ما تقدم في قوله لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ( الحج 33 ) وإذا كان قوله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ كالترغيب فالأولى أن يراد به الثواب في الآخرة وما أخلق العاقل بالحرص على شيء شهد الله تعالى بأن فيه خيراً وبأن فيه منافع أما قوله فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ففيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها قال المفسرون هو أن يقال عند النحر أو الذبح بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك أما قوله صَوَافَّ فالمعنى قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرىء صوافن من صفون الفرس وهو أن تقوم على ثلاث وتنصب الرابعة على طرف سنبكه لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث وقرىء صوافي أي خوالص لوجه الله تعالى لا تشركوا بالله في التسمية على نحرها أحداً كما كان يفعله المشركون وعن عمرو بن عبيد صوافياً بالتنوين عوضاً عن حرف الإطلاق عند الوقف وعن بعضهم صوافي نحو قول العرب اعط القوس باريها ولا يبعد أن تكون الحكمة في إصفافها ظهور كثرتها للناظرين فتقوى نفوس المحتاجين ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجراً وأقرب إلى ظهور التكبير وإعلاء اسم الله وشعائر دينه وأما قوله فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فاعلم أن وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط ووجبت الشمس وجبة إذا غربت والمعنى إذا سقطت على الأرض وذلك عند خروج الروح منها فَكُلُواْ مِنْهَا وقد ذكرنا اختلاف العلماء فيما يجوز أكله منها وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ القانع السائل يقال قنع يقنع قنوعاً إذا سأل قال أبو عبيد هو الرجل يكون مع القوم يطلب فضلهم ويسأل معروفهم ونحوه قال الفراء والمعنى الثاني القانع هو الذي لا يسأل من القناعة يقال قنع يقنع قناعة إذا رضي بما قسم له وترك السؤال أما المعتر فقيل إنه المتعرض بغير سؤال وقيل إنه المتعرض بالسؤال قال الأزهري قال(23/32)
ابن الأعرابي يقال عروت فلاناً وأعررته وعروته واعتريته إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه قال أبو عبيد والأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح والمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالاً بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا يقنع بما يدفع إليه أبداً وقرأ الحسن والمعتري وقرأ أبو رجاء القنع وهو الراضي لا غير يقال قنع فهو قنع وقانع
أما قوله كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ فالمعنى أنها أجسم وأعظم وأقوى من السباع وغيرها مما يمتنع علينا التمكن منه فالله تعالى جعل الإبل والبقر بالصفة التي يمكننا تصريفها على ما نريد وذلك نعمة عظيمة من الله تعالى في الدين والدنيا ثم لما بين تعالى هذه النعمة قال بعده لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والمراد لكي تشكروا قالت المعتزلة هذا يدل على أنه سبحانه أراد من جميعهم أن يشكروا فدل هذا على أنه يريد كل ما أمر به ممن أطاع وعصى لا كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لم يرد ذلك إلا من المعلوم أن يطيع والكلام عليه قد تقدم غير مرة
أما قوله تعالى لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى لما كانت عادة الجاهلية على ما روي في القربان أنهم يلوثون بدمائها ولحومها الوثن وحيطان الكعبة بين تعالى ما هو القصد من النحر فقال لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ فبين أن الذي يصل إليه تعالى ويرتفع إليه من صنع المهدي من قوله ونحره وما شاكله من فرائضه هو تقوى الله دون نفس اللحم والدم ومعلوم أن شيئاً من الأشياء لا يوصف بأنه يناله سبحانه فالمراد وصول ذلك إلى حيث يكتب يدل عليه قوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 )
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أمور أحدها أن الذي ينتفع به المرء فعله دون الجسم الذي ينتفع بنحره وثانيها أنه سبحانه غني عن كل ذلك وإنما المراد أن يجتهد العبد في امتثال أوامره وثالثها أنه لما لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه وجب أن تكون تقواه فعلاً وإلا لكانت تقواه بمنزلة اللحوم ورابعها أنه لما شرط القبول بالتقوى وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يكون عمله مقبولاً وأنه لا ثواب له والجواب أما الأولان فحقان وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم وأما الرابع فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقياً مطلقاً ولكنه متق فيما أتى به من الطاعة على سبيل الإخلاص فوجب أن تكون طاعته مقبولة وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم
المسألة الثالثة كلهم قرأوا يَنَالَ اللَّهَ ويناله بالياء إلا يعقوب فإنه قرأ بالتاء في الحرفين فمن أنث فقد رده إلى اللفظ ومن ذكر فللحائل بين الاسم والفعل ثم قال كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ والمراد أنه إنما سخرها كذلك لتكبروا الله وهو التعظيم بما نفعله عند النحر وقبله وبعده على ما هدانا ودلنا عليه وبينه لنا ثم قال بعده على وجه الوعد لمن امتثل أمره وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ كما قال من قبل وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ ( الحج 34 ) والمحسن هو الذي يفعل الحسن من الأعمال ويتمسك به فيصير محسناً إلى نفسه بتوفير الثواب عليه(23/33)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِى ٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرض أَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَآتَوُاْ الزَّكَواة َ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَة ُ الاٍّ مُورِ
اعلم أنه تعالى لما بين ما يلزم الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة وقد ذكرنا من قبل أن الكفار صدوهم أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( الحج 38 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بالألف ومثله وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف فيهما وقرأ حمزة والكسائي وعاصم إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ بالألف وَلَوْلاَ دَفْعُ بغير ألف فمن قرأ يدافع فمعناه يبالغ في الدفع عنهم وقال الخليل يقال دفع الله المكروه عنك دفعاً ودافع عنك دفاعاً والدفاع أحسنهما
المسألة الثانية ذكر إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين فلذلك قال بعده إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ( الحج 38 ) فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته
المسألة الثالثة قال مقاتل إن الله يدافع كفار مكة عن الذين آمنوا بمكة هذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم فاستأذنوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قتلهم سراً فنهاهم
المسألة الرابعة هذه الآية بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار وكف بواثقهم عنهم وهي كقوله لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ( آل عمران 111 ) وقوله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( غافر 51 ) وقال إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ( الصافات 172 ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ( الصف 13 )
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ( الحج 38 ) فالمعنى أنه سبحانه جعل العلة في أنه يدافع عن(23/34)
الذين آمنوا أن الله لا يحب صدهم وهو الخوان الكفور أي خوان في أمانة الله كفور لنعمته ونظيره قوله لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 27 ) قال مقاتل أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذه
أما قوله تعالى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم في رواية حفص أَذِنَ بضم الألف والباقون بفتحها أي أذن الله لهم في القتال وقرأ أهل المدينة وعاصم يُقَاتَلُونَ بنصب التاء وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي أَذِنَ بنصب الف ويقاتلون بكسر التاء قال الفراء والزجاج يعني أذن الله للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل ومن قرأ بفتح التاء فالتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال
المسألة الثانية في الآية محذوف والتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه
أما قوله يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ فالمراد أنهم أذنوا في القتال بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان مشركوا مكة يؤذونهم أذى شديداً وكانوا يأتون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بقتال حتى هاجر فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية وقيل نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركوا مكة فأذن في مقاتلتهم
أما قوله وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فذلك وعد منه تعالى بنصرهم كما يقول المرء لغيره إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك
أما قوله تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ فاعلم أنه تعالى لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظلموا فبين ذلك الظلم بقوله الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين أحدهما أنهم أخرجوهم من ديارهم والثاني أنهم أخرجوهم بسبب أنهم قالوا رَبُّنَا اللَّهُ وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم فإن قيل كيف استثنى من غير حق قولهم رَبُّنَا اللَّهُ وهو من الحق قلنا تقدير الكلام أنهم أخرجوا بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير ومثله هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ثم بين سبحانه بقوله وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ أن عادته جل جلاله أن يحفظ دينه بهذا الأمر قرأ نافع لَّهُدّمَتْ بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد وههنا سؤالات
السؤال الأول ما المراد بهذا الدفاع الذي أضافه إلى نفسه الجواب هو إذنه لأهل دينه بمجاهدة الكفار فكأنه قال تعالى ولولا دفاع الله أهل الشرك بالمؤمنين من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وعطلوا ما يبنونه من مواضع العبادة ولكنه دفع عن(23/35)
هؤلاء بأن أمر بقتال أعداء الدين ليتفرغ أهل الدين للعبادة وبناء البيوت لها ولهذا المعنى ذكر الصوامع والبيع والصلوات وإن كانت لغير أهل الإسلام وذكر المفسرون وجوهاً أخر أحدها قال الكلبي يدفع الله بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين عن الجهاد وثانيها روى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يدفع الله بالمحسن عن المسيء وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق وبالذي يحج عن الذي لا يحج وعن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه ) ثم تلا هذه الآية وثالثها قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة ورابعها قال مجاهد يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص
السؤال الثاني لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين الجواب لأجل ما سألت عنه اختلفوا على وجوه أحدها قال الحسن المراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين وإن اختلفت العبارات عنها وثانيها قول الزجاج ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يصلي فيه فلولا ذلك الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه وفي زمن عيسى الصوامع وفي زمن نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) المساجد فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ وثالثها بل المراد لهدمت هذه الصوامع في أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنها على كل حال يجري فيها ذكر الله تعالى فليست بمنزلة عبادة الأوثان
السؤال الثالث ما الصوامع والبيع والصلوات والمساجد الجواب ذكروا فيها وجوهاً أحدها الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين عن أبي العالية رضي الله عنه وثانيها الصوامع للنصارى وهي التي بنوها في الصحارى والبيع لهم أيضاً وهي التي يبنونها في البلد والصلوات لليهود قال الزجاج وهي بالعبرانية صلوتاً وثالثها الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود عن قتادة ورابعها أنها بأسرها أسماء المساجد عن الحسن أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه وأما الصلوات فالمعنى أنه لولا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد
السؤال الرابع الصلوات كيف تهدم خصوصاً على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين الجواب من وجوه أحدها المراد بهدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان إذا قابله بالكفر دون الشكر وثانيها بل المراد مكان الصلوات لأنه الذي يصح هدمه كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي أهلها وثالثها لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه كقولهم متقلداً سيفاً ورمحاً وإن كان الرمح لا يتقلد
السؤال الخامس قوله يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً مختص بالمساجد أو عائد إلى الكل الجواب قال الكلبي ومقاتل عائد إلى الكل لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع كثيراً والأقرب أنه مختص بالمساجد تشريفاً لها بأن ذكر الله يحصل فيها كثيراً
السؤال السادس لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد الجواب لأنها أقدم في(23/36)
الوجود وقيل أخرها في الذكر كما في قوله وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ( فاطر 32 ) ولأن أول الفكر آخر العمل فلما كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خير الرسل وأمته خير الأمم لا جرم كانوا آخرهم ولذلك قال عليه السلام ( نحن الآخرون السابقون )
أما قوله تعالى وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ فقال بعضهم من ينصره بتلقى الجهاد بالقبول نصرة لدين الله تعالى وقال آخرون بل المراد من يقوم بسائر دينه وإنما قالوا ذلك لأن نصرة الله على الحقيقة لا تصح وإنما المراد من نصرة الله نصرة دينه كما يقال في ولاية الله وعداوته مثل ذلك وفي قوله وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وعد بالنصر لمن هذه حاله ونصر الله تعالى للعبد أن يقويه على أعدائه حتى يكون هو الظافر ويكون قائماً بإيضاح الأدلة والبينات وبكون بالإعانة على المعارف والطاعات وفيه ترغيب في الجهاد من حيث وعدهم النصر ثم بين تعالى أنه قوي على هذه النصرة التي وعدها المؤمنين وأنه لا يجوز عليه المنع وهو معنى قوله عَزِيزٌ لأن العزيز هو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده ثم إنه سبحانه وتعالى وصف الذين أذن لهم في القتال في الآية الأولى فقال الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق لأن المتبادر إلى الفهم من قوله مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ ليس إلا هذا ولأنا لو حلمناه على أصل القدرة لكان كل العباد كذلك وحينئذ يبطل ترتب الأمور الأربعة المذكورة عليه في معرض الجزاء لأنه ليس كل من كان قادراً على الفعل أتى بهذه الأشياء إذا ثبت هذا فنقول المراد بذلك هم المهاجرون لأن قوله الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ صفة لمن تقدم وهو قوله الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم والأنصار ما أخرجوا من ديارهم فيصير معنى الآية أن الله تعالى وصف المهاجرين بأنه إن مكنهم من الأرض وأعطاهم السلطنة فإنهم أتوا بالأمور الأربعة وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن قد ثبت أن الله تعالى مكن الأئمة الأربعة من الأرض وأعطاهم السلطنة عليها فوجب كونهم آتين بهذه الأمور الأربعة وإذا كانوا آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر وجب أن يكونوا على الحق فمن هذا الوجه دلت هذه الآية على إمامة الأربعة ولا يجوز حمل الآية على علي عليه السلام وحده لأن الآية دالة على الجمع وفي قوله وَلِلَّهِ عَاقِبَة ُ الاْمُورِ دلالة على أن الذي تقدم ذكره من سلطنتهم وملكهم كائن لا محالة ثم إن الأمور ترجع إلى الله تعالى بالعاقبة فإنه سبحانه هو الذي لا يزول ملكه أبداً وهو أيضاً يؤكد ما قلناه
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَة ٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاٌّ بْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ(23/37)
إعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق وأذن في مقاتلتهم وضمن للرسول والمؤمنين النصرة وبين أن لله عاقبة الأمور أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الصبر على ما هم عليه من أذيته وأذية المؤمنين بالتكذيب وغيره فقال وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم وذكر الله سبعة منهم فإن قيل ولم قال وَكُذّبَ مُوسَى ولم يقل قوم موسى فالجواب من وجهين الأول أن موسى عليه السلام ما كذبه قومه بنوا إسرائيل وإنما كذبه غير قومه وهم القبط الثاني كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسوله وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره
أما قوله تعالى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ يعني أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي ثم أخذتهم بالعقوبة فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ استفهام تقرير ( ي ) أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب أليس كان واقعاً قطعاً ألم أبدلهم بالنعمة نقمة وبالكثرة قلة وبالحياة موتاً وبالعمارة خراباً ألست أعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصرة على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم فإنه تعالى إنما يمهل للمصلحة فلا بد من الرضاء والتسليم وإن شق ذلك على القلب واعلم أن بدون ذلك يحصل التسلية لمن حاله دون حال الرسول عليه السلام فكيف بذلك مع منزلته لكنه في كل وقت يصل إليه من جهتهم ما يزيده غماً فأجرى الله عادته بأن يصبره حالاً بعد حال وقد تقدم ذكر هؤلاء المكذبين وبأي جنس من عذاب الاستئصال هلكوا
وههنا بحث وهو أن هذه الآية تدل على أنه سبحانه يفعل به وبقومه كل ما فعل بهم وبقومهم إلا عذاب الاستئصال فإنه لا يفعله بقوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان قد مكنهم من قتل أعدائهم وثبتهم قال الحسن السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين أحدهما أن عند الله حد ( اً ) من الكفر من بلغه عذبه ومن لم يبلغه لم يعذبه والثاني أن الله لا يعذب قوماً حتى يعلم أن أحداً منهم لا يؤمن فأما إذا حصل الشرطان وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر وعلم الله أن أحداً منهم لا يؤمن فحينئذ يأمر الأنبياء فيدعون على أممهم فيستجيب الله دعاءهم فيعذبهم بعذاب الاستئصال وهو المراد من قوله حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ( يوسف 110 ) أي من إجابة القوم وقوله لنوح وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ ( هود 36 ) وإذا عذبهم الله تعالى فإنه ينجي المؤمنين لقوله فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا ( هود 66 ) أي بالعذاب نجينا هوداً واعلم أن الكلام في هذه المسألة قد تقدم فلا فائدة في الإعادة فإن قيل كيف يوصف ما ينزله بالكفار من الهلاك بالعذاب المعجل بأنه نكير قلنا إذا كان رادعاً لغيره وصادعاً له عن مثل ما أوجب ذلك صار نكيراً
أما قوله فَكَأَيّن مّن قُرْبَة ٌ أَهْلَكْنَاهَا ففيه مسائل(23/38)
المسألة الأولى قال بعضهم المراد من قوله فَكَأَيّن فكم على وجه التكثير وقيل أيضاً معناه ورب قرية والأول أولى لأنه أوكد في الزجر فكأنه تعالى لما بين حال قوم من المكذبين وأنه عجل إهلاكهم أتبعه بما دل على أن لذلك أمثالاً وإن لم يذكر مفصلاً
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة أَهْلَكْنَاهَا بالنون وقرأ أبو عمرو ويعقوب أهلكتها وهو اختيار أبي عبيد لقوله في الآية الأولى مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ
المسألة الثالثة قوله أَهْلَكْنَاهَا أي أهلها ودل بقوله وهي ظالمة على ما ذكرنا ويحتمل أن يكون المراد إهلاك نفس القرية فيدخل تحت إهلاكها إهلاك من فيها لأن العذاب النازل إذا بلغ أن يهلك القرية فتصير منهدمة حصل بهلاكها هلاك من فيها وإن كان الأول أقرب
أما قوله وهي خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا ففيه سؤالان
السؤال الأول ما معنى هذه اللفظة فقال صاحب الكشاف كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش والخاوي الساقط من خوى النجم إذا سقط أو الخالي من خوى المنزل إذا خلا من أهله فإن فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خالية عن الناس مع بقاء عروشها وسلامتها قال ويمكن أن يكون خبراً بعد خبر كأنه قيل هي خاوية وهي على عروشها بمعنى أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان قائمة فهي مشرفة على السقوف الساقطة وبالجملة فالآية دالة على أنها بقيت محلاً للاعتبار
السؤال الثاني ما محل هاتين الجملتين من الإعراب أعني وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا الجواب الأولى في محل النصب على الحال والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على أهلكناها وهذا الفعل ليس له محل قال أبو مسلم المعنى فكأين من قرية أهلكناها وهي كانت ظالمة وهي الآن خاوية
أما قوله وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَة ٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن مُّعَطَّلَة ٍ من أعطله بمعنى معطلة ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ويمكن الاستقاء منها إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها وفي المشيد قولان أحدهما أنه المجصص لأن الجص بالمدينة يسمى الشيد والثاني أنه المرفوع المطول والمعنى أنه تعالى بين أن القرية مع تكلف بنائهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف وكذلك البئر التي كلفوها وصارت شربهم صارت معطلة بلا شارب ولا وارد والقصر الذي أحكموه بالجص وطولوه صار ظاهراً خالياً بلا ساكن وجعل ذلك تعالى عبرة لمن اعتبر وتدبر وفيه دلالة على أن تفسير على بمع أولى لأن التقدير وهي خاوية مع عروشها ومعلوم أنها إذا كانت كذلك كانت أدخل في الاعتبار وهو كقوله تعالى وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ ( الصافات 137 ) والله أعلم بالصواب
المسألة الثانية روى أبو هريرة رضي الله عنه أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن(23/39)
آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهم بحضرموت وإنما سميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات ثم وثم بلدة عند البئر اسمها حاضوراً بناها قوم صالح وأمروا عليها حاسر بن جلاس وجعلوا وزيره سنجاريب وأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى وعطل بئرهم وخرب قصورهم قال الإمام أبو القاسم الإنصاري وهذا عجيب لأني زرت قبر صالح بالشام ببلدة يقال لها عكة فكيف يقال إنه بحضرموت
أما قوله تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فالمقصود منه ذكر ما يتكامل به ذلك الاعتبار لأن الرؤية لها حظ عظيم في الاعتبار وكذلك استماع الأخبار فيه مدخل ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبر القلب لأن من عاين وسمع ثم لم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ألبتة ولو تفكر فيها سمع لانتفع فلهذا قال فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ كأنه قال لا عمى في أبصارهم فإنهم يرون بها لكن العمى في قلوبهم حيث لم ينتفعوا بما أبصروه وههنا سؤالات
السؤال الأول قوله أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ هل يدل على الأمر بالسفر الجواب يحتمل أنهم ما سافروا فحثهم على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا
السؤال الثاني ما معنى الضمير في قوله فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ والجواب هذا الضمير ضمير القصة والشأن يجيء مؤنثاً ومذكراً وفي قراءة ابن مسعود فَإِنَّهُ ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره الأبصار
السؤال الثالث أي فائدة في ذكر الصدور مع أن كل أحد يعلم أن القلب لا يكون إلا في الصدر الجواب أن المتعارف أن العمى مكانه الحدقة فلما أريد إثباته للقلب على خلاف المتعارف احتيج إلى زيادة بيان كما تقول ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك فقولك الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير وكأنك قلت ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك سهواً ولكني تعمدته على اليقين وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ق 37 ) وعند قوم أن محل التفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر
السؤال الرابع هل تدل الآية على أن العقل هو العلم وعلى أن محل العلم هو القلب الجواب نعم لأن المقصود من قوله قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا العلم وقوله يَعْقِلُونَ بِهَا كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل فوجب جعل القلب محلاً للتعقل ويسمى الجهل بالعمى لأن الجاهل لكونه متحيراً بشبه الأعمى
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة ٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة ٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِى َ ظَالِمَة ٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَى َّ الْمَصِيرُ قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(23/40)
إعلم أنه تعالى لما حكى من عظم ما هم عليه من التكذيب أنهم يستهزئون باستعجال العذاب فقال وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وفي ذلك دلالة على أنه عليه السلام كان يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم ولأن قولهم لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ يدل على ذلك فقال تعالى وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ لأن الوعد بالعذاب إذا كان في الآخرة دون الدنيا فاستعجاله يكون كالخلف ثم بين أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته كَأَلْفِ سَنَة ٍ لو بقي وعذب في كثرة الآلام وشدتها فبين سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه وهذا قول أبي مسلم وهو أولى الوجوه الوجه الثاني أن المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة ويرجع معناه إلى قريب مما تقدم وذلك أن الأيام القصيرة إذا مرت في الشدة كانت مستطيلة فكيف تكون الأيام المستطيلة إذا مرت في الشدة ثم إن العذاب الذي يكون طول أيامها إلى هذا الحد لا ينبغي للعاقل أن يستعجله والوجه الثالث أن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضاً إمهال ألف سنة
أما قوله وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فالمراد وكم من قرية أخرت إهلاكهم مع استمرارهم على ظلمهم فاغتروا بذلك التأخير ثم أخذتهم بأن أنزلت العذاب بهم ومع ذلك فعذابهم مدخر إذا صاروا إلي وهو تفسير قوله وَإِلَى َّ الْمَصِيرُ فإن قيل فلم قال فيما قبل فَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِى َ ظَالِمَة ٌ ( الحج 45 ) وقال ههنا وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَمْلَيْتُ لَهَا الأولى بالفاء وهذه بالواو قلنا الأولى وقعت بدلاً عن قوله فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( الحج 44 ) وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَة ٍ مّمَّا تَعُدُّونَ
أما قوله قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فالمعنى أنه تعالى أمر رسوله بأن يديم لهم التخويف والإنذار وأن لا يصده ما يكون منهم من الاستعجال للعذاب على سبيل الهزؤ عن إدامة التخويف والإنذار وأن يقول لهم إنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه
فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِى ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
إعلم أنه تعالى لما بين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه يجب أن يقول لهم أنا نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم لأن الرجل إنما يكون منذراً بذكر الوعد للمطيعين والوعيد للعاصين فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات فجمع بين الوصفين وهذا دليل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان وبه يبطل قول(23/41)
المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان ويدخل في العمل الصالح أداء كل واجب وترك كل محظور ثم بين سبحانه أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم أما المغفرة فإما أن تكون عبارة عن غفران الصغائر أو عن غفران الكبائر بعد التوبة أو عن غفرانها قبل التوبة والأولان واجبان عند الخصم وأداء الواجب لا يسمى غفراناً فبقي الثالث وهو دلالته على العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب وكرمه يحتمل أن يكون للصفات السلبية وهو أن الإنسان هناك يستغني عن المكاسب وتحمل المشاق والذل فيها وارتكاب المآثم والدناءة بسببها وأن يكون للصفات الثبوتية وهو أن يكون رزقاً كثيراً دائماً خالصاً عن شوائب الضرر مقروناً بالتعظيم والتبجيل والأولى جعل الكريم دالاً على كل هذه الصفات فهذا شرح حال المؤمنين وأما حال الكفار فقال وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِى ءايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ والمراد اجتهدوا في ردها والتكذيب بها حيث سموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين ويقال لمن بذل جهده في أمر إنه سعى فيه توسعاً من حيث بلغ في بذل الجهد النهاية كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال له سعى وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازاً قال صاحب ( الكشاف ) يقال سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه أما المعاجز فيقال عاجزته أي طمعت في إعجازه واختلفوا في المراد هل معاجزين لله أو للرسول وللمؤمنين والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا الله استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يعجزونه ويغلبونه ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد أما الذين قالوا المراد معاجزين لله فقد ذكروا وجوهاً أحدها المراد بمعاجزين مغالبين مفوتين لربهم من عذابهم وحسابهم حيث جحدوا البعث وثانيها أنهم يثبطون غيرهم عن التصديق بالله ويثبطونهم بسبب الترغيب والترهيب وثالثها يعجزون الله بإدخال الشبه في قلوب الناس والجواب عن الأول أن من جحد أصل الشيء لا يوصف بأنه مغالب لمن يفعل ذلك الشيء ومن تأول الآية على ذلك فيجب أن يكون مراده أنهم ظنوا مغالبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما كان يقوله من أمر الحشر والنشر والجواب عن الثاني والثالث أن المغالبة في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة لا إلى الله تعالى
أما قوله تعالى أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ فالمراد أنهم يدومون فيها وشبههم من حيث الدوام بالصاحب فإن قيل إنه عليه السلام في هذه الآية بشر المؤمنين أولاً وأنذر الكافرين ثانياً فكان القياس أن يقال قل يا أيها الناس إنما أنا لكم بشير ونذير قلنا الكلام مسوق إلى المشركين ويا أيها الناس نداء لهم وهم الذين قيل فيهم أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ ( الحج 46 ) ووصفوا بالاستعجال وإنما ألقى ذكر المؤمنين وثوابهم في البين زيادة لغيظهم وإيذائهم
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَة ً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَة ٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأاياتِنَا فَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ(23/42)
أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى من الناس من قال الرسول هو الذي حدث وأرسل والنبي هو الذي لم يرسل ولكنه ألهم أو رأى في النوم ومن الناس من قال إن كل رسول نبي وليس كل نبي يكون رسولاً وهو قول الكلبي والفراء وقالت المعتزلة كل رسول نبي وكل نبي رسول ولا فرق بينهما واحتجوا على فساد القول الأول بوجوه أحدها هذه الآية فإنها دالة على أن النبي قد يكون مرسلاً وكذا قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّبِى ٍّ ( الأعراف 94 ) وثانيها أن الله تعالى خاطب محمداً مرة بالنبي ومرة بالرسول فدل على أنه لا منافاة بين الأمرين وعلى القول الأول المنافاة حاصلة وثالثها أنه تعالى نص على أنه خاتم النبيين ورابعها أن اشتقاق لفظ النبي إما من النبأ وهو الخبر أو من قولهم نبأ إذا ارتفع والمعنيان لا يحصلان إلا بقبول الرسالة أما القول الثاني فاعلم أن شيئاً من تلك الوجوه لا يبطله بل هذه الآية دالة عليه لأنه عطف النبي على الرسول وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على الخاص وقال في موضع آخر وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الاْوَّلِينَ ( الزخرف 6 ) وذلك يدل على أنه كان نبياً فجعله الله مرسلاً وهو يدل على قولنا ( وقيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كم المرسلون فقال ثلثمائة وثلاثة عشرة فقيل وكم الأنبياء فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً الجم الغفير ) إذا ثبت هذا فنقول ذكروا في الفرق بين الرسول والنبي أموراً أحدها أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله والثاني أن من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شرع من قبله فهو الرسول ومن لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول وهؤلاء(23/43)
يلزمهم أن لا يجعلوا إسحق ويعقوب وأيوب ويونس وهرون وداود وسليمان رسلاً لأنهم ما جاءوا بكتاب ناسخ والثالث أن من جاءه الملك ظاهراً وأمره بدعوة الخلق فهو الرسول ومن لم يكن كذلك بل رأى في النوم كونه رسولاً أو أخبره أحد من الرسال بأنه رسول الله فهو النبي الذي لا يكون رسولاً وهذا هو الأولى
المسألة الثانية ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه وذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( النجم 1 ) فقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بلغ قوله أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواة َ الثَّالِثَة َ الاْخْرَى ( النجم 19 20 ) ألقى الشيطان على لسانه ( تلك العرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ) فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قراءته فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاصي فإنهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فلما أمسى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاه جبريل عليه السلام فقال ماذا صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله وقلت ما لم أقل لك ا فحزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً عظيماً حتى نزل قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ الآية هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول أما القرآن فوجوه أحدها قوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ( الحاقة 44 46 ) وثانيها قوله بَدّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( يونس 15 ) وثالثها قوله وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلي لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال وذلك لا يقوله مسلم ورابعها قوله تعالى وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِى َ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( الإسراء 73 ) وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل وخامسها قوله وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( الإسراء 74 ) وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل وسادسها قوله كَذالِكَ نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ( الفرقان 32 ) وسابعها قوله سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتاباً وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق وأما المعقول فمن وجوه أحدها أن من جوز على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان وثانيها أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلى ويقرأ القرآن عند الكعبة(23/44)
آمناً أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلاً أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم وثالثها أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم ورابعها قوله فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَاتُهُ وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى وخامسها وهو أقوى الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة ولنشرع الآن في التفصيل فنقول التمني جاء في اللغة لأمرين أحدهما تمنى القلب والثاني القراءة قال الله تعالى وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِى َّ أي إلا قراءة لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف وإنما يعلمه قراءة وقال حسان تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخرها لاقى حمام المقادر
قيل إنما سميت القراءة أمنية لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها وقال أبو مسلم التمني هو التقدير وتمنى هو تفعل من منيت والمنية وفاة الإنسان في الوقت الذي قدره الله تعالى ومنى الله لك أي قدر لك وقال رواة اللغة الأمنية القراءة واحتجوا ببيت حسان وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكرناه فإن التالي مقدر للحروف ويذكرها شيئاً فشيئاً فالحاصل من هذا البحث أن الأمنية إما القراءة وإما الخاطر أما إذا فسرناها بالقراءة ففيه قولان الأول أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيه ويشتبه على القارىء دون ما رووه من قوله تلك الغرانيق العلى الثاني المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه الأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى ولا الشيطان تكلم به ولا أحد تكلم به لكنه عليه السلام لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه من قولهم تلك الغرانيق العلى وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال وهذا الوجه ذهب إليه جماعة وهو ضعيف لوجوه أحدها أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما قد جرت العادة بسماعه فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه وثانيها أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجم العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات وثالثها لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان الوجه الثاني قالوا إن ذلك الكلام كلام شيطان الجن وذلك بأن تلفظ بكلام من تلقاء نفسه أوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا والذي يؤكده أنه لا خلاف في أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول عليه(23/45)
السلام فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول عليه السلام وعند سكوته فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول وما رأوا شخصاً آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ثم هذا لا يكون قادحاً في النبوة لما لم يكن فعلاً له وهذا أيضاً ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم في أثناء الشيطان كلام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع فإن قيل هذا الاحتمال قائم في الكل ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله تعالى أن يشرح الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس قلنا لا يجب على الله إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات وإذا لم يجب على الله ذلك تمكن الاحتمال من الكل الوجه الثالث أن يقال المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس وهم الكفرة فإنه عليه السلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها فقال بعض من حضر تلك الغرانيق العلى فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط القوم وكثرة صياحهم وطلبهم تغليطه وإخفاء قراءته ولعل ذلك كان في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلغون فيها وقيل إنه عليه السلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الوقفات فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أضاف الله تعالى ذلك إلى الشيطان لأنه بوسوسته يحصل أولاً ولأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم في نفسه شيطاناً وهذا أيضاً ضعيف لوجهين أحدهما أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إزالة الشبهة وتصريح الحق وتبكيت ذلك القائل وإظهار أن هذه الكلمة منه صدرت وثانيهما لو فعل ذلك لكان ذلك أولى بالنقل فإن قيل إنما لم يفعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك لأنه كان قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة من دون هذه الزيادة فلم يكن ذلك مؤدياً إلى التلبيس كما يؤدي سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس قلنا إن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في زمان حياته لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور فلم يكن تأدية تلك السورة بدون هذه الزيادة سبباً لزوال اللبس وأيضاً فلو كان كذلك لما استحق العتاب من الله تعالى على ما رواه القوم الوجه الرابع هو أن المتكلم بهذا هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه فإنه إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً أو قسراً أو اختياراً أما الوجه الأول وهو أنه عليه السلام قال هذه الكلمة سهواً فكما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد وفرح المشركون بما سمعوه وأتاه جبريل عليه السلام فاستقرأه فلما انتهى إلى الغرانيق قال لم آتك بهذا فحزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أن نزلت هذه الآية وهذا ضعيف أيضاً لوجوه أحدها أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع وحينئذ تزول الثقة عن الشرع وثانيها أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقتها ومعناها فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها وثالثها هب أنه تكلم بذلك سهواً فكيف لم ينبه لذلك حين قرأها على جبريل عليه السلام وذلك ظاهر أما الوجه الثاني وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك قسراً وهو الذي قال قوم إن الشيطان أجبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) (23/46)
على أن يتكلم بهذا فهذا أيضاً فاسد لوجوه أحدها أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي عليه السلام لكان اقتداره علينا أكثر فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا أن يكون ذلك بإجبار الشياطين وثانيها أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال وثالثها أنه باطل بدلالة قوله تعالى حاكياً عن الشيطان وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ( إبراهيم 22 ) وقال تعالى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ( النحل 99 100 ) وقال إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( الحجر 40 ) ولا شك أنه عليه السلام كان سيد المخلصين أما الوجه الثالث وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك اختياراً فههنا وجهان أحدهما أن نقول إن هذه الكلمة باطلة والثاني أن نقول إنها ليست كلمة باطلة أما على الوجه الأول فذكروا فيه طريقين الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل عليه السلام وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل عليه السلام فاستعرضه فقرأها فلما بلغ إلى تلك الكلمة قال جبريل عليه السلام أنا ما جئتك بهذه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني الطريق الثاني قال بعض الجهال إنه عليه السلام لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ثم رجع عنها وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة لأن الأول يقتضي أنه عليه السلام ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث والثاني يقتضي أنه كان خائناً في الوحي وكل واحد منهما خروج عن الدين أما الوجه الثاني وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فههنا أيضاً طرق الأول أن يقال الغرانيق هم الملائكة وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته الثاني أن يقال المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار فكأنه قال أشفاعتهن ترتجى الثالث أن يقال إنه ذكر الإثبات وأراد النفي كقوله تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) أي لا تضلوا كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله تعالى قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ( الأنعام 151 ) والمعنى أن تشركوا وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن أو في الصلاة بناء على هذا التأويل ولكن الأصل في الدين أن لا يجوز عليهم شيء من ذلك لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى على تركها كنحو الفظاظة والكتابة وقول الشعر فهذه الوجوه المذكورة في قوله تلك الغرانيق العلا قد طهر على القطع كذبها فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمنى القلب فالمعنى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه أحدها أنه يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم وكان يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا أيضاً(23/47)
خروج عن الدين وبيانه ما تقدم وثانيها ما قال مجاهد من أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير فنسخ الله ذلك بأن عرفه بأن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها وثالثها يحتمل أنه عليه السلام عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملاً فيلقى الشيطان في جملته ما لم يرده فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده الله تعالى بأدلته وآياته ورابعها معنى الآية إذا تمنى إذا أراد فعلاً مقرباً إلى الله تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى الله تعالى في ذلك وهو كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( الأعراف 201 ) وكقوله وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ( الأعراف 200 ) ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ والجواب لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا آخر القول في هذه المسألة
المسألة الثالثة يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو المحكم وقال أبو مسلم معنى الآية أنه لم يرسل نبياً إلا إذا تمنى كأنه قيل وما أرسلنا إلى البشر ملكاً وما أرسلنا إليهم نبياً إلا منهم وما أرسلنا نبياً خلا عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره وما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك وبطلان ما يكون من الشيطان قال وفيما تقدم من قوله قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله تعالى مثلي ملكاً بل أرسل رجالاً فقد وسوس الشيطان إليهم فإن قيل هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة قلنا إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلاؤهم بالوسوسة على الملائكة واعلم أنه سبحانه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين
البحث الأول كيفية إزالتها وذلك هو قوله تعالى فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فالمراد إزالته وإزالة تأثيره فهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام أما قوله ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَاتِهِ فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن وإلا فيحمل على أحكام الأدلة التي لا يجوز فيها الغلط
البحث الثاني أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة ثم إنه سبحانه شرح أثرها في حق الكفار أولاً ثم في حق المؤمنين ثانياً أما في حق الكفار فهو قوله لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَة ً والمراد به تشديد التبعيد لأن عندما يظهر من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الاشتباه في القرآن سهواً يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صواباً
أما قوله لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ ففيه سؤالان
السؤال الأول لم قال فِتْنَة ً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ولم خصهم بذلك الجواب لأنهم مع(23/48)
كفرهم يحتاجون إلى ذلك التدبر وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر
السؤال الثاني ما مرض القلب الجواب أنه الشك والشبهة وهم المنافقون كما قال فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم ظاهراً وباطناً
أما قوله تعالى وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين فأصله وإنهم فوضع الظاهر موضع المضمر قضاء عليهم بالظلم والشقاق والمشاقة والمعاداة والمباعدة سواء وأما في حق المؤمنين فهو قوله وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ وفي الكناية ثلاثة أوجه أحدها أنها عائدة إلى نسخ ما ألقاه الشيطان عن الكلبي وثانيها أنه الحق أي القرآن عن مقاتل وثالثها أن تمكن الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق أما على قولنا فلأنه سبحانه وتعالى أي شيء فعل فقد تصرف في ملكه وملكه بضم الميم وكسرها فكان حقاً وأما على قول المعتزلة فلأنه سبحانه حكيم فتكون كل أفعاله صواباً فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم أي تخضع وتسكن لعلمهم بأن المقضي كائن وكل ميسر لما خلق له وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ إلى أن يتأولوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبوا ما أشكل منه من المجمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة وقرىء لهاد الذين آمنوا بالتنوين ولما بين سبحانه حال الكافرين أولاً ثم حال المؤمنين ثانياً عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى فقال وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَة ٍ مّنْهُ أي من القرآن أو من الرسول وذلك يدل على أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه
أما قوله تعالى حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً أي فجأة من دون أن يشعروا ثم جعل الساعة غاية لكفرهم وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء واختلف في المراد باليوم العقيم وفيه قولان أحدهما أنه يوم بدر وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لوجوه أربعة أحدها أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن وثانيها أن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز وثالثها هو الذي لا خير فيه يقال ريح عقيم إذا لم تنشىء مطراً ولم تلقح شجراً ورابعها أنه لا مثل له في عظم أمره وذلك لقتال الملائكة فيه القول الثاني أنه يوم القيامة وإنما وصف بالعقيم لوجوه أحدها أنهم لا يرون فيه خيراً وثانيها أنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على تعطل الولادة وثالثها أن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم فكيف يحصل الحمل فيه وهذا القول أولى لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ويكون المراد يوم بدر لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر فإن قيل لما ذكر الساعة فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار قلنا ليس كذلك لأن الساعة من مقدمات القيامة واليوم العقيم هو نفس ذلك اليوم وعلى أن الأمر لو كان كما قاله لم يكن تكراراً لأن في الأول ذكر الساعة وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم ويحتمل أن يكون المراد بالساعة وقت موت كل أحد وبعذاب يوم عقيم القيامة
أما قوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ فمن أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو ذلك اليوم وأراد بذلك أنه لا مالك في ذلك اليوم سواه فهو بخلاف أيام الدنيا التي ملك الله الأمور غيره وبين أنه الحاكم بينهم لا حاكم سواه وذلك زجر عن معصيته ثم بين كيف يحكم بينهم وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم والكافرين(23/49)
في العذاب المهين وقد تقدم وصف الجنة والنار فإن قيل التنوين في يومئذ عن أي جملة ينوب قلنا تقديره الملك يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم لقوله تعالى وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَة ٍ مّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِى َ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن الملك له يوم القيامة وأنه يحكم بينهم ويدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر وعده الكريم للمهاجرين وأفردهم بالذكر تفخيماً لشأنهم فقال عز من قائل وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ واختلفوا فيمن أريد بذلك فقال بعضهم من هاجر إلى المدينة طالباً لنصرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتقرباً إلى الله تعالى وقال آخرون بل المراد من جاهد فخرج مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو في سراياه لنصرة الدين ولذلك ذكر القتل بعده ومنهم من حمله على الأمرين واختلفوا من وجه آخر فقال قوم المراد قوم مخصوصون روى مجاهد أنها نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم وظاهر الكلام للعموم ثم إنه سبحانه وتعالى وصفهم برزقهم ومسكنهم أما الرزق فقوله تعالى لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شبهة في أن الرزق الحسن هو نعيم الجنة وقال الأصم إنه العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ( هود 88 ) فهذا في الدنيا وفي الآخرة الجنة وقال الكلبي رزقاً حسناً حلالاً وهو الغنيمة وهذان الوجهان ضعيفان لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت وبعدهما لا يكون إلا نعيم الجنة(23/50)
المسألة الثانية لا بد من شرط اجتناب الكبائر في كل وعد في القرآن لأن هذا المهاجر لو ارتكب كبيرة لكان حكمه في المشيئة على قولنا ولخرج عن أن يكون أهلاً للجنة قطعاً على قول المعتزلة فإن قيل فما فضله على سائر المؤمنين في الوعد إن كان كما قلتم قلنا فضلهم يظهر لأن ثوابهم أعظم وقد قال تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ( الحديد 10 ) فمعلوم أن من هاجر مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وفارق دياره وأهله لتقويته ونصرة دينه مع شدة قوة الكفار وطهور صولتهم صار فعله كالسبب لقوة الدين وعلى هذا الوجه عظم محل الأنصار حتى صار ذكرهم والثناء عليهم تالياً لذكر المهاجرين لما آووه ونصروه
المسألة الثالثة اختلفوا في معنى قوله وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ مع العلم بأن كل الرزق من عنده على وجوه أحدها التفاوت إنما كان بسبب أنه سبحانه مختص بأن يرزق ما لا يقدر عليه غيره وثانيها أن يكون المراد أنه الأصل في الرزق وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة الله تعالى وثالثها أن غيره ينقل الرزق من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس الرزق ورابعها أن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه به إما لأجل أن يخرج عن الواجب وإما لأجل أن يستحق به حمداً أو ثناء وإما لأجل دفع الرقة الجنسية فكان الواحد منا إذا رزق فقد طلب العوض أما الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالاً زائداً فكان الرزق الصادر منه لمحض الإحسان وخامسها أن غيره إنما يرزق لو حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل وتلك الإرادة من الله فالرازق في الحقيقة هو الله تعالى وسادسها أن المرزوق يكون تحت منة الرازق ومنة الله تعالى أسهل تحملاً من منة الغير فكان هو خَيْرُ الرَّازِقِينَ وسابعها أن الغير إذا رزق فلولا أن الله تعالى أعطى ذلك الإنسان أنواع الحواس وأعطاه السلامة والصحة والقدرة على الانتفاع بذلك الرزق لما أمكنه الانتفاع به ورزق الغير لا بد وأن يكون مسبوقاً برزق الله وملحوقاً به حتى يحصل الانتفاع وأما رزق الله تعالى فإنه لا حاجة به إلى رزق غيره فثبت أنه سبحانه خَيْرُ الرَّازِقِينَ
المسألة الرابعة قالت المعتزلة الآية تدل على أمور ثلاثة أحدها أن الله تعالى قادر وثانيها أن غير الله يصح منه أن يرزق ويملك ولولا كونه قادراً فاعلاً لما صح ذلك وثالثها أن الرزق لا يكون إلا حلالاً لأن قوله خَيْرُ الرَّازِقِينَ دلالة على كونهم ممدوحين والجواب لا نزاع في كون العبد قادراً فإن عندنا القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام وأما الثالث فبحث لفظي وقد سبق الكلام فيه
المسألة الخامسة لما قال تعالى ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ فسوى بينهما في الوعد ظن قوم أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء وهذا إن أخذوه من الظاهر فلا دلالة فيه لأن الجمع بينهما في الوعد لا يدل على تفضيل ولا تسوية كما أن الجمع بين المؤمنين لا يدل على ذلك وإن أخذوه من دليل آخر فهو حق فإنه روى أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( المقتول في سبيل الله تعالى والمتوفى في سبيل الله بغير قتل هما في الخير والأجر شريكان ) ولفظ الشركة مشعر بالتسوية وإلا فلا يبقى لتخصيصهما بالذكر فائدة وروى أيضاً أن طوائف من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا يا رسول الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين وهذا يدل على التسوية لأنهم لما طلبوا مقدار الأجر فلولا التسوية لم يكن الجواب مفيداً أما المسكن فقوله تعالى لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ وفيه مسائل(23/51)
المسألة الأولى قرىء مدخلاً بضم الميم وهو من الإدخال ومن قرأ بالفتح فالمراد الموضع
المسألة الثانية قيل في المدخل الذي يرضونه إنه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع وقال أبو القاسم القشيري هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم وقال ابن عباس رضي الله عنهما إنما قال يرضونه لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولاً ونظيره قوله تعالى وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ( التوبة 24 ) وقوله فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) وقوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 28 ) وقوله وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( التوبة 72 )
المسألة الثالثة إن قيل ما معنى وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ وما تعلقه بما تقدم قلنا يحتمل أنه عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم ويحتمل أن يكون المراد أنه عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة وأما الحليم فالمراد أنه لحلمه لا يعجل بالعقوبة فيمن يقدم على المعصية بل يمهل ليقع منه التوبة فيستحق منه الجنة
أما قوله ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِى َ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله ذالِكَ قد مضى الكلام فيه في هذه الآية في هذه السورة وقال الزجاج أي الأمر ما قصصنا عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا
المسألة الثانية قوله ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِى َ عَلَيْهِ معناه قاتل من كان يقاتله ثم كان المقاتل مبغياً عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتدىء بالقتال قال مقاتل نزلت في قوم من المشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقال بعضهم لبعض إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام ما وقع فأنزل الله تعالى هذه الآية وعفا عنهم وغفر لهم وههنا سؤالات
السؤال الأول أي تعلق لهذه الآية بما قبلها الجواب كأنه سبحانه وتعالى قال مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم
السؤال الثاني هل يرجع ذلك إلى المهاجرين خاصة أو إليهم وإلى المؤمنين الجواب الأقرب أنه يعود إلى الفريقين فإنه تقدم ذكرهما وبين ذلك قوله تعالى لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ وبعد القتل والموت لا يمكن ذلك في الدنيا
السؤال الثالث ما المراد بالعقوبة المذكورة الجواب فيه وجهان أحدهما المراد ما فعله مشركو مكة مع المهاجرين بمكة من طلب آثارهم ورد بعضهم إلى غير ذلك فبين تعالى أن من عاقب هؤلاء الكفار بمثل ما فعلوا فسينصره عليهم وهذه النصرة المذكورة تقوي تأويل من تأوله على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك والجواب الثاني أن هذه الآية في القصاص والجراحات وهي آية مدنية عن الضحاك(23/52)
السؤال الرابع لم سمى ابتداء فعلهم بالعقوبة الجواب أطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
السؤال الخامس أي تعلق لقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ بما تقدم الجواب فيه وجوه أحدها أن الله تعالى ندب المعاقب إلى العفو عن الجاني بقوله فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ( الشورى 40 ) وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( الشورى 40 ) فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة فكأنه سبحانه قال إني قد عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها فإني أنا الذي أذنت لك فيه وثانيها أنه سبحانه وإن ضمن له النصر على الباغي لكنه عرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو والمغفرة فلوح بذكر هاتين الصفتين وثالثها أنه سبحانه دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده
السؤال السادس أي تعلق لقوله ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ بما قبله والجواب من وجهين أحدهما ذلك أي ذلك النصر بسبب أنه قادر ومن آيات قدرته البالغة كونه خالقاً لليل والنهار ومتصرفاً فيهما فوجب أن يكون قادراً عالماً بما يجري فيهما وإذا كان كذلك كان قادراً على النصر مصيباً فيه وثانيها المراد أنه سبحانه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر
السؤال السابع ما معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل الجواب فيه وجهان أحدهما يحصل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك بغيبوبة الشمس وضياء ذلك في مكان ظلمة هذا بطلوعها كما يضيء البيت بالسراج ويظلم بفقده وثانيهما أنه سبحانه يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات
السؤال الثامن أي تعلق لقوله وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بما تقدم الجواب المراد أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره فكذلك يدرك المسموع والمبصر ولا يجوز المنع عليه ويكون ذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز في المسموع والمبصر
السؤال التاسع ما معنى قوله ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وأي تعلق له بما تقدم الجواب فيه وجهان أحدهما المراد أن ذلك الوصف الذي تقدم ذكره من القدرة على هذه الأمور إنما حصل لأجل أن الله هو الحق أي هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغير والزوال فلا جرم أتى بالوعد والوعيد ثانيهما أن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كما قال لَيْسَ لَهُ دَعْوَة ٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الاْخِرَة ِ ( غافر 43 )
السؤال العاشر أي تعلق لقوله وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِى ُّ الْكَبِيرُ بما تقدم والجواب معنى العلي القاهر المقتدر الذي لا يغلب فنبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغباً بذلك في عبادته زاجراً عن عبادة غيره فأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه وذلك أيضاً يفيد كمال القدرة(23/53)
المسألة الثالثة قوله لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إخبار عن الغيب فإنه وجد مخبره كما أخبر فكان من المعجزات
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه وقال أبو حنيفة رحمه الله بل يقتل بالسيف واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية فإن الله تعالى جوز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر عليه
المسألة الخامسة قرأ نافع وابن عامر تَدْعُونَ بالتاء ههنا وفي لقمان وفي المؤمنين وفي العنكبوت وقرأ ابن كثير وأبو عمرو كلها بالياء على الخبر والعرب قد تنصرف من الخطاب إلى الإخبار ومن الإخبار إلى الخطاب
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّة ً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَّهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الأرض وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ
اعلم أنه تعالى لما دل على قدرته من قبل بما ذكره من ولوج الليل في النهار ونبه به على نعمه أتبعه بأنواع أخر من الدلائل على قدرته ونعمته وهي ستة
أولها قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الاْرْضُ مُخْضَرَّة ً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في قوله أَلَمْ تَرَ وجوهاً ثلاثة أحدها أن المراد هو الرؤية الحقيقية قالوا لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين واخضرار النبات على الأرض مرئي وإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته فهو أولى وثانيها أن المراد ألم تخبر على سبيل الاستفهام وثالثها المراد ألم تعلم والقول الأول ضعيف لأن الماء وإن كان مرئياً إلا أن كون الله منزلاً له من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل
المسألة الثانية قرىء مُخْضَرَّة ً كمبقلة ومسبعة أي ذات خضرة وههنا سؤالات(23/54)
السؤال الأول لم قال فَتُصْبِحُ الأرض ولم يقل فأصبحت الجواب لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان كما تقول أنعم على فلان عام كذا فأروح وأغد شاكراً له ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع
السؤال الثاني لم رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام والجواب لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض لأن معناه إثبات الإخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الإخضرار مثاله أن تقول لصاحبك ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر وإن نصبته فأنت ناف لشكره شاك لتفريطه وإن رفعته فأنت مثبت للشكر
السؤال الثالث لم أورد تعالى ذلك دلالة على قدرته على الإعادة كما قال أبو مسلم الجواب يحتمل ذلك ويحتمل أنه نبه به على عظيم قدرته وواسع نعمه
السؤال الرابع ما تعلق قوله إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ بما تُقدم الجواب من وجوه أحدها أراد أنه رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به لأن الأرض إذا أصبحت مخضرة والسماء إذا أمطرت كان ذلك سبباً لعيش الحيوانات على اختلافها أجمع ومعنى خَبِيرٌ أنه عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك من دون زيادة ونقصان وثانيها قال ابن عباس لَطِيفٌ بأرزاق عباده خَبِيرٌ بما في قلوبهم من القنوط وثالثها قال الكلبي لَطِيفٌ في أفعاله خَبِيرٌ بأعمال خلقه ورابعها قال مقاتل لَطِيفٌ باستخراج النبت خَبِيرٌ بكيفية خلقه
الدلالة الثانية قوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ والمعنى أن كل ذلك منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه وهو غني عن الأشياء كلها وعن حمد الحامدين أيضاً لأنه كامل لذاته والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور ولكنه لما خلق الحيوان فلا بد في الحكمة من قطر ونبات فخلق هذه الأشياء رحمة للحيوانات وإنعاماً عليهم لا لحاجة به إلى ذلك وإذا كان كذلك كان إنعامه خالياً عن غرض عائد إليه فكان مستحقاً للحمد فكأنه قال إنه لكونه غنياً لم يفعل ما فعله إلا للإحسان ومن كان كذلك كان مستحقاً للحمد فوجب أن يكون حميداً فلهذا قال وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ
الدلالة الثالثة قوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر ولا أحد من الحديد ولا أكثر هيبة من النار وقد سخرها لكم وسخر الحيوانات أيضاً حتى ينتفع بها من حيث الأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها فلولا أن سخر الله تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى يذللهما الضعيف من الناس ويتمكن منهما لما كان ذلك نعمة
الدلالة الرابعة قوله تعالى وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ والأقرب أن المراد وسخر لكم الفلك لتجري في البحر وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياح لجريها فلولا صفتهما على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص أو تقف أو تعطب فنبه تعالى على نعمه بذلك وبأن خلق ما تعمل منه السفن وبأن بين كيف تعمل وإنما قال بأمره لأنه سبحانه لما كان المجرى لها بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعاً لأن ذلك يفيد تعظيمه بأكثر مما يفيد لو أضافه إلى فعل بناء على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة
الدلالة الخامسة قوله تعالى وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الاْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(23/55)
واعلم أن النعم المتقدمة لا تكمل إلا بهذه لأن السماء مسكن الملائكة فوجب أن يكون صلباً ووجب أن يكون ثقيلاً وما كان كذلك فلا بد من الهوى لولا مانع يمنع منه وهذه الحجة مبنية على ظاهر الأوهام وقوله تعالى أَن تَقَعَ قال الكوفيون كي لا تقع وقال البصريون كراهية أن تقع وهذا بناء على مسألة كلامية وهي أن الإرادات والكراهات هل تتعلق بالعدم فمن منع من ذلك صار إلى التأويل الأول والمعنى أنه أمسكها لكي لا تقع فتبطل النعم التي أنعم بها
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ فالمعنى أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام فهو إذن رؤوف رحيم
الدلالة السادسة قوله وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ والمعنى أن من سخر له هذه الأمور وأنعم عليه بها فهو الذي أحياه فنبه بالإحياء الأول على إنعام الدنيا علينا بكل ما تقدم ونبه بالإماتة والإحياء الثاني على نعم الدين علينا فإنه سبحانه وتعالى خلق الدنيا بسائر أحوالها للآخرة وإلا لم يكن للنعم على هذا الوجه معنى يبين ذلك أنه لولا أمر الآخرة لم يكن للزراعات وتكلفها ولا لركوب الحيوانات وذبحها إلى غير ذلك معنى بل كان تعالى يخلقه ابتداء من غير تكلف الزرع والسقي وإنما أجرى الله العادة بذلك ليعتبر به في باب الدين ولما فصل تعالى هذه النعم قال إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ وهذا كما قد يعدد المرء نعمه على ولده ثم يقول إن الولد لكفور لنعم الوالد زجراً له عن الكفران وبعثاً له على الشكر فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار فبين أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ونظيره قوله تعالى وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وقال ابن عباس رضي الله عنهما الإنسان ههنا هو الكافر وقال أيضاً هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف والأولى تعميمه في كل المنكرين
لِّكُلِّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِى الاٌّ مْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
إعلم أنه تعالى لما قدم ذكر نعمه وبين أنه رؤوف رحيم بعباده وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر أتبعه بذكر نعمه بما كلف فقال لّكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما حذف الواو في قوله لِكُلّ أُمَّة ٍ لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فلا جرم حذف العاطف
المسألة الثانية في المنسك أقوال أحدها قال ابن عباس عيد ( اً ) يذبحون فيه وثانيها قرباناً ولفظ(23/56)
المنسك مختص بالذبائح عن مجاهد وثالثها مألفاً يألفونه إما مكاناً معيناً أو زماناً معيناً لأداء الطاعات ورابعها المنسك هو الشريعة والمنهاج وهو قول ابن عباس في رواية عطاء واختيار القفال وهو الأقرب لقوله تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً ( المائدة 48 ) ولأن المنسك مأخوذ من النسك وهو العبادة وإذا وقع الإسم على كل عبادة فلا وجه للتخصيص فإن قيل هلا حملتموه على الذبح لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح وهلا حملتموه على موضع العبادة أو على وقتها الجواب عن الأول لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح والدليل عليه أن سائر ما يفعل في الحج يوصف بأنه مناسك ولأجله قال عليه السلام ( خذوا عني مناسككم ) وعن الثاني أن قوله هُمْ نَاسِكُوهُ أليق بالعبادة منه بالوقت والمكان
المسألة الثالثة زعم قوم أن المراد من قوله هُمْ نَاسِكُوهُ من كان في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) متمسكاً بشرع كاليهود والنصارى ولا يمتنع أن يريد كل من تعبد من الأمم سواء بقيت آثارهم أو لم تبق لأن قوله هُمْ نَاسِكُوهُ كالوصف للأمم وإن لم يعبدوا في الحال
أما قوله تعالى فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِى الاْمْرِ فقرىء فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ أي أثبت في دينك ثباتاً لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه وأما قوله فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ ففيه قولان أحدهما وهو قول الزجاج أنه نهى لهم عن منازعتهم كما تقول لا يضاربنك فلان أي لا تضاربه والثاني أن المراد أن عليهم اتباعك وترك مخالفتك وقد استقر الأمر الآن على شرعك وعلى أنه ناسخ لكل ما عداه فكأنه تعالى نهى كل أمة بقيت منها بقية أن تستمر على تلك العادة وألزمها أن تتحول إلى اتباع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلذلك قال وَادْعُ إِلَى رَبّكَ أي لا تخص بالدعاء أمة دون أمة فكلهم أمتك فادعهم إلى شريعتك فإنك على هدى مستقيم والهدى يحتمل نفس الدين ويحتمل أدلة الدين وهو أولى كأنه قال ادعهم إلى هذا الدين فإنك من حيث الدلالة على طريقة واضحة ولهذا قال وَإِن جَادَلُوكَ والمعنى فإن عدلوا عن النظر في هذه الأدلة إلى طريقة المراء والتمسك بالعادة فقد بينت وأظهرت ما يلزمك فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ لأنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا الجنس الذي يجري مجرى الوعيد والتحذير من حكم يوم القيامة الذي يتردد بين جنة وثواب لمن قبل وبين نار وعقاب لمن رد وأنكر فقال اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فتعرفون حينئذ الحق من الباطل والله أعلم
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَآءِ والأرض إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(23/57)
إعلم أنه تعالى لما قال من قبل فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( النساء 141 ) أتبعه بما به يعلم أنه سبحانه عالم بما يستحقه كل أحد منهم فيقع الحكم منه بينهم بالعدل لا بالجور فقال لرسوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاء وَالاْرْضِ وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله أَلَمْ تَعْلَمْ هو على لفظ الاستفهام لكن معناه تقوية قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والوعد له وإيعاد الكافرين بأن كل فعلهم محفوظ عند الله لا يضل عنه ولا ينسى
المسألة الثانية الخطاب مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد سائر العباد ولأن الرسالة لا تثبت إلا بعد العلم بكونه تعالى عالماً بكل المعلومات إذ لو لم يثبت ذلك لجاز أن يشتبه عليه الكاذب بالصادق فحينئذ لا يكون إظهار المعجز دليلاً على الصدق وإذا كان كذلك استحال أن لا يكون الرسول عالماً بذلك فثبت أن المراد أن يكون خطاباً مع الغير
أما قوله إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ ففيه قولان أحدهما وهو قول أبي مسلم أن معنى الكتاب الحفظ والضبط والشد يقال كتبت المزادة أكتبها إذا خرزتها فحفظت بذلك ما فيها ومعناه ومعنى الكتاب بين الناس حفظ ما يتعاملون به فالمراد من قوله إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ أنه محفوظ عنده والتالي وهو قول الجمهور أن كل ما يحدثه الله في السموات والأرض فقد كتبه في اللوح المحفوظ قالوا وهذا أولى لأن القول الأول وإن كان صحيحاً نظراً إلى الاشتقاق لكن الواجب حمل اللفظ على المتعارف ومعلوم أن الكتاب هو ما تكتب فيه الأمور فكان حمله عليه أولى فإن قيل فقد يوهم ذلك أن علمه مستفاد من الكتاب وأيضاً فأي فائدة في ذلك الكتاب والجواب عن الأول أن كتبه تلك الأشياء في ذلك الكتاب مع كونها مطابقة للموجودات من أدل الدلائل على أنه سبحانه غني في علمه عن ذلك الكتاب وعن الثاني أن الملائكة ينظرون فيه ثم يرون الحوادث داخلة في الوجود على وفقه فصار ذلك دليلاً لهم زائداً على كونه سبحانه عالماً بكل المعلومات
أما قوله كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فمعناه أن كتبه جملة الحوادث مع أنها من الغيب مما يتعذر على الخلق لكنها بحيث متى أرادها الله تعالى كانت فعبر عن ذلك بأنه يسير وإن كان هذا الوصف لا يستعمل إلا فينا من حيث تسهل وتصعب علينا الأمور وتعالى الله عن ذلك ثم بين سبحانه ما يقدم الكفار عليه مع عظيم نعمه ووضوح دلائله فقال وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فبين أن عبادتهم لغير الله تعالى ليست مأخوذة عن دليل سمعي وهو المراد من قوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً ولا عن دليل عقلي وهو المراد من قوله وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وإذا لم يكن كذلك فهو عن تقليد أو جهل أو شبهة فوجب في كل قول هذا شأنه أن يكون باطلاً فمن هذا الوجه يدل على أن الكافر قد يكون كافراً وإن لم يعلم كونه كافراً ويدل أيضاً على فساد التقليد
أما قوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ففيه وجهان أحدهما أنهم ليس لهم أحد ينتصر لهم من الله كما(23/58)
قد تتفق النصرة في الدنيا والثاني ما لهم في كفرهم ناصر بالحجة فإن الحجة ليست إلا للحق واحتجت المعتزلة بهذه الآية في نفي الشفاعة والكلام عليه معلوم
أما قوله تعالى وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيّنَاتٍ يعني من تقدم ذكره وهذه الآيات هي القرآن ووصفها بأنها بينات لكونها متضمنة للدلائل العقلية وبيان الأحكام فبين أنهم مع جهلهم إذا نبهوا على الأدلة وعرضت عليهم المعجزة ظهر في وجوههم المنكر والمراد دلالة الغيظ والغضب قال صاحب ( الكشاف ) المنكر الفظيع من التهجم والفجور والنشوز والإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام وقرىء تعرف على ما لم يسم فاعله وللمفسرين في المنكر عبارات أحدها قال الكلبي تعرف في وجوههم الكراهية للقرآن ثانيها قال ابن عباس رضي الله عنهما التجبر والترفع وثالثها قال مقاتل أنكروا أن يكون من الله تعالى
أما قوله تعالى يَكَادُونَ يَسْطُونَ فقال الخليل والفراء والزجاج السطو شدة البطش والوثوب والمعنى يهمون بالبطش والوثوب تعظيماً لإنكار ما خوطبوا به فحكى تعالى عظيم تمردهم على الأنبياء والمؤمنين ثم أمر رسوله بأن يقابلهم بالوعيد فقال قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذالِكُمُ النَّارُ قال صاحب ( الكشاف ) قوله مّن ذالِكُمُ أي من غيظكم على الناس وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلى عليكم فقوله مّن ذالِكُمُ فيه وجهان أحدهما المراد أن الذي ينالكم من النار التي تكادون تقتحمونها بسوء فعالكم أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب ومن هذا الغم والثاني أن يكون المراد بِشَرّ مّن ذالِكُمُ ما تهمون به فيمن يحاجكم فإن أكبر ما يمكنكم فيه الإهلاك ثم بعده مصيرهم إلى الجنة وأنتم تصيرون إلى النار الدائمة التي لا فرج لكم عنها وأما النَّارِ فقال صاحب ( الكشاف ) قرىء النَّارِ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف كأن قائلاً يقول ما شر من ذلك فقيل النار أي هو النار وبالنصب على الاختصاص وبالجر على البدل من شر ثم بين سبحانه أنه وعدها الذين كفروا إذا ماتوا على كفرهم وهو بئس المصير قال صاحب ( الكشاف ) وَعَدَهَا اللَّهُ استئناف كلام ويحتمل أن تكون النار مبتدأ و وَعَدَهَا خبراً
ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِى ٌّ عَزِيزٌ
إعلم أنه سبحانه لما بين من قبل أنهم يعبدون من دون الله مالا حجة لهم فيه ولا علم ذكر في هذه الآية ما يدل على إبطال قولهم(23/59)
أما قوله تعالى ضُرِبَ مَثَلٌ ففيه سؤالات
السؤال الأول الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلاً والجواب لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة جاز أن يسمى كل ما كان كذلك مثلاً
السؤال الثاني قوله ضُرِبَ يفيد فيما مضى والله تعالى هو المتكلم بهذا الكلام ابتداء الجواب إذا كان ما يورد من الوصف معلوماً من قبل جاز ذلك فيه ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر قد تقدم
أما قوله فَاسْتَمِعُواْ لَهُ أي تدبروه حق تدبره لأن نفس السماع لا ينفع وإنما ينفع التدبر واعلم أن الذباب لما كان في غاية الضعف احتج الله تعالى به على إبطال قولهم من وجهين الأول قوله إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ قرىء يدعون بالياء والتاء ويدعون مبنياً للمفعول وَلَنْ أصل في نفي المستقبل إلا أنه ينفيه نفياً مؤكداً فكأنه سبحانه قال إن هذه الأصنام وإن اجتمعت لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبوداً فقوله وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ نصب على الحال كأنه قال يستحيل أن يخلقوا الذباب حال اجتماعهم فكيف حال انفرداهم والثاني أن قوله وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ كأنه سبحانه قال أترك أمر الخلق والإيجاد وأتكلم فيما هو أسهل منه فإن الذباب إن سلب منها شيئاً فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب واعلم أن الدلالة الأولى صالحة لأن يتمسك بها في نفي كون المسيح والملائكة آلهة أما الثانية فلا فإن قيل هذا الاستدلال إما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقة عالمة حية مدبرة أو لنفي كونها مستحقة للتعظيم والأول فاسد لأن نفي كونها كذلك معلوم بالضرورة فأي فائدة في إقامة الدلالة عليه وأما الثاني فهذه الدلالة لا تفيده لأنه لا يلزم من نفي كونها حية أن لا تكون معظمة فإن جهات التعظيم مختلفة فالقوم كانوا يعتقدون فيها أنها طلسمات موضوعة على صورة الكواكب أو أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين وكانوا يعظمونها على أن تعظيمها يوجب تعظيم الملائكة وأولئك الأنبياء المتقدمين والجواب أما كونها طلسمات موضوعة على الكواكب بحيث يحصل منها الإضرار والانتفاع فهو يبطل بهذه الدلالة فإنها لما لم تنفع نفسها في هذا القدر وهو تخليص النفس عن الذبابة فلأن لا تنفع غيرها أولى وأما أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين فقد تقرر في العقل أن تعظيم غير الله تعالى ينبغي أن يكون أقل من تعظيم الله تعالى والقوم كانوا يعظمونها غاية التعظيم وحينئذ كان يلزم التسوية بينها وبين الخالق سبحانه في التعظيم فمن ههنا صاروا مستوجبين للذم والملام
أما قوله تعالى ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ففيه قولان أحدهما المراد منه الصنم والذباب فالصنم كالطالب من حيث إنه لو طلب أن يخلقه ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه والذباب بمنزلة المطلوب الثاني أن الطالب من عبد الصنم والمطلوب نفس الصنم أو عبادتها وهذا أقرب لأن كون الصنم طالباً ليس حقيقة بل هو على سبيل التقدير أما ههنا فعلى سبيل التحقيق لكن المجاز فيه حاصل لأن الوثن لا يصح أن يكون ضعيفاً لأن الضعف لا يجوز إلا على من يصح أن يقوى وههنا وجه ثالث وهو أن يكون معنى قوله ضِعْفَ لا من حيث القوة ولكن لظهور قبح هذا المذهب كما يقال للمرء عند المناظرة ما أضعف هذا المذهب وما أضعف هذا الوجه(23/60)
أما قوله مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق تعظيمه حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شريكة له في المعبودية وهذه الكلمة مفسرة في سورة الأنعام وهو قَوِى ٌّ لا يتعذر عليه فعل شيء و عَزِيزٌ لا يقدر أحد على مغالبته فأي حاجة إلى القول بالشريك قال الكلبي في هذه الآية ونظيرها في سورة الأنعام إنها نزلت في جماعة من اليهود وهم مالك ابن الصيف وكعب بن الأشرف وكعب بن أسد وغيرهم لعنهم الله حيث قالوا إنه سبحانه لما فرغ من خلق السموات والأرض أعيا من خلقها فاستلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم ونزل قوله تعالى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ واعلم أن منشأ هذه الشبهات هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر الصفات خلاف ما يقوله الكرامية وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال أعني الغرض والداعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما تقوله المعتزلة قال الإمام أبو القاسم الأنصاري رحمه الله فهو سبحانه جبار النعت عزيز الوصف فالأوهام لا تصوره والأفكار لا تقدره والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحده صمدي الذت سرمدي الصفات
اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ
اعلم أنه سبحانه لما قدم ما يتعلق بالإلهيات ذكر ههنا ما يتعلق بالنبوات قال مقاتل قال الوليد ابن المغيرة أأنزل عليه الذكر من بيننا فأنزل الله تعالى هذه الآية وههنا سؤالان
السؤال الأول كلمة مِنْ للتبعيض فقوله اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) يقتضي أن تكون الرسل بعضهم لا كلهم وقوله جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً يقتضي كون كلهم رسلاً فوقع التناقض والجواب جاز أن يكون المذكور ههنا من كان رسلاً إلى بني آدم وهم أكابر الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والحفظة صلوات الله عليهم وأما كل الملائكة فبعضهم رسل إلى البعض فزال التناقض
السؤال الثاني قال في سورة الزمر لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء ( الزمر 4 ) فدل على أن ولده يجب أن يكون مصطفى وهذه الآية دلت على أن بعض الملائكة وبعض الناس من المصطفين فيلزم بمجموع الآيتين إثبات الولد والجواب أن قوله لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى يدل على أن كل ولد مصطفى ولا يدل على أن كل مصطفى ولد فلا يلزم من دلالة هذه الآية على وجود مصطفى كونه ولداً وفي هذه الآية وجه آخر وهو أن المراد تبكيت من عبد غير الله تعالى من الملائكة كأنه سبحانه أبطل في الآية الأولى قول عبدة الأوثان وفي هذه الآية أبطل قول عبدة الملائكة فبين أن علو درجة(23/61)
الملائكة ليس لكونهم آلهة بل لأن الله تعالى اصطفاهم لمكان عبادتهم فكأنه تعالى بين أنهم ما قدروا الله حق قدره أن جعلوا الملائكة معبودين مع الله ثم بين سبحانه بقوله إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أنه يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون ولذلك أتبعه بقوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ فقال بعضهم ما تقدم في الدنيا وما تأخر وقال بعضهم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أمر الآخرة وَمَا خَلْفَهُمْ أمر الدنيا ثم أتبعه بقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ فقوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إشارة إلى العلم التام وقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ إشارة إلى القدرة التامة والتفرد بالإلهية والحكم ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في الإلهيات ثم في النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع وهو من أربع أوجه أولها تعيين المأمور وثانيها أقسام المأمور به وثالثها ذكر ما يوجب قبول تلك الأوامر ورابعها تأكيد ذلك التكليف
أما النوع الأول وهو تعيين المأمور فهو قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفيه قولان أحدهما المراد منه كل المكلفين سواء كان مؤمناً أو كافراً لأن التكليف بهذه الأشياء عام في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمنين بذلك والثاني أن المراد بذلك المؤمنون فقط أما أولاً فلأن اللفظ صريح فيه وأما ثانياً فلأن قوله بعد ذلك هُوَ اجْتَبَاكُمْ وقوله هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ وقوله وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ كل ذلك لا يليق إلا بالمؤمنين أقصى ما في الباب أن يقال لما كان ذلك واجباً على الكل فأي فائدة في تخصيص المؤمنين لكنا نقول تخصيصهم بالذكر لا يدل على نفي ذلك عما عداهم بل قد دلت هذه الآية على كونهم على التخصيص مأمورين بهذه الأشياء ودلت سائر الآيات على كون الكل مأمورين بها ويمكن أن يقال فائدة التخصيص أنه لما جاء الخطاب العام مرة بعد أخرى ثم إنه ما قبله إلا المؤمنون خصهم الله تعالى بهذا الخطاب ليكون ذلك كالتحريض لهم على المواظبة على قبوله وكالتشريق لهم في ذلك الإقرار والتخصيص(23/62)
أما النوع الثاني وهو المأمور به فقد ذكر الله أموراً أربعة الأول الصلاة وهو المراد من قوله ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود والصلاة هي المختصة بهذين الركنين فكان ذكرهما جارياً مجرى ذكر الصلاة وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس في أول إسلامهم كانوا يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية الثاني قوله وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وذكروا فيه وجوهاً أحدها اعبدوه ولا تعبدوا غيره وثانيها واعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات وثالثها افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات على وجه العبادة لأنه لا يكفي أن يفعل فإنه ما لم يقصد به عبادة الله تعالى لا ينفع في باب الثواب فلذلك عطف هذه الجملة على الركوع والسجود الثالث قوله تعالى وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ قال ابن عباس رضي الله عنهما يزيد به صلة الرحم ومكارم الأخلاق والوجه عندي في هذا الترتيب أن الصلاة نوع من أنواع العبادة والعبادة نوع من أنواع فعل الخير لأن فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة على الفقراء وحسن القول للناس فكأنه سبحانه قال كلفتكم بالصلاة بل كلفتكم بما هو أعم منها وهو العبادة بل كلفتكم بما هو أعم من العبادة وهو فعل الخيرات
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فقيل معناه لتفلحوا والفلاح الظفر بنعيم الآخرة وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري لعل كلمة للترجية فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير وليس هو على يقين من أن الذي أتي به هل هو مقبول عند الله تعالى والعواقب أيضاً مستورة ( وكل ميسر لما خلق له ) الرابع قوله تعالى وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ قال صاحب ( الكشاف ) فِى اللَّهِ أي في ذات الله ومن أجله يقال هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقاً وجداً ومنه حَقَّ جِهَادِهِ وههنا سؤالات
السؤال الأول ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ والجواب الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه
السؤال الثاني ما هذا الجهاد الجواب فيه وجوه أحدها أن المراد قتال الكفار خاصة ومعنى حَقَّ جِهَادِهِ أن لا يفعل إلا عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الإسم أو الغنيمة والثاني أن يجاهدوا آخراً كما جاهدوا أولاً فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف أما علمت أنا كنا نقرأ وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ في آخر الزمان كما جاهدتموه في أوله فقال عبد الرحمن ومتى ذاك يا أمير المؤمنين قال إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن وإلا لنقل كنقل نظائره ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة فقال عمر من الذي أمرنا بجهاده فقال قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس فقال صدقت والثالث قال ابن عباس حق جهاده لا تخافوا في الله لومة لائم والرابع قال الضحاك واعملوا لله حق عمله والخامس استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حقوقه بالحرب باليد واللسان وجميع ما يمكن وردوا أنفسكم عن الهوى والميل والوجه السادس قال عبدالله بن المبارك حق جهاده(23/63)
مجاهدة النفس والهوى ولما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من غزوة تبوك قال ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) والأولى أن يحمل ذلك على كل التكاليف فكل ما أمر به ونهى عنه فالمحافظة عليه جهاد
السؤال الثالث هل يصح ما نقل عن مقاتل والكلبي أن هذه الآية منسوخة بقوله فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( التغابن 16 ) كما أن قوله اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( آل عمران 102 ) منسوخ بذلك الجواب هذا بعيد لأن التكليف مشروط بالقدرة لقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ لِلَّهِ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا فكيف يقول الله وجاهدوا في الله على وجه لا تقدرون عليه وكيف وقد كان الجهاد في الأول مضيقاً حتى لا يصح أن يفر الواحد من عشرة ثم خففه الله بقوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ أفيجوز مع ذلك أن يوجبه على وجه لا يطاق حتى يقال إنه منسوخ
النوع الثالث بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر وهو ثلاثة الأول قوله هُوَ اجْتَبَاكُمْ ومعناه أن التكليف تشريف من الله تعالى للعبد فلما خصكم بهذا التشريف فقد خصكم بأعظم التشريفات واختاركم لخدمته والاشتغال بطاعته فأي رتبة أعلى من هذا وأي سعادة فوق هذا ويحتمل في اجتباكم خصكم بالهداية والمعونة والتيسير
أما قوله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ فهو كالجواب عن سؤال يذكر وهو أن التكليف وإن كان تشريفاً واجباً كما ذكرتم لكنه شاق شديد على النفس فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ روي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال كيف قال الله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مع أنه منعنا عن الزنا والسرقة فقال ابن عباس رضي الله عنهما بلى ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الحرج في أصل اللغة الجواب روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لبعض هذيل ما تعدون الحرج فيكم قال الضيق وعن عائشة رضي الله عنها ( سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال الضيق )
السؤال الثاني ما المراد من الحرج في الآية الجواب قيل هو الإتيان بالرخص فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً ومن لم يستطع ذلك فليؤم وأباح للصائح الفطر في السفر والقصر فيه وأيضاً فإنه سبحانه لم يبتل عبده بشيء من الذنوب إلا وجعل له مخرجاً منها إما بالتوبة أو بالكفارة وعن ابن عمر رضي الله عنهما ( إنه من جاءته رخصة فرغب عنها كلف يوم القيامة أن يحمل ثقل تنين حتى يقضي بين الناس ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا اجتمع أمران فأحبهما إلى الله تعالى أيسرهما ) وعن كعب أعطى الله هذه الأمة ثلاثاً لم يعطهم إلا للأنبياء ( جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج وقال أدعوني أستجب لكم )
السؤال الثالث استدلت المعتزلة بهذه الآية في المنع من تكليف مالا يطاق فقالوا لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي ثم نهاه عنهما كان ذلك من أعظم الحرج وذلك منفي بصريح هذا النص والجواب لما أمره بترك الكفر وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلاً فقد أمر الله المكلف بقلب علم الله جهلاً وذلك من أعظم الحرج ولما استوى القدمان زال السؤال(23/64)
الموجب الثاني لقبول التكليف قوله مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وفي نصب الملة وجهان أحدهما وهو قول الفراء أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والثاني أن يكون منصوباً على المدح والتعظيم أي أعني بالدين ملة أبيكم إبراهيم واعلم أن المقصود من ذكره التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام والعرب كانوا محبين لإبراهيم عليه السلام لأنهم من أولاده فكان التنبيه على ذلك كالسبب لصيروتهم منقادين لقبول هذا الدين وههنا سؤالات
السؤال الأول لم قال مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ولم يدخل في الخطاب المؤمنون الذين كانوا في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يكن من ولده والجواب من وجهين أحدهما لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب جاز ذلك وثانيهما وهو قول الحسن أن الله تعالى جعل حرمة إبراهيم عليه السلام على المسلمين كحرمة الوالد على ولده ومنه قوله تعالى النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( الأحزاب 6 ) فجعل حرمته كحرمة الوالد على الولد وحرمة نسائه كحرمة الوالدة على ما قال تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 )
السؤال الثاني هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم عليهما السلام سواء فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ويؤكده قوله تعالى أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ الجواب هذا الكلام إنما وقع مع عبدة الأوثان فكأنه تعالى قال عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم فأما تفاصيل الشرائع فلا تعلق لها بهذا الموضع
السؤال الثالث ما معنى قوله تعالى هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ الجواب فيه قولان أحدهما أن الكناية راجعة إلى إبراهيم عليه السلام فإن لكل نبي دعوة مستجابة وهو قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ ( البقرة 128 ) فاستجاب الله تعالى له فجعلها أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الله تعالى سيبعث محمداً بمثل ملته وأنه ستسمى أمته بالمسلمين والثاني أن الكناية راجعة إلى الله تعالى في قوله هُوَ اجْتَبَاكُمْ فروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن الله سماكم المسلمين من قبل ) أي في كل الكتب وفي هذا أي في القرآن وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى قال لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فبين أنه سماهم بذلك لهذا الغرض وهذا لا يليق إلا بالله ويدل عليه أيضاً قراءة أبي بن كعب اللَّهِ سَمَّاكُمُ والمعنى أنه سبحانه في سائر الكتب المتقدمة على القرآن وفي القرآن أيضاً بين فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم لأجل الشهادة المذكورة فلما خصكم الله بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه وهذا هو العلة الثالثة الموجبة لقبول التكليف وأما الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيداً علينا وكيف تكون أمته شهداء على الناس فقد تقدم في سورة البقرة وبينا أنه أخذ منه ما يدل على أن الإجماع حجة
النوع الرابع شرح ما يجري مجرى المؤكد لما مضى وهو قوله فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة(23/65)
ويجب صرفها إلى المفروضات لأنها هي المعهودة واعتصموا بالله أي بدلائله العقلية والسمعية وألطافه وعصمته قال ابن عباس ( سلوا الله العصمة عن كل المحرمات ) وقال القفال اجعلوا الله عصمة لكم مما تحذرون هو مولاكم وسيدكم المتصرف فيكم فنم المولى ونعم البصير فكأنه سبحانه قال أنا مولاك بل أنا ناصرك وحسبك واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآيات من وجوه أحدها أن قوله لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ يدل على أنه سبحانه أراد الإيمان من الكل لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلاً مرضياً فإذا أراد أن تكونوا شهداء على الناس فقد أراد تكونوا جميعاً صالحين عدولاً وقد علمنا أن منهم فاسقاً فدل ذلك على أن الله تعالى أراد من الفسق كونه عدلاً وثانيها قوله وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه وثالثها قوله فَنِعْمَ الْمَوْلَى لأنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى بل كان لا يوجد من شرار الموالي أحد إلا وهو شر منه فكان يجب أن يوصف بأنه بئس المولى وذلك باطل فدل على أنه سبحانه ما أراد من جميعهم إلا الصلاح فإن قيل لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة قلنا إنه تعالى مولى المؤمنين والكافرين جميعاً فيجب أن يقال إنه نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم الله تعالى ورابعها أن قوله سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله تعالى لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه الخصوص والجواب عن الأول وهو قوله كونه تعالى مريداً لكونه شاهداً يستلزم كونه مريداً لكونه عدلاً فنقول إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر توجب أن تكون مستلزمة لإرادة جهل الله تعالى فيلزم كونه تعالى مريداً لجهل نفسه وإن لم يكن ذلك واجباً سقط الكلام
وأما قوله وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ فيقال هذا أيضاً وارد عليكم فإنه سبحانه خلق الشهوة في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهي وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه الشياطين من الإنس والجن وعلم أنه لا محالة يقع في الفجور والضلال وفي الشاهد كل من فعل ذلك فإنه يكون بئس المولى فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازم عليكم وإن بطل سقط كلامكم بالكلية(23/66)
سورة المؤمنون
مائة وثمان عشرة آية مكية
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواة ِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاًّمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَائِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
إعلم أنه سبحانه حكم بحصول الفلاح لمن كان مستجمعاً لصفات سبع وقبل الخوض في شرح تلك الصفات لا بد من بحثين
البحث الأول أن قَدْ نقيضة لما فقد تثبت المتوقع ولما تنفيه ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه
البحث الثاني الفلاح الظفر بالراد وقيل البقاء في الخير وأفلح دخل في الفلاح كأبشر دخل في البشارة ويقال أفلحه صيره إلى الفلاح وعليه قراءة طلحة بن مصرف أفلح على البناء للمفعول وعنه أفلحوا على لغة أكلوني البراغيث أو على الإبهام والتفسير(23/67)
الصفة الأولى قوله الْمُؤْمِنُونَ وقد تقدم القول في الإيمان في سورة البقرة
الصفة الثانية قوله الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ واختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات ومنهم من جمع بين الأمرين وهو الأولى فالخاشع في صلاته لا بد وأن يحصل له مما يتعلق بالقلب من الأفعال نهاية الخضوع والتذلل للمعبود ومن التروك أن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سوى التعظيم ومما يتعلق بالجوارح أن يكون ساكناً مطرقاً ناظراً إلى موضع سجوده ومن التروك أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ولكن الخشوع الذي يرى على الإنسان ليس إلا ما يتعلق بالجوارح فإن ما يتعلق بالقلب لا يرى قال الحسن وابن سيرين كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل ذلك فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاه فإن قيل فهل تقولون إن ذلك واجب في الصلاة قلنا إنه عندنا واجب ويدل عليه أمور أحدها قوله تعالى أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( محمد 24 ) والتدبر لا يتصور بدون الوقوف على المعنى وكذا قوله تعالى وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً ( المزمل 4 ) معناه قف على عجائبه ومعانيه وثانيها قوله تعالى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) وظاهر الأمر للوجوب والغفلة تضاد الذكر فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره وثالثها قوله تعالى وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ ( الأعراف 205 ) وظاهر النهي للتحريم ورابعها قوله حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ النساء 43 ) تعليل لنهي السكران وهو مطرد في الغافل المستغرق المهتم بالدنيا وخامسها قوله عليه السلام ( إنما الخشوع لمن تمسكن وتواضع ) وكلمة إنما للحصر وقوله عليه السلام ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ) وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء وقال عليه السلام ( كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب ) وما أراد به إلا الغافل وقال أيضاً ( ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل ) وسادسها قال الغزالي رحمه الله المصلي يناجي ربه كما ورد به الخبر والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة ألبتة وبيانه أن الإنسان إذا أدى الزكاة حال الغفلة فقد حصل المقصود منها على بعض الوجوه وهو كسر الحرص وإغناء الفقير وكذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى التي هي عدوة الله تعالى فلا يبعد أن يحصل منه مقصوده مع الغفلة وكذا الحج أفعال شاقة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء سواء كان القلب حاضراً أو لم يكن أما الصلاة فليس فيها إلا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود أما الذكر فإنه مناجاة مع الله تعالى فإما أن يكون المقصود منه كونه مناجاة أو المقصود مجرد الحروف والأصوات ولا شك في فساد هذا القسم فإن تحريك اللسان بالهذيان ليس فيه غرض صحيح فثبت أن المقصود منه المناجاة وذلك لا يتحقق إلا إذا كان اللسان معبراً عما في القلب من التضرعات فأي سؤال في قوله اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( الفاتحة 6 ) وكان القلب غافلاً عنه بل أقول لو حلف إنسان وقال والله لأشكرن فلاناً وأثنى عليه وأسأله حاجة ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في اليوم لم يبر في يمينه ولو(23/68)
جرى على لسانه في ظلمة الليل وذلك الإنسان حاضر وهو لا يعرف حضوره ولا يراه لا يصير باراً في يمينه ولا يكون كلامه خطاباً معه ما لم يكن حاضراً بقلبه ولو جرت هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر في بياض النهار إلا أن المتكلم غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار ولم يكن له قصد توجيه الخطاب عليه عند نطقه لم يصر باراً في يمينه ولا شك أن المقصود من القراءة الأذكار والحمد والثناء والتضرع والدعاء والمخاطب هو الله تعالى فإذا كان القلب محجوباً بحجاب الغفلة وكان غافلاً عن جلال الله وكبريائه ثم إن لسانه يتحرك بحكم العادة فما أبعد ذلك عن القبول وأما الركوع والسجود فالمقصود منهما التعظيم ولو جاز أن يكون تعظيماً لله تعالى مع أنه غافل عنه لجاز أن يكون تعظيماً للصنم الموضوع بين يديه وهو غافل عنه ولأنه إذا لم يحصل التعظيم لم يبق إلا مجرد حركة الظهر والرأس وليس فيها من المشقة ما يصير لأجله عماداً للدين وفاصلاً بين الكفر والإيمان ويقدم على الحج والزكاة والجهاد وسائر الطاعات الشاقة ويجب القتل بسببه على الخصوص وبالجملة فكل عاقل يقطع بأن مشاهدة الخواص العظيمة ليس أعمالها الظاهرة إلا أن ينضاف إليها مقصود هذه المناجاة فدلت هذه الاعتبارات على أن الصلاة لا بد فيها من الحضور وسابعها أن الفقهاء اختلفوا فيما ينويه بالسلام عند الجماعة والانفراد هل ينوي الحضور أو الغيبة والحضور معاً فإذا احتيج إلى التدبر في معنى السلام الذي هو آخر الصلاة فلأن يحتاج إلى التدبر في معنى التكبير والتسبيح التي هي الأشياء المقصودة من الصلاة بالطريق الأولى واحتج المخالف بأن اشتراط الخضوع والخشوع على خلاف اجتماع الفقهاء فلا يلتفت إليه والجواب من وجوه أحدها أن الحضور عندنا ليس شرطاً للأجزاء بل شرط للقبول والمراد من الإجزاء أن لا يجب القضاء والمراد من القبول حكم الثواب والفقهاء إنما يبحثون عن حكم الإجزاء لا عن حكم الثواب وغرضنا في هذا المقام هذا ومثاله في الشاهد من استعار منك ثوباً ثم رده على الوجه الأحسن فقد خرج عن العهدة واستحق المدح ومن رماه إليك على وجه الاستخفاف خرج عن العهدة ولكنه استحق الذم كذا من عظم الله تعالى حال أدائه العبادة صار مقيماً للفرض مستحقاً للثواب ومن استهان بها صار مقيماً للفرض ظاهراً لكنه استحق الذم وثانيها أنا نمنع هذا الإجماع أما المتكلمون فقد اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع واحتجوا عليه بأن السجود لله تعالى طاعة وللصنم كفر وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه فلا بد من أمر لأجله صار السجود في إحدى الصورتين طاعة وفي الأخرى معصية قالوا وما ذاك إلا القصد والإرادة والمراد من القصد إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور فلهذا اتفقوا على أنه لا بد من الحضور أما الفقهاء فقد ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في تنبيه الغافلين أن تمام القراءة أن يقرأ بغير لحن وأن يقرأ بالتفكر وأما الغزالي رحمه الله فإنه نقل عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي أنه قال من لم يخشع فسدت صلاته وعن الحسن رحمه الله كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع وعن معاذ بن جبل من عرف من على يمينه وشماله متعمداً وهو في الصلاة فلا صلاة له وروي أيضاً مسنداً قال عليه السلام ( إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها ) وقال عبد الواحد بن زيد أجمعت العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل وادعى فيه الإجماع إذا ثبت هذا فنقول هب أن الفقهاء بأسرهم حكموا بالجواز أليس الأصوليون وأهل الورع ضيقوا الأمر فيها فهلا أخذت بالاحتياط فإن بعض العلماء اختار(23/69)
الإمامة فقيل له في ذلك فقال أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي وإن قرأتها مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة فاخترت الإمامة طلباً للخلاص عن هذا الاختلاف والله أعلم
الصفة الثالثة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وفي اللغو أقوال أحدها أنه يدخل فيه كل ما كان حراماً أو مكروهاً أو كان مباحاً ولكن لا يكون بالمرء إليه ضرورة وحاجة وثانيها أنه عبارة عن كل ما كان حراماً فقط وهذا التفسير أخص من الأول وثالثها أنه عبارة عن المعصية في القول والكلام خاصة وهذا أخص من الثاني ورابعها أنه المباح الذي لا حاجة إليه واحتج هذا القائل بقوله تعالى لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ ( المائدة 89 ) فكيف يحمل ذلك على المعاصي التي لا بد فيها من المؤاخذة واحتج الأولون بأن اللغو إنما سمي لغواً بما أنه يلغي وكل ما يقتضي الدين إلغاءه كان أولى باسم اللغو فوجب أن يكون كل حرام لغواً ثم اللغو قد يكون كفراً لقوله لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ( فصلت 26 ) وقد يكون كذباً لقوله لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً ( الغاشية 11 ) وقوله لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ( الواقعة 25 ) ثم إنه سبحانه وتعالى مدحهم بأنهم يعرضون عن هذا اللغو والإعراض عنه هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه وعلى هذا الوجه قال تعالى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) واعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس الذين هما قاعدتا بناء التكليف وهو أعلم
الصفة الرابعة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواة ِ فَاعِلُونَ وفي الزكاة قولان أحدهما قول أبي مسلم أن فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود مرضي كقوله قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 ) وقوله فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) ومن جملته ما يخرج من حق المال وإنما سمى بذلك لأنها تطهر من الذنوب لقوله تعالى تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) والثاني وهو قول الأكثرين أنه الحق الواجب في الأموال خاصة وهذا هو الأقرب لأن هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى فإن قيل إنه لا يقال في الكلام الفصيح إنه فعل الزكاة قلنا قال صاحب ( الكشاف ) الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى فالعين القدر الذي يخرجه المزكى من النصاب إلى الفقير والمعنى فعل المزكى الذي هو التزكية وهو الذي أراده الله تعالى فجعل المزكين فاعلين له ولا يسوغ فيه غيره لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل ويقال لمحدثه فاعل يقال للضارب فاعل الضرب وللقاتل فاعل القتل وللمزكى فاعل الزكاة وعلى هذا الكلام كله يجوز أن يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء فإن قيل إن الله تعالى هناك لم يفصل بين الصلاة والزكاة فلم فصل ههنا بينهما بقوله وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ قلنا لأن الإعراض عن اللغو من متممات الصلاة
الصفة الخامسة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ وفيه سؤالات
السؤال الأول لم لم يقل إلا عن أزواجهم الجواب قال الفراء معناه إلا من أزواجهم وذكر صاحب ( الكشاف ) فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه في موضع الحال أي إلا والين على أزواجهم أو قوامين عليهن من قولك كان فلان على فلانة ونظيره كان زياد على البصرة أي والياً عليها ومنه قولهم فلانة تحت فلان ومن ثم(23/70)
سميت المرأة فراشاً والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم وثانيها أنه متعلق بمحذوف يدل عليه غير ملومين كأنه قيل يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه وهو قول الزجاج وثالثها أن تجعله صلة لحافظين
السؤال الثاني هلا قيل من ملكت الجواب لأنه اجتمع في السرية وصفان أحدهما الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل والآخر كونها بحيث تباع وتشتري كسائر السلع فلاجتماع هذين الوصفين فيها جعلت كأنها ليست من العقلاء
السؤال الثالث هذه الآية تدل على تحريم المتعة على ما يروى عن القاسم بن محمد الجواب نعم وتقريره أنها ليست زوجة له فوجب أن لا تحل له وإنما قلنا إنها ليست زوجة له لأنهما لا يتوارثان بالإجماع ولو كانت زوجة له لحصل التوارث لقوله تعالى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ( النساء 12 ) وإذا ثبت أنها ليست بزوجة له وجب أن لا تحل له لقوله تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وهو أعلم
السؤال الرابع أليس لا يحل له في الزوجة وملك اليمين الاستمتاع في أحوال كحال الحيض وحال العدة وفي الأمة حال تزويجها من الغير وحال عدتها وكذا الغلام داخل في ظاهر قوله وتعالى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ والجواب من وجهين أحدهما أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن الاستثناء من النفي لا يكون إثباتاً واحتج عليه بقوله عليه السلام ( لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بولي ) فإن ذلك لا يقتضي حصول الصلاة بمجرد حصول الطهور وحصول النكاح بمجرد حصول الولي وفائدة الاستثناء صرف الحكم لا صرف المحكوم به فقوله وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ معناه أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات الثاني أنا إن سلمنا أن الاستثناء من النفي إثبات فغايته أنه عام دخله التخصيص بالدليل فيبقى فيما وراءه حجة
أما قوله تعالى فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ يعني الكاملون في العدوان المتناهون فيه
الصفة السادسة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ قرأ نافع وابن كثير لأمانتهم واعلم أنه يسمى الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهداً ومنه قوله تعالى ظَلِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وقال وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 27 ) وإنما تؤدي العيون دون المعاني فكان المؤتمن عليه الأمانة في نفسه والعهد ما عقده على نفسه فيما يقربه إلى ربه ويقع أيضاً على ما أمر الله تعالى به كقوله الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا ( آل عمران 183 ) والراعي القائم على الشيء لحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية ويقال من راعى هذا الشيء أي موليه واعلم أن الأمانة تتناول كل ما تركه يكون داخلاً في الخيانة وقد قال تعالى تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 270 ) فمن ذلك العبادات التي المرء مؤتمن عليها وكل العبادات تدخل في ذلك لأنها إما أن تخفي أصلاً كالصوم وغسل الجنابة وإسباغ الوضوء أو تخفي كيفية إتيانه بها وقال عليه السلام ( أعظم الناس خيانة من لم يتم صلاته ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه ( أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة ) ومن جملة ذلك ما يلتزمه بفعل أو قول فيلزمه الوفاء به كالودائع والعقود وما يتصل بهما ومن ذلك(23/71)
الأقوال التي يحرم بها العبيد والنساء لأنه مؤتمن في ذلك ومن ذلك أن يراعى أمانته فلا يفسدها بغصب أو غيره وأما العهد فإنه دخل فيه العقود والإيمان والنذور فبين سبحانه أن مراعاة هذه الأمور والقيام بها معتبر في حصول الفلاح
الصفة السابعة قوله وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَواتِهِمْ يُحَافِظُونَ وإنما أعاد تعالى ذكرها لأن الخشوع والمحافظة متغايران غير متلازمين فإن الخشوع صفة للمصلي في حال الأداء لصلاته والمحافظة إنما تصح حال ما لم يؤدها بكمالها بل المراد بالمحافظة التعهد لشروطها من وقت وطهارة وغيرهما والقيام على أركانها وإتمامها حتى يكون ذلك دأبه في كل وقت ثم لما ذكر الله تعالى مجموع هذه الأمور قال أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وههنا سؤالات
السؤال الأول لم سمي ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث مع أنه سبحانه حكم بأن الجنة حقهم في قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ الجواب من وجوه الأول ما روي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو أبين على ما يقال فيه وهو أنه لا مكلف إلا أعد الله له في النار ما يستحقه إن عصى وفي الجنة ما يستحقه إن أطاع وجعل لذلك علامة فإذا آمن منهم البعض ولم يؤمن البعض صار منزل من لم يؤمن كالمنقول إلى المؤمنين وصار مصيرهم إلى النار الذي لا بد معه من حرمان الثواب كموتهم فسمى ذلك ميراثاً لهذا الوجه وقد قال الفقهاء إنه لا فرق بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر فيه الملك في أنه يورث عنه كذلك قالوا في الدية التي تجب بالقتل إنها تورث مع أنه ما ملكها على التحقيق وذلك يشهد بما ذكرنا فإن قيل إنه تعالى وصف كل الذي يستحقونه إرثاً وعلى ما قلتم يدخل في الإرث ما كان يستحقه غيرهم لو أطاع قلنا لا يمتنع أنه تعالى جعل ما هو منزلة لهذا المؤمن بعينه منزلة لذلك الكافر لو أطاع لأنه عند ذلك وكان يزيد في المنازل فإذا آمن هذا عدل بذلك إليه وثانيها أن انتقال الجنة إليهم بدون محاسبة ومعرفة بمقاديره يشبه انتقال المال إلى الوارث وثالثها أن الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه السلام فإذا انتقلت إلى أولاده صار ذلك شبيهاً بالميراث
السؤال الثاني كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبع بالفلاح مع أنه تعالى ما تمم ذكر العبادات الواجبة كالصوم والحج والطهارة والجواب أن قوله وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ يأتي على جميع الواجبات من الأفعال والتروك كما قدمنا والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات الخمس لكونها من شرائطها
السؤال الثالث أفيدل قوله تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ على أنه لا يدخلها غيرهم الجواب أن قوله هُمُ الْوارِثُونَ يفيد الحصر لكنه يجب ترك العمل به لأنه ثبت أن الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور العين ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو لقوله تعالى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء
السؤال الرابع أفكل الجنة هو الفردوس الجواب الفردوس هو الجنة بلسان الحبشة وقيل بلسان الروم وروى أبو موسى الأشعري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار )(23/72)
وروى أبو أمامة عنه عليه السلام أنه قال ( سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش )
السؤال الخامس هل تدل الآية على أن هذه الصفات هي التي لها ولأجلها يكونون مؤمنين أم لا الجواب ادعى القاضي أن الأمر كذلك بناء على مذهبه أن الإيمان اسم شرعي موضوع لأداء كل الواجبات وعندنا أن الآية لا تدل على ذلك لأن قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ مثل قد أفلح الناس الأذكياء العدول فإن هذا لا يدل على أن الزكاة والعدالة داخلان في مسمى الناس فكذا ههنا
السؤال السادس روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لما خلق الله تعالى جنة عدن قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون ) وقال كعب ( خلق الله آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده ثم قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون ) وروي أنه عليه السلام قال ( إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت حفظك الله كما حافظت علي وشفعت لصاحبها وإذا أضاعها قالت أضاعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها ) الجواب أما كلام الجنة فالمراد به أنها أعدت للمؤمنين فصار ذلك كالقول منها وهو كقوله تعالى قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) وأما أنه تعالى خلق الجنة بيده فالمراد تولى خلقها لا أنه وكله إلى غيره وأما أن الصلاة تثنى على من قام بحقها فهو في الجواز أبعد من كلام الجنة لأن الصلاة حركات وسكنات ولا يصح عليها أن تتصور وتتكلم فالمراد منه ضرب المثل كما يقول القائل للمنعم إن إحسانك إلي ينطق بالشكر
السؤال السابع هل تدل الآية على أن الفردوس مخلوقة الجواب قال القاضي دل قوله تعالى أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 ) على أنها غير مخلوقة فوجب تأويل هذه الآية كأنه تعالى قال إذا كان يوم القيامة يخلق الله الجنة ميراثاً للمؤمنين أو وإذا خلقها تقول على مثال ما تأولنا عليه قوله تعالى وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 50 ) وهذا ضعيف لأنه ليس إضمار ما ذكره في هذه الآية أولى من أن يضمر في قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 ) ثم إن أكلها دائم يوم القيامة وإذا تعارض هذان الظاهران فنحن نتمسك في أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 )
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَة َ مُضْغَة ً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَة َ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ(23/73)
اعلم أنه سبحانه لما أمر بالعبادات في الآية المتقدمة والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الإله الخالق لا جرم عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعاً
النوع الأول الاستدلال يتقلب الإنسان في أدوار الخلقة وأكوان الفطرة وهي تسعة
المرتبة الأولى قوله سبحانه تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر فُعالة وهو بناء يدل على القلة كالقُلامة والقُمامة واختلف أهل التفسير في الإنسان فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل المراد منه آدم عليه السلام فآدم سل من الطين وخلقت دريته من ماء مهين ثم جعلنا الكناية راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم والإنسان شامل لآدم عليه السلام ولولده وقال آخرون الإنسان ههنا ولد آدم والطين ههنا اسم آدم عليه السلام والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المنى صارت منياً وهذا التفسير مطابق لقوله تعالى وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَة ٍ مّن مَّاء مَّعِينٍ ( السجدة 7 8 ) وفيه وجه آخر وهو أن الإنسان إنما يتولد من النطفة وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك إنما يتولد من الأغذية وهي إما حيوانية وإما نياتية والحيوانية تنتهي إلى النباتية والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء فالإنسان بالحقيقة يكون متولداً من سلالة من طين ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت على أطوار الخلقة وأدوار الفطرة صارت منياً وهذا التأويل مطابق للفظ ولا يحتاج فيه إلى التكلفات
المرتبة الثانية قوله تعالى ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة فصار الرحم قراراً مكيناً لهذه النطفة والمراد بالقرار موضع القرار وهو المستقر فسماه بالمصدر ثم وصف الرحم بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها كقولك طريق سائر أو لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت من حيث هي وأحرزت
المرتبة الثالثة قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً أي حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة وهي الدم الجامد
المرتبة الرابعة قوله تعالى فَخَلَقْنَا الْعَلَقَة َ مُضْغَة ً أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم كأنها مقدار ما يمضغ كالغرفة وهي مقدار ما يغترف وسمى التحويل خلقاً لأنه سبحانه يفني بعض أعراضها ويخلق أعراضاً غيرها فسمى خلق الأعراض خلقاً لها وكأنه سبحانه وتعالى يخلق فيها أجزاء زائدة
المرتبة الخامسة قوله فَخَلَقْنَا الْمُضْغَة َ عِظَاماً أي صيرناها كذلك وقرأ ابن عامر عظماً والمراد منه الجمع كقوله وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
المرتبة السادسة قوله تعالى فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة لها
المرتبة السابعة قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً أي خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً وكان جماداً وناطقاً وكان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره(23/74)