الأمور الثلاثة ذكرناه في قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( البقرة 3 )
المسألة الرابعة قالت المعتزلة الآية تدل على أن الرزق لا يكون حراماً لأن الآية دلت على أن الانفاق من الرزق ممدوح ولا شيء من الانفاق من الحرام بممدوح فينتج أن الرزق ليس بحرام وقد مر تقرير هذا الكلام مراراً
المسألة الخامسة في انتصاب قوله سِرّا وَعَلاَنِيَة ً وجوه أحدها أن يكون على الحال أي ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين وثانيها على الظرف أي وقت سر وعلانية وثالثها على المصدر أي انفاق سر وانفاق علانية والمراد إخفاء التطوع وإعلان الواجب
واعلم أنه تعالى لما أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة قال مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ قال أبو عبيدة البيع ههنا الفداء والخلال المخالة وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة وهي المصادقة قال مقاتل إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة فكأنه تعالى يقول أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا تحصل فيه مبايعة ولا مخالة ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ ( البقرة 254 )
فإن قيل كيف نفى المخالة في هاتين الآيتين مع أنه تعالى أثبتها في قوله الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 )
قلنا الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبيعة ورغبة النفس والآية الدالة على ثبوت المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى والله أعلم
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
اعلم أنه لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء وكان العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وبصفاته وفي حصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله تعالى وصف أحوال السعداء والأشقياء بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته(19/99)
وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل أولها خلق السموات وثانيها خلق الأرض وإليهما الإشارة بقوله تعالى اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وثالثها وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ورابعها قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وخامسها قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَارَ وسادسها وسابعها قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ وثامنها وتاسعها قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وعاشرها قوله وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وهذه الدلائل العشرة قد مر ذكرها في هذا الكتاب وتقريرها وتفسيرها مراراً وأطواراً ولا بأس بأن نذكر ههنا بعض الفوائد فاعلم أن قوله تعالى اللَّهِ مبتدأ وقوله وَالَّذِى خَلَقَ خبره ثم إنه تعالى بدأ بذكر خلق السموات والأرض وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن السماء والأرض من كم وجه تدل على وجود الصانع الحكيم وإنما بدأ بذكرهما ههنا لأنهما هما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعد ذلك فإنه قال بعده وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ وفيه مباحث
البحث الأول لولا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه فظهر أنه لا بد من وجودهما حتى يحصل هذا المقصود وهذا المطلوب
البحث الثاني قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء وفيه قولان الأول أن الماء نزل من السحاب وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو وهو الارتفاع والثاني أنه تعالى أنزله من نفس السماء وهذا بعيد لأن الإنسان ربما كان واقفاً على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه فإذا نزل من ذلك الجبل يرى ذلك الغيم ماطراً عليهم وإذا كان هذا أمراً مشاهداً بالبصر كان النزاع فيه باطلاً
البحث الثالث قال قوم إنه تعالى أخرج هذه الثمرات بواسطة هذا الماء المنزل من السماء على سبيل العادة وذلك لأن في هذا المعنى مصلحة للمكلفين لأنهم إذا علموا أن هذه المنافع القليلة يجب أن تتحمل في تحصيلها المشاق والمتاعب فالمنافع العظيمة الدائمة في الدار الآخرة أولى أن تتحمل المشاق في طلبها وإذا كان المرء يترك الراحة واللذات طلباً لهذه الخيرات الحقيرة فبأن يترك اللذات الدنيوية ليفوز بثواب الله تعالى ويتخلص عن عقابه أولى ولهذا السبب لما زال التكليف في الآخرة أنال الله تعالى كل نفس مشتهاها من غير تعب ولا نصب هذا قول المتكلمين وقال قوم آخرون إنه تعالى يحدث الثمار والزروع بواسطة هذا الماء النازل من السماء والمسألة كلامية محضة وقد ذكرناه في سورة البقرة
البحث الرابع قال أبو مسلم لفظ الثَّمَراتِ يقع في الأغلب على ما يحصل على الأشجار ويقع أيضاً على الزروع والنبات كقوله تعالى كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ( الأنعام 141 )
البحث الخامس قال تعالى فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ والمراد أنه تعالى إنما أخرج هذه الثمرات لأجل أن تكون رزقاً لنا والمقصود أنه تعالى قصد بتخليق هذه الثمرات إيصال الخير والمنفعة إلى المكلفين لأن الإحسان لا يكون إحساناً إلا إذا قصد المحسن بفعله إيصال النفع إلى المحسن إليه
البحث السادس قال صاحب ( الكشاف ) قوله مِنَ الثَّمَراتِ بيان للرزق أي أخرج به رزقاً هو ثمرات ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ورزقاً حال من المفعول أو نصباً على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق والتقدير ورزق من الثمرات رزقاً لكم(19/100)
فأما الحجة الرابعة وهي قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ونظيره قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ ( الشور 32 ) ففيها مباحث
البحث الأول أن الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجاري في البحر وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من أنعمه حتى أن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الجانب الآخر من الأرض وبالعكس كثر الربح في التجارات ثم إن هذا النقل لا يمكن إلا بسفن البر وهي الجمال أو بسفن البحر وهي الفلك المذكور في هذه الآية فإن قيل ما معنى وسخر لكم الفلك مع أن تركيب السفينة من أعمال العباد
قلنا أما على قولنا إن فعل العبد خلق الله تعالى فلا سؤال وأما على مذهب المعتزلة فقد أجاب القاضي عنه فقال لولا أنه تعالى خلق الأشجار الصلبة التي منها يمكن تركيب السفن ولولا خلقه للحديد وسائر الآلات ولولا تعريفه العباد كيف يتخذوه ولولا أنه تعالى خلق الماء على صفة السيلان التي باعتبارها يصح جري السفينة ولولا خلقه تعالى الرياح وخلق الحركات القوية فيها ولولا أنه وسع الأنهار وجعل فيها من العمق ما يجوز جري السفن فيها لما وقع الانتفاع بالسفن فصار لأجل أنه تعالى هو الخالق لهذه الأحوال وهو المدبر لهذه الأمور والمسخر لها حسنت إضافة السفن إليه
البحث الثاني أنه تعالى أضاف ذلك التسخير إلى أمره لأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال فيه إنه أمر بكذا تعظيماً لشأنه ومنهم من حمله على ظاهر قوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وتحقيق هذا الوجه راجع إلى ما ذكرناه
البحث الثالث الفلك من الجمادات فتسخيرها مجاز والمعنى أنه لما كان يجري على وجه الماء كما يشتهيه الملاح صار كأنه حيوان مسخر له
الحجة الخامسة قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَارَ واعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات لا جرم ذكر تعالى إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنبات وأيضاً ماء البحر لا يصلح للشرب والصالح لهذا المهم هو مياه الأنهار
الحجة السادسة والسابعة قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ
واعلم أن الانتفاع بالشمس والقمر عظيم وقد ذكره الله تعالى في آيات منها قوله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ( نوح 16 ) ومنها قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن 5 ) ومنها قوله وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ( الفرقان 61 ) ومنها قوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ( يونس 5 ) وقوله دَائِبَينَ معنى الدؤب في اللغة مرور الشيء في العمل على عادة مطردة يقال دأب يدأب دأباً ودؤباً وقد ذكرنا هذا في قوله قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا ( يوسف 47 ) قال المفسرون قوله دَائِبَينَ معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية وقد ذكرنا منافع الشمس والقمر بالاستقصاء في أول هذا الكتاب(19/101)
الحجة الثامنة والتاسعة قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
واعلم أن منافعهما مذكورة في القرآن كقوله تعالى وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 10 11 ) وقوله اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً قال المتكلمون تسخير الليل والنهار مجاز لأنهما عرضان والأعراض لا تسخر
والحجة العاشرة قوله وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ثم إنه تعالى لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين بعد ذلك أنه لم يقتصر عليها بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها التعديد والإحصاء فقال وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ والمفعول محذوف تقديره من كل مسؤول شيئاً وقرىء مِن كُلّ بالتنوين و مَا سَأَلْتُمُوهُ نفي ومحله نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة والتقدير آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال ثم إنه تعالى لما ذكر هذه النعم ختم الكلام بقوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا قال الواحدي النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر يقال أنعم الله عليه ينعم إنعاماً ونعمة أقيم الاسم مقام الإنعام كقوله أنفقت عليه إنفاقاً ونفقة بمعنى واحد ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر ومعنى قوله لاَ تُحْصُوهَا أي لا تقدرون على تعديد جميعها لكثرتها
واعلم أن الإنسان إذا أراد أن يعرف أن الوقوف على أقسام نعم الله ممتنع فعليه أن يتأمل في شيء واحد ليعرف عجز نفسه عنه ونحن نذكر منه مثالين
المثال الأول أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان منها دماغية ومنها نخاعية أما الدماغية فإنها سبعة ثم أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد من تلك الأرواح السبعة ثم مما لا شك فيه أن كل واحد من الأرواح السبعة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحد من تلك الشعب أيضاً إلى شعب دقيقة أدق من الشعر ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء ولو أن شعبة واحدة اختلت إما بسبب الكمية أو بسبب الكيفية أو بسبب الوضع لاختلت مصالح البنية ثم إن تلك الشعب الدقيقة تكون كثيرة العدد جداً ولكل واحدة منها حكمة مخصوصة فإذا نظر الإنسان في هذا المعنى عرف أن الله تعالى بحسب كل شظية من تلك الشظايا العصبية على العبد نعمة عظيمة لو فاتت لعظم الضرر عليه وعرف قطعاً أنه لا سبيل له إلى الوقوق عليها والاطلاع على أحوالها وعند هذا يقطع بصحة قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والكيفية والوضع والفعل والإنفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحراً لا ساحل له وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان الواحد فاعرف أقسام نعم الله تعالى في نفسه وروحه فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجساد ثم لما اعتبرت حالة الحيوان الواحد فعند ذلك اعتبر أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والحيوان وعند هذا تعرف أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلاً واحداً ثم بذلك العقل يتأمل الإنسان في عجائب حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل فسبحانه تقدس عن أوهام المتوهمين
المثال الثاني أنك إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها أما(19/102)
الأمور التي قبلها فاعرف أن تلك اللقمة من الخبز لا تتم ولا تكمل إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائماً على الوجه الأصوب لأن الحنطة لا بد منها وأنها لا تنبت إلا معونة الفصول الأربعة وتركيب الطبائع وظهور الرياح والأمطار ولا يحصل شيء منها إلا بعد دوران الأفلاك واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة في الحركات وفي كيفيتها في الجهة والسرعة والبطء ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد من آلات الطحن والخبز وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال ثم إن الآلات الحديدية لا يمكن إصلاحها إلا بآلات أخرى حديدية سابقة عليها ولا بد من انتهائها إلى آلة حديدية هي أول هذه الآلات فتأمل أنها كيف تكونت على الأشكال المخصوصة ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر الأربعة وهي الأرض والماء والهواء والنار حتى يمكن طبخ الخبز من ذلك الدقيق فهذا هو النظر فيما تقدم على حصول هذه اللقمة وأما النظر فيما بعد حصولها فتأمل في تركيب بدن الحيوان وهو أنه تعالى كيف خلق الأبدان حتى يمكنها الانتفاع بتلك اللقمة وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار ولا يمكنك أن تعرف القليل من هذه الأشياء إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب بالكلية فظهر بما ذكرنا أن الانتفاع باللقمة الواحدة لا يمكن معرفته إلا بمعرفة جملة الأمور والعقول قاصرة عن إدراك ذرة من هذه المباحث فظهر بهذا البرهان القاهر صحة قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ثم إنه تعالى قال إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ قيل يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع والمراد من الإنسان ههنا الجنس يعني أن عادة هذا الجنس هو هذا الذي ذكرناه وههنا بحثان
البحث الأول أن الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملالة فإذا وجد نعمة نسيها في الحال وظلمها بترك شكرها وإن لم ينسها فإنه في الحال يملها فيقع في كفران النعمة وأيضاً أن نعم الله كثيرة فمتى حاول التأمل في بعضها غفل عن الباقي
البحث الثاني أنه تعالى قال في هذا الموضع إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ وقال في سورة النحل إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( النحل 18 ) ولما تأملت فيه لاحت لي فيه دقيقة كأنه يقول إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها فحصل لك عند أخذها وصفان وهما كونك ظلوماً كفاراً ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفوراً رحيماً والمقصود كأنه يقول إن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت كفاراً فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء ونسأل الله حسن العاقبة والرحمة
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاٌّ صْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى(19/103)
ألبتة حكى عن إبراهيم عليه السلام مبالغته في إنكار عبادة الأوثان
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أشياء أحدها قوله رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا والمراد مكة آمناً ذا أمن
فإن قيل أي فرق بين قوله ( اجعل هذا بلداً آمناً ) وبين قوله اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا
قلنا سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فلا يخافون وفي الثاني أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها وهي الخوف ويحصل لها ضد تلك الصفة وهو الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمناً وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة وثانيها قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وَاجْنُبْنِى وفيه ثلاث لغات جنبه واجنبه وجنبه قال الفراء أهل الحجاز يقول جنبني يجبني بالتخفيف وأهل نجد يقولون جنبني شره وأجنبني شره وأصله جعل الشيء عن غيره على جانب وناحية
المسألة الثانية لقائل أن يقول الإشكال على هذه الآية من وجوه أحدها أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل مكة آمناً وما قبل الله دعاءه لأن جماعة خربوا الكعبة وأغاروا على مكة وثانيها أن الأنبياء عليهم السلام لا يعبدون الوثن ألبتة وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله أجنبني عن عبادة الأصنام وثالثها أنه طلب من الله تعالى أن لا يجعل أبناءه من عبدة الأصنام والله تعالى لم يقبل دعاءه ولأن كفار قريش كانوا من أولاده مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام
فإن قالوا إنهم ما كانوا أبناء إبراهيم وإنما كانوا أبناء أبنائه والدعاء مخصوص بالأبناء فنقول فإذا كان المراد من أولئك الأبناء أبناءه من صلبه وهم ما كانوا إلا إسماعيل وإسحاق وهما كانا من أكابر الأنبياء وقد علم أن الأنبياء لا يعبدون الصنم فقد عاد السؤال في أنه ما الفائدة في ذلك الدعاء
والجواب عن السؤال الأول من وجهين الأول أنه نقل أنه عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة ذكر هذا الدعاء والمراد منه جعل تلك البلدة آمنة من الخراب والثاني أن المراد جعل أهلها آمنين كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي أهل القرية وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين وعلى هذا التقدير فالجواب من وجهين
الوجه الأول ما اختصت به مكة من حصول مزيد من الأمن وهو أن الخائف كان إذا التجأ إلى مكة أمن وكان الناس مع شدة العداوة بينهم يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضاً ومن ذلك أمن الوحش فإنهم يقربون من الناس إذا كانوا بمكة ويكونون مستوحشين عن الناس خارج مكة فهذا النوع من الأمن حاصل في مكة فوجب حمل الدعاء عليه
والوجه الثاني أن يكون المراد من قوله اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا أي بالأمر والحكم بجعله آمناً وذلك الأمر والحكم حاصل لا محالة
والجواب عن السؤال الثاني قال الزجاج معناه ثبتني على اجتناب عبادتها كما قال وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ( البقرة 128 ) أي ثبتنا على الإسلام
ولقائل أن يقول السؤال باق لأنه لأنه لما كان من المعلوم أنه تعالى يثبت الأنبياء عليهم السلام على(19/104)
الاجتناب من عبادة الأصنام فما الفائدة في هذا السؤال والصحيح عندي في الجواب وجهان الأول أنه عليه السلام وإن كان يعلم أنه تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضماً للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب والثاني أن الصوفية يقولون إن الشرك نوعان شرك جلي وهو الذي يقول به المشركون وشرك خفي وهو تعليق القلب بالوسايط وبالأسباب الظاهرة والتوحيد المحض هو أن ينقطع نظره عن الوسايط ولا يرى متصرفاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ المراد منه أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي والله أعلم بمراده
والجواب عن السؤال الثالث من وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) قوله ( وبني ) أراد بنيه من صلبه والفائدة في هذا الدعاء عين الفائدة التي ذكرناها في قوله وَاجْنُبْنِى والثاني قال بعضهم أراد من أولاده وأولاد أولاده كل من كانوا موجودين حال الدعاء ولا شبهة أن دعوته مجابة فيهم الثالث قال مجاهد لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنماً والصنم هو التمثال المصور ما ليس بمصور فهو وثن وكفار قريش ما عبدوا التمثال وإنما كانوا يعبدون أحجاراً مخصوصة وأشجاراً مخصوصة وهذا الجواب ليس بقوي لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والحجر كالصنم في ذلك الرابع أن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ونظيره قوله تعالى لنوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ( هود 46 ) والخامس لعله وإن كان عمم في الدعاء إلا أن الله تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء عليهم السلام ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 )
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بقوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ على أن الكفر والإيمان من الله تعالى وتقرير الدليل أن إبراهيم عليه السلام طلب من الله أن يجنبه ويجنب أولاده من الكفر فدل ذلك على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان ليس إلا من الله تعالى وقول المعتزلة إنه محمول على الألطاف فاسد لأنه عدول عن الظاهر ولأنا قد ذكرنا وجوهاً كثيرة في إفساد هذا التأويل
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ واتفق كل الفرق على أن قوله أَضْلَلْنَ مجاز لأنها جمادات والجماد لا يفعل شيئاً ألبتة إلا أنه لما حصل الإضلال عند عبادتها أضيف إليها كما تقول فتنتهم الدنيا وغرتهم أي افتتنوا بها واغتروا بسببها
ثم قال فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى يعني من تبعني في ديني واعتقادي فإنه مني أي جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني ومن عصاني في غير الدين فإنك غفور رحيم واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن إبراهيم عليه السلام ذكر هذا الكلام والغرض منه الشفاعة في حق أصحاب الكبائر من أمته والدليل عليه أن قوله وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة فنقول أولئك العصاة إما أن يكونوا من الكفار أو لا يكونوا كذلك والأول باطل من وجهين الأول أنه عليه السلام بين في مقدمة هذه الآية أنه مبرأ عن الكفار وهو قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ وأيضاً قوله فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ولا يهتم باصلاح مهماته والثاني أن الأمة(19/105)
مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة ولما بطل هذا ثبت أن قوله وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ شفاعة في العصاة الذين لا يكونون من الكفار
وإذا ثبت هذا فنقول تلك المعصية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو من الكبائر قبل التوبة والأول والثاني باطلان لأن قوله وَمَنْ عَصَانِى اللفظ فيه مطلق فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصوم فلا يمكن حمل اللفظ عليه فثبت أن هذه الآية شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه السلام ثبت حصولها في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لوجوه الأول أنه لا قائل بالفرق والثاني وهو أن هذا المنصب أعلى المناصب فلو حصل لإبراهيم عليه السلام مع أنه غير حاصل لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لكان ذلك نقصاناً في حق محمد عليه السلام والثالث أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) مأمور بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام لقوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وقوله ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا فهذا وجه قريب في إثبات الشفاعة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي إسقاط العقاب عن أصحاب الكبائر والله أعلم
إذا عرفت هذا فلنذكر أقوال المفسرين قال السدي معناه ومن عصاني ثم تاب وقيل إن هذا الدعاء إنما كان قبل أن يعلم أن الله تعالى لا يغفر الشرك وقيل من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام وقيل المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب بل يمهلهم حتى يتوبوا أو يكون المراد أن لا تعجل اخترامهم فتفوتهم التوبة واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة
أما الأول وهو حمل هذه الشفاعة على المعصية بشرط التوبة فقد أبطلناه
وأما الثاني وهو قوله إن هذه الشفاعة إنما كانت قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك فنقول هذا أيضاً بعيد لأنا بينا أن مقدمة هذه الآية تدل على أنه لا يجوز أن يكون مراد إبراهيم عليه السلام من هذا الدعاء هو الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر
وأما الثالث وهو قوله المراد من كونه غَفُوراً رَّحِيماً أن ينقله من الكفر إلى الإيمان فهو أيضاً بعيد لأن المغفرة والرحمة مشعرة بإسقاط العقاب ولا إشعار فيهما بالنقل من صفة الكفر إلى صفة الإيمان والله أعلم
وأما الرابع وهو أن تحمل المغفرة والرحمة على تعجيل العقاب أو ترك تعجيل الإمانة فنقول هذا باطل لأن كفار زماننا هذا أكثر منهم ولم يعاجلهم الله تعالى بالعقاب ولا بالموت مع أن أهل الإسلام متفقون على أنهم ليسوا مغفورين ولا مرحومين فبطل تفسير المغفرة والرحمة على ترك تعجيل العقاب بهذا الوجه وظهر بما ذكرنا صحة ما قررناه من الدليل والله أعلم
رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلواة َ فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَى ْءٍ فَى الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلواة ِ وَمِن ذُرِّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ(19/106)
اعلم أنه سبحانه وتعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب في دعائه أموراً سبعة
المطلوب الأول طلب من الله نعمة الأمان وهو قوله رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ( البقرة 126 ) والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به وسئل بعض العلماء الأمن أفضل أم الصحة فقال الأمن أفضل والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ثم إنها تقبل على الرعي والأكل ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد
والمطلوب الثاني أن يرزقه الله التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ ( إبراهيم 35 )
والمطلوب الثالث قوله رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ فقوله مِن ذُرّيَّتِى أي بعض ذريتي وهو إسمعيل ومن ولد منه بِوَادٍ هو وادي مكة غَيْرِ ذِى زَرْعٍ أي ليس فيه شيء من زرع كقوله قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ ( الزمر 28 ) بمعنى لا يحصل فيه اعوجاج عند بيتك المحرم وذكروا في تسميته المحرم وجوها الأول أن الله حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لمكانه الثاني أنه كان لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب الثالث سمي محرماً لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه الرابع أنه حرم على الطوفان أي امتنع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستعل عليه الخامس أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل السادس حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض وحفه بسبعة من الملائكة وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السابعة السابع حرم على عباده أن يقربوه بالدماء والأقذار وغيرها روي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت له(19/107)
إسمعيل عليه السلام فقالت سارة كنت أرجو أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي وقالت لإبراهيم أبعدهما مني فنقلهما إلى مكة وإسمعيل رضيع ثم رجع فقالت هاجر إلى من تكلنا فقال إلى الله ثم دعا الله تعالى بقوله رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ إلى آخر الآية ثم إنها عطشت وعطش الصبي فانتهت بالصبي إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله أم إسمعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً ) ثم إن إبراهيم عليه السلام عاد بعد كبر إسمعيل واشتغل هو مع إسمعيل برفع قواعد البيت قال القاضي أكثر الأمور المذكورة في هذه الحكاية بعيدة لأنه لا يجوز لإبراهيم عليه السلام أن ينقل ولده إلى حيث لا طعام ولا ماء مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا إن الله أعلمه أنه يحصل هناك ماء وطعام وأقول أما ظهور ماء زمزم فيحتمل أن يكون إرهاصاً لإسمعيل عليه السلام لأن ذلك عندنا جائز خلافاً للمعتزلة وعند المعتزلة أنه معجزة لإبراهيم عليه السلام
ثم قال رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ واللام متعلقة بأسكنت أي أسكنت قوماً من ذريتي وهم إسمعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة
ثم قال فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وفيه مباحث
البحث الأول قال الأصمعي هوى يهوي هوياً بالفتح إذا سقط من علو إلى سفل وقيل تَهْوِى إِلَيْهِمْ تريدهم وقيل تسرع إليهم وقيل تنحط إليهم وتنحدر إليهم وتنزل يقال هوى الحجر من رأس الجبل يهوي إذا انحدر وانصب وهوى الرجل إذا انحدر من رأس الجبل
البحث الثاني أن هذا الدعاء جامع للدين والدنيا أما الدين فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى الذهاب إلى تلك البلدة بسبب النسك والطاعة لله تعالى وأما الدنيا فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى نقل المعاشات إليهم بسبب التجارات فلأجل هذا الميل يتسع عيشهم ويكثر طعامهم ولباسهم
البحث الثالث كلمة مِنْ في قوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ تفيد التبعيض والمعنى فاجعل أفئدة بعض الناس مائلة إليهم قال مجاهد لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند وقال سعيد بن جبير لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى المجوس ولكنه قال أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ فهم المسلمون
ثم قال وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ وفيه بحثان
البحث الأول أنه لم يقل وارزقهم الثمرات بل قال وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ وذلك يدل على أن المطلوب بالدعاء اتصال بعض الثمرات إليهم
البحث الثاني يحتمل أن يكون المراد بإيصال الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات وإنما يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصيل الثمار منها
ثم قال لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ وذلك يدل على أن المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات فإن إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن(19/108)
يتفرغوا لإقامة الصلوات وأداء الواجبات
المطلوب الرابع قوله رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ
واعلم أنه عليه السلام لما طلب من الله تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهايات الأمور في المستقبل وأنه تعالى هو العالم بها المحيط بأسرارها فقال رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ والمعنى أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا قيل ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسمعيل وما نعلن من البكاء وقيل ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حيث قالت له عند الوداع إلى من تكلنا فقال إلى الله أكلكم قالت آلله أمرك بهذا قال نعم قالت إذن لا نخشى
ثم قال وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَى ْء فَى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وفيه قولان أحدهما أنه كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام كقوله وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ ( النحل 34 ) والثاني أنه من كلام إبراهيم عليه السلام يعني وما يخفي على الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان ولفظ ( من ) يفيد الاستغراق كأنه قيل وما يخفى عليه شيء ما
ثم قال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وفيه مباحث
البحث الأول اعلم أن القرآن يدل على أنه تعالى إنما أعطى إبراهيم عليه السلام هذين الولدين أعني إسمعيل وإسحق على الكبر والشيخوخة فأما مقدار ذلك السن فغير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات فقيل لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعاً وتسعين سنة ولما ولد إسحق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة وقيل ولد له إسمعيل لأربع وستين سنة وولد إسحق لتسعين سنة وعن سعيد بن جبير لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة وإنما ذكر قوله عَلَى الْكِبَرِ لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم
فإن قيل إن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسمعيل وهاجر أمه في ذلك الوادي وفي ذلك الوقت ما ولد له إسحق فكيف يمكنه أن يقول الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
قلنا قال القاضي هذا الدليل يقتضي أن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدم من الدعاء ويمكن أيضاً أن يقال إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسمعيل وظهور إسحق وإن كان ظاهر الروايات بخلافه
البحث الثاني على في قوله عَلَى الْكِبَرِ بمعنى مع كقول الشاعر إني على ما ترين من كبري
أعلم من حيث يؤكل الكتف
وهو في موضع الحال ومعناه وهب لي في حال الكبر
البحث الثالث في المناسبة بين قوله رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَى ْء فَى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء(19/109)
وبين قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وذلك هو كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما وإعانة ذريتهما بعد موته ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب بل قال رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ أي إنك تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا ثم قال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وذلك يدل ظاهراً على أنهما يبقيان بعد موته وأنه مشغول القلب بسببهما فكان هذا دعاء لهما بالخير والمعونة بعد موته على سبيل الرمز والتعريض وذلك يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء قال عليه لاسلام حاكياً عن ربه أنه قال ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) ثم قال إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء
واعلم أنه لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإيضاح والتصريح قال إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء أي هو عالم بالمقصود سواء صرحت به أو لم أصرح وقوله سميع الدعاء من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه سمع الله لمن حمده
المطلوب الخامس قوله رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلواة ِ وَمِن ذُرّيَتِى وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذا الآية على أن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى فقالوا إن قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ يدل على أن ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله وقوله رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلواة ِ وَمِن ذُرّيَتِى يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصراً على أن الكل من الله
المسألة الثانية تقدير الآية رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي أي واجعل بعض ذريتي كذلك لأن كلمة ( من ) في قوله وَمِن ذُرّيَتِى للتبعيض وإنما ذكر هذا التبعيض لأنه علم باعلام الله تعالى أنه يكون في ذريته جمع من الكفار وذلك قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
المطلوب السادس أنه عليه السلام لما دعا الله في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء وقال ابن عباس يريد عبادتي بدليل قوله تعالى وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( مريم 48 )
المطلوب السابع قوله رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى لقائل أن يقول طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة الذنب فهذا يدل على أنه كان قد صدر الذنب عنه وإن كان قاطعاً بأن الله يغفر له فكيف طلب تحصيل ما كان قاطعاً بحصوله
والجواب المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته
المسألة الثانية إن قال قائل كيف جاز أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين
فالجواب عنه من وجوه الأول أن المنع منه لا يعلم إلا بالتوقيف فلعله لم يجد منه منعاً فظن كونه حائزاً الثاني أراد بوالديه آدم وحواء الثالث كان ذلك بشرط الإسلام
ولقائل أن يقول لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلاً ولو لم يكن لبطل قوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة 4 ) وقال بعضهم كانت أمه مؤمنة ولهذا السبب خص أباه(19/110)
بالذكر في قوله تعالى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) والله أعلم وفي قوله يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ قولان الأول يقوم أي يثبت وهو مستعار من قيام القائم على الرجل والدليل عليه قولهم قامت الحرب على ساقها ونظيره قوله ترجلت الشمس أي أشرقت وثبت ضوءها كأنها قامت على رجل الثاني أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز مثل قوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي أهلها والله أعلم
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ
اعلم أنه لما بين دلائل التوحيد ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أن يصونه عن الشرك وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ذكر بعد ذلك ما يدل على وجود يوم القيامة وما يدل على صفة يوم القيامة أما الذي يدل على وجود القيامة فهو قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ فالمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم أن يكون إما غافلاً عن ذلك الظالم أو عاجزاً عن الإنتقام أو كان راضياً بذلك الظلم ولما كانت الغفلة والعجز والرضا بالظلم محالاً على الله امتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم
فإن قيل كيف يليق بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحسب الله موصوفاً بالغفلة
والجواب من وجوه الأول المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً كقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( الأنعام 14 ) وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ ( القصص 88 ) وكقوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ والثاني أن المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الإنتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً لكل أحد لا جرم كان عدم الانتقام محالاً والثالث أن المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير الرابع أن يكون هذا الكلام وإن كان خطاباً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الظاهر إلا أنه يكون في الحقيقة خطاباً مع الأمة وعن سفيان بن عيينة أنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ثم بين تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بصفات
الصفة الأولى أنه تشخص فيه الأبصار يقال شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا يطرفها وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة وسقوط القوة
والصفة الثانية قوله مُهْطِعِينَ وفي تفسير الإهطاع أقوال أربعة
القول الأول قال أبو عبيدة هو الإسراع يقال أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع وعلى هذا الوجه فالمعنى أن الغالب من حال من يبقى بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً فبين الله تعالى(19/111)
أن حالهم بخلاف هذا المعتاد فإنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مهطعين أي مسرعين نحو وذلك البلاء
القول الثاني في الإهطاع قال أحمد بن يحيى المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع
والقول الثالث المهطع الساكت
والقول الرابع قال الليث يقال للرجل إذا قر وذل أهطع
الصفة الثالثة قوله مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ والإقناع رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع فقوله مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ أي رافعي رؤوسهم والمعنى أن المعتاد فيمن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه عنه لكي لا يراه فبين تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد وأنهم يرفعون رؤوسهم
الصفة الرابعة قوله لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ والمراد من هذه الصفة دوام ذلك الشخوص فقوله تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ لا يفيد كون هذا الشخوص دائماً وقوله لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يفيد دوام هذا الشخوص وذلك يدل على دوام تلك الحيرة والدهشة في قلوبهم
الصفة الخامسة قوله وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ثم جعل وصفاً فقيل قلب فلان هواء إذا كان خالياً لا قوة فيه والمراد بيان أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب ومن كل سرور لكثرة ما فيه من الحزن إذا عرفت هذه الصفات الخمسة فقد اختلفوا في وقت حصولها فقيل إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقيب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب وقيل إنها تحصل عند ما يتميز فريق عن فريق والسعداء يذهبون إلى الجنة والأشقياء إلى النار وقيل بل يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور والأول أولى للدليل الذي ذكرناه والله أعلم
وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ
اعلم أن قوله يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فيه أبحاث
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ مفعول ثان لقوله وَأَنذِرِ وهو يوم القيامة
البحث الثاني الألف واللام في لفظ الْعَذَابَ للمعهود السابق يعني وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب الذي تقدم ذكره وهو شخوص أبصارهم وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم(19/112)
البحث الثالث الإنذار هو التخويف بذكر المضار والمفسرون مجمعون على أن قوله يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ هو يوم القيامة وحمله أبو مسلم على أنه حال المعاينة والظاهر يشهد بخلافه لأنه تعالى وصف اليوم بأن عذابهم يأتي فيه وأنهم يسألون الرجعة ويقال لهم أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة وحجة أبي مسلم أن هذه الآية شبيهة بقوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ( المنافقون 10 ) ثم حكى الله سبحانه ما يقول الكفار في ذلك اليوم فقال فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ واختلفوا في المراد بقوله أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فقال بعضهم طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرطوا فيه وقال بل طلبوا الرجوع إلى حال التكليف بدليل قولهم نجب دعوتك ونتبع الرسل وأما على قول أبي مسلم فتأويل هذه الآية ظاهر فقال تعالى مجيباً لهم أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ ومعناه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهو قوله تعالى وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ( النحل 38 ) إلى غير ذلك مما كانوا يذكرونه من إنكار المعاد فقرعهم الله تعالى بهذا القول لأن التقريع بهذا الجنس أقوى ومعنى ما لكم من زوال لا شبهة في أنهم كانوا يقولون لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى ومن هذه الدار إلى دار المجازاة لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت أو عن شباب إلى هرم أو عن فقر إلى غنى ثم إنه تعالى زادهم تقريعاً آخر بقوله وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ يعني سكنتم في مساكن الذين كفروا قبلكم وهم قوم نوح وعاد وثمود وظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية لأن من شاهد هذه الأحوال وجب عليه أن يعتبر فإذا لم يعتبر كان مستوجباً للذم والتقريع
ثم قال وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وظهر لكم أن عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال
فإن قيل ولماذا قيل وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ولم يكن القوم يقرون بأنه تعالى أهلكهم لأجل تكذيبهم
قلنا إنهم علموا أن أولئك المتقدمين كانوا طالبين للدنيا ثم إنهم فنوا وانقرضوا فعند هذا يعلمون أنه لا فائدة في طلب الدنيا والواجب الجد والاجتهاد في طلب الدين والواجب على من عرف هذا أن يكون خائفاً وجلاً فيكون ذلك زجراً له هذا إذا قرىء بالتاء أما إذا قرىء بالنون فلا شبهة فيه لأن التقدير كأنه تعالى قال أولم نبين لكم كيف فعلنا بهم وليس كل ما بين لهم تبينوه
أما قوله وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامْثَالَ فالمراد ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الإبتداء وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل وذلك في كتاب الله كثير والله أعلم
وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(19/113)
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة عقابهم أتبعها بذكر كيفية مكرهم فقال وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الضمير في قوله وَقَدْ مَكَرُواْ إلى ماذا يعود على وجوه الأول أن يكون الضمير عائداً إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وهذا القول الصحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات والثاني أن يكون المراد به قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والدليل عليه قوله وَأَنذِرِ النَّاسَ ( إبراهيم 45 ) يا محمد وقد مكر قومك مكرهم وذلك المكر هو الذي ذكره الله تعالى في قوله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ( الأنفال 30 ) وقوله مَكْرِهِمْ أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم الثالث أن المراد من هذا المكر ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتاً وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور وكان قد جوعها ورفع فوق الجوانب الأربعة من التابوت عصياً أربعاً وعلق على كل واحدة منهن قطعة لحم ثم إنه جلس مع حاجبه في ذلك التابوت فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الدنيا عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها فنكس تلك العصي التي علق عليها اللحم فسفلت النسور وهبطت إلى الأرض فهذا هو المراد من مكرهم قال القاضي وهذا بعيد جداً لأن الخطر فيه عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء فيه خبر صحيح معتمد ولا حجة في تأويل الآية ألبتة
المسألة الثانية قوله وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ فيه وجهان الأول أن يكون المكر مضافاً إلى الفاعل كالأول والمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فهو يجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه والثاني أن يكون المكر مضافاً إلى المفعول والمعنى وعند الله مكرهم الذي يمكر بهم وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون
أما قوله تعالى وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فاعلم أنه قرأ الكسائي وحده لِتَزُولَ بفتح اللام الأولى ورفع اللام الأخرى منه والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية
أما القراءة الأولى فمعناها أن مكرهم كان معداً لأن تزول منه الجبال وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه بل التعظيم والتهويل وهو كقوله تَكَادُ السَّمَاوَاتِ الْكِتَابَ مِنْهُ ( مريم 90 )
وأما القراءة الثانية فالمعنى أن لفظ ( إن ) في قوله وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ بمعنى ( ما ) واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد ومن سبيلها نصب الفعل المستقبل والنحويون يسمونها لام الجحد ومثله قوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ( آل عمران 179 ) مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ( آل عمران 179 ) والجبال ههنا مثل لأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولأمر دين الإسلام وإعلامه ودلالته على معنى أن ثبوتها كثبوت الجبال الراسية لأن الله تعالى وعد نبيه إظهار دينه على كل الأديان ويدل على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ( إبراهيم 47 ) أي قد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم والمعنى وما كان مكرهم لتزول منه الجبال أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ودلائل شريعته وقرأ علي وعمرو إِن كَانَ مَكْرِهِمْ(19/114)
فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ( إبراهيم 42 ) وقال في هذه الآية فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم يقم القيامة ولم ينتقم للمظلومين من الظالمين لزم إما كونه غافلاً وإما كونه مخلفاً في الوعد ولما تقرر في العقول السليمة أن كل ذلك محال كان القول بأنه لا يقيم القيامة باطلاً وقوله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ يعني قوله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ( غافر 51 ) وقوله كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 )
فإن قيل هلا قيل مخلف رسله وعده ولم قدم المفعول الثاني على الأول
قلنا ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً إن الله لا يخلف الميعاد ثم قال رُسُلَهُ ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً وليس من شأنه إخلاف المواعيد فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته وقرىء مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بجر الرسل ونصب الوعد والتقدير مخلف رسله وعده وهذه القراءة في الضعف كمن قرأ قتل أولادهم شركائهم ثم قال إِنَّ اللَّهَ عَزِيزاً أي غالب لا يماكر ذو انتقام لأوليائه
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الاٌّ صْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِى َ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
اعلم أن الله تعالى لما قال عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ بين وقت انتقامه فقال يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ وعظم من حال ذلك اليوم لأنه لا أمر أعظم من العقول والنفوس من تغيير السموات والأرض وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر الزجاج في نصب يوم وجهين إما على الظرف لانتقام أو على البدل من قوله يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ
المسألة الثانية اعلم أن التبديل يحتمل وجهين أحدهما أن تكون الذات باقية وتتبدل صفتها بصفة أخرى والثاني أن تفنى الذات الأولى وتحدث ذات أخرى والدليل على أن ذكر لفظ التبدل لإرادة التغير في الصفة جائز أنه يقال بدلت الحلقة خاتماً إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل ومنه قوله تعالى فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) ويقال بدلت قميصي جبة أي نقلت العين من(19/115)
صفة إلى صفة أخرى ويقال تبدل زيد إذا تغيرت أحواله وأما ذكر لفظ التبديل عند وقوع التبدل في الذوات فكقولك بدلت الدراهم دنانير ومنه قوله بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ( النساء 56 ) وقوله بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ( سبأ 16 ) إذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان
القول الأول أن المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات قال ابن عباس رضي الله عنهما هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى فلا يرى فيها عوج ولا أمت وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العاكظي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ) وقوله والسموات أي تبدل السموات غير السموات وهو كقوله عليه السلام ( لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده ) والمعنى ولا ذو عهد في عهده بكافر وتبديل السموات بانتثار كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها وخسوف قمرها وكونها أبواباً وأنها تارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان
والقول الثاني أن المراد تبديل الذات قال ابن مسعود تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك عليها دم ولم تعمل عليها خطيئة فهذا شرح هذين القولين ومن الناس من رجح القول الأول قال لأن قوله انتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ المراد هذه الأرض والتبدل صفة مضافة إليها وعند حصول الصفة لا بد وأن يكون الموصوف موجوداً فلما كان الموصوف بالتبدل هو هذه الأرض وجب كون هذه الأرض باقية عند حصول ذلك التبدل ولا يمكن أن تكون هذه الأرض باقية مع صفاتها عند حصول ذلك التبدل وإلا لامتنع حصول التبدل فوجب أن يكون الباقي هو الذات فثبت أن هذه الآية تقتضي كون الذات باقية والقائلون بهذا القول هم الذين يقولون إن عند قيام القيامة لا يعدم الله الذوات والأجسام وإنما يعدم صفاتها وأحوالها
واعلم أنه لا يبعد أن يقال المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم ويجعل السموات الجنة والدليل عليه قوله تعالى كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) وقوله كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ ( المطففين 7 ) والله أعلم
أما قوله تعالى وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ فنقول أما البروز لله فقد فسرناه في قوله تعالى وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا وإنما ذكر الواحد القهار ههنا لأن الملك إذا كان لمالك واحد غلاب لا يغالب قهار لا يقهر فلا مستغاث لأحد إلى غيره فكال الأمر في غاية الصعوبة ونظيره قوله لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ( غافر 16 ) ولما وصف نفسه سبحانه بكونه قهاراً بين عجزهم وذلتهم فقال وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ
واعلم أنه تعالى ذكر في صفات عجزهم وذلتهم أموراً
فالصفة الأولى كونهم مقرنين في الأصفاد يقال قرنت الشيء بالشيء إذا شددته به ووصلته والقرآن اسم للحبل الذي يشد به شيئان وجاء ههنا على التكثير لكثرة أولئك القوم والأصفاد جمع صفد وهو القيد
إذا عرفت هذا فنقول في قوله مُقْرِنِينَ ثلاثة أوجه أحدها قال الكلبي مقرنين كل كافر مع شيطان في غل وقال عطاء هو معنى قوله وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ ( التكوير 70 ) أي قرنت فيقرن الله تعالى نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين وأقول حظ البحث العقلي منه أن(19/116)
الإنسان إذا فارق الدنيا فإما أن يكون قد راض نفسه وهذبها ودعاها إلى معرفة الله تعالى وطاعته ومحبته أو ما فعل ذلك بل تركها متوغلة في اللذات الجسدانية مقبلة على الأحوال الوهمية والخيالية فإن كان الأول فتلك النفس تفارق مع تلك الجهة بالحضرة الإلهية والسعادة بالعناية الصمدانية وإن كان الثاني فتلك النفس تفارق مع الأسف والحزن والبلاء الشديد بسبب الميل إلى عالم الجسم وهذا هو المراد بقوله وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ وشيطان النفس الكافرة هي الملكات الباطلة والحوادث الفاسدة وهو المراد من قول عطاء إن كل كافر مع شيطانه يكون مقروناً في الأصفاد
والقول الثاني في تفسير قوله مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ هو قرن بعض الكفار ببعض والمراد أن تلك النفوس الشقية والأرواح المكدرة الظلمانية لكونها متجانسة متشاكلة ينضم بعضها إلى بعض وتنادي ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى فانحدار كل واحدة منها إلى الأخرى في تلك الظلمات والخسارات هي المراد بقوله مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ
والقول الثالث قال زيد بن أرقم قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال وحظ العقل من ذلك أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء فإذا كانت تلك الملكات ظلمانية كدرة صارت في المثال كأن أيديها وأرجلها قرنت وغلت في رقابها وأما قوله فِى الاْصْفَادِ ففيه وجهان أحدها أن يكون ذلك متعلقاً بمقرنين والمعنى يقربون بالأصفاد والثاني أن لا يكون متعلقاً به والمعنى أنهم مقرنون مقيدون وحظ العقل معلوم مما سلفت الإشارة إليه
الصفة الثانية قوله تعالى سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ السرابيل جمع سربال وهو القميص والقطران فيه ثلاث لغات قطران وقطران وقطرن بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء وبفتح القاف وكسر الطاء وهو شيء يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل الجرب فيحرق الجرب بحرارته وحدته وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف ومن شأنه أن يتسارع فيه اشتعال النار وهو أسود اللون منتن الريح فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلي كالسرابيل وهي القمص فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب لذع القطران وحرقته وإسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح وأيضاً التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين وأقول حظ العقل من هذا أن جوهر الروح جوهر مشرق لامع من عالم القدس وغيبة الجلال وهذا البدن جارٍ مجرى السربال والقميص له وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم فإنما يحصل بسبب هذا البدن فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس لأن الشهوة والحرص والغضب إنما تتسارع إلى جوهر الروح بسببه وكونه للكثافة والكدورة والظلمة هو الذي يخفي لمعان الروح وضوءه وهو سبب لحصول النتن والعفونة فتشبه هذا الجسد بسرابيل من القطران والقطر وقرأ بعضهم مّن قَطِرَانٍ والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره قال أبو بكر بن الأنباري وتلك النار لا تبطل ذلك القطران ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم
الصفة الثالثة قوله تعالى وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ونظيره قوله تعالى أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( الزمر 24 ) وقوله يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( القمر 48 )
واعلم أن موضع المعرفة والنكرة والعلم والجهل هو القلب وموضع الفكر والوهم والخيال هو(19/117)
الرأس وأثر هذه الأحوال إنما تظهر في الوجه فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما فقال في القلب نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة ُ الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَة ِ ( الهمزة 6 7 ) وقال في الوجه وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ بمعنى تتغشى ولما ذكر تعالى هذه الصفات الثلاثة قال لِيَجْزِى َ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ قال الواحدي المراد منه أنفس الكفار لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان وأقول يمكن إجراء اللفظ على عمومه لأن لفظ الآية يدل على أنه تعالى يجزي كل شخص بما يليق بعمله وكسبه ولما كان كسب هؤلاء الكفار الكفر والمعصية كان جزاؤهم هو هذا العقاب المذكور ولما كان كسب المؤمنين الأيمان والطاعة كان اللائق بهم هو الثواب وأيضاً أنه تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم فلأن يثيب المطيعين على طاعتهم كان أولى
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ والمراد أنه تعالى لا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه وحظ العقل منه أن الأخلاق الظلمانية هي المبادي لحصول الآلام الروحانية وحصول تلك الأخلاق في النفس على قدر صدور تلك الأعمال منهم في الحياة الدنيا فإن الملكات النفسانية إنما تحصل في جوهر النفس بسبب الأفعال المتكررة وعلى هذا التقدير فتلك الآلام تتفاوت بحسب تلك الأفعال في كثرتها وقلتها وشدتها وضعفها وذلك يشبه الحساب
ثم قال تعالى هَاذَا بَلَاغٌ لّلنَّاسِ أي هذا التذكير والموعظة بلاغ للناس أي كفاية في الموعظة ثم اختلفوا فقيل إن قوله هذا إشارة إلى كل القرآن وقيل بل إشارة إلى كل هذه السورة وقيل بل إشارة إلى المذكور من قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ إلى قوله سَرِيعُ الْحِسَابِ وأما قوله وَلِيُنذَرُواْ بِهِ فهو معطوف على محذوف أي لينتصحوا وَلِيُنذَرُواْ بِهِ أي بهذا البلاغ
ثم قال وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في هذا الكتاب مراراً أن النفس الإنسانية لها شعبتان القوة النظرية وكمال حالها في معرفة الموجودات بأقسامها وأجناسها وأنواعها حتى تصير النفس كالمرآة التي يتجلى فيها قدس الملكوت ويظهر فيها جلال اللاهوت ورئيس هذه المعارف والجلاء معرفة توحيد الله بحسب ذاته وصفاته وأفعاله
والشعبة الثانية القوة العملية وسعادتها في أن تصير موصوفة بالأخلاق الفاضلة التي تصير مبادي لصدور الأفعال الكاملة عنها ورئيس سعادات هذه القوة طاعة الله وخدمته
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة النظرية وقوله وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة العملية فإن الفائدة في هذا التذكر إنما هو الإعراض عن الأعمال الباطلة والإقبال على الأعمال الصالحة وهذه الخاتمة كالدليل القاطع في أنه لا سعادة للإنسان إلا من هاتين الجهتين
المسألة الثانية هذه الآيات مشعرة بأن التذكير بهذه المواعظ والنصائح يوجب الوقوف على التوحيد والإقبال على العمل الصالح والوجه فيه أن المرء إذا سمع هذه التخويفات والتحذيرات عظم خوفه واشتغل بالنظر والتأمل فوصل إلى معرفة التوحيد والنبوة واشتغل بالأعمال الصالحة(19/118)
المسألة الثالثة قال القاضي أول هذه السورة وآخرها يدل على أن العبد مستقل بفعله إن شاء أطاع وإن شاء عصى أما أول هذه السورة فهو قوله تعالى لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) فإنا قد ذكرنا هناك أن هذا يدل على أن المقصود من إنزال الكتاب إرشاد الخلق كلهم إلى الدين والتقوى ومنعهم عن الكفر والمعصية وأما آخر السورة فلأن قوله وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذه السورة وإنما ذكر هذه النصائح والمواعظ لأجل أن ينتفع الخلق بها فيصيروا مؤمنين مطيعين ويتركوا الكفر والمعصية فظهر أن أول هذه السورة وآخرها متطابقان في إفادة هذا المعنى واعلم أن الجواب المستقصى عنه مذكور في أول السورة فلا فائدة في الإعادة
المسألة الرابعة هذه الآية دالة على أنه لا فضيلة للإنسان ولا منقبة له إلا بسبب عقله لأنه تعالى بين أنه إنما أنزل هذه الكتب وإنما بعث الرسل لتذكير أولى الألباب فلولا الشرف العظيم والمرتبة العالية لأولى الألباب لما كان الأمر كذلك(19/119)
سورة الحجر
مكية إلا آية 87 فمدنية
وآياتها 99 نزلت بعد سورة يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
ال رَ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاٌّ مَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن قوله تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والمراد بالكتاب والقرآن المبين الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وتنكير القرآن للتفخيم والمعنى تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتاباً وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان
أما قوله رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وعاصم رُّبَمَا خفيفة الباء والباقون مشددة قال أبو حاتم أهل الحجاز يخففون ربما وقيس وبكر يثقلونها وأقول في هذه اللفظة لغات وذلك لأن الراء من رب وردت مضمومة ومفتوحة أما إذا كانت مضمومة فالباء قد وردت مشددة ومخففة وساكنة وعلى كل التقديرات تارة مع حرف ما وتارة بدونها وأيضاً تارة مع التاء وتارة بدونها وأنشدوا أسمى ما يدريك أن رب فتية
باكرت لذتهم بأذكر مسرع
ورب بتسكين الباء وأنشدوا بيت الهذلي أزهير أن يشب القذال فإنني
رب هيضل مرس كففت بهيضل
والهيضل جماعة متسلحة وأيضاً هذه الكلمة قد تجيء حالتي تشديد الباء وتخفيفها مع حرف ( ما )(19/120)
كقولك ربما وربما وتارة مع التاء وحرف ( ما ) كقولك ربتما وربتما هذا كله إذا كانت الراء من رب مضمونة وقد تكون مفتوحة فيقال رب وربما وربتما حكاه قطرب قال أبو علي من الحروف ما دخل عليه حرف التأنيث نحو ثم وثمت ورب وربت ولا ولات فهذه اللغات بأسرها رواها الواحدي في ( البسيط )
المسألة الثانية رب حرف جر عند سيبويه ويلحقها ( ما ) على وجهين أحدهما أن تكون نكرة بمعنى شيء وذلك كقوله رب ما تكره النفوس من الأم
ر له فرجة كحل العقال
فما في هذا البيت اسم والدليل عليه عود الضمير إليه من الصفة فإن المعنى رب شيء تكرهه النفوس وإذا عاد الضمير إليه كان اسماً ولم يكن حرفاً كما أن قوله تعالى أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ( المؤمنون 55 ) لما عاد الضمير إليه علمنا بذلك أنه اسم ومما يدل على أن ( ماء ) قد يكون اسماً إذا وقعت بعد رب وقوع من بعدها في قول الشاعر يا رب من ينقص أزوادنا
رحن على نقصانه واغتدين
فكما دخلت رب على كلمة ( من ) وكانت نكرة فكذلك تدخل على كلمة ( ما ) فهذا ضرب والضرب الآخر أن تدخل ما كافة كما في هذه الآية والنحويون يسمون ما هذه الكافة يريدون أنها بدخلوها كفت الحرف عن العمل الذي كان له وإذا حصل هذا الكف فحينئذ تتهيأ للدخول على ما لم تكن تدخل عليه ألا ترى أن رب إنما تدخل على الإسم المفرد نحو رب رجل يقول ذاك ولا تدخل على الفعل فلما دخلت ( ما ) عليها هيأتها للدخول على الفعل كهذه الآية والله أعلم
المسألة الثالثة اتفقوا على أن رب موضوعة للتقليل وهي في التقليل نظيرة كم في التكثير فإذا قال الرجل ربما زارنا فلان دل ربما على تقليله الزيارة قال الزجاج ومن قال إن رب يعني بها الكثرة فهو ضد ما يعرفه أهل اللغة وعلى هذا التقدير فههنا سؤال وهو أن تمني الكافر الإسلام مقطوع به وكلما رب تفيد الظن وأيضاً أن ذلك التمني يكثر ويتصل فلا يليق به لفظة رُّبَمَا مع أنها تفيد التقليل
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن من عادة العرب أنهم إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظاً وضع للتقليل وإذا أرادوا اليقين ذكروا لفظاً وضع للشك والمقصود منه إظهار التوقع والاستغناء عن التصريح بالغرض فيقولون ربما ندمت على ما فعلت ولعلك تندم على فعلك وإن كان العلم حاصلاً بكثرة الندم ووجوده بغير شك ومنه قول القائل
قد أترك القرن مصفراً أنامله
والوجه الثاني في الجواب أن هذا التقليل أبلغ في التهديد ومعناه أنه يكفيك قليل الندم في كونه زاجراً عن هذا الفعل فكيف كثيره
والوجه الثالث في الجواب أن يشغلهم العذاب عن تمني ذاك إلا في القليل(19/121)
المسألة الرابعة اتفقوا على أن كلمة ( رب ) مختصة بالدخول على الماضي كما يقال ربما قصدني عبد الله ولا يكاد يستعمل المستقبل بعدها وقال بعضهم ليس الأمر كذلك والدليل عليه قول الشاعر
ربما تكره النفوس من الأمر
وهذا الاستدلال ضعيف لأنا بينا أن كلمة ( رب ) في هذا البيت داخلة على الإسم وكلامنا في أنها إذا دخلت على الفعل وجب كون ذلك الفعل ماضياً فأين أحدهما من الآخر إلا أني أقول قول هؤلاء الأدباء إنه لا يجوز دخول هذه الكلمة على الفعل المستقبل لا يمكن تصحيحه بالدليل العقلي وإنما الرجوع فيه إلى النقل والاستعمال ولو أنهم وجدوا بيتاً مشتملاً على هذا الاستعمال لقالوا إنه جائز صحيح وكلام الله أقوى وأجل وأشرف فلم لم يتمسكوا بوروده في هذه الآية على جوازه وصحته ثم نقول إن الأدباء أجابوا عن هذا السؤال من وجهين الأول قالوا إن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل ربما ودوا الثاني أن كلمة ( ما ) في قوله رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اسم و يَوَدُّ صفة له والتقدير رب شيء يوده الذين كفروا قال الزجاج ومن زعم أن الآية على إضمار كان وتقديره ربما يود الذين كفروا فقد خرج بذلك عن قول سيبويه ألا ترى أن كان لا تضمر عنده ولم يجز عبد الله المقبول وأنت تريد كان عبد الله المقبول
المسألة الخامسة في تفسير الآية وجوه على مذهب المفسرين فإن كل أحد حمل قوله رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ على محمل آخر والأصح ما قاله الزجاج فإنه قال الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب ورأى حالاً من أحوال المسلم ود لو كان مسلماً وهذا الوجه هو الأصح وأما المتقدمون فقد ذكروا وجوهاً قال الضحاك المراد منه ما يكون عند الموت فإن الكافر إذا شاهد علامات العقاب ود لو كان مسلماً وقيل إن هذه الحالة تحصل إذا اسودت وجوههم وقيل بل عند دخولهم النار ونزول العذاب فإنهم يقولون أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ( إبراهيم 44 ) وروى أبو موسى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء من أهل القبلة قال الكفار لهم ألستم مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار فيتفضل الله تعالى بفضل رحمته فيأمر بإخراج كل من كان من أهل القبلة من النار فيخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) وقرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية وعلى هذا القول أكثر المفسرين وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ما يزال الله يرحم المؤمنين ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بشفاعة الأنبياء والملائكة حتى أنه تعالى في آخر الأمر يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة قال فههنالك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين قال القاضي هذه الروايات مبنية على أنه تعالى يخرج أصحاب الكبائر من النار وعلى أن شفاعة الرسول مقبولة في إسقاط العقاب وهذان الأصلان عنده مردودان فعند هذا حمل هذا الخبر على وجه يطابق قوله ويوافق مذهبه وهو أنه تعالى يؤخر إدخال طائفة من المؤمنين الجنة بحيث يغلب على ظن هؤلاء الكفرة أنه تعالى لا يدخلهم الجنة ثم إنه تعالى يدخلهم الجنة فيزداد غم الكفرة وحسرتهم وهناك يودون لو كانوا مسلمين قال فبهذه الطريق تصحح هذه الأخبار والله أعلم
فإن قيل إذا كان أهل القيامة قد يتمنون أمثال هذه الأحوال وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقل ثوابه(19/122)
درجة المؤمن الذي يكثر ثوابه والمتمني لما لم يجده يكون في الغصة وتألم القلب وهذا يقضي أن يكون أكثر المؤمنين في الغصة وتألم القلب
قلنا أحوال أهل الآخرة لا تقاس بأحوال أهل الدنيا فالله سبحانه أرضى كل أحد بما فيه ونزع عن قلوبهم طلب الزيادات كما قال وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ ( الحجر 47 ) والله أعلم
أما قوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى المعنى دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك أخلاقهم ولا خلاق لهم في الآخرة وقوله وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ يقال لهيت عن الشيء الهى لهياً وجاء في الحديث أن ابن الزبير كان إذا سمع صوت الرعد لهى عن حديثه قال الكسائي والأصمعي كل شيء تركته فقد لهيت عنه وأنشد صرمت حبالك فاله عنها زينب
ولقد أطلت عتابها لو تعتب
فقوله فاله عنها أي اتركها وأعرض عنها قال المفسرون شغلهم الأمل عند الأخذ بحظهم عن الإيمان والطاعة فسوف يعلمون
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذة الآية على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون له مفسدة في الدين والدليل عليه أنه تعالى قال لرسوله ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فحكم بأن إقبالهم على التمتع واستغراقهم في طول الأمل يلهيهم عن الإيمان والطاعة ثم إنه تعالى أذن لهم فيها وذلك يدل على المقصود قالت المعتزلة ليس هذا إذناً وتجويزاً بل هذا تهديد ووعيد
قلنا ظاهر قوله ذَرْهُمْ إذن أقصى ما في الباب أنه تعالى نبه على أن إقبالهم على هذه الأعمال يضرهم في دينهم وهذا عين ما ذكرناه من أنه تعالى أذن في شيء مع أنه نص على كون ذلك الشيء مفسدة لهم في الدين
المسألة الثالثة دلت الآية على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين وعن بعضهم التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين والأخبار في ذم الأمل كثيرة فمنها ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنان الحرص على المال وطول الأمل ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نقط ثلاث وقال ( هذا ابن آدم وهذا الأمل وهذا الأجل ودون الأمل تسع وتسعون منية فإن أخذته إحداهن وإلا فالهرم من ورائه ) وعن علي عليه السلام أنه قال إنما أخشى عليكم اثنين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق والله أعلم
وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ
وفي الآية مسائل(19/123)
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما توعد من قبل من كذب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أتبعه بما يؤكد الزجر وهو قوله تعالى وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ في الهلاك والعذاب وإنما يقع فيه التقديم والتأخير فالذين تقدموا كان وقت هلاكهم في الكتاب معجلاً والذين تأخروا كان وقت هلاكهم في الكتاب مؤخراً وذلك نهاية في الزجر والتحذير
المسألة الثانية قال قوم المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان الله ينزله بالمكذبين المعاندين كما بينه في قوم نوح وقوم هود وغيرهم وقال آخرون المراد بهذا الهلاك الموت قال القاضي والأقرب ما تقدم لأنه في الزجر أبلغ فبين تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل لأن العذاب مدخر فإن لكل أمة وقتاً معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وقال قوم آخرون المراد بهذا الهلاك مجموع الأمرين وهو نزول عذاب الاستئصال ونزول الموت لأن كل واحد منهما يشارك الآخر في كونه هلاكاً فوجب حمل اللفظ على القدر المشترك الذي يدخل فيه القسمان معاً
المسألة الثالثة قال الفراء لو لم تكن الواو مذكورة في قوله وَلَهَا كِتَابٌ كان صواباً كما في آية أخرى وهي قوله وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ( الشعراء 208 ) وهو كما تقول ما رأيت أحداً إلا وعليه ثياب وإن شئت قلت إلا عليه ثياب
أما قوله مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي من في قوله مِنْ أُمَّة ٍ زائدة مؤكدة كقولك ما جاءني من أحد وقال آخرون إنها ليست بزائدة لأنها تفيد التبعيض أي هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد
المسألة الثانية قال صاحب ( النظم ) معنى سبق إذا كان واقعاً على شخص كان معناه أنه جاز وخلف كقولك سبق زيد عمراً أي جازه وخلفه وراءه ومعناه أنه قصر عنه وما بلغه وإذا كان واقعاً على زمان كان بالعكس في ذلك كقولك سبق فلان عام كذا معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه فقوله مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ معناه أنه لا يحصل ذلك الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده بل إنما يحصل في ذلك الوقت بعينه والسبب فيه أن اختصاص كل حادث بوقته المعين دون الوقت الذي قبله أو بعده ليس على سبيل الاتفاق الواقع لا عن مرجح ولا عن مخصص فإن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح محال وإنما اختص حدوثه بذلك الوقت المعين لأن إله العالم خصصه به بعينه وإذا كان كذلك فقدرة الإله وإرادته اقتضتا ذلك التخصيص وعلمه وحكمته تعلقا بذلك الاختصاص بعينه ولما كان تغير صفات الله تعالى أعني القدرة والإرادة والعلم والحكمة ممتنعاً كان تغير ذلك الاختصاص ممتنعاً
إذا عرفت هذا فنقول هذا الدليل بعينه قائم في أفعال العباد أعني أن الصادر من زيد هو الإيمان والطاعة ومن عمرو هو الكفر والمعصية فوجب أن يمتنع دخول التغير فيهما
فإن قالوا هذا إنما يلزم لو كان المقتضي لحدوث الكفر والإيمان من زيد وعمرو هو قدرة الله تعالى ومشيئته أما إذا قلنا المقتضى لذلك هو قدرة زيد وعمرو ومشيئتهما سقط ذلك(19/124)
قلنا قدرة زيد وعمرو مشيئتهما إن كانتا موجبتين لذلك الفعل المعين فخالق تلك القدرة والمشيئة الموجبتين لذلك الفعل هو الذي قدر ذلك الفعل بعينه فيعود الإلزام وإن لم تكونا موجبتين لذلك الفعل بل كانتا صالحتين له ولضده كان رجحان أحد الطرفين على الآخر لم يكن لمرجح فقد عاد الأمر إلى أنه حصل ذلك الاختصاص لا لمخصص وهو باطل وإن كان لمخصص فذلك المخصص إن كان هو العبد عاد البحث ولزم التسلسل وإن كان هو الله تعالى فحينئذ يعود البحث إلى أن فعل العبد إنما تعين وتقدر بتخصيص الله تعالى وحينئذ لا يعود الإلزام
المسألة الثالثة دلت الآية على أن كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله وأن من قال يجوز بأن يموت قبل أجله فمخطى ء
فإن قالوا هذا الاستدلال إنما يتم إذا حملنا قوله وَمَآ أَهْلَكْنَا على الموت أما إذا حملناه على عذاب الاستئصال فكيف يلزم
قلنا قوله وَمَآ أَهْلَكْنَا إما أن يدخل تحته الموت أو لا يدخل فإن دخل الاستدلال ظاهر لازم وإن لم يدخل فنقول إن ما لأجله وجب في عذاب الاستئصال أن لا يتقدم ولا يتأخر عن وقته المعين قائم في الموت فوجب أن يكون الحكم ههنا كذلك والله أعم
وَقَالُواْ ياأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة ِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَة َ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد الكفار ذكر بعده شبههم في إنكار نبوته
فالشبهة الأولى أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون وفيه احتمالات الأول أنه عليه السلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون والدليل عليه قوله وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ ( القلم 51 52 ) وأيضاً قوله أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّة ٍ ( الأعراف 184 ) والثاني أنم كانوا يستبعدون كونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى فالرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره فربما قال له هذا جنون وأنت مجنون لبعد ما يذكره من طريقة العقل وقوله إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ في هذه الآية يحتمل الوجهين
أما قوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ففيه وجهان الأول أنهم ذكروه على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) وكما قال قوم شعيب إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( هود 87 ) وكما قال تعالى فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) لأن البشارة(19/125)
بالعذاب ممتنعة والثاني وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ في زعمه واعتقاده وعند أصحابه وأتباعه ثم حكى عنهم أنهم قالوا في تقرير شبههم لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد لو كنت صادقاً في ادعاء النبوة لأتيتنا بالملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدعيه من الرسالة لأن المرسل الحكيم إذا حاول تحصيل أمر وله طريق يفضي إلى تحصيل ذلك المقصود قطعاً وطريق آخر قد يفضي وقد لا يفضي ويكون في محل الشكوك والشبهات فإن كان ذلك الحكيم أراد تحصيل ذلك المقصود فإنه يحاول تحصيله بالطريق الأول لا بالطريق الثاني وإنزال الملائكة الذين يصدقونك ويقررون قولك طريق يفضي إلى حصول هذا المقصود قطعاً والطريق الذي تقرر به صحة نبوتك طريق في محل الشكوك والشبهات فلو كنت صادقاً في ادعاء النبوة لوجب في حكمة الله تعالى إنزال الملائكة الذين يصرحون بتصديقك وحيث لم تفعل ذلك علمنا أنك لست من النبوة في شيء فهذا تقرير هذه الشبهة ونظيرها قوله تعالى في سورة الأنعام وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْكَ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاْمْرُ ( الأنعام 8 ) وفيه احتمال آخر وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخوفهم بنزول العذاب إن لم يؤمنوا به فالقوم طالبوه بنزول العذاب وقالوا له لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ الذين ينزلون عليك ينزلون علينا بذلك العذاب الموعود وهذا هو المراد بقوله تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ الْعَذَابُ ( العنكبوت 53 ) ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله مَا نُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ إِلاَّ بِالحَقّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ فنقول إن كان المراد من قولهم لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ هو الوجه الأول كان تقرير هذا الجواب أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وعند حصول الفائدة وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل عليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم وعلى هذا التقرير فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً ولا يكون حقاً فلهذا السبب ما أنزلهم الله تعالى وقال المفسرون المراد بالحق ههنا الموت والمعنى أنهم لا ينزلون إلا بالموت وإلا بعذاب الاستئصال ولم يبق بعد نزولهم إنظار ولا إمهال ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة وأما إن كان المراد من قوله تعالى لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ استعجالهم في نزول العذاب الذي كان الرسول عليه السلام يتوعدهم به فتقرير الجواب أن الملائكة لا تنزل إلا بعذاب الاستئصال وحكمنا في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا نفعل بهم ذلك وأن نمهلهم لما علمنا من إيمان بعضهم ومن إيمان أولاد الباقين
المسألة الثانية قال الفراء والزجاج لولا ولو ما لغتان معناهما هلا ويستعملان في الخبر والاستفهام فالخبر مثل قولك لولا أنت لفعلت كذا ومنه قوله تعالى لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( سبأ 31 ) والاستفهام كقولهم لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( الأنعام 8 ) وكهذه الآية وقال الفراء لو ما الميم فيه بدل عن اللام في لولا ومثله استولى على الشيء واستومى عليه وحكى الأصمعي خاللته وخالمته إذا صادقته وهو خلى وخلمي أي صديقي
المسألة الثالثة قوله مَا نُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ إِلاَّ بِالحَقّ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم مَا نُنَزّلُ بالنون وبكسر الزاي والتشديد والملائكة بالنصب لوقوع الإنزال عليها والمنزل هو الله تعالى وقرأ أبو بكر عن عاصم مَا تُنَزَّلَ عن فعل ما لم يسمى فاعله والملائكة بالرفع والباقون ما تنزل الملائكة على إسناد فعل النزول إلى الملائكة والله أعلم(19/126)
المسألة الرابعة قوله وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ يعني لو نزلت الملائكة لم ينظروا أي يمهلوا فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة قال صاحب ( النظم ) لفظ اذن مركبة من كلمتين من إذا وهو اسم بمنزلة حين ألا ترى أنك تقول أتيتك إذ جئتني أي حين جئتني ثم ضم إليها أن فصار إذ أن ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها فصار إذن ومجيء لفظة إذن دليل على اضمار فعل بعدها والتقدير وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا وهذا تأويل حسن
ثم قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن القوم إنما قالوا وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ ( الحجر 6 ) لأجل أنهم سمعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول ( إن الله تعالى نزل الذكر علي ) ثم إنه تعالى حقق قوله في هذه الآية فقال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
فأما قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ فهذه الصيغة وإن كانت للجمع إلا أن هذا من كلام الملوك عند إظهار التعظيم فإن الواحد منهم إذا فعل فعلاً أو قال قولاً قال إنا فعلنا كذا وقلنا كذا فكذا ههنا
المسألة الثانية الضمير في قوله لَهُ لَحَافِظُونَ إلى ماذا يعود فيه قولان
القول الأول أنه عائد إلى الذكر يعني وإنا نحفظ ذلك الذكر من التحريف والزيادة والنقصان ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ( فصلت 42 ) وقال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 )
فإن قيل فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله فلا خوف عليه
والجواب أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أن حفظه قيضهم لذلك قال أصحابنا وفي هذه الآية دلالة قوية على كون التسمية آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد بحفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كان القرآن مصوناً عن التغيير ولما كان محفوظاً عن الزيادة ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أيضاً أن يظن بهم النقصان وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة
والقول الثاني أن الكناية في قوله لَهُ راجعة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى وإنا لمحمد لحافظون وهو قول الفراء وقوى ابن الأنباري هذا القول فقال لما ذكر الله الإنزال والمنزل دل ذلك على المنزل عليه فحسنت الكناية عنه لكونه أمراً معلوماً كما في قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) فإن هذه الكناية عائدة إلى القرآن مع أنه لم يتقدم ذكره وإنما حسنت الكناية للسبب المعلوم فكذا ههنا إلا أن القول الأول أرجح القولين وأحسنهما مشابهة لظاهر التنزيل والله أعلم
المسألة الثالثة إذا قلنا الكناية عائدة إلى القرآن فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن قال بعضهم حفظه بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان عنه لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا عنه لتغير نظم القرآن فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن فصار كونه معجزاً كإحاطة السور(19/127)
بالمدينة لأنه يحصنها ويحفظها وقال آخرون إنه تعالى صانه وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته وقال آخرون أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه ويشهرونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف وقال آخرون المراد بالحفظ هو أن أحداً لو حاول تغييره بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا هذا كذب وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا وكذا فهذا هو المراد من قوله وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير إما في الكثير منه أو في القليل وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التحريف مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات وأيضاً أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظاً عن التغيير والتحريف وانقضى الآن قريباً من ستمائة سنة فكان هذا إخباراً عن الغيب فكان ذلك أيضاً معجزاً قاهراً
المسألة الرابعة احتج القاضي بقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ على فساد قول بعض الإمامية في أن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان قال لأنه لو كان الأمر كذلك لما بقي القرآن محفوظاً وهذا الاستدلال ضعيف لأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه فالإمامية الذين يقولون إن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان لعلهم يقولون إن هذه الآية من جملة الزوائد التي ألحقت بالقرآن فثبت أن إثبات هذا المطلوب بهذه الآية يجري مجرى إثبات الشيء نفسه وأنه باطل والله أعلم
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الاٌّ وَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّة ُ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أن القوم لما أساؤوا في الأدب وخاطبوه بالسفاهة وقالوا إنك لمجنون فالله تعالى ذكر أن عادة هؤلاء(19/128)
الجهال مع جميع الأنبياء هكذا كانت ولك أسوة في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم بجميع الأنبياء عليهم السلام فهذا هو الكلام في نظم الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية محذوف والتقدير ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه وقوله فِى شِيَعِ الاْوَّلِينَ أي في أمم الأولين وأتباعهم قال الفراء الشيع الأتباع واحدهم شيعة وشيعة الرجل أتباعه والشيعة الأمة سموا بذلك لأن بعضهم شايع بعضاً وشاكله وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ( الأنعام 65 ) قال الفراء وقوله فِى شِيَعِ الاْوَّلِينَ من إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله لَحَقُّ الْيَقِينِ ( الحاقة 51 ) وقوله بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) وقوله وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ ( البينة 5 ) أما قوله وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ أي عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء والرسل ذلك الاستهزاء بهم كما فعلوا بك ذكره تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم )
واعلم أن السبب الذي يحمل هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة أمور الأول أنهم يستثقلون التزام الطاعات والعبادات والاحتراز عن الطيبات واللذات والثاني أن الرسول يدعوهم إلى ترك ما ألفوه من أديانهم الخبيثة ومذاهبهم الباطلة وذلك شاق شديد على الطباع والثالث أن الرسول متبوع مخدوم والأقوام يجب عليهم طاعته وخدمته وذلك أيضاً في غاية المشقة والرابع أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قد يكون فقيراً ولا يكون له أعوان وأنصار ولا مال ولا جاه فالمتنعمون والرؤساء يثقل عليهم خدمة من يكون بهذه الصفة والخامس خذلان الله لهم وإلقاء دواعي الكفر والجهل في قلوبهم وهذا هو السبب الأصلي فلهذه الأسباب وما يشبهها تقع الجهال والضلال مع أكابر الأنبياء عليهم السلام في هذه الأعمال القبيحة والأفعال المنكرة
أما قوله تعالى يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى السلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط والرمح في المطعون وقيل في قوله مَا سَلَكَكُمْ فِى سَفَرٍ ( المدثر 42 ) أي أدخلكم في جهنم وذكر أبو عبيدة وأبو عبيد سلكته وأسلكته بمعنى واحد
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار فقالوا قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ أي كذلك نسلك الباطل والضلال في قلوب المجرمين قالت المعتزلة لم يجر للضلال والكفر ذكر فيما قبل هذا اللفظ فلا يمكن أن يكون الضمير عائداً إليه لا يقال إنه تعالى قال وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وقوله يَسْتَهْزِئُونَ يدل على الاستهزاء فالضمير في قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائد إليه والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال فثبت صحة قولنا المراد من قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ هو أنه كذلك نسلك الكفر والضلال والاستهزاء بأنبياء الله تعالى ورسله في قلوب المجرمين لأنا نقول إن كان الضمير في قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائداً إلى الاستهزاء وجب أن يكون الضمير في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ عائداً أيضاً إلى الاستهزاء لأنهما ضميران تعاقبا وتلاصقا فوجب عودهما إلى شيء واحد فوجب أن لا يكونوا مؤمنين بذلك الاستهزاء وذلك يوجب التناقض لأن الكافر لا بد وأن يكون مؤمناً بكفره والذي لا يكون كذلك هو المسلم العالم ببطلان الكفر فلا يصدق به وأيضاً فلو كان تعالى هو الذي يسلك الكفر في قلب الكافر ويخلقه فيه فما أحد أولى بالعذر من هؤلاء الكفار ولكان على هذا التقدير يمتنع أن يذمهم في الدنيا وأن يعاقبهم في الآخرة عليه فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على هذ الوجه فنقول التأويل الصحيح أن الضمير في قوله تعالى كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائد إلى الذكر الذي هو القرآن فإنه تعالى قال قبل هذه الآية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وقال بعده كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ أي هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ويخلق فيها العلم بمعانيه وبين أنهم لجهلهم وإصرارهم لا يؤمنون به مع هذه الأحوال عناداً وجهلاً فكان هذا موجباً للحوق الذم الشديد بهم ويدل على صحة هذا التأويل وجهان الأول أن الضمير في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ عائد إلى القرآن بالإجماع فوجب أن يكون الضمير في قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائداً إليه أيضاً لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد والثاني أن قوله كَذالِكَ معناه مثل ما(19/129)
عملنا كذا وكذا نعمل هذا السلك فيكون هذا تشبيهاً لهذا السلك بعمل آخر ذكره الله تعالى قبل هذه الآية من أعمال نفسه ولم يجر لعمل من أعمال الله ذكر في سابقة هذه الآية إلا قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ فوجب أن يكون هذا معطوفاً عليه ومشبهاً به ومتى كان الأمر كذلك كان الضمير في قوله نَسْلُكُهُ عائداً إلى الذكر وهذا تمام تقرير كلام القوم
والجواب لا يجوز أن يكون الضمير في قوله نَسْلُكُهُ عائداً على الذكر ويدل عليه وجوه
الوجه الأول أن قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ مذكور بحرف النون والمراد منه إظهار نهاية التعظيم والجلالة ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلاً يظهر له أثر قوي كامل بحيث صار المنازع والمدافع له مغلوباً مقهوراً فأما إذا فعل فعلاً ولم يظهر له أثر ألبتة صار المنازع والمدافع غالباً قاهراً فإن ذكر اللفظ المشعر بنهاية العظمة والجلالة يكون مستقبحاً في هذا المقام والأمر ههنا كذلك لأنه تعالى سلك أسماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله تعالى كالهدر الضائع وصار الكافر والشيطان كالغالب الدافع وإذا كان كذلك كان ذكر النون المشعر بالعظمة والجلالة في قوله نَسْلُكُهُ غير لائق بهذا المقام فثبت بهذا التأويل الذي ذكروه فاسد
والوجه الثاني أنه لو كان المراد ما ذكروه لوجب أن يقال كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ولا يؤمنون به أي ومع هذا السعي العظيم في تحصيل إيمانهم لا يمؤمنون أما ما لم يذكر الواو فعلمنا أن قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ كالتفسير والبيان لقوله نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وهذا إنما يصح إذا كان المراد أنا نسلك الكفر والضلال في قلوبهم
والوجه الثالث أن قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) بعيد وقوله يَسْتَهْزِئُونَ قريب وعود الضمير إلى أقرب المذكورات هو الواجب أما قوله لو كان الضمير في قوله نَسْلُكُهُ عائداً إلى الاستهزاء لكان في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ عائداً إليه وحينئذ يلزم التناقض
قلنا الجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن مقضتى الدليل عود الضمير إلى أقرب المذكورات ولا مانع من اعتبار هذا الدليل في الضمير الأول وحصل المانع من اعتباره في الضمير الثاني فلا جرم قلنا الضمير الأول عائد إلى الاستهزاء والضمير الثاني عائد إلى الذكر وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة ليس بقليل في القرآن أليس أن الجبائي والكعبي والقاضي قالوا في قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( الأعراف 189 190 ) فقالوا هذه الضمائر من أول الآية إلى قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء عائدة إلى آدم وحواء وأما في قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ عائدة إلى غيرهما فهذا ما اتفقوا عليه في تفاسيرهم وإذا ثبت هذا ظهر أنه لا يلزم من تعاقب الضمائر عودها إلى شيء واحد بل الأمر فيه موقوف على الدليل فكذا ههنا والله أعلم(19/130)
والوجه الثاني في الجواب قال بعض الأدباء من أصحابنا قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ تفسير للكناية في قوله نَسْلُكُهُ والتقدير كذلك نسلك في قلوب المجرمين أن لا يؤمنوا به والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به
والوجه الثالث وهو أنا بينا بالبراهين العقلية القاهرة أن حصول الإيمان والكفر يمتنع أن يكون بالعبد وذلك لأن كل أحد إنما يريد الإيمان والصدق والعلم والحق وأن أحداً لا يقصد تحصيل الكفر والجهل والكذب فلما كان كل أحد لا يقصد إلا الإيمان والحق ثم إنه لايحصل ذلك وإنما يحصل الكفر والباطل علمنا أن حصول ذلك الكفر ليس منه
فإن قالوا إنما حصل ذلك الكفر لأنه ظن أنه هو الإيمان فنقول فعلى هذا التقدير إنما رضي بتحصيل ذلك الجهل لأجل جهل آخر سابق عليه فينقل الكلام إلى ذلك الجهل السابق فإن كان ذلك لأجل جهل آخر لزم التسلسل وهو محال وإلا وجب انتهاء كل الجهالات إلى جهل أول سابق حصل في قلبه لا بتحصيله بل بتخليق الله تعالى وذلك هو الذي قلناه أن المراد من قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به وهو أنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها وأيضاً قدماء المفسرين مثل ابن عباس وتلامذته أطبقوا على تفسير هذه الآية بأنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها والتأويل الذي ذكره المعتزلة تأويل مستحدث لم يقل به أحد من المتقدمين فكان مردوداً وروى القاضي عن عكرمة أن المراد كذلك نسلك القسوة في قلوب المجرمين ثم قال القاضي إن القسوة لا تحصل إلا من قبل الكافر بأن يستمر على كفره ويعاند فلا يصح إضافته إلى الله تعالى فيقال للقاضي إن هذا يجري مجرى المكابرة وذلك لأن الكافر يجد من نفسه نفرة شديدة عن قبول قول الرسول ونبوة عظيمة عنه حتى أنه كلما رآه تغير لونه واصفر وجهه وربما ارتعدت أعضاؤه ولا يقدر على الالتفات إليه والاصغاء لقوله فحصول هذه الأحوال في قلبه أمر اضطراري لا يمكنه دفعها عن نفسه فكيف يقال إنها حصلت بفعله واختياره
فإن قالوا إنه يمكنه ترك هذه الأحوال والرجوع إلى الانقياد والقبول فنقول هذا مغالطة محضة لأنك إن أردت أنه مع حصول هذه النفرة الشديدة في القلب والنبوة العظيمة في النفس يمكنه أن يعود إلى الإنقياد والقبول والطاعة والرضا فهذا مكابرة وإن أردت أن عند زوال هذه الأحوال النفسانية يمكنه العود إلى القبول والتسليم فهذا حق إلا أنه لا يمكنه إزالة هذه الدواعي والصوارف عن القلب فإنه إن كان الفاعل لها هو الإنسان لافتقر في تحصيل هذه الدواعي والصوارف إلى دواعي سابقة عليها ولزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال وإن كان الفاعل لها هو الله تعالى فحينئذ يصح أنه تعالى هو الذي يسلك هذه الدواعي والصوارف في القلوب وذلك عين ما ذكرناه والله أعلم
أما قوله تعالى وَقَدْ خَلَتْ سُنَّة ُ الاْوَّلِينَ ففيه قولان الأول أنه تهديد لكفار مكة يقول قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل في القرون الماضية الثاني وهو قول الزجاج وقد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم وهذا أليق بظاهر اللفظ(19/131)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ
اعلم أن هذا الكلام هو المذكور في سورة الأنعام في قوله وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( الأنعام 7 ) والحاصل أن القوم لما طلبوا نزول ملائكة يصرحون بتصديق الرسول عليه السلام في كونه رسولاً من عند الله تعالى بين الله تعالى في هذه الآية أن بتقدير أن يحصل هذا المعنى لقال الذين كفروا هذا من باب السحر وهؤلاء الذين يظن أنا نراهم فنحن في الحقيقة لا نراهم والحاصل أنه لما علم الله تعالى أنه لا فائدة في نزول الملائكة فلهذا السبب ما أنزلهم
فإن قيل كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يصيروا شاكرين في وجود ما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح ولو جاز حصول الشك في ذلك كانت السفسطة لازمة ولا يبقى حينئذ اعتماد على الحس والمشاهدة
أجاب القاضي عنه بأنه تعالى ما وصفهم بالشك فيما يبصرون وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول وقد يجوز أن يقدم الإنسان على الكذب على سبيل العناد والمكابرة ثم سأل نفسه وقال أفيصح من الجمع العظيم أن يظهروا الشك في المشاهدات وأجاب بأنه يصح ذلك إذا جمعهم عليه غرض صحيح معتبر من مواطأة على دفع حجة أو غلبة خصم وأيضاً فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصومين سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إنزال الملائكة وهذا السؤال ما كان إلا من رؤساء القوم وكانوا قليلي العدد وإقدام العدد القليل على ما يجري مجرى المكابرة جائز
المسألة الثانية قوله تعالى فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ يقال ظل فلان نهاره يفعل كذا إذا فعله بالنهار ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل عمل بالنهار كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل والمصدر الظلول وقوله فِيهِ يَعْرُجُونَ يقال عرج يعرج عروجاً ومنه المعارج وهي المصاعد التي يصعد فيها وللمفسرين في هذه الآية قولان
القول الأول أن قوله فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ من صفة المشركين قال ابن عباس رضي الله عنهما لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله
القول الثاني أن هذه العروج للملائكة والمعنى أنه تعالى لو جعل هؤلاء الكفار بحيث يروا أبواباً من السماء مفتوحة وتصعد منها الملائكة وتنزل لصرفوا ذلك عن وجهه ولقالوا إن السحرة سحرونا وجعلونا(19/132)
بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها وقوله لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير سُكّرَتْ بالتخفيف والباقون مشددة الكاف قال الواحدي سكرت غشيت وسددت بالسحر هذا قول أهل اللغة قالوا وأصله من السكر وهو سد الشق لئلا ينفجر الماء فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري والتشديد يوجب زيادة وتكثيراً وقال أبو عمرو بن العلاء هو مأخوذ من سكر الشراب يعني أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل فإذا كان هذا معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد أخرى وقال أبو عبيدة سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا أي غشيت أبصارنا فوجب سكونها وبطلانها وعلى هذا القول أصله من السكون يقال سكرت الريح سكراً إذا سكنت وسكر الحر يسكر وليلة ساكرة لا ريح فيها وقال أوس جذلت على ليلة ساهرة
فليست بطلق ولا ساكره
ويقال سكرت عينه سكراً إذا تحيرت وسكنت عن النظر وعلى هذا معنى سكرت أبصارنا أي سكنت عن النظر وهذا القول اختيار الزجاج وقال أبو علي الفارسي سكرت صارت بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها وكان معنى السكر قطع الشيء عن سننه الجاري فمن ذلك تسكير الماء وهو رده عن سننه في الجرية والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في الصحو فهذه أقوال أربعة في تفسير سُكّرَتْ وهي في الحقيقة متقاربة والله أعلم
المسألة الثانية قال الجبائي من جوز قدرة السحرة على أن يأخذوا بأعين الناس حتى يروهم الشيء على خلاف ما هو عليه لم يصح إيمانه بالأنبياء والرسل وذلك لأنهم إذا جوزوا ذلك فلعل هذا الذي يرى أنه محمد بن عبد الله ليس هو ذلك الرجل وإنما هو شيطان ولعل هذه المعجزات التي نشاهدها ليس لها حقائق بل هي تكون من باب الآراء الباطلة من ذلك الساحر وإذا حصل هذا التجويز بطل الكل والله أعلم
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة منكري النبوة وكان قد ثبت أن القول بالنبوة مفرع على القول بالتوحيد أتبعه تعالى بدلائل التوحيد ولما كانت دلائل التوحيد منها سماوية ومنها أرضية بدأ منها بذكر الدلائل السماوية فقال وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ قال الليث البرج واحد من بروج الفلك والبروج جمع وهي اثنا عشر برجاً ونظيره قوله تعالى تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً ( الفرقان 61 )(19/133)
وقال وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ( البروج 1 ) ووجه دلالتها على وجود الصانع المختار هو أن طبائع هذه البروج مختلفة على ما هو متفق عليه بين أرباب الأحكام وإذا كان الأمر كذلك فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة في الماهية والأبعاض المختلفة في الحقيقة وكل مركب فلا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء والأبعاض بحسب الاختيار والحكمة فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار وهو المطلوب وأما قوله وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ فقد استقصينا الكلام فيه في سورة الملك في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 ) فلا نعيد ههنا إلا القدر الذي لا بد منه قوله وَزَيَّنَّاهَا أي بالشمس والقمر والنجوم لِلنَّاظِرِينَ أي للمعتبرين بها والمستدلين بها على توحيد صانعها وقوله وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
فإن قيل ما معنى وحفظناها من كل شيطان رجيم والشيطان لا قدرة له على هدم السماء فأي حاجة إلى حفظ السماء منه
قلنا لما منعه من القرب منها فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان فحفظ الله السماء منهم كما قد يحفظ منازلنا عن متجسس يخشى منه الفساد ثم نقول معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة ثم قيل للقتيل رجم تشبيهاً له بالرجم بالحجارة والرجم أيضاً السب والشتم لأنه رمي بالقول القبيح ومنه قوله لارْجُمَنَّكَ أي لأسبنك والرجم اسم لكل ما يرمى به ومنه قوله وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 ) أي مرامي لهم والرجم القول بالظن ومنه قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ ( الكهف 22 ) لأنه يرميه بذلك الظن والرجم أيضاً اللعن والطرد وقوله الشيطان الرجيم قد فسروه بكل هذه الوجوه قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت الشياطين لا تحجب عن السموات فكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها إلى الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاثة سموات فلما ولد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منعوا من السموات كلها فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع رمى بشهاب وقوله إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ لا يمكن حمل لفظة إِلا ههنا على الاستثناء بدليل أن إقدامهم على استراق السمع لا يخرج السماء من أن تكون محفوظة منهم إلا أنهم ممنوعون من دخولها وإنما يحاولون القرب منها فلا يصح أن يكون استثناء على التحقيق فوجب أن يكون معناه لكن من استرق السمع قال الزجاج موضع مِنْ نصب على هذا التقدير قال وجائز أن يكون في موضع خفض والتقدير إلا ممن قال ابن عباس في قوله إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ يريد الخطفة اليسيرة وذلك لأن المارد من الشياطين يعلو فيرمى بالشهاب فيحرقه ولا يقتله ومنهم من يحيله فيصير غولاً يضل الناس في البراري وقوله فَأَتْبَعَهُ ذكرنا معناه في سورة الأعراف في قصة بلعم بن باعورا في قوله فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ( الأعراف 175 ) معناه لحقه والشهاب شعلة نار ساطع ثم يسمى الكواكب شهاباً والسنان شهاباً لأجل أنهما لما فيهما من البريق يشبهان النار
واعلم أن في هذا الموضع أبحاثاً دقيقة ذكرناها في سورة الملك وفي سورة الجن ونذكر منها ههنا إشكالاً واحداً وهو أن لقائل أن يقول إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السموات ويختلط بالملائكة ويسمع أخبار الغيوب عنهم ثم إنها تنزل وتلقي تلك الغيوب على الكهنة فعلى هذا التقدير وجب(19/134)
أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزاً لأن كل غيب يخبر عنه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قام فيه هذا الاحتمال وحينئذ يخرج عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق لا يقال إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنا نقول هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمد رسولاً وكون القرآن حقاً والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز وكون الإخبار عن الغيب معجزاً لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو باطل محال ويمكن أن يجاب عنه بأنا نثبت كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رسولاً بسائر المعجزات ثم بعد العلم بنبوته نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيوب معجز وبهذا الطريق يندفع الدور والله أعلم
وَالاٌّرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَى ْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ
علم أنه تعالى لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع
النوع الأول قوله تعالى وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا قال ابن عباس بسطناها على وجه الماء وفيه احتمال آخر وذلك لأن الأرض جسم والجسم هو الذي يكون ممتداً في الجهات الثلاثة وهي الطول والعرض والثخن وإذا كان كذلك فتمدد جسم الأرض في هذه الجهات الثلاثة مختص بمقدار معين لما ثبت أن كل جسم فإنه يجب أن يكون متناهياً وإذا كان كذلك كان تمدد جسم الأرض مختصاً بمقدار معين مع أن الإزدياد عليه معقول والانتقاص عنه أيضاً معقول وإذا كان كذلك كان اختصاص ذلك التمدد بذلك القدر المقدر مع جواز حصول الأزيد والأنقص اختصاصاً بأمر جائز وذلك يجب أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهو الله سبحانه وتعالى
فإن قيل هل يدل قوله وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا على أنها بسيطة
قلنا نعم لأن الأرض بتقدير كونها كرة فهي كرة في غاية العظمة والكرة العظيمة يكون كل قطعة صغيرة منها إذا نظر إليها فإنها ترى كالسطح المستوي وإذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال والدليل عليه قوله تعالى وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( النبأ 7 ) سماها أوتاداً مع أنه قد يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية فكذا ههنا
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ وهي الجبال الثوابت واحدها راسي والجمع راسية وجمع الجمع رواسي وهو كقوله تعالى وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( النحل 15 ) وفي تفسيره وجهان
الوجه الأول قال ابن عباس لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله(19/135)
تعالى بالجبال الثقال لكيلا تميل بأهلها
فإن قيل أتقولون إنه تعالى خلق الأرض بدون الجبال فمالت بأهلها فخلق فيها الجبال بعد ذلك أو تقولون إن الله خلق الأرض والجبال معاً
قلنا كلا الوجهين محتمل
والوجه الثاني في تفسير قوله وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال وهذا الوجه ظاهر الاحتمال
النوع الثالث من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَى ْء مَّوْزُونٍ وفيه بحثان
البحث الأول أن الضمير في قوله وَأَنبَتْنَا فِيهَا يحتمل أن يكون راجعاً إلى الأرض وأن يكون راجعاً إلى الجبال الرواسي إلا أن رجوعه إلى الأرض أولى لأن أنواع النبات المنتفع بها إنما تتولد في الأراضي فأما الفواكه الجبلية فقليلة النفع ومنهم من قال رجوع ذلك الضمير إلى الجبال أولى لأن المعادن إنما تتولد في الجبال والأشياء الموزونة في العرف والعادة هي المعادن لا النبات
البحث الثاني اختلفوا في المراد بالموزون وفيه وجوه
الوجه الأول أن يكون المراد أنه متقدر بقدر الحاجة قال القاضي وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى يعلم المقدار الذي يحتاج إليه الناس وينتفعون به فينبت تعالى في الأرض ذلك المقدار ولذلك أتبعه بقوله وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ لأن ذلك الرزق الذي يظهر بالنبات يكون معيشة لهم من وجهين الأول بحسب الأكل والانتفاع بعينه والثاني أن ينتفع بالتجارة فيه والقائلون بهذا القول قالوا الوزن إنما يراد لمعرفة المقدار فكان إطلاق لفظ الوزن لإرادة معرفة المقدار من باب اطلاق اسم السبب على المسبب قالوا ويتأكد ذلك أيضاً بقوله تعالى وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ( الرعد 8 ) وقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( الحجر 21 )
والوجه الثاني في تفسير هذا اللفظ أن هذا العالم عالم الأسباب والله تعالى إنما يخلق المعادن والنبات والحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم فلا بد وأن يحصل من الأرض قدر مخصوص ومن الماء والهواء كذلك ومن تأثير الشمس والكواكب في الحر والبرد مقدار مخصوص ولو قدرنا حصول الزيادة على ذلك القدر المخصوص أو النقصان عنه لم تتولد المعادن والنبات والحيوان فالله سبحانه وتعالى قدرها على وجه مخصوص بقدرته وعلمه وحكمته فكأنه تعالى وزنها بميزان الحكمة حتى حصلت هذه الأنواع
والوجه الثالث في تفسير هذا اللفظ أن أهل العرف يقولون فلان موزون الحركات أي حركات متناسبة حسنة مطابقة للحكمة وهذا الكلام كلام موزون إذا كان متناسباً حسناً بعيداً عن اللغو والسخف فكان المراد منه أنه موزون بميزان الحكمة والعقل وبالجملة فقد جعلوا لفظ الموزون كناية عن الحسن والتناسب فقوله وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَى ْء مَّوْزُونٍ أي متناسب محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن(19/136)
واللطافة ومطابقة المصلحة
والوجه الرابع في تفسير هذا اللفظ أن الشيء الذي ينبت من الأرض نوعان المعادن والنبات أما المعادن فهي بأسرها موزونة وهي الأجساد السبعة والأحجار والأملاح والزاجات وغيرها وأما النبات فيرجع عاقبتها إلى الوزن لأن الحبوب توزن وكذلك الفواكه في الأكثر والله أعلم وقوله تعالى وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ فيه مسألتان
المسألة الأولى ذكرنا الكلام في المعايش في سورة الأعراف وقوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ فيه قولان
القول الأول أنه معطوف على محل لكم والتقدير وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين
والقول الثاني أنه عطف على قوله مَعَايِشَ والتقدير وجعلنا لكم معايش ومن لستم له برازقين وعلى هذا القول ففيه احتمالات ثلاثة
الاحتمال الأول أن كلمة ( من ) مختصة بالعقلاء فوجب أن يكون المراد من قوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ العقلاء وهم العيال والمماليك والخدم والعبيد وتقرير الكلام أن الناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد وذلك خطأ فإن الله هو الرزاق يرزق الخادم والمخدوم والمملوك والمالك فإنه لولا أنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق
والاحتمال الثاني وهو قول الكلبي قال المراد بقوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ الوحش والطير
فإن قيل كيف يصح هذا التأويل مع أن صيغة من مختصة بمن يعقل
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن صيغة من قد وردت في غير العقلاء والدليل عليه قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ ( النور 45 ) والثاني أنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله حيث قال وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ( هود 6 ) فكأنها عند الحاجة تطلب أرزاقها من خالقها فصارت شبيهة بمن يعقل من هذه الجهة فلم يبعد ذكرها بصيغة من يعقل ألا ترى أنه قال نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النحل 18 ) فذكرها بصيغة جمع العقلاء وقال في الأصنام فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ( الشعراء 77 ) وقال كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) فكذا ههنا لا يبعد إطلاق اللفظة المختصة بالعقلاء على الوحش والطير لكونها شبيهة بالعقلاء من هذه الجهة وسمعت في بطن الحكايات أنه قلت المياه في الأودية والجبال واشتد الحر في عام من الأعوام فحكى عن بعضهم أنه رأى بعض الوحش رافعاً رأسه إلى السماء عند اشتداد عطشه قال فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت بحيث امتلأت الأودية منها
والاحتمال الثالث أنا نحمل قوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ على الإماء والعبيد وعلى الوحش والطير وإنما أطلق عليها صيغة من تغليباً لجانب العقلاء على غيرهم
المسألة الثانية قوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ لا يجوز أن يكون مجروراً عطفاً على الضمير المجرور(19/137)
في لكم لأنه لا يعطف على الضمير المجرور لا يقال أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 )
واعلم أن هذا المعنى جائز على قراءة من قرأ تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) بالخفض وقد ذكرنا هذه المسألة هنالك والله أعلم
وَإِن مِّن شَى ْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه أنبت في الأرض كل شيء موزون وجعل فيها معايش أتبعه بذكر ما هو كالسبب لذلك فقال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ
وهذا هو النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه السورة على تقرير التوحيد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الخزائن جمع الخزانة وهو اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ والخزانة أيضاً عمل الخازن ويقال خزن الشيء يخزنه إذا أحرزه في خزانة وعامة المفسرين على أن المراد بقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ مّنْ عِنْدِنَا خَزَائِنُهُ هو المطر وذلك لأنه هو السبب للأرزاق ولمعايش بني آدم وغيرهم من الطيور والوحوش فلما ذكر تعالى أنه يعطيهم المعايش بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده أي في أمره وحكمه وتدبيره وقوله وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ قال ابن عباس رحمهما الله يريد قدر الكفاية وقال الحكم ما من عام بأكثر مطراً من عام آخر ولكنه يمطر قوم ويحرم قوم آخرون وربما كان في البحر يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم غير أنه يصرفه إلى من يشاء حيث شاء كما شاء
ولقائل أن يقول لفظ الآية لا يدل على هذا المعنى فإن قوله تعالى وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ لا يدل على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوام على قدر واحد وإذا كان كذلك كان تفسير الآية بهذا المعنى تحكماً من غير دليل وأقول أيضاً تخصيص قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ بالمطر تحكم محض لأن قوله وَإِن مّن شَى ْء يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل وهو الموجود القديم الواجب لذاته وقوله أَنَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ إشارة إلى كون تلك الأشياء مقدورة له تعالى وحاصل الأمر فيه أن المراد أن جميع الممكنات مقدورة له ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء إلا أنه تعالى وإن كانت مقدوراته غير متناهية إلا أن الذي يخرجه منها إلى الوجود يجب أن يكون متناهياً لأن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال فقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية وقوله وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ إشارة إلى أن كل ما يدخل منها في الوجود فهو متناه ومتى كان الخارج منها إلى الوجود متناهياً كان لا محالة مختصاً في الحدوث بوقت مقدر مع جواز حصوله قبل ذلك الوقت أو بعده بدلاً عنه(19/138)
وكان مختصاً بحيز معين مع جواز حصوله في سائر الأحياز بدلاً عن ذلك الحيز وكان مختصاً بصفات معينة مع أنه كان يجوز في العقل حصول سائر الصفات بدلاً عن تلك الصفات وإذا كان كذلك كان اختصاص تلك الأشياء المتناهية بذلك الوقت المعين والحيز المعين والصفات المعينة بدلاً عن أضدادها لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهذا هو المراد من قوله وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ والمعنى أنه لولا القادر المختار الذي خصص تلك الأشياء بتلك الأحوال الجائزة لامتنع اختصاصها بتلك الصفات الجائزة والمراد من الإنزال الإحداث والإنشاء والإبداع كقوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ( الزمر 6 ) وقوله وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( الحديد 25 ) والله أعلم
المسألة الثانية تمسك بعض المعتزلة بهذه الآية في إثبات أن المعدوم شيء قال لأن قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ يقتضي أن يكون لجميع الأشياء خزائن وأن تكون تلك الخزائن حاصلة عند الله تعالى ولا جائز أن يكون المراد من تلك الخزائن الموجودة عند الله تعالى هي تلك الموجودات من حيث إنها موجودة لأنا بينا أن المراد من قوله تعالى وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ الإحداث والإبداع والإنشاء والتكوين وهذا يقتضي أن يكون حصول تلك الخزائن عند الله متقدماً على حدوثها ودخولها في الوجود وإذا بطل هذا وجب أن يكون المراد أن تلك الذوات والحقائق والماهيات كانت متقررة عند الله تعالى بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات ثم إنه تعالى أنزل بعضها أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود
ولقائل أن يجيب عن ذلك بقوله لا شك أن لفظ الخزائن إنما ورد ههنا على سبيل التمثيل والتخييل فلم لا يجوز أن يكون المراد منه مجرد كونه تعالى قادراً على إيجاد تلك الأشياء وتكوينها وإخراجها من العدم إلى الوجود وعلى هذا التقدير يسقط الإستدلال والمباحثات الدقيقة باقية والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فاعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد وفيه مسائل
المسألة الأولى في وصف الرياح بأنها لواقح أقوال
القول الأول قال ابن عباس الرياح لواقح للشجر وللسحاب وهو قول الحسن وقتادة والضحاك وأصل هذا من قولهم لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى الماء فيها فحملت فكذلك الرياح جارية مجرى الفحل للسحاب قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية يبعث الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء وتمجه في السحاب ثم إنه يعصر السحاب ويدره كما تدر اللقحة فهذا هو تفسير إلقاحها للشجر فما ذكروه
فإن قيل كيف قال لَوَاقِحَ وهي ملقحة
والجواب ما ذهب إليه أبو عبيدة أن ( لواقح ) ههنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة وأنشد لسهيل يرثي أخاه لبيك يزيد يائس ذو ضراعة
وأشعث مما طوحته الطوائح(19/139)
أراد المطوحات وقرر ابن الأنباري ذلك فقال تقول العرب أبقل النبت فهل باقل يريدون هو مبقل وهذا بدل على جواز ورود لاقح عبارة عن ملقح
والوجه الثاني في الجواب قال الزجاج يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألحقت غيرها لأن معناها النسبة وهو كما يقال درهم وازن أي ذو وزن ورامح وسائف أي ذو رمح وذو سيف قال الواحدي هذا الجواب ليس بمغن لأنه كان يجب أن يصح اللاقح بمعنى ذات اللقاح وهذا ليس بشيء لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة ومن أفاد غيره اللقحة فله نسبة إلى اللقحة فصح هذا الجواب والله أعلم
والوجه الثالث في الجواب أن الريح في نفسها لاقح وتقريره بطريقين
الطريق الأول أن الريح حاصلة للسحاب والدليل عليه قوله سبحانه وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً ( الأعراف 57 ) أي حملت فعلى هذا المعنى تكون الريح لاقحة بمعنى أنها حاملة تحمل السحاب والماء
والطريق الثاني قال الزجاج يجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بالخير وهذا كما تقول العرب قد لقحت الحرب وقد نتجت ولداً أنكد يشبهون ما تشتمل عليه من ضروب الشر بما تحمله الناقة فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثانية الريح هواء متحرك وحركة الهواء بعد أن لم يكن متحركاً لا بد له من سبب وذلك السبب ليس نفس كونه هواء ولا شيئاً من لوازم ذاته وإلا لدامت حركة الهواء بدوام ذاته وذلك محال فلم يبق إلا أن يقال إنه يتحرك بتحريك الفاعل المختار والأحوال التي تذكرها الفلاسفة في سبب حركة الهواء عند حدوث الريح قد حكيناها في هذا الكتاب مراراً فأبطلناها وبينا أنه لا يمكن أن يكون شيء منها سبباً لحدوث الرياح فبقي أن يكون محركها هو الله سبحانه
وأما قوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ففيه مباحث الأول أن ماء المطر هل ينزل من السماء أو ينزل من ماء السحاب وبتقدير أن يقال إنه ينزل من السحاب كيف أطلق الله على السحاب لفظ السماء وثانيها أنه ليس السبب في حدوث المطر ما يذكره الفلاسفة بل السبب فيه أن الفاعل المختار ينزله من السحاب إلى الأرض لغرض الإحسان إلى العباد كما قال ههنا فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ قال الأزهري تقول العرب لكل ما كان في بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري أسقيته أي جعلته شرباً له وجعلت له منها مسقى فإذا كانت السقيا لسقيه قالوا سقاه ولم يقولوا أسقاه والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ ( النحل 66 ) فقرؤا باللغتين ولم يختلفوا في قوله وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ( الإنسان 21 ) وفي قوله وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ ( الشعراء 79 ) قال أبو علي سقيته حتى روي وأسقيته نهراً أي جعلته شرباً له وقوله فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ أي جعلناه سقياً لكم وربما قالوا في أسقى سقى كقول لبيد يصف سحاباً أقول وصوبه مني بعيد
يحط السيب من قلل الجبال
سقى قومي بني نجد وأسقى
نميرا والقبائل من هلال(19/140)
فقوله سقى قومي ليس يريد به ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقياً لبلادهم يخصبون بها وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى العطاش وليغرهم ما يخصبون به وأما سقيا السقية فلا يقال فيها أسقاه وأما قول ذي الرمة وأسقيه حتى كاد مما أبنه
تكلمني أحجاره وملاعبه
فمعنى أسقيه أدعو له بالسقاء وأقول سقاه الله وقوله وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ يعني به ذلك الماء المنزل من السماء يعني لستم له بحافظين
وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
اعلم أن هذا هو النوع السادس من دلائل التوحيد وهو الاستدلال بحصول الإحياء والإماتة لهذه الحيوانات على وجود الإله القادر المختار
أما قوله وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ ففيه قولان منهم من حمله على القدر المشترك بين إحياء النبات والحيوان ومنهم من يقول وصف النبات بالإحياء مجاز فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان ولما ثبت بالدلائل العقلية أنه لا قدرة على خلق الحياة إلا للحق سبحانه كان حصول الحياة للحيوان دليلاً قاطعاً على وجود الإله الفاعل المختار وقوله وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ يفيد الحصر أي لا قدرة على الإحياء ولا على الإماتة إلا لنا وقوله وَنَحْنُ الْوارِثُونَ معناه أنه إذا مات جميع الخلائق فحينئذ يزول ملك كل أحد عند موته ويكون الله هو الباقي الحق المالك لكل المملوكات وحده فكان هذا شبيهاً بالإرث فكان وارثاً من هذا الوجه
وأما قوله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ ففيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء المستقدمين يريد أهل طاعة الله تعالى والمستأخرين يريد المتخلفين عن طاعة الله الثاني أراد بالمستقدمين الصف الأول من أهل الصلاة وبالمستأخرين الصف الآخر روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) رغب في الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى أنا نجزيهم على قدر نياتهم الثالث قال الضحاك ومقاتل يعني في وصف القتال الرابع قال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها وإذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فأنزل الله تعالى هذه الآية الخامس قيل المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء وقيل المستقدمون هم الأمم السالفة والمستأخرون هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقال عكرمة المستقدمون من خلق والمستأخرون من لم يخلق(19/141)
واعلم أنه تعالى لما قال وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ أتبعه بقوله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ تنبيهاً على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم فيدخل فيه علمه تعالى بتقدمهم وتأخرهم في الحدوث والوجود وبتقدمهم وتأخرهم في أنواع الطاعات والخيرات ولا ينبغي أن نخص الآية بحالة دون حالة
وأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ فالمراد منه التنبيه على أن الحشر والنشر والبعث والقيامة أمر واجب وقوله إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ معناه أن الحكمة تقتضي وجوب الحشر والنشر على ما قررناه بالدلائل الكثيرة في أول سورة يونس عليه السلام
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب
المسألة الثانية ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أول لها وإذا ثبت هذا ظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى حادث أول هو أول الحوادث وإذا كان كذلك فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس وإذا كان كذلك فذلك الإنسان الأول غير مخلوق مع الأبوين فيكون مخلوقاً لا محالة بقدرة الله تعالى فقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ إشارة إلى ذلك الإنسان الأول والمفسرون أجمعوا على أن المراد منه هو آدم عليه السلام ونقل في ( كتب الشيعة ) عن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر وأقول هذا لا يقدح في حدوث العالم بل لأمر كيف كان فلا بد من الانتهاء إلى إنسان أول هو أول الناس وأما أن ذلك الإنسان هو أبونا آدم فلا طريق إلى إثباته إلا من جهة السمع
واعلم أن الجسم محدث فوجب القطع بأن آدم عليه السلام وغيره من الأجسام يكون مخلوقاً عن عدم محض وأيضاً دل قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) على أن آدم مخلوق من تراب ودلت آية أخرى على أنه مخلوق من الطين وهي قوله إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ ( ص 71 ) وجاء في هذه الآية أن آدم عليه السلام مخلوق من صلصال من حمأ مسنون والأقرب أنه تعالى خلقه أولاً من تراب ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار ولا شك أنه تعالى قادر على خلقه من أي جنس من الأجسام كان بل هو قادر على خلقه ابتداء وإنما خلقه على هذا الوجه إما لمحض المشيئة أو لما فيه من دلالة الملائكة ومصلحتهم ومصلحة الجن لأن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه(19/142)
المسألة الثالثة في الصلصال قولان قيل الصلصال الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ وإذا طبخ فهو فخار قالوا إذا توهمت في صوته مداً فهو صليل وإذا توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة قال المفسرون خلق الله تعالى آدم عليه السلام من طين فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالاً كالخزف ولا يدري أحد ما يراد به ولم يروا شيئاً من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح وحقيقة الكلام أنه تعالى خلق آدم من طين على صورة الإنسان فجف فكانت الريح إذا مرت به سمع له صلصلة فلذلك سماه الله تعالى صلصالاً
والقول الثاني الصلصال والمنتن من قولهم صل اللحم وأصل إذا نتن وتغير وهذا القول عندي ضعيف لأنه تعالى قال مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وكونه حمأ مسنوناً يدل على النتن والتغير وظاهر الآية يدل على أن هذا الصلصال إنما تولد من الحمأ المسنون فوجب أن يكون كونه صلصالاً مغايراً لكونه حمأ مسنوناً ولو كان كونه صلصالاً عبارة عن النتن والتغير لم يبق بين كونه صلصالاً وبين كونه حمأ مسنوناً تفاوت وأما الحمأ فقال الليث الحمأة بوزن فعلة والجمع الحمأ وهو الطين الأسود المنتن وقال أبو عبيدة والأكثرون حماة بوزن كمأة وقوله مَّسْنُونٍ فيه أقوال الأول قال ابن السكيت سمعت أبا عمر يقول في قوله مَّسْنُونٍ أي متغير قال أبو الهيثم يقال سن الماء فهو مسنون أي تغير والدليل عليه قوله تعالى لَمْ يَتَسَنَّهْ ( البقرة 259 ) أي لم يتغير الثاني المسنون المحكوك وهو مأخوذ من سننت الحجر إذا حككته عليه والذي يخرج من بينهما يقال له السنن وسمي المسن مسناً لأن الحديد يسن عليه والثالث قال الزجاج هذا اللفظ مأخوذ من أي موضوع على سنن الطريق لأنه متى كان كذلك فقد تغير الرابع قال أبو عبيدة المسنون المصبوب والسن والصب يقال سن الماء على وجهه سناً الخامس قال سيبويه المسنون المصور على صورة ومثال من سنة الوجه وهي صورته السادس روي عن ابن عباس أنه قال المسنون الطين الرطب وهذا يعود إلى قول أبي عبيدة لأنه إذا كان رطباً يسيل وينبسط على الأرض فيكون مسنوناً بمعنى أنه مصبوب
أما قوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ فاختلفوا في أن الجان من هو فقال عطاء عن ابن عباس يريد إبليس وهو قول الحسن ومقاتل وقتادة وقال ابن عباس في رواية أخرى الجان هو أب الجن وهو قول الأكثرين وسمي جاناً لتواريه عن الأعين كما سمي الجنين جنيناً لهذا السبب والجنين متوارٍ في بطن أمه ومعنى الجان في اللغة الساتر من قولك جن الشيء إذا ستره فالجان المذكور ههنا يحتمل أنه سمي جاناً لأنه يستر نفسه عن أعين بني آدم أو يكون من باب الفاعل الذي يراد به المفعول كما يقال في لابن وتامر وماء دافق وعيشة راضية واختلفوا في الجن فقال بعضهم إنهم جنس غير الشياطين والأصح أن الشياطين قسم من الجن فكل من كان منهم مؤمناً فإنه لا يسمى بالشيطان وكل من كان منهم كافراً يسمى بهذا الإسم والدليل على صحة ذلك أن لفظ الجن مشتق من الاستتار فكل من كان كذلك كان من الجن وقوله تعالى خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ قال ابن عباس يريد من قبل خلق آدم وقوله مِن نَّارِ السَّمُومِ معنى السموم في اللغة الريح الحارة تكون بالنهار وقد تكون بالليل وعلى هذا فالريح الحارة فيها نار ولها لفح وأوار على ما ورد في الخبر أنها لفح جهنم قيل سميت سموماً لأنها بلطفها تدخل في مسام البدن وهي الخروق الخفية التي تكون في جلد الإنسان يبرز منها عرقه وبخار باطنه قال ابن مسعود هذه السموم جزء(19/143)
من سبعين جزأ من السموم التي خلق الله بها الجان وتلا هذه الآية
فإن قيل كيف يعقل خلق الجان من النار
قلنا هذا على مذهبنا ظاهر لأن البنية عندنا ليست شرطاً لإمكان حصول الحياة فالله تعالى قادر على خلق الحياة والعلم في الجواهر الفرد فكذلك يكون قادراً على خلق الحياة والعقل في الجسم الحار واستدل بعضهم على أن الكواكب يمتنع حصول الحياة فيها قال لأن الشمس في غاية الحرارة وما كان كذلك امتنع حصول الحياة فيه فننقضه عليه بقوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ بل المعتمد في نفي الحياة عن الكواكب الإجماع
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لاًّسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة َ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حدوث الإنسان الأول واستدل بذكره على وجود الإله القادر المختار ذكر بعده واقعته وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له فأطاعوه إلا إبليس فإنه أبى وتمرد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما تفسير كونه بشراً فالمراد منه كونه جسماً كثيفاً يباشر ويلاقي والملائكة والجن لا يباشرون للطف أجسامهم عن أجسام البشر والبشرة ظاهرة الجلد من كل حيوان وأما كونه صلصالاً من حمأ مسنون فقد تقدم ذكره وأما قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ففيه قولان الأول فإذا سويت شكله بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية والثاني فإذا سويت أجزاء بدنه باعتدال الطبائع وتناسب الأمشاج كما قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ ( الإنسان 2 )
وأما قوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ففيه مباحث الأول أن النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر وظاهر هذا اللفظ يشعر بأن الروح هي الريح وإلا لما صح وصفها بالنفخ إلا أن البحث الكامل في حقيقة الروح سيجيء في قوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) وإنما أضاف الله سبحانه روح آدم إلى نفسه تشريفاً له وتكريماً وقوله فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فيه مباحث أحدها أن ذلك السجود كان لآدم في الحقيقة أو كان آدم كالقبلة لذلك السجود وهذا البحث قد تقدم ذكره في سورة(19/144)
البقرة وثانيها أن المأمورين بالسجود لآدم عليه السلام كل ملائكة السموات أو بعضهم أو ملائكة الأرض من الناس من لا يجوز أن يقال إن أكابر الملائكة كانوا مأمورين بالسجود لآدم عليه السلام والدليل عليه قوله تعالى في آخر سورة الاْعْرَافِ في صفة الملائكة إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ فقوله وَلَهُ يَسْجُدُونَ ( الأعراف 20 ) يفيد الحصر وذلك يدل على أنهم لا يسجدون إلا لله تعالى وذلك ينافي كونهم ساجدين لآدم عليه السلام أو لأحد غير الله تعالى أقصى ما في الباب أن يقال إن قوله تعالى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ يفيد العموم إلا أن الخاص مقدم على العام وثالثها أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى كما نفخ الروح في آدم عليه السلام وجب على الملائكة أن يسجدوا له لأن قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ مذكور بفاء التعقيب وذلك يمنع من التراخي وقوله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ قال الخليل وسيبويه قوله كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ توكيد بعد توكيد وسئل المبرد عن هذه الآية فقال لو قال فسجد الملائكة احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال كُلُّهُمْ زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ثم بعد هذا بقي احتمال آخر وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد منهم في وقت آخر فلما قال أَجْمَعُونَ ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة ولما حكى الزجاج هذا القول عن المبرد قال وقول الخليل وسيبويه أجود لأن أجمعين معرفة فلا يكون حالاً وقوله إِلاَّ إِبْلِيسَ أجمعوا على أن إبليس كان مأموراً بالسجود لآدم واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا وقد سبقت هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة وقوله أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ استئناف وتقديره أن قائلاً قال هلا سجد فقيل أبى ذلك واستكبر عنه
أما قوله قَالَ يَاءادَمُ إِبْلِيسَ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ فاعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله قَالَ يَاءادَمُ إِبْلِيسَ أي قال الله تعالى له يا إبليس وهذا يقتضي أنه تعالى تكلم معه فعند هذا قال بعض المتكلمين إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله إلا أن هذا ضعيف لأن إبليس قال في الجواب لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ فقوله خَلَقْتَهُ خطاب الحضور لا خطاب الغيبة وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأن إبليس تكلم مع الله تعالى بغير واسطة وكيف يعقل هذا مع أن مكالمة الله تعالى بغير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم ولعل الجواب عنه أن مكالمة الله تعالى إنما تكون منصباً عالياً إذا كان على سبيل الإكرام والإعظام فأما إذا كان على سبيل الإهانة والإذلال فلا وقوله لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فيه بحثان
البحث الأول اللام في قوله لاِسْجُدَ لتأكيد النفي ومعناه لا يصح مني أن أسجد لبشر
البحث الثاني معنى هذا الكلام أن كونه بشراً يشعر بكونه جسماً كثيفاً وهو كان روحانياً لطيفاً فالتفرقة حاصلة بينهما في الحال من هذا الوجه كأنه يقول البشر جسماني كثيف له بشرة وأنا روحاني لطيف والجسماني الكثيف أدون حالاً من الروحاني اللطيف والأدون كيف يكون مسجوداً للأعلى وأيضاً أن آدم مخلوق من صلصال تولد من حمأ مسنون فهذا الأصل في غاية الدناءة وأصل إبليس هو النار وهي أشرف العناصر فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم والأشرف(19/145)
يقبح أن يؤمر بالسجود للأدون فالكلام الأول إشارة إلى الفرق الحاصل بسبب البشرية والروحانية وهو فرق حاصل في الحال والكلام الثاني إشارة إلى الفرق الحاصل بحسب العنصر والأصل فهذا مجموع شبهة إبليس وقوله تعالى قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ فهذا ليس جواباً عن تلك الشبهة على سبيل التصريح ولكنه جواب عنها على سبيل التنبيه وتقريره أن الذي قاله الله تعالى نص والذي قاله إبليس قياس ومن عارض النص بالقياس كان رجيماً ملعوناً وتمام الكلام في هذا المعنى ذكرناه مستقصى في سورة الأعراف وقوله فَاخْرُجْ مِنْهَا قيل المراد من جنة عدن وقيل من السموات وقيل من زمرة الملائكة وتمام هذا الكلام مع تفسير الرجيم قد سبق ذكره في سورة الأعراف وقوله وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة َ إِلَى يَوْمِ الدّينِ قال ابن عباس يريد يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم مثل قوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 )
فإن قيل كلمة ( إلى ) تفيد انتهاء الغاية فهذا يشعر بأن اللعن لا يحصل إلا إلى يوم القيامة وعند قيام القيامة يزول اللعن
أجابوا عنه من وجوه الأول المراد منه التأبيد وذكر القيامة أبعد غاية يذكرها الناس في كلامهم كقولهم مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( هود 107 ) في التأبيد والثاني أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين من غير أن يعذب فإذا جاء ذلك اليوم عذب عذاباً ينسى اللعن معه فيصير اللعن حينئذ كالزائل بسبب أن شدة العذاب تذهل عنه
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَى َّ مُسْتَقِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَأَنظِرْنِى متعلق بما تقدم والتقدير إذا جعلتني رجيماً ملعوناً إلى يوم الدين فأنظرني فطلب الإبقاء من الله تعالى عند اليأس من الآخرة إلى وقت قيام القيامة لأن قوله إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ المراد منه يوم البعث والنشور وهو يوم القايمة وقوله فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ اعلم أن إبليس استنظر إلى يوم البعث والقيامة وغرضه منه أن لا يموت لأنه إذا كان لا يموت قبل يوم القيامة وظاهره أن بعد قيام القيامة لا يموت أحد فحينئذ يلزم منه أن لا يموت ألبتة ثم إنه تعالى منعه عن هذا المطلوب وقال إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ واختلفوا في المراد منه على وجوه أحدها أن المراد من يوم الوقت المعلوم وقت النفخة الأولى حين يموت كل الخلائق وإنما سمي هذا الوقت بالوقت المعلوم لأن من المعلوم أن يموت كل الخلائق فيه وقيل إنما سماه الله تعالى بهذا الاسم(19/146)
لأن العالم بذلك الوقت هو الله تعالى لا غير كما قال تعالى إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ( الأعراف 187 ) وقال إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) وثانيها أن المراد من يوم الوقت المعلوم هو الذي ذكره إبليس وهو قوله إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وإنما سماه تعالى بيوم الوقت المعلوم لأن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار ذلك كالمعلوم
فإن قيل لما أجابه الله تعالى إلى مطلوبه لزم أن لا يموت إلى وقت قيام الساعة وبعد قيام القيامة لا يموت أيضاً فيلزم أن يندفع عنه الموت بالكلية
قلنا يحمل قوله إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إلى ما يكون قريباً منه والوقت الذي يموت فيه كل المكلفين قريب من يوم البعث وعلى هذا الوجه فيرجع حاصل هذا الكلام إلى الوجه الأول وثالثها أن المراد بيوم الوقت المعلوم يوم لا يعلمه إلا الله تعالى وليس المراد منه يوم القيامة
فإن قيل إنه لا يجوز أن يعلم المكلف متى يموت لأن فيه إغراء بالمعاصي وذلك لا يجوز على الله تعالى
أجيب عنه بأن هذا الإلزام إنما يتوجه إذا كان وقت قيام القيامة معلوماً للمكلف فأما إذا علم أنه تعالى أمهله إلى وقت قيام القيامة إلا أنه تعالى ما أعلمه الوقت الذي تقوم القيامة فيه فلم يلزم منه الإغراء بالمعاصي
وأجيب عن هذا الجواب بأنه وإن لم يعلم الوقت الذي فيه تقوم القيامة على التعيين إلا أنه علم في الجملة أن من وقت خلقة آدم عليه الصلاة والسلام إلى وقت قيام القيامة مدة طويلة فكأنه قد علم أنه لا يموت في تلك المدة الطويلة
أما قوله تعالى قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ففيه بحثان
البحث الأول الباء في بِمَآ أَغْوَيْتَنِى للقسم وما مصدرية وجواب القسم لأزينن والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم ونظيره قوله تعالى فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ص 82 ) إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله وهي من صفات الذات وفي قوله بِمَآ أَغْوَيْتَنِى أقسم بإغواء الله وهو من صفات الأفعال والفقهاء قالوا القسم بصفات الذات صحيح أما بصفات الأفعال فقد اختلفوا فيه ونقل الواحدي عن قوم آخرين أنهم قالوا الباء ههنا بمعنى السبب أي بسبب كوني غاوياً لأزينن كقول القائل أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار وبطاعته ليدخلن الجنة
البحث الثاني اعلم أن أصحابنا قد احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يريد خلق الكفر في الكافر ويصده عن الدين ويغويه عن الحق من وجوه الأول أن إبليس استمهل وطلب البقاء إلى قيام القيامة مع أنه صرح بأنه إنما يطلب هذا الإمهال والإبقاء لإغواء بني آدم وإضلالهم وأنه تعالى أمهله وأجابه إلى هذا المطلوب ولو كان تعالى يراعي مصالح المكلفين في الدين لما أمهله هذا الزمان الطويل ولما مكنه من الإغواء والإضلال والوسوسة الثاني أن أكابر الأنبياء والأولياء مجدون ومجتهدون في إرشاد الخلق إلى الدين الحق وأن إبليس ورهطه وشيعته مجدون ومجتهدون في الضلال والإغواء فلو كان مراد الله تعالى هو(19/147)
الإرشاد والهداية لكان من الواجب إبقاء المرشدين والمحققين وإهلاك المضلين والمغوين وحيث فعل بالضد منه علمنا أنه أراد بهم الخذلان والكفر الثالث أنه تعالى لما أعلمه بأنه يموت على الكفر وأنه ملعون إلى يوم الدين كان ذلك إغراء له بالكفر والقبيح لأنه أيس عن المغفرة والفوز بالجنة يجترىء حينئذ على أنواع المعاصي والكفر الرابع أنه لما سأل الله تعالى هذا العمر الطويل مع أنه تعالى علم منه أنه لا يستفيد من هذا العمر الطويل إلا زيادة الكفر والمعصية وبسبب تلك الزيادة يزداد استحقاقه لأنواع العذاب الشديد كان هذا الإمهال سبباً لمزيد عذابه وذلك يدل على أنه تعالى أراد به أن يزداد عذابه وعقابه الخامس أنه صرح بأن الله أغواه فقال رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى وذلك تصريح بأن الله تعالى أغواه لا يقال هذا كلام إبليس وهو ليس بحجة وأيضاً فهو معارض بقول إبليس فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فأضاف الإغواء إلى نفسه لأنا نقول
أما الجواب عن الأول فهو أنه لما ذكر هذا الكلام فإن الله تعالى ما أنكره عليه وذلك يدل على أنه كان صادقاً فيما قال
وأما الجواب عن الثاني فهو أنه قال في هذه الآية رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ فالمراد ههنا من قوله لازَيّنَنَّ لَهُمْ هو المراد من قوله في تلك الآية لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلا أنه بين في هذه الآية أنه إنما أمكنه أن يزين لهم الأباطيل لأجل أن الله تعالى أغواه قبل ذلك وعلى هذا التقدير فقد زال التناقض ويتأكد هذا بما ذكره الله تعالى حكاية عن الشياطين في سورة القصص هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ( القصص 63 )
السؤال السادس أنه اقل رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى وهذا اعتراف بأن الله تعالى أغواه فنقول إما أن يقال إنه كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه أو ما عرف ذلك فإن كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه امتنع كونه غاوياً لأنه إنما يعرف أن الله تعالى أغواه إذا عرف أن الذي هو عليه جهل وباطل ومن عرف ذلك امتنع بقاؤه على الجهل والضلالة وأما إن قلنا بأنه ما عرف أن الله أغواه فكيف أمكنه أن يقول رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى فهذا مجموع السؤالات الواردة في هذه الآية
أما الإشكال الأول فللمعتزلة فيه طريقان
الطريق الأول وهو طريق الجبائي أنه تعالى إنما أمهل إبليس تلك المدة الطويلة لأنه تعالى علم أنه لا يتفاوت أحوال الناس بسبب وسوسته فبتقدير أن لا يوجد إبليس ولا وسوسته فإن ذلك الكافر والعاصي كان يأتي بذلك الكفر والمعصية فلما كان الأمر كذلك لا جرم أمهله هذه المدة
الطريق الثاني وهو طريق أبي هاشم أنه لا يبعد أن يقال إنه تعالى علم أن أقواماً يقعون بسبب وسوسته في الكفر والمعصية إلا أن وسوسته ما كانت موجبة لذلك الكفر والمعصية بل الكافر والعاصي بسبب اختياره اختار ذلك الكفر وتلك المعصية أقصى ما في الباب أن يقال الاحتراز عن القبائح حال عدم الوسوسة أسهل منه حال وجودها إلا أن على هذا التقدير تصير وسوسته سبباً لزيادة المشقة في أداء الطاعات وذلك لا يمنع الحكيم من فعله كما أن إنزال المشاق وإنزال المتشابهات صار سبباً لمزيد الشبهات ومع ذلك فلم يمتنع فعله فكذا ههنا وهذان الطريقان هما بعينهما(19/148)
الجواب عن السؤال الثاني
وأما السؤال الثالث وهو أن إعلامه بأنه يموت على الكفر يحمله على الجرأة على المعاصي والإكثار منها فجوابه أن هذا إنما يلزم إذا كان علم إبليس بموته على الكفر يحمله على الزيادة في المعاصي أما إذا علم الله تعالى من حاله أن ذلك لايوجب التفاوت ألبتة فالسؤال زائل وهذا بعينه هو الجواب عن السؤال الرابع
وأما السؤال الخامس وهو أن إبليس صرح بأن الله تعالى أغواه وأضله عن الدين فقد أجابوا عنه بأنه ليس المراد ذلك بل فيه وجوه أخرى أحدها المراد بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك وثانيها المراد كما أضللتني عن طريق الجنة أضلهم أنا أيضاً عنه بالدعاء إلى المعصية وثالثها أن يكون المراد بالإغواء الأول الخيبة وبالثاني الإضلال ورابعها أن المراد بإغواء الله تعالى إياه هو أنه أمره بالسجود لآدم فأفضى ذلك إلى غيه يعني أنه حصل ذلك الغي عقيبه باختيار إبليس فأما أن يقال إن ذلك الأمر صار موجباً لذاته لحصول ذلك الغي فمعلوم أنه ليس الأمر كذلك هذا جملة كلام القوم في هذا الباب وكله ضعيف أما قوله إنه لا يتفاوت الحال بسبب وسوسة إبليس فنقول هذا باطل ويدل عليه القرآن والبرهان أما القرآن فقوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ( البقرة 36 ) فأضاف تلك الزلة إلى الشيطان وقال فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى ( طه 117 ) فأضاف الإخراج إليه وقال موسى عليه السلام هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( القصص 15 ) وكل ذلك يدل على أن لعمل الشيطان في تلك الأفعال أثراً وأما البرهان فلأن بداية العقول شاهدة بأنه ليس حال من ابتلى بمجالسة شخص يرغبه أبداً في القبائح وينفره عن الخيرات مثل شخص كان حاله بالضد منه والعلم بهذا التفاوت ضروري وأما قوله إن وجوده يصير سبباً لزيادة المشقة في الطاعة فنقول تأثير زيادة المشقة إنما هو في كثرة الثواب على أحد التقديرين وفي الإلقاء في العذاب الشديد على التقدير الثاني وهو التقدير الأكثر الأغلب وكل من يراعي المصالح فإن رعاية هذا التقدير الثاني أولى عنده من رعاية التقدير الأول لأن دفع الضرر العظيم أولى من السعي في طلب النفع الزائد الذي لا حاجة إلى حصوله أصلاً ولما اندفع هذان الجوابان عن هذا السؤال قويت سائر الوجوه المذكورة وأما قوله المراد من قوله رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى الخيبة عن الرحمة أو الإضلال عن طريق الجنة فنقول كل هذا بعيد لأنه هو الذي خيب نفسه عن الرحمة وهو الذي أضل نفسه عن طريق الجنة لأنه لما أقدم على الكفر باختياره فقد خيب نفسه عن الرحمة وأضل نفسه عن طريق الجنة فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى فثبت أن الإشكالات لازمة وأن أجوبتهم ضعيفة والله أعلم
وأما قوله إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن إبليس استثنى المخلصين لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه وذكرت في مجلس التذكير أن الذي حمل إبليس على ذكر هذا الإستثناء أن لا يصير كاذباً في دعواه فلما احترز إبليس عن الكذب علمنا أن الكذب في غاية الخساسة
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو الْمُخْلَصِينَ بكسر اللام في كل القرآن والباقون بفتح اللام وجه القراءة الأولى أنهم الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم عن كل شائب يناقض الإيمان والتوحيد(19/149)
ومن فتح اللام فمعناه الذين أخلصهم الله بالهداية والإيمان والتوفيق والعصمة وهذه القراءة تدل على أن الإخلاص والإيمان ليس إلا من الله تعالى
المسألة الثالثة الإخلاص جعل الشيء خالصاً عن شائبة الغير فنقول كل من أتى بعمل فإما أن يكون قد أتى به لله فقط أو لغير الله فقط أو لمجموع الأمرين وعلى هذا التقدير الثالث فإما أن يكون طلب رضوان الله راجحاً أو مرجوحاً أو معادلاً والتقدير الرابع أنيأتي به لا لغرض أصلاً وهذا محال لأن الفعل بدون الداعية محال
أما الأول فهو الإخلاص في حق الله تعالى لأن الحامل له على ذلك الفعل طلب رضوان الله وما جعل هذه الداعية مشوبة بداعية أخرى بل بقيت خالصة عن شوائب الغير فهذا هو الإخلاص
وأما الثاني وهو الإخلاص في حق غير الله فظاهر أن هذا لا يكون إخلاصاً في حق الله تعالى
وأما الثالث وهو أن يشتمل على الجهتين إلا أن جانب الله يكون راجحاً فهذا يرجى أن يكون من المخلصين لأن المثل يقابله المثل فيبقى القدر الزائد خالصاً عن الشوب
وأما الرابع والخامس فظاهر أنه ليس من المخلصين في حق الله تعالى والحاصل أن القسم الأول إخلاص في حق الله تعالى قطعاً والقسم الثاني يرجى من فضل الله أن يجعله من قسم الإخلاص وأما سائر الأقسام فهو خارج عن الإخلاص قطعاً والله أعلم
أما قوله تعالى قَالَ هَذَا صِراطٌ عَلَى َّ مُسْتَقِيمٌ ففيه وجوه الأول أن إبليس لما قال إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فلفظ المخلص يدل على الإخلاص فقوله هذا عائد إلى الإخلاص والمعنى أن الإخلاص طريق علي وإلي أي أنه يؤدي إلى كرامتي وثوابي وقال الحسن معناه هذا صراط إلي مستقيم وقال آخرون هذا صراط من مر عليه فكأنه مر علي وعلى رضواني وكرامتي وهو كما يقال طريقك علي الثاني أن الإخلاص طريق العبودية فقوله هَذَا صِراطٌ عَلَى َّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم الثالث قال بعضهم لما ذكر إبليس أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى الله تعالى وإلى إرادته فقال تعالى هَذَا صِراطٌ عَلَى َّ أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي طريق علي مستقيم الرابع معناه هذا صراط علي تقريره وتأكيده وهو مستقيم حق وصدق وقرأ يعقوب صِراطٌ عَلَى َّ بالرفع والتنوين على أنه صفة لقوله صِراطِ أي هو علي بمعنى أنه رفيع مستقيم لا عوج فيه قال الواحدي معناه أن طريق التفويض إلى الله تعالى والإيمان بقضاء الله طريق رفيع مستقيم
إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ(19/150)
اعلم أن إبليس لما قال لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أوهم هذا الكلام أن له سلطاناً على عباد الله الذين يكونون من المخلصين فبين تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء كانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين بل من اتبع منهم إبليس باختياره صار متبعاً له ولكن حصول تلك المتابعة أيضاً ليس لأجل أن إبليس يقهره على تلك المتابعة أو يجبره عليها والحاصل في هذا القول أن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطاناً فبين تعالى كذبه فيه وذكر أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس أنه قال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) وقال تعالى في آية أخرى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ( النحل 99 100 ) قال الجبائي هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما يقوله العامة وربما نسبوا ذلك إلى السحرة قال وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه وفي الآية قول آخر وهو أن إبليس لما قال إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( الحجر 40 ) فذكر أنه لا يقدر على إغواء المخلصين صدقه الله في هذا الاستثناء فقال إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ فلهذا قال الكلبي العباد المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس
واعلم أن على القول الأول يمكن أن يكون قوله إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ استثناء لأن المعنى أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فإن لك عليهم سلطاناً بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي
وأما على القول الثاني فيمتنع أن يكون استثناء بل تكون لفظة ( إلا ) بمعنى لكن وقوله إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ قال ابن عباس يريد إبليس وأشياعه ومن اتبعه من الغاوين
ثم قال تعالى لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ وفيه قولان
القول الأول إنها سبع طبقات بعضها فوق البعض وتسمى تلك الطبقات بالدركات ويدل على كونها كذلك قوله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 )
والقول الثاني إن قرار جهنم مقسوم سبعة أقسام ولكل قسم باب وعن ابن جريج أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية قال الضحاك الطبقة الأولى فيها أهل التوحيد يعذبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون والثانية لليهود والثالثة للنصارى والرابعة للصابئين والخامسة للمجوس والسادسة للمشركين والسابعة للمنافقين وقوله لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية أبي بكر جُزْء مَّقْسُومٌ والباقون ( جز ) بتخفيف الزاي وقرأ الزهري ( جز ) بالتشديد كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي كقولك خب في خبء ثم وقف عليه بالتشديد
المسألة الثانية الجزء بعض الشيء والجمع الأجزاء وجزأته جعلته أجزاء والمعنى أنه تعالى يجزي أتباع إبليس إجزاء بمعنى أنه يجعلهم أقساماً وفرقاً ويدخل في كل قسم من أقسام جهنم طائفة من(19/151)
هؤلاء الطوائف والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة فلا جرم صارت مراتب العذاب والعقاب مختلفة بالغلظ والخفة والله أعلم
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءَامِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ قولان
القول الأول قال الجبائي وجمهور المعتزلة القائلون بالوعيد المراد بالمتقين هم الذين اتقوا جميع المعاصي قالوا لأنه اسم مدح فلا يتناول إلا من يكون كذلك
والقول الثاني وهو قول جمهور الصحابة والتابعين وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به وأقول هذا القول هو الحق الصحيح والذي يدل عليه هو أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة واحدة والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة فكما أنه ليس من شرط الوصف كونه ضارباً وقاتلاً كونه آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل فكذلك ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى والذي يقوي هذا الكلام أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى لأن كل فرد من أفراد الماهية فإنه يجب كونه مشتملاً على تلك الماهية فالآتي بالتقوى يجب أن يكون متقياً فثبت أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يصدق عليه كونه متقياً ولهذا التحقيق اتفق المفسرون على أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار
إذا ثبت هذا فنقول ظاهر قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن شيء واحد إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم وأيضاً فإن هذه الآية وردت عقيب قول إبليس إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( الحجر 40 ) وعقيب قول الله تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) فلأجل هذه الدلائل اعتبرنا الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزيد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان بخلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق لمقتضى الأصل والظاهر فثبت أن قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يتناول جميع القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله قولاً واعتقاداً سواء كانوا من أهل الطاعة أو من أهل المعصية وهذا تقرير بين وكلام ظاهر
المسألة الثانية قوله تعالى فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أما الجنات فأربعة لقوله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) ثم قال وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) فيكون المجموع أربعة وقوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ يؤكد ما قلناه لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه عن الخوف من الله تعالى وقوله وَلِمَنْ خَافَ يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرة واحدة وأما العيون فيحتمل أن يكون المراد منها ما ذكر الله(19/152)
تعالى في قوله مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ ( محمد 15 ) ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار
فإن قيل أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض قيل لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ يحتمل أن القائل لقوله ادْخُلُوهَا هو الله تعالى وأن يكون ذلك القائل بعض ملائكته وفيه سؤال لأنه تعالى حكم قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون وإذا كانوا فيها فكيف يمكن أن يقال لهم ادْخُلُوهَا
والجواب عنه من وجهين الأول لعل المراد به قيل لهم قبل دخولهم فيها ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ الثاني لعل المراد لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها وقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ المراد ادخلوا الجنة مع السلامة من كل الآفات في الحال ومع القطع ببقاء هذه السلامة والأمن من زوالها
ثم قال تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ والغل الحقد الكامن في القلب وهو مأخوذ من قولهم أغل في جوفه وتغلغل أي إن كان لأحدهم في الدنيا غل على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم وعن علي عليه السلام أنه قال أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم وحكى عن الحرث بن الأعور أنه كان جالساً عند علي عليه السلام إذ دخل زكريا بن طلحة فقال له علي مرحباً بك يا ابن أخي أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى في حقهم وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ فقال الحرث كلا بل الله أعدل من أن يجعلك وطلحة في مكان واحد قال عليه السلام فلمن هذه الآية لا أم لك يا أعور وروي أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص لبعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقى الله قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد وقوله إِخْوَانًا نصب على الحال وليس المراد الأخوة في النسب بل المراد الأخوة في المودة والمخالصة كما قال الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) وقوله عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ السرير معروف والجمع أسرة وسرر قال أبو عبيدة يقال سرر وسرر بفتح الراء وكذا كل فعيل من المضاعف فإن جمعه فعل وفعل نحو سرر وسرر وجدد وجدد قال المفضل بعض تميم وكلب يفتحون لأنهم يستثقلون ضمتين متواليتين في حرفين من جنس واحد وقال بعض أهل المعاني السرير مجلس رفيع مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور قال الليث وسرير العيش مستقره الذي اطمأن إليه في حال سروره وفرحه قال ابن عباس يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية وقوله مُّتَقَابِلِينَ التقابل التواجه وهو نقيض التدابر ولا شك أن المواجهة أشرف الأحوال وقوله لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ النصب الإعياء والتعب أي لا ينالهم فيها تعب وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ والمراد به كونه خلوداً بلا زوال وبقاء بلا فناء وكمالاً بلا نقصان وفوزاً بلا حرمان(19/153)
واعلم أن للثواب أربع شرائط وهي أن تكون منافع مقرونة بالتعظيم خالصة عن الشوائب دائمة
أما القيد الأول وهو كونها منفعة فإليه الإشارة بقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
وأما القيد الثاني وهو كونها مقرونة بالتعظيم فإليه الإشارة بقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ لأن الله سبحانه إذا قال لعبيده هذا الكلام أشعر ذلك بنهاية التعظيم وغاية الإجلال
وأما القيد الثالث وهو كون تلك المنافع خالصة عن شوائب الضرر فاعلم أن المضار إما أن تكون روحانية وإما أن تكون جسمانية أما المضار الروحانية فهي الحقد والحسد والغل والغضب وأما المضار الجسمانية فكالإعياء والتعب فقوله وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ إشارة إلى نفي المضار الروحانية وقوله لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ إشارة إلى نفي المضار الجسمانية
وأما القيد الرابع وهو كون تلك المنافع دائمة آمنة من الزوال فإليه الإشارة بقوله وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ فهذا ترتيب حسن معقول بناء على القيود الأربعة المعتبرة في ماهية الثواب ولحكماء الإسلام في هذه الآية مقال فإنهم قالوا المراد من قوله وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إشارة إلى أن الأرواح القدسية النطقية نقية مطهرة عن علائق القوى الشهوانية والغضبية مبرأة عن حوادث الوهم والخيال وقوله إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ معناه أن تلك النفوس لما صارت صافية عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام ووقع عليها أنوار عالم الكبرياء والجلال فأشرقت بتلك الأنوار الإلهية وتلألأت بتلك الأضواء الصمدية فكل نور فاض على واحد منها انعكس منه على الآخر مثل المزايا المتقابلة المتحاذية فلكونها بهذه الصفة وقع التعبير عنها بقوله إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ والله أعلم
نَبِّى ءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاٌّ لِيمُ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى أثبتت الهمزة الساكنة في ( نبىء ) صورة وما أثبتت في قوله دِفْء لأن ما قبلها ساكن فهي تحذف كثيراً وتلقى حركتها على الساكن قبلها ف ( نبىء ) في الخط على تحقيق الهمزة وليس قبل همزة ( نبىء ) ساكن فاجرؤها على قياس الأصل
المسألة الثانية اعلم أن عباد الله قسمان منهم من يكون متقياً ومنهم من لا يكون كذلك فلما ذكر الله تعالى أحوال المتقين في الآية المتقدمة ذكر أحوال غير المتقين في هذه الآية فقال بِمُخْرَجِينَ نَبّىء عِبَادِى
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فههنا وصفهم بكونهم عباداً له ثم أثبت عقيب ذكر هذا الوصف الحكم بكونه غفوراً رحيماً فهذا يدل على أن كل من اعترف بالعبودية ظهر في حقه كونه الله غفوراً رحيماً ومن أنكر ذلك كان مستوجباً للعقاب الأليم وفي الآية لطائف أحدها أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله عِبَادِى وهذا تشيف عظيم ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج لم يزد على قوله سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ(19/154)
( الإسراء 1 ) وثانيها أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة أولها قوله إِنّى وثانيها قوله أَنَاْ وثالثها ادخال حرف الألف واللام على قوله الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب وما وصف نفسه بذلك بل قال وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاْلِيمُ وثالثها أنه أمر رسوله أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة ورابعها أنه لما قال نَبّىء عِبَادِى كان معناه نبىء كل من كان معترفاً بعبوديتي وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى وعن قتادة قال بلغنا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى ما تورع من حرام ولو علم قدر عقابه لبخع نفسه ) أي قتلها وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه مر بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال ( أتضحكون والنار بين أيديكم ) فنزل قوله نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ والله أعلم
وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِى َ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير أمر النبوة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد ثم ذكر عقيبه أحوال القيامة وصفة الأشقياء والسعداء أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغباً في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء ومحذراً عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء فبدأ أولاً بقصة إبراهيم عليه السلام والضمير في قوله وَنَبّئْهُمْ راجع إلى قوله عِبَادِى والتقدير ونبىء عبادي عن ضيف إبراهيم يقال أنبأت القوم إنباء ونبأتهم تنبئة إذا أخبرتهم وذكر تعالى في الآية أن ضيف إبراهيم عليه السلام بشروه بالولد بعد الكبر وبانجاء المؤمنين من قوم لوط من العذاب وأخبروه أيضاً بأنه تعالى سيعذب الكفار من قوم لوط بعذاب الاستئصال وكل ذلك يقوي ما ذكره من أنه غفور رحيم للمؤمنين وأن عذابه عذاب أليم في حق الكفار
المسألة الثانية الضيف في الأصل مصدر ضاف يضيف إذا أتى إنساناً لطلب القرى ثم سمى به ولذلك وحد في اللفظ وهم جماعة
فإن قيل كيف سماهم ضيفاً مع امتناعهم عن الأكل(19/155)
قلنا لما ظن إبراهيم أنهم إنما دخلوا عليه لطلب الضيافة جاز تسميتهم بذلك وقيل أيضاً إن من يدخل دار الإنسان ويلتجىء إليه يسمى ضيفاً وإن لم يأكل وقوله تعالى إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا أي نسلم عليك سلاماً أو سلمت سلاماً فقال إبراهيم إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون وكان خوفه لامتناعهم من الأكل وقيل لأنهم دخلوا عليه بغير إذن وبغير وقت وقرأ الحسن لاَ تَوْجَلْ بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه وقرىء لا تأجل ولا تواجل من واجله بمعنى أو جله وهذه القصة قد مر ذكرها بالاستقصاء في سورة هود وقوله قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فيه أبحاث
البحث الأول قرأ حمزة إِنَّا نُبَشّرُكَ بفتح النون وتخفيف الباء والباقون نُبَشّرُكَ بالتشديد
البحث الثاني قوله ءانٍ نُبَشّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل والمعنى أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل
البحث الثالث قوله إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ بشروه بأمرين أحدهما أن الولد ذكر والآخر أنه يصير عليماً واختلفوا في تفسير العليم فقيل بشروه بنبوته بعده وقيل بشروه بأنه عليم بالدين ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون فمعنى عَلَى ههنا للحال أي حالة الكبر وقوله فِيمَ تُبَشّرُونَ فيه مسألتان
المسألة الأولى لفظ ما ههنا استفهام بمعنى التعجب كأنه قال بأي أعجوبة تبشروني
فإن قيل في الآية إشكالان الأول أنه كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلق الولد منه في زمان الكبر وإنكار قدرة الله تعالى في هذا الموضع كفر الثاني كيف قال فِيمَ تُبَشّرُونَ مع أنهم قد بينوا ما بشروه به وما فائدة هذا الإستفهام قال القاضي أحسن ما قيل في الجواب عن ذلك أنه أراد أن يعرف أنه تعالى يعطيه الولد مع أنه يبقيه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شاباً ثم يعطيه الولد والسبب في هذا الاستفهام أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامة وإنما يحصل في حال الشباب
فإن قيل فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم فلم قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين
قلنا إنهم بينوا أن الله تعالى بشره بالولد مع إبقائه على صفة الشيخوخة وقوله فلا تكن من القانطين لا يدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرح في جوابهم بما يدل على أنه ليس كذلك فقال وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ وفيه جواب آخر وهو أن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيء وفاته الوقت الذي يغلب على ظنه حصول ذلك المراد فيه فإذا بشر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه وسروره ويصير ذلك الفرح القوي كالمدهش له والمزيل لقوة فهمه وذكائه فلعله يتكلم بكلمات مضطربة في ذلك الفرح في ذلك الوقت وقيل أيضاً إنه يستطيب تلك البشارة فربما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة وطلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق مثل قوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 ) وقيل أيضاً استفهم أبأمر الله تبشرون أم من عند أنفسكم واجتهادكم
المسألة الثانية قرأ نافع تُبَشّرُونَ بكسر النون خفيفة في كل القرآن وقرأ ابن كثير بكسر النون وتشديدها والباقون بفتح النون خفيفة أما الكسر والتشديد فتقديره تبشرونني أدغمت نون الجمع في نون(19/156)
الإضافة وأما الكسر والتخفيف فعلى حذف نون الجمع استثقالاً لاجتماع المثلين وطلباً للتخفيف قال أبو حاتم حذف نافع الياء مع النون قال وإسقاط الحرفين لا يجوز وأجيب عنه بأنه أسقط حرفاً واحداً وهي النون التي هي علامة للرفع وعلى أن حذف الحرفين جائز قال تعالى في موضع وَلاَ تَكُ وفي موضع وَلاَ تَكُن فأما فتح النون فعلى غير الإضافة والنون علامة الرفع وهي مفتوحة أبداً وقوله بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقّ قال ابن عباس يريد بما قضاه الله تعالى والمعنى أن الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق عليه السلام ويخرج من صلب إسحق مثل ما أخرج من صلب آدم فإنه تعالى بشر بأنه يخرج من صلب إسحق أكثر الأنبياء فقوله بِالْحَقّ إشارة إلى هذا المعنى وقوله فَلاَ تَكُن مّنَ الْقَانِطِينَ نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط وقد ذكرنا كثيراً أن نهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كون المنهى فاعلاً للمنهى عنه كما في قوله وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 1 ) ثم حكى تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا الكلام حق لأن القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا عند الجهل بأمور أحدها أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه وثانيها أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياح ذلك العبد إليه وثالثها أن يجهل كونه تعالى منزهاً عن البخل والحاجة والجهل فكل هذه الأمور سبب للضلال فلهذا المعنى قال وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو والكسائي ( يقنط ) بكسر النون ولا تقطنوا كذلك والباقون بفتح النون وهما لغتان قنط يقنط نحو ضرب يضرب وقنط يقنط نحو علم يعلم وحكى أبو عبيدة قنط يقنط بضم النون قال أبو علي الفارسي قنط يقنط بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات يدل على ذلك اجتماعهم في قوله مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ( الشورى 28 ) وحكاية أبي عبيدة تدل أيضاً على أن قنط بفتح النون أكثر لأن المضارع من فعل يجيء على يفعل ويفعل مثل فسق يفسق ويفسق ولا يجيء مضارع فعل على يفعل والله أعلم
مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ وَقَالُواْ ياأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة ِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَة َ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الاٌّ وَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّة ُ الاٌّ وَّلِينَ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَى ْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِن مِّن شَى ْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لاًّسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة َ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَى َّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءَامِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبِّى ءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاٌّ لِيمُ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِى َ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَمَا خَطْبُكُمْ سؤال عما لأجله أرسلهم الله تعالى والخطب والشأن والأمر سواء إلا أن لفظ الخطب أدل على عظم الحال
فإن قيل إن الملائكة لما بشروه بالولد الذكر العليم فكيف قال لهم بعد ذلك فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ(19/157)
قلنا فيه وجوه الأول قال الأصم معناه ما الأمر الذي توجهتم له سوى البشرى الثاني قال القاضي إنه علم أنه لو كان كمال المقصود إيصال البشارة لكان الواحد من الملائكة كافياً فلما رأى جمعاً من الملائكة علم أن لهم غرضاً آخر سوى إيصال البشارة فلا جرم قال فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ الثالث يمكن أن يقال إنهم قالوا إنا نبشرك بغلام عليم في معرض إزالة الخوف والوجل ألا ترى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما خاف قالوا له لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ولو كان تمام المقصود من المجيء هو ذكر تلك البشارة لكانوا في أول ما دخلوا عليه ذكروا تلك البشارة فلما لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذا الطريق أنه ما كان مجيئهم لمجرد هذه البشارة بل كان لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض فقال فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ
ثم حكى تعالى عن الملائكة أنهم قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ وإنما اقتصروا على هذا القدر لعلم إبراهيم عليه السلام بأن الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين كان ذلك لإهلاكهم واستئصالهم وأيضاً فقولهم إِلا ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ يدل على أن المراد بذلك الإرسال إهلاك القوم
أما قوله تعالى إِلا ءالَ لُوطٍ فالمراد من آل لوط أتباعه الذين كانوا على دينه
فإن قيل قوله إِلا ءالَ لُوطٍ هل هو استثناء منقطع أو متصل
قلنا قال صاحب ( الكشاف ) إن كان هذا الاستثناء استثناء من ( قوم ) كان منقطعاً لأن القوم موصوفون بكونهم مجرمين وآل لوط ما كانوا مجرمين فاختلف الجنسان فوجب أن يكون الاستثناء منقطعاً وإن كان استثناء من الضمير في ( مجرمين ) كان متصلاً كأنه قيل إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم كما قال فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ ( الذاريات 36 ) ثم قال صاحب ( الكشاف ) ويختلف المعنى بحسب اختلاف هذين الوجهين وذلك لأن آل لوط يخرجون في المنقطع من حكم الإرسال لأن على هذا التقير الملائكة أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة وما أرسلوا إلى آل لوط أصلاً وأما في المتصل فالملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء وأما قوله إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ فاعلم أنه قرأ حمزة والكسائي منجوهم خفيفة والباقون مشددة وهما لغتان
أما قوله تعالى أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قال صاحب ( الكشاف ) هذا استثناء من الضمير المجرور في قوله لَمُنَجُّوهُمْ وليس ذلك من باب الاستثناء من الاستثناء لأن الاستثناء من الإستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه كما لو قيل أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته وكما لو قال المطلق لامرأته أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين إلا واحدة وكما إذا قال المقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً فأما في هذه الآية فقد اختلف الحكمان لأن قوله إِلا ءالَ لُوطٍ متعلق بقوله أَرْسَلْنَا أو بقوله مُّجْرِمِينَ وقوله إِلاَّ امْرَأَتَهُ قد تعلق بقوله منجوهم فكيف يكون هذا استثناء من استثناء
وأما قوله امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن معنى التقدير في اللغة جعل الشيء على مقدار غيره يقال قدر هذا الشيء بهذا أي اجعله على مقداره وقدر الله تعالى الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية ثم يفسر التقدير(19/158)
بالقضاء فقال قضى الله عليه كذا وقدره عليه أي جعله على مقدار ما يكفي في الخير والشر وقيل في معنى قَدَّرْنَآ كتبنا قال الزجاج دبرنا وقيل قضينا والكل متقارب
المسألة الثانية قرأ أبو بكر عن عاصم قَدَّرْنَآ بتخفيف الدال ههنا وفي النمل وقرى الباقون فيهما بالتشديد قال الواحدي يقال قدرت الشيء وقدرته ومنه قراءة ابن كثير نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ( الواقعة 60 ) خفيفاً وقراءة الكسائي وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ثم قال والمشددة في هذا المعنى أكثر استعمالاً لقوله تعالى وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا ( فصلت 10 ) وقوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
المسألة الثالثة لقائل أن يقول لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله تعالى ولم لم يقولوا قدر الله تعالى
والجواب إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم وإنما يريدون بذكر هذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الرابعة قوله إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ في موضع مفعول التقدير قضينا أنها تتخلف وتبقى مع من يبقى حتى تهلك كما يهلكون ولا تكون ممن يبقى مع لوط فتصل إلى النجاة والله أعلم
فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَآتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
اعلم أن الملائكة لما بشروا إبراهيم بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون لعذاب قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط وإلى آله وأن لوط وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة الله فلهذا قال لهم إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ وفي تأويله وجوه الأول أنه إنما وصفهم بأنهم منكرون لأنه عليه الصلاة والسلام ما عرفهم فلما هجموا عليه استنكر منهم ذلك وخاف أنهم دخلوا عليه لأجل شر يوصلونه إليه فقال هذه الكلمة والثاني أنهم كانوا شباباً مرداً حسان الوجوه فخاف أن يهجم قومه عليه بسبب طلبهم فقال هذه الكلمة والثالث أن النكرة ضد المعرفة فقوله إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ أي لا أعرفكم ولا أعرف أنكم من أي الأقوام ولأي غرض دخلتم علي فعند هذه الكلمة قالت الملائكة بل جئناك بما كانوا فيه يمترون أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في نزوله ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم وَاتَيْنَاكَ بِالْحَقّ قال الكلبي بالعذاب وقيل باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو عذاب أولئك الأقوام ثم أكدوا هذا التأكيد بقولهم وِإِنَّا لَصَادِقُونَ
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاٌّ مْرَ أَنَّ دَابِرَ هَاؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ(19/159)
قرىء فَأَسْرِ بقطع الهمزة ووصلها من أسرى وسرى وروى صاحب الكشاف عن صاحب الإقليد فسر مِنْ السير والقطع آخر الليل قال الشاعر افتحي الباب وانظري في النجوم
كم علينا من قطع ليل بهيم
وقوله وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ معناه اتبع آثار بناتك وأهلك وقوله وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ الفائدة فيه أشياء أحدها لئلا يتخلف منكم أحد فينا له العذاب وثانيها لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من البلاء وثالثها معناه الإسراع وترك الاهتمام لما خلف وراءه كما تقول امض لشأنك ولا تعرج على شيء ورابعها لو بقي منه متاع في ذلك الموضع فلا يرجعن بسببه ألبتة وقوله وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قال ابن عباس يعني الشام قال المفضل حيث يقول لكم جبريل وذلك لأن جبريل عليه السلام أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة أهلها ما عملوا مثل عمل قوم لوط وقوله وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ عدى قضينا بإلى لأنه ضمن معنى أوحينا كأنه قيل وأوحيناه إليه مقضياً مبتوتاً ونظيره قوله تعالى وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ ( الإسراء 4 ) وقوله ثُمَّ اقْضُواْ إِلَى َّ ( يونس 71 ) ثم إنه فسر بعد ذلك القضاء المبتوت بقوله أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ وفي إبهامه أولاً وتفسيره ثانياً تفخيم للأمر وتعظيم له وقرأ الأعمش ءانٍ بالكسر على الاستئناف كان قائلاً قال أخبرنا عن ذلك الأمر فقال إن دابر هؤلاء وفي قراءة ابن مسعود وقلنا أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء ودابرهم آخرهم يعني يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد وقوله مُّصْبِحِينَ أي حال ظهور الصبح
وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَة ِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَاؤُلآءِ ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَاؤُلآءِ بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لِلْمُؤْمِنِينَ
اعلم أن المراد بأهل المدينة قوم لوط وليس في الآية دليل على أن المكان الذي جاؤه إلا أن القصة تدل(19/160)
على أنهم جاؤوا دار لوط قيل إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط وقيل امرأة لوط أخبرتهم بذلك وبالجملة فالقوم قالوا نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح وجهاً ولا أحسن شكلاً منهم فذهبوا إلى دار لوط طلبها منهم لأولئك المرد والاستبشار إظهار السرور فقال لهم لوط لما قصدوا أضيافه كلامين
الكلام الأول قال إِنَّ هَؤُلآء ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ يقال فضحه يفضحه فضحاً وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار والمعنى أن الضيف يجب إكرامه فإذا قصدتموهم بالسوء كان ذلك إهانة بي ثم أكد ذلك بقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فأجابوه بقولهم أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ والمعنى ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة
والكلام الثاني مما قاله لوط قوله هَاؤُلآء بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قيل المراد بناته من صلبه وقيل المراد نساء قومه لأن رسول الأمة يكون كالأب لهم وهو كقوله تعالى النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 ) وفي قراءة أبي وهو أب لهم والكلام في هذه المباحث قد مر بالاستقصاء في سورة هود عليه السلام
أما قوله لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فيه مسائل
المسألة الأولى العمر والعمر واحد وسمي الرجل عمراً تفاؤلاً أن يبقى ومنه قول ابن أحمر
ذهب الشباب وأخلق العمر
وعمر الرجل يعمر عمراً وعمرا فإذا أقسموا به قالوا لعمرك وعمرك فتحوا العين لا غير قال الزجاج لأن الفتح أخف عليهم وهم يكثرون القسم بلعمري ولعمرك فالتزموا الأخف
المسألة الثانية في قوله لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قولان الأول أن المراد أن الملائكة قالت للوط عليه السلام لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي في غوايتهم يعمهون أي يتحيرون فكيف يقبلون قولك ويلتفتون إلى نصيحتك والثاني أن الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه تعالى أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله تعالى قال النحويون ارتفع قوله لَعَمْرُكَ بالابتداء والخبر محذوف والمعنى لعمرك قسمي وحذف الخبر لأن في الكلام دليلاً عليه وباب القسم يحذف منه الفعل نحو بالله لأفعلن والمعنى أحلف بالله فيحذف لعلم المخاطب بأنك حالف
ثم قالت عالى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ أي صيحة جبريل عليه السلام قال أهل المعاني ليس في الآية دلالة على أن تلك الصيحة صيحة جبريل عليه السلام فإن ثبت ذلك بدليل قوي قيل به وإلا فليس في الآية دلالة إلا على أنه جاءتهم صيحة عظيمة مهلكة وقوله مُشْرِقِينَ يقال شرق الشارق يشرق شروقاً لكل ما طلع من جانب الشرق ومنه قولهم ما ذر شارق أي طلع طالع فقوله مُشْرِقِينَ أي داخلين في الشروق يقال أشرق الرجل إذا دخل في الشروق وهو بزوغ الشمس
واعلم أن الآية تدل على أنه تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب أحدها الصيحة الهائلة المنكرة وثانيها أنه جعل عاليها سافلها وثالثها أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل وكل هذه الأحوال قد مر(19/161)
تفسيرها في سورة هود
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ يقال توسمت في فلان خيراً أي رأيت فيه أثراً منه وتفرسته فيه واختلفت عبارات المفسرين في تفسير المتوسمين قيل المتفرسين وقيل الناظرين وقيل المتفكرين وقيل المعتبرين وقيل المتبصرين قال الزجاج حقيقة المتوسمين في اللغة المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا سمة الشيء وصفته وعلامته والمتوسم الناظر في السمة الدالة تقول توسمت في فلان كذا أي عرفت وسم ذلك وسمته فيه
ثم قال وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ الضمير في قوله وَإِنَّهَا عائد إلى مدينة قوم لوط وقد سبق ذكرها في قوله وَجَآء أَهْلُ الْمَدِينَة ِ وقوله لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ أي هذه القرى وما ظهر فيها من آثار قهر الله وغضبه لبسبيل مقيم ثابت لم يندرس ولم يخف والذين يمرون من الحجاز إلى الشام يشاهدونها
ثم قال إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لِلْمُؤْمِنِينَ أي كل من آمن بالله وصدق الأنبياء والرسل عرف أن ذلك إنما كان لأجل أن الله تعالى انتقم لأنبيائه من أولئك الجهال أما الذين لا يؤمنون بالله فإنهم يحملونه على حوادث العالم ووقائعه وعلى حصول القرانات الكوكبية والاتصالات الفلكية والله أعلم
وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الاٌّ يْكَة ِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ
اعلم أن هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة فأولها قصة آدم وإبليس وثانيها قصة إبراهيم ولوط وثالثها هذه القصة وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب عليه السلام كانوا أصحاب غياض فكذبوا شعيباً فأهلكهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة وقد ذكر الله تعالى قصتهم في سورة الشعراء والأيكة الشجر الملتف يقال أيكة وأيك كشجرة وشجر قال ابن عباس الأيك هو شجر المقل وقال الكلبي الأيكة الغيضة وقال الزجاج هؤلاء أهل موضع كان ذا شجر قال الواحدي ومعنى إن واللام للتوكيد وإن ههنا هي المخففة من الثقيلة وقوله فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ قال المفسرون اشتد الحر فيهم أياماً ثم اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا عن آخرهم وقوله وَإِنَّهُمَا فيه قولان
القول الأول المراد قرى قوم لوط عليه السلام والأيكة
والقول الثاني الضمير للأيكة ومدين لأن شعيباً عليه السلام كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما وقوله لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ أي بطريق واضح والإمام اسم ما يؤتم به قال الفراء والزجاج إنما جعل الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع قال ابن قتيبة لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده وقوله مُّبِينٌ يحتمل أنه مبين في نفسه ويحتمل أنه مبين لغيره لأن الطريق يهدي إلى المقصد
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَءَاتَيْنَاهُمْ ءَايَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ مُصْبِحِينَ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(19/162)
هذه هي القصة الرابعة وهي قصة صالح قال المفسرون الحجر اسم وادٍ كان يسكنه ثمود وقوله الْمُرْسَلِينَ المراد منه صالح وحده ولعل القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل وقوله وَءاتَيْنَاهُمْ ءايَاتِنَا يريد الناقة وكان في الناقة آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظم خلقها وظهور نتاجها عند خروجها وكثرة لبنها وأضاف الإيتاء إليهم وإن كانت الناقة آية لصالح لأنها آيات رسولهم وقوله فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ يدل على أن النظر والاستدلال واجب وأن التقليد مذموم وقوله وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ قد ذكرنا كيفية ذلك النحت في سورة الأعراف وقوله ءامِنِينَ يريد من عذاب الله وقال الفراء ءامِنِينَ أن يقع سقفهم عليهم وقوله فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أي ما دفع عنهم الضر والبلاء ما كانوا يعملون من نحت تلك الجبال ومن جمع تلك الأموال والله أعلم
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَة َ لآتِيَة ٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أهلك الكفار فكأنه قيل الإهلاك والتعذيب كيف يليق بالرحيم الكريم فأجاب عنه بأني إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة فإذا تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير وجه الأرض منهم وهذا النظم حسن إلا أنه إنما يستقيم على قول المعتزلة قال الجبائي دلت الآية على أنه تعالى ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا حقاً وبكون الحق لا يكون الباطل لأن كل ما فعل باطلاً وأريد بفعله كون الباطل لا يكون حقاً ولا يكون مخلوقاً بالحق وفيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلقه الله تعالى بين السموات والأرض من الكفر والمعاصي باطل
واعلم أن أصحابنا قالوا هذه الآية تدل على أنه سبحانه هو الخالق لجميع أعمال العباد لأنها تدل على أنه سبحانه هو الخالق للسموات والأرض ولكل ما بينهما ولا شك أن أفعال العباد بينهما فوجب أن يكون خالقها هو الله سبحانه وفي الآية وجه آخر في النظم وهو أن المقصود من ذكر هذه القصص تصبير الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام على سفاهة قومه فإنه إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء الله تعالى بمثل هذه المعاملات الفاسدة سهل تحمل تلك السفاهات على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنه تعالى لما بين أنه أنزل العذاب على الأمم السالفة فعند هذا قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِنَّ السَّاعَة َ لآتِيَة ٌ وإن الله لينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق والعدل والإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم فقال فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضاً جميلاً(19/163)
بحلم وإغضاء وقيل هو منسوخ بآية السيف وهو بعيد لأن المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والعفو والصفح فكيف يصير منسوخاً
ثم قال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ومعناه أنه خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم وتفاوت أحوالهم مع علمه بكونهم كذلك وإذا كان كذلك فإنما خلقهم مع هذا التفاوت ومع العلم بذلك التفاوت أما على قول أهل السنة فلمحض المشيئة والإرادة وأما على قول المعتزلة فلأجل المصلحة والحكمة والله أعلم
وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما صبره على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بها لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه سهل عليه الصفح والتجاوز وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله سَبْعًا مّنَ يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات وأن يكون سبعاً من السور وأن يكون سبعاً من الفوائد وليس في اللفظ ما يدل على التعيين وأما المثاني فهو صيغة جمع واحده مثناة والمثناة كل شيء يثنى أي يجعل اثنين من قولك ثنيت الشيء إذا عطفته أو ضممت إليه آخر ومنه يقال لركبتي الدابة ومرفقيها مثاني لأنها تثنى بالفخذ والعضد ومثاني الوادي معاطفه
إذا عرفت هذا فنقول سبعاً من المثاني مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى ولا شك أن هذا القدر مجمل ولا سبيل إلى تعيينه إلا بدليل منفصل وللناس فيه أقوال الأول وهو قول أكثر المفسرين إنه فاتحة الكتاب وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ الفاتحة وقال هي السبع المثاني رواه أبو هريرة والسبب في وقوع هذا الاسم على الفاتحة أنها سبع آيات وأما السبب في تسميتها بالمثاني فوجوه الأول أنها تثنى في كل صلاة بمعنى أنها تقرأ في كل ركعة والثاني قال الزجاج سميت مثاني لأنها يثنى بعدها ما يقرأ معها الثالث سميت آيات الفاتحة مثاني لأنها قسمت قسمين اثنين والدليل عليه ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) والحديث مشهور الرابع سميت مثاني لأنها قسمان ثناء ودعاء وأيضاً النصف الأول منها حق الربوبية وهو الثناء والنصف الثاني حق العبودية وهو الدعاء الخامس سميت الفاتحة بالمثاني لأنها نزلت مرتين مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن ومرة بالمدينة السادس سميت بالمثاني لأن كلماتها مثناة مثل الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ( الفاتحة 2 7 ) وفي قراءة عمر ( غير المغضوب عليهم وغير الضالين )(19/164)
السابع قال الزجاج سميت الفاتحة بالمثاني لاشتمالها على الثناء على الله تعالى وهو حمد الله وتوحيده وملكه
واعلم أنا إذا حملنا قوله سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي على سورة الفاتحة فههنا أحكام
الحكم الأول
نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال كان ابن مسعود يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب رأى أنها ليست من القرآن وأقول لعل حجته فيه أن السبع المثاني لما ثبت أنه هو الفاتحة ثم إنه تعالى عطف السبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه وجب أن يكون السبع المثاني غير القرآن إلا أن هذا يشكل بقوله تعالى وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الأحزاب 7 وكذلك قوله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل البقرة 98 وللخصم أن يجيب بأنه لا يبعد أن يذكر الكل ثم يعطف عليه ذكر بعض أجزائه وأقسامه لكونه أشرف الأقسام أما إذا ذكر شيء ثم عطف عليه شيء آخر كان المذكور أولا مغايرا للمذكور ثانيا وههنا ذكر السبع المثاني ثم عطف عليه القرآن العظيم فوجب حصول المغايرة
والجواب الصحيح أن بعض الشيء مغاير لمجموعه فلم لا يكفي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف والله أعلم
الحكم الثاني
أنه لما كان المراد بقوله سبعا من المثاني هو الفاتحة دل على أن هذه السورة أفضل سور القرآن من وجهين أحدهما أن إفرادها بالذكر مع كونها جزءا من أجزاء القرآن لا بد وأن يكون لاختصاصها بمزيد الشرف والفضيلة ولاثاني أنه تعالى لما أنزلها مرتين دل ذلك على زيادة فضلها وشرفها
وإذا ثبت هذا فنقول لما رأينا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واظب على قراءتها في جميع الصلوات طول عمره وما أقام سورة أخرى مقامها في شيء من الصلوات دل ذلك على أنه يجب على المكلف أن يقرأها في صلاته وأن لا يقيم سائر آيات القرآن مقامها وأن يحترز عن هذا الإبدال فإن فيه خطرا عظيما والله أعلم
القول الثاني في تفسير قوله سبعا من المثاني أنها السبع الطوال وهذا قول ابن عمر وسعيد بن جبير في بعض الروايات ومجاهد وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة معا قالوا وسميت هذه السور مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والعبر ثنيت فيها وأنكر الربيع هذا القول وقال هذه الآية مكية وأكثر هذه السور السبعة مدنية وما نزل شيء منها في مكة فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها
وأجاب قوم عن هذا الإشكال بأن الله تعالى أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا ثم أنزله على نبيه منها نجوما فلما أنزله إلى السماء الدنيا وحكم بإنزاله عليه فهو من جملة ما آتاه وإن لم ينزل عليه بعد
ولقائل أن يقول إنه تعالى قال ولقد آتيناك سبعا من المثاني وهذا الكلام إنما يصدق إذا وصل ذلك الشيء إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأما الذي أنزله إلى السماء الدنيا وهو لم يصل بعد إلى محمد عليه السلام فهذا الكلام لا يصدق فيه وأما قوله بأنه لما حكم الله تعالى بإنزاله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان ذلك جاريا مجرى ما نزل(19/165)
عليه فهذا أيضا ضعيف لأن إقامة ما لم ينزل عليه مقام النازل عليه مخالف للظاهر
والقول الثالث في تفسير السبع المثاني أنها هي السور التي هي دون الطوال والمئين وفوق المفصل واختار هذا القول قوم واحتجوا عليه بما روى ثوبان أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة أعطاني المئين مكان الإنجيل وأعطاني المثاني مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصل قال الواحدي والقول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطوال مثاني وأقول إن صح هذا التفسير عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلا غبار عليه وإن لم يصح فهذا القول مشكل لأنا بينا أن المسمى بالسبع المثانييجب أن يكون أفضل من سائر السور وأجمعوا على أن هذه السور التي سموها بالمثاني ليست أفضل من غيرها فيمتنع حمل السبع المثاني على تلك السور
والقول الرابع أن السبع المثاني هو القرآن كله وهو منقول عن ابن عباس في بعض الروايات وقول طاوس قالوا ودليل هذا القول قوله تعالى كتابا متشابها مثاني الزمر 23 فوصف كل القرآن بكونه مثاني ثم اختلف القائلون بهذا القول في أنه ما المراد بالسبع وما المراد بالمثاني أما السبع فذكر فيه وجوها أحدها أن القرآن سبعة أسباع وثانيها أن القرآن مشتمل على سبعة أنواع من العلوم التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر وأحوال العالم والقصص والتكاليف وثالثها أنه مشتمل على الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء والقسم والأمثال وأما وصف كل القرآن بالمثاني فلأنه كرر فيه دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف وهذا القول ضعيف أيضا لأنه لو كان المراد بالسبع المثاني القرآن لكان قوله والقرآن العظيم عطفا للشيء على نفسه وذلك غير جائز
وأجيب عنه بأنه حسن إدخال حرف العطف فيه لاختلاف اللفظين كقول الشاعر إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
واعلم أن هذا وإن كان جائزا لأجل وروده في هذا البيت إلا أنهم أجمعوا على أن الأصل خلافه
والقول الخامس يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة لأنها سبع آيات ويكون المراد بالمثاني كل القرآن ويكون التقدير ولقد آتيناك سبع آيات هي الفاتحة وهي من جملة المثاني الذي هو القرآن وهذا القول عين الأول والتفاوت ليس إلا بقليل والله أعلم
المسألة الثانية لفظة من في قوله سبعا من المثاني قال الزجاج فيها وجهان أحدهما أن تكون للتبعيض من القرآن أي ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله تعالى وآتيناك القرآن العظيم قال ويجوز أن تكون من صلة والمعنى آتيناك سبعا هي المثاني كما قال فاجتنبوا الرجس من الأوثان الحج 30 المعنى اجتنبوا الأوثان لا أن بعضها رجس والله أعلم
أما قوله تعالى لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم فاعلم أنه تعالى لما عرف رسوله عظم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين وهو أنه آتاه سبعا من المثاني والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها وفي مد العين أقوال
القول الأول كأنه قيل له إنك أوتيت القرآن العظيم فلا تشغل سرك وخاطرك بالالتفات إلى الدنيا ومنه(19/166)
الحديث { ليس منا من لم يتغن بالقرآن } وقال أبو بكر من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا وقيل وافت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فقال الله تعالى لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع
القول الثاني قال ابن عباس لا تمدن عينيك أي لا تتمن ما فضلنا به أحد من متاع الدنيا وقرر الواحدي هذا المعنى فقال إنما يكون مادا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه وإدامة النظر إلى الشيء تدل على استحسانه وتمنيه وكان ( صلى الله عليه وسلم ) لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا وروي أنه نظر إلى نعم بني المصطلق وقد عبست في أبوالها وأبعارها فتقنع في ثوبه وقرأ هذه الآية وقوله عبست في أبوالها وأبعارها هو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها إذا تركت من العمل أيام الربيع فتكثر شحومها ولحومها وهي أحسن ما تكون
والقول الثالث قال بعضهم ولا تمدن عينيك أي لا تحسدن أحدا على ما أوتي من الدنيا قال القاضي هذا بعيد لأن الحسد من كل أحد قبيح لأنه إرادة لزوال نعم الغير عنه وذلك يجري مجرى الاعتراض على الله تعالى والاستقباح لحكمه وقضائه وذلك من كل أحد قبيح فكيف يحسن تخصيص الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) به
أما قوله تعالى أزواجا منهم قال ابن قتيبة أي أصنافا من الكفار والزوج في اللغة الصنف ثم قال ولا تحزن عليهم إن لم يؤمنوا فيقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون والحاصل أن قوله ولا تمدن عينيك إلا ما متعنا به أزواجا منهم نهي له عن الالتفات إلى أموالهم وقوله ولا تحزن عليهم نهي له عن الالتفات إليهم وأن يحصل لهم في قلبه قدر ووزن
ثم قال واخفض جناحك للمؤمنين الخفض معناه في اللغة نقيض الرفع ومنه قوله تعالى في صفة القيامة خافضة رافعة الواقعة 3 أي أنها تخفض أهل المعاصي وترفع أهل الطاعات فالخفض معناه الوضع وجناح الإنسان يده قال الليث يدا الإنسان جناحاه ومنه قوله واضمم إليك جناحك من الرهب القصص 32 وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع والمقصود أنه تعالى لما نهاه عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين ونظيره قوله تعالى أذلة المؤمنين أعزة على الكافرين المائدة 54 وقال في صفة أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشداء على الكفار رحماء بينهم الفتح 29
وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ
اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالزهد في الدنيا وخفض الجناح للمؤمنين أمره بأن يقول للقوم إِنّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(19/167)
فيدخل تحت كونه نذيراً كونه مبلغاً لجميع التكاليف لأن كل ما كان واجباً ترتب على تركه عقاب وكل ما كان حراماً ترتب على فعله عقاب فكان الأخبار بحصول هذا العقاب داخلاً تحت لفظ النذير ويدخل تحته أيضاً كونه شارحاً لمراتب الثواب والعقاب والجنة والنار ثم أردفه بكونه مبيناً ومعناه كونه آتياً في كل ذلك بالبيانات الشافية والبينات الوافية ثم قال بعده كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وفيه بحثان
البحث الأول اختلفوا في أن المقتسمين من هم وفيه أقوال
القول الأول قال ابن عباس هم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويقرب عددهم من أربعين وقال مقاتل بن سليمان كانوا ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا عقبات مكة وطرقها يقولون لمن يسلكها لا تغتروا بالخارج منا والمدعي للنبوة فإنه مجنون وكانوا ينفرون الناس عنه بأنه ساحر أو كاهن أو شاعر فأنزل الله تعالى بهم خزياً فماتوا شر ميتة والمعنى أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين
والقول الثاني وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات أن المقتسمين هم اليهود والنصارى واختلفوا في أن الله تعالى لم سماهم مقتسمين فقيل لأنهم جعلوا القرآن عضين آمنوا بما وافق التوراة وكفروا بالباقي وقال عكرمة لأنهم اقتسموا القرآن استهزاء به فقال بعضهم سورة كذا لي وقال بعضهم سورة كذا لي وقال مقاتل بن حبان اقتسموا القرآن فقال بعضهم سحر وقال بعضهم شعر وقال بعضهم كذب وقال بعضهم أساطير الأولين
والقول الثالث في تفسير المقتسمين قال ابن زيد هم قوم صالح تقاسموا لنبيتنه وأهله فرمتهم الملائكة بالحجارة حتى قتلوهم فعلى هذا والاقتسام من القسم لا من القسمة وهو اختيار ابن قتيبة
البحث الثالث أن قوله كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ يتقضي تشبيه شيء بذلك فما ذلك الشيء
والجواب عنه من وجهين
الوجه الأول التقدير ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم كما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا بعنادهم وجهلهم بعضه حق موافق للتوارة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل
فإن قيل فعلى هذا القول كيف توسط بين المشبه والمشبه به قوله وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ( الحجر 88 ) إلى آخره
قلنا لما كان ذلك تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدار لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم
والوجه الثاني أن يتعلق هذا الكلام بقوله وَقُلْ إِنّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ
واعلم أن هذا الوجه لا يتم إلا بأحد أمرين إما التزام إضمار أو التزام حذف أما الإضمار فهو أن يكون التقدير إني أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلناه على المقتسمين وعلى هذا الوجه المفعول محذوف وهو المشبه ودل عليه المشبه به وهذا كما تقول رأيت كالقمر في الحسن أي رأيت إنساناً كالقمر في(19/168)
الحسن وأما الحذف فهو أن يقال الكاف زائدة محذوفة والتقدير إني أنا النذير المبين ما أنزلناه على المقتسمين وزيادة الكاف له نظير وهو قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والتقدير ليس مثله شيء وقال بعضهم لا حاجة إلى الإضمار والحذف والتقدير إني أنا النذير أي أنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين وقوله الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءانَ عِضِينَ فيه بحثان
البحث الأول في هذا اللفظ قولان الأول أنه صفة للمقتسمين والثاني أنه مبتدأ وخبره هو قوله لَنَسْئَلَنَّهُمْ وهو قول ابن زيد
البحث الثاني ذكر أهل اللغة في واحد عضين قولين
القول الأول أن واحدها عضة مثل عزة وبرة وثبة وأصلها عضوة من عضيت الشيء إذا فرقته وكل قطعة عضة وهي مما نقص منها واو هي لام الفعل والتعضية التجزئة والتفريق يقال عضيت الجزور والشاة تعضية إذا جعلتها أعضاء وقسمتها وفي الحديث ( لا تعضية في ميراث إلا فيما احتمل القسمة ) أي لا تجزئه فيما لا يحتمل القسمة كالجوهرة والسيف فقوله جَعَلُواْ الْقُرْءانَ عِضِينَ يريد جزؤه أجزاء فقالوا سحر وشعر وأساطير الأولين ومفترى
والقول الثاني أن واحدها عضة وأصلها عضهة فاستثقلوا الجمع بين هاءين فقالوا عضة كما قالوا شفة والأصل شفهة بدليل قولهم شافهت مشافهة وسنة وأصلها سنهة في بعض الأقوال وهو مأخوذ من العضة بمعنى الكذب ومنه الحديث ( إياكم والعضة ) وقال ابن السكيت العضة بأن يعضه الإنسان ويقول فيه ما ليس فيه وهذا قول الخليل فيما روى الليث عنه فعلى هذا القول معنى قوله تعالى جَعَلُواْ الْقُرْءانَ عِضِينَ أي جعلوه مفترى وجمعت العضة جمع ما يعقل لما لحقها من الحذف فجعل الجمع بالواو والنون عوضاً مما لحقها من الحذف
فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلاهًا ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يحتمل أن يكون راجعاً إلى المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى ويكون التقدير أنه تعالى أقسم بنفسه أن يسأل هؤلاء المقتسمين عما كانوا يقولونه من اقتسام القرآن وعن سائر المعاصي ويحتمل أن يكون راجعاً إلى جميع المكلفين لأن ذكرهم قد تقدم في قوله وَقُلْ إِنّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ( الحجر 89 ) أي لجميع الخلق وقد تقدم ذكر المؤمنين وذكر الكافرين فيعود قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ على الكل ولا معنى لقول من يقول إن(19/169)
السؤال إنما يكون عن الكفر أو عن الإيمان بل السؤال واقع عنهما وعن جميع الأعمال لأن اللفظ عام فيتناول الكل
فإن قيل كيف الجمع بين قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ وبين قوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 ) أجابوا عنه من وجوه
الوجه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما لا يسئلون سؤال الاستفهام لأنه تعالى عالم بكل أعمالهم وإنما يسئلون سؤال التقريع يقال لهم لم فعلتم كذا
ولقائل أن يقول هذا الجواب ضعيف لأنه لو كان المراد من قوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ سؤال الاستفهام لما كان في تخصيص هذا النفي بقوله يومئذ فائدة لأن مثل هذا السؤال على الله تعالى محال في كل الأوقات
والوجه الثاني في الجواب أن يصرف النفي إلى بعض الأوقات والإثبات إلى وقت آخر لأن يوم القيامة يوم طويل
ولقائل أن يقول قوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 ) هذا تصريح بأنه لا يحصل السؤال في ذلك اليوم فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء ذلك اليوم لحصل التناقض
والوجه الثالث أن نقول قوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ يفيد عموم النفي وقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عائد إلى المقتسمين وهذا خاص ولا شك أن الخاص مقدم على العام أما قوله فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ فاعلم أن معنى الصدع في اللغة الشق والفصل وأنشد ابن السكيت لجرير هذا الخليفة فارضوا ما قضى لكم
بالحق يصدع ما في قوله حيف
فقال يصدع يفصل وتصدع القوم إذا تفرقوا ومنه قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( الروم 43 ) قال الفراء يتفرقون والصدع في الزجاجة الإبانة أقول ولعل ألم الرأس إنما سمي صداعاً لأن قحف الرأس عند ذلك الألم كأنه ينشق قال الأزهري وسمي الصبح صديعاً كما يسمى فلقاً وقد انصدع وانفلق الفجر وانفطر الصبح
إذا عرفت هذا فقول فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ أي فرق بين الحق والباطل وقال الزجاج فاصدع أظهر ما تؤمر به يقال صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً كقولك صرح بها وهذا في الحقيقة يرجع أيضاً إلى الشق والتفريق أما قوله بِمَا تُؤْمَرُ ففيه قولان الأول أن يكون ( ما ) بمعنى الذي أي بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجار كقوله
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
الثاني أن تكون ( ما ) مصدرية أي فاصدع بأمرك وشأنك قالوا وما زال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مستخفياً حتى نزلت هذه الآية
ثم قال تعالى وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار(19/170)
الدعوة قال بعضهم هذا منسوخ بآية القتال وهو ضعيف لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم فلا يكون منسوخاً
ثم قال إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءينَ قيل كانوا خمسة نفر من المشركين الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث قال جبريل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى عقب الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظماً لأخذه فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال لدغت لدغت وانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحاً فمات وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات
واعلم أن المفسرين قد اختلفوا في عدد هؤلاء المستهزئين وفي أسمائهم وفي كيفية طريق استهزائهم ولا حاجة إلى شيء منها والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورياسة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة مع مثل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في علو قدره وعظم منصبه ودل القرآن على أن الله تعالى أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم والله أعلم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن قومه يسفهون عليه ولا سيما أولئك المقتسمون وأولئك المستهزؤون قال له وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك فعند هذا قال له فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ فأمره بأربعة أشياء بالتسبيح والتحميد والسجود والعبادة واختلف الناس في أنه كيف صار الإقبال على هذه الطاعات سبباً لزوال ضيق القلب والحزن فقال العارفون المحققون إذا اشتغل الإنسان بهذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية ومتى حصل ذلك الإنكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها وعند ذلك يزول الحزن والغم وقالت المعتزلة من اعتقد تنزيه الله تعالى عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق فإنه يعلم أنه عدل منزه عن إنزال المشاق به من غير غرض ولا فائدة فحينئذ يطيب قلبه وقال أهل السنة إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات كأنه يقول تجب على عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات وقوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الموت وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن
فإن قيل فأن فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات(19/171)
قلنا المراد منه وَاعْبُدْ رَبَّكَ في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة والله أعلم(19/172)
سورة النحل
مكية إلا الآيات الثلاث الأخيرة فمدنية
وآياتها 128 نزلت بعد سورة الكهف
بسم الله الرحمن الرحيم
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَ أَنَاْ فَاتَّقُونِ
سورة النحل
مكية غير ثلاث آيات في أخرها
وحكى الأصم عن بعضهم أن كلها مدنية وقال آخرون من أولها إلى قوله كُنْ فَيَكُونُ مدني وما سواه فمكي وعن قتادة بالعكس
واعلم أن هذه السورة تسمى سورة النعم وهي مائة وعشرون وثمان آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن معرفة تفسير هذه الآية مرتبة على سؤالات ثلاثة
فالسؤال الأول أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخوفهم بعذاب الدنيا تارة وهو القتل والاستيلاء عليهم كما حصل في يوم بدر وتارة بعذاب يوم القيامة وهو الذي يحصل عند قيام الساعة ثم إن القوم لما لم يشاهدوا شيئاً من ذلك احتجوا بذلك على تكذيبه وطلبوا منه الإتيان بذلك العذاب وقالوا له ائتنا به وروي أنه لما نزل قوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( القمر 1 ) قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن فلما تأخرت قالوا ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزل قوله اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ( الأنبياء 1 ) فأشفقوا وانتظروا يومها فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزل قوله أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فوثب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورفع الناس رؤوسهم فنزل قوله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ(19/173)
والحاصل أنه عليه السلام لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ وفي تقرير هذا الجواب وجهان
الوجه الأول أنه وإن لم يأت ذلك العذاب إلا أنه كان واجب الوقوع والشيء إذا كان بهذه الحالة والصفة فإنه يقال في الكلام المعتاد أنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه بعد ذلك مجرى الواقع يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها قد جاءك الغوث فلا تجزع
والوجه الثاني وهو أن يقال أن أمر الله بذلك وحكمه به قد أتى وحصل ووقع فأما المحكوم به فإنما لم يقع لأنه تعالى حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود والحاصل كأنه قيل أمر الله وحكمه بنزول العذاب قد حصل ووجد من الأزل إلى الأبد فصح قولنا أتى أمر الله إلا أن المحكوم به والمأمور به إنما لم يحصل لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين فلا تستعجلوه ولا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت
السؤال الثاني قالت الكفار هب أنا سلمنا لك يا محمد صحة ما تقوله من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة إلا أنا نعبد هذه الأصنام فإنها شفعاؤنا عند الله فهي تشفع لنا عنده فنتخلص من هذا العذاب المحكوم به بسبب شفاعة هذه الأصنام
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ فنزه نفسه عن شركة الشركاء والأضداد والأنداد وأن يكون لأحد من الأرواح والأجسام أن يشفع عنده إلا بإذنه و مَا في قوله عَمَّا يُشْرِكُونَ يجوز أن تكون مصدرية والتقدير سبحانه وتعالى عن إشراكهم ويجوز أن تكون بمعنى الذي أي سبحانه وتعالى عن هذه الأصنام التي جعلوها شركاء لله لأنها جمادات خسيسة فأي مناسبة بينها وبين أدون الموجودات فضلاً عن أن يحكم بكونها شركاء لمدبر الأرض والسموات
السؤال الثالث هب أنه تعالى قضى على بعض عبيده بالسراء وعلى آخرين بالضراء ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته
فأجاب الله تعالى عنه بقوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ وتقرير هذا الجواب أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده ويأمر ذلك العبد بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد كلفهم بمعرفة التوحيد والعبادة وبين أنهم إن فعلوا ذلك فازوا بخيري الدنيا والآخرة وإن تمردوا وقعوا في شر الدنيا والآخرة فبهذا الطريق صار مخصوصاً بهذه المعارف من دون سائر الخلق وظهر بهذا الترتيب الذي لخصناه أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه والله أعلم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي ( ينزل ) بالياء وكسر الزاي وتشديدها والملائكة بالنصب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو يُنَزّلٍ بضم الياء وكسر الزاي وتخفيفها والأول من التفعيل والثاني من(19/174)
الأفعال وهما لغتان
المسألة الثانية روي عن عطاء عن ابن عباس قال يريد بالملائكة جبريل وحده قال الواحدي وتسمية الواحد باسم الجمع إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدماً جائز كقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ ( نوح 1 ) وَأَنَا أَنزَلْنَاهُ ( يوسف 2 ) وَأَنَا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) وفي حق الناس كقوله الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ وفيه قول آخر سيأتي شرحه بعد ذلك وقوله بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ فيه قولان
القول الأول أن المراد من الروح الوحي وهو كلام الله ونظيره قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) وقوله يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ( غافر 15 ) قال أهل التحقيق الجسد موات كثيف مظلم فإذا اتصل به الروح صار حياً لطيفاً نورانياً فظهرت آثار النور في الحواس الخمس ثم الروح أيضاً ظلمانية جاهلة فإذا اتصل العقل بها صارت مشرقة نورانية كما قال تعالى وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالافْئِدَة َ ( النحل 78 ) ثم العقل أيضاً ليس بكامل النورانية والصفاء والإشراق حتى يستكمل بمعرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ومعرفة أحوال عالم الأرواح والأجساد وعالم الدنيا والآخرة ثم إن هذه المعارف الشريفة الإلهية لا تكمل ولا تصفو إلا بنور الوحي والقرآن
إذا عرفت هذا فنقول القرآن والوحي به تكمل المعارف الإلهية والمكاشفات الربانية وهذه المعارف بها يشرق العقل ويصفو ويكمل والعقل به يكمل جوهر الروح والروح به يكمل حال الجسد وعند هذا يظهر أن الروح الأصلي الحقيقي هو الوحي والقرآن لأن به يحصل الخلاص من رقدة الجهالة ونوم الغفلة وبه يحصل الانتقال من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية فظهر أن إطلاق لفظ الروح على الوحي في غاية المناسبة والمشاكلة ومما يقوى ذلك أنه تعالى أطلق لفظ الروح على جبريل عليه السلام في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وعلى عيسى عليه السلام في قوله رَّوْحِ اللَّهِ ( يوسف 87 ) وإنما حسن هذا الإطلاق لأنه حصل بسبب وجودهما حياة القلب وهي الهداية والمعارف فلما حسن إطلاق اسم الروح عليهما لهذا المعنى فلأن يحسن إطلاق لفظ الروح على الوحي والتنزيل كان ذلك أولى
والقول الثاني في هذه الآية وهو قول أبي عبيدة إن الروح ههنا جبريل عليه السلام والباء في قوله بِالْرُّوحِ بمعنى مع كقولهم خرج فلان بثيابه أي مع ثيابه وركب الأمير بسلاحه أي مع سلاحه فيكون المعنى ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل والأول أقرب وتقرير هذا الوجه أنه سبحانه وتعالى ما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) جبريل وحده بل في أكثر الأحوال كان ينزل مع جبريل أفواجاً من الملائكة ألا ترى أن في يوم بدر وفي كثير من الغزوات كان ينزل مع جبريل عليه السلام أقوام من الملائكة وكان ينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تارة ملك الجبال وتارة ملك البحار وتارة رضوان وتارة غيرهم وقوله مِنْ أَمْرِهِ يعني أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله تعالى ونظيره قوله تعالى وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 ) وقوله لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْلَمُونَ ( الأنبياء 27 ) وقوله وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( الأنبياء 28 )(19/175)
وقوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 5 ) وقوله لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( التحريم 6 ) فكل هذه الآيات دالة على أنهم لا يقدمون على عمل من الأعمال إلا بأمر الله تعالى وإذنه وقوله عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ يريد الأنبياء الذين خصهم الله تعالى برسالته وقوله أَنْ أَنْذِرُواْ قال الزجاج ءانٍ بدل من الروح والمعنى ينزل الملائكة بأن أنذروا أي أعلموا الخلائق أنه لا إله إلا أنا والإنذار هو الإعلام مع التخويف
المسألة الثانية في الآية فوائد الفائدة الأولى أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بواسطة الملائكة ومما يقوى ذلك أنه تعالى قال في آخر سورة البقرة وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ( البقرة 285 ) فبدأ بذكر الله سبحانه ثم أتبعه بذكر الملائكة لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة وذلك الوحي هو الكتب ثم إن الملائكة يوصلون ذلك الوحي إلى الأنبياء فلا جرم كان الترتيب الصحيح هو الابتداء بذكر الله تعالى ثم بذكر الملائكة ثم بذكر الكتب وفي الدرجة الرابعة بذكر الرسل
إذا عرفت هذا فنقول إذا أوحى الله تعالى إلى الملك فعلم ذلك الملك بأن ذلك الوحي وحي الله علم ضروري أو استدلالي وبتقدير أن يكون استدلالياً فكيف الطريق إليه وأيضاً الملك إذا بلغ ذلك الوحي إلى الرسول فعلم الرسول بكونه ملكاً صادقاً لا شيطاناً رجيماً ضروري أو استدلالي فإن كان استدلالياً فكيف الطريق إليه فهذه مقامات ضيقة وتمام العلم بها لا يحصل إلا بالبحث عن حقيقة الملك وكيفية وحي الله إليه وكيفية تبليغ الملك ذلك الوحي إلى الرسول فأما إذا أجرينا هذه الأمور على الكلمات المألوفة صعب المرام وزال النظام وذلك لأن آيات القرآن ناطقة بأن هذا الوحي والتنزيل إنما حصل من الملائكة أو نقول هب أن آيات القرآن لم تدل على ذلك إلا أن احتمال كون الأمر كذلك قائم في بديهة العقل
وإذا عرفت هذا فنقول لا نعلم كون جبريل عليه السلام صادقاً معصوماً عن الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية وصحة الدلائل السمعية موقوفة على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) صادق وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله تعالى لا من قبل شيطان خبيث والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبريل صادق محق مبرأ عن التلبيس وعن أفعال الشيطان وحينئذ يلزم الدور فهذا مقام صعب أما إذا عرفنا حقيقة النبوة وعرفنا حقيقة الوحي زالت هذه الشبهة بالكلية والله أعلم
المسألة الرابعة هذه الآية تدل على أن الروح المشار إليها بقوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ليس إلا لمجرد قوله لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ وهذا كلام حق لأن مراتب السعادات البشرية أربعة أولها النفسانية وثانيها البدنية وفي المرتبة الثالثة الصفات البدنية التي لا تكون من اللوازم وفي المرتبة الرابعة الأمور المنفصلة عن البدن
أما المرتبة الأولى وهي الكمالات النفسانية فاعلم أن النفس لها قوتان إحداهما استعدادها لقبول صور الموجودات من عالم الغيب وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة النظرية وسعادة هذه القوة في حصول المعارف وأشرف المعارف وأجلها معرفة أنه لا إله إلا هو وإليه الإشارة بقوله أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ والقوة الثانية للنفس استعدادها للتصرف في أجسام هذا العالم وهذه القوة هي القوة(19/176)
المسماة بالقوة العملية وسعادة هذه القوة في الإتيان بالأعمال الصالحة وأشرف الأعمال الصالحة هو عبودية الله تعالى وإليه الإشارة بقوله فَاتَّقُونِ ولما كانت القوة النظرية أشرف من القوة العملية لا جرم قدم الله تعالى كمالات القوة النظرية وهي قوله لا إله إِلا أَنَاْ على كمالات القوة العملية وهي قوله فَاتَّقُونِ
وأما المرتبة الثانية وهي السعادات البدنية فهي أيضاً قسمان الصحة الجسدانية وكمالات القوى الحيوانية أعني القوى السبع عشرة البدنية
وأما المرتبة الثالثة وهي السعادات المتعلقة بالصفات العرضية البدنية فهي أيضاً قسمان سعادة الأصول والفروع أعني كمال حال الآباء وكمال حال الأولاد
وأما المرتبة الرابعة وهي أخس المراتب فهي السعادات الحاصلة بسبب الأمور المنفصلة وهي المال والجاه فثبت أن أشرف مراتب السعادات هي الأحوال النفسانية وهي محصورة في كمالات القوة النظرية والعملية فلهذا السبب ذكر الله ههنا أعلى حال هاتين القوتين فقال أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أن معرفة الحق لذاته وهي المراد من قوله أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ومعرفة الخير لأجل العمل به وهي المراد من قوله فَاتَّقُونِ ( النحل 2 ) روح الأرواح ومطلع السعادات ومنبع الخيرات والكرامات أتبعه بذكر الدلائل على وجود الصانع الإله تعالى وكمال قدرته وحكمته
واعلم أنا بينا أن دلائل الإلهيات إما التمسك بطريقة الإمكان في الذوات أو في الصفات أو التمسك بطريقة الحدوث في الذوات أو في الصفات أو بمجموع الإمكان والحدوث في الذوات أو الصفات فهذه طرق ستة والطريق المذكور في كتب الله تعالى المنزلة هو التمسك بطريقة حدوث الصفات وتغيرات الأحوال ثم هذا الطريق يقع على وجهين أحدهما أن يتمسك بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى وهذا الطريق هو المذكور في أول سورة البقرة فإنه تعالى قال اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ فجعل تعالى تغير أحوال نفس كل واحد دليلاً على احتياجه إلى الخالق ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الآباء والأمهات وإليه الإشارة بقوله وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 21 ) ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الأرض وهي قوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً لأن الأرض أقرب إلينا من السماء ثم ذكر في المرتبة الرابعة قوله وَالسَّمَاء بِنَاء ثم ذكر في المرتبة الخامسة الأحوال المتولدة من تركيب السماء بالأرض فقال وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ( البقرة 22 )
الثاني من الدلائل القرآنية أن يحتج الله تعالى بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون وهذا الطريق هو المذكور في هذه السورة وذلك لأنه تعالى ابتدأ في الاحتجاج على وجود الإله المختار بذكر الأجرام العالية الفلكية ثم ثنى بذكر الاستدلال بأحوال الإنسان ثم ثلث بذكر الاستدلال بأحوال الحيوان(19/177)
ثم ربع بذكر الاستدلال بأحوال النبات ثم خمس بذكر الاستدلال بأحوال العناصر الأربعة وهذا الترتيب في غاية الحسن
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول
النوع الأول من الدلائل المذكورة على وجود الإله الحكيم الاستدلال بأحوال السموات والأرض فقال خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 ) إن لفظ الخلق من كم وجه يدل على الاحتياج إلى الخالق الحكيم ولا بأس بأن نعيد تلك الوجوه ههنا فنقول الخلق عبارة عن التقدير بمقدار مخصوص وهذا المعنى حاصل في السموات من وجوه الأول أن كل جسم متناه فجسم السماء متناه وكل ما كان متناهياً في الحجم والقدر كان اختصاصه بذلك القدر المعين دون الأزيد والأنقص امراً جائزاً وكل جائز فلا بد له من مقدر ومخصص وكل ما كان مفتقراً إلى الغير فهو محدث الثاني وهو أن الحركة الأزلية ممتنعة لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير والأزل ينافيه فالجمع بين الحركة والأزل محال
إذا ثبت هذا فنقول إما أن يقال أن الأجرام والأجسام كانت معدومة في الأزل ثم حدثت أو يقال إنها وإن كانت موجودة في الأزل إلا أنها كانت ساكنة ثم تحركت وعلى التقديرين فلحركتها أول فحدوث الحركة من ذلك المبدأ دون ما قبله أو ما بعده خلق وتقدير فوجب افتقاره إلى مقدر وخالق ومخصص له الثالث أن جسم الفلك مركب من أجزاء بعضها حصلت في عمق جرم الفلك وبعضها في سطحه والذي حصل في العمق كان يعقل حصوله في السطح وبالعكس وإذا ثبت هذا كان اختصاص كل جزء بموضعه المعين أمراً جائزاً فيفتقر إلى المخصص والمقدر وبقية الوجوه مذكورة في أول سورة الأنعام
واعلم أنه سبحانه لما احتج بالخلق والتقدير على حدوث السموات والأرض قال بعده تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ والمراد أن القائلين بقدم السموات والأرض كأنهم أثبتوا لله شريكاً في كونه قديماً أزلياً فنزه نفسه عن ذلك وبين أنه لا قديم إلا هو وبهذا البيان ظهر أن الفائدة المطلوبة من قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( يونس 18 ) في أول السورة غير الفائدة المطلوبة من ذكر هذه الكلمة ههنا لأن المطلوب هناك إبطال قول من يقول إن الأصنام تشفع للكفار في دفع العقاب عنهم والمقصود ههنا إبطال قول من يقول الأجسام قديمة والسموات والأرض أزلية فنزه الله سبحانه نفسه عن أن يشاركه غيره في الأزلية والقدم والله أعلم
خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
اعلم أن أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان فلما ذكر الله تعالى الاستدلال على وجود الإله الحكيم بأجرام الأفلاك أتبعه بذكر الاستدلال على هذا المطلوب بالإنسان
واعلم أن الإنسان مركب من بدن ونفس فقوله تعالى خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ اشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم وقوله فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على وجود الصانع الحكيم(19/178)
أما الطريق الأول فتقريره أن نقول لا شك أن النطفة جسم متشابه الأجزاء بحسب الحس والمشاهدة إلا أن من الأطباء من يقول إنه مختلف الأجزاء في الحقيقة وذلك لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع فإن الغذاء يحصل له في المعدة هضم أول وفي الكبد هضم ثان وفي العروق هضم ثالث وعند وصوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابع ففي هذا الوقت وصل بعض أجزاء الغذاء إلى العظم وظهر فيه أثر من الطبيعة العظيمة وكذا القول في اللحم والعصب والعروق وغيرها ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشهوة يحصل ذوبان من جملة الأعضاء وذلك هو النطفة وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع
إذا عرفت هذا فنقول النطفة في نفسها إما أن تكون جسماً متشابه الأجزاء في الطبيعة والماهية أو مختلف الأجزاء فيها فإن كان الحق هو الأول لم يجز أن يكون المقتضى لتولد البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودم الطمث لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار والقوة الطبيعية إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة وعلى هذا الحرف عولوا في قولهم البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعية في الكرة فلو كان المقتضى لتولد الحيوان من النطفة هو الطبيعة لوجب أن يكون شكلها الكرة وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن المقتضى لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة بل فاعل مختار وهو يخلق بالحكمة والتدبير والاختيار
وأما القسم الثاني وهو أن يقال النطفة جسم مركب من أجزاء مختلفة في الطبيعة والماهية فنقول بتقدير أن يكون الأمر كذلك فإنه يجب أن يكون تولد البدن منها بتدبير فاعل مختار حكيم وبيانه من وجوه
الوجه الأول أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة وإذا كان كذلك كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل في الفوق وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوان على هذا الترتيب المعين أمراً دائماً ولا أكثرياً وحيث كان الأمر كذلك علمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس إلا بتدبيرالفاعل المختار الحكيم
والوجه الثاني أن النطفة بتقدير أنها جسم مركب من أجزاء مختلفة الطبائع إلا أنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسماً بسيطاً وإذا كان الأمر كذلك فلو كان المدبر لها قوة طبيعية لكان كل واحد من تلك البسائط يجب أن يكون شكله هو الكرة فكان يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن مدبر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ولا تأثيرات الأنجم والأفلاك لأن تلك التأثيرات متشابهة فعلمنا أن مدبر أبدان الحيوانات فاعل مختار حكيم وهو المطلوب هذا هو الاستدلال بأبدان الحيوانات على وجود الإله المختار وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ وأما الاستدلال على وجود الصانع المختار الحكيم بأحوال النفس الإنسانية فهو المراد من قوله فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى في بيان وجه الاستدلال وتقريره أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهماً وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من قشر البيضة يميز بين العدو(19/179)
والصديق فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والغذاء الذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حال انفصاله عن بطن الأم لا يميز ألبتة بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع فظهر أن الإنسان في أول الحدوث أنقص حالاً وأقل فطنة من سائر الحيوانات ثم إن الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على مساحة السموات والأرض ويقوى على معرفة ذات الله وصفاته وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله تعالى والخصومات الشديدة في كل المطالب فانتقال نفس الإنسان من تلك البلاد المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقل الأرواح من نقصانها إلى كمالاتها ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمة والاختيار فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
وإذا عرفت هذه الدقيقة أمكنك التنبيه لوجوه كثيرة
المسألة الثانية أنه تعالى إنما يخلق الإنسان من النطفة بواسطة تغيرات كثيرة مذكورة في القرآن العزيز منها قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( المؤمنون 12 13 ) إلا أنه تعالى اختصر ههنا لأجل أن ذلك الاستقصاء مذكور في سائر الآيات وقوله فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ فيه بحثان
البحث الأول قال الواحدي الخصيم بمعنى المخاصم قال أهل اللغة خصيمك الذي يخاصمك وفعيل بمعنى مفاعل معروف كالنسيب بمعنى المناسب والعشير بمعنى المعاشر والأكيل والشريب ويجوز أن يكون خصيم فاعلاً من خصم يخصم بمعنى اختصم ومنه قراءة حمزة تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ ( يس 49 )
البحث الثاني لقوله فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وجهان أحدهما فإذا هو منطبق مجادل عن نفسه منازع للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً لا حس له ولا حركة والمقصود منه أن الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم عليم والثاني فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ ( يس 78 ) والغرض منه وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتمادي في كفران النعمة والوجه الأول أوفق لأن هذه الآيات مذكورة لتقرير وجه الاستدلال على وجود الصانع الحكيم لا لتقرير وقاحة الناس وتماديهم في الكفر والكفران
وَالاٌّ نْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(19/180)
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة وهي الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب ثم هذه الحيوانات قسمان منها ما ينتفع الإنسان بها ومنها ما لا يكون كذلك والقسم الأول أشرف من الثاني لأنه لما كان الإنسان أشرف الحيوانات وجب في كل حيوان يكون انتفاع الإنسان به أكمل وأكثر أن يكون أكمل وأشرف من غيره ثم نقول والحيوان الذي ينتفع الإنسان به إما أن ينتفع به في ضروريات معيشته مثل الأكل واللبس أو لا يكون كذلك وإنما ينتفع به في أمور غير ضرورية مثل الزينة وغيرها والقسم الأول أشرف من الثاني وهذا القسم هو الأنعام فلهذا السبب بدأ الله بذكره في هذه الآية فقال وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ
واعلم أن الأنعام عبارة عن الأزواج الثمانية وهي الضأن والمعز والإبل والبقر وقد يقال أيضاً الأنعام ثلاثة الإبل والبقر والغنم قال صاحب ( الكشاف ) وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل وقوله وَالاْنْعَامُ منصوبة وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله تعالى وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ( يس 39 ) ويجوز أن يعطف على الإنسان أي خلق الإنسان والأنعام قال الواحدي تم الكلام عند قوله وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا ثم ابتدأ وقال لَكُمْ فِيهَا دِفْء ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله لَكُمْ ثم ابتدأ وقال فِيهَا دِفْء قال صاحب ( النظم ) أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله خَلَقَهَا والدليل عليه أنه عطف عليه قوله وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال
المسألة الثانية أنه تعالى لما ذكر أنه خلق الأنعام للمكلفين أتبعه بتعديد تلك المنافع واعلم أن منافع النعم منها ضرورية ومنها غير ضرورية والله تعالى بدأ بذكر المنافع الضرورية
فالمنفعة الأولى قوله لَكُمْ فِيهَا دِفْء وقد ذكر هذه المعنى في آية أخرى فقال وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا ( النحل 80 ) والدفء عند أهل اللغة ما يستدفأ به من الأكسية قال الأصمعي ويكون الدفء السخونة يقال أقعد في دفء هذا الحائط أي في كنه وقرىء دف بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء
والمنفعة الثانية قوله كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ قالوا المراد نسلها ودرها وإنما عبر الله تعالى عن نسلها ودرها بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على لوصف الأعم لأن النسل والدر قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل
والمنفعة الثالثة قوله وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
فإن قيل قوله وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ يفيد الحصر وليس الأمر كذلك فإنه قد يؤكل من غيرها وأيضاً منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللبس فلم أخر منفعته في الذكر
قلنا الجواب عن الأول إن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر فيشبه غير المعتاد وكالجاري مجرى التفكه ويحتمل أيضاً أن غالب أطعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر والحب والثمار التي تأكلونها منها وأيضاً تكتسبون باكراء الإبل(19/181)
وتنتفعون بألبانها ونتاجها وجلودها وتشترون بها جميع أطعمتكم
والجواب عن السؤال الثاني أن الملبوس أكثر بقاء من المطعوم فلهذا قدمه عليه في الذكر
واعلم أن هذه المنافع الثلاثة هي المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام وأما المنافع الحاصلة من الأنعام التي هي ليست بضرورية فأمور
المنفعة الأولى قوله تعالى وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً ويقال سرح القوم إبلهم سرحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى قال أهل اللغة هذه الإراحة أكثر ما تكون أيام الربيع إذا سقط الغيث وكثر الكلأ وخرجت العرب للنجعة وأحسن ما يكون النعم في ذلك الوقت
واعلم أن وجه التجمل بها أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء وفرحت أربابها وعظم وقعهم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها
فإن قيل لم قدمت الإراحة على التسريح
قلنا لأن الجمال في الإراحة أكثر لأنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ثم اجتمعت في الحظائر حاضرة لأهلها بخلاف التسريح فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللبن ثم تأخذ في التفرق والإنتشار فظهر أن الجمال في الإراحة أكثر منه في التسريح
والمنفعة الثانية قوله وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ الانفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الأثقال جمع ثقل وهو متاع المسافر لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس قال ابن عباس يريد من مكة إلى المدينة أو إلى اليمن أو إلى الشام أو إلى مصر قال الواحدي هذا قوله والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل لشق عليكم وخص ابن عباس هذه البلاد لأن متاجر أهل مكة كانت إلى هذه البلاد وقرىء بِشِقّ الانفُسِ بكسر الشين وفتحها وأكثر القراء على كسر الشين والشق المشقة والشق نصف الشيء وحمل اللفظ ههنا على كلا المعنيين جائز فإن حملناه على المشقة كان المعنى لم يكونوا بالغيه إلا بالمشقة وإن حملناه على نصف الشيء كان المعنى لم يكونوا بالغيه إلا عند ذهاب النصف من قوتكم أو من بدنكم ويرجع عند التحقيق إلى المشقة ومن الناس من قال المراد من قوله وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا الإبل فقط بدليل أنه وصفها في آخر الآية بقوله وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ وهذا الوصف لا يليق إلا بالإبل
قلنا المقصود من هذه الآيات تعديد منافع الأنعام فبعض تلك المنافع حاصلة في الكل وبعضها مختص بالبعض والدليل عليه أن قوله وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حاصل في البقر والغنم مثل حصوله في الإبل والله أعلم
المسألة الثانية احتج منكرو كرامات الأولياء بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على أن الإنسان لا(19/182)
يمكنه الانتقال من بلد إلى بلد إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال على الجمال ومثبتو الكرامات يقولون إن الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى بلد آخر بعيد في ليلة واحدة من غير تعب وتحمل مشقة فكان ذلك على خلاف هذه الآية فيكون باطلاً ولما بطل القول بالكرامات في هذه الصورة بطل القول بها في سائر الصور لأنه لا قائل بالفرق
وجوابه أنا نخصص عموم هذه الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرمات والله أعلم
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر منافع الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها في المنافع الضرورية والحاجات الأصلية ذكر بعده منافع الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في المنافع التي ليست بضرورية فقال وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ عطف على الأنعام أي وخلق الأنعام لكذا وكذا وخلق هذه الأشياء للركوب وقوله وَزِينَة ٌ أي وخلقها زينة ونظيره قوله تعالى زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ( فصلت 12 ) المعنى وحفظناها حفظاً قال الزجاج نصب قوله وَزِينَة ٌ على أنه مفعول له والمعنى وخالقها للزينة
المسألة الثانية احتج القائلون بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية فقالوا منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلو كان أكل لحم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر وحيث لم يذكره الله تعالى علمنا أنه يحرم أكله ويمكن أيضاً أن يقوي هذا الاستدلال من وجه آخر فيقال إنه تعالى قال في صفة الأنعام وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( النحل 5 ) وهذه الكلمة تفيد الحصر فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعام فوجب أن يحرم أكل لحم الخيل بمقتضى هذا الحصر ثم إنه تعالى بعد هذا الكلام ذكر الخيل والبغال والحمير وذكر أنها مخلوقة للركوب فهذا يقتضي أن منفعة الأكل مخصوصة بالأنعام وغير حاصلة في هذه الأشياء ويمكن الاستدلال بهذه الآية من وجه ثالث وهو أن قوله لِتَرْكَبُوهَا يقتضي أن تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة هو الركوب والزينة ولو حل أكلها لما كان تمام المقصود من خلقها هو الركوب بل كان حل أكلها أيضاً مقصوداً وحينئذ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصود بل يصير بعض المقصود
وأجاب الواحدي بجواب في غاية الحسن فقال لو دلت هذه الآية على تحريم أكل هذه الحيوانات لكان تحريم أكلها معلوماً في مكة لأجل أن هذه السورة مكية ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدثين أن لحوم الحمر الأهلية حرمت عام خيبر باطلاً لأن التحريم لما كان حاصلاً قبل هذا اليوم لم يبق لتخصيص هذا التحريم بهذه الشبهة فائدة وهذا جواب حسن متين
المسألة الثالثة القائلون بأن أفعال الله تعالى معللة بالمصالح والحكم احتجوا بظاهر هذه الآية فإنه يقتضي أن هذه الحيوانات مخلوقة لأجل المنفعة الفلانية ونظيره قوله كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 )(19/183)
وقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) والكلام فيه معلوم
المسألة الرابعة لقائل أن يقول لما كان معنى الآية أنه تعالى خلق الخيل والبغال والحمير لتركبوها وليجعلها زينة لكم فلم ترك هذه العبارة
وجوابه أنه تعالى لو ذكر هذا الكلام بهذه العبارة لصار المعنى أن التزين بها أحد الأمور المعتبرة في المقصود وذلك غير جائز لأن التزين بالشيء يورث العجب والتيه والتكبر وهذه أخلاق مذمومة والله تعالى نهى عنها وزجر عنها فكيف يقول إني خلقت هذه الحيوانات لتحصيل هذه المعاني بل قال خلقها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات فهذا هو الفائدة في اختيار هذه العبارة
أو اعلم أنه تعالى لما ذكر أولاً أحوال الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها انتفاعاً ضرورياً وثانياً أحوال الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها انتفاعاً غير ضروري بقي القسم الثالث من الحيوانات وهي الأشياء التي لا ينتفع الإنسان بها في الغالب فذكرها على سبيل الإجمال فقال وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وذلك لأن أنواعها وأصنافها وأقسامها كثيرة خارجة عن الحد والإحصاء ولو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان المذكور بعد كتبة المجلدات الكثيرة كالقطرة في البحر فكان أحس الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال إن على يمين العرش نهراً من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر ويغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله ثم ينتفض فيخلق الله من كل نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألفاً البيت المعمور وفي الكعبة أيضاً سبعون ألفاً ثم لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
اعلم أنه تعالى لما شرح دلائل التوحيد قال وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها إزاحة للعذر وإزالة للعلة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي القصد استقامة الطريق يقال طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك إذا عرفت هذا ففي الآية حذف والتقدير وعلى الله بيان قصد السبيل ثم قال وَمِنْهَا جَائِرٌ أي عادل مائل ومعنى الجور في اللغة الميل عن الحق والكناية في قوله وَمِنْهَا جَائِرٌ تعود على السبيل وهي مؤنثة في لغة الحجاز يعني ومن السبيل ما هو جائر غير قاصد للحق وهو أنواع الكفر والضلال والله أعلم
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت الآية على أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية إلى الدين(19/184)
وإزاحة العلل والأعذار لأنه تعالى قال وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وكلمة ( على ) للوجوب قال تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 ) ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضل أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه وذلك لأنه تعالى لو كان فاعلاً للضلال لقال وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وعليه جائرها أو قال وعليه الجائر فلما لم يقل كذلك بل قال في قصد السبيل أنه عليه ولم يقل في جور السبيل أنه عليه بل قال وَمِنْهَا جَائِرٌ دل على أنه تعالى لا يضل عن الدين أحداً
أجاب أصحابنا أن المراد على الله بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح فإما أن يبين كيفية الاغواء والإضلال فذلك غير واجب فهذا هو المراد والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ يدل على أنه تعالى ما شاء هداية الكفار وما أراد منهم الإيمان لأن كلمة ( لو ) تفيد انتفاء شيء لانتفاء شيء غيره قوله وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ معناه لو شاء هدايتكم لهداكم وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم وذلك يدل على المقصود
وأجاب الأصم عنه بأن المراد لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم وهذا يدل على أن مشيئة الإلجاء لم تحصل
وأجاب الجبائي بأن المعنى ولو شاء لهداكم إلى الجنة وإلى نيل الثواب لكنه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه ولم يرد به الهدى إلى الإيمان لأنه مقدور جميع المكلفين
وأجاب بعضهم فقال المراد ولو شاء لهداكم إلى الجنة ابتداء على سبيل التفضل إلا أنه تعالى عرفكم للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبين فمن تمسك بها فاز بتلك المنازل ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب والله أعلم
واعلم أن هذه الكلمات قد ذكرناها مراراً وأطواراً مع الجواب فلا فائدة في الإعادة
هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
اعلم أن أشرف أجسام العالم السفلي بعد الحيوان النبات فلما قرر الله تعالى الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات أتبعه في هذه الآية بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات
واعلم أن الماء المنزل من السماء هو المطر وأما أن المطر نازل من السحاب أو من السماء فقد ذكرناه في هذا الكتاب مراراً والحاصل أن ماء المطر قسمان أحدهما هو الذي جعله الله تعالى شراباً لنا ولكل(19/185)
حي وهو المراد بقوله لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وقد بين الله تعالى في آية أخرى أن هذه النعمة جليلة فقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 )
فإن قيل أفتقولون إن شرب الخلق ليس إلا من المطر أو تقولون قد يكون منه وقد يكون من غيره وهو الماء الموجود في قعر الأرض
أجاب القاضي بأنه تعالى بين أن المطر شرابنا ولم ينف أن نشرب من غيره
ولقائل أن يقول ظاهر الآية يدل على الحصر لأن قوله لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ يفيد الحصر لأن معناه منه لا من غيره
إذا ثبت هذا فنقول لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر يسكن هناك والدليل عليه قوله تعالى في سورة المؤمنين وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الاْرْضِ ( المؤمنون 18 ) ولا يمتنع أيضاً في غير العذب وهو البحر أن يكون من جملة ماء المطر والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات وإليه الإشارة بقوله وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ إلى آخر الآية وفيه مباحث
البحث الأول ظاهر هذه الآية يقتضي أن أسامة الشجر ممكنة وهذا إنما يصح لو كان المراد من الشجر الكلأ والعشب وههنا قولان
القول الأول قال الزجاج كل ما ثبت على الأرض فهو شجر وأنشد
يطعمها اللحم إذا عز الشجر
يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض وقال ابن قتيبة في هذه الآية المراد من الشجر الكلأ وفي حديث عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ
ولقائل أن يقول إنه تعالى قال وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) والمراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق ومن الشجر ما له ساق هكذا قال المفسرون وبالجملة فلما عطف الشجر على النجم دل على التغاير بينهما ويمكن أن يجاب عنه بأنه عطف الجنس على النوع وبالضد مشهور وأيضاً فلفظ الشجر مشعر بالاختلاط يقال تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض وتشاجرت الرماح إذا اختلطت وقال تعالى حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ( النساء 65 ) ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ فوجب جواز إطلاق لفظ الشجر عليه
القول الثاني أن الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما ذكرناه في القول الأول
البحث الثاني قوله فِيهِ تُسِيمُونَ أي في الشجر ترعون مواشيكم يقال أسمت الماشية إذا خليتها ترعى وسامت هي تسوم سوماً إذا رعت حيث شاءت فهي سوام وسائمة قال الزجاج أخذ ذلك من السومة وهي العلامة وتأويلها أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات وقال غيره لأنها تعلم للإرسال في المرعى(19/186)
وتمام الكلام في هذا اللفظ قد ذكرناه في سورة آل عمران في قوله تعالى وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 )
أما قوله تعالى يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاعْنَابَ ففيه مباحث
البحث الأول هو أن النبات الذي ينبته الله من ماء السماء قسمان أحدهما معد لرعي الأنعام وأسامة الحيوانات وهو المراد من قوله فِيهِ تُسِيمُونَ والثاني ما كان مخلوقاً لأكل الإنسان وهو المراد من قوله يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ
فإن قيل إنه تعالى بدأ في هذه الآية بذكر ما يكون مرعى للحيوانات وأتبعه بذكر ما يكون غذاء للإنسان وفي آية أخرى عكس هذا الترتيب فبدأ بذكر مأكول الإنسان ثم بما يرعاه سائر الحيوانات فقال كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ( طه 54 ) فما الفائدة فيه
قلنا أما الترتيب المذكور في هذه الآية فينبه على مكارم الأخلاق وهو أن يكون اهتمام الإنسان بمن يكون تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه وأما الترتيب المذكور في الآية الأخرى فالمقصود منه ما هو المذكور في قوله عليه السلام ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول )
البحث الثاني قرأ عاصم في رواية أبي بكر ننبت بالنون على التفخيم والباقون بالياء قال الواحدي والياء أشبه بما تقدم
البحث الثالث اعلم أن الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء والغذاء إما أن يكون من الحيوان أو من النبات والغذاء الحيواني أشرف من الغذاء النباتي لأن تولد أعضاء الإنسان عند أكل أعضاء الحيوان أسهل من تولدها عند أكل النبات لأن المشابهة هناك أكمل وأتم والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات والسعي في تنميتها بواسطة الرعي وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في الأسامة وأما الغذاء النباتي فقسمان حبوب وفواكه أما الحبوب فإليها الإشارة بلفظ الزرع وأما الفواكه فأشرفها الزيتون والنخيل والأعناب أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه فظاهر معلوم وكما أنه تعالى لما ذكر الحيوانات التي ينتفع الناس بها على التفصيل ثم قال في صفة البقية وَزِينَة ً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( النحل 8 ) فكذلك ههنا لما ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات قال في صفة البقية وَمِن كُلّ الثَّمَراتِ تنبيهاً على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها لا يمكن ذكره في مجلدات فالأولى الاقتصار فيه على الكلام المجمل
ثم قال إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وههنا بحثان
البحث الأول في شرح كون هذه الأشياء آيات دالة على وجود الله تعالى فنقول إن الحبة الواحدة تقع في الطين فإذا مضت على هذه الحالة مقادير معينة من الوقت نفذت في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنتفخ الحبة فينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق(19/187)
الشجرة ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى ثم يخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ثم إن تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب فإن قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان
إذا عرفت هذا فنقول نسبة الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ونسبة التأثيرات الفلكية والتحريكات الكوكبية إلى الكل متشابهة ومع تشابه نسب هذه الأشياء ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع والطعم واللون والرائحة والصفة فدل صريح العقل على أن ذلك ليس إلا لأجل فاعل قادر حكيم رحيم فهذا تقدير هذه الدلالة
البحث الثاني أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ والسبب فيه أنه تعالى ذكر أنه أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاعْنَابَ
ولقائل أن يقول لا نسلم أنه تعالى هو الذي أنبتها ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الأشياء إنما حدثت وتولدت بسبب تعاقب الفصول الأربعة وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب وإذا عرفت هذا السؤال فما لم يقم الدليل على فساد هذا الاحتمال لا يكون هذا الدليل تاماً وافياً بإفادة هذا المطلوب بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً فلهذا السبب ختم هذه الآية بقوله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(19/188)
بداية الجزء العشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(20/2)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأرض مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى لما أجاب في هذه الآية عن السؤال الذي ذكرناه من وجهين الأول أن نقول إن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مسندة إلى الاتصالات الفلكية والتشكلات الكوكبية إلا أنه لا بد لحركاتها واتصالاتها من أسباب وأسباب تلك الحركات إما ذواتها وإما أمور مغايرة لها والأول باطل لوجهين الأول أن الأجسام متماثلة فلو كان جسم علة لصفة لكان كل جسم واجب الاتصاف بتلك الصفة وهو محال والثاني أن ذات الجسم لو كانت علة لحصول هذا الجزء من الحركة لوجب دوام هذا الجزء من الحركة بدوام تلك الذات ولو كان كذلك لوجب بقاء الجسم على حالة واحدة من غير تغير أصلاً وذلك يوجب كونه ساكناً ويمنع من كونه متحركاً فثبت أن القول بأن الجسم متحرك لذاته يوجب كونه ساكناً لذاته وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلاً فثبت أن الجسم يمتنع أن يكون متحركاً لكونه جسماً فبقي أن يكون متحركاً لغيره وذلك الغير إما أن يكون سارياً فيه أو مبايناً عنه والأول باطل لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً عاد التقسم الأول فيه وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً والأول باطل لأن نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على السوية فلم يكن بعض الأجسام بقبول بعض الآثار المعينة أولى من بعض ولما بطل هذا ثبت أن محرك الأفلاك والكواكب هو الفاعل المختار القادر المنزه عن كونه جسماً وجسمانياً وذلك هو الله تعالى فالحاصل أنا ولو حكمنا بإسناد حوادث العالم السفلي إلى الحركات الفلكية والكوكبية فهذه الحركات الكوكبية والفلكية لا يمكن إسنادها إلى أفلاك أخرى وإلا لزم التسلسل وهو(20/3)
محال فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله تعالى وإذا كانت الحوادث السفلية مستندة إلى الحركات الفلكية وثبت أن الحركات الفلكية حادثة بتخليق الله تعالى وتقديره وتكوينه فكان هذا اعترافاً بأن الكل من الله تعالى وبإحداثه وتخليقه وهذا هو المراد من قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يعني إن كانت تلك الحوادث السفلية لأجل تعاقب الليل والنهار وحركات الشمس والقمر فهذه الأشياء لا بد وأن يكون حدوثها بتخليق الله تعالى وتسخيره قطعاً للتسلسل ولما تم هذا الدليل في هذا المقام لا جرم ختم هذه الآية بقوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني أن كل من كان عاقلاً علم أن القول بالتسلسل باطل ولا بد من الانتهاء في آخر الأمر إلى الفاعل المختار القدير فهذا تقرير أحد الجوابين
والجواب الثاني عن ذلك السؤال أن نقول نحن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث النبات والحيوان لأجل تأثير الطباع والأفلاك والأنجم وذلك لأن تأثير الطبائع والأفلاك والأنجم والشمس والقمر بالنسبة إلى الكل واحد ثم نرى أنه إذا تولد العنب كان قشره على طبع وعجمه على طبع ولحمه على طبع ثالث وماؤه على طبع رابع بل نقول إنا نرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصفرة والوجه الثاني من تلك الورقة في غاية الحمرة وتلك الورقة تكون في غاية الرقة واللطافة ونعلم بالضرورة أن نسبة الأنجم والأفلاك إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة والطبيعة الواحدة في المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً ألا ترى أنهم قالوا شكل البسيط هو الكرة لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة وأيضاً إذا وضعنا الشمع فإذا استضاء خمسة أذرع من ذلك الشمع من أحد الجوانب وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب
إذا ثبت هذا فنقول ظهر أن نسبة الشمس والقمر والأنجم والأفلاك والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة الرقيقة نسبة واحدة وثبت أن الطبيعة المؤثرة متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً وثبت أن الأثر غير متشابه لأن أحد جانبي تلك الورقة في غاية الصفرة والوجه الثاني في غاية الحمرة فهذا يفيد القطع بأن المؤثر في حصول هذه الصفات والألوان والأحوال ليس هو الطبيعة بل المؤثر فيها هو الفاعل المختار الحكيم وهو الله سبحانه وتعالى وهذا هو المراد من قوله وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الاْرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ
واعلم أنه لما كان مدار هذه الحجة على أن المؤثر الموجب بالذات وبالطبيعة يجب أن يكون نسبته إلى الكل نسبة واحدة فلما دل الحس في هذه الأجسام النباتية على اختلاف صفاتها وتنافر أحوالها ظهر أن المؤثر فيها ليس واجباً بالذات بل فاعلاً مختاراً فهذا تمام تقرير هذه الدلائل وثبت أن ختم الآية الأولى بقوله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ والآية الثانية بقوله لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ والآية الثالثة بقوله لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ هو الذي نبه على هذه الفوائد النفيسة والدلائل الظاهرة والحمد لله على ألطافه في الدين والدنيا
المسألة الثانية قرأ ابن عامر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ كلها بالرفع على الابتداء والخبر هو قوله مُسَخَّراتٍ وقرأ حفص عن عاصم وَالنُّجُومَ بالرفع على أن يكون قوله وَالنُّجُومَ ابتداء وإنما حملها على هذا لئلا يتكرر لفظ التسخير إذ العرب لا تقول سخرت هذا الشيء مسخراً فجوابه أن المعنى أنه تعالى(20/4)
سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرة تحت قدرته وإرادته وهذا هو الكلام الصحيح والتقدير أنه تعالى سخر للناس هذه الأشياء وجعلها موافقة لمصالحها حال كونها مسخرة تحت قدرة الله تعالى وأمره وإذنه وعلى هذا التقدير فالتكرير الخالي عن الفائدة غير لازم والله علم بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول التسخير عبارة عن القهر والقسر ولا يليق ذلك إلا بمن هو قادر يجوز أن يقهر فكيف يصح ذلك في الليل والنهار وفي الجمادات والشمس والقمر
والجواب من وجهين الأول أنه تعالى لما دبر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد صارت شبيهة بالعبد المنقاد المطواع فلهذا المعنى أطلق على هذا النوع من التدبير لفظ التسخير وعن الوجه الثاني في الجواب وهو لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب علم الهيئة وذلك لأنهم يقولون الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من المغرب إلى المشرق والله تعالى يحرك هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب فكانت هذه الحركة قسرية فلهذا السبب ورد فيها اللفظ التسخير
السؤال الثاني إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس كان ذكر النهار والليل مغنياً عن ذكر الشمس
والجواب أن حدوث النهار والليل ليس بسبب حركة الشمس بل حدوثهما بسبب حركة الفلك الأعظم الذي دللنا على أن حركته ليست إلا بتحريك الله سبحانه وأما حركة الشمس فإنها علة لحدوث السنة لا لحدوث اليوم
السؤال الثالث ما معنى قوله مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ والمؤثر في التسخير هو القدرة لا الأمر
والجواب أن هذه الآية مبنية على أن الأفلاك والكواكب جمادات أم لا وأكثر المسلمين عليها أنها جمادات فلا جرم حملوا الأمر في هذه الآية على الخلق والتقدير ولفظ الأمر بمعنى الشأن والفعل كثير قال تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) ومن الناس من يقول إنها ليست جمادات فههنا يحمل الأمر على الأذن والتكليف والله أعلم
وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما احتج على إثبات الإله في المرتبة الأولى بأجرام السموات وفي المرتبة الثانية ببدن الإنسان ونفسه وفي المرتبة الثالثة بعجائب خلقة الحيوانات وفي المرتبة الرابعة بعجائب طبائع النبات ذكر في المرتبة الخامسة الاستدلال على وجود الصانع بعجائب أحوال العناصر فبدأ منها بالاستدلال بعنصر الماء(20/5)
واعلم أن علماء الهيئة قالوا ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة في الماء وذاك هو البحر المحيط وهو كلية عنصر الماء وحصل في هذا الربع المسكون سبعة من البحار كما قال بعده وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ ( لقمان 27 ) والبحر الذي سخره الله تعالى للناس هو هذه البحار ومعنى تسخير الله تعالى إياها للخلق جعلها بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها إما بالركوب أو بالغوص
واعلم أن منافع البحار كثيرة والله تعالى ذكر منها في هذه الآية ثلاثة أنواع
المنفعة الأولى قوله تعالى لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن الأعرابي لحم طري غير مهموز وقد طرو يطرو طراوة وقال الفراء طرا يطرا طراء ممدوداً وطراوة كما يقال شقى يشقى شقاء وشقاوة
واعلم أن في ذكر الطري مزيد فائدة وذلك لأنه لو كان السمك كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري فإنه لما خرج من البحر الملح الزعاق الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث لا بحسب الطبيعة بل بقدرة الله وحكمته حيث أظهر الضد من الضد
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رحمه الله لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السمك لا يحنث قالوا لأن لحم السمك ليس بلحم وقال آخرون إنه يحنث لأنه تعالى نص على كونه لحماً في هذه الآية وليس فوق بيان الله بيان روي أن أبا حنيفة رحمه الله لما قال بهذا القول وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك واحتج عليه بهذه الآية بعث إليه رجلاً وسأله عن رجل حلف لا يصلي على البساط فصلى على الأرض هل يحنث أم لا قال سفيان لا يحنث فقال السائل أليس أن الله تعالى قال وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ بِسَاطاً ( نوح 19 ) قال فعرف سفيان أن ذلك كان بتلقين أبي حنيفة
ولقائل أن يقول هذا الكلام ليس بقوي لأن أقصى ما في الباب أنا تركنا العمل بظاهر القرآن في لفظ البساط للدليل الذي قام عليه فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى والفرق بين الصورتين من وجهين الأول أنه لما حلف لا يصلي على البساط فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساط لزمنا أن نمنعه من الصلاة لأنه إن صلى على الأرض المفروشة بالبساط لزمه الحنث لا محالة ولو صلى على الأرض التي لا تكون مفروشة لزمه الحنث أيضاً على تقدير أن يدخل الأرض تحت لفظ البساط فهذا يقتضي منعه من الصلاة وذلك مما لا سبيل إليه بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظ اللحم لأنه ليس في منعه من أكل اللحم على الإطلاق محذور فظهر الفرق الثاني أنا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة أن وقوع اسم البساط على الأرض الخالصة مجاز أما وقوع اسم اللحم على لحم السمك فلم يعرف أنه مجاز فظهر الفرق والله أعلم
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن مبنى الأيمان على العادة وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه لحم السمك بدليل أنه إذا قال الرجل لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك كان حقيقاً بالإنكار
والجواب أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ وتارة تعتبرون العرف وما رأيناكم ذكرتم(20/6)
ضابطاً بين القسمين والدليل عليه أنه إذا قال لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بلحم العصفور كان حقيقاً بالإنكار عليه مع أنكم تقولون إنه يحنث بأكل لحم العصفور فثبت أن العرف مضطرب والرجوع إلى نص القرآن متعين والله أعلم
المنفعة الثانية من منافع البحر قوله تعالى وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا والمراد بالحلية اللؤلؤ والمرجان كما قال تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( الرحمن 22 ) والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ولأن إقدامهن على التزين بها إنما يكون من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم ورأيت بعض أصحابنا تمسكوا في مسألة أنه لا يجب الزكاة في الحلي المباح بحديث عروة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا زكاة في الحلي ) فقلت هذا الحديث ضعيف الرواية وبتقدير الصحة فيمكن أن يقال فيه لفظ الحلي لفظ مفرد محلى بالألف واللام وقد بينا في أصول الفقه أن هذا اللفظ يجب حمله على المعهود السابق والحلي الذي هو المعهود السابق هو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في هذه الآية وهو قوله وَتَسْتَخْرِجُونَ مِنْهُ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا فصار بتقدير صحة ذلك الخبر لا زكاة في اللآلىء وحينئذ يسقط الاستدلال به والله أعلم
المنفعة الثالثة قوله تعالى وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ قال أهل اللغة مخر السفينة شقها الماء بصدرها وعن الفراء أنه صوت جري الفلك بالرياح
إذا عرفت هذا فقول ابن عباس مَوَاخِرَ أي جواري إنما حسن التفسير به لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية وقوله تعالى وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ يعني لتركبوه للتجارة فتطلبوا الربح من فضل الله وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره والله أعلم
وَأَلْقَى فِى الأرض رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر بعض النعم التي خلقها الله تعالى في الأرض
فالنعمة الأولى قوله وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله أَن تَمِيدَ بِكُمْ يعني لئلا تميد بكم على قول الكوفيين وكراهة أن تميد بكم على قول البصريين وذكرنا هذا عند قوله تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) والميد الحركة والاضطراب يميناً وشمالاً يقال ماد يميد ميداً
المسألة الثانية المشهور عن الجمهور في تفسير هذه الآية أن قالوا إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء فإنها تميد من جانب إلى جانب وتضطرب فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فاستوت قالوا فكذلك لما خلق الله تعالى الأرض على وجه الماء اضطربت ومادت فخلق الله تعالى عليها هذه الجبال الثقال فاستقرت على وجه الماء بسبب ثقل هذه الجبال(20/7)
ولقائل أن يقول هذا يشكل من وجوه الأول أن هذا التعليل إما أن يذكر مع تسليم كون الأرض والماء ثقيلة بالطبع أو مع المنع من هذا الأصل ومع القول بأن حركات هذه الأجسام بطباعها أو ليست بطباعها بل هي واقعة بتخليق الفاعل المختار أما على التقدير الأول فهذا التعليل مشكل لأن على هذا الأصل لا شك أن الأرض أثقل من الماء والأثقل من الماء يغوص في الماء ولا يبقى طافياً عليه وإذا لم يبق طافياً عليه امتنع أن يقال إنها تميد وتميل وتضطرب وهذا بخلاف السفينة لأنها متخذة من الخشب وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء فلهذا السبب تبقى الخشبة طافية على الماء فحينئذ تضطرب وتميد وتميل على وجه الماء فإذا أرسيت بالأجسام الثقيلة استقرت وسكنت فظهر الفرق وأما على التقدير الثاني وهو أن يقال ليس للأرض ولا للماء طبائع توجب الثقل والرسوب والأرض إنما تنزل لأن الله تعالى أجرى عادته بجعلها كذلك وإنما صار الماء محيطاً بالأرض لمجرد إجراء العادة وليس ههنا طبيعة للأرض ولا للماء توجب حالة مخصوصة فنقول فعلى هذا التقدير علة سكون الأرض هي أن الله تعالى يخلق فيها السكون وعلة كونها مائدة مضطربة هي أن الله تعالى يخلق فيها الحركة وعلى هذا التقدير فإنه يفسد القول بأن الأرض كانت مائلة فخلق الله الجال وأرساها عليها لتبقى ساكنة لأن هذا إنما يصح إذا كان طبيعة الأرض توجب الميدان وطبيعة الجبال توجب الإرساء والثبات ونحن إنما نتكلم الآن على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال فثبت أن هذا التعليل مشكل على كل التقديرات
السؤال الثاني هو أن إرساء الأرض بالجبال إنما يعقل لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء من غير أن تميد وتميل من جانب إلى جانب وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً فنقول فما المقتضى لسكون ذلك الماء ووقوفه في حيزه المخصوص فإن قلت المقتضي لسكونه في ذلك الحيز المخصوص هو أن طبيعته المخصوصة توجب وقوفه في ذلك المعين فلم لا تقول مثله في الأرض وهو أن الطبيعة المخصوصة التي للأرض توجب وقوفها في ذلك الحيز المعين وذلك يفيد القول بأن الأرض إنما وقفت بسبب أن الله تعالى أرساها بالجبال فإن قلت المقتضى لسكون الماء في حيزه المعين هو أن الله تعالى سكن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص فلم لا تقول مثله في سكون الأرض وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً
السؤال الثالث أن مجموع الأرض جسم عظيم فبتقدير أن تميد كليته وتضطرب على وجه البحر المحيط لم تظهر تلك الحالة للناس
فإن قيل أليس أن الأرض تحركها البخارات المحتقنة في داخلها عند الزلازل وتظهر تلك الحركات للناس فبم تنكرون على من يقول إنه لولا الجبال لتحركت الأرض إلا أنه تعالى لما أرساها بالجبال الثقال لم تقو الرياح على تحريكها
قلنا تلك البخارات إنما احتقنت في داخل قطعة صغيرة من الأرض فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة ظهرت تلك الحركة قال القائلون بهذا القول إن ظهور الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضو معين من بدن الإنسان أما لو حركت كلية الأرض لم تظهر تلك الحركة ألا ترى أن الساكن في السفينة لا يحس بحركة كلية السفينة وإن كانت واقعة على أسرع الوجوه(20/8)
وأقواها فكذا ههنا فهذا ما في هذا الموضع من المباحث الدقيقة العميقة والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة وثبت أن هذه الجبال على سطح هذه الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة
إذا ثبت هذا فنقول لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت الأرض كرة حقيقية خالية عن الخشونات والتضريسات لصارت بحيث تتحرك بالاستدارة بأدنى سبب لأن الجرم البسيط المستدير إما أن يجب كونه متحركاً بالاستدارة على نفسه وإن لم يجب ذلك عقلاً إلا أنه بأدنى سبب يتحرك على هذا الوجه أما لما حصل على ظاهر سطح كرة الأرض هذه الجبال وكانت كالخشونات الواقعة على وجه الكرة فكل واحد من هذه الجبال إنما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم وتوجه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم وقوته الشديدة يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة فكان تخليق هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتاد المغروزة في الكرة المانعة لها عن الحركة المستديرة فكانت مانعة للأرض من الميد والميل والاضطراب بمعنى أنها منعت الأرض من الحركة المستديرة فهذا ما وصل إليه بحثي في هذا الباب والله أعلم بمراده
النعمة الثانية من النعم التي أظهرها الله تعالى على وجه الأرض هي أنه تعالى أجرى الأنهار على وجه الأرض واعلم أنه حصل ههنا بحثان
البحث الأول أن قوله وَأَنْهَارٌ معطوف على قوله وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ والتقدير ألقى رواسي وأنهاراً وخلق الأنهار لا يبعد أن يسمى بالإلقاء فيقال ألقى اًّ في الأرض أنهاراً كما قال وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ ( قَ 7 ) والإلقاء معناه الجعل ألا تر أنه تعالى قال في آية أخرى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ( فصلت 10 والإلقاء يقارب الإنوال لأن الإلقاء يدل على طرح الشيء من الأعلى إلى الأسفل إلا أن المراد من هذا الإلقاء الجعل والخلق قال تعالى والإلقاء يقارب الإنوال لأن الإلقاء يدل على طرح الشيء من الأعلى إلى الأسفل إلا أن المراد من هذا الإلقاء الجعل والخلق قال تعالى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّة ً مّنّى ( طه 39 )
البحث الثاني أنه ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال فلهذا السبب لما ذكر الله تعالى الجبال أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار
النعمة الثالثة قوله وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وهي أيضاً على قوله وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ والتقدير وألقى في الأرض سبلاً ومعناه أنه تعالى أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم ونظيره قوله تعالى في آية أخرى وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ( طه 53 ) وقوله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلاً معينة ذكر أنه أظهر فيها علامات مخصوصة حتى يتمكن المكلف من الاستدلال بها فيصل بواسطتها إلى مقصوده فقال وَعَلامَاتٍ وهي أيضاً معطوفة على قوله فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ والتقدير وألقى في الأرض رواسي وألقى فيها أنهاراً وسبلاً وألقى فيها علامات والمراد بالعلامات معالم الطرق وهي الأشياء التي بها يهتدي وهذه العلامات هي الجبال والرياح ورأيت جماعة يشمون التراب وبواسطة ذلك الشم يتعرفون الطرق قال الأخفش تم الكلام عند قوله وَعَلامَاتٍ وقوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ كلام منفصل عن الأول والمراد بالنجم الجنس كقولك كثر الدرهم في(20/9)
أيدي الناس وعن السدي هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي وقرأ الحسن وَبِالنَّجْمِ بضمتين وبضمة فسكون وهو جمع نجم كرهن ورهن والسكون تخفيف وقيل حذف الواو من النجم تخفيفاً
فإن قيل قوله أَن تَمِيدَ بِكُمْ خطاب الحاضرين وقوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ خطاب للغائبين فما السبب فيه
قلنا إن قريشاً كانت تكثر أسفارها لطلب المال ومن كثرت أسفاره كان علمه بالمنافع الحاصلة من الاهتداء بالنجوم أكثر وأتم فقوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ إشارة إلى قريش للسبب الذي ذكرناه والله أعلم
واختلف المفسرون فمنهم من قال قوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ مختص بالبحر لأنه تعالى لما ذكر صفة البحر وما فيه من المنافع بين أن من يسيرون فيه يهتدون بالنجم ومنهم من قال بل هو مطلق يدخل فيه السير في البر والبحر وهذا القول أولى لأنه أعم في كونه نعمة ولأن الاهتداء بالنجم قد يحصل في الوقتين معاً ومن الفقهاء من يجعل ذلك دليلاً على أن المسافر إذا عميت عليه القبلة فإنه يجب عليه أن يستدل بالنجوم وبالعلامات التي في الأرض وهي الجبال والرياح وذلك صحيح لأنه كما يمكن الاهتداء بهذه العلامات في معرفة الطرق والمسالك فكذلك يمكن الاستدلال بها في معرفة طلب القبلة
واعلم أن اشتباه القبلة إما أن يكون بعلامات لائحة أو لا يكون فإن كانت لائحة وجب أن يجب الاجتهاد ويتوجه إلى حيث غلب على الظن أنه هو القبلة فإن تبين الخطأ وجب الإعادة لأنه كان مقصراً فيما وجب عليه وإن لم تظهر العلامات فههنا طريقان
الطريق الأول أن يكون مخيراً في الصلاة إلى أي جهة شاء لأن الجهات لما تساوت وامتنع الترجيح لم يبق إلا التخيير
والطريق الثاني أن يصلي إلى جميع الجهات فحينئذ يعلم بيقين أنه خرج عن العهدة وهذا كما يقوله الفقهاء فيمن نسي صلاة لا يعرفها بعينها أن الواجب عليه في القضاء أن يأتي بالصلوات الخمس ليكون على يقين من قضاء ما لزمه ومنهم من يقول الواجب منها واحدة فقط وهذا غلط لأنه لما لزمه أن يفعل الكل كان الكل واجباً وإن كان سبب وجوب كل هذه الصلوات فوت الصلاة الواحدة والله أعلم
أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(20/10)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على وجود القادر الحكيم على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت تلك الدلائل كما أنها كانت دلائل فكذلك أيضاً كانت شرحاً وتفصيلاً لأنواع نعم الله تعالى وأقسام إحسانه أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله تعالى والمقصود أنه لما دلت هذه الدلائل الباهرة والبينات الزاهرة القاهرة على وجود إله قادر حكيم وثبت أنه هو المولي لجميع هذه النعم والمعطي لكل هذه الخيرات فكيف يحسن في العقول الاشتغال بعبادة موجود سواه لا سيما إذا كان الموجود جماداً لا يفهم ولا يدر فلهذا الوجه قال بعد تلك الآيات أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ والمعنى أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها كمن لا يخلق بل لا يقدر البتة على شيء أفلا تذكرون فإن هذا القدر لا يحتاج إلى تدبر وتفكر ونظر ويكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم من أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعمة العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنه يقبح عبادته فهذه الأصنام جمادات محضة وليس لها فهم ولا قدرة ولا اختيار فكيف تقدمون على عبادتها وكيف تجوزون الاشتغال بخدمتها وطاعتها
المسألة الثانية المراد بقوله مَّن لاَّ يَخْلُقُ الأصنام وأنها جمادات فلا يليق بها لفظة ( من ) لأنها لأولي العلم وأجيب عنه من وجوه
الوجه الأول أن الكفار لما سموها آلهة وعبدوها لا جرم أجريت مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله على أثره وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
والوجه الثاني في الجواب أن السبب فيه المشاكلة بينه وبين من يخلق
والوجه الثالث أن يكون المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف من لا علم عنده كقوله أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا يعني أن الآلهة التي تدعونها حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب لأن هؤلاء أحياء وهم أموات فكيف يصح منهم عبادتها وليس المراد أنه لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا
فإن قيل قوله أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ المقصود منه إلزام عبدة الأوثان حيث جعلوا غير الخالق مثل الخالق في التسمية بالإله وفي الاشتغال بعبادتها فكان حق الإلزام أن يقال أفمن لا يخلق كمن يخلق
والجواب المراد منه أن من يخلق هذه الأشياء العظيمة ويعطي هذه المنافع الجليلة كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية باسم الإله وفي الاشتغال بعبادتها والإقدام على غاية تعظيمها فوقع التعبير عن هذا المعنى بقوله أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ
المسألة الثالثة احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه فقال إنه تعالى ميز نفسه عن سائر الأشياء التي كانوا يعبدونها بصفة الخالقية لأن قوله أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ الغرض منه بيان كونه ممتازاً عن الأنداد بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والمعبودية بسبب كونه خالقاً فهذا(20/11)
يقتضي أن العبد لو كان خالقاً لبعض الأشياء لوجب كونه إلهاً معبوداً ولما كان ذلك باطلاً علمنا أن العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد قالت المعتزلة الجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والنجوم والجبال كمن لا يقدر على خلق شيء أصلاً فهذا يقتضي أن من كان خالقاً لهذه الأشياء فإنه يكون إلهاً ولم يلزم منه أن من يقدر على أفعال نفسه أن يكون إلهاً
والوجه الثاني أن معنى الآية أن من كان خالقاً كان أفضل ممن لا يكون خالقاً فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقاً فإنه يجب أن يكون إلهاً والدليل عليه قوله تعالى أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ( الأعراف 195 ) ومعناه أن الذي حصل له رجل يمشي بها يكون أفضل من الذي حصل له رجل لا يقدر أن يمشي بها وهذا يوجب أن يكون الإنسان أفضل من الصنم والأفضل لا يليق به عبادة الأخس فهذا هو المقصود من هذه الآية ثم إنها لا تدل على أن من حصل له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً فكذلك ههنا المقصود من هذه الآية بيان أن الخالق أفضل من غير الخالق فيمتنع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية ولا يلزم منه أن يمجرد حصول صفة الخالقية يكون إلهاً
والوجه الثالث في الجواب أن كثيراً من المعتزلة لا يطلقون لفظ الخالق على العبد قال الكعبي في ( تفسيره ) إنا لا نقول إنا نخلق أفعالنا قال ومن أطلق ذلك فقد أخطأ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله وَإِذَا تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ ( المائدة 110 ) وقوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 )
واعلم أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حتى أن أبا عبد الله البصير بالغ وقال إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز لأن الخالق عبارة عن التقدير وذلك عبارة عن الظن والحسبان وهو في حق العبد حاصل وفي حق الله تعالى محال
واعلم أن هذه الأجوبة قوية والاستدلال بهذه الآية على صحة مذهبنا ليس بقوي والله أعلم
أما قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين بالآية المتقدمة أن الاشتغال بعبادة غير الله باطل وخطأ بين بهذه الآية أن العبد لا يمكنه الإتيان بعبادة الله تعالى وشكر نعمه والقيام بحقوق كرمه على سبيل الكمال والتمام بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعات والعبادات وبالغ في شكر نعمة الله تعالى فإنه يكون مقصراً وذلك لأن الاشتغال بشكر النعم مشروط بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل والتحصيل فإن من لا يكون متصوراً ولا مفهوماً ولا معلوماً امتنع الاشتغال بشكره إلا أن العلم بنعم الله تعالى على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد لأن نعم الله تعالى كثيرة وأقسامها وشعبها واسعة عظيمة وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمباديها فضلاً عن غاياتها وأنها غير معلومة على سبيل التفصيل وما كان كذلك امتنع الاشتغال بشكره على الوجه الذي يكون ذلك الشكر لائقاً بتلك النعم فهذا هو المفهوم من قوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا يعني أنكم لا تعرفونها على سبيل التمام والكمال وإذا لم تعرفوها امتنع منكم القيام بشكرها(20/12)
على سبيل التمام والكمال وذلك يدل على أن شكر الخالق قاصر عن نعم الحق وعلى أن طاعات الخلق قاصرة عن ربوبية الحق وعلى أن معارف الخلق قاصرة عن كنه جلال الحق ومما يدل قطعاً على أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة أقسام نعم الله تعالى أن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لتنغص العيش على الإنسان ولتمنى أن ينفق كل الدنيا حتى يزول عنه ذلك الخلل ثم إنه تعالى يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الأكمل الأصلح مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بكيفية مصالحه ولا بدفع مفاسده فليكن هذا المثال حاضراً في ذهنك ثم تأمل في جميع ما خلق الله في هذا العالم من المعادن والنبات والحيوان وجعلها مهيأة لانتفاعك بها حتى تعلم أن عقول الخلق تفنى في معرفة حكمة الرحمن في خلق الإنسان فضلاً عن سائر وجوه الفضل والإحسان
فإن قيل فلما قررتم أن الاشتغال بالشكر موقوف على حصول العلم بأقسام النعم ودللتم على أن حصول العالم بأقسام النعم محال أو غير واقع فكيف أمر الله الخلق بالقيام بشكر النعم
قلنا الطريق إليه أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها فهذا هو الطريق الذي به يمكن الخروج عن عهدة الشكر والله أعلم
المسألة الثانية قال بعضهم إنه ليس لله على الكفار نعمة وقال الأكثرون لله على الكافر والمؤمن نعم كثيرة والدليل عليه أن الإنعام بخلق السموات والأرض والإنعام بخلق الإنسان من النطفة والإنعام بخلق الإنعام ويخلق الخيل والبغال والحمير ويخلق أصناف النعم من الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وبتسخير البحر ليأكل الإنسان منه لحماً طرياً ويستخرج منه حلية يلبسها كل ذلك مشترك فيه بين المؤمن والكافر ثم أكد تعالى ذلك بقوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا وذلك يدل على أن كل هذه الأشياء نعم من الله تعالى في حق الكل وهذا يدل على أن نعم الله واصلة إلى الكفار والله أعلم
أما قوله إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ اعلم أنه تعالى قال في سورة إبراهيم وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( إبراهيم 34 ) وقال ههنا إن الله لغفور رحيم ) والمعنى أنه لما بين أن الإنسان لا يمكنه القيام بأداء الشكر على سبيل التفصيل قال ( إن الله لغفور رحيم ) أي غفور للتقصير الصادر عنكم في القيام بشكر نعمه رحيم بكم حيث لم يقطع نعمه عليكم بسبب تقصيركم
أما قوله والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ففيه وجهان الأول أن الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله تعالى يسرون ضروباً من الكفر في مكايد الرسول عليه السلام فجعل هذا زجراً لهم عنها والثاني أنه تعالى زيف في الآية الأولى عبادة الأصنام بسبب أنه لا قدرة لها على الخلق والإنعام وزيف في هذه الآية أيضاً عبادتها بسبب أن الإله يجب أن يكون عالماً بالسر والعلانية وهذه الأصنام جمادات لا معرفة لها بشيء أصلاً فكيف تحسن عبادتها
أما قوله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ فاعلم أنه تعالى وصف هذه الأصنام بصفات كثيرة
فالصفة الأولى أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون قرأ حفص عن عاصم يسرون ويعلنون ويدعون كلها بالياء على الحكاية عن الغائب وقرأ أبو بكر عن عاصم يَدَّعُونَ بالياء خاصة على المغايبة وتسرون(20/13)
وتعلنون بالتاء على الخطاب والباقون كلها بالتاء على الخطاب عطفاً على ما قبله
فإن قيل أليس أن قوله في أول الآية أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئاً وقوله ههنا لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا يدل على نفس هذا المعنى فكان هذا محض التكرير
وجوابه أن المذكور في أول الآية أنهم لا يخلقون شيئاً والمذكور ههنا أنهم لا يخلقون شيئاً وأنهم مخلوقون لغيرهم فكان هذا زيادة في المعنى وكأنه تعالى بدأ بشرح نقصهم في ذواتهم وصفاتهم فبين أولاً أنها لا تخلق شيئاً ثم ثانياً أنها كما لا تخلق غيرها فهي مخلوقة لغيرها
والصفة الثانية قوله أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء والمعنى أنها لو كانت آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات أي غير جائز عليها الموت كالحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى وأمر هذه الأصنام على العكس من ذلك
فإن قيل لما قال أَمْوَاتٌ علم أنها غير أحياء فما القائدة في قوله غَيْرُ أَحْيَاء
والجواب من وجهين الأول أن الإله هو الحي الذي لا يحصل عقيب حياته موت وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها الحياة والثاني أن هذا الكلام مع الكفار الذين يعبدون الأوثان وهم في نهاية الجهالة والضلالة ومن تكلم مع الجاهل الغر الغبي فقد يحسن أن يعبر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة وغرضه منه الإعلام بكون ذلك المخاطب في غاية الغباوة وأنه إنما يعيد تلك الكلمات لكون ذلك السامع في نهاية الجهالة وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة
الصفة الثالثة قوله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ والضمير في قوله وَمَا يَشْعُرُونَ عائد إلى الأصنام وفي الضمير في قوله يُبْعَثُونَ قولان أحدهما أنه عائد إلى العابدين للأصنام يعني أن الأصنام لا يشعرون متى تبعث عبدتهم وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم والثاني أنه عائد إلى الأصنام يعني أن هذه الأصنام لا تعرف متى يبعثها الله تعالى قال ابن عباس إن الله يبعث الأصنام ولها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بها إلى النار
فإن قيل الأصنام جمادات والجمادات لا توصف بأنها أموات ولا توصف بأنهم لا يشعرون كذا وكذا
والجواب عنه من وجوه الأول أن الجماد قد يوصف بكونه ميتاً قال تعالى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ ( الروم 19 ) والثاني أن القوم لما وصفوا تلك الأصنام بالإلهية والمعبودية قيل لهم ليس الأمر كذلك بل هي أموات ولا يعرفون شيئاً فنزلت هذه العبارات على وفق معتقدهم والثالث أن يكون المراد بقوله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ الملائكة وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله إنهم أموات لا بد لهم من الموت غير أحياء أي غير باقية حياتهم وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي لا علم لهم بوقت بعثهم والله أعلم
إِلَاهُكُمْ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَة ٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ(20/14)
اعلم أنه تعالى لما زيف فيما تقدم طريقة عبدة الأوثان والأصنام وبين فساد مذهبهم بالدلائل القاهرة قال إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ثم ذكر الله تعالى ما لأجله أصر الكفار على القول بالشرك وإنكار التوحيد فقال فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَة ٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ والمعنى أن الذين يؤمنون بالآخرة ويرغبون في الفوز بالثواب الدائم ويخافون الوقوع في العقاب الدائم إذا سمعوا الدلائل والترغيب والترهيب خافوا العقاب فتأملوا وتفكروا فيما يسمعونه فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل ويرجعون من الباطل إلى الحق أما الذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها فإنهم لا يرغبون في حصول الثواب ولا يرهبون من الوقوع في العقاب فيبقون منكرين لكل كلام يخالف قولهم ويستكبرون عن الرجوع إلى قول غيرهم فلا جرم يبقون مصرين على ما كانوا عليه من الجهل والضلال
ثم قال تعالى لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ والمعنى أنه تعالى يعلم أن إصرارهم على هذه المذاهب الفاسدة ليس لأجل شبهة تصوروهاأو إشكال تخيلوه بل ذلك لأجل التقليد والنفرة عن الرجوع إلى الحق والشغف بنصرة مذاهب الأسلاف والتكبر والنخوة فلهذا قال إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وهذا الوعيد يتناول كل المتكبرين
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَة ً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير دلائل التوحيد وأورد الدلائل القاهرة في إبطال مذاهب عبدة الأصنام ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها
فالشبهة الأولى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما احتج على صحة نبوة نفسه بكون القرآن معجزة طعنوا في القرآن وقالوا إنه أساطير الأولين وليس هو من جنس المعجزات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن ذلك السائل من كان قيل هو كلام بعضهم لبعض وقيل هو قول المسلمين لهم وقيل هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الثانية لقائل أن يقول كيف يكون تنزيل ربهم أساطير الأولين
وجوابه من وجوه الأول أنه مذكور على سبيل السخرية كقوله تعالى عنهم إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ ( الشعراء 27 ) وقوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر 6 ) وقوله يأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ( الزخرف 49 )(20/15)
الثاني أن يكون التقدير هذا الذي تذكرون أنه منزل من ربكم هو أساطير الأولين الثالث يحتمل أن يكون المراد أن هذا القرآن بتقدير أن يكون مما أنزله الله لكنه أساطير الأولين ليس فيه شيء من العلوم والفصاحة والدقائق والحقائق
واعلم أنه تعالى لما حكى شبههم قال لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَة ً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ اللام في ليحملوا لام العاقبة وذلك أنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين لأجل أن يحملوا الأوزار ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك حسن ذكر هذه اللام كقوله ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ ( القصص 8 ) وقوله كَامِلَة ٌ معناه أنه تعالى لا يخفف من عقابهم شيئاً بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم وأقول هذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل معنى وقوله وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ معناه ويحصل للرؤساء مثل أوزار الأتباع والسبب فيه ما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع كان له مثل أجر من اتبعه لا ينقص من أجورهم شيء وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع كان عليه مثل وزر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء )
واعلم أنه ليس المراد منه أنه تعالى يوصل العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء وذلك لأن هذا لا يليق بعدل الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) وقوله وَلاَ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الإسراء 15 ) بل المعنى أن الرئيس إذا وضع سنة قبيحة عظم عقابه حتى أن ذلك العقاب يكون مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع قال الواحدي ولفظه مِنْ في قوله وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لخف عن الأتباع بعض أوزارهم وذلك غير جائز لقوله عليه السلام ( من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) ولكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني أن هؤلاء الرؤساء إنما يقدمون على هذا الإضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال ثم إنه تعالى ختم الكلام بقوله أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ والمقصود المبالغة في الزجر
فإن قيل إنه تعالى لما حكى عن القوم هذه الشبهة لم يجب عليها بل اقتصر على محض الوعيد فما السبب فيه
قلنا السبب فيه أنه تعالى بين كون القرآن معجزاً بطريقين الأول أنه ( صلى الله عليه وسلم ) تحداهم بكل القرآن وتارة بعشر سور وتارة بسورة واحدة وتارة بحديث واحد وعجزوا عن المعارضة وذلك يدل على كونه معجزاً الثاني أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهو قوله اكْتَتَبَهَا فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ( الفرقان 5 ) وأبطلها بقوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الفرقان 6 ) ومعناه أن القرآن مشتمل على الأخبار عن الغيوب وذلك لا يتأتى إلا ممن يكون عالماً بأسرار السموات والأرض فلما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين وتكرر شرح هذين الطريقين مراراً كثيرة لا جرم اقتصر في هذه الآية على مجرد الوعيد ولم يذكر ما يجري مجرى الجواب عن هذه الشبهة والله أعلم(20/16)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّو ءَ عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُو ءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أن المقصود من الآية المبالغة في وصف وعيد أولئك الكفار وفي المراد بالذين من قبلهم قولان
القول الأول وهو قول الأكثر من المفسرين أن المراد منه نمروذ بن كنعان بنى صرحاً عظيماً ببابل طوله خمسة آلاف ذراع وقيل فرسخان ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فالمراد بالمكر ههنا بناء الصرح لمقاتلة أهل السماء
والقول الثاني وهو الأصح أن هذا عام في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالمحقين
أما قوله تعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى أن الإتيان والحركة على الله محال فالمراد أنهم لما كفروا أتاهم الله بزلازل قلع بها بنيانهم من القواعد والأساس
المسألة الثانية في قوله فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ قولان
القول الأول أن هذا محض التمثيل والمعنى أنهم رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى فجعل الله تعالى حالهم في تلك المنصوبات مثل حال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فانهدم ذلك البناء وضعفت تلك الأساطين فسقط السقف عليهم ونظيره قولهم من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه
والقول الثاني أن المراد منه ما دل عليه الظاهر وهو أنه تعالى أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته والأول أقرب إلى المعنى
أما قوله تعالى فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ففيه سؤال وهو أن السقف لا يخر إلا من فوقهم فما معنى هذا الكلام(20/17)
وجوابه من وجهين الأول أن يكون المقصود بالتأكيد والثاني ربما خر السقف ولا يكون تحته أحد فلما قال فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ دل هذا الكلام على أنهم كانوا تحته وحينئذ يفيد هذا الكلام أن الأبنية قد تهدمت وهم ماتوا تحتها وقوله وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ إن حملنا هذا الكلام على محض التمثيل فالأمر ظاهر والمعنى أنهم اعتمدوا على منصوباتهم ثم تولد البلاء منها بأعيانها وإن حملناه على الظاهر فالمعنى أنه نزل ذلك السقف عليهم بغتة لأنه إذا كان كذلك كان أعظم في الزجر لمن سلك مثل سبيلهم ثم بين تعالى أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذا القدر بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة والخزي هو العذاب مع الهوان وفسر تعالى ذلك الهوان بأنه تعالى يقول لهم أَيْنَ شُرَكَآئِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ وفيه أبحاث
البحث الأول قال الزجاج قوله أَيْنَ شُرَكَائِى َ معناه أين شركائي في زعمكم واعتقادكم ونظيره قوله تعالى أَيْنَ شُرَكَاؤُهُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( الأنعام 22 ) وقال أيضاً وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ( يونس 28 ) وإنما حسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب وهذا كما يقال لمن يحمل خشبة خذ طرفك وآخذ طرفي فأضيف الطرف إليه
البحث الثاني قوله تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم وقيل المشاقة عبارة عن كون أحد الخصمين في شق وكون الآخر في الشق الآخر
البحث الثالث قرأ نافع تُشَاقُّونَ بكسر النون على الإضافة والباقون بفتح النون على الجمع
ثم قال تعالى قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ وفيه بحثان
البحث الأول قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ قال ابن عباس يريد الملائكة وقال آخرون هم المؤمنون يقولون حين يرون خزي الكفار يوم القيامة إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين والفائدة فيه أن الكفار كانوا ينكرون على المؤمنين في الدنيا فإذا ذكر المؤمن هذا الكلام يوم القيامة في معرض إهانة الكافر كان وقع هذا الكلام على الكافر وتأثيره في إيذائه أكمل وحصول الشماتة به أقوى
البحث الثاني المرجئة احتجوا بهذه الآية على أن العذاب مختص بالكافر قالوا لأن قوله تعالى إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ يدل على أن ماهية الخزي والسوء في يوم القيامة مختصة بالكافر وذلك ينفي حصول هذه الماهية في حق غيرهم وتأكد هذا بقول موسى عليه السلام إِنَّا قَدْ أُوحِى َ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) ثم أنه تعالى وصف عذاب هؤلاء الكفار من وجه آخر فقال الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قرأ حمزة نُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بالياء لأن الملائكة ذكور والباقون بالتاء للفظ
ثم قال فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء وفيه قولان(20/18)
القول الأول أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت قال ابن عباس أسلموا وأقروا لله بالعبودية عند الموت وقوله مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء أي قالوا ما كنا نعمل من سوءا والمراد من هذا السوء الشرك فقالت الملائكة رداً عليهم وتكذيباً بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون من التكذيب والشرك ومعنى بلى رداً لقولهم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء وفيه قولان
القول الأول أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت
والقول الثاني أنه تم الكلام عند قوله ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ثم عاد الكلام إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة والمعنى أنهم يوم القيامة ألقوا السلم وقالوا ما كنا نعمل في الدنيا من سوء ثم ههنا اختلفوا فالذين جوزوا الكذب على أهل القيامة قالوا هذا القول منهم على سبيل الكذب وإنما أقدموا على هذا الكذب لغاية الخوف والذين قالوا إن الكذب لا يجوز عليهم قالوا معنى الآية ما كنا نعمل من سوء عند أنفسنا أو في اعتقادنا وأما بيان أن الكذب على أهل القيامة هل يجوز أم لا فقد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا ما كنا نعمل من سوء قال بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ولا يبعد أن يكون قائل هذا القول هو الله تعالى أو بعض الملائكة رداً عليهم وتكذيباً لهم ومعنى بلى الرد لقولهم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء وقوله إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يعني أنه عالم بما كنتم عليه في الدنيا فلا ينفعكم هذا الكذب فإنه يجازيكم على الكفر الذي علمه منكم ثم صرح بذكر العقاب فقال
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
وهذا يدل على تفاوت منازلهم في العقاب فيكون عقاب بعضم أعظم من عقاب بعض وإنما صرح تعالى بذكر الخلود ليكون الغم والحزن أعظم
ثم قال فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ على قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء وتفسير التكبر قد مر في هذا الكتاب غير مرة والله أعلم
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَة ٌ وَلَدَارُ الاٌّ خِرَة ِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أحوال الأقوام الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين وذكر أنهم يحملون أوزارهم ومن أوزار أتباعهم وذكر أن الملائكة تتوفاهم ظالمي أنفسهم وذكر أنهم في الآخرة يلقون السلم وذكر أنه تعالى يقول لهم ادخلوا أبواب جهنم أتبعه بذكر وصف المؤمنين الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا وذكر ما أعده لهم في الدنيا والآخرة من منازل الخيرات ودرجات السعادات(20/19)
ليكون وعد هؤلاء مذكوراً مع وعيد أولئك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي يدخل تحت التقوى أن يكون تاركاً لكل المحرمات فاعلاً لكل الواجبات ومن جمع بين هذين الأمرين فهو مؤمن كامل الإيمان وقال أصحابنا يريد الذين اتقوا الشرك وأيقنوا أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله وأقول هذا أولى مما قاله القاضي لأنا بينا أنه يكفي في صدق قوله فلان قاتل أو ضارب كونه آتياً بقتل واحد وضرب واحد ولا يتوقف صدق هذا الكلام على كونه آتياً بجميع أنواع القتل وجميع أنواع الضرب فعلى هذا قوله وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ يتناول كل من أتى بنوع واحد من أنواع التقوى إلا أنا أجمعنا على أنه لا بد من التقوى عن الكفر والشرك فوجب أن لا يزيد على هذا القيد لأنه لما كان تقييد المطلق خلاف الأصل كان تقييد المقيد أكثر مخالفة وأيضاً فلأنه تعالى إنما ذكر هؤلاء في مقابلة أولئك الذين كفروا وأشركوا فوجب أن يكون المراد من اتقى عن ذلك الكفر والشرك والله أعلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول إنه قال في الآية الأولى قالوا أساطير الأولين وفي هذه الآية قالوا خيراً فلم رفع الأول ونصب هذا
أجاب صاحب ( الكشاف ) عنه بأن قال المقصود منه الفصل بين جواب المقر وجواب الجاحد يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفاً مفعولاً للإنزال فقالوا خيراً أي أنزل خيراً وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شيء
المسألة الثالثة قال المفسرون هذا كان في أيام الموسم يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون إنه ساحر وكاهن وكذاب فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه فيقولون خيراً والمعنى أنزل خيراً ويحتمل أن يكون المراد الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خير وقولهم خير جامع لكونه حقاً وصواباً ولكونهم معترفين بصحته ولزومه فهو بالضد من قول الذين لا يؤمنون بالآخرة أن ذلك أساطير الأولين على وجه التكذيب
المسألة الرابعة قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ وما بعده بدل من قوله خَيْرًا وهو حكاية لقول الذين اتقوا أي قالوا هذا القول ويجوز أيضاً أن يكون قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ إخباراً عن الله والتقدير إن المتقين لما قيل لهم مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا ثم إنه تعالى أكد قولهم وقال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَة ٌ وفي المراد بقوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ قولان أما الذين يقولون إن أهل لا إله إلا الله يخرجون من النار فإنهم يحملونه على قول لا إله إلا الله مع الاعتقاد الحق وأما المعتزلة الذين يقولون إن فساق أهل الصلاة لا يخرجون من النار يحلوم قوله أَحْسَنُواْ على من أتى بالإيمان وجميع الواجبات واحترز عن كل المحرمات وأما قوله فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا ففيه قولان
القول الأول أنه متعلق بقوله أَحْسَنُواْ والتقدير للذين اتقوا بعمل الحسنة في الدنيا فلهم في الآخرة حسنة وتلك الحسنة هي الثواب العظيم وقيل تلك الحسنة هو أن ثوابها يضاعف بعشر مرات وبسبعمائة وإلى ما لا نهاية له
والقول الثاني أن قوله فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا متعلق بقوله حَسَنَة ٌ والتقدير للذين أحسنوا أن تحصل(20/20)
لهم الحسنة في الدنيا وهذا القول أولى لأنه قال بعده وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ وعلى هذا التقدير ففي تفسير هذه الحسنة الحاصلة في الدنيا وجوه الأول يحتمل أن يكون المراد ما يستحقونه من المدح والتعظيم والثناء والرفعة وجميع ذلك جزاء على ما عملوه والثاني يحتمل أن يكون المراد به الظفر على أعداء الدين بالحجة وبالغلبة لهم وباستغنام أموالهم وفتح بلادهم كما جرى ببدر وعند فتح مكة وقد أجلوهم عنها وأخرجوهم إلى الهجرة وإخلاء الوطن ومفارقة الأهل والولد وكل ذلك مما يعظم موقعه والثالث يحتمل أن يكون المراد أنهم لما أحسنوا بمعنى أنهم أتوا بالطاعات فتح الله عليهم أبواب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 )
وأما قوله وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ فقد بينا في سورة الأنعام في قوله وَلَلدَّارُ الاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ( الأنعام 32 ) بالدلائل القطعية العقلية حصول هذا الخير ثم قال وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ أي لنعم دار المتقين دار الآخرة فحذفت لسبق ذكرها هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها فإن وصلتها بما بعدها قلت ولنعم دار المتقين جنات عدن فترفع جنات على أنها اسم لنعم كما تقول نعم الدار دار ينزلها زيد وأما قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنها إن كانت موصولة بما قبلها فقد ذكرنا وجه ارتفاعها وأما إن كانت مقطوعة فقال الزجاج جنات عدن مرفوعة بإضمار ( هي ) كأنك لما قلت ولنعم دار المتقين قيل أي دار هي هذه الممدوحة فقلت هي جنات عدن وإن شئت قلت جنات عدن رفع بالإبتداء ويدخلونها خبره وإن شئت قلت نعم دار المتقين خبره والتقدير جنات عدن نعم دار المتقين
المسألة الثانية قوله جَنَّاتُ يدل على القصور والبساتين وقوله عَدْنٍ يدل على الدوام وقوله تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها وتكون الأنهار جارية من تحتهم ثم إنه تعالى قال لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ وفيه بحثان الأول أن هذه الكلمة تدل على حصول كل الخيرات والسعادات وهذا أبلغ من قوله فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 ) لأن هذين القسمين داخلان في قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا مع أقسام أخرى الثاني قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا يعني هذه الحالة لا تحصل إلا في الجنة لأن قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا يفيد الحصر وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا
ثم قال تعالى يَشَآءونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي هكذا جزاء التقوى ثم إنه تعالى عاد إلى وصف المتقين فقال الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيّبِينَ وهذا مذكور في مقابلة قوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النخل 28 ) وقوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ وقوله طَيّبِينَ كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة مبرئين عن الأخلاق المذمومة ويدخل فيه كونهم مبرئين عن العلائق الجسمانية متوجهين إلى حضرة القدس والطهارة ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح وأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله لا يتألم بالموت وأكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح وإن كان الحسن يقول إنه وفاة الحشر ثم(20/21)
بين تعالى أنه يقال لهم عند هذه الحالة ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ فاحتج الحسن بهذا على أن المراد بذلك التوفي وفاة الحشر لأنه لا يقال عند قبض الأرواح في الدنيا ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ومن ذهب إلى القول الأول وهم الأكثرون يقولون إن الملائكة لما بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم ادخلوا الجنة أي هي خاصة لكم كأنكم فيها
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَة ُ أَوْ يَأْتِى َ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية لمنكري النبوة فإنهم طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينزل الله تعالى ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادعاء النبوة فقال تعالى هَلْ يَنظُرُونَ في التصديق بنبوتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك ويحتمل أن يقال إن القوم لما طعنوا في القرآن بأن قالوا إنه أساطير الأولين وذكر الله تعالى أنواع التهديد والوعيد لهم ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً وصدقاً وصواباً عاد إلى بيان أن أولئك الكفار لا ينزجرون عن الكفر بسبب البيانات التي ذكرناها بل كانوا لا ينزجرون عن تلك الأقوال الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد وأتاهم أمر ربك وهو عذاب الاستئصال
واعلم أن على كلا التقديرين فقد قال تعالى كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أي كلام هؤلاء وأفعالهم يشبه كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم
ثم قال وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ والتقدير كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم الهلاك المعجل وما ظلمهم الله بذلك فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم ولكنهم ظلموا أنفسهم بأن كفروا وكذبوا الرسول فاستوجبوا ما نزل بهم
ثم قال فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ والمراد أصابهم عقاب سيئات ما عملوا وَحَاقَ بِهِم أي نزل بهم على وجه أحاط بجوانبهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أي عقاب استهزائهم(20/22)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَى ْءٍ نَّحْنُ وَلا ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَى ْءٍ كَذالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّة ٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ فَسِيرُواْ فِى الأرض فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذِّبِينَ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لمنكري النبوة وتقريرها أنهم تمسكوا بصحة القول بالجبر على الطعن في النبوة فقالوا لو شاء الله الإيمان لحصل الإيمان سواء جئت أو لم تجىء ولو شاء الله الكفر فإنه يحصل الكفر سواء جئت أو لم تجىء وإذا كان الأمر كذلك فالكل من الله تعالى ولا فائدة في مجيئك وإرسالك فكان القول بالنبوة باطلاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ى َابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَى ْء كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( الأنعام 148 ) واستدلال المعتزلة به مثل استدلالهم بتلك الآية والكلام فيه استدلالاً واعتراضاً عين ما تقدم هناك فلا فائدة في الإعادة ولا بأس بأن نذكر منه القليل فنقول الجواب عن هذه الشبهة هي أنهم قالوا لما كان الكل من الله تعالى كان بعثة الأنبياء عبثاً فنقول هذا اعتراض على الله تعالى فإن قولهم إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان ودفع الكفر كانت بعثة الأنبياء غير جائزة من الله تعالى فهذا القول جار مجرى طلب العلة في أحكام الله تعالى وفي أفعاله وذلك باطل بل الله تعالى أن يحكم في ملكه وملكوته ما يشاء ويفعل ما يريد ولا يجوز أن يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح في آخر هذه الآية بهذا المعنى فقال وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّة ٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ فبين تعالى أن سنته في عبيده إرسال الرسل إليهم وأمرهم بعبادة الله ونهيهم عن عبادة الطاغوت
ثم قال الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ والمعنى أنه تعالى وإن أمر الكل بالإيمان ونهى الكل عن الكفر إلا أنه تعالى هدى البعض وأضل البعض فهذه سنة قديمة لله تعالى مع العباد وهي أنه يأمر الكل بالإيمان وينهاهم عن الكفر ثم يخلق الإيمان في البعض والكفر في البعض ولما كانت سنة الله تعالى في هذا المعنى سنة قديمة في حق كل الأنبياء وكل الأمم والملل وإنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلهاً منزهاً عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين كان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجباً للجهل والضلال والبعد عن الله فثبت أن الله تعالى إنما حكم على هؤلاء باستحقاق الخزي واللعن لا لأنهم كذبوا في قولهم لَوْ شَآء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ بل لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الأنبياء والرسل وهذا باطل فلا جرم استحقوا على هذا الاعتقاد مزيد الذم واللعن فهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب وأما من تقدمنا من المتكلمين والمسفرين فقد ذكروا فيه وجهاً آخر فقالوا إن المشركين ذكروا هذا الكلام على جهة الاستهزاء كما قال قوم شعيب عليه السلام له نَشَؤُا إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( هود 87 ) ولو قالوا ذلك معتقدين لكانوا مؤمنين والله أعلم(20/23)
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما حكى هذه الشبهة قال كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أي هؤلاء للكفار ألداً كانوا متمسكين بهذه الشبهة
ثم قال فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أما المعتزلة فقالوا معناه أن الله تعالى ما منع أحداً من الإيمان وما أوقعه في الكفر والرسل ليس عليهم إلا التبليغ فلما بلغوا التكاليف وثبت أنه تعالى ما منع أحداً عن الحق كانت هذه الشبهة ساقطة أما أصحابنا فقالوا معناه أنه تعالى أمر الرسل بالتبليغ فهذا التبليغ واجب عليهم فأما أن الإيمان هل يحصل أم لا يحصل فذلك لا تعلق للرسول به ولكنه تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه
المسألة الثالثة احتج أصحابنا في بيان أن الهدي والضلال من الله بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّة ٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ وهذا يدل على أنه تعالى كان أبداً في جميع الملل والأمم آمراً بالإيمان وناهياً عن الكفر
ثم قال فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ يعني فمنهم من هداه الله إلى الإيمان والصدق والحق ومنهم من أضله عن الحق وأعماه عن الصدق وأوقعه في الكفر والضلال وهذا يدل على أن أمر الله تعالى لا يوافق إرادته بل قد يأمر بالشيء ولا يريده وينهى عن الشيء ويريده كما هو مذهبنا والحاصل أن المعتزلة يقولون الأمر والإرادة متطابقان أما العلم والإرادة فقد يختلفان ولفظ هذه الآية صريح في قولنا وهو أن الأمر بالإيمان عام في حق الكل أما إرادة الإيمان فخاصة بالبعض دون البعض
أجاب الجبائي بأن المراد فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ لنيل ثوابه وجنته وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ أي العقاب قال وفي صفة قوله حَقَّتْ عَلَيْهِ دلالة على أنها العذاب دون كلمة الكفر لأن الكفر والمعصية لا يجوز وصفهما بأنه حق وأيضاً قال تعالى بعده فَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ وهذه العاقبة هي آثار الهلاك لمن تقدم من الأمم الذين استأصلهم الله تعالى بالعذاب وذلك يدل على أن المراد بالضلال المذكور هو عذاب الاستئصال
وأجاب الكعبي عنه بأنه قال قوله فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ أي من اهتدى فكان في حكم الله مهتدياً وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ يريد من ظهرت ضلالته كما يقال للظالم حق ظلمك وتبين ويجوز أن يكون المراد حق عليهم من الله أن يضلهم إذا ضلوا كقوله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 )
واعلم أنا بينا في آيات كثيرة بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والإضلال لا يكونان إلا من الله تعالى فلا فائدة في الإعادة وهذه الوجوه المتعسفة والتأويلات المستكرهة قد بينا ضعفها وسقوطها مراراً فلا حاجة إلى الإعادة والله أعلم
المسألة الرابعة في الطاغوت قولان أحدهما أن المراد به اجتنبوا عبادة ما تعبدون من دون الله فسمى الكل طاغوتاً ولا يمتنع أن يكون المراد اجتنبوا طاعة الشيطان في دعائه لكم
المسألة الخامسة قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ يدل على مذهبنا لأنه تعالى لما أخبر عنه أنه حقت عليه الضلالة امتنع أن لا يصدر منه الضلالة وإلا لانقلب خبر الله الصدق كذباً وذلك محال(20/24)
ومستلزم المحال محال فكان عدم الضلالة منهم محالاً ووجود الضلالة منهم واجباً عقلاً فهذه الآية دالة على صحة مذهبنا في هذه الوجوه الكثيرة والله أعلم ونظائر هذه الآية كثيرة منها قوله فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ ( الأعراف 30 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( يونس 96 ) وقوله لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ( يس 7 )
ثم قال تعالى فَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ والمعنى سيروا في الأرض معتبرين لتعرفوا أن العذاب نازل بكم كما نزل بهم ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة فإنه لا يهتدي فقال إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ أي إن تطلب بجهدك ذلك فإن الله لا يهدي من يضل وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي يَهْدِى بفتح الياء وكسر الذال والباقون لاَّ يَهِدِّى بضم الياء وفتح الدال
أما القراءة الأولى ففيها وجهان الأول فإن الله لا يرشد أحداً أضله وبهذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما والثاني أن يهدي بمعنى يهتدي قال الفراء العرب تقول قد هدى الرجل يريدون قد اهتدى والمعنى أن الله إذا أضل أحداً لم يصر ذلك مهتدياً
وأما القراءة المشهورة فالوجه فيها إن الله لا يهدي من يضل أي من يضله فالراجع إلى الموصول الذي هو من محذوف مقدر وهذا كقوله مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ( الأعراف 186 ) وكقوله فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ( الجاثية 23 ) أي من بعد إضلال الله إياه
ثم قال تعالى وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ أي وليس لهم أحد ينصرهم أي يعينهم على مطلوبهم في الدنيا والآخرة وأقول أول هذه الآيات موهم لمذهب المعتزلة وآخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة الدالة على قولنا وأكثر الآيات كذلك مشتملة على الوجهين والله أعلم
وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الشبهة الرابعة لمنكري النبوة فقالوا القول بالبعث والحشر والنشر باطل فكان القول بالنبوة باطلاً(20/25)
أما المقام الأول فتقريره أن الإنسان ليس إلا هذه البينة المخصوصة فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبطل ذلك المزاج والاعتدال امتنع عوده بعينه لأن الشيء إذا عدم فقد فنى ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه فالذي يعود يجب أن يكون شيئاً مغايراً للأول فلا يكون عينه
وأما المقام الثاني وهو أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة وتقريره من وجهين الأول أن محمداً كان داعياً إلى تقرير القول بالمعاد فإذا بطل ذلك ثبت أنه كان داعياً إلى القول الباطل ومن كان كذلك لم يكن رسولاً صادقاً الثاني أنه يقرر نبوة نفسه ووجوب طاعته بناء على الترغيب في الثواب والترهيب عن العقاب وإذا بطل ذلك بطلت نبوته
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ معناه أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن الشيء إذا فنى وصار عدماً محضاً ونفياً صرفاً فإنه بعد هذا العدم الصرف لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئاً آخر غيره وهذا القسم واليمين إشارة إلى أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن عوده بعينه بعد عدمه محال في بديهة العقل وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ على أنهم يجحدون في قلوبهم وعقولهم هذا العلم الضروري وأما بيان أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة فلم يذكره على سبيل التصريح لأنه كلام جلي متبادر إلى العقول فتركوه لهذا العذر ثم إنه تعالى بين أن القول بالبعث ممكن ويدل عليه وجهان
الوجه الأول أنه وعد حق على الله تعالى فوجب تحقيقه ثم بين السبب الذي لأجله كان وعداً حقاً على الله تعالى وهو التمييز بين المطيع وبين العاصي وبين المحقق والمبطل وبين الظالم والمظلوم وهو قوله لِيُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ وهذه الطريقة قد بالغنا في شرحها وتقريرها في سورة يونس
والوجه الثاني في بيان إمكان الحشر والنشر أن كونه تعالى موجداً للأشياء ومكوناً لها لا يتوقف على سبق مادة ولا مدة ولا آلة وهو تعالى إنما يكونها بمحض قدرته ومشئته وليس لقدرته دافع ولا لمشيئته مانع فعبر تعالى عن هذا النفاذ الخالي عن المعارض بقوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وإذا كان كذلك فكما أنه تعالى قدر على الإيجاد في الإبتداء وجب أن يكون قادراً عليه في الإعادة فثبت بهذين الدليلين القاطعين أن القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة حق وصدق والقول إنما طعنوا في صحة النبوة بناء على الطعن في هذا الأصل فلما بطل هذا الطعن بطل أيضاً طعنهم في النبوة والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ حكاية عن الذين أشركوا وقوله بَلَى إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم وقوله وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا مصدر مؤكد أي وعد بالبعث وعداً حقاً لا خلف فيه لأن قوله يبعثهم دل على قوله وعد بالبعث وقوله لِيُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من أمور البعث أي بلى يبعثهم ليبين لهم وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فيما أقسموا فيه
ثم قال تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول قوله كُنَّ إن كان خطاباً مع المعدوم فهو محال وإن كان خطاباً مع الموجود كان هذا أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال(20/26)
والجواب أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع الخلق بما يعقلون وليس خطاباً للمعدوم لأن ما أراده الله تعالى فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد خلق الدنيا والآخرة بما فيهما من السموات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك ولكن العباد خوطبوا بذلك على قدر عقولهم
المسألة الثانية قوله تعالى قَوْلُنَا مبتدأ و إِن نَّقُولُ خبره و كُنْ فَيَكُونُ من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا حدوث شيء فليس إلا أن نقول له أحدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقف
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر والكسائي فَيَكُونُ بنصب النون والباقون بالرفع قال الفراء القراءة بالرفع وجهها أن يجعل قوله أَن نَّقُولَ لَهُ كلاماً تاماً ثم يخبر عنه بأنه سيكون كما يقال إن زيداً يكفيه إن أمر فيفعل فترفع قولك فيفعل على أن تجعله كلاماً مبتدأ وأما القراءة بالنصب فوجهه أن تجعله عطفاً على أن نقول والمعنى أن نقول كن فيكون هذا قول جميع النحويين قال الزجاج ويجوز أن يكون نصباً على جواب كُنَّ قال أبو علي لفظة ( كن ) وإن كانت على لفظة الأمر فليس القصد بها ههنا الأمر إنما هو والله أعلم الإخبار عن كون الشيء وحدوثه وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يبطل قوله إنه نصب على جواب كُنَّ والله أعلم
المسألة الرابعة احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على قدم القرآن فقالوا قوله تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون فلو كان قوله كُنَّ حادثاً لافتقر إحداثه إلى أن يقول له كن وذلك يوجب التسلسل وهو محال فثبت أن كلام الله قديم
واعلم أن هذا الدليل عندي ليس في غاية القوة وبيانه من وجوه
الوجه الأول أن كلمة إِذَا لا تفيد التكرار والدليل عليه أن الرجل إذا قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار مرة طلقت طلقة واحدة فلو دخلت ثانياً لم تطلق طلقة ثانية فعلمنا أن كلمة إذا لا تفيد التكرار وإذا كان كذلك ثبت أنه لا يلزم في كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له كن فلم يلزم التسلسل
والوجه الثاني أن هذا الدليل إن صح لزم القول بقدم لفظه ( كن ) وهذا معلوم البطلان بالضرورة لأن لفظة كن مركبة من الكاف والنون وعند حضور الكاف لم تكن النون حاضرة وعند مجيء النون تتولى الكاف وذلك يدل على أن كلمة كن يمتنع كونها قديمة وإنما الذي يدعي أصحابنا كونه قديماً صفة مغايرة للفظة كن فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا والذي يقولون به لا تدل عليه الآية فسقط التمسك به
والوجه الثالث أن الرجل إذا قال إن فلاناً لا يقدم على قول ولا على فعل إلا ويستعين فيه بالله تعالى فإن عاقلاً لا يقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله فيلزم أن يكون كل استعانة مسبوقة باستعانة أخرى إلى غير النهاية لأن هذا الكلام بحسب العرف باطل فكذلك ما قالوه
والوجه الرابع أن هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه
الوجه الأول أن قوله تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث(20/27)
والوجه الثاني أنه علق القول بكلمة إذا ولا شك أن لفظة ( إذا ) تدخل للاستقبال
والوجه الثالث أن قوله أَن نَّقُولَ لَهُ لا خلاف أن ذلك ينبىء عن الاستقبال
والوجه الرابع أن قوله كُنْ فَيَكُونُ يدل على أن حدوث الكون حاصل عقيب قوله كُنَّ فتكون كلمة كُنَّ متقدمة على حدوث الكون بزمان واحد والمتقدم على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثاً
والوجه الخامس أنه معارض بقوله تعالى وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ( النساء 47 ) وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ( الأحزاب 38 ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( الزمر 23 ) فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( الطيور 34 ) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً ( الأحقاف 12 )
فإن قيل فهب أن هذه الآية لا تدل على قدم الكلام ولكنكم ذكرتم أنها تدل على حدوث الكلام فما الجواب عنه
قلنا نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف والأصوات ونحن نقول بكونه محدثاً مخلوقاً والله أعلم
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلاّجْرُ الاٌّ خِرَة ِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي والجهل والضلال وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وضرهم وإنزال العقوبات بهم وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن تلك الديار والمساكن فذكر تعالى في هذه الآية حكم تلك الهجرة وبين ما لهؤلاء المهاجرين من الحسنات في الدنيا والأجر في الآخرة من حيث هاجروا وصبروا وتوكلوا على الله وذلك ترغيب لغيرهم في طاعة الله تعالى قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير موليين لقريش فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام أما صهيب فقال لهم أنا رجل كبير إن كنت لكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله فلما رآه أبو بكر قال ربح البيع يا صهيب وقال عمر نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه وهو ثناء عظيم يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه فكيف ظنك به وقد خلقها وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر والرجوع عن الإسلام فتركوا عذابهم ثم هاجروا فنزلت هذه الآية وبين الله تعالى بهذه الآية عظم محل الهجرة ومحل المهاجرين فالوجه فيه ظاهر لأن بسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام كما أن بنصرة الأنصار قويت شوكتهم ودل تعالى بقوله وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ أن الهجرة إذا لم تكن لله بل لم يكن لها موقع وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى(20/28)
بلد وقوله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ معناه أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار لأنهم كانوا يعذبونهم
ثم قال لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وفيه وجوه الأول أن قوله حَسَنَة ٌ صفة للمصدر من قوله لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا والتقدير لنبوئنهم تبوئة حسنة وفي قراءة علي عليه السلام ( لنبوئنهم إبواءة حسنة ) الثاني لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة وعلى أهل المشرق والمغرب وعن عمر أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أكبر
والقول الثالث لنبوئنهم مباءة حسنة وهي المدينة حيث آواهم أهلها ونصروهم وهذا قول الحسن والشعبي وقتادة والتقدير لنبوئنهم في الدنيا داراً حسنة أو بلدة حسنة يعني المدينة
ثم قال تعالى وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ أَكْبَرُ وأعظم وأشرف وَلَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ والضمير إلى من يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى الكفار أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم والثاني أنه راجع إلى المهاجرين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم
ثم قال الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وفي محل الَّذِينَ وجوه الأول أنه بدل من قوله وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ والثاني أن يكون التقدير هم الذين صبروا والثالث أن يكون التقدير أعني الذين صبروا وكلا الوجهين مدح والمعنى أنهم صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله وبالجملة فقد ذكر فيه الصبر والتوكل أما الصبر فللسعي في قهر النفس وأما التوكل فللانقطاع بالكلية من الخلق والتوجه بالكلية إلى الحق فالأول هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى والثاني آخر هذا الطريق ونهايته والله أعلم
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرض أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
وفي الآية مسائل(20/29)
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري النبوة كانوا يقولون الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحداً من البشر بل لو أراد بعثة رسول إلينا لكان يبعث ملكاً وقد ذكرنا تقرير هذه الشبهة في سورة الأنعام فلا نعيده ههنا ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عنهم وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( الأنعام 8 ) وقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ( المؤمنون 47 ) وقالوا مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ ( المؤمنون 33 34 ) وقال أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ ( يونس 2 ) وقالوا لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ( الفرقان 7 )
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ والمعنى أن عادة الله تعالى من أول زمان الخلق والتكليف أنه لم يبعث رسولاً إلا من البشر فهذه العادة مستمرة لله سبحانه وتعالى وطعن هؤلاء الجهال بهذا السؤال الركيك أيضاً طعن قديم فلا يلتفت إليه
المسألة الثانية دلت الآية على أنه تعالى ما أرسل أحداً من النساء ودلت أيضاً على أنه ما أرسل ملكاً لكن ظاهر قوله جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الملائكة فكان ظاهر هذه الآية دليلاً على أنه ما أرسل رسولاً من الملائكة إلى الناس قال القاضي وزعم أبو علي الجبائي أنه لم يبعث إلى الأنبياء عليهم السلام إلا من هو بصورة الرجال من الملائكة ثم قال القاضي لعله أراد أن الملك الذي يرسل إلى الأنبياء عليهم السلام بحضرة أممهم لأنه إذا كان كذلك فلا بد من أن يكون أيضاً بصورة الرجال كما روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة وإنما قلنا ذلك لأن المعلوم من حال الملائكة أن عند إبلاغ الرسالة من الله تعالى إلى الرسول قد يبقون على صورتهم الأصلية الملكية وقد روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين وعليه تأولوا قوله تعالى وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَة ً أُخْرَى ( النجم 13 ) ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام أتبعه بقوله فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في المراد بأهل الذكر وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أهل التوراة والذكر هو التوراة والدليل عليه قوله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ ( الأنبياء 105 ) يعني التوراة الثاني قال الزجاج فاسألوا أهل الكتب الذين يعرفون معاني كتب الله تعالى فإنهم يعرفون أن الأنبياء كلهم بشر والثالث أهل الذكر أهل العلم بأخبار الماضين إذ العالم بالشيء يكون ذاكراً له والرابع قال الزجاج معناه سلوا كل من يذكر بعلم وتحقيق وأقول الظاهر أن هذه الشبهة وهي قولهم الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحداً من البشر إنما تمسك بها كفار مكة ثم إنهم كانوا مقرين بأن اليهود والنصارى أصحاب العلوم والكتب فأمرهم الله بأن يرجعوا في هذه المسألة إلى اليهود والنصارى ليبينوا لهم ضعف هذه الشبهة وسقوطها فإن اليهودي والنصراني لا بد لهما من تزييف هذه الشبهة وبيان سقوطها
المسألة الثانية اختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد منهم من حكم بالجواز واحتج بهذه الآية فقال لما لم يكن أحد المجتهدين عالماً وجب عليه الرجوع إلى المجتهد الآخر الذي يكون عالماً لقوله تعالى فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ فإن لم يجب فلا أقل من الجواز
المسألة الثالثة احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالماً بحكمها(20/30)
لم يجز له القياس وإن لم يكن عالماً بحكمها وجب عليه سؤال من كان عالماً بها لظاهر هذه الآية ولو كان القياس حجة لما وجب عليه سؤال العالم لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بواسطة القياس فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية فوجب أن لا يجوز والله أعلم
وجوابه أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة والإجماع أقوى من هذا الدليل والله أعلم
ثم قال تعالى بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في الجالب لهذه الباء وجوهاً الأول أن التقدير وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً يوحى إليهم وأنكر الفراء ذلك وقال إن صلة ما قبل إلا لا يتأخر إلى بعد والدليل عليه أن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته فما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه الثاني أن التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر وعلى هذا التقدير فقوله بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ متعلق بالمستثنى والثالث أن الجالب لهذا الباء محذوف والتقدير أرسلناهم بالبينات وهذا قول الفراء قال ونظيره ما مر إلا أخوك بزيد ما مر إلا أخوك ثم يقول مر بزيد الرابع أن يقال الذكر بمعنى العلم والتقدير فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون الخامس أن يكون التقدير إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر فاسألوا أهل الذكر
المسألة الثانية قوله تعالى بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ لفظة جامعة لكل ما تكامل به الرسالة لأن مدار أمرها على المعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وهي البينات وعلى التكاليف التي يبلغها الرسول من الله تعالى إلى العباد وهي الزبر
ثم قال تعالى وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى ظاهر هذا الكلام يقتضي أن هذا الذكر مفتقر إلى بيان رسول الله والمفتقر إلى البيان مجمل فظاهر هذا النص يقتضي أن القرآن كله مجمل فلهذا المعنى قال بعضهم متى وقع التعارض بين القرآن وبين الخبر وجب تقديم الخبر لأن القرآن مجمل والدليل عليه هذه الآية والخبر مبين له بدلالة هذه الآية والمبين مقدم على المجمل
والجواب أن القرآن منه محكم ومنه متشابه والمحكم يجب كونه مبيناً فثبت أن القرآن ليس كله مجملاً بل فيه ما يكون مجملاً فقوله لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ محمول على المجملات
المسألة الثانية ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هو المبين لكل ما أنزله الله تعالى على المكلفين فعند هذا قال نفاة القياس لو كان القياس حجة لما وجب على الرسول بيان كل ما أنزله الله تعالى على المكلفين من الأحكام لاحتمال أن بين المكلف ذلك الحكم بطريقة القياس ولما دلت هذه الآية على أن المبين لكل التكاليف والأحكام هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) علمنا أن القياس ليس بحجة
وأجيب عنه بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما بين أن القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيّئَاتِ المكر في اللغة عبارة عن السعي بالفساد على سبيل(20/31)
الإخفاء ولا بد ههنا من إضمار والتقدير المكرات السيئات والمراد أهل مكة ومن حول المدينة قال الكلبي المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله تعالى والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه على سبيل الخفية ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أموراً أربعة الأول أن يخسف الله بهم الأرض كما خسف بقارون الثاني أن يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون والمراد أن يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط والثالث أن يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين وفي تفسير هذا التقلب وجوه الأول أنه يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر وهم لا يعجزون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله حيث كانوا وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ ( آل عمران 196 ) وثانيهما تفسير هذا اللفظ بأنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف فيها أمثالهم وثالثها أن يكون المعنى أو يأخذهم في حال ما ينقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل قسراً كما قال وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ( يس 66 ) وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله وَقَلَّبُواْ لَكَ الامُورَ ( التوبة 48 ) فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها
والنوع الرابع من الأشياء التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية على سبيل التهديد قوله تعالى أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ وفي تفسير التخوف قولان
القول الأول التخوف تفعل من الخوف يقال خفت الشيء وتخوفته والمعنى أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أولاً بل يخيفهم أولاً ثم يعذبهم بعده وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك فرقة فتخاف التي تليها فيكون هذا أخذاً ورد عليهم بعد أن يمر بهم قبل ذلك زماناً طويلاً في الخوف والوحشة
والقول الثاني أن التخوف هو التنقص قال ابن الأعرابي يقال تخوفت الشيء وتخفيته إذا تنقصته وعن عمر أنه قال على المنبر ما تقولون في هذه الآية فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال هذه لغتنا التخوف التنقص فقال عمر هل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال نعم قال شاعرنا وأنشد
تخوف الرحل منها تامكا قردا
كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا وما ديواننا قال شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم
إذا عرفت هذا فنقول هذا التنقص يحتمل أن يكون المراد منه ما يقع في أطراف بلادهم كما قال تعالى أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ( الأنبياء 44 ) والمعنى أنه تعالى لا يعاجلهم بالعذاب ولكن ينقص من أطراف بلادهم إلى القرى التي تجاورهم حتى يخلص الأمر إليهم فحينئذ يهلكهم ويحتمل أن يكون المراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلاً قليلاً حتى يأتي الفناء على الكل فهذا تفسير هذه الأمور الأربعة والحاصل أنه تعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة واحدة حال ما لا يكونون عالمين بعلاماتها ودلائلها أو بآفات تحدث قليلاً قليلاً إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ثم ختم الآية بقوله فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ والمعنى أنه يمهل في أكثر الأمور لأنه رؤوف رحيم فلا يعاجل بالعذاب(20/32)
أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض مِن دَآبَّة ٍ وَالْمَلَائِكَة ُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما خوف المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام ليظهر لهم أن مع كمال هذه القدرة القاهرة والقوة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأقسام الأربعة
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي أَوَ لَمْ تَرَوْاْ بالتاء على الخطاب وكذلك في سورة العنكبوت أَوَ لَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( العنكبوت 19 ) بالتاء على الخطاب والباقون بالياء فيهما كناية عن الذين مكروا السيئات وأيضاً أن ما قبله غيبة وهو قوله أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الاْرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ أَوْ يَأْخُذَهُمْ ( النحل 45 46 ) فكذا قوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ وقرأ أبو عمرو وحده تتفيؤ بالتاء والباقون بالياء وكلاهما جائز لتقدم الفعل على الجمع
المسألة الثالثة قوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ لما كانت الرؤية ههنا بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد به الاعتبار ولاعتبار لا يكون بنفس الرؤية حتى يكون معها نظر إلى الشيء وتأمل لأحواله وقوله إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْء قال أهل المعاني أراد من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم ولفظ الآية يشعر بهذا القيد لأن قوله مِن شَى ْء يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ يدل على أن ذلك الشيء كثيف يقع له ظل على الأرض وقوله يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ إخبار عن قوله شَى ْء وليس بوصف له ويتفيأ يتفعل من الفيء يقال فاء الظل يفيء فيئاً إذا رجع وعاد بعد ما نسخه ضياء الشمس وأصل الفيء الرجوع ومنه فيء المولي وذكرنا ذلك في قوله تعالى فَانٍ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( البقرة 226 ) وكذلك فيء المسلمين لما يعود على المسلمين من مال من خالف دينهم ومنه قوله تعالى مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ( الحشر 6 ) وأصل هذا كله من الرجوع
إذا عرفت هذا فنقول إذا عدي فاء فإنه يعدى إما بزيادة الهمزة إو بتضعيف العين أما التعدية بزيادة الهمزة كقوله مَّا أَفَاء اللَّهُ وأما بتضعيف العين فكقوله فيأ الله الظل فتفيأ وتفيأ مطاوع فيأ قال الأزهري تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي بعدما انصرفت عنه الشمس والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس كمال قال الشاعر(20/33)
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه
ولا الفيء من برد العشي تذوق قال ثعلب أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل ومنهم من أنكر ذلك فإن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي
فلام الإله يغدو عليهم
وفيؤ الغروس ذات الظلال فهذا الشعر قد أوقع فيه لفظ الفيء على ما لم تنسخه الشمس لأن ما في الجنة من الظل ما صحل بعد أن كان زائلاً بسبب نور الشمس وتقول العرب في جمع في أفياء وهي للعدد القليل وفيؤ للكثير كالنفوس والعيون وقوله ظِلَالُهُ أضاف الظلال إلى مفرد ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال وإنما حسن هذا لأن الذي عاد إليه الضمير وإن كان واحداً في اللفظ وهو قوله إلى ما خلق الله إلا أنه كثير في المعنى ونظيره قوله تعالى لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ( الزخرف 13 ) فأضاف الظهور وهو جمع إلى ضمير مفرد لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو قوله مَا تَرْكَبُونَ هذا كله كلام الواحدي وهو بحث حسن أما قوله عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ ففيه بحثان
البحث الأول في المراد باليمين والشمائل قولان
القول الأول أن يمين الفلك هو المشرق وشماله هو المغرب والسبب في تخصيص هذين الاسمين بهذين الجانبين أن أقوى جانبي الإنساني يمينه ومنه تظهر الحركة القوية فلما كانت الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله
إذا عرفت هذا فنقول إن الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الإظلال إلى الجانب الغربي فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقع الإظلال في الجانب الشرقي فهذا هو المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال وبالعكس وعلى هذا التقدير فالإظلال في أول النهار تبتدىء من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدىء الإظلال من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض
القول الثاني أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل فإن في الصيف تحصل الشمس على يسارها وحينئذ يقع الإظلال على يمينهم فهذا هو المراد من انتقال الإظلال عن الأيمان إلى الشمائل وبالعكس هذا ما حصلته في هذا الباب وكلام المفسرين فيه غير ملخص
البحث الثاني لقائل أن يقول ما السبب في أن ذكر اليمين بلفظ الواحد والشمائل بصيغة الجمع
وأجيب عنه بأشياء أحدها أنه وحد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر في اللفظ على الواحد كقوله تعالى وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( القمر 45 ) وثانيها قال الفراء كأنه إذا وحد ذهب إلى واحدة من ذوات الأظلال وإذا جمع ذهب إلى كلها وذلك لأن قوله مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْء لفظه واحد ومعناه الجمع على ما بيناه فيحتمل كلا الأمرين وثالثها أن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) وقوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ( البقرة 7 ) ورابعها أنا إذا فسرنا اليمين بالمشرق كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها فكانت اليمين(20/34)
واحدة وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة فلذلك عبر الله تعالى عنها بصيغة الجمع والله أعلم
المسألة الرابعة أما قوله سُجَّدًا لِلَّهِ ففيه احتمالات الأول أن يكون المراد من السجود الاستسلام والانقياد يقال سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال أسجد لقرد السوء في زمانه أي أخضع له قال الشاعر
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
أي متواضعة إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى دبر النيرات الفلكية والأشخاص الكوكبية بحيث يقع أضواؤها على هذا العالم السفلي على وجوه مخصوصة ثم إنا نشاهد أن تلك الأضواء وتلك الإظلال لا تقع في هذا العالم إلا على وفق تدبير الله تعالى وتقديره فنشاهد أن الشمس إذا طلعت وقعت الأجسام الكثيفة أظلال ممتدة في الجانب الغربي من الأرض ثم كلما ازدادت الشمس طلوعاً وارتفاعاً ازدادت تلك الأظلال تقلصاً وانتقاصاً إلى الجانب الشرقي إلى أن تصل الشمس إلى وسط الفلك فإذا انحدرت إلى الجانب الغربي ابتدأت الأظلال بالوقوع في الجانب الشرقي وكلما ازدادت الشمس انحداراً ازدادت الأظلال تمدداً وتزايداً في الجانب الشرقي وكما أنا نشاهد هذه الحالة في اليوم الواحد فكذلك نشاهد أحوال الأظلال مختلفة في التيامن والتياسر في طول السنة بسبب اختلاف أحوال الشمس في الحركة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس فلما شاهدنا أحوال هذه الأظلال مختلفة بسبب الاختلافات اليومية الواقعة في شرق الأرض وغربها وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة في يمين الفلك ويساره ورأينا أنها واقعة على وجه مخصوص وترتيب معين علمنا أنها منقادة لقدرة الله خاضعة لتقديره وتدبيره فكانت السجدة عبارة عن هذه الحالة
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلاف حال هذه الأظلال معلل باختلاف سير النير الأعظم الذي هو الشمس لا لأجل تقدير الله تعالى وتدبيره
قلنا قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركاً لذاته إذ لو كانت ذاته علة لهذا الجزء المخصوص من الحركة لبقي هذا الجزء من الحركة لبقاء ذاته ولو بقي ذلك الجزء من الحركة لامتنع حصول الجزء الآخر من الحركة ولو كان الأمر كذلك لكان هذا سكوناً لا حركة فالقول بأن الجسم المتحرك لذاته يوجب القول بكونه ساكناً لذاته وأنه محال وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً فعلمنا أن الجسم يمتنع كونه متحركاً لذاته وأيضاً فقد دللنا على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية فاختصاص جرم الشمس بالقوة المعينة والخاصية المعينة لا بد وأن يكون بتدبير الخالق المختار الحكيم
إذا ثبت هذا فنقول هب أن اختلاف أحوال الأظلال إنما كان لأجل حركات الشمس إلا أنا لما دللنا على أن محرك الشمس بالحركة الخاصة ليس إلا الله سبحانه كان هذا دليلاً على أن اختلاف أحوال الأظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى وتخليقه فثبت أن المراد بهذا السجود الانقياد والتواضع ونظيره قوله وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) وقوله وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ ( الرعد 15 ) قد مر بيانه وشرحه
والقول الثاني في تفسير هذا السجود أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة(20/35)
الساجد قال أبو العلاء المعري في صفة واد
بحرف يطيل الجنح فيه سجوده
وللأرض زي الراهب المتعبد فلما كانت الأظلال تشبه بشكلها شكل الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ وكان الحسن يقول أما ظلك فسجد لربك وأما أنت فلا تسجد له بئسما صنعت وقال مجاهد ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي وقيل ظل كل شيء يسجد لله سواء كان ذلك ساجداً أم لا
واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى الحقائق العقلية والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة
المسألة الخامسة وقوله سُجَّدًا حال من الظلال وقوله وَهُمْ داخِرُونَ أي صاغرون يقال دخر يدخر دخوراً أي صغر يصغر صغاراً وهو الذي يفعل ما تأمره شاء أم أبى وذلك لأن هذه الأشياء منقادة لقدرة الله تعالى وتدبيره وقوله وَهُمْ داخِرُونَ حال أيضاً من الظلال
فإن قيل الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون
قلنا لأنه تعالى لما وصفهم بالطاعة والدخور أشبهوا العقلاء
أما قوله تعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ مَن دَآبَّة ٍ وَالْمَلَئِكَة ُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا أن السجود على نوعين سجود هو عبادة كسجود المسلمين لله تعالى وسجود هو عبارة عن الانقياد لله تعالى والخضوع ويرجع حاصل هذا السجود إلى أنها في نفسها ممكنة الوجود والعدم قابلة لهما وأنه لا يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح
إذا عرفت هذا فنقول من الناس من قال المراد بالسجود المذكور في هذه الآية السجود بالمعنى الثاني وهو التواضع والانقياد والدليل عليه أن اللائق بالدابة ليس إلا هذا السجود ومنهم من قال المراد بالسجود ههنا هو المعنى الأول لأن اللائق بالملائكة هو السجود بهذا المعنى لأن السجود بالمعنى الثاني حاصل في كل الحيوانات والنباتات والجمادات ومنهم من قال السجود لفظ مشترك بين المعنيين وحمل اللفظ المشترك لإفادة مجموع معنييه جائز فحمل لفظ السجود في هذه الآية على الأمرين معاً أما في حق الدابة فبمعنى التواضع وأما في حق الملائكة فبمعنى سجود المسلمين لله تعالى وهذا القول ضعيف لأنه ثبت أن استعمال اللفظ المشترك لإفادة جميع مفهوماته معاً غير جائز
المسألة الثانية قوله مِن دَابَّة ٍ قال الأخفش يريد من الدواب وأخبر بالواحد كما تقول ما أتاني من رجل مثله وما أتاني من الرجال مثله وقال ابن عباس يريد كل ما دب على الأرض
المسألة الثالثة لقائل أن يقول ما الوجه في تخصبص الدواب والملائكة بالذكر فنقول فيه وجوه
الوجه الأول أنه تعاني بين في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى وبين بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى لأن أخسها الدواب وأشرفها الملائكة فلما بين في أخسها وفي أشرفها كونها منقادة لله تعالى كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى
والوجه الثاني قال حكماء الإسلام الدابة اشتقاقها من الدبيب والدبيب عبارة عن الحركة(20/36)
الجسمانية فالدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب فلما بين الله تعالى الملائكة عن الدابة علمنا أنها ليست مما يدب بل هي أرواح محضة مجردة ويمكن الجواب عنه بأن الجناح للطيران مغاير للدبيب بدليل قوله تعالى وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) والله أعلم
أما قوله تعالى وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى المقصود من هذه الآية شرح صفات الملائكة وهي دلالة قاهرة قاطعة على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب لأن قوله وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يدل على أنهم منقادون لصانعهم وخالقهم وأنهم ما خالفوه في أمر من الأمور ونظيره قوله تعالى وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 ) وقوله لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) وأما قوله وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فهذا أيضاً يدل على أنهم فعلوا كل ما كانوا مأمورين به وذلك يدل على عصمتهم عن كل الذنوب
فإن قالوا هب أن هذه الآية تدل على أنهم فعلوا كل ما أمروا به فلم قلتم إنها تدل على أنهم تركوا كل ما نهوا عنه
قلنا لأن كل ما نهي عن شيء فقد أمر بتركه وحينئذ يدخل في اللفظ وإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كل الذنوب وثبت أن إبليس ما كان معصوماً من الذنوب بل كان كافراً لزم القطع بأن إبليس ما كان من الملائكة
والوجه الثاني في بيان هذا المقصود أنه تعالى قال في صفة الملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ثم قال لإبليس أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ( ص 75 ) وقال أيضاً له فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ( الأعراف 13 ) فثبت أن الملائكة لا يستكبرون وثبت أن إبليس تكبر واستكبر فوجب أن لا يكون من الملائكة وأيضاً لما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة ثبت أن القصة الخبيثة التي يذكرونها في حق هاروت وماروت كلام باطل فإن الله تعالى وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم عن كل ذنب وجب القطع بأن تلك القصة كاذبة باطلة والله أعلم واحتج الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا إنه تعالى وصفهم بالخوف ولولا أنهم يجوزون على أنفسهم الإقدام على الكبائر والذنوب وإلا لم يحصل الخوف
والجواب من وجهين الأول أنه تعالى منذرهم من العقاب فقال وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 ) وهم لهذا الخوف يتركون الذنب والثاني وهو الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال هكذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما والدليل على صحته قوله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) وهذا يدل على أنه كلما كانت معرفة الله تعالى أتم كان الخوف منه أعظم وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء والله أعلم
المسألة الثانية قالت المشبهة قوله تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ هذا يدل على أن الإله تعالى فوقهم بالذات(20/37)
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهة في تفسير قوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ( الأنعام 18 ) والذي نزيده ههنا أن قوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ معناه يخافون ربهم من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى سقط قولهم وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة والقهر كقوله وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ( الأعراف 127 ) والذي يقوي هذا الوجه أنه تعالى لما قال يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وجب أن يكون المقتضى لهذا الخوف هو كون ربهم فوقهم لما ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بكون الحكم معللاً بذلك الوصف
إذا ثبت هذا فنقول هذا التعطيل إنما يصح لو كان المراد بالفوقية الفوقية بالقهر والقدرة لأنها هي الموجبة للخوف أما الفوقية بالجهة والمكان فهي لا توجب الخوف بدليل أن حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنه أخس عبيده فسقطت هذه الشبهة
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن الملائكة مكلفون من قبل الله تعالى وأن الأمر والنهي متوجه عليهم كسائر المكلفين ومتى كانوا كذلك وجب أن يكونوا قادرين على الخير والشر
المسألة الرابعة تمسك قوم بهذه الآية في بيان أن الملك أفضل من البشر في وجوه
الوجه الأول أنه تعالى قال وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ مَن دَآبَّة ٍ وَالْمَلَئِكَة ُ وذكرنا أن تخصيص هذين النوعين بالذكر إنما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخس المراتب وكان الطرف الثاني أشرفها حتى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي وإذا كان كذلك وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله تعالى
الوجه الثاني أن قوله تعالى وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يدل على أنه ليس في قلوبهم تكبر وترفع وقوله وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يدل على أن أعمالهم خالية عن الذنب والمعصية فمجموع هذين الكلامين يدل على أن بواطنهم وظواهرهم مبرأة عن الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة وأما البشر فليسوا كذلك ويدل عليه القرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( عبس 17 ) وهذا الحكم عام في الإنسان وأقل مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذميمة وأما الخبر فقوله عليه السلام ( ما منا إلا وقد عصى أو هم بالمعصية غير يحيى بن زكريا ) ومن المعلوم بالضرورة أن المبرأ عن المعصية والهم بها أفضل ممن عصى أو هم بها
الوجه الثالث أنه لا شك أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بأدوار متطاولة وأزمان ممتدة ثم إنه وصفهم بالطاعة والخضوع والخشوع طول هذه المدة وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين الأول قوله عليه السلام ( الشيخ في قومه كالنبي في أمته ) فضل الشيخ على الشاب وما ذاك إلا لأنه لما كان عمره أطول فالظاهر أن طاعته أكثر فكان أفضل والثاني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها لزم أن يقال إنهم هم الذين سنوا هذه السنة الحسنة وهي طاعة الخالق القديم الرحيم والبشر إنما جاؤوا بعدهم واستنوا سنتهم فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كل ما حصل للبشر من الثواب فقد حصل مثله للملائكة ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة فوجب كونهم أفضل من غيرهم(20/38)
الوجه الرابع في دلالة الآية على هذا المعنى قوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وقد بينا بالدليل أن هذه الفوقية عبارة عن الفوقية بالرتبة والشرف والقدرة والقوة فظاهر الآية يدل على أنه لا شيء فوقهم في الشرف والرتبة إلا الله تعالى وذلك يدل على كونهم أفضل المخلوقات والله أعلم
وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِى الْسَّمَاوَاتِ والأرض وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاٍّ نْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُو ءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاٌّ عْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّة ٍ وَلاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن كل ما سوى الله سواء كان من عالم الأرواح أو من عالم الأجسام فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى وكبريائه أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك وبالأمر بأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وأنه غني عن الكل فقال لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إن الإلهين لا بد وأن يكونا اثنين فما الفائدة في قوله إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ
وجوابه من وجوه أحدها قال صاحب ( النظم ) فيه تقديم وتأخير والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين وثانيها وهو الأقرب عندي أن الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على ما فيه من القبح
إذا عرفت هذا القول بوجود الإلهين قول مستقبح في العقول ولهذا المعنى فإن أحداً من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجوب والقدم وصفات الكمال فقوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ المقصود من تكريره تأكيد التنفير عنه وتكميل وقوف العقل على ما فيه من القبح وثالثها أن قوله إِلاهَيْنِ لفظ واحد يدل على أمرين ثبوت الإله وثبوت التعدد فإذا قيل لا تتخذوا إلهين لم يعرف من هذا الفظ أن النهي وقع عن إثبات الإله أو عن إثبات التعدد أو عن مجموعهما فلما قال لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ ثبت أن قوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ نهي عن إثبات التعدد فقط ورابعها أن الأثينية منافية للإلهية وتقريره من وجوه الأول أنا لو فرضنا موجودين يكون كل واحد منهما واجباً لذاته لكانا مشتركين في الوجوب الذاتي ومتباينين بالتعين وما به المشاركة غير ما به المباينة فكل واحد منهما مركب من جزأين وكل مركب فهو ممكن فثبت أن القول بأن واجب الوجود أكثر من واحد ينفي القول بكونهما واجبي الوجود والثاني أنا لو فرضنا إلهين وحاول(20/39)
أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني لأن الحركة الواحدة والسكون الواحد لا يقبل القسمة أصلاً ولا التفاوت أصلاً وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني وإذا ثبت هذا امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية وإذا ثبت هذا فإما أن يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال أو لا يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال أو لا يحصل مراد كل واحد منهما ألبتة فحينئذ يكون كل واحد منهما عاجزاً والعاجز لا يكون إلهاً فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً الثالث أنا لو فرضنا إلهين اثنين لكان إما أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر فإن قدر ذاك إله والآخر ضعيف وإن لم يقدر فهو ضعيف والرابع وهو أن أحدهما إما أن يقوى على مخالفة الآخر أو لا يقوى عليه فإن لم يقو عليه فهو ضعيف وإن قوي عليه فذاك الآخر إن لم يقو على الدفع فهو ضعيف وإن قوي عليه فالأول المغلوب ضعيف فثبت أن الأثنينية والإلهية متضادتان فقوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ المقصود منه التنبيه على حصول المنافاة والمضادة بين الإلهية وبين الأثينية والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ والمعنى أنه لما دلت الدلائل السابقة على أنه لا بد للعالم من الإله وثبت أن القول بوجود الإلهين محال ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الحق الصمد
ثم قال بعده فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وهذا رجوع من الغيبة إلى الحضور والتقدير أنه لما ثبت أن الإله واحد وثبت أن المتكلم بهذا الكلام إله فحينئذ ثبت إنه لا إله للعالم إلا المتكلم بهذا الكلام فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور ويقول فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وفيه دقيقة أخرى وهو أن قوله فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ يفيد الحصر وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه وأن لا يرغبوا إلا في فضله وإحسانه وذلك لأن الموجود إما قديم وإما محدث أما القديم الذي هو الإله فهو واحد وأما ما سواه فمحدث وإنما حدث بتخليق ذلك القديم وبإيجاده وإذا كان كذلك فلا رغبة إلا إليه ولا رهبة إلا منه فبفضله تندفع الحاجات وبتكوينه وبتخليقه تنقطع الضرورات
ثم قال بعده وَلَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا حق لأنه لما كان الإله واحداً والواجب لذاته واحداً كان كل ما سواه حاصلاً بتخليقه وتكوينه وإيجاده فثبت بهذا البرهان صحة قوله وَلَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض فوجب أن تكون أفعال العباد لله تعالى وليس المراد من كونها لله تعالى أنها مفعولة لله لأجله ولغرض طاعته لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة لا لغرض الطاعة فوجب أن يكون المراد من قولنا إنها لله أنها واقعة بتكوينه وتخليقه وهو المطلوب
ثم قال بعده وَلَهُ الدّينُ وَاصِبًا الدين ههنا الطاعة والواصب الدائم يقال وصب الشيء يصب وصوباً إذا دام قال تعالى وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ ( الصافات 9 ) ويقال واظب على الشيء وواصب عليه إذا داوم ومفازة واصبة أي بعيدة لا غاية لها ويقال للعليل واصب ليكون ذلك المرض لازماً له قال ابن قتيبة ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه فإن(20/40)
طاعته واجبة أبداً
واعلم أن قوله واصبا حال والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل وأقول الدين قد يعني به الأنقياد يقال يا من دانت له الرقاب أي انقادت فقوله وله الدين واصبا أي انقياد كل ما سواه لا لازم أبدا لأن انقياد غيره له معلل بأن غيره ممكن لذاته والممكن لذاته يلزمه أن يكون محتاجا إلى السبب في طرفي الوجود والعدم والماهيات يلزمها الإمكان لزوما ذاتيا والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوما ذاتيا ينتج أن الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثر لزوما ذاتيا فهذه الماهيات موصوفة بالانقياد لله تعالى اتصافا دائما واجبا لازما ممتنع التغير وأقول في الآية دقيقة أخرى وهي أن العقلاء اتفقوا على أن الممكن حال حدوثه محتاج إلى السبب المرجح واختلفوا في الممكن حال بقائه هل هو محتاج إلى السبب قال المحققون إنه محتاج لأن علة الحاجة هي الامكان والإمكان من لوازم الماهية فيكون حاصلا للماهية حال حدوثها وحال بقائها فتكون علة الحاجة حال حدوث الممكن وحال بقائه فوجب أن تكون الحاجة حاصلة حال حدوثها وحال بقائها
إذا عرفت هذا فقوله وله ما في السموات والأرض معناه أن كل ما سوى الحق فإنه محتاج في انقلابه من العدم إلى الوجود أو من الوجود إلى العدم إلى مرجح ومخصص وقوله وله الدين واصبا معناه أن هذا الانقياد وهذا الاحتياج حاصل دائما أبدا وهو إشارة إلى ما ذكرناه من أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرجح والمخصص وهذه دقائق من أسرار العلوم الإلهية مودعة في هذه الألفاظ الفائضة من عالم الوحي والنبوة
ثم قال تعالى أفغير الله تتقون والمعنى أنكم بعدما عرفتم أن إله العالم واحد وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه ومحتاج إليه أيضا في وقت دوامه وبقائه فبعد العلم بهذه الأصول كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة عن غير الله تعالى فلهذا المعنى قال على سبيل التعجب أفغير الله تتقون
ثم قال وما بكم من نعمة فمن الله وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه لما بين بالآية أن الواجب على العاقل أن لا يتقي غير الله بين في هذه الآية أنه يجب عليه أن لا يشكر أحدا إلا الله تعالى لأن الشكر إنما يلزم على النعمة وكل نعمة حصلت للإنسان فهي من الله تعالى لقوله وما بكم من نعمة فمن الله فثبت بهذا أن العاقل يجب عليه أن لا يخاف وأن لا يتقي أحدا إلا الله وأن لا يشكر أحدا إلا الله تعالى
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى فقالوا الإيمان نعمة وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله وما بكم من نعمة فمن الله ينتج أن الإيمان من الله وإنما قلنا إن الإيمان نعمة لأن المسلمين مطبقون على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان وأيضا فالنعمة عبارة عن كل ما يكون منتفعا به وأعظم الأشياء في النفع هو الإيمان فثبت أن الإيمان نعمة
وإذا ثبت هذا فنقول وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله وهذه(20/41)
اللفظة تفيد العموم وأيضا مما يدل على أن كل نعمة فهي من الله لأن كل ما كان موجودا فهو إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته ليس إلا الله تعالى والممكن لذاته لا يوجد إلا لمرجح وذلك المرجح إن كان واجبا لذاته كان حصول ذلك الممكن بإيجاد الله تعالى وإن كان ممكنا لذاته عاد التقسيم الأول فيه ولا يذهب إلى التسلسل بل ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته فثبت بهذا البيان أن كل نعمة فهي من الله تعالى
المسألة الثالثة النعم إما دينية وإما دنيوية أما النعم الدينية فهي إما معرفة الحق لذاته وإما معرفة الخير لأجل العمل به وأما النعم الدنيوية فهي إما نفسانية وأما بدنية وإما خارجية وكل واحد من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد كما قال وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إبراهيم 34 والإشارة إلى تفصيل تلك الأنواع قد ذكرناها مرارا فلا نعيدها
المسألة الرابعة إنما دخلت الفاء في قوله فمن الله لأن الباء في قوله بكم متصلة بفعل مضمر والمعنى ما يمكن بكم أو ما حل بكم من نعمة فمن الله
ثم قال تعالى ثم إذا مسكم الضر قال ابن عباس يريد الأسقام والأمراض والحاجة فإليه تجأرون أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة وتتضرعون إليه بالدعاء يقال جأر يجأر جؤارا وهو الصوت الشديد كصوت البقرة وقال الأعشى يصف راهبا يراوح من صلوات المليك
طورا سجودا وطورا جؤارا
والمعنى أنه تعالى بين أن جميع النعم من الله تعالى ثم إذا اتفق لأحد مضرة توجب زوال شيء من تلك النعم فإلى الله يجأر أي لا يستغيث أحدا إلا الله تعالى لعلمه بأنه لا مفزع للخلق إلا هو فكأنه تعالى قال لهم فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاء والسلامة ثم قال بعده ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون فبين تعالى أن عند كشف الضر وسلامة الأحوال يفترقون ففريق منهم يبقى على مثل ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى الله تعالى وفريق منهم عند ذلك يتغيرون فيشركون بالله غيره وهذا جهل وضلال لأنه لما شهدت فطرته الأصلية وخلقته الغريزية عند نزول البلاء والضراء والآفات والمخافات أن لا مفزع إلا إلى الواحد ولا مستغاث إلا الواحد فعند زوال البلاء والضراء وجب أن يبقى على ذلك الاعتقاد فأما أنه عند نزول البلاء يقر بأنه لا مستغاث إلا الله تعالى وعند زوال البلاء يثبت الأضداد والشركاء فهذا جعل عظيم وضلال كامل ونظير هذه الآية قوله تعالى فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون العنكبوت 65
ثم قال تعالى ليكفروا بما آتيناهم وفي هذه اللام وجهان الأول أنها لام كي والمعنى أنهم شركوا بالله غيره في كشف ذلك الضر عنهم وغرضهم منذلك الإشراك أن ينكروا كون ذلك الإنعام من الله تعالى ألا ترى أن العليل إذا اشتد وجعه تضرع إلى الله تعالى في إزالة ذلك الوجع فإذا زال أحال زواله على الدواء الفلاني والعلاج الفلاني وهذا أكثر أحوال الخلق وقال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله في اليوم الذي كنت أكتب هذه الأوراق وهو اليوم الأول من محرم سنة اثنتين وستمائة حصلت زلزلة شديدة وهدة عظيمة وقت الصبح ورأيت الناس يصيحون بالدعاء والتضرع فلما سكتت وطاب(20/42)
الهواء وحسن أنواع الوقت نسوا في الحال تلك الزلزلة وعادوا إلى ما كانوا عليه من تلك السفاهة والجهالة وكان هذه الحالة التي شرحها الله تعالى في هذه الآية تجري مجرى الصفة اللازمة لجوهر نفس الإنسان
والقول الثاني أن هذه اللام لام العاقبة كقوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا القصص 8 يعني ان عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفر
واعلم أن المراد بقوله بما آتيناهم فيه قولان الأول أنه عبارة عن كشف الضر وإزالة المكروه والثاني قال بعضهم المراد به القرآن وما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من النبوة والشرائع
واعلم أنه تعالى توعدهم بعد ذلك فقال فتمتعوا وهذا لفظ أمر والمراد منه التهديد كقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الكهف 29 وقوله قل آمنوا به أو لا تؤمنوا الإسراء 107
ثم قال تعالى فسوف تعلمون أي عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب والله أعلم
قوله تعالى
ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل القاهرة فساد أقوال أهل الشرك والتشبيه شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم وبين فسادها وسخافتها
فالنوع الأول من كلماتهم الفاسدة أنهم يجعلون لما لا يعلمون نصيبا وفيه مسألتان
المسألة الأولى الضمير في قوله لما لا يعلمون إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى المشركين المذكورين في قوله إذا فؤيق منكم بربهم يشركون والمعنى أن المشركين لا يعلمون والثاني أنه عائد إلى الأصنام أي لا يعلم الأصنام ما يفعل عبادها قال بعضهم الأول أولى لوجوه أحدها أن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز وثانيها أن الضمير في قوله ويجعلون عائد إلى المشركين فكذلك في قوله لما لا يعلمون يجب أن يكون عائد إليهم وثالثها أن قوله لما لا يعلمون جمع بالواو والنون وهو بالعقلاء أليق منه بالأصنام التي هي جمادات ومنهم من قال بل القول الثاني أولى لوجوه الأول أنا إذا قلنا إنه عائد إلى المشركين افتقرنا إلى إضمار فإن التقدير ويجعلون لما لا يعلمون إلها أو لما لا يعلمون كونه نافعا ضارا وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام لم نفتقر إلى الإضمار لأن التقدير ويجعلون(20/43)
لما لا علم لها ولا فهم والثاني أنه لو كان العلم مضافا إلى المشركين لفسد المعنى لأن من المحال أن يجعلوا نصيبا من رزقهم لما لا يعلمونه فهذا ما قيل في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر
واعلم أنا إذا قلنا بالقول الأول افتقرنا فيه إلى الإضمار وذلك يحتمل وجة ها أحدها ويجعلون لما لا يعلمون له حقا ولا يعلمون في طاعته نفعا ولا في الاعراض عنه ضررا قال مجاهد يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه ينفعهم ويضرهم نصيبا وثانيها ويجعلون لما لا يعلمون إلهيتها وثالثها ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها معبودة ورابعها المراد استحقار الأصنام حتى كأنها لقلتها لا تعلم
المسألة الثانية في تفسير ذلك نصيب احتمالات الأول المراد منه أنهم جعلوا لله نصيبا من الحرث والأنعام يتقربون إلى الله تعالى به ونصيبا إلى الأصنام يتقربون به إليها وقد شرحنا ذلك في آخر سورة الأنعام والثاني أن المراد من هذا النصيب البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وهي قول الحسن والثالث ربما اعتقدوا في بعض الأشياء أنه إنما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام كما أن المنجمين يوزعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة فيقولون لزحل كذا من المعادن والنبات والحيوانات وللمشتري أشياء أخرى فكذا ههنا
واعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين هذا المذهب قال تالله لتسألن وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة بمنزلة قوله فوربك لنسألن أجمعين عما كانوا يعملون الحجر 92 وعلى التقديرين فأقسم الله تعالى بنفسه أنه يسألهم وهذا تهديد منه شديد لأن المراد أنه يسألهم سؤال توبيخ وتهديد وفي وقت هذا السؤال احتمالان الأول أنه يقع ذلك السؤال عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب وقيل عند عذاب القبر والثاني أنه يقع ذلك في الآخرة وهذا أولى لأنه تعالى قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة فهو إلى الوعيد أقرب
النوع الثاني من كلماتهم الفاسدة أنهم يجعلون لله البنات ونظيره قوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا الزخرف 19 كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله أقول أظن أن العرب إنما أطلقوا لفظ البنات لأن الملائكة لما كانوا مستترين عن العيون أشبهوا النساء في الاستتار فأطلقوا عليهم لفظ البنات وأيضا قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر فأطلقوا عليه لفظ التأنيث فهذا ما يغلب على الظن في سبب إقدامهم على هذا القول الفاسد والمذهب الباطل ولما حكى الله تعالى عنهم هذا القول قال سبحانه وفيه وجوه الأول أن يكون المراد تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه والثاني تعجيب الخلق من هذا الجهل القبيح وهو وصف الملائكة بالأنوثة ثم نسبتها بالولدية إلى الله تعالى والثالث قيل في التفسير معناه معاذ الله وذلك مقارب للوجه الأول
ثم قال تعالى ولهم ما يشتهون أجاز الفراء في ما وجهين الأول أن يكون في محل النصب على معنى ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون والثاني أن يكون رفعا على الابتداء كأنه تم الكلام عند قوله سبحانه ثم ابتدأ فقال ولهم ما يشتهون يعني البنين وهو كقوله أم له البنات ولكم البنون الطور 39 ثم اختار الوجه الثاني وقال لو كان نصيبا لقال ولأنفسهم ما يشتهون لأنك تقول جعلت لنفسك كذا(20/44)
وكذا ولا تقول جعلت لك وأبى الزجاج إجازة الوجه الأول وقال ما في موضع رفع لا غير والتقدير ولهم الشيء الذي يشتهونه ولا يجوز النصب لأن العرب تقول جعل لنفسه ما تشتهي ولا تقول جعل له ما يشتهي وهو يعني نفسه ثم إنه تعالى ذكر أن الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالولد البنت لنفسه فما لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله تعالى فقال وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم وفيه مسائل
المسألة الأولى التبشير في عرف اللغة مختص بالخبر الذي يفيد السرور إلا أنه بحسب أصل اللغة عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه ومعلوم أن السرور كما يوجب تغير البشرة فكذلك الحزن يوجبه فوجب أن يكون لفظة التبشير حقيقة في القسمين ويتأكد هذا بقوله فبشرهم بعذاب أليم آل عمران 21 ومنهم من قال المراد بالتبشير ههنا الأخبار والقول الأول أدخل في التحقيق
أما قوله ظل وجهه مسودا فالمعنى أنه يصير متغيرا تغير مغتم ويقال لمن لقي مكروها قد اسود وجهه غما وحزنا وأقول إنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم وذلك لأن الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره وانبسط روح قلبه من داخل القلب ووصل إلى الأطراف ولا سيما إلى الوجه لما بينهما من التعلق الشديد وإذا وصل الروح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه وتلألأ واستنار وأما إذا قوي غم الإنسان احتقن الروح في باطن القلب ولم يبق منه أثر قوي في ظاهر الوجه فلا جرم يربد الوجه ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية والكثافة فثبت أن من لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم كمودة الوجه وغبرته وسواده فلهذا السبب جعل بياض الوجه وإشراقه كناية عن الفرح وغبرته وكمودته وسوداه كناية عن الغم والحزن والكراهية ولهذا المعنى قال ظل وجهه مسودا وهو كظيم أي ممتلئ غما وحزنا
ثم قال تعالى يتوارى من القوم من سوء أي يختفي ويتغيب من سوء ما بشر به قال المفسرون كان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له فإن كان ذكرا ابتهج به وإن كان أنثى حزن ولم يظهر للناس أياما فيها أنه ماذا يصنع بها وهو قوله أيمسكه على هون أم يدسه في التراب والمعنى أيحسبه والإمساك ههنا بمعنى الحبس كقوله أمسك عليك زوجك الأحزاب 37 وإنما قال أيمسكه ذكره بضمير الذكران لأن هذا الضمير عائد على ما في قوله بشر به والهون الهوان قال النضر بن شميل يقال إنه أهون عليه هونا وهوانا وأهنته هونا وهوانا وذكرنا هذا في سورة الأنعام عند قوله عذاب الهون وفي أن هذا الهون صفة من قولان الأول أنه صفة المولودة ومعناه أنه يمسكها عن هون منه لها والثاني قال عطاء عن ابن عباس إنه صفة للأب ومعناه أنه يمسكها مع الرضا بهوان نفسه وعلى رغم أنفه
ثم قال أم يدسه في التراب والدس إخفاء الشيء في الشيء يروى أن العرب كانوا يحفرون حفيرة ويجعلونها فيها حتى تموت وروي عن قيس بن عاصم أنه قال يا رسول الله إني واريت ثماني بنات في الجاهلية فقال عليه السلام { أعتق عن كل واحدة منهن رقبة } فقال يا نبي الله إن ذو إبل فقال { اهد عن كل واحدة منهن هديا } وروي أن رجلا قال يا رسول الله ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت فقد كانت لي في الجاهلية ابنة فأمرت امرأتي أن تزينها فأخرجتها إلي فانتهيت بها إلى واد بعيد القعر فألقيتها فيه فقالت يا(20/45)
أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال عليه السلام { ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما كان في الإسلام يهدمه الاستغفار } واعلم أنهم كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت ومنهم من يرميها من شاهق جبل ومنهم من يغرقها ومنهم من يذبحها وهم كانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية وتارة خوفا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة ثم إنه قال ألا ساء ما يحكمون وذلك لأنهم بلغوا من الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات فأولها أن يسود وجهه وثانيها أنه يختفي عن القوم من شدة نفرته عن البنت وثالثها أن الولد محبوب بحسب الطبيعة ثم إنه بسبب شدة نفرته عنها يقدم على قتلها وذلك يدل على أن النفرة عن البنت والاستنكاف عنها قد بلغ مبلغا لا يزداد عليه إذا ثبت هذا فالشيء الذي بلغ الاستنكاف منه إلى هذا الحد العظيم كيف يليق بالعاقل أن ينسبه لإله العالم المقدس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات ونظير هذه الآية قوله تعالى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى النجم 22
المسألة الثانية قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان الخبر لأنهم يضيقون إلى الله تعالى من الظلم والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه والتباعد عنه فحكمهم في ذلك مشابهة لحكم هؤلاء المشركين ثم قال بل أعظم لأن إضافة البنات إليه إضافة قبح واحد وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله تعالى فيقال للقاضي إنه لما ثبت بالدليل استحالة الصاحبة والولد على الله تعالى أردفه الله تعالى بذكر هذا الوجه الاقناعي وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح من الله تعالى ألا ترى رجلا زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع فإن هذا بالاتفاق حسن من الله تعالى وقبيح من كل خلق فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبنية على العرف فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الاقناعية أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية القاطعة أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا شدة التعصب والله أعلم
ثم قال تعالى للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى والمثل لاسوء عبارة عن الصفة السوء وهي احتياجهم إلى الولد وكراهتهم الإناث خوف الفقر والعار ولله المثل الأعلى أي الصفة العالية المقدسة وهي كونه تعالى منزها عن الولد
فإن قيل كيف جاء ولله المثل الأعلى مع قوله فلا تضربوا لله الأمثال النحل 74
قلنا المثل الذي يذكره الله حق وصدق والذي يذكره غيره فهو الباطل والله أعلم(20/46)
قوله تعالى
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أنم لهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
اعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم عظيم كفرهم وقبيح قولهم بين أنه يمهل هؤلاء الكفار ولا يعالجهم بالعقوبة إظهارا للفضل والرحمة والكرم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى ولو يؤاخ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة من وجهين الأول أنه قال ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم فأضاف الظلم إلى كل الناس ولا شك أن الظلم من المعاصي فهذا يقتضي كون كل إنسان آتيا بالذنب والمعصية والأنبياء عليهم السلام من الناس فوجب كونهم آتين بالذنب والمعصية والثاني أنه تعالى قال ما ترك على ظهرها من دابة وهذا يقتضي أن كل من كان على ظهر الأرض فهو آت بالظلم والذنب حتى يلزم من إفناء كل من كان ظالما إفناء كل الناس أما إذا قلنا الأنبياء عليهم السلام لم يصدر عنهم ظلم فلا يجب إفناؤهم وحينئذ لا يلزم من إفناء كل الظالمين إفناء كل الناس وأن لا يبقى على ظهر الأرض دابة ولما لزم علمنا أن كل البشر ظالمون سواء كانوا من الأنبياء أو لم يكونوا كذلك
والجواب ثبت بالدليل أن كل الناس ليسوا ظالمين لأنه تعالى قال ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فاطر 32 أي فمن العباد من هو ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق ولو كان المقتصد والسابق ظالما لفسد ذلك التقسيم فعلمنا أن المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز أن يقال كل الخلق ظالمون
وإذا ثبت هذا فنقول الناس المذكورون في قوله ولو يؤاخذ الله الناس إما كل العصاة المستحقين للعقاب أو الذين ذكرهم من المشركين ومن الذين أثبتوا لله البنات وعلى هذا التقدير فيسقط الاستدلال والله أعلم
المسألة الثانية من الناس من احتج بهذه الآية على أن الأصل في المضمار الحرمة فقال لو كان الضرر مشروعا لكان إما أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء على جرم صادر منهم أو لا على هذا الوجه والقسمان باطلان فوجب أن لا يكون مشروعا أصلا
أما بيان فساد القسم الأول فقوله تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة(20/47)
والاستدلال به من وجهين الأول أن كلمة لو وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره فقوله لول يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة يقتضي أنه تعالى ما أخذهم بظلمهم وأنه ترك على ظهرها من دابة والثاني أنه لما دلت الآية على أن لازمة الله الناس بظلمهم هو أن لا يترك على ظهرها دابة ثم إنا نشاهد أنه تعالى ترك على ظهرها دواب كثيرين فوجب القطع بأنه تعالى لا يؤاخذ الناس بظلمهم فثبت بهذا أنه لا يجوز أن تكون المضار مشروعة على وجه تقع أجزية عن الجرائم
وأما القسم الثاني وهو أن يكون مشروعا ابتداء لا على وجه يقع أجزية عن جرم سابق فهذا باطل بالاجماع فثبت أن مقتضى هذه الآية تحريم المضار مطلقا ويتأكد هذا أيضا بآيات أخرى كقوله تعالى ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها الأعراف 56 وكقوله وما جعل عليكم في الدين من حرج الحج 78 وكقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر البقرة 185 وكقوله عليه السلام { لا ضرر ولا ضرار في الإسلام } وكقوله { ملعون من ضر مسلما } فثبت بمجموع هذه الآيات والأخبار أن الأصل في المضار الحرمة فنقول إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من كل الوجوه فإن وجدنا نصا خاصا يدل على كونه مشروعا قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا قضينا عليه بالحرمة بناء على هذا الأصل الذي قررناه ومنهم من قال هذه القاعدة تدل على أن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون في حقه لأن المنع منه ضرر والضرر غير مشروع بمقتضى هذا الأصل وكل ما يكرهه الإنسان وجب أن يحرم لأن وجوده ضرر والضرر غير مشروع فثبت أن هذا الأصل يتناول جميع الوقائع الممكنة إلى يوم القيامة ثم نقول القياس الذي يتمسك به في إثبات الأحكام إما أن يكون لى وفق هذه القاعدة أو على خلافها والأول باطل لأن هذا الأصل يغني عنه والثاني باطل لأن النص راجح على القياس والله أعلم
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن الظلم والمعاصي ليست فعلا لله تعالى بل تكون أفعالا للعباد لأنه تعالى أضاف ظلم العباد إليهم وما أضافه إلى نفسه فقال ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم وأيضا فلو كان خلقا لله تعالى لكانت مؤاخذتهم بها ظلما من الله تعالى ولما منع الله تعالى العباد من الظلم في هذه الآية فبأن يكون منزها عن الظلم كان أولى قالوا ويدل أيضا على أن أعمالهم مؤثرة في وجوب الثواب والعقاب أن قوله بظلمهم الباء فيه تدل على العلية كما في قوله ذلك بأنهم شاقوا الله الأنفال 13
واعلم أن الكلام في هذه المسائل قد ذكرناه مرارا فلا نعيده والله أعلم
المسألة الرابعة ظاهر الآية يدل على أن إقدام الناس على الظلم يوجب إهلاك جميع الدواب وذلك غير جائز لأن الدابة لم يصدر عنها ذنب فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم الناس
والجواب عنه من وجهين
الوجه الأول أنا لا نسلم أن قوله ما ترك على ظهرها من دابة يتناول جميع الدواب وأجاب أبو علي الجبائي عنه أن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر ومعصية لعجل هلالكهم وحينئذ لا يبقى لهم نسل ثم من المعلوم أنه لا أحدا إلا وفي أحد آبائه من يستحق العذاب وإذا هلكوا فقد بطل نسلهم فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من الناس وإذا بطلوا وجب أن لا يبقى أحد من الدواب أيضا لأن الدواب(20/48)
مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم فهذا وجه لطيف حسن
والوجه الثاني أن الهلاك إذا ورد على الظلمة ورد أيضا على سائر الناس والدواب فكان ذلك الهلاك في حق الظلمة عذابا وفي حق غيرهم امتحانا وقد وقعت هذه الواقعة في زمان نوح عليه السلام
والوجه الثالث أنه تعالى لو آخذهم لا نقطع القطر وفي انقطاعه انقطاع النبت فكان لا تبقى على ظهرها دابة وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول إن الظالم لا يضير إلا نفسه فقال لا والله بل إن الحبارى في وكرها لتموت بظلم الظالم وعن ابن مسعود رضي الله عنه كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم فهذه الوجوه الثلاثة من الجواب مفرعة على تسليم أن لفظة الدابة يتناول جميع الدواب
والجواب الثاني أن المراد من قوله ما ترك على ظهرها من دابة أي ما ترك على ظهرها من كافر فالمراد بالدابة الكافر والدليل عليه قوله تعالى أولئك كالأنعام بل هم أضل الأعراف 179 والله أعلم
المسألة الخامسة الكناية في قوله عليها عائدة على الأرض ولم يسبق لها ذكر إلا أن ذكر الدابة يدل على الأرض فإن الدابة إنما تدب عليها وكثيرا ما يكنى عن الأرض وإن لم يتقدم ذكرها لأنهم يقولون ما عليها مثل فلان وما عليها أكرم من فلان يعنون على الأرض
ثم قال تعالى ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ليتوالدوا وفي تفسير هذا الأجل قولان
القول الأول وهو قول عطاء عن ابن عباس أنه يريد أجل القيامة
والقول الثاني أن المراد منتهى العمر وجه القول الأول أن معظم العذاب يوافيهم يوم القيامة ووجه القول الثاني أن المشركين يؤاخذهم بالعقوبة إذا انقضت أعمارهم وخرجوا من الدنيا
النوع الثالث من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار وحكاها الله تعالى عنهم قوله ويجعلون لله ما يكرهون
واعلم أن المراد من قوله ويجعلون أي البنات التي يكرهونها لأنفسهم ومعنى قوله يجعلون يصفون الله بذلك ويحكمون به له كقوله جعلت زيدا على الناس أي حكمت بهذا الحكم وذكرنا معنى الجعل عند قوله ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة المائدة 103
ثم قال تعالى وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى قال الفراء والزجاج موضع أن نصب لأن قوله أن لهم الحسنى بدل نت الكذب وتقدير الكلام وتصف ألسنتهم أن لهم الحسنى وفي تفسير الحسنى ههنا قولان الأول المراد منه البنون يعني أنهم قالوا لله البنات ولنا البنون والثاني أنهم مع قولهم بإثبات البنات لله تعالى يصفون أنفسهم بأنهم فازوا برضوان الله تعالى بسبب هذا القول وأنهم على الدين الحق والمذهب الحسن الثالث أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله تعالى
فإن قيل كيف يحكمون بذلك وهم كانوا منكرين للقيامة
قلنا كلهم ما كانوا منكرين للقيامة فقد قيل إنه كان في العرب جمع يقرون بالبعث والقيامة ولذلك فإنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ويقولون أن ذلك الميت إذا(20/49)
حشر فإنه يحشر معه مركوبه وأيضا فبتقدير أنهم كانوا منكرين للقيامة فلعلهم قالوا إن كان محمد صادقا في قوله بالبعث والنشور فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه ومن الناس من قال الأولى أن يحمل الحسنى على هذا الوجه بدليل أنه تعالى قال بعده لا جرم أن لهم النار فرد عليهم قولهم وأثبت لهم النار فدل هذا على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة قال الزجاج لا رد لقولهم والمعنى ليس الأمر كما وصفوا جرم فعلهم أي كسب ذلك القول لهم النار فعلى هذا اللفظ أن في محل النصب بوقوع الكسب عليه وقال قطرب أن في موضع رفع والمعنى وجب أن لهم النار وكيف كان الإعراب فالمعنى هو أنه يحق لهم النار ويجب ويثبت وقوله وأنهم مفرطون قرأ نافع وقتيبة عن الكسائي مفرطون بكسر الراء والباقون مفرطون بفتح الراء أما قراءة نافع فقال الفراء المعنى أنهم كانوا مفرطين على أنفسهم في الذنوب وقيل أفرطوا في الافتراء على الله تعالى وقال أبو علي الفارسي كأنه من أفرط أي صار ذا فرط مثل أجرب أي صار ذا جرب والمعنى أنهم ذوو فرط إلى النار كأنهم قد أرسلوا من يهيء لهم مواضع فيها وأما قراءة قوله مفرطون بفتح الراء ففيه قولان
القول الأول المعنى أنهم متركون في النار قال الكسائي يقال ما أفرطت من القوم أحدا أي ما تركت وقال الفراء تقول العرب أفرطت منهم ناسا أي خلفتهم وأنسيتهم
والقول الثاني مفرطون أي معجلون قال الواحدي رحمه الله وهو الاختيار ووجهه ما قال أبو زيد وغيره فرط الرجل أصحابه يفرطهم فرطا وفروطا إذا تقدمهم إلى الماء ليصلح الدلاء والأرسان وأفرط القوم الفارط وفرطوه إذا قدموه فمعنى قوله مفرطون على هذا التقدير كأنهم قدموا إلى النار فهم فيها فرط للذين يدخلون بعدهم ثم بين تعالى أن مثل هذا الصنع الذي يصدر من مشركي قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدمين عليهم السلام فقال تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم وهذا يجري مجرى التسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم قالت المعتزلة الآية تدل على فساد قول المجبرة من وجوه الأول أنه إذا كان خالق أعمالهم هو الله تعالى فلا فائدة في التزيين والثاني أن ذلك التزيين لما كان بخلق الله تعالى لم يجز ذم الشيطان بسببه والثالث أن التزيين هو الذي يدعة الإنسان إلى الفعل وإذا كان حصول الفعل فيه بخلق الله تعالى كان ضروريا فلم يكن التزيين داعيا والرابع أن على قولهم الخالق لذلك العمل أجدر أن يكون وليا لهم من الداعي إليه والخامس أنه تعالى أضاف التزيين إلى الشيطان ولو كان ذلك المزين هو الله تعالى لكانت إضافته إلى الشيطان كذبا
وجوابه إن كان مزين القبائح في أعين الكفار هو الشيطان فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل وإن كان هو الله تعالى فهو المطلوب
ثم قال تعالى فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وفيه احتمالان الأول أن المراد منه كفار مكة وبقوله فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي الشيطان ويتولى إغواءهم وصرفهم عنك كما فعل بكفار الأمم قبلك فيكون على هذا التقدير رجع عن أخبار الأمم الماضية إلى الأخبار عن كفار مكة الثاني أنه أراد باليوم يوم القيامة يقول فهو ولي أولئك الذين كفروا يزين لهم أعمالهم يوم القيامة وأطلق اسم اليوم على يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم(20/50)
والمقصود من قوله فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ هو أنه لا ولي لهم ذلك اليوم ولا ناصر وذلك لأنهم إذا عاينوا العذاب وقد نزل بالشيطان كنزوله بهم ورأوا أنه لا مخلص له منه كما لا مخلص لهم منه جاز أن يوبخوا بأن يقال لهم هذا وليكم اليوم على وجه السخرية ثم ذكر تعالى أن مع هذا الوعيد الشديد أقام الحجة وأزاح العلة فقال وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أنا ما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين لهم بواسطة بيانات هذا القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها والمختلفون هم أهل الملل والأهواء وما اختلفوا فيه هو الدين مثل التوحيد والشرك والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه ومثل الأحكام مثل أنهم حرموا أشياء تحل كالبحيرة والسائبة وغيرهما وحللوا أشياء تحرم كالميتة
المسألة الثانية اللام في قوله لِتُبَيّنَ تدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض ونظيره آيات كثيرة منها قوله كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ ( إبراهيم 1 ) وقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 )
وجوابه أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل وجب صرفه إلى التأويل
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قوله هُدًى وَرَحْمَة ً معطوفان على محل قوله لِتُبَيّنَ إلا أنهما انتصبا على أنه مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ودخلت اللام في قوله لِتُبَيّنَ لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفاعل
المسألة الرابعة قال الكلبي وصف القرآن بكونه هدى ورحمة لقوم يؤمنون لا ينفي كونه كذلك في حق الكل كما أن قوله تعالى في أول سورة البقرة هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) لا ينفي كونه هدى لكل الناس كما ذكره في قوله هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ( البقرة 185 ) وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث إنهم قبلوه فانتفعوا به كما في قوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) لأنه إنما انتفع بإنذاره هذا القوم فقط والله أعلم
وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاٌّ نْعَامِ لَعِبْرَة ً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاٌّ عْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول أربعة الإلهيات والنبوات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة تقرير الآلهيات فلهذا السبب(20/51)
كلما امتد الكلام في فصل من الفصول في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الآلهيات وقد ذكرنا في أول هذه السورة أنه تعالى لما أراد ذكر دلائل الآلهيات ابتدأ بالأجرام الفلكية وثنى بالإنسان وثلث بالحيوان وربع بالنبات وخمس بذكر أحوال البحر والأرض فههنا في هذه الآية لما عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات بدأ أولاً بذكر الفلكيات فقال وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا والمعنى أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء ويصير ذلك الماء سبباً لحياة الأرض والمراد بحياة الأرض نبات الزرع والشجر والنور والثمر بعد أن كان لا يثمر وينفع بعد أن كان لا ينفع وتقرير هذه الدلائل قد ذكرناه مراراً كثيرة
ثم قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع
والنوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآيات الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاْنْعَامِ لَعِبْرَة ً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ قد ذكرنا معنى العبرة في قوله لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ ( آل عمران 13 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي نُّسْقِيكُمْ بضم النون والباقون بالفتح أما من فتح النون فحجته ظاهرة تقول سقيته حتى روى أسقيه قال تعالى وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ( الإنسان 21 ) وقال وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ ( الشعراء 79 ) وقال وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً ( محمد 15 ) ومن ضم النون فهو من قولك أسقاه إذا جعل له شراباً كقوله وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً ( المرسلات 27 ) وقوله فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ( الحجر 22 ) والمعنى ههنا أنا جعلناه في كثرته وإدامته كالسقيا واختار أبو عبيد الضم قال لأنه شرب دائم وأكثر ما يقال في هذا المقام أسقيت
المسألة الثانية قوله 6 مما في بطونه الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها وذكر النحويون فيه وجوهاً الأول أن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة جمع كالرهط والقوم والبقر والنعم فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد وهو التذكير وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع وهو التأنيث فلهذا السبب قال ههنا الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها وذكر النحويون فيه وجوهاً الأول أن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة جمع كالرهط والقوم والبقر والنعم فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد وهو التذكير وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع وهو التأنيث فلهذا السبب قال ههنا فِى بُطُونِهِ وقال في سورة المؤمنين فِى بُطُونِهَا ( المؤمنون 21 ) الثاني قوله فِى بُطُونِهِ أي في بطون ما ذكرنا وهذا جواب الكسائي قال المبرد هذا شائع في القرآن قال تعالى فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبّى ( الأنعام 78 ) يعني هذا الشيء الطالع ربي وقال كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَة ٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( المدثر 54 55 ) أي ذكر هذا الشيء
واعلم أن هذا إنما يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي أما الذي يكون تأنيثه حقيقياً فلا يجوز فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال جاريتك ذهب ولا غلامك ذهب على تقدير أن نحمله على النسمة الثالث أن فيه إضماراً والتقدير نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن
المسألة الثالثة الفرث سرجين الكرش روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثاً وأعلاه دماً وأوسطه لبناً فيجري الدم في العروق واللبن في(20/52)
الضرع ويبقى الفرث كما هو فذاك هو قوله تعالى مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا لا يشوبه الدم ولا الفرث
ولقائل أن يقول الدم واللبن لا يتولدان ألبتة في الكرش والدليل عليه الحس فإن هذه الحيوانات تذبح ذبحاً متوالياً وما رأى أحد في كرشها لا دماً ولا لبناً ولو كان تولد الدم واللبن في الكرش لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك الدم مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية أما الصفراء فتذهب إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى المثانة وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض من صورة الدم إلى صورة اللبن فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن
فإن قيل فهذه المعاني حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن
قلنا الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته فمزاج الذكر من كل حيوان يجب أن يكون حاراً يابساً ومزاج الأنثى يجب أن يكون بارداً رطباً والحكمة فيه أن الولد إنما يتكون في داخل بدن الأنثى فوجب أن تكون الأنثى مختصة بمزيد الرطوبات لوجهين الأول أن الولد إنما يتولد من الرطوبات فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة التولد الولد والثاني أن الولد إذا كبر وجب أن يكون بدن الأم قابلاً للتمدد حتى يتسع لذلك الولد فإذا كانت الرطوبات غالبة على بدن الأم كان بدنها قابلاً للتمدد فيتسع للولد فثبت بما ذكرنا أنه تعالى خص بدن الأنثى من كل حيوان بمزيد الرطوبات لهذه الحكمة ثم إن الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم فعند انفصال الجنين تنصب إلى الثدي والضرع ليصير مادة لغذاء ذلك الطفل الصغير
إذا عرفت هذا فاعلم أن السبب الذي إجله يتولد اللبن من الدم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذكر فظهر الفرق
إذا عرفت هذا التصوير فنقول المفسرون قالوا المراد من قوله مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ هو أن هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد فالفرث يكون في أسفل الكرش والدم يكون في أعلاه واللبن يكون في الوسط وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة ولأن الدم لو كان يتولد في أعلى المعدة والكرش كان يجب إذاقاء أن يقيء الدم وذلك باطل قطعاً وأما نحن فنقول المراد من الآية هو أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث وهو الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش وهذا اللبن متولد من الأجزاء التي كانت حاصلة فيما بين الفرث أولاً ثم كانت حاصلة فيما بين الدم ثانياً فصفاه الله تعالى عن تلك الأجزاء الكثيفة الغليظة وخلق فيها الصفات التي(20/53)
باعتبارها صارت لبناً موافقاً لبدن الطفل فهذا ما حصلناه في هذا المقام والله أعلم
المسألة الرابعة اعلم أن حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقاً لتغذية الصبي مشتمل على حكم عجيبة وأسرار بديعة يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم والمدبر الرحيم وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثقل الغذاء فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنقذ انطباقاً كلياً لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ويبقى الثقل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ويترك منه ذلك الثقل وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم لأنه متى كانت الحاجة إلى بقاء الغذاء في المعدة حاصلة انطبق ذلك المنفذ وإذا حصلت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم عن المعدة انفتح فحصول الانطباق تارة والانفتاح أخرى بحسب الحاجة وتقدير المنفعة مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم الثاني أنه تعالى أودع في الكبد قوة تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول أو المشروب ولا تجذب الأجزاء الكثيفة وخلق في الأمعاء قوة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل ولا تجذب الأجزاء اللطيفة ألبتة ولو كان الأمر بالعكس لاختلفت مصلحة البدن ولفسد نظام هذا التركيب الثالث أنه تعالى أودع في الكبد قوة هاضمة طابخة حتى أن تلك الأجزاء اللطيفة تنطبخ في الكبد وتنقلب دماً ثم إنه تعالى أودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء وفي الطحال قوة جاذبة للسوداء وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية حتى يبقى الدم الصافي الموافق لتغذية البدن وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بتلك القوة والخاصية لا يمكن إلا بتقدير الحكيم العليم الرابع أن في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة لنمو أعضاء ذلك الولد وازدياده فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرحم ينصب ذلك النصيب إلى جانب الثدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له فإذا كبر الولد لم ينصب ذلك النصيب لا إلى الرحم ولا إلى الثدي بل ينصب على مجموع بدن المغتذي فانصباب ذلك الدم في كل وقت إلى عضو آخر انصباباً موافقاً للمصلحة والحكمة لا يتأتى إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم والخامس أن عند تولد اللبن في الضرع أحدث تعالى في حلمة الثدي ثقوباً صغيرة ومسام ضيقة وجعلها بحيث إذا اتصل المص أو الحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها في تلك المسام الضيقة ولما كانت تلك المسام ضيقة جداً فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة وأما الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل والحكمة في إحداث تلك الثقوب الصغيرة والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أن يكون ذلك كالمصفاة فكل ما كان لطيفاً خرج وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل ولم يخرج فبهذا الطريق يصير ذلك اللبن خالصاً موافقاً لبدن الصبي سائغاً للشاربين السادس أنه تعالى ألهم ذلك الصبي إلى المص فإن الأم كلما ألقمت حلمة الثدي في فم الصبي فذلك الصبي في الحال يأخذ في المص فلولا أن الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي السابع أنا بينا أنه تعالى إنما خلق اللبن من فضلة الدم وإنما خلق الدم من لطيف تلك الأجزاء ثم خلق اللبن من بعض أجزاء ذلك الدم ثم إن اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة فما فيه من الدهن(20/54)
يكون حاراً رطباً وما فيه من المائية يكون بارداً رطباً وما فيه من الجبنية يكون بارداً يابساً وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في ذلك العشب الذي تناولته الشاة فظهر بهذا أن هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة مع أنه لا يناسب بعضها بعضاً ولا يشاكل بعضها بعضاً وعند ذلك يظهر أن هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل حكيم رحيم يدبر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العباد فسبحان من تشهد جميع ذرات العالم الأعلى والأسفل بكمال قدرته ونهاية حكمته ورحمته له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين
أما قوله سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ فمعناه جارياً في حلوقهم لذيذاً هنيئاً يقال ساغ الشراب في الحلق وأساغه صاحبه ومنه قوله وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ( إبراهيم 17 )
المسألة الخامسة قال أهل التحقيق اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار سبحانه فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيراً فقلب ذلك الطين نباتاً وعشباً ثم إذا أكله الحيوان دبر تدبيراً آخر فقلب ذلك العشب دماً ثم دبر تدبيراً آخر فقلب ذلك الدم لبناً ثم دبر تدبيراً آخر فحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن فهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع والله أعلم
ثم قال تعالى وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض منافع الحيوانات في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية بعض منافع النبات وفيه مسائل
المسألة الأولى فإن قيل بم تعلق قوله وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ
قلنا بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرها وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه وقوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا بيان وكشف عن كنه الإسقاء
المسألة الثانية قال الواحدي الأعناب عطف على الثمرات لا على النخيل لأنه يصير التقدير ومن ثمرات الأعناب والعنب نفسه ثمرة وليست له ثمرة أخرى
المسألة الثالثة في تفسير السكر وجوه الأول السكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو رشد رشداً ورشداً وأما الرزق الحسن فسائر ما يتخذ من النخيل والأعناب كالرب والخل والدبس والتمر والزبيب
فإن قيل الخمر محرمة فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام
أجابوا عنه من وجهين الأول أن هذه السورة مكية وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة الثاني أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من النافع وخاطب المشركين بها والخمر من أشربتهم فهي منفعة في حقهم ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضاً على تحريمها وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في(20/55)
الذكر فوجب أن لا يكون السكر رزقاً حسناً ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشريعة وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة
القول الثاني أن السكر هو النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد وهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله إلى حد السكر ويحتج بأن هذه الآية تدل على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة ودل الحديث على أن الخمر حرام قال عليه السلام ( الخمر حرام لعينها ) وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر وكل من أثبت هذه المغايرة قال إنه النبيذ المطبوخ
والقول الثالث أن السكر هو الطعام قاله أبو عبيدة واحتج عليه بقول الشاعر
جعلت أعراض الكرام سكراً
أي جعلت ذمهم طعاماً لك قال الزجاج هذا بالخمر أشبه منه بالطعام والمعنى أنك جعلت تتخمر بأغراض الكرام والمعنى أنه جعل شغفه بغيبة الناس وتمزيق أعراضهم جارياً مجرى شرب الخمر
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه التي هي دلائل من وجه وتعديد للنعم العظيمة من وجه آخر قال حَسَنًا إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ والمعنى أن من كان عاقلاً علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر الحكيم والله أعلم
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن إخراج الألبان من النعم وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دلائل قاهرة وبينات باهرة على أن لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً فكذلك إخراج العسل من النحل دليل قاطع وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ يقال وحى وأوحى وهو الإلهام والمراد من الإلهام أنه تعالى قرر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر وبيانه من وجوه الأول أنها تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل المسطر والفرجار والثاني أنه ثبت في الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة(20/56)
أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة فإنه لا يبقى فيما بينها فرج ضائعة فإهداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب والثالث أن النحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرئيس للبقية وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي ويكون نافذ الحكم على تلك البقية وهم يخدمونه ويحملونه عند الطيران وذلك أيضاً من الأعاجيب والرابع أنها إذا نفرت من وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطنبور والملاهي وآلات الموسيقى وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى وكرها وهذا أيضاً حالة عجيبة فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة وكان حصول هذه الأنواع من الكياسة ليس إلا على سبيل الإلهام وهي حالة شبيهة بالوحي لا جرم قال تعالى في حقها وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ
واعلم أن الوحي قد ورد في حق الأنبياء لقوله تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً ( الشورى 51 ) وفي حق الأولياء أيضاً قال تعالى وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ( المائدة 111 ) وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى يَحْذَرونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى ( القصص 7 ) وفي حق سائر الحيوانات كما في قوله وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ولكل واحد من هذه الأقسام معنى خاص والله أعلم
المسألة الثانية قال الزجاج يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً لأن الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها وقال غيره النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز ولذلك أنثها الله تعالى وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء
ثم قال تعالى أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) أَنِ اتَّخِذِى هي ( أن ) المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول وقرىء بُيُوتًا بكسر الباء وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي يبنون ويسقفون وفيه لغتان قرىء بهما ضم الراء وكسرها مثل يعكفون ويعكفون
واعلم أن النحل نوعان
النوع الأول ما يسكن في الجبال والغياض ولا يتعهدها أحد من الناس
والنوع الثاني التي تسكن بيوت الناس وتكون في تعهدات الناس فالأول هو المراد بقوله أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ والثاني هو المراد بقوله وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وهو خلايا النحل
فإن قيل ما معنى ( من ) في قوله أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وهلا قيل في الجبال وفي الشجر
قلنا أريد به معنى البعضية وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وشجر بل في مساكن توافق مصالحها وتليق بها
المسألة الثانية ظاهر قوله تعالى أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا أمر وقد اختلفوا فيه فمن الناس من يقول لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول ولا يبعد أن يتوجه عليها من الله تعالى أمر ونهي وقال آخرون ليس الأمر كذلك بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال والكلام(20/57)
المستقصى في هذه المسألة مذكور في تفسير قوله تعالى نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 )
ثم قال تعالى ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثَّمَراتِ لفظة ( من ) ههنا للتبعيض أو لابتداء الغاية ورأيت في ( كتب الطب ) أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه وهو أنه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع ذلك الطل على أوراق الأشجار فقد تكون تلك الأجزاء الطلية لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة
أما القسم الثاني فهو مثل الترنجبين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على أطراف الطرفاء في بعض البلدان وذلك محسوس
وأما القسم الأول فهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل حتى أنها تلتقط تلك الذرات من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء وذهبت بها إلى بيوتها ووضعتها هناك لأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذاك هو العسل ومن الناس من يقول إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق المعطرة أشياء ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلاً ثم إنها تقيء مرة أخرى فذاك هو العسل والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة إلى الاستقراء فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا ههنا وأيضاً فنحن نشاهد أن هذا النحل إنما يتغذى بالعسل ولذلك فإنا إذا استخرجنا العسل من بيوت النحل نترك لها بقية من ذلك لأجل أن تغتذي بها فعلمنا أنها إنما تغتذي بالعسل وأنها إنما تقع على الأشجار والأزهار لأنها تغتذي بتلك الأجزاء الطلية العسلية الواقعة من الهواء عليها
إذا عرفت هذا فنقول قوله تعالى ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثَّمَراتِ كلمة ( من ) ههنا تكون لابتداء الغاية ولا تكون للتبعيض على هذا القول
ثم قال تعالى فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ والمعنى ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها فاسلكي سبل ربك في الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل أو يكون المراد فاسلكي في طلب تلك الثمرات سبل ربك أما قوله ذُلُلاً ففيه قولان الأول أنه حال من السبل لأن الله تعالى ذللها لها ووطأها وسهلها كقوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ ذَلُولاً ( الملك 15 ) الثاني أنه حال من الضمير في فَاسْلُكِى أي وأنت أيها النحل ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة
ثم قال تعالى يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا وفيه بحثان
البحث الأول أن هذا رجوع من الخطاب إلى الغيبة والسبب فيه أن المقصود من ذكر هذه الأحوال أن يحتج الإنسان المكلف به على قدرة الله تعالى وحكمته وحسن تدبيره لأحوال العالم العلوي والسفلي فكأنه تعالى لما خاطب النحل بما سبق ذكره خاطب الإنسان وقال إنا ألهمنا هذا النحل لهذه العجائب لأجل أن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه
البحث الثاني أنه قد ذكرنا أن من الناس من يقول العسل عبارة عن أجزاء طلية تحدث في الهواء وتقع(20/58)
على أطراف الأشجار وعلى الأوراق والأزهار فيلقطها الزنبور بفمه فإذا ذهبنا إلى هذا الوجه كان المراد من قوله يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا أي من أفواهها وكل تجويف في داخل البدن فإنه يسمى بطناً ألا ترى أنهم يقولون بطون الدماغ وعنوا أنها تجاويف الدماغ وكذا ههنا يخرج من بطونها أي من أفواهها وأما على قول أهل الظاهر وهو أن النحلة تأكل الأوراق والثمرات ثم تقيء فذلك هو العسل فالكلام ظاهر
ثم قال تعالى شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ اعلم أنه تعالى وصف العسل بهذه الصفات الثلاثة
فالصفة الأولى كونه شراباً والأمر كذلك لأنه تارة يشرب وحده وتارة يتخذ من الأشربة
والصفة الثانية قوله مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ والمعنى أن منه أحمر وأبيض وأصفر ونظيره قوله تعالى وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ( فاطر 27 ) والمقصود منه إبطال القول بالطبع لأن هذا الجسم مع كونه متساوي الطبيعة لما حدث على ألوان مختلفة دل ذلك على أن حدوث تلك الألوان بتدبير الفاعل المختار لا لأجل إيجاد الطبيعة
والصفة الثالثة قوله فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ وفيه قولان
القول الأول وهو الصحيح أنه صفة للعسل
فإن قالوا كيف يكون شفاء للناس وهو يضر بالصفراء ويهيج المرارة
قلنا إنه تعالى لم يقل إنه شفاء لكل الناس ولكل داء وفي كل حال بل لما كان شفاء للبعض من بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاء والذي يدل على أنه شفاء في الجملة أنه قال معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل وأيضاً فالأشربة المتخذة منه في الأمراض البلغمية عظيمة النفع
والقول الثاني وهو قول مجاهد أن المراد أن القرآن شفاء للناس وعلى هذا التقدير فقصة تولد العسل من النحل تمت عند قوله يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ثم ابتدأ وقال فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ أي في هذا القرآن حصل ما هو شفاء للناس من الكفر والبدعة مثل هذا الذي في قصة النحل وعن ابن مسعود أن العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور
واعلم أن هذا القول ضعيف ويدل عليه وجهان الأول أن الضمير في قوله فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ يجب عوده إلى أقرب المذكورات وما ذاك إلا قوله شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ وأما الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق فهو غير مناسب والثاني ما روى أبو سعيد الخدري أنه جاء رجل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إن أخي يشتكي بطنه فقال ( اسقه عسلاً ) فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فلم يغن عنه شيئاً فقال عليه الصلاة والسلام ( اذهب واسقه عسلاً ) فذهب فسقاه فكأنما نشط من عقال فقال ( صدق الله وكذب بطن أخيك ) وحملوا قوله ( صدق الله وكذب بطن أخيك ) على قوله فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ وذلك إنما يصح لو كان هذا صفة للعسل
فإن قال قائل ما المراد بقوله عليه السلام ( صدق الله وكذب بطن أخيك )(20/59)
قلنا لعله عليه السلام علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك فلما لم يظهر نفعه في الحال مع أنه عليه السلام كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك كان هذا جارياً مجرى الكذب فلهذا السبب أطلق عليه هذا اللفظ
ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ واعلم أن تقرير هذه الآية من وجوه الأول اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة مثل بناء البيوت المسدسة وسائر الأحوال التي ذكرناها والثاني اهتداؤها إلى جميع تلك الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق والثالث خلق الله تعالى الأجزاء النافعة في جو الهواء ثم إلقاؤها على أطراف الأشجار والأوراق ثم إلهام النحل إلى جمعها بعد تفريقها وكل ذلك أمور عجيبة دالة على أن إله العالم بنى ترتيبه على رعاية الحكمة والمصلحة والله أعلم
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَى ْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى لما ذكر تعالى بعض عجائب أحوال الحيوانات ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس فمنها ما هو مذكور في هذه الآية وهو إشارة إلى مراتب عمر الإنسان والعقلاء ضبطوها في أربع مراتب أولها سن النشو والنماء وثانيهما سن الوقوف وهو سن الشباب وثالثها سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة ورابعها سن الانحطاط الكبير وهو سن الشيخوخة فاحتج تعالى بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض على أن ذلك الناقل هو الله تعالى والأطباء الطبائعيون قالوا المقتضي لهذا الانتقال هو طبيعة الإنسان وأنا أحكي كلامهم على الوجه الملخص وأبين ضعفه وفساده وحينئذ يبقى أن ذلك الناقل هو الله سبحانه وعند ذلك يصح بالدليل العقلي ما ذكر الله تعالى في هذه الآية قال الطبائعيون إن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث والمني والدم جوهران حاران رطبان والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قللت رطوبته وأفادته نوع يبس وهذا مشاهد معلوم قالوا فلا يزال ما في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما فيه من الرطوبة حتى تتصلب الأعضاء ويظهر فيه الانعقاد ويحدث العظم والغضروف والعصب والوتر والرباط وسائر الأعضاء فإذا تم تكون البدن وكمل فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم الأم ومع ذلك فالرطوبات زائدة والدليل عليه أنك ترى أعضاء الطفل بعد انفصاله من الأم لينة لطيفة وعظامه لينة قريبة الطبع من الغضاريف ثم إن ما في البدن من الحرارة يعمل في تلك الرطوبات ويقللها قالوا ويحصل للبدن ثلاثة أحوال
الحالة الأولى أن تكون رطوبة البدن زائدة على حرارته وحينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء وذلك هو سن النشو والنماء ونهايته إلى ثلاثين سنة أو خمس وثلاثين سنة
الحالة الثانية أن تصير رطوبات البدن أقل ما كانت فتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية إلا(20/60)
أنها لا تكون زائدة على هذا القدر وهذا هو سن الوقوف وسن الشباب وغايته خمس سنين وعند تمامه يتم الأربعون
والحالة الثالثة أن تقل الرطوبات وتصير بحيث لا تكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية وعند ذلك يظهر النقصان ثم هذا النقصان قد يكون خفياً وهو سن الكهولة وتمامه إلى ستين سنة وقد يكون ظاهراً وهو سن الشيخوخة وتمامه إلى مائة وعشرين سنة فهذا هو الذي حصله الأطباء في هذا الباب وعندي أن هذا التعليل ضعيف ويدل على ضعفه وجوه
الوجه الأول أنا نقول إن في أول ما كان المني منياً وكان الدم ماً كانت الرطوبات غالبة وكانت الحرارة الغريزية مغمورة وكانت ضعيفة بهذا السبب ثم إنها مع ضعفها قويت على تحليل أكثر تلك الرطوبات وأبانتها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظماً وغضروفاً وعصباً ورباطاً وعندما تولدت الأعضاء وكمل البدن قلت الرطوبات فوجب أن تكون للحرارة الغريزية قوة أزيد مما كانت قبل ذلك فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أزيد من تحللها قبل تولد البدن ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك لأن قبل تولد البدن انتقل جسم المني والدم إلى أن صار عظماً وعصباً وأما بعد تولد البدن فلم يحصل مثل هذا الانتقال ولا عشر عشره فلو كان تولد هذه الأعضاء بسبب تأثير الحرارة في الرطوبة لوجب أن يكون تحلل الرطوبات بعد كمال البدن أكثر من تحللها قبل تكون البدن ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن تولد البدن إنما كان بتدبير قادر حكيم يدبر أبدان الحيوانات على وفق مصالحها وأنه ما كان تولد البدن لأجل ما قالوه من تأثير الحرارة في الرطوبة
والوجه الثاني في إبطال هذا الكلام أن نقول إن الحرارة الغريزية الحاصلة في بدن الإنسان الكامل إما أن تكون هي عين ما كان حاصلاً في جوهر النطفة أو صارت أزيد مما كانت والأول باطل لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطفة كان بمقدار جرم النفطة ولا شك أن جرم النطفة كان قليلاً صغيراً فهذا البدن بعد كبره لو لم يحصل فيه من الحرارة الغريزية إلا ذلك القدر كان في غاية القلة ولم يظهر منه في هذا البدن أثر أصلاً وأما الثاني ففيه تسليم أن الحرارة الغريزية تتزايد بحسب تزايد الجثة والبدن وإذا تزايدت الحرارة الغريزية ساعة فساعة وثبت أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة فوجب أن يبقى البدن الحيواني أبداً في التزايد والتكامل وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن ازدياد حال البدن الحيواني وانتقاصه ليس بحسب الطبيعة بل بسبب تدبير الفاعل المختار
والوجه الثالث وهو الذي أوردناه على الأطباء في ( كتابنا الكبير في الطب ) فقلنا هي أن الرطوبة الغريزية صارت معادلة للحرارة الغريزية فلم قلتم إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما كانت وأن ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان قالوا السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تخفيف الرطوبة الغريزية فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحيث لا تقي بحفظ الحرارة الغريزية وإذا حصلت هذه الحالة ضعفت الحرارة الغريزية أيضاً لأن الرطوبة الغريزية كالغذاء للحرارة الغريزية فإذا قل الغذاء ضعف المغتذي فالحاصل أن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية ويلم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى إلى أن تنتهي(20/61)
إلى حيث لا يبقى من الرطوبة الغريزية شيء وحينئذ تنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت هذا منتهى ما قالوه في هذا الباب وهو ضعيف لأنا نقول إن الحرارة الغريزية إذا أثرت في تجفيف الرطوبة الغريزية وقلتها فلم لا يجوز أن يقال إن القوة الغاذية تورد بدلها فعند هذا قالوا القوة الغاذية إنما تقوى على إيراد بدلها لو كانت الحرارة الغريزية قوية فأما عند ضعفها فلا فنقول فههنا لزم الدور لأن الرطوبة الغريزية إنما تقل وتنقص لو لم تكن القوة الغاذية وافية بإيراد بدلها وإنما تعجز القوة الغاذية عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة أن لو قلت الرطوبة الغريزية وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل فثبت أن على القول الذي قالوه يلزوم الدور وأنه باطل فثبت أن تعليل انتقال الإنسان من سن إلى سن بما ذكروه من اعتبار الطبائع يوجب عليهم هذه المحاولات المذكورة فكان القول به باطلاً ولما بطل هذا القول وجب القطع بإسناد هذه الأحوال إلى الإله القادر المختار الحكيم الرحيم الذي يدبر أبدان الحيوانات على الوجه الموافق لمصالحها وذلك هو المطلوب وقد كنت أقرأ يوماً من الأيام سورة المرسلات فلما وصلت إلى قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ( المرسلات 20 24 ) فقلت لا شك أن المراد بهؤلاء المكذبين هم الذين نسبوا تكون الأبدان الحيوانية إلى الطبائع وتأثير الحرارة في الرطوبة وأنا أؤمن من صميم قلبي يا رب العزة بأن هذه التدبيرات ليست من الطبائع بل من خالق العالم الذي هو أحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين
إذا عرفت هذا فقد صح بالدليل العقلي صدق قوله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ لأنه ثبت أن خالق أبدان الناس وسائر الحيوانات ليس هو الطبائع بل هو الله سبحانه وتعالى وقوله ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ قد بينا أن السبب الذي ذكروه في صيرورة الموت فاسد باطل وأنه يلزم عليه القول بالدور ولما بطل ذلك ثبت أن الحياة والموت إنما حصلا بتخليق الله وبتقديره وقوله وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ قد بينا بالدليل أن الطبائع لا يجوز أن تكون علة لانتقال الإنسان من الكمال إلى النقصان ومن القوة إلى الضعف فلزم القطع بأن انتقال الإنسان من الشباب إلى الشيخوخة ومن الصحة إلى الهرم ومن العقل الكامل إلى أن صار حرفاً غافلاً ليس بمقتضى الطبيعة بل بفعل الفاعل المختار وإذا ثبت ما ذكرنا ظهر أن الذي دل عليه لفظ القرآن قد ثبت صحته بقاطع القرآن
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وهذا كالأصل الذي عليه تفريع كل ما ذكرناه وذلك لأن الطبيعة جاهلة لا تميز بين وقت المصلحة ووقت المفسدة فهذه الإنفعالات في هذا الإنسان لا يمكن إسنادها إليها أما إله العالم ومدبره وخالقه فهو الكامل في العلم الكامل في القدرة فلأجل كمال علمه يعلم مقادير المصالح والمفاسد ولأجل كمال قدرته يقدر على تحصيل المصالح ودفع المفاسد فلا جرم أمكن إسناد تخليق الحيوانات إلى إله العالم فلا يمكن إسناده إلى الطبائع والله أعلم
المسألة الثانية في تفسير ألفاظ الآية قال المفسرون والله خلقكم ولم تكونوا شيئاً ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو أردؤه وأضعفه يقال رذل الشيء يرذل رذالة وأرذلة غيره ومنه قوله إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ وَأَطِيعُونِ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( الشعراء 111 ) وقوله وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ(20/62)
هل يتناول المسلم أو هو مختص بالكافر فيه قولان
القول الأول أنه يتناوله قيل إنه العمر الطويل وعلى هذا الوجه نقل عن علي عليه السلام أنه قال أرذل العمر خمس وسبعون سنة وقال قتادة تسعون سنة وقال السدي إنه الخرف والقول الأول أولى لأن الخرف معناه زوال العقل فقوله وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا يدل على أنه تعالى إنما رده إلى أرذل العمر لأجل أن يزيل عقله فلو كان المراد من أرذل العمر هو زوال العقل لصار الشيء عين الغاية المطلوبة منه وأنه باطل
والقول الثاني أن هذا ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب طول العمر إلا كرامة على الله تعالى ولا يجوز أن يقال في حقه إنه يرد إلى أرذل العمر والدليل عليه قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( التبين 5 6 ) فبين تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردوا إلى أسفل سافلين وقال عكرمة من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وقوله إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قال ابن عباس يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه قدير 5 على ما يريد
المسألة الثالثة هذه الآية كما تدل على وجود إله العالم الفاعل المختار فهي أيضاً تدل على صحة البعث والقيامة وذلك لأن الإنسان كان عدماً محضاً فأوجده الله ثم أعدمه مرة ثانية فدل عهذا على أنه لما كان معدوماً في المرة الأولى وكان عوده إلى العدم في المرة الثانية جائزاً فكذلك لما صار موجوداً ثم عدم وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرة الثانية جائزاً وأيضاً كان ميتاً حين كان نطفة ثم صار حياً ثم مات فلما كان الموت الأول جائزاً كان عود الموت جائزاً فكذلك لما كانت الحياة الأولى جائزة وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرة الثانية وأيضاً الإنسان في أول طفوليته جاهل لا يعرف شيئاً ثم صار عالماً عاقلاً فاهماً فلما بلغ أرذل العمر عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولية وهو عدم العقل والفهم فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر فكذلك العقل الذي حصل ثم زال وجب أن يكون جائز العود في المرة الثانية وإذا ثبتت هذه الجملة ثبت أن الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده وعود حياته وعود عقله مرة أخرى ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن القول بالبعث والحشر والنشر حق والله أعلم
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
اعلم أن هذا اعتبار حال أخرى من أحوال الإنسان وذلك أنا نرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً وفهماً يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك ونرى أجهل الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً تنفتح عليه أبواب الدنيا وكل شيء خطر بباله ودار في خياله فإنه يحصل له في الحال ولو كان السبب جهد(20/63)
الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال فلما رأينا أن الأعقل أقل نصيباً وأن الأجهل الأخس أوفر نصيباً علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام كما قال تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة َ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( الزخرف 32 ) وقال الشافعي رحمه الله تعالى ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
واعلم أن هذا التفاوت غير مختص بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والسقم والاسم الحسن والاسم القبيح وهذا بحر لا ساحل له وقد كنت مصاحباً لبعض الملوك في بعض الأسفار وكان ذلك الملك كثير المال والجاه وكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه وما كان يمكنه ركوب واحد منها وربما حضرت الأطعمة الشهية والفواكه العطرة عنده وما كان يمكنه تناول شيء منها وكان الواحد منا صحيح المزاج قوي البنية كامل القوة وما كان يجد ملء بطنه طعاماً فذلك الملك وإن كان يفضل على هذا الفقير في المال إلا أن هذا الفقير كان يفضل على ذلك الملك في الصحة والقوة وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه منه
أما قوله فَمَا الَّذِينَ فُضّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ففيه قولان
القول الأول أن المراد من هذا الكلام تقرير ما سبق في الآية المتقدمة من أن السعادة والنحوسة لا يحصلان إلا من الله تعالى والمعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً فهم في رزقي سواء فلا يحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق وأن المالك لا يرزق العبد بل الرازق للعبد والمولى هو الله تعالى وتحقيق القول أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً وأقوى جسماً وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى وذلك يدل على أن ذلة ذلك العبد وعزة ذلك المولى من الله تعالى كما قال وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ( آل عمران 26 )
والقول الثاني أن المراد من هذه الآية الرد على من أثبت شريكاً لله تعالى ثم على هذا القول ففيه وجهان الأول أن يكون هذا رداً على عبدة الأوثان والأصنام كأنه قيل إنه تعالى فضل الملوك على مماليكهم فجعل المملوك لا يقدر على ملك مع مولاه فلما لم تجعلوا عبيدكم معكم سواء في الملك فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في المعبودية والثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا إن عيسى ابن مريم ابن الله فالمعنى أنكم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء فكيف جعلتم عبدي ولداً لي وشريكاً في الإلهية
ثم قال تعالى فَهُمْ فِيهِ سَوَآء معنى الفاء في قوله فَهُمُ حتى والمعنى فما الذين فضلوا بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى تكون عبيدهم فيه معهم سواء في الملك
ثم قال أَفَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية أبي بكر يَجْحَدُونَ بالتاء على الخطاب لقوله خَلَقَكُمْ وَفَضَّلَ بَعْضُكُمْ والباقون بالياء لقوله فَهُمْ فِيهِ سَوَآء واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقرب الخبر عنه وأيضاً فظاهر(20/64)
الخطاب أن يكون مع المسلمين والمسلمون لا يخاطبون بجحد نعمة الله تعالى
المسألة الثانية لا شبهة في أن المراد من قوله أَفَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم
فإن قيل كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام
قلنا فيه وجهان
الوجه الأول أنه لما كان المعطي لكل الخيرات هو الله تعالى فمن أثبت لله شريكاً فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات فكان جاحداً لكونها من عند الله تعالى وأيضاً فإن أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النعم إلى الطبائع وإلى النجوم وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من الله تعالى
والوجه الثاني قال الزجاج المراد أنه تعالى لما قرر هذه الدلائل وبينها وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق فعند هذا قال أَفَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ في تقريره هذه البيانات وإيضاح هذه البينات يَجْحَدُونَ
المسألة الثالثة الباء في قوله أَفَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ يجوز أن تكون زائدة لأن الجحود لا يعدى بالباء كما تقول خذ الخطام وبالخطام وتعلقت زيداً وبزيد ويجوز أن يراد بالجحود الكفر فعدي بالباء لكونه بمعنى الكفر والله أعلم
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَة ً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من أحوال الناس ذكره الله تعالى ليستدل به على وجود الإله المختار الكريم وليكون ذلك تنبيهاً على إنعام الله تعالى على عبيده بمثل هذه النعم فقوله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا قال بعضهم المراد أنه تعالى خلق حواء من ضلع آدم وهذا ضعيف لأن قوله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا خطاب مع الكل فتخصيصه بآدم وحواء خلاف الدليل بل هذا الحكم عام في جميع الذكور والإناث والمعنى أنه تعالى خلق النساء ليتزوج بهن الذكور ومعنى مّنْ أَنفُسِكُمْ مثل قوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) وقوله فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( النور 61 ) أي بعضكم على بعض ونظير هذه الآية قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً الروم 21 ) قال الأطباء وأهل الطبيعة التفاوت بين الذكر والأنثى إنما كان لأجل أن كل من كان أسخن مزاجاً فهو الذكر وكل من كان أكثر برداً ورطوبة فهو المرأة ثم قالوا المني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الذكر ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انصب منها إلى الجانب(20/65)
الأيسر من الرحم كان الولد أنثى تاماً في الأنوثة وإن انصب إلى الخصية اليمنى ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد ذكراً في طبيعة الإناث وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذكور
واعلم أن حاصل هذا الكلام أن الذكورة علتها الحرارة واليبوسة والأنوثة علتها البرودة والرطوبة وهذه العلة في غاية الضعف فقد رأينا في النساء من كان مزاجه في غاية السخونة وفي الرجال من كان مزاجه في غاية البرودة ولو كان الموجب للذكورة والأنوثة ذلك لامتنع ذلك فثبت أن خالق الذكر والأنثى هو الإله القديم الحكيم وظهر بالدليل الذي ذكرناه صحة قوله تعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
ثم قال تععالى وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَة ً قال الواحدي إصل الحفدة من الحفد وهو الخفة في الخدمة والعمل يقال حفد يحفد حفداً وحفوداً وحفداناً إذا أسرع ومنه في دعاء القنوت وإليك نسعى ونحفد والحفدة جمع الحافد والحافد كل من يخف في خدمتك ويسرع في العمل بطاعتك يقال في جمعه الحفد بغير هاء كما يقال الرصد فمعنى الحفدة في اللغة الأعوان والخدام ثم يجب أن يكون المراد من الحفدة في هذه الآية الأعوان الذين حصلوا للرجل من قبل المرأة أنه تعالى قال وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَة ً فالأعوان الذين لا يكونون من قبل المرأة لا يدخلون تحت هذه الآية
إذا عرفت هذا فنقول قيل هم الأختان وقيل هم الأصهار وقيل ولد الولد والأولى دخول الكل فيه لما بينا أن اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك الذي ذكرناه
ثم قال تعالى وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ لما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح وما فيه من المنافع والمصالح ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة سواء كانت من النبات وهي الثمار والحبوب والأشربة أو كانت من الحيوان ثم قال أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني بالأصنام وقال مقاتل يعني بالشيطان وقال عطاء يصدقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أي بأن يضيفوها إلى غير الله ويتركوا إضافتها إلى الله تعالى وفي الآية قول آخر وهو أنه تعالى لما قال وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ قال بعده وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا والمراد منه أنهم يحرمون على أنفسهم طيبات أحلها الله لهم مثل البحيرة والسائبة والوصيلة ويبيحون لأنفسهم محرمات حرمها الله عليهم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب يعني لم يحكمون بتلك الأحكام الباطلة وبإنعام الله في تحليل الطيبات وتحريم الخبيثات يجحدون ويكفرون والله أعلم
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ والأرض شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الاٌّ مْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أنواعاً كثيرة في دلائل التوحيد وتلك الأنواع كما أنها دلائل على صحة التوحيد فكذلك بدأ بذكر أقسام النعم الجليلة الشريفة ثم أتبعها في هذه الآية بالرد على عبدة الأصنام(20/66)
فقال وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أما الرزق الذي يأتي من جانب السماء فيعني به الغيث الذي يأتي من جهة السماء وأما الذي يأتي من جانب الأرض فهو النبات والثمار التي تخرج منها وقوله مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ من صفة النكرة التي هي قوله رِزْقاً كأنه قيل لا يملك لهم رزقاً من الغيث والنبات وقوله شَيْئاً قال الأخفش جعل قوله شَيْئاً بدلاً من قوله رِزْقاً والمعنى لا يملكون رزقاً لا قليلاً ولا كثيراً ثم قال وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ والفائدة في هذه اللفظة أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعته أن يتملكه بطريق من الطرق فبين تعالى أن هذه الأصنام لا تملك وليس لها أيضاً استطاعة تحصيل الملك
فإن قيل إنه تعالى قال وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ فعبر عن الأصنام بصيغة ( ما ) وهي لغير أولي العلم ثم قال وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ والجمع بالواو والنون مختص بأولى العلم فكيف الجمع بين الأمرين
والجواب أنه عبر عنها بلفظ ( ما ) اعتباراً لما هو الحقيقة في نفس الأمر وذكر الجمع بالواو والنون اعتباراً لما يعتقدون فيها أنها آلهة
ثم قال تعالى فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الاْمْثَالَ وفيه وجوه الأول قال المفسرون يعني لا تشبهوه بخلقه الثاني قال الزجاج أي لا تجعلوا لله مثلاً أونه واحد لا مثل له والثالث أقول يحتمل أن يكون المراد أن عبدة الأوثان كانوا يقولون إن إله العالم أجل وأعظم من أن يعبده الواحد منا بل نحن نعبد الكواكب أو نعبد هذه الأصنام ثم إن الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم والدليل عليه العرف فإن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك وأولئك الأكابر يخدمون الملك فكذا ههنا فعند هذا هذا قال الله تعالى لهم اتركوا عبادة هذا الأصنام والكواكب ولا تضربوا الله الأمثال التي ذكرتموها وكونوا مخلصين في عبادة الإله الحكيم القدير
ثم قال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وفيه وجهان الأول أن الله تعالى يعلم ما عليكم من العقاب العظيم بسبب عبادة هذه الأصنام وأنتم لا تعلمون ذلك ولو علمتموه لتركتم عبادتها الثاني أن الله تعالى لما نهاكم عن عبادة هذه الأصنام فاتركوا عبادتها واتركوا دليلكم الذي عولتم عليه وهو قولكم الاشتغال بعبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من الاشتغال بعبادة نفس الملك لأن هذا قياس والقياس يجب تركه عند ورود النص فلهذا قال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ثم قال تعالى
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى أكد إبطال مذهب عبدة الأصنام بهذا المثال وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذ المثل قولان(20/67)
القول الأول أن المراد أنا لو فرضنا عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء وفرضنا حراً كريماً غنياً كثير الإنفاق سراً وجهراً فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال لما لم تجز التسوية بينهما مع استهوائهما في الخلقة والصورة والبشرية فكيف يجوز للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر ألبتة
والقول الثاني أن المراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر فإنه من حيث إنه بقي محروماً عن عبودية الله تعالى وغعن طاعته صار كالعبد الذليل الفقير العاجز والمراد بقوله وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا هو المؤمن فإنه مشتغل بالتعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله فبين تعالى أنهما لا يستويان في المرتبة والشرف والقرب من رضوان الله تعالى
واعلم أن القول الأول أقرب لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها إنما ورد في إثبات التوحيد وفي الرد على القائلين بالشرك فحمل هذه الآية على هذا المعنى أولى
المسألة الثانية اختلوفا في المراد بقوله عبد مملوكا لا يقدر على شيء فقيل المراد به الصنم لأنه عبد بدليل قوله إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا مريم 93 وأما أنه مملوك ولا يقدر على شيء فظاهر والمراد بقوله ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا عابد الصنم لأن الله تعالى رزقه المال وهو ينفق من ذلك المال على نفسه وعل أتباعه سرا وجهرا
إذا ثبت هذا فنقول هما لا يستويان في بديهة العقل بل صريح العقل يشهد بأن ذلك القادر أكمل حالا وأفضل مرتبة من ذلك العاجز فهنا صريح العقل يشهد بأن عابد الصنم أفضل من ذلك الصنم فكيف يجوز الحكم بكونه مساويا لرب العالمين في العبودية
والقول الثاني أن المراد بقوله عبدا مملوكا عبد معين وقيل هو عبد لعثمان بن عفان وحملوا قوله ومن رزقناه منا رزقا حسنا على عثمان خاصة
والقول الثالث أنه عام في كل عبد بهذه الصفة وفي كل حر بهذه الصفة وهذا القول هو الأظهر لأنه هو الموافق لما أراده الله تعالى في هذه الآية والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئا
فإن قالوا ظاهر الآية يدل على أن عبدا من العبيد لا يقدر على شيء فلم قلتم إن كل عبد كذلك فنقول الذي يدل عليه وجهان الأول أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وكونه عبدا وصف مشعر بالذل والمقهورية وقوله لا يقدر على شيء حكم مذكور عقيبه فهذا يقتضي أن العلة لعدم القدرة على شيء هو كونه عبدا وبهذا الطريق يثبت العموم الثاني أنه تعالى قال بعده ومن رزقناه منا رزقا حسنا فميز هذا القسم الثاني عن القسم الأول وهو العبد بهذه الصفة وهو أنه يرزقه رزقا فوجب أن لا يحصل هذا الوصف للعبد حتى يحصل الامتياز بين القسم الثاني وبين القسم الأول ولو ملك العبد لكان الله قد آتاه رزقا حسنا لأن الملك الحلال رزق حسن سواء كان قليلا أو كثيرا فثبت بهذين الوجهين أن ظاهر الآية يقتضي أن العبد لا يقدر على شيء ولا(20/68)
يملك شيئا ثم اختلفوا فروي عن ابن عباس وغيره التشدد في ذلك حتى قال لا يملك الطلاق أيضا وأكثر الفقهاء قالوا يملك الطلاق إنما لا يملك المال ولا ماله تعلق بالمال واختلفوا في أن المالك إذا ملكه شيئا فهل يملكه أم لا وظاهر الآية ينفيه بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول لم قال مملوكا لا يقدر على شيء وكل عبد فهو مملوك وغير قادر على التصرف قلنا أما ذكر المملوك فليحصل الامتياز بينه وبين الحر لأن الحر قد يقال إنه عبد الله وأما قوله لا يقدر على شيء قد يحصل الامتياز بينه وبين المكاتب وبين العبد المأذون لأنهما لا يقدران على التصرف
السؤال الثاني من في قوله ومن رزقناه ما هي
قلنا الظاهر أنها موصوفة كأنه قيل وحرا رزقناه ليطابق عبدا ولا يمتنع أن تكون موصولة
السؤال الثالث لم قال يستوون على الجمع
قلنا معناه هل يستوي الأحرار والعبيد ثم قال الحمد لله وفيه وجوه الأول قال ابن عباس الحمد لله على ما فعل باوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد والثاني المعنى أن كل الحمد لله وليس شيء من الحمد للأصنام لأنها لا نعمة لها على أحد وقوله بل أكثرهم لا يعلمون يعني أنهم لا يعلمون أن كل الحمد لله وليس شيء منه للأصنام الثالث قال القاضي في التفسير قال للرسول عليه الصلاة والسلام قل الحمد لله ويحتمل أن يكون خطابا لمن رزقه الله رزقا حسنا أن يقول الحمد لله على أن ميزه في هذه القدرة عن ذلك العبد الضعيف الرابع يحتمل أن يكون المراد أنه تعالى لما ذكر هذا المثل وكان هذا مثلا مطابقا للغرض كاشفا عن المقصود قال بعده الحمد لله يعني الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور هذه البينة ثم قال بل أكثرهم لا يعلمون يعني أنها مع غاية ظهورها ونهاية وضوحها لا يعلمها ولا يفهمها هؤلاء الضلال
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
اعلم أنه تعالى أبطل قول عبدة الأوثان والأصنام بهذا المثل الثاني وتقريره أنه كما تقرر في أوائل العقول أن الأبكم العاجز لا يكون مساويا في الفضل والشرف للناطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية فلأن يحكم بأن الجماد لا يكون مساويا لرب العالمين في المعبودية كان أولى ثم نقول في الآية مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى وصف الرجل الأول بصفات(20/69)
الصفة الأولى الأبكم وفي تفسيره أقوال نقلها الواحدي الأول قال أبو زيد رجل أبكم وهو العيي المقحم وقد بكم بكما وبكامة وقال أيضا الأبكم الأقطع اللسان وهو الذي لا يحسن الكلام الثاني روى ثعلب عن ابن الأعرابي الأبكم الذي لا يعقل الثالث قال الزجاج الأبكم المطبق الذي لا يسمع ولا يبصر
الصفة الثانية قوله لا يقدر على شيء وهو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل
والصفة الثالثة قوله كل على مولاه أي هذا الأبكم العاجز كل على مولاه قال أهل المعاني أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة يقال كل السكين إذا غلظت شفرته فلم يقطع وكل لسانه إذا غلظ فلم يقدر على الكلام وكل فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه فقوله كل على مولاه أي غليظ وثقيل على مولاه
الصفة الرابعة أينما يوجهه لا يأت بخير أي أينما يرسله ومعنى التوجيه أن ترسل صاحبك في وجه معين من الطريق يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه وقوله لا يأت بخير معناه لأنه عاجز لا يحسن ولا يفهم ثم قال تعالى هل يستوي هو أي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع ومن يأمر بالعدل واعلم أنه الآمر بالعدل يجب أن يكون موصوفا بالنطق وإلا لم يكن آمرا ويجب أن يكون قادرا لأن الأمر مشعر بعلة المرتبة وذلك لا يحصل إلا مع كونه قادرا ويجب أن يكون عالما حتى يمكنه التمييز بين العدل وبين الجور فثبت أن وصفه بانه يامر بالعدل يتضمن وصفه بكونه قادرا عالما وكونه آمرا يناقض كون الأول أبكم وكونه قادرا يناقض وصف الأول بأنه لا يقدر على شيء وبأنه كل على مولاه وكونه عالما يناقض وصف الأول بأنه لا يأت بخير
ثم قال وهو على صراط مستقيم معناه كونه عادلا مبرأ عن الجور والعبث
إذا ثبت هذا فنقول ظاهر في بديهة العقل أن الأول والثاني لا يستويان فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثانية في المراد بهذا المثل أقوال كما في المثل المتقدم
فالقول الأول قال مجاهد كل هذا مثل إله الخلق وما يدعي من دونه من الباطل وأما الأبكم فمثل الصنم لأنه لا ينطق البتة وكذلك لا يقدر على شيء وأيضا كل على عابديه لأنه لا ينفق عليهم وهم ينفقون عليه وأيضا إلى أي مهم توجه الصنم لم يأت بخير وأما الذي يأمر بالعدل فهو الله سبحانه وتعالى
والقول الثاني أن المراد من هذا الأبكم هو عبد لعثمان بن عفان كان ذلك العبد يكره الإسلام وما كان فيه خير ومولاه هو عثمان بن عفان كان يأمر بالعدل وكان على الدين القويم والصراط المستقيم
والقول الثالث أن المقصود منه كل عبد موصوف بهذه الصفات المذمومة وكل حر موصوف بتلك الصفات الحميدة وهذا القول أولى من القول الأول لأن وصفه تعالى إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن وكذلك بالبكم وبالكل والتوجه في جهات المنافع وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله تعالى وأيضا فالمقصود تشبيه صورة بصورة في أمر من الأمور وذلك التشبيه لا يتم إلا عند كون أحد الصورتين مغايرة للأخرى(20/70)
وأما القول الثاني فضعيف أيضا لأن المقصود إبانة التفرقة بين رجلين موصوفين بالصفات المذكورة وذلك غير مختص بشخص معين بل أيما حصل التفاوت في الصفات المذكورة حصل المقصود والله أعلم
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَآ أَمْرُ السَّاعَة ِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالأَفْئِدَة َ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأة لى مثل الكفار بالأبكم العاجز ومثل نفسه بالذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ومعلوم أنه يمتنع أن يكون آمرا بالعدل وأن يكون على صراط مستقيم إلا إذا كان كاملا في العلم والقدرة ذكر في هذه الآية بيان كونه كاملا في العلم والقدرة أما بيان كمال العلم فهو قوله ولله غيب السموات والأرض والمعنى علم الله غيب السموات والأرض وأيضا فقوله ولله غيب السموات والأرض يفيد الحصر معناه أن العلم بهذه الغيوب ليس إلا لله وأما بيان كمال القدرة فقوله وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الإنسان في ساعة فيموت الخلق بصيحة واحدة وقوله إلا كلمح البصر اللمح النظر بسرعة يقال لمحه ببصره لمحا ولمحانا والمعنى وما أمر القيامة في السرعة إلا كطرف العين والمراد منه تقرير كمال القدرة وقوله أو هو أقرب معناه أن لمح البصر عبارة عن انتقال الجسم المسمى بالطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ولا شك أن الحدقة مؤلفة من أجزاء لا تتجزأ فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة تلك الأجزاء التي منها تألف سطح الحدقة ولا شك أن تلك الأجزاء كثيرة والزمان الذي يحصل فيه لمح البصر مركب من آنات متعاقبة والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآنات فلهذا قال أو هو أقرب إلا أنه لما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر لا جرم ذكره ثم قال أو هو أقرب تنبيها على ما ذكرناه ولا شبهة في أنه ليس المراد طريقة الشك بل المراد بل هو أقرب وقال الزجاج المراد به الإبهام عن المخاطبين أنه تعالى يأتي بالساعة إما بقدر لمح البصر أو بما هو أسرع قال القاضي هذا لا يصح لأن إقامة الساعة ليست حال تكليف ختى يقال إنه تعالى يأتي بها في زمان بل الواجب أن يخلقها دفعة واحدة في وقت واحد ويفارق ما ذكرناه في ابتداء خلق السموات والأرض لأن تلك الحال حال تكليف فلم يمتنع أن يخلقها كذلك لما فيه من مصلحة الملائكة
واعلم أن هذا الاعرتاض إنما يستقيم على مذهب القاضي أما على قولنا في أنه تعالى يفعل ما يشاء(20/71)
ويحكم ما يريد فليس له قوة والله أعلم ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل على وجود الصانع المختار فقال والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي إمهاتكم بكسر الهمزة والباقون بضمها
المسألة الثانية أمهاتكم أصله أماتكم إلا أنه زيد الهاء فيه كما زيد في أراق فقيل أهراق وشذت زيادتها في الواحدة في قوله أمهتي خندق واليأس أبي
المسألة الثالثة الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء
ثم قال وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة المعنى أن المفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله فالله أعطاه هذه الحواس ليستفيد بها المعارف والعلوم وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي مزيد تقرير فنقول التصورات والتصديقات إما أن تكون كسبية وإما أن تكون بديهية والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات البديهيات فلا بد من سبق هذه العلوم البديهية وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول هذه العلوم البديهية إما أن يقال أنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة والأول باطل لأنا بالضرورة نعلم أنا حين كنا جنينا في رحم الأم ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا يجتمعان وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء
وأما القسم الثاني فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب وكل ما كان كسبيا فهو مسبوق بعلوم أخرى فهذه العلوم البديهية تصير كسبية ويجب أن تكون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية وكل ذلك محال وهذا سؤال قوي مشكل
وجوابه أن نقول الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا ثم إنها حدثت وحصلت
أما قوله فيلزم أن تكون كسبية
قلنا هذه المقدمة ممنوعة بل نقول إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر فإذا أبصر الطفل شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في خياله ماهية ذلك المبصر وكذلك إذا سمع شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع وكذا الطول في سائر الحواس فيصير حصول الحواس سببا لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل ثم إن تلك الماهيات على قسمين أحد القسمين ما يكون نفس حضوره موجبا تاما في جزم الذهن بإسناد بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الواحد ما هو وأن نصف الاثنين ما هو كان حضور هذين التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بأن الواحد محكوك عليه بانه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية
والقسم الثاني ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو وأن المحدث ما هو فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث بل(20/72)
لا بد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة والحاصل أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على جزئياتها فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس فلهذا السبب قال تعالى والله أخرجكم نت بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات وقال المفسرون وجعل لكم السمع لتسمعوا مواعظ الله والأبصار لتبصروا دلائل الله والأفئدة لتعقلوا عظمة الله والأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة وغراب قال لازجاج ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد وما قيل فيه فئدان كما قيل غراب غران وأقول لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثيران وأن الفؤاد قليل لأن الفؤاد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وأكثر الخلق ليسوا كذلك بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية فكأن فؤادهم ليس بفؤاد فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة
فإن قيل قوله تعالى وجعل لكم السمع والأبصار عطف على قوله أخرجكم وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الإخراج عن البطن ومعلوم أنه ليس كذلك
والجواب أن حرف الواو لا يوجب الترتيب وأيضا إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال والله أعلم
أما قوله ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ بن عامر وحمزة والكسائي ألم تروا بالتاء وبالباقون بالياء على الحكاية لمن تقدم ذكره من الكفار
المسألة الثانية هذا دليل آخر على كمال قدرة الله تعالى وحكمته فإنه لولا أنه تعالى خلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران فيه لما أمكن ذلك فإنه تعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويكسره أخرى مثل ما يعمله السابح في الماء وخلق الهواء خلقة لطيفة رقيقة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا وأما قوله تعالى ما يمسكهن إلا الله فالمعنى أن جسد الطير جسم ثقيل والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقا من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجوهر الله تعالى ثم من الظاهر أن بقاءه في الجو معلقا فعله وحاصل باختياره فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى قال القاضي إنما أضاف الله تعالى هذا الإمساك إلى نفسه لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات التي لأجلها يمكن الطير من تلك الأفعال فلما كان تعالى هو المسبب لذلك لا جرم صحت هذه الإضافة إلى الله تعالى
والجواب أن هذا ترك للظاهر بغير دليل وأنه لا يجوز لا سيما والدلائل العقليلة ذلت على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى(20/73)
ثم قال تعالى في آخر الآية إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وخص هذه الآيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات لكل العقلاء والله اعلم
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الاٌّ نْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد وأقسام النعم والفضل والسكن والمسكن وأنشد الفراء جاء الشتاء ولما اتخذ سكنا
يا ريح كفي من حفر القراميص
والسكن ما سكنت إليه وما سكنت فيه قال صاحب الكشاف السكن فعل بمعنى مفعول وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو ألف
واعلم أن البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين
القسم الأول البيوت المتخذة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت وإليها الإشارة بقوله والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقله لا الإنسان ينتقل إليه
والقسم الثاني القباب والخيام والفساطيط وإليها الإشارة بقوله وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تسخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم وهذا القسم من البيوت يمكن نقله وتحويله من مكان إلى مكان واعلم أن المراد الأنطاع وقد تعمل العرب البيوت من الأدم وهي جلود الأنعام أي يخف عليكم حملها في أسفاركم قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو يوم ظعنكم بفتح العين والباقون ساكنة العين قال الواحدي وهما لغتان كالشعر والشعر والنهر والنهر
واعلم أن الظعن سير البادية لنجعة أو حضور ماء أو طلب مرتع وقد يقال لكل شاخص لسفر ظاعن وهو ضد الخافض وقوله ويوم إقامتكم بمعنى لا يثقل عليكم في الحالين وقوله ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها قال المفسرون وأهل اللغة الأصواف للضأن والأوبار للإبل والأشعار للمعز وقوله أثاثا الأثاث أنواع متاع البيت من الفرش والأكسية قال الفراء ولا واحد له كما أن المتاع لا واحد له قال ولو جمعت فقلت آثثة في القليل وأثث في الكثير لم يبعد وقال أبو زيد وأحدها أثاثة قال ابن عباس في قوله أثاثا يريد طنافس وبسطا وثيابا وكسوة قال الخليل وأصله من قولهم أث النبات والشعر إذا كثر وقوله متاعا أي ما يتمتعون به وقوله إلى حين يريد إلى حين البلا وقيل إلى حين الموت وقيل إلى حين بعد حين وقيل إلى يوم القيامة(20/74)
فإن قيل عطف المتاع على الأثاث والعطف يقتضي المغايرة وما الفرق بين الأثاث والمتاع
قلنا الأقرب أن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله في الغطاء والوطاء والمتاع ما يفرش في المنازل ويزين به
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ
اعلم أن الإنسان إما أن يكون مقيما أو مسافرا والمسافر إما أن يكون غنيا يمكنه استصحاب الخيام والفساطيط أو لا يمكنه ذلك فهذه أقسام ثلاثة
أما القسم الأول فإليه الإشارة بقوله والله جعل لكم من بيوتكم سكنا
وأما القسم الثاني فإليه الإشارة بقوله وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا
أما القسم الثالث فإليه الإشارة بقوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وذلك لأن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها فإنه لا بد وأن يستظل بشيء آخر كالجدران والأشجار وقد يستظل بالغمام كما قال وظللنا عليكم الغمام البقرة 57
ثم قال وجعل لكم من الجبال أكنانا واحد الأكنان كن على قياس أحمال وحمل ولكن المراد كل شيء وقى شيئا ويقال استكن وأكن إذا صار في كن
واعلم أن بلاد العرب شديدة الحر وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة وأيضا البلاد المعتدلة والأوقات المعتدلة نادرة جدا والغالب إما غلبة الحر أو غلبة البرد وعلى كل التقديرات فلا بد للإنسان من مسكن يأوي إليه فكان الإنعام بتحصيله عظيما ولما ذكر تعالى أمر المسكن ذكره بعدع أمر الملبوس فقال وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم السرابيل القمص واحدها سربال قال الزجاج كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره والذي يدل على صحة هذا القول أنه جعل السرابيل على قسمين أحدهما ما يكون واقيا من الحر والبرد والثاني ما يتقى به عن البأس والحروب وذلك هو الجوشن وغيره وذلك يدل على أن كل واحد من القسمين من السرابيل
فإن قيل لم ذكر الحر ولم يذكر البرد(20/75)
أجابوا عنه من وجوه
الوجه الأول قال عطاء الخرساني المخاطبون بهذا الكلام هم العرب وبلادهم حارة فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحر فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها وسائر أنواع الثياب أشرف إلا أنه تعالى ذكر ذلك النوع الأول لأنه كان إلفتهم بها أشد واعتيادهم للبسها أكثر ولذلك قال وينزل من السماء من جبال فيها برد النور 43 لمعرفتهم بذلك وما أنزل من الثلج أعظم ولكنهم كانوا لا يعرفونه
والوجه الثاني في الجواب قال المبرد إذا ذكر أحد الضدين تنبيه على الآخر قلت ثبت في العلوم العقلية أن العلم بأحد الضدين يستلزم العلم بالضد الآخر فإن الإنسان متى خطر بباله الحر خطر بباله أيضا البرد وكذا القول في النور والظلمة والسواد والبياض فلما كان الشعور بأحدهما مستتبعا للشعور بالآخر كان ذكر أحدهما مغنيا غن ذكر الآخر
والوجه الثالث قال الزجاج ما وقى من الحر وقى من البرد فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر
فإن قيل هذا بالضد أولى لأن دفع الحر يكفي فيه السرابيل التي هي القمص من دون تكلف زيادة وأما البرد فإنه لا يندفع إلا بتكلف زائد
قلنا القميص الواحد لما كان دافعا للحر كان الاستكثار من القميص نافعا للبرد فصح ما ذكرناه وقوله وسرابيل تقيكم بأسكم يعني دروع الحديد ومعنى البأس الشدة ويريد ههنا شدة الطعن والضرب والرمي
واعلم أنه تعالى لما عدد أقسام نعمة الدنيا قال كذلك يتم نعمته عليكم أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعمة الدنيا والدين عليكم لعلكم تسلمون قال ابن عباس لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات أحد سواه ونقل عن ابن عباس أنه قرأ لعلكم تسلمون بفتح التاء والمعنى أنا أعطيناكم هذه السرابيلات لتسلموا عن بأس الحرب وقيل أعطيتكم هذه النعم لتتفكروا فيها فتؤمنوا فتسلموا من عذاب الله
ثم قال تعالى فإن تولوا فإنما عليكم البلاغ المبين أي فإن تولوا يا محمد وأعرضوا وآثروا لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر فعلى أنفسهم جنوا ذلك وليس عليك إلا ما فعلت من التبليغ التام ثم إنه تعالى ذمهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وذلك نهاية في كفران النعمة
فإن قيل ما معنى ثم
قلنا الدلالة على أن إنكارهم أمر يستبعد بعد حصول المعرفة لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر وفي المراد بهذه النعمة وجوه الأول قال القاضي المراد بها جميع ما ذكره الله تعالى في الآيات المتقدمة من جميع أنواع النعم ومعنى أنهم انكروه هو أنهم ما أفردوه تعالى بالشكر والعبادة بل شكروا على تلك النعم غير الله تعالى ولأنهم قالوا إنما حصلت هذه النعم بشفاعة هذه الأصنام والثاني أن المراد أنهم عرفوا أن نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حق ثم ينكرونها ونبوته نعمة عظيمة كما قال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107(20/76)
الثالث يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها أي لا يستعملونها في طلب رضوان الله تعالى
ثم قال تعالى وأكثرهم الكافرون
فإن قيل ما معنى قوله وأكثرهم الكافرون مع أنه كان كلهم كافرين
قلنا الجواب من وجوه الأول إنما قال وأكثرهم لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجة ممن لم يبلغ حد التكليف أو كان ناقص العقل معتوها فأراد بالأكثر البالغبن الأصحاء الثاني أن يكون المراد بالكافر الجاحد المعاند وحينئذ نقول إنما قال وأكثرهم لأنه كان فيهم من لم يكن معاندا بل كان جاهلا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام وما ظهر له كونه نبيا حقا من عند الله الثالث أنه ذكر الأكثر والمراد الجميع لأن أكثر الشيء يقوم مقام الكل فذكر الأكثر كذكر الجميع وهذا كقوله الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون النحل 75 والله أعلم
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّة ٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وذكر أيضا من حالهم أن أكثرهم الكافرون أتبعه بالوعيد فذكر حال يوم القيامة فقال ويوم نبعث من كل أمة شهيدا وذلك يدل على أن أولئك الشهداء يشهدون عليهم بذلك الإنكار وبذلك الكفر والمراد بهؤلاء الشهداء الأنبياء كما قال تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا النساء 41 وقوله ثم لا يؤذن للذين كفروا فيه وجوه أحدها لا يؤذن لهم في الاعتذار لقوله ولا يؤذن لهم فيعتذرون المرسلات 36 وثانيها لا يؤذن لهم في كثرة الكلام وثالثها لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا وإلى التكليف ورابعها لا يؤذن لهم في حال شهادة الشهود بل يسكت أهل الجمع كلهم ليشهد الشهود وخامسها لا يؤذن لهم في كثرة الكلام ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى ثم قال ولا هم يستعتبون الاستعتاب طلب العتاب والرجل يطلب العتاب من خصمه إذا كان على جزم أنه إذا عاتبه رجع إلى الرضا فإذا لم يطلب العتاب منه دل على أنه راسخ في غضبه وسطوته ثم إنه تعالى أكد هذا الوعيد فقال وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم والمعنى أن المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه فعند ذلك لا يخفف عنهم العذاب ولا هم أيضا ينظرون أي لا يؤخرون ولا يمهلون لأن التوبة هناك غير موجودة وتحقيقه ما يقوله المتكلمون من أن العذاب يجب أن يكون خالصا عن شوائب النفع وهو المراد من قوله لا يخفف عنهم العذاب ويجب أن يكون العذاب دائما وهو المراد من قوله ولا هم ينظرون(20/77)
وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَاؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أن هذا أيضاً من بقية وعيد المشركين وفي الشركاء قولان
القول الأول أنه تعالى يبعث الأصنام التي كان يعبدها المشركون والمقصود من إعادتها أن المشركين يشاهدونها في غاية الذلة والحقارة وأيضاً أنها تكذب المشركين وكل ذلك مما يوجب زيادة الغم والحسرة في قلوبهم وإنما وصفهم الله بكونهم شركاء لوجهين الأول أن الكفار كانوا يسمونها بأنها شركاء الله والثاني أن الكفار جعلوا لهم نصيباً من أموالهم
والقول الثاني أن المراد بالشركاء الشياطين الذين دعوا الكفار إلى الكفر وهو قول الحسن وإنما ذهب إلى هذا القول لأنه تعالى حكى عن أولئك الشركاء أنهم ألقوا إلى الذين أشركوا إنهم لكاذبون والأصنام جمادات فلا يصح منهم هذا القول فوجب أن يكون المراد من الشركاء الشياطين حتى يصح منهم هذا القول وهذا بعيد لأنه تعالى قادر على خلق الحياة في تلك الأصنام وعلى خلق العقل والنطق فيها وحينئذ يصح منها هذا القول ثم حكى تعالى عن المشركين أنهم إذا رأوا تلك الشركاء قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك
فإن قيل فما فائدتهم في هذا القول
قلنا فيه وجهان الأول قال أبو مسلم الأصفهاني مقصود المشركين إحالة الذنب على هذه الأصنام وظنوا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم فعند هذا تكذبهم تلك الأصنام قال القاضي هذا بعيد لأن الكفار يعلمون علماً ضرورياً في الآخرة أن العذاب سينزل بهم وأنه لا نصرة ولا فدية ولا شفاعة
والقول الثاني أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجباً من حضور تلك الأصنام مع أنه لا ذنب لها واعترافاً بأنهم كانوا مخطئين في عبادتها ثم حكى تعالى أن الأصنام يكذبونهم فقال فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ والمعنى أنه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام حتى تقول هذا القول وقوله إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ بدل من القول والتقدير فألقوا إليهم إنكم لكاذبون
فإن قيل إن المشركين ما قالوا إلا أنهم لما أشاروا إلى الأصنام قالوا إن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك وقد كانوا صادقين في كل ذلك فكيف قالت الأصنام إنكم لكاذبون
قلنا فيه وجوه والأصح أن يقال المراد من قولهم هؤلاء شركاؤنا هو أن هؤلاء الذين كنا نقول إنهم(20/78)
شركاء الله في المعبودية فالأصنام كذبوهم في إثبات هذه الشركة وقيل المراد إنكم لكاذبون في قولكم إنا نستحق العبادة ويدل عليه قوله تعالى كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ( مريم 82 )
ثم قال تعالى وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ قال الكلبي استسلم العابد والمعبود وأقروا لله بالربوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وفيه وجهان وقيل ذهب عنهم ما زين لهم الشيطان من أن لله شريكاً وصاحبة وولداً وقيل بطل ما كانوا يأملون من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الذين كفروا أتبعه بوعيد من ضم إلى كفره صد الغير عن سبيل الله وفي تفسير قوله وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وجهان قيل معناه الصد عن المسجد الحرام والأصح أنه يتناول جملة الإيمان بالله والرسول وبالشرائع لأن اللفظ عام فلا معنى للتخصيص وقوله زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ فالمعنى أنهم زادوا على كفرهم صد غيرهم عن الإيمان فهم في الحقيقة ازدادوا كفراً على كفر فلا جرم يزيدهم الله تعالى عذاباً على عذاب وأيضاً أتباعهم إنما اقتدوا بهم في الكفر فوجب أن يحصل لهم مثل عقاب أتباعهم لقوله تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( العنكبوت 13 ) ولقوله عليه السلام ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ومن المفسرين من ذكر تفصيل تلك الزيادة فقال ابن عباس المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنهار وقال بعضهم زدناهم عذاباً بحيات وعقارب كأمثال البخث فيستغيثون بالهرب منها إلى النار ومنهم من ذكر لكل عقرب ثلثمائة فقرة في ثلثمائة قلة من سلم وقيل عقارب لها أنياب كالنخل الطوال
ثم قال تعالى بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ أي هذه الزيادة من العذاب إنما حصلت معللة بذلك الصد وهذا يدل على أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال فقد عظم عذابه فكذلك إذا دعا إلى الدين واليقين فقد عظم قدره عند الله تعالى والله أعلم
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّة ٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَاؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَى ْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَة ً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلفين عن المعاصي واعلم أن الأمة عبارة عن الفرن والجماعة(20/79)
إذا ثبت هذا فنقول في الآية قولان الأول أن المراد أن كل نبي شاهد على أمته والثاني أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا فلا بد وأن يحصل فيهم واحد يكون شهيداً عليهم أما الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو الرسول بدليل قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) وثبت أيضاً أنه لا بد في كل زمان بعد زمان الرسول من الشهيد فحصل من هذا أن عصراً من الإعصار لا يخلو من شهيد على الناس وذلك الشهيد لا بد وأن يكون غير جائز الخطأ وإلا لافتقر إلى شهيد آخر ويمتد ذلك إلى غير النهاية وذلك باطل فثبت أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة قال أبو بكر الأصم المراد بذلك الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى أنها تشهد عليه وهي الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان قال والدليل عليه أنه قال في صفة الشهيد أنه من أنفسهم وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم
أجاب القاضي عنه من وجوه الأول أنه تعالى قال شَهِيدًا عَلَيْهِمْ أي على الأمة فيجب أن يكون غيرهم الثاني أنه قال مِن كُلّ أمَّة ٍ فوجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمة وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمة وأما حمل هؤلاء الشهداء على الأنبياء فبعيد وذلك لأن كونهم أنبياء مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضرورة فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه
ثم قال تعالى وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه تعلق هذا الكلام بما قبله أنه تعالى لما قال وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلآء بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فلا حجة لهم ولا معذرة
المسألة الثانية من الناس من قال القرآن تبيان لكل شيء وذلك لأن العلوم إما دينية أو غير دينية أما العلوم التي ليست دينية فلا تعلق لها بهذه الآية لأن من المعلوم بالضرورة أن الله تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين فأما ما لا يكون من علوم الدين فلا التفات إليه وأما علوم الدين فإما الأصول وإما الفروع أما علم الأصول فهو بتمامه موجود في القرآن وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب وذلك يدل على أنه لا تكليف من الله تعالى إلا ما ورد في هذا القرآن وإذا كان كذلك كان القول بالقياس باطلاً وكان القرآن وافياً ببيان كل الأحكام وأما الفقهاء فإنهم قالوا القرآن إنما كان تبياناً لكل شيء لأنه يدل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأوصل كان ذلك الحكم ثابتاً بالقرآن وهذه المسألة قد سبق ذكرها بالاستقصاء في سورة الأعراف والله أعلم
المسألة الثالثة روى الواحدي بإسناده عن الزجاج أنه قال تبياناً في معنى اسم البيان ومثل التبيان التلقاء وروى ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أنهم قالوا لم يأت من المصادر على تفعل إلا حرفان تبياناً وتلقاء وإذا تركت هذين اللفظين استوى لك القياس فقلت في كل مصدر تفعال بفتح التاء مثل تسيار وتذكار وتكرار وقلت في كل اسم تفعال بكسر التاء مثل تقصار وتمثال(20/80)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
واعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح الوعد والوعيد والترغيب والترهيب أتبعه بقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ فجمع في هذه الآية ما يتصل بالتكليف فرضاً ونفلاً وما يتصل بالأخلاق والآداب عموماً وخصوصاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان فضائل هذه الآية روي عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال ما أسلمت أولاً إلا حياء من محمد عليه السلام ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم فبينما هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه ثم عاد لمثل ذلك فسألته فقال ( بينما أنا أحدثك إذا بجبريل نزل عن يميني فقال يا محمد إن الله يأمر بالعدل والإحسان العدل شهادة أن لا إله إلا الله والإحسان القيام بالفراض وإيتاء ذي القربى أي صلة ذي القرابة وينهى عن الفحشاء والزنا والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة والبغي الاستطالة ) قال عثمان فوقع الإيمان في قلبي فأتيت أبا طالب فأخبرته فقال يا معشر قريش اتبعوا ابن أخي ترشدوا ولئن كان صادقاً أو كاذباً فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عمه اللين قال يا عماه أتأمر الناس أن يتبعوني وتدع نفسك وجهد عليه فأبى أن يسلم فنزل قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ( القصص 56 ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية وعن قتادة ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحب إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية وليس من خلق سيء إلا نهى الله عنه في هذه الآية وروى القاضي في ( تفسيره ) عن ابن ماجه عن علي عليه السلام أنه قال أمر الله تعالى نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب فخرج وأنا معه وأبو بكر فوقفنا على مجلس عليهم الوقار فقال أبو بكر ممن القوم فقالوا من شيبان بن ثعلبة فدعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الشهادتين وإلى أن ينصروه فإن قريشاً كذبوه فقال مقرون بن عمرو إلام تدعونا أخا قريش فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ الآية فقال مقرون بن عمرو دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك وعن عكرمة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية على الوليد فاستعاده ثم قال إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) والله أعلم
المسألة الثانية في تفسير هذه الآية أكثر الناس في تفسير هذه الآية قال ابن عباس في بعض الروايات العدل شهادة أن لا إله إلا اًّ والإحسان أداء الفرائض وقال في رواية أخرى العدل خلع الأنداد والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحب للناس ما تحب لنفسك فإن كان مؤمناً أحببت أن يزداد إيماناً وإن(20/81)
كان كافراً أحببت أن يصير أخاك في الإسلام وقال في رواية ثالثة العدل هو التوحيد والإحسان الإخلاص فيه وقال آخرون يعني بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا تفعل إلا ما هو عدل ولا تقل إلا ما هو إحسان وقوله وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى يريد صلة الرحم بالمال فإن لم يكن فبالدعاء روى أبو مسلم عن أبيه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم إن أهل البيت لكونوا فجاراً فتنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم ) وقوله وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء قيل الزنا وقيل البخل وقيل كل الذنوب سواء كانت صغيرة أو كبيرة وسواء كانت في القول أو في الفعل وأما المنكر فقيل إنه الكفر بالله تعالى وقيل المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة وأما البغي فقيل الكبر والظلم وقيل أن تبغي على أخيك
واعلم أن في المأمورات كثرة وفي المنهيات أيضاً كثرة وإنما حسن تفسير لفظ معين لشيء معين إذا حصل بين ذلك اللفظ وبين ذلك المعنى مناسبة أما إذا لم تحصل هذه الحالة كان ذلك التفسير فاسداً فإذا فسرنا العدل بشيء والإحسان بشيء آخر وجب أن نبين أن لفظ العدل يناسب ذلك المعنى ولفظ الإحسان يناسب هذا المعنى فلما لم نبين هذا المعنى كان ذلك مجرد التحكم ولم يكن جعل بعض تلك المعنى تفسيراً لبعض تلك الألفاظ أولى من العكس فثبت أن هذه الوجود التي ذكرناها ليست قوية في تفسير هذه الآية وأقول ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى أمر بثلاثة أشياء وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن ثلاثة أشياء هي الفحشاء والمنكر والبغي فوجب أن يكون العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ثلاثة أشياء متغايرة ووجب أن تكون الفحشاء والمنكر والبغي ثلاثة أشياء متغايرة لأن العطف يوجب المغايرة فنقول أما العدل فهو عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وذلك أمر واجب الرعاية في جميع الأشياء ولا بد من تفصيل القول فيه فنقول الأحوال التي وقع التكليف بها إما الاعتقادات وإما أعمال الجوارح أما الاعتقادات فالعدل في كلها واجب الرعاية فأحدها قال ابن عباس إن المراد بالعدل هو قول لا إله إلا الله وتحقيق القول فيه أن نفي الإله تعطيل محض وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتشبيه وهما مذمومان والعدل هو إثبات الإله الواحد وهو قول لا إله إلا الله وثانيها أن القول بأن الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محض والقول بأنه جسم وجوهر مركب من الأعضاء ومختص بالمكان تشبيه محض والعدل إثبات إله موجود متحقق بشرط أن يكون منزهاً عن الجسمية والجوهرية والأعضاء والأجزاء والمكان وثالثها أن القول بأن الإله غير موصوف بالصفات من العلم والقدرة تعطيل محض والقول بأن صفاته حادثة متغيرة تشبيه محض والعدل هو إثبات أن الإله عالم قادر حي مع الإعتراف بأن صفاته ليست حادثة ولا متغيرة ورابعها أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محض والقول بأن العبد مستقل بأفعاله قدر محض وهما مذمومان والعدل أن يقال إن العبد يفعل الفعل لكن بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله تعالى فيه وخامسها القول أن الله تعالى لا يؤاخذ عبده على شيء من الذنوب مساهلة عظيمة والقول بأنه تعالى يخلد في النار عبده العارف بالمعصية الواحدة تشديد عظيم والعدل أنه يخرج من النار كل من قال واعتقد أنه لا إله إلا الله فهذه أمثلة ذكرناها في رعاية معنى العدل في الاعتقادات وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح فنذكر ستة أمثلة منها أحدها أن قوماً من نفاة التكاليف يقولون لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي وليس لله عليه تكليف أصلاً وقال قوم من الهند ومن المانوية إنه يجب على الإنسان أن يجتنب عن كل الطيبات وأن يبالغ في تعذيب(20/82)
نفسه وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى أن المانوية يخصون أنفسهم ويحترزون عن التزوج ويحترزون عن أكل الطعام الطيب والهند يحرقون أنفسهم ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل فهذان الطريقان مذمومان والوسط المعتدل هو هذا الشرع الذي جاءنا به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها أن التشديد في دين موسى عليه السلام غالب جداً والتساهل في دين عيسى عليه السلام غالب جداً والوسط العدل شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قيل كان شرع موسى عليه السلام في القتل العمد استيفاء القصاص لا محالة وفي شرع عيسى عليه السلام العفو أما في شرعنا فإن شاء استوفى القصاص على سبيل المماثلة وإن شاء استوفى الدية وإن شاء عفا وأيضاً شرع موسى يقتضي الاحتراز العظيم عن المرأة حال حيضها وشرع عيسى يقتضي حل وطء الحائض والعدل ما حكم به شرعنا وهو أنه محرم وطؤها احترازاً عن التلطخ بتلك الدماء الخبيثة أما لا يجب إخراجها عن الدار وثالثها أنه تعالى قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) يعني متباعدين عن طرفي الإفراط والتفريط في كل الأمور وقال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) وقال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) ولما بالغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العبادات قال تعالى طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى ( طه 1 2 ) ولما أخذ قوم في المساهلة قال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون 115 ) والمراد من الكل رعاية العدل والوسط ورابعها أن شريعتنا أمرت بالختان والحكمة فيه أن رأس العضو جسم شديد الحس ولأجله عظم الالتذاذ عند الوقاع فلو بقيت الجلدة على ذلك العضو بقي ذلك العضو على كمال القوة وشدة الإحساس فيعظم الإلتذاذ أما إذا قطعت تلك الجلدة وبقي ذلك العضو عارياً فيلقى الثياب وسائر الأجسام فيتصلب ويضعف حسه ويقل شعوره فيقل الالتذاذ بالوقاع فتقل الرغبة فيه فكأن الشريعة إنما أمرت بالختان سعياً في تقليل تلك اللذة حتى يصير ميل الإنسان إلى قضاء شهوة الجماع إلى حد الاعتدال وأن لا تصير الرغبة فيه غالبة على الطبع فالإخصاء وقطع الآلات على ما تذهب إليه المانوية مذموم لأنه إفراط وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة والعدل الوسط هو الإتيان بالختان فظهر بهذه الأمثلة أن العدل واجب الرعاية في جميع الأحوال ومن الكلمات المشهورة قولهم وبالعدل قامت السموات والأرض ومعناه أن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة متكافئة بل كان بعضها أزيد بحسب الكمية وبحسب الكيفية من الآخر لاستولى الغالب على المغلوب ووهى المغلوب وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لعظمت السخونة في هذا العالم واحترق كل ما في هذا العالم ولو كان بعدها أزيد مما هو الآن لاستولى البرد والجمود على هذا العالم وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وبطئها فإن الواحد منها لو كان أزيد مما هو الآن أو كان أنقص مما هو الآن لاختلت مصالح هذا العالم فظهر بهذا السبب الذي ذكرناه صدق قولهم وبالعدل قامت السموات والأرض فهذه إشارة مختصرة إلى شرح حقيقة العدل وأما الإحسان فاعلم أن الزيادة على العدل قد تكون إحساناً وقد تكون إساءة مثاله أن العدل في الطاعات هو أداء الواجبات أما الزيادة على الواجبات فهي أيضاً طاعات وذلك من باب الإحسان وبالجملة فالمبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية هو الإحسان والدليل عليه أن جبريل لما سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإحسان قال ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )(20/83)
فإن قالوا لم سمي هذا المعنى بالإحسان
قلنا كأنه بالمبالغة في الطاعة يحسن إلى نفسه ويوصل الخير والفعل الحسن إلى نفسه والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في تلك الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحسب الاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية فهذا هو الإحسان
واعلم أن الإحسان بالتفسير الذي دكرنا دخل فيه التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله ومن الظاهر أن الشفقة على خلق الله أقسام كثيرة وأشرفها وأجلها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر فقال وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى فهذا تفصيل القول في هذه الثلاثة التي أمر الله تعالى بها وأما الثلاثة التي نهى الله عنها وهي الفحشاء والمنكر والبغي فنقول إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والعصبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية وهذه القوة الرابعة أعني العقلية الملكية لا يحتاج الإنسان إلى تأديبها وتهذيبها لأنها من جواهر الملائكة ومن نتائج الأرواح القدسية العلوية إنما المحتاج إلى التأديب والتهذيب تلك القوى الثلاثة الأولى أما القوة الشهوانية فهي إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وهذا النوع مخصوص باسم الفحش إلا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة فقال إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً ( النساء 22 ) فقوله تعالى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء المراد منه المنع من تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة وأما القوة الغضبية السبعية فهي أبداً تسعى في إيصال الشر والبلاء والإيذاب إلى سائر الناس ولا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية وأما القوة الوهمية الشيطانية فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم وذلك هو المراد من البغي فإنه لا معنى للبغي إلا التطاول على الناس والترفع عليهم فظهر بما ذكرنا أن هذه الألفاظ الثلاثة منطبقة على أحوال هذه القوى الثلاثة ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا أخس هذه القوى الثلاثة هي الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ بالفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هو نتيجة القوة الوهمية فهذا ما وصل إليه عقلي وخاطري في تفسير هذه الألفاظ فإن يك صواباً فمن الرحمن وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله عنه بريئان والحمد لله على ما خصنا بهذا النوع من الفضل والإحسان إنه الملك الديان
ثم قال تعالى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والمراد بقوله تعالى يَعِظُكُمُ أمره تعالى بتلك الثلاثة ونهيه عن هذه الثلاثة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال في الآية الأولى وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء ( النحل 89 ) أردفه بهذه الآية مشتملة على الأمر بهذه الثلاثة والنهي عن هذه الثلاثة كان ذك تنبيهاً على أن المراد بكون القرآن تبياناً لكل شيء هو هذه التكاليف الستة وهي في الحقيقة كذلك لأن جوهر النفس من زمرة الملائكة ومن نتائج الأرواح العالية القدسية إلا أنه دخل في هذا العالم خالياً عارياً عن التعلقات فتلك الثلاثة التي أمر الله بها هي التي ترقيها بالمعارف الإلهية والأعمال الصالحة وتلك المعارف والأعمال هي التي(20/84)
ترقيها إلى عالم الغيب وسرادقات القدس ومجاورة الملائكة المقربين في جوار رب العالمين وتلك الثلاثة التي نهى الله عنها هي التي تصدها عن تلك السعادات وتمنعها عن الفوز بتلك الخيرات فلما أمر الله تعالى بتلك الثلاثة ونهى عن هذه الثلاثة فقد نبه على كل ما يحتاج إليه المسافرون من عالم الدنيا إلى مبدأ عرصة القيامة
المسألة الثانية قال الكعبي الآية تدل على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء وذلك من وجوه الأول أنه تعالى كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم وكيف ينهى عما يريد تحصيله فيهم ولو كان الأمر كما قالوا لكان كأنه تعالى قال إن الله يأمركم أن تفعلوا خلاف ما خلقه فيكم وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم ومعلوم أن ذلك باطل في بديهة العقل والثاني أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي فلو أنه تعالى أمر بتلك الثلاثة ثم إنه ما فعلها لدخل تحت قوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 2 3 ) الثالث أن قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ليس المراد منه الترجي والتمني فإن ذلك محال على الله تعالى فوجب أن يكون معناه أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تتذكروا طاعته وذلك يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل الرابع أنه تعالى لو صرح وقال إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ولكنه تمنع منه ويصد عنه ولا يمكن العبد منه ثم قال وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى ولكنه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى وأراده منه ومنعه من تركه ومن الاحتراز عنه لحكم كل أحد عليه بالركاكة وفساد النظم والتركيب وذلك يدل على كونه سبحانه متعالياً عن فعل القبائح
واعلم أن هذا النوع من الاستدلال كثير وقد مر الجواب عنه والمعتمد في دفع هذه المشاغبات التعويل على سؤال الداعي وسؤال العلم والله أعلم
المسألة الثالثة اتفق المتكلمون من أهل السنة ومن المعتزلة على أن تذكر الأشياء من فعل لله لا من فعل العبد والدليل عليه هو أن التذكرة عبارة عن طلب المتذكر فحال الطلب إما أن يكون له به شعور أو لا يكون له به شعور فإن كان له شعور فذلك الذكر حاصل والحاصل لا يطلب تحصيله وإن لم يكن له به شعور فكيف يطلبه بعينه لأن توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون هو بعينه متصوراً محال
إذا ثبت هذا فنقول قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ معناه أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكر فإذا لم يكن التذكر فعلاً له فكيف طلب منه تحصيله وهذا هو الذي يحتج به أصحابنا على أن قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لا يدل على أنه تعالى يريد منه ذلك والله أعلم
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الاٌّ يْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّة ٌ هِى َ أَرْبَى مِنْ أُمَّة ٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(20/85)
اعلم أنه تعالى لما جمع كل المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام فبدأ تعالى بالأمر بالوفاء بالعهد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير قوله بِعَهْدِ اللَّهِ وجوهاً الأول قال صاحب ( الكشاف ) عهد الله هي البيعة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الإسلام لقوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توكيدها أي بعد توثيقها باسم الله الثاني أن المراد منه كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره قال ابن عباس والوعد من العهد وقال ميمون بن مهران من عاهدته وف بعهده مسلماً كان أو كافراً فإنما العهد ( صلى الله عليه وسلم ) تعالى الثالث قال الأصم المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق الرابع عهد الله هو اليمين بالله وقال هذا القائل إنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه لأنه عليه السلام قال ( من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر ) الخامس قال القاضي العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه ومعلوم أن أدلة العقل والسمع أوكد في لزوم الوفاء بما يدلان على وجوبه من اليمين ولذلك لا يصح في هذين الدليلين التغير والاختلاف ويصح ذلك في اليمين وربما ندب فيه خلاف الوفاء
ولقائل أن يقول إنه تعالى قال وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ فهذا يجب أن يكون مختصاً بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه لأن قوله إِذَا عَاهَدتُّمْ يدل على هذا المعنى وحينئذ لا يبقى المعنى الذي ذكره القاضي معتبراً ولأنه تعالى قال في آخر الآية وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً وهذا يدل على أن الآية واردة فيمن آمن بالله والرسول وأيضاً يجب أن لا يحمل هذا العهد على اليمين لأنا لو حملناه عليه لكان قوله بعد ذلك وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا تكراراً لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك إلا إذا قيل إن الوفاء بالعهد عام فدخل تحته اليمين ثم إنه تعالى خص اليمين بالذر تنبيهاً على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية وعند هذا نقول الأولى أن يحمل هذا العهد على ما يلتزمه الإنسان باختياره ويدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله ويدخل فيه عهد الجهاد وعهد الوفاء بالملتزمات من المنذورات والأشياء التي أكدها بالحلف واليمين وفي قوله وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا مباحث
البحث الأول قال الزجاج يقال وكدت وأكدت لغتان جيدتان والأصل الواو والهمزة بدل منها
البحث الثاني قال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله يمين اللغو هي يمين الغموس والدليل عليه أنه تعالى قال لا تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا فنهى في هذه الآية عن نقض الأيمان فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث فوجب أن لا تكون من الأيمان واحتج الواحدي بهذه الآية على أن يمين اللغو هي قول العرب لا والله وبلى والله قال إنما قال تعالى بَعْدَ تَوْكِيدِهَا للفرق بين الأيمان المؤكدة بالعزم وبالعقد وبين لغو اليمين(20/86)
البحث الثالث قوله وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا عام دخله التخصيص لأنا بينا أن الخبر دل على أنه متى كان الصلاح في نقض الأيمان جاز نقضها
ثم قال وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً هذه واو الحال أي لا تنقضوها وقد جعلتم الله كفيلاً عليكم بالوفاء وذلك أن من حلف بالله تعالى فكأنه قد جعل الله كفيلاً بالوفاء بسبب ذلك الحلف
ثم قال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وفيه ترغيب وترهيب والمراد فيجازيكم على ما تفعلون إن خيراً فخير وإن شراً فشر ثم إنه تعالى أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض وقال وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أَنكَاثًا وفيه مسائل
المسألة الأولى في المشبه به قولان
القول الأول أنها امرأة من قريش يقال لها رايطة وقيل ريطة وقيل تلقب جعراء وكانت حمقاء تغزل الغزل هي وجواريها فإذا غزلت وأبرمت أمرتهن فنقضن ما غزلن
والقول الثاني أن المراد بالمثل الوصف دون التعين لأن القصد بالأمثال صرف المكلف عنه إذا كان قبيحاً والدعاء إليه إذا كان حسناً وذلك يتم به من دون التعيين
المسألة الثانية قوله مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أي من به قوة الغزل بإبرامها وفتلها
المسألة الثالثة قوله أَنكَاثًا قال الأزهري واحدها نكث وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم وينسج فإذا أحكمت النسيجة قطعتها ونكثت خيوطها المبرمة ونفشت تلك الخيوط وخلطت بالصوف ثم غزلت ثانية والنكث المصدر ومنه يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه
المسألة الرابعة في انتصاب قوله أَنكَاثًا وجوه الأول قال الزجاج أنكاثاً منصوب لأنه بمعنى المصدر لأن معنى نكثت نقضت ومعنى نقضت نكثت وهذا غلط منه لأن الأنكاث جمع نكث وهو اسم لا مصدر فكيف يكون قوله أَنكَاثًا بمعنى المصدر الثاني قال الواحدي أنكاثاً مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعاً وفرقه أجزاء على معنى جعله أقطاعاً وأجزاء فكذا ههنا قوله نقضت غزلها أنكاثاً أي جعلت غزلها أنكاثاً الثالث إن قوله أَنكَاثًا حال مؤكدة
المسألة الخامسة قال ابن قتيبة هذه الآية متصلة بما قبلها والتقدير وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل المرأة التي غزلت غزلاً وأحكمته فلما استحكم نقضته فجعلته أنكاثاً
ثم قال تعالى تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ قال الواحدي الدخل والدغل الغش والخيانة قال الزجاج كل ما دخله عيب قيل هو مدخول وفيه دخل وقال غيره الدخل ما أدخل في الشيء على فساد
ثم قال أَن تَكُونَ أُمَّة ٌ هِى َ أَرْبَى مِنْ أُمَّة ٍ أربى أي أكثر من ربا الشيء يربو إذا زاد وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوة وفي الشرف قال مجاهد كانوا يحالفون الحلفاء ثم يحدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز فنهاهم الله تعالى عن ذلك وقوله أَن تَكُونَ(20/87)
معناه أنكم تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن تكون أمة أربى من أمة في العدد والقوة والشرف فقوله تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ استفهام على سبيل الإنكار والمعنى أتتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى
ثم قال تعالى إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي بما يأمركم وينهاكم وقد تقدم ذكر الأمر والنهي وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيتميز المحق من المبطل بما يظهر من درجات الثواب والعقاب والله أعلم
وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَلاكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما كلف القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه أتبعه ببيان أنه تعالى قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الأيمان ولكنه سبحانه بحكم الإلهية يضل من يشاء ويهدي من يشاء أما المعتزلة فإنهم حملوا ذلك على الإلجاء أي لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر لقدر عليه إلا أن ذلك يبطل التكليف فلا جرم ما ألجأهم إليه وفوض الأمر إلى اختيارهم في هذه التكاليف وأما قول أصحابنا فيه فهو ظاهر وهذه المناظرة قد تكررت مراراً كثيرة وروى الواحدي أن عزيراً قال يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء فقال يا عزيز أعرض عن هذا فأعاده ثانياً فقال أعرض عن هذا فأعاده ثالثاً فقال أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة قالت المعتزلة ومما يدل على أن المراد من هذه المشيئة مشيئة الإلجاء أنه تعالى قال بعده وَلَوْ شَآء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ فلو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عنها عبثاً والجواب عنه قد سبق مراراً والله أعلم
وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّو ءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيِّبَة ً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(20/88)
اعلم أنه تعالى لما حذر فء الآية الأولى عن نقض العهود والإيمان على الإطلاق حذر في هذه الآية فقال وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الإيمان وإلا لزم التكرير الخالي عن الفائدة في موضع واحد بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها فلهذا المعنى قال المفسرون المراد من هذه الآية نهي الذين بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن نقض عهده لأن هذا الوعيد هو قوله فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا لا يليق بنقض عهده قبله وإنما يليق بنقض عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الإيمان به وشرائعه وقوله فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية فإن من نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في مثل هذه الضلالة ويدل على هذا قوله تعالى وَتَذُوقُواْ الْسُّوء أي العذاب بِمَا صَدَدتُّمْ أي بصدكم عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ أي ذلك السوء الذي تذوقونه سوء عظيم وعقاب شديد ثم أكد هذا التحذير فقال وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً يريد عرض الدنيا وإن كان كثيراً إلا أن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون يعني أنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيراً من خيرات الدنيا فلا تلتفتوا إليه لأن الذي أعهد الله تعالى على البقاء على الإسلام خير وأفضل وأكمل مما يجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إن كنتم تعلمون التفاوت بين خيرات الدنيا وبين خيرات الآخرة ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وفيه بحثان
البحث الأول الحس شاهد بأن خيرات الدنيا منقطعة والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية والباقي خير من المنقطع والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال إنه كان خيراً عالياً شريفاً أو كان خيراً دنياً خسيساً فإن قلنا إنه كان خيراً عالياً شريفاً فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصاً حال حصوله وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها وتفتر الرغبة فيها وأما إن قلنا إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع فثبت بهذا أن قوله تعالى مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا
البحث الثاني أن قوله وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ يدل على أن نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع وقال جهم بن صفوان إنه منقطع والآية حجة عليه
واعلم أن المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان وحينئذ يجب عليه أمران أحدهما أن يصبر على ذلك الإلتزام وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته والثاني أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه فقال وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أي على ما الزموه من شرائع الإسلام بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي يجزيهم(20/89)
على أحسن أعمالهم وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحثات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب لا على فعل المباحثات فلهذا قال وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الثاني وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام فقال مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيّبَة ً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لفظة ( من ) في قوله مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً تفيد العموم فما الفائدة في ذكر الذكر والأنثى
والجواب أن هذه الآية للوعد بالخيرات والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتاً للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص
السؤال الثاني هل تدل هذه الآية على أن الأيمان مغاير للعمل الصالح
والجواب نعم لأنه تعالى جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح موجباً للثواب وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء
السؤال الثالث ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان فظاهر قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو كان مع عدمه
والجواب أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان أما إفادته لأثر غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان
السؤال الرابع هذه الحياة الطيبة تحصل في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة
والجواب فيه ثلاثة أقوال
القول الأول قال القاضي الأقرب أنها تحصل في الدنيا بدليل أنه تعالى أعقبه بقوله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ولا شبهة في أن المراد منه ما يكون في الآخرة
ولقائل أن يقول لا يبعد أن يكون المراد من الحياة الطيبة ما يحصل في الآخرة ثم إنه مع ذلك وعدهم الله على أنه إنما يجزيهم على ما هو أحسن أعمالهم فهذا لا امتناع فيه
فإن قيل بتقدير أن تكون هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في الدنيا فما هي
والجواب ذكروا فيه وجوهاً قيل هو الرزق الحلال الطيب وقيل عبادة الله مع أكل الحلال وقيل القناعة وقيل رزق يوم بيوم كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في دعائه ( قنعني بما رزقني ) وعن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يدعو ( أللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً ) قال الواحدي وقول من يقول إن القناعة حسن مختار لأنه لا يطيب عيش أحد في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه يكون أبداً في الكد والعناء(20/90)
واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه الأول أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى وعرف أنه تعالى محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضياً بكل ما قضاه وقدره وعلم أن مصلحته في ذلك أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبداً في الحزن والشقاء وثانيها أن المؤمن أبداً يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها وعلى تقدير وقوعها يرضى بها لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب فعند وقوعها لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلاً عن تلك المعارف فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه وثالثها أن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى والقلب إذا كان مملوءاً من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فلا جرم يصير مملوءاً من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا ورابعها أن المؤمن عارف بأن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها أما الجاهل فإنه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فلا جرم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها وخامسها أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة التقلب فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه
واعلم أن ما كان واجب التغير فإنه عند وصوله إليه لا تنقلب حقيقته ولا تتبدل ماهيته فعند وصوله إليه يكون أيضاً واجب التغير فعند ذلك لا يطبع العاقل قلبه عليه ولا يقيم له في قلبه وزناً بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلاً عن هذه المعارف فيطبع قلبه عليها ويعانقها معانقة العاشق لمعشوقه فعند فوته وزواله يحترق قلبه ويعظم البلاء عنده فهذه وجوه كافية في بيان أن عيش المؤمن العارف أطيب من عيش الكافر هذا كله إذا فسرنا الحياة الطيبة بأنها في الدنيا
والقول الثاني وهو قول السدي إن هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر
والقول الثالث وهو قول الحسن وسعيد بن جبير إن هذه الحياة الطيبة لا تحصل إلا في الآخرة والدليل عليه قوله تعالى وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ( الإنشقاق 6 ) فبين أن هذا الكدح باقٍ إلى أن يصل إلى ربه وذلك ما قلناه وأما بيان أن الحياة الطيبة في الجنة فلأنها حياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا مرض وملك بلا زوال وسعادة بلا شقاء فثبت أن الحياة الطيبة ليست إلا تلك الحياة ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وقد سبق تفسيره والله أعلم
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ
اعلم أنه لما قال قبل هذه الآية وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النحل 97 ) أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعماله عن الوساوس فقال فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وفي الآية مسائل(20/91)
المسألة الأولى الشيطان ساع في إلقاء الوسوسة في القلب حتى في حق الأنبياء بدليل قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) والاستعاذة بالله مانعة للشيطان من إلقاء الوسوسة بدليل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( الأعراف 201 ) فلهذا السبب أمر الله تعالى رسوله بالاستعاذة عند القراءة حتى تبقى تلك القراءة مصونة عن الوسوسة
المسألة الثانية قوله فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن المراد به الكل لأن الرسول لما كان محتاجاً إلى الاستعاذة عند القراءة فغير الرسول أولى بها
المسألة الثالثة الفاء في قوله فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ للتعقيب فظاهر هذه الآية يدل على أن الاستعاذة بعد قراءة القرآن وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين قال الواحدي وهو قول أبي هريرة ومالك وداود قالوا والفائدة فيه أنه إذا قرأ القرآن استحق به ثواباً عظيماً فإن لم يأت بالاستعاذة وقعت الوسوسة في قلبه وتلك الوسوسة تحبط ثواب القراءة أما إذا استعاذ بعد القراءة اندفعت الوساوس وبقي الثواب مصوناً عن الإحباط أما الأكثرون من علماء الصحابة والتابعين فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة وقالوا معنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ وليس معناه استعذ بعد القراءة ومثله إذا أكلت فقل بِسْمِ اللَّهِ وإذا سافرت فتأهب ونظيره قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ ( المائدة 6 ) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وأيضاً لما ثبت أن الشيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرسول بدليل قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) ومن الظاهر أنه تعالى إنما أمر الرسول بالاستعاذة عند القراءة لدفع تلك الوساوس فهذا المقصود إنما يحصل عند تقديم الإستعاذة
المسألة الرابعة مذهب عطاء أنه تجب الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت القراءة في الصلاة أو غيرها وسائر الفقهاء اتفقوا على أنه ليس كذلك لأنه لا خلاف بينهم أنه إن لم يتعوذ قبل القراءة في الصلاة فصلاته ماضية وكذلك حال القراءة في غير الصلاة لكن حال القراءة في الصلاة آكد
المسألة الخامسة المراد بالشيطان في هذه الآية قيل إبليس والأقرب أنه للجنس لأن لجميع المردة من الشياطين حظاً في الوسوسة
واعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالاستعاذة من الشيطان وكان ذلك يوهم أن للشيطان قدرة على التصرف في أبدان الناس فأزال الله تعالى هذا الوهم وبين أنه لا قدرة له ألبتة إلا على الوسوسة فقال إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ويظهر من هذا أن الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً وأنه لا يمكنه التحفظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى ولهذا المعنى قال المحققون لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله تعالى والتفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
ثم قال إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ قال ابن عباس يطيعونه يقال توليته أي أطعته وتوليت عنه أي أعرضت عنه وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ الضمير في قوله ( به ) إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أنه(20/92)
راجع إلى ربهم والثاني أنه راجع إلى الشيطان والمعنى بسببه وهذا كما تقول للرجل إذا تكلم بكلمة مؤدية إلى الكفر كفرت بهذه الكلمة أي من أجلها فكذلك قوله وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ أي من أجله ومن أجل حمله إياهم على الشرك بالله صاروا مشركين
وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَة ً مَّكَانَ ءَايَة ٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ
اعلم أنه تعالى شرع من هذا الموضوع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا نزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية ألين منها تقول كفار قريش والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه اليوم يأمر بأمر وغداً ينهى عنه وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فأنزل الله تعالى قوله وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها وهو نسخها بآية سواها وقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ اعتراض دخل في الكلام والمعنى والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف أي هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد وهذا توبيخ للكفار على قوله إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ أي إذا كان هو أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ وقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون حقيقة القرآن وفائدة النسخ والتبديل وأن ذلك لمصالح العباد كما أن الطبيب يأمر المريض بشربة ثم بعد مدة ينهاه عنها ويأمره بضد تلك الشربة وقوله قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبّكَ تفسير روح القدس مر ذكره في سورة البقرة وقال صاحب ( الكشاف ) روح القدس جبريل عليه السلام أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال حاتم الجود وزيد الخير والمراد الروح المقدس وحاتم الجواد وزيد الخير والمقدس المطهر من الماء و ( من ) في قوله مِن رَبّكَ صلة للقرآن أي أن جبريل نزل القرآن من ربك ليثبت الذين آمنوا أي ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا حكم لهم بثبات القدم في الدين وصحة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب وَهُدًى وَبُشْرَى مفعول لهما معطوف على محل ليثبت والتقدير تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم
المسألة الثانية قد ذكرنا أن مذهب أبي مسلم الأصفهاني أن النسخ غير واقع في هذه الشريعة فقال المراد ههنا إذا بدلنا آية مكان آية في الكتب المتقدمة مثل أنه حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة قال المشركون أنت مفتر في هذا التبديل وأما سائر المفسرين فقالوا النسخ واقع في هذه الشريعة والكلام فيه على الاستقصاء في سائر السور
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله القرآن لا ينسخ بالسنة واحتج على صحته بقوله تعالى(20/93)
وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ وهذا يقتضي أن الآية لا تصير منسوخة إلا بآية أخرى وهذا ضعيف لأن هذه تدل على أنه تعالى يبدل آية بآية أخرى ولا دلالة فيها على أنه تعالى لا يبدل آية إلا بآية وأيضاً فجبريل عليه السلام قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية وأيضاً فالسنة قد تكون مثبتة للآية وأيضاً فهذا حكاية كلام الكفار فكيف يصح التعلق به والله أعلم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِى ٌّ وَهَاذَا لِسَانٌ عَرَبِى ٌّ مُّبِينٌ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلائِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ
اعلم أن المراد من هذه الآية حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأنهم كانوا يقولون إن محمداً إنما يذكر هذه القصص وهذه الكلمات لأنه يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمها منه واختلفوا في هذا البشر الذي نسب المشركون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى التعلم منه قيل هو عبد لبني عامر بن لؤي يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب وقيل عداس غلام عتبة بن ربيعة وقيل عبد لبني الحضرمي صاحب كتب وكان اسمه جبرا وكانت قريش تقول عبد بني الحضرمي يعلم خديجة وخديجة تعلم محمداً وقيل كان بمكة نصراني أعجمي اللسان اسمه بلعام ويقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية وقيل سلمان الفارسي وبالجملة فلا فائدة في العديد هذه الأسماء والحاصل أن القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه
ثم إنه تعالى أجاب عنه بأن قال لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِى ٌّ وَهَاذَا لِسَانٌ عَرَبِى ٌّ مُّبِينٌ ومعنى الإلحاد في اللغة الميل يقال لحد وألحد إذا مال عن القصد ومنه يقال للعادل عن الحق ملحد وقرأ حمزة والكسائي يُلْحِدُونَ بفتح الياء والحاء والباقون بضم الياء وكسر الحاء قال الواحدي والأولى ضم الياء لأنه لغة القرآن والدليل عليه قوله وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ( الحج 25 ) والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة ومنه يقال ألحدت له لحداً إذا حفرته في جانب القبر مائلاً عن الاستواء وقبر ملحد وملحود ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها لم يمله عن دين إلى دين آخر وفسر الإلحاد في هذه الآية بالقولين قال الفراء يميلون من الميل وقال الزجاج يميلون من الإمالة أي لسان الذين يميلون القول إليه أعجمي وأما قوله أَعْجَمِى ٌّ فقال أبو الفتح الموصلي تركيب ع ج م وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء وضد الباين والإيضاح ومنه قولهم رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان وعجم الذنب سمي بذلك لاستتاره واختفائه والعجماء البهيمة لأنها لا توضح ما في نفسها وسموا صلاتي الظهر والعصر عجماوين لأن(20/94)
القراءة حاصلة فيهما بالسر لا بالجهر فأما قولهم أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته وأفعلت قد يأتي والمراد منه السلب كقولهم أشكيت فلاناً إذا أزلت ما يشكوه فهذا هو الأصل في هذه الكلمة ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بلسانهم أعجم وأعجمياً قال الفراء وأحمد بن يحيى الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب والأعجمي والعجمي الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي الأعجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم ألا ترى أنهم قالوا زيادة الأعجم لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنه كان عربياً وأما معنى العربي واشتقاقه فقد ذكرناه عند قوله الاْعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ( التوبة 97 ) وقال الفراء والزجاج في هذه الآية يقال عرب لسانه عرباة وعروبة هذا تفسير ألفاظ الآية
وأما تقرير ووجه الجواب فاعلم أنه إنما يظهر إذا قلنا القرآن إنما كان معجزاً لما فيه من الفصاحة العائدة إلى اللفظ وكأنه قيل هب أنه يتعلم المعاني من ذلك الأعجمي إلا أن القرآن إنما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح ذلك في المقصود إذ القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته وما ذكرتموه لا يقدح في ذلك المقصود ولما ذكر الله تعالى هذا الجواب أردفه بالتهديد والوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أما تفسير أصحابنا لهذه الآية فظاهر وقال القاضي أقوى ما قيل في ذلك إنه لا يهديهم إلى طريق الجنة ولذلك قال بعده وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار ثم إنه تعالى بين كونهم كذابين في ذلك القول فقال إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى المقصود منه أنه تعالى بين في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح فيه المقصود ثم إنه تعالى في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصح وهم كذبوا فيه والدليل على كونهم كاذبين في ذلك القول وجوه الأول أنهم لا يؤمنون بآيات الله وهم كافرون ومتى كان الأمر كذلك كانوا أعداء للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم والثاني أن أمر التعلم لا يتأتى في جلسة واحدة ولا يتم في الخفية بل التعلم إنما يتم إذا اختلف المعلم إلى المتعلم أزمنة متطاولة ومدداً متباعدة ولو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أن محمداً عليه السلام يتعلم العلوم من فلان وفلان الثالث أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة وتعلمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق فلو حصل فيهم إنسان بلغ في التعليم والتحقيق إلى هذا الحد لكان مشاراً إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان
واعلم أن الطعن في نبوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأمثال هذه الكلمات الركيكة يدل على أن الحجة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت ظاهرة باهرة فإن الخصوم كانوا عاجزين عن الطعن فيها ولأجل غاية عجزهم عدلوا إلى هذه الكلمات الركيكية
المسألة الثانية في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش والدليل عليه أن كلمة ( إنما ) للحصر والمعنى أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله(20/95)
تعالى وإلا من كان كافراً وهذا تهديد في النهاية
فإن قيل قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ فعل وقوله وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسم وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية قبيح فما السبب في حصوله ههنا
قلنا الفعل قد يكون لازماً وقد يكون مفارقاً والدليل عليه قوله تعالى ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ( يوسف 35 ) ذكره بلفظ الفعل تنبيهاً على أن ذلك السجن لا يدوم وقال فرعون لموسى عليه السلام لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( الشعراء 29 ) ذكره بصيغة الاسم تنبيهاً على الدوام وقال أصحابنا إنه تعالى قال وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) ولا يجوز أن يقال إن آدم عاصٍ وغاوٍ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدوام وصيغة الاسم تفيده
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول قوله إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ذكر ذلك تنبيهاً على أن من أقدم على الكذب فكأنه دخل في الكفر ثم قال وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ تنبيهاً على أن صفة الكذب فيهم ثابتة راسخة دائمة وهذا كما تقول كذبت وأنت كاذب فيكون قولك وأنت كاذب زيادة في الوصف بالكذب ومعناه أن عادتك أن تكون كاذباً
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن الكاذب المفتري الذي لا يؤمن بآيات الله والأمر كذلك لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهية ونبوة الأنبياء وهذا الإنكار مشتمل على الكذب والافتراء وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قيل له هل يكذب المؤمن قال ( لا ) ثم قرأ هذه الآية والله أعلم
مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَواة َ الْدُّنْيَا عَلَى الاٌّ خِرَة ِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ هُمُ الْخَاسِرونَ
اعلم أنه تعالى لما عظم تهديد الكافرين ذكر في هذه الآية تفصيلاً في بيان من يكفر بلسانه لا بقلبه ومن يكفر بلسان وقلبه معاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ مبتدأ خبره غير مذكور فلهذا السبب اختلف المفسرون وذكروا فيه وجوهاً الأول أن يكون قوله مَن كَفَرَ بدلاً من قوله الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ(20/96)
والتقدير إنما يفتري من كفر بالله من بعد إيمانه واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء وعلى هذا التقدير فقوله وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ اعتراض وقع بين البدل والمبدل منه الثاني يجوز أيضاً أن يكون بدلاً من الخبر الذي هو الكاذبون والتقدير وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه والثالث يجوز أن ينتصب على الذم والتقدير وأولئك هم الكاذبون أعني من كفر بالله من بعد إيمانه وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها عن التعسف والرابع أن يكون قوله مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ شرطاً مبتدأ ويحذف جوابه لأن جواب الشرط المذكور بعده يدل على جوابه كأنه قيل من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب من الله إلا من أكره ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله
المسألة الثانية أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بالكفر يدل عليه وجوه أحدها أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب وكان يقول أحد أحد روي ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه مع أنه كان بقلبه مصراً على الإيمان منهم عمار وأبواه ياسر وسمية وصهيب وبلال وخباب وسالم عذبوا فأما سمية فقيل ربطت بين بعيرين ووخزت في قبلها بحربة وقالوا إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت وقتل ياسر وهما أول قتيلين قتلاً في الإسلام وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً فقيل يا رسول الله إن عماراً كفر فقال كلا إن عماراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يبكي فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمسح عينيه ويقول ( ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ) ومنهم جبر مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه وأسلم وحسن إسلامهما وهاجرا
المسألة الثالثة قوله إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ليس باستثناء لأن المكره ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر لكن المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعاً صح هذا الاستثناء لهذه المشاكلة
المسألة الرابعة يجب ههنا بيان الإكراه الذي عنده يجوز التلفظ بكلمة الكفر وهو أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به مثل التخويف بالقتل ومثل الضرب الشديد والإيلامات القوية قال مجاهد أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وسمية أما الرسول عليه السلام فمنعه أبو طالب وأما أبو بكر فمنعه قومه وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد ثم أجلسوا في الشمس فبلغ منهم الجهد بحر الحديد والشمس وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم ويشتم سمية ثم طعن الحربة في فرجها وقال الآخرون ما نالوا منهم غير بلال فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول أحد أحد حتى ملوا فكتفوه وجعلوا في عنقه حبلاً من ليف ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به حتى ملوه فتركوه قال عمار كلنا تكلم بالذي أرادوا غير بلال فهانت عليه نفسه فتركوه قال خباب لقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري
المسألة الخامسة أجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرىء قلبه من الرضا به وأن يقتصر على التعريضات مثل أن يقول إن محمداً كذاب ويعني عند الكفار أو يعني به محمداً آخر أو يذكره على نية الاستفهام بمعنى الإنكار وههنا بحثان
البحث الأول أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر(20/97)
هذه النية كان ملوماً وعفو الله متوقع
البحث الثاني لو ضيق المكره الأمر عليه وشرح له كل أقسام التعريضات وطلب منه أن يصرح بأنه ما أراد شيئاً منها وما أراد إلا ذلك المعنى فههنا يتعين إما التزام الكذب وإما تعريض النفس للقتل فمن الناس من قال يباح له الكذب هنا ومنهم من يقول ليس له ذلك وهو الذي اختاره القاضي قال لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً فوجب أن يقبح على كل حال ولو جاز أن يخرج عن القبيح لرعاية بعض المصالح لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح وحينئذ لا يبقى وثوق بوعد الله تعالى ولا بوعيده لاحتمال أنه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله تعالى
المسألة السادسة أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر ويدل عليه وجوه أحدها أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب وكان يقول أحد أحد ولم يقل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بئيس ما صنعت بل عظمه عليه فدل ذلك على أنه لا يجب التكلم بكلمة الكفر وثانيها ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما ما قتلو في محمد فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ما تقول في قال أنت أيضاً فخلاه وقال للآخر ما تقول في محمد قال رسول الله قال ما تقول في قال أنا أصم فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( أما الأول فقد أخذ برخصة الله وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له ) وجه الاستدلال بهذا الخبر من وجهين الأول أنه سمى التلفظ بكلمة الكفر رخصة والثاني أنه عظم حال من أمسك عنه حتى فتل وثالثها أن بذل النفس في تقرير الحق أشق فوجب أن يكون أكثر ثواباً لقوله عليه السلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها ورابعها أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهر قلبه ولسانه عن الكفر أما الذي تلفظ بها فهب أن قلبه طاهر عنه إلا أن لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة فوجب أن يكون حال الأول أفضل والله أعلم
المسألة السابعة اعلم أن للإكراه مراتب
المرتبة الأولى أن يجب الفعل المكره عليه مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة فإذا أكرهه عليه بالسيف فههنا يجب الأكل وذلك لأن صون الروح عن الفوات واجب ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بهذا الأكل وليس في هذا الأكل ضرر على حيوان ولا فيه إهانة لحق الله تعالى فوجب أن يجب لقوله تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ ( البقرة 195 )
المرتبة الثانية أن يصير ذلك الفعل مباحاً ولا يصير واجباً ومثاله ما إذا أكرهه على التلفظ بكلمة الكفر فههنا يباح له ولكنه لا يجب كما قررناه
المرتبة الثالثة أن لا يجب ولا يباح بل يحرم وهذا مثل ما إذا أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا قال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه يجب القصاص ويدل عليه وجهان الأول أنه قتله عمداً عدواناً فيجب عليه القصاص لقوله تعالى الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) والثاني أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنه يحل له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل فلما كان توهم إقدامه على القتل يوجب إهدار دمه فلأن يكون عند صدور القتل منه حقيقة يصير دمه مهدراً كان أولى والله أعلم(20/98)
المسألة الثامنة من الأفعال ما يقبل الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر ومنه ما لا يقبل الإكراه عليه قيل وهو الزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة فحيث دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه
المسألة التاسعة قال الشافعي رحمه الله طلاق المكره لا يقع وقال أبو حنيفة رحمه الله يقع وحجة الشافعي رحمه الله قوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره والمعنى أنه لا أثر له ولا عبرة به وأيضاً قوله عليه السلام ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وأيضاً قوله عليه السلام ( لا طلاق في إغلاق ) أي إكراه فإن قالوا طلقها فتدخل تحت قوله فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ ( البقرة 230 ) فالجواب لما تعارضت الدلائل وجب أن يبقى ما كان على ما كان على ما هو قولنا والله أعلم
المسألة العاشرة قوله وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ يدل على أنه محل الإيمان هو القلب والذي محله القلب إما الاعتقاد وإما كلام النفس فوجب أن يكون الإيمان عبارة إما عن المعرفة وإما عن التصديق بكلام النفس والله أعلم
ثم قال تعالى وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا أي فتحه ووسعه لقبول الكفر وانتصب صدراً على أنه مفعول لشرح والتقدير ولكن من شرح بالكفر صدره وحذف الضمير لأنه لا يشكل بصدر غيره إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره فهو نكرة يراد بها المعرفة
ثم قال فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللَّهِ والمعنى أنه تعالى حكم عليهم بالعذاب ثم وصف ذلك العذاب فقال وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
ثم قال تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَواة َ الْدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ أي رجحوا الدنيا على الآخرة والمعنى أن ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر لأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر قال القاضي المراد أن الله لا يهديهم إلى الجنة فيقال له هذا ضعيف لأن قوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ معطوف على قوله ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَواة َ الْدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ فوجب أن يكون قوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ علة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد ولا علة له بل مسبباً عنه ومعلولاً له فبطل هذا التأويل ثم أكد بيان أنه تعالى صرفهم عن الإيمان فقال أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قال القاضي الطبع ليس يمنع من الإيمان ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم لهم ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذم بتركه والثاني أنه تعالى أشرك بين السمع والبصر وبين القلب في هذا الطبع ومعلوم من حال السمع والبصر أن مع فقدهما قد يصح أن يكون مؤمناً فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب والثالث وصفهم بالغفلة ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه فثبت أن المراد بهذا الطبع السمة والعلامة التي يخلقها في القلب وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الطبع والختم وأقول هذه الكلمات مع التقريرات الكثيرة ومع الجوابات القوية مذكورة في أول سورة البقرة وفي سائر الآيات فلا فائدة في الإعادة(20/99)
ثم قال تعالى وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ قال ابن عباس أي عما يراد بهم في الآخرة
ثم قال لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الْخَاسِرونَ واعلم أن الموجب لهذا الخسران هو أن الله تعالى وصفهم في الآيات المتقدمة بصفات ستة
الصفة الأولى أنهم استوجبوا غضب الله
والصفة الثانية أنهم استحقوا العذاب الأليم
والصفة الثالثة أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة
والصفة الرابعة أنه تعالى حرمهم من الهداية
والصفة الخامسة أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم
والصفة السادسة أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة فلا جرم لا يسعون في دفعها فثبت أنه حصل في حقهم هذه الصفات الستة التي كل واحد منها من أعظم الأحوال المانعة عن الفوز بالخيرات والسعادات ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه فلهذا السبب قال لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الْخَاسِرونَ أي هم الخاسرون لا غيرهم والمقصود التنبيه على عظم خسرانهم والله أعلم
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه وحال من أكره على الكفر فذكر بسبب الخوف كلمة الكفر وحال من لم يذكرها ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن فقال إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ
المسألة الثانية قرأ ابن عامر فَتَنُواْ بفتح الفاء على إسناد الفعل إلى الفاعل والباقون بضم الفاء على فعل ما لم يسم فاعله أما وجه القراءة الأولى فأمور الأول أن يكون المراد أن أكابر المشركين وهم الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم والثاني أن فتن وأفتن بمعنى واحد كما يقال مان وأمان بمعنى واحد والثالث أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية(20/100)
فكأنهم فتنوا أنفسهم وإنما جعل ذلك فتنة لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت وأما وجه القراءة بفعل ما لم يسم فاعله فظاهر لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان فبين تعالى أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر
المسألة الثانية قوله مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ يحتمل أن يكون المراد بالفتنة هو أنهم عذبوا ويحتمل أن يكون المراد هو أنهم خوفوا بالتعذيب ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك المسلمين ارتدوا قال الحسن هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنهم أسلموا وهاجروا فنزلت هذه الآية فيهم وقيل نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد فلما كان يوم الفتح أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنه أسلم وحسن إسلامه وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنية ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك الضعفاء المعذبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقية فقوله مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ يحتمل كل واحد من هذه الوجوه الأربعة وليس في اللفظ ما يدل على التعيين
إذا عرفت هذا فنقول إن كانت هذه الآية نازلة فيمن أظهر الكفر فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره وإن كانت واردة فيمن ارتد فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ويحصل له الغفران والرحمة فالهاء في قوله مِن بَعْدِهَا تعود إلى الأعمال المذكورة فيما قبل وهي الهجرة والجهاد والصبر
أما قوله يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ففيه أبحاث
البحث الأول قال الزجاج ( يوم ) منصوب على وجهين أحدهما أن يكون المعنى إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِى يعني أنه تعالى يعطي الرحمة والغفران في ذلك اليوم الذي يعظم احتياج الإنسان فيه إلى الرحمة والغفران والثاني أن يكون التقدير وذكرهم أو اذكر يوم كذا وكذا لأن معنى القرآن العظمة والإنذار والتذكير
البحث الثاني لقائل أن يقول النفس لا تكون لها نفس أخرى فما معنى قوله كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا
والجواب النفس قد يراد به بدن الحي وقد يراد به ذات الشيء وحقيقته فالنفس الأولى هي الجثة والبدن والثانية عينها وذاتها فكأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ولا يهمه شأن غيره قال تعالى لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( عبس 37 ) وعن بعضعهم تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول يا رب نفسي نفسي حتى أن إبراهيم الخليل عليه السلام يفعل ذلك ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم هَؤُلاء أَضَلُّونَا ( الأعراف 38 ) وقولهم وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 )
ثم قال تعالى وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ فيه محذوف والمعنى توفى كل نفس جزاء ما عملت من(20/101)
غير بخس ولا نقصان وقوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قال الواحدي معناه لا ينقضون قال القاضي هذه الآية من أقوى ما يدل على ما نذهب إليه في الوعيد لأنها تدل على أنه تعالى يوصل إلى كل أحد حقه من غير نقصان ولو أنه تعالى أزال عقاب المذنب بسبب الشفاعة لم يصح ذلك
والجواب لا نزاع أن ظاهر العمومات يدل على قولكم إلا أن مذهبنا أن التمسك بظواهر العمومات لا يفيد القطع وأيضاً فظواهر الوعيد معارضة بظواهر الوعد ثم بينا في سورة البقرة في تفسير قوله بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ( البقرة 81 ) أن جانب الوعد راجح على جانب الوعيد من وجوه كثيرة والله أعلم
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَة ً كَانَتْ ءَامِنَة ً مُّطْمَئِنَّة ً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هددهم أيضاً بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف كما ذكره في هذه الآية
المسألة الثانية المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن موجوداً وقد يضرب بشيء موجود معين فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً ويحتمل أن تكون قرية معينة وعلى هذا التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها والأكثرون من المفسرين على أنها مكة والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة ومثل مكة يكون غير مكة
المسألة الثالثة ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات
الصفة الأولى كونها آمنة أي ذات أمن لا يغار عليهم كما قال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت 67 ) والأمر في مكة كان كذلك لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض أما أهل مكة فإنهم كانوا أهل حرم الله والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم
واعلم أنه يجوز وصف القرية بالأمن وإن كان ذلك لأهلها لأجل أنها مكان الأمن وظرف له والظروف من الأزمنة والأمكنة توصف بما حلها كما يقال طيب وحار وبارد
والصفة الثانية قوله مُّطْمَئِنَّة ً قال الواحدي معناه أنها قارة ساكنة فأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق أقول إن كان المراد من كونها مطمئنة أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف فهذا هو معنى كونها آمنة وإن كان المراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الضيق فهذا هو معنى قوله يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ وعلى كلا التقديرين فإنه يلزم التكرار(20/102)
والجواب أن العقلاء قالوا
ثلاثة ليس لها نهاية
الأمن والصحة والكفاية قوله ءامِنَة ً إشارة إلى الأمن وقوله مُّطْمَئِنَّة ً إشارة إلى الصحة لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائماً لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه وقوله يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ إشارة إلى الكفاية قال المفسرون وقوله مّن كُلّ مَكَانٍ السبب فيه إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام وهو قوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ ( إبراهيم 37 ) ثم إنه تعالى لما وصف القرية بهذه الصفات الثلاثة قال فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ الأنعم جمع نعمة مثل أشد وشدة أقول ههنا سؤال وهو أن الأنعم جمع قلة فكان المعنى أن أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من النعم فعذبها الله وكان اللائق أن يقال إنهم كفروا بنعم عظيمة لله فاستوجبوا العذاب فما السبب في ذكر جمع القلة
والجواب المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى يعني أن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكفروا به وبالغوا في إيذائه فلا جرم سلط الله عليهم البلاد قال المفسرون عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والقد أما الخوف فهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم ونقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب هل يذاق اللباس قال ابن الأعرابي لا باس ولا لباس يا أيها النسناس هب أنك تشك أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً وكان مقصود ابن الراوندي الطعن في هذه الآية وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس فكان الواجب أن يقال فكساهم الله لباس الجوع أو يقال فأذاقهم الله طعم الجوع وأقول جوابه من وجوه
الوجه الأول أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان أحدهما أن المذوق هو الطعم فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع والثاني أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق وحالة تشبه الملبوس فاعتبر الله تعالى كلا الاعتبارين فقال فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
والوجه الثاني أن التقدير أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف وهو الاختبار تقول ناظر فلاناً وذق ما عنده قال الشاعر
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها
وسيق إلينا عذبها وعذابها ولباس الجوع والخوف هو ما ظهر عليهم من الضمور وشحوب اللون ونهكة البدن وتغير الحال وكسوف البال فكما تقول تعرفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان كذلك يجوز أن تقول ذقت لباس الجوع والخوف على فلان
والوجه الثالث أن يحمل لفظ اللبس على المماسة فصار التقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف(20/103)
ثم قال تعالى بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ قال ابن عباس يريد بفعلهم بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين كذبوه وأخرجوه من مكة وهموا بقتله قال الفراء ولم يقل بما صنعت ومثله في القرآن كثير ومنه قوله تعالى فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( الأعراف 4 ) ولم يقل قائلة وتحقيق الكلام أنه تعالى وصف القرية بأنها مطمئنة يأتيها رزقها رغداً فكفرت بأنعم الله فكل هذه الصفات وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية إلا أن المراد في الحقيقة أهلها فلا جرم قال في آخر الآية بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ والله أعلم
وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال وَلَقَدْ جَاءهُمْ يعني أهل مكة رَسُولٌ مّنْهُمْ يعني من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني الجوع الذي كان بمكة وقيل القتل يوم بدر وأقول قول ابن عباس أولى لأنه تعالى قال بعده فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يعني أن ذلك الجوع إنما كان بسبب كفركم فاتركوا الكفر حتى تأكلوا فلهذا السبب قال فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قال ابن عباس رضي الله عنهما فكلوا يا معشر المسلمين مما رزقكم الله يريد من الغنائم وقال الكلبي إن رؤساء مكة كلموا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين جهدوا وقالوا عاديت الرجال فما بال النسوان والصبيان وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأذن في حمل الطعام إليهم فحمل إليهم العظام فقال الله تعالى فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طَيّباً والقول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ويدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ ( النحل 115 ) الآية يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن هذه الآية إلى آخرها مذكورة في سورة البقرة مفسرة هناك ولا فائدة في الإعادة وأقول إنه تعالى حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة في هذه السورة لأن لفظة إِنَّمَا تفيد الحصر وحصرها أيضاً في هذه الأربعة في سورة الأنعام في قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ ( الأنعام 145 )(20/104)
وهاتان السورتان مكيتا وحصرها أيضاً في هذه الأربعة في سورة البقرة لأن هذه الآية بهذه اللفظة وردت في سورة البقرة وحصرها أيضاً في سورة المائدة فإنه تعالى قال في أول هذه السورة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( المائدة 1 ) فأباح الكل إلا ما يتلى عليهم وأجمعوا على أن المراد بقوله عَلَيْكُمْ هو قوله تعالى في تلك السورة حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ( المائدة 3 ) فذكر تلك الأربعة المذكورة في تلك السور الثلاثة ثم قال وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ( المائدة 3 ) وهذه الأشياء داخلة في الميتة ثم قال وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وهو أحد الأقسام الداخلة تحت قوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فثبت أن هذه السور الأربعة دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع سورتان مكيتان وسورتان مدنيتان فإن سورة البقرة مدنية وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه لأن هذه السورة دلت على أن حصر المحرمات في هذه الأربع كان شرعاً ثابتاً في أول أمر مكة وآخرها وأول المدينة وآخرها وأنه تعالى أعاد هذا البيان في هذه السور الأربع قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة والله أعلم
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَاذَا حَلَالٌ وَهَاذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حصر المحرمات في تلك الأربع بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه الأربع وفي النقصان عنها أخرى فإنهم كانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكانوا يقولون ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا فقد زادوا في المحرمات وزادوا أيضاً في المحللات وذلك لأنهم حللوا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى فالله تعالى بين أن المحرمات هي هذه الأربعة وبين أن الأشياء التي يقولون إن هذا حلال وهذا حرام كذب وافتراء على الله ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب وأقول إنه تعالى لما بين هذا الحصر في هذه السور الأربع ثم ذكر في هذه الآية أن الزيادة عليها والنقصان عنها كذب وافتراء على الله تعالى وموجب للوعيد الشديد علمنا أنه لا مزيد على هذا الحصر والله أعلم
المسألة الثانية في انتصاب الكذب في قوله لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ وجهان الأول قال الكسائي والزجاج ( ما ) مصدرية والتقدير ولا تقولوا لأجل وصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام نظيره أن يقال لا تقولوا لكذا كذا وكذا
فإن قالوا حمل الآية عليه يؤدي إلى التكرار لأن قوله تعالى لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ عين ذلك(20/105)
والجواب أن قوله لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ليس فيه بيان كذب على الله تعالى فأعاد قوله لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ليحصل فيه هذا البيان الزائد ونظائره في القرآن كثيرة وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة الثاني أن تكون ( ما ) موصولة والتقدير ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام وحذف لفظ فيه لكونه معلوماً
المسألة الثالثة قوله تعال تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ من فصيح الكلام وبليغه كأن ماهية الكذب وحقيقته مجهولة وكلامهم الكذب يكشف حقيقة الكذب ويوضح ماهيته وهذا مبالغ في وصف كلامهم بكونه كذباً ونظيره قول أبي العلاء المعري
سرى برق المعرة بعد وهن
فبات برامة يصف الكلالا والمعنى أن سرى ذلك البرق يصف الكلال فكذا ههنا والله أعلم
ثم قال تعالى لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ المعنى أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله تعالى ويقولون إنه أمرنا بذلك وأظن أن هذا اللام ليس لام الغرض لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم بل كان لام العاقبة كقوله تعالى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) قال الواحدي وقوله لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بدل من قوله لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى ففسر وصفهم الكذب بالافتراء على الله تعالى ثم أوعد المفترين وقال إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ثم بيّن أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم من قريب فقال مَتَاعٌ قَلِيلٌ قال الزجاج المعنى متاعهم متاع قليل وقال ابن عباس بل متاع كل الدنيا متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم وهو قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما خص اليهود به من المحرمات فقال وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وهو الذي سبق ذكره في سورة الأنعام
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وتفسيره هو المذكور في قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 )
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّو ءَ بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(20/106)
اعلم أن المقصود بيان أن الافتراء على الله ومخالفة أمر الله لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة ولفظ السوء يتناول كل ما لا ينبغي وهو الكفر والمعاصي وكل من عمل السوء فإنما يفعله بالجهالة أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً فإنه ما لم يعتقد كون ذلك المذهب حقاً وصدقاً فإنه لا يختاره ولا يرتضيه وأما المعصية فما لم تصر الشهوة غالبة للعقل والعلم لم تصدر عنه تلك المعصية فثبت أن كل من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة فقال تعالى إنا قد بالغنا في تهديد أولئك الكفار الذين يحللون ويحرمون بمقتضى السهوة والفرية على الله تعالى ثم إنا بعد ذلك نقول إن ربك في حق الذين عملوا السوء بسبب الجهالة ثم تابوا من بعد ذلك أي من بعد تلك السيئة وقيل من بعد تلك الجهالة ثم إنهم بعد التوبة عن تلك السيئات أصلحوا أي آمنوا وأطاعوا الله
ثم أعاد قوله إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا على سبيل التأكيد ثم قال لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ والمعنى إنه لغفور رحيم لذلك السوء الذي صدر عنهم بسبب الجهالة وحاصل الكلام أن الإنسان وإن كان قد أقدم على الكفر والمعاصي دهراً دهيراً وأمداً مديداً فإذا تاب عنه وآمن وأتى بالأعمال الصالحة فإن الله غفور رحيم يقبل توبته ويخلصه من العذاب
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لانْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَة ً وَإِنَّهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلمأنه تعالى لما زيف في هذه السورة مذاهب المشركين في أشياء منها قولهم بإثبات الشركاء والأنداد لله تعالى ومنها طعنهم في نبوة الأنبياء والرسل عليهم السلام وقولهم لو أرسل الله رسولاً لكان ذلك الرسول من الملائكة ومنها قولهم بتحليل أشياء حرمها الله وتحريم أشياء أباحها الله تعالى فلما بالغ في إبطال مذاهبهم في هذه الأقوال وكان إبراهيم عليه السلام رئيس الموحدين وقدوة الأصوليين وهو الذي دعا الناس إلى التوحيد وإبطال الشرك وإلى الشرائع والمشركون كانوا مفتخرين به معترفين بحسن طريقته مقرين بوجوب الاقتداء به لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة وحكى عنه طريقته في التوحيد ليصير ذلك حاملاً لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك واعلم أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بصفات
الصفة الأول أنه كان أمة وفي تفسيره وجوه الأول أنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في صفات الخير كقوله
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد(20/107)
الثاني قال مجاهد كان مؤمناً وحده والناس كلهم كانوا كفاراً فلهذا المعنى كان وحده أمة وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في زيد بن عمرو بن نفيل ( يبعثه الله أمة وحدة ) الثالث أن يكون أمة فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والبغية فالأمة هو الذي يؤتم به ودليله قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) الرابع أنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ممتازين عمن سواهم بالتوحيد والدين الحقا ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سماه الله تعالى بالأمة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب وعن شهر بن حوشب لم تبق أرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم عليه السلام فإنه كان وحده
الصفة الثانية كونه قانتاً لله والقانت هو القائم بما أمره الله تعالى به قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه كونه مطيعاً لله
الصفة الثالثة كونه حنيفاً والحنيف المائل إلى ملة الإسلام ميلاً لا يزول عنه قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى وهذه صفة الحنيفية
الصفة الرابعة قوله وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ معناه أنه كان من الموحدين في الصغر والكبر والذي يقرر كونه كذلك أن أكثر همته عليه السلام كان في تقرير علم الأصول فذكر دليل إثبات الصانع مع ملك زمانه وهو قوله رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) ثم أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ثم كسر تلك الأصنام حتى آل الأمر إلى أن ألقوه في النار ثم طلب من الله أن يريه كيفية إحياء الموتى ليحصل له مزيد الطمأنينة ومن وقف على علم القرآن علم أن إبراهيم عليه السلام كان غارقاً في بحر التوحيد
الصفة الخامسة قوله شَاكِراً لاّنْعُمِهِ روي أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فأظهروا أن بهم علة الجذام فقال الآن يجب عليّ مؤاكلتكم فلولا عزتكم على الله تعالى لما ابتلاكم بهذا البلاء
فإن قيل لفظ الأنعم جمع قلة ونعم الله تعالى على إبراهيم عليه السلام كانت كثيرة فلم قال شَاكِراً لاّنْعُمِهِ
قلنا المراد أنه كان شاكراً لجميع نعم الله إن كانت قليلة فكيف الكثيرة
الصفة السادسة قوله اجْتَبَاهُ أي اصطفاه للنبوة والاجتباء هو أن تأخذ الشيء بالكلية وهو افتعال من جبيت وأصله جمع المال في الحوض والجابية هي الحوض
الصفة السابعة قوله وَهَدَاهُ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ أي في الدعوة إلى الله والترغيب في الدين الحق والتنفير عن الدين الباطل نظيره قوله تعالى وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ( الأنعام 153 )
الصفة الثامنة قوله وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَة ً قال قتادة إن الله حببه إلى كل الخلق فكل أهل الأديان يقرون به أما المسلمون واليهود والنصارى فظاهر وأما كفار قريش وسائر العرب فلا فخر لهم إلا به وتحقيق الكلام أن الله أجاب دعاءه في قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) وقال(20/108)
آخرون هو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وقيل الصدق والوفاء والعبادة
الصفة التاسعة قوله وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
فإن قيل لم قال وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ولم يقل وإنه في الآخرة في أعلى مقامات الصالحين
قلنا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( البقرة 130 ) فقال ههنا وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ تنبيهاً على أنه تعالى أجاب دعاءه ثم إن كونه من الصالحين لا ينفي أن يكون في أعلى مقامات الصالحين فإن الله تعالى بين ذلك في آية أخرى وهي قوله وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ( الأنعام 83 )
واعلم أنه تعالى لما وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات العالية الشريفة قال ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وفيه مباحث
البحث الأول قال قوم إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان على شريعة إبراهيم عليه السلام وليس له شرع هو به منفرد بل المقصود من بعثته عليه السلام إحياء شرع إبراهيم عليه السلام وعول في إثبات مذهبه على هذه الآية وهذا القول ضعيف لأنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين فلما قال اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ كان المراد ذلك
فإن قيل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية وإذا كان كذلك لم يكن متابعاً له فيمتنع حمل قوله إِنْ أَتَّبِعُ على هذا المعنى فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها
قلنا يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) لفظة ( ثم ) في قوله ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ تدل على تعظيم منزلة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ملته من قبل إن هذه اللفظة دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة عن سائر المدائح التي مدحه الله بها
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بمتابعة إبراهيم عليه السلام وكان محمد عليه السلام اختار يوم(20/109)
الجمعة فهذه المتابعة إنما تحصل إذا قلنا إن إبراهيم عليه السلام كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة وعند هذا لسائل أن يقول فلم اختار اليهود يوم السبت
فأجاب الله تعالى عنه بقوله إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وفي الآية قولان
القول الأول روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أمرهم موسى بالجمعة وقال تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق وهو يوم السبت فجعل الله تعالى السبت لهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضاً بالجمعة فقالت النصارى لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا واتخذوا الأحد وروى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد )
إذا عرفت هذا فنقول قوله تعالى عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ أي على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت فاختلافهم في السبت كان اختلافهم على نبيهم في ذلك اليوم أي لأجله وليس معنى قوله اخْتَلَفُواْ فِيهِ أن اليهود اختلفوا فيه فمنهم من قال بالسبت ومنهم من لم يقل به لأن اليهود اتفقوا على ذلك فلا يمكن تفسير قوله اخْتَلَفُواْ فِيهِ بهذا بل الصحيح ما قدمناه
فإن قال قائل هل في العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من يوم السبت وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام وبدأ تعالى بالخلق والتكوين من يوم الأحد وتم في يوم الجمعة فكان يوم السبت يوم الفراغ فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال فعينوا السبت لهذا المعنى وقالت النصارى مبدأ الخلق والتكوين هو يوم الأحد فنجعل هذا اليوم عيداً لنا فهذان الوجهان معقولان فما الوجه في جعل يوم الجمعة عيداً لنا
قلنا يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام وحصول التمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه والله أعلم
والقول الثاني في اختلافهم في السبت أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة
ثم قال تعالى وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ والمعنى أنه تعالى سيحكم يوم القيامة للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب
ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(20/110)
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بإتباع إبراهيم عليه السلام بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه فقال ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ
واعلم أنه تعالى أمر رسوله أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالطريق الأحسن وقد ذكر الله تعالى هذا الجدل في آية أخرى فقال وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) ولما ذكر الله تعالى هذه الطرق الثلاثة وعطف بعضها على بعض وجب أن تكون طرقاً متغايرة متباينة وما رأيت للمفسرين فيه كلاماً ملخصاً مضبوطاً
واعلم أن الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بد وأن تكون مبنية على حجة وبينة والمقصود من ذكر الحجة إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب المستمعين وإما أن يكون المقصود إلزام الخصم وإفحامه
أما القسم الأول فينقسم أيضاً إلى قسمين لأن الحجة إما أن تكون حجة حقيقية يقينية قطعية مبرأة عن احتمال النقيض وإما أن لا تكون كذلك بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر والإقناع الكامل فظهر بهذا التقسيم إنحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة أولها الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية وذلك هو المسمى بالحكمة وهذه أشرف الدرجات وأعلى المقامات وهي التي قال الله في صفتها وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) وثانيها الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية وهي الموعظة الحسنة وثالثها الدلائل التي يكون المقصود من ذكرها إلزام الخصوم وإفحامهم وذلك هو الجدل ثم هذا الجدل على قسمين
القسم الأول أن يكون دليلاً مركباً من مقدمات مسلمة في المشهور عند الجمهور أو من مقدمات مسلمة عند ذلك القائل وهذا الجدل هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن
القسم الثاني أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات باطلة فاسدة إلا أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين بالسفاهة والشغب والحيل الباطلة والطرق الفاسدة وهذا القسم لا يليق بأهل الفضل إنما اللائق بهم هو القسم الأول وذلك هو المراد بقوله تعالى وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ فثبت بما ذكرنا انحصار الدلائل والحجج في هذه الأقسام الثلاثة المذكورة في هذه الآية
إذا عرفت هذا فنقول أهل العلم ثلاث طوائف الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالدلائل القطعية اليقينية وهي الحكمة والقسم الثاني الذي تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة لا طلب المعرفة الحقيقية والعلوم اليقينية والمكالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التي تفيد الإفحام والإلزام وهذان القسمان هما الطرفان فالأول هو طرف الكمال والثاني طرف النقصان
وأما القسم الثاني فهو الواسطة وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا(20/111)
بالموعظة الحسنة وأدناها المجادلة وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققو وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة وفيهم الكثيرة والغلبة وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة فقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ معناه ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالحكمة وهي البراهين القطعية اليقينية وعوام الخلق بالموعظة الحسنة وهي الدلائل اليقينية الإقناعية الظنية والتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل
ومن لطائف هذه الآية أنه قال يَخْتَلِفُونَ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ فقصر الدعوة على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كانت بالدلائل القطعية فهي الحكمة وإن كانت بالدلائل الظنية فهي الموعظة الحسنة أما الجدل فليس من باب الدعوة بل المقصود منه غرض آخر مغاير للدعوة وهو الإلزام والإفحام فهلذا السبب لم يقل ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن بل قطع الجدل عن باب الدعوة تنبيهاً على أنه لا يحصل الدعوة وإنما الغرض منه شيء آخر والله أعلم
واعلم أن هذه المباحث تدل على أنه تعالى أدرج في هذه الآية هذه الأسرار العالية الشريفة مع أن أكثر الخلق كانوا غافلين عنها فظهر أن هذا الكتاب الكريم لا يهتدي إلى ما فيه من الأسرار إلا من كان من خواص أولي الأبصار
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ والمعنى أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاية فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين والذي عندي في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية فبعضها نفوس مشرقة صافية قلية التعلق بالجسمانيات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيات وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات عديمة الالتفات إلى الروحانيات ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها فلهذا قال تعالى اشتغل أنت بالدعوة ولا تطمع في حصول الهداية للكل فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة وبإشراق النفوس المشرقة الصافية فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة كما قال فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( الروم 30 ) والله أعلم
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي هذه الآية فيها ثلاثة أقوال(20/112)
القول الأول وهو الذي عليه العامة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى حمزة وقد مثلوا به قال ( والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك ) فنزل جبريل عليه السلام بخواتيم سورة النحل فكف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمسك عما أراد
وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي وعلى هذا قالوا إن سورة النحل كلها مكية إلا هذه الآيات الثلاث
والقول الثاني أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( البقرة 190 ) وفي هذه الآية أمر الله بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا
والقول الثالث أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين قال ابن سيرين إن أخذ منك رجل شيئاً فخذ منه مثله وأقول إن حمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله تعالى وذلك يطرق الطعن إليه وهو في غاية البعد بل الأصوب عندي أن يقال المراد أنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالطريق الأحسن ثم إن تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم وبالإعراض عنه والحكم عليه بالكفر والضلالة وذلك مما يشوش القلوب ويوحش الصدور ويحمل أكثر المستعمين على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً ثم إن ذلك المحق إذا شاهد تلك السفاهات وسمع تلك المشاغبات لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه
فإن قيل فهل تقدحون فيما روي أنه عليه السلام ترك العزم على المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية
قلنا لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية لأنا نقول تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية إنما الذي ينازع فيه أنه لا يجوز قصر هذه الآية على هذه الواقعة لأن ذلك يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتب ذلك على أربع مراتب
المرتبة الأولى قوله وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ يعني إن رغبتم في استقباء القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته وفي قوله وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ دليل على أن الأولى له أن لا يفعلن كما أنك إذا قلت للمريض إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح كان معناه أن الأولى بك أن لا تأكله فذكر تعالى بطريق الرمز والتعريض على أن الأولى تركه
والمرتبة الثانية الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ وهذا تصريح بأن الأولى ترك ذلك الانتقام لأن الرحمة أفضل من القسوة والإنفاع أفضل من الإيلام(20/113)
المرتبة الثالثة وهو ورود الأمر بالجزم بالترك وهو قوله وَاصْبِرْ لأنه في المرتبة الثانية ذكر أن الترك خير وأولى وفي هذه المرتبة الثالثة صرح بالأمر بالصبر ولما كان الصبر في هذا المقام شاقاً شديداً ذكر بعده ما يفيد سهولته فقال وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ أي بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي المفيد في حصول الصبر وفي حصلو جميع أنواع الطاعات ولما ذكر هذا السبب الكلي الأصلي ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب فقال وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ وذلك لأن إقدام الإنسان على الانتقام وعلى إنزال الضرر بالغير لا يكون إلا عند هيجان الغضب وشدة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين أحدهما فوات نفع كان حاصلاً في الماضي وإليه الإشارة بقوله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قيل معناه ولا تحزن على قتلى أحد ومعناه لا تحزن بسبب فوت أولئك الأصدقاء ويرجع حاصله إلى فوت النفع والسبب الثاني لشدة الغضب توقع ضرر في المستقبل وإليه الإشارة بقوله وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ ومن وقف على هذه اللطائف عرف أنه لا يمكن كلام أدخل في حسن والضبط من هذا الكلام بقي في لفظ الآية مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ بكسر الضاد وفي النمل مثله والباقون بفتح الضاد في الحرفين أما الوجه في القراءة المشهورة فأمور قال أبو عبيدة الضيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن وما كان في القلب فإنه الضيق وقال أبو عمرو الضيق بالكسر الشدة والضيق بفتح الضاد الغم وقال القتيبي ضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين وبهذا الطريق قلنا إنه تصح قراءة ابن كثير
البحث الثاني قرىء وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ
البحث الثالث هذا من كلام المقلوب لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون المصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى فلا يكون الضيق فيك إلا أن الفائدة في قوله وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ هو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإسنان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى والله أعلم
المرتبة الرابعة قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ وهذا يجري مجرى التهديد لأن في المرتبة الأولى رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز وفي المرتبة الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ وفي المرتبة الثالثة أمرنا بالصبر على سبيل الجزم وفي هذه المرتبة الرابعة كأنه ذكر الوعيد في فعل الانتقام فقال إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ عن استيفاء الزيادة وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ في ترك أصل الانتقام فإن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين ومن وقف على هذا التريب عرف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون على سبيل الرفق واللطف مرتبة فمرتبة ولما قال الله لرسوله ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ذكر هذه المراتب الأربعة تنبيهاً على أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يجب أن تكون واقعة على هذا الوجه وعند الوقوف على هذه اللطائف يعلم العاقل أن هذا الكتاب الكريم بحر لا ساحل له
المسألة الثالثة قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ معيته بالرحمة والفضل والرتبة وقوله الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى وقوله وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ إشارة إلى الشفقة على خلق الله وذلك(20/114)
يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين أعني التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله وعبر عنه بعض المشايخ فقال كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق وقال الحكماء كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وعن هرم بن حيان أنه قيل له عند القرب من الوفاة أوص فقال إنما الوصية من المال ولا مال لي ولكني أوصيكم بخواتيم سورة النحل
المسألة الرابعة قال بعهضم إن قوله تعالى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ منسوخ بآية السيف وهذا في غاية البعد لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى وترك التعدي وطلب الزيادة ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف وأكثر المفسرين مشغوفون بتكثير القول بالنسخ ولا أرى فيه فائدة والله أعلم بالصواب(20/115)
سورة الإسراء
مكية إلا الآيات 26 و 32 و 33 و 57 ومن آية 73 إلى غاية آية 80 فمدنية
وآياتها 111 نزلت بعض القصص
سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاٌّ قْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءْايَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
سورة بني إسرائيل
عددها مائة آية وعشر آيات
عن ابن عباس أنها مكية غير قوله
سورة بني إسرائيل
عددها مائة آية وعشر آيات
عن ابن عباس أنها مكية غير قوله وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ ( الإسراء 71 ) إلى قوله وَاجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا ( الإسراء 80 ) فإنها مدنيات نزلت حين جاء وفد ثقيف
سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال النحويون سُبْحَانَ اسم علم للتسبيح يقال سبحت الله تسبيحاً وسبحاناً فالتسبيح هو المصدر وسبحان اسم علم للتسبيح كقولك كفرت اليمين تكفيراً وكفراناً وتفسيره تنزيه الله تعالى من كل سوء قال صاحب ( النظم ) السبح في اللغة التباعد يدل عليه قوله تعالى إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً ( المزمل 7 ) أي تباعداً فمعنى سبح الله تعالى أي بعده ونزهه عما لا ينبغي وتمام المباحث العقلبية في لفظ التسبيح قد ذكرناها في أول سورة الحديد وقد جاء في لفظ التسبيح معان آخرى أحدها أن التسبيح يذكر بمعنى الصلاة ومنه قوله تعالى فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ ( الصفات 143 ) أي من المصلين والسبحة الصلاة النافلة وإنما قيل للمصلي مسبح(20/116)
لأنه معظم لله بالصلاة ومنزه له عما لا ينبغي وثانيها ورد التسبيح بمعنى الاستثناء في قوله تعالى قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ ( القلم 28 ) أي تستثنون وتأويله أيضاً يعود إلى تعظيم الله تعالى في الاستثناء بمشيئته وثالثها جاء في الحديث ( لأحرقت سبحات وجهه ما أدركت من شيء ) قيل معناه نور وجهه وقيل سبحات وجهه نور وجهه الذي إذا رآه الرائي قال سبحان الله وقوله أَسْرَى قال أهل اللغة أسرى وسرى لغتان وقوله بِعَبْدِهِ أجمع المفسرون على أن المراد محمد عليه الصلاة والسلام وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر بن الحسين رحمه الله قال سمعت الشيخ الإمام أبا القاسم سليمان الأنصاري قال لما وصل محمد صلوات الله عليه إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في العارج أوحى الله تعالى إليه يا محمد بم أشرفك قال ( رب بأن تنسبني إلى نفسك بالعبودية ) فأنزل الله فيه سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ وقوله لَيْلاً نصب على الظرف
فإن قيل الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل
قلنا أراد بقوله لَيْلاً بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية واختلفوا في ذلك الليل قال مقاتل كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة ونقل صاحب ( الكشاف ) عن أنس والحسن أنه كان ذلك قبل البعثة وقوله مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اختلفوا في المكان الذي أسرى به منه فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق ) وقيل أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب والمراد على هذا القول بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به وعن ابن عباس الحرم كله مسجد وهذا قول الأكثرين وقوله إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى اتفقوا على أن المراد منه بيت المقدس وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام وقوله الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ قيل بالثمار والأزهار وقيل بسبب أنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة
واعلم أن كلمة إِلَى لانتهاء الغاية فمدلول قوله إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى أنه وصل إلى حد ذلك المسجد فأما أنه دخل ذلك المسجد أم لا فليس في اللفظ دلالة عليه وقوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا يعني ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى
فإن قالوا قوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا يدل على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات لأن كلمة مِنْ تفيد التبعيض وقال في حق إبراهيم وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 75 ) فيلزم أن يكون معراج إبراهيم عليه السلام أفضل من معراج محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قلنا الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض والذي رآه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بعض آيات الله تعالى ولا شك أن آيات الله أفضل
ثم قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي أن الذي أسرى بعبده هو السميع لأقوال محمد البصير بأفعاله العالم بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الرياء مقرونة بالصدق والصفاء فلهذا السبب خصه الله تعالى بهذه الكرامات وقيل المراد سميع لما يقولون للرسول في هذا الأمر بصير بما يعملون في هذه الواقعة(20/117)
المسألة الثانية اختلف في كيفية ذلك الإسراء فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أسرى بجسد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والأقلون قالوا إنه ما أسري إلا بروحه حكي عن محمد بن جرير الطبري في ( تفسيره ) عن حذيفة أنه قال ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما أسري بروحه وحكي هذا القول أيضاً عن عائشة رضي الله عنها وعن معاوية رضي الله عنه واعلم أن الكلام في هذا الباب يقع في مقامين أحدهما في إثبات الجواز العقلي الثاني في الوقوع
أما المقام الأول وهو إثبات الجواز العقللي فنقول الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها والله تعالى قادر على جميع الممكنات وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع فنفتقر ههنا إلى بيان مقدمتين
المقدمة الأولى في إثبات أن الحركة الواقعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها ويدل عليه وجوه
الوجه الأول أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر الواحد إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع وبتقدير أن يقال أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم فهو لم يتحرك إلا بمقدار نصف القطر فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان فهذا برهان قاطع على أن الارتقاء من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان والله أعلم
الوجه الثاني وهو أنه ثبت في الهندسة أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين وكذا مرة ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه
الوجه الثالث أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم فإن كان القول بمرعاج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الليلة الواحدة ممتنعاً في العقول كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعاً ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعناً في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه الصلاة والسلام في اللحظة ممن العرش إلى مكة ولما كان ذلك باطلاً كان ما ذكروه أيضاً باطلاً
فإن قالوا نحن لا نقول إن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم ينتقل من مكان إلى مكان وإنما نقول المراد من نزول جبريل عليه السلام هو زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضراً متجلياً في ذات جبريل عليه الصلاة والسلام
قلنا تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه(20/118)
الصلاة والسلام جسم وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة وإذاكان كذلك كان الإلزام المذكور قوياً روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة المعراج كذبه الكل وذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر إن كان قد قال ذلك فهو صادق ثم جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر الرسول له تلك التفاصيل فكلما ذكر شيئاً قال أبو بكر صدقت فلما تمم الكلام قال أبو بكر أشهد أنك رسول الله حقاً فقال له الرسول وأنا أشهد أنك الصديق حقاً وحاصل الكلام أن أبا بكر رضي الله عنه كأنه قال لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا
الوجه الرابع أن أكثر أرباب الملل والنحل يسلمون وجود إبليس ويسلمون أنه هو الذي يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم ويسلمون أنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم فلما سلموا جواز مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس فلأن يسلموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى وهذا الإلزام قوي على من يسلم أن إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان أما الذين يقولون إنه من الأرواح الخبيثة الشريرة وأنه ليس بجسم ولا جسماني فهذا الإلزام غير وارد عليهم إلا أن أكثر أرباب الملل والنحل يوافقون على أنه جسم لطيف متنقل
فإن قالوا هب أن الملائكة والشياطين يصح في حقهم حصول مثل هذه الحركة السريعة لأنهم أجسام لطيفة ولا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها أما الإنسان فإنه جسم كثيف فكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة السريعة فيه
قلنا نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشياطين على أن حصول حركة منتهية في السرعة إلى هذا الحد ممكن في نفس الأمر وأما بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها كانت أيضاً ممكنة الحصول في جسم البدن الإنساني فذاك مقام آخر سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى
الوجه الخامس أنه جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه الصلاة والسلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة قال تعالى في صفلا مسير سليمان عليه الصلاة والسلام غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ( سبأ 12 ) بل نقول الحس يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة وذلك أيضاً يدل على أن مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة
الوجه السادس أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بقليس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ( النمل 40 ) وإذاكان ممكناً في حق بعض الناس علمنا أنه في نفسه ممكن الوجود
الوجه السابع إن من الناس من يقول الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه ويتصل بالمبصر ثم إنا إذا فتحنا العين ونظرنا إلى رجل رأيناه فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة وذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السريعة من الممكنات لا من الممتنعات فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه(20/119)
المقدمة الثانية في بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها وجب أن لا يكون حصولها في جسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ممتنعاً والذي يدل عليه أنا بينا بالدلائل القطعية أن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام وذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أمر ممكن الوجود في نفسه
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات وثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ممكن فوجب كونه تعالى قادراً عليه وحينئذ يلزم من مجموع هذه المقدمات أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجب إلا أن هذا التعجب غير مخصوص بهذا المقام بل هو حاصل في جميع المعجزات فانقلات العصا ثعباناً تبلغ سبعين ألف حبل من الحبال والعصي ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب وكذا القول في جميع المعجزات فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار والدفع لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات وإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال فكذا ههنا فهذا تمام القول في بيان أن القول بالمعراج ممكن غير ممتنع والله أعلم
المقام الثاني في البحث عن وقوع المعراج قال أهل التحقيق الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر أما القرآن فهو هذه الآية وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والروح فوجب أن يكون الإسراء حاصلاً لمجموع الجسد والروح
واعلم أن هذا الاستدلال موقوف على أن الإنسان هو الروح وحده أو الجسد وحده أو مجموع الجسد والروح أما القائلون بأن الإنسان هو الروح وحده فقد احتجوا عليه بوجوه أحدها أن الإنسان شيء واحد باق من أول عمره إلى آخر والأجزاء البدنية في التبدل والتغير والانتقال والباقي غير متبدل فالإنسان مغاير لهذا البدن وثانيها إن الإنسان قد يكون عارفاً بذاته المخصوصة حال ما يكون غافلاً عن جميع أجزائه البدنية والمعلوم مغاير للمغفول عنه فالإنسان مغاير لهذا البدن وثالثها أن الإنسان يقول بمقتضى فطرته السليمة يدي ورجلي ودماغي وقلبي وكذا القول في سائر الأعضاء فيضيف كلها إلى ذاته المخصوصة والمضاف غير المضاف إليه فذاته المخصوصة وجب أن تكون مغايرة لكل هذه الأعضاء
فإن قالوا أليس أنه يضيف ذاته إلى نفسه فيقول ذاتي ونفسي فيلزمكم أن تكون نفسه مغايرة لذاته وهذا محال
قلنا نحن لا نتمسك بمجرد اللفظ حتى يلزمنا ما ذكرتموه بل إنما نتمسك بمحض العقل فإن صريح العقل يدل على أن الإنسان موجود واحد وذلك الشيء الواحد يأخذ بآله اليد ويبصر بآلة العين ويسمع بآلة الأذن فالإنسان شيء واحد وهذه الأعضاء آلات له في هذه الأفعال وذلك يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والآلات فثبت بهذه الوجوه أن الإنسان شيء مغاير لهذه البنية ولهذا الجسد
إذا ثبت هذا فنقول سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ المراد من العبد جوهر الروح وعلى هذا التقرير فلم(20/120)
يبقى في الآية دلالة على حصول الإسراء بالجسد
فإن قالوا فالإسرا بالروح ليس بأمر مخالف للعادة فلا يليق به أن يقال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ
قلنا هذا أيضاً بعيد لأنه لا يبعد أن يقال إنه حصل لروحه من أنواع المكاشفات والمشاهدات ما لم يحصل لغيره ألبتة فلا جرم كان هذا الكلام لائقاً به فهذا تقرير وجه السؤال على الاستدلال بهذه الآية في إثبات المعراج بالروح والجسد معاً
والجواب أن لفظ العبد لا يتناول إلا مجموع الروح والجسد والدليل عليه قوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى ( العلق 9 10 ) ولا شك أن المراد من العبد ههنا مجموع الروح والجسد وقال أيضاً في سورة الجن وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( الجن 19 ) والمراد مجموع الروح والجسد فكذا ههنا وأما الخبر فهو الحديث المروي في الصحاح وهو مشهور وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم منه إلى السموات واحتج المنكرون له بوجوه أحدها بالوجوه العقلية وهي ثلاثة أولها أن الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة وثانيها أن صعود الجرم الثقيل إلى السموات غير معقول وثالثها أن صعوده إلى السموات يوجب انحراق الأفلاك وذلك محال
والشبهة الثانية أن هذا المعنى لو صح لكان أعظم من سائر المعجزات وكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع الناس حتى يستدلوا به على صدقه في ادعاء النبوة فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه أحد ولا يشاهده أحد فإنه يكون ذلك عبثاً وذلك لا يليق بالحكيم
والشبهة الثالثة تمسكوا بقوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلنَّاسِ ( الإسراء 60 ) وما تلك الرؤيا إلا حديث المعراج وإنما كان فتنة للناس لأن كثيراً ممن آمن به لما سمع هذا الكلام كذبه وكفر به فكان حديث المعراج سبباً لفتنة الناس فثبت أن ذلك رؤيا رآه في المنام الشبهة الرابعة أن حديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة منها ما روي من شق بطنه وتطهيره بما زمزم وهو بعيد لأن الذي يمكن غسله بالماء هو النجاسات العينية ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة والأخلاق المذمومة ومنها ما روي من ركوب البراق وهو بعيد لأنه تعالى لما سيره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك فأي حاجة إلى البراق ومنها ما روي أنه تعالى أوجب خمسين صلاة ثم إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يزل يتردد بين الله تعالى وبين موسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه الصلاة والسلام قال القاضي وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضوره وأنه يوجب البداء وذلك على الله تعالى محال فثبت أن ذلك الحديث مشتمل على ما يجوز قبوله فكان مردوداً
والجواب عن الوجوه العقلية قد سبق فلا نعيدها
والجواب عن الشبهة الثانية ما ذكره الله تعالى وهو قوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا وهذا كلام مجمل وفي تفصيله وشرحه وجوه الأول أن خيرات الجنة عطيمة وأهوال النار شديدة فلو أنه عليه الصلاة والسلام ما شاهدهما في الدنيا ثم شاهدهما في ابتداء يوم القيامة فربما رغب في خيرات الجنة أو خاف من أهوال(20/121)
النار أما لما شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة فلا يبقى مشغول القلب بهما وحينئذ يتفرغ للشفاعة الثاني لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة صارت سبباً لتكامل مصلحته أو مصلحتهم الثالث أنه لا يبعد أنه إذا صعد الفلك وشاهد أحوال السموات والكرسي والعرش صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه فتحصل له زيادة قوة في القلب باعتبارها يكون في شروعه في الدعوة إلى الله تعالى أكمل وقلة التفاته إلى أعداء الله تعالى أقوى يبين ذلك أن من عاين قدرة الله تعالى في هذا الباب لا يكون حاله في قوة النفس وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما يكون عليه حال من لم يعاين
واعلم أن قوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا كالدلالة على أن فائدة ذلك الإسراءة مختصة به وعائدة إلى على بسل التعيين
والجواب عن الشبهة الثالثة أنا عند الانتهاء إلى تفسير تلك الآية في هذه السورة نبين أن تلك الرؤيا رؤيا عيان لا رؤيا منام
والجواب عن الشبهة الرابعة لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد والله أعلم
المسألة الرابعة أما العروج إلى السموات وإلى ما فوق العرش فهذه الآية لا تدل عليه ومنهم من استدل عليه بأول سورة والنجم ومنهم من استدل عليه بقوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ ( الإنشقاق 19 ) وتفسيرهما مذكور في موضعه وأما دلالة الحديث فكما سلف والله أعلم
وَءَاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً ذُرِّيَّة َ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الكلام في الآية التي قبل هذه الآية وفيها انتقل من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة لأن قوله سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى فيه ذكر الله على سبيل الغيبة وقوله بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا فيه ثلاثة ألفاظ دالة على الحضور وقوله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ يدل على الغيبة وقوله وَءاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ الخ يدل على الحضور وانتقال الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس يسمى صنعة الالتفات
المسألة الثانية ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن أسرى به وذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه فقال وَءاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ يعني التوراة وَجَعَلْنَاهُ هُدًى(20/122)
أي يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق وقوه أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً وفيه أبحاث
البحث الأول قرأ أبو عمرو أَلاَّ تَتَّخِذُواْ بالياء خبراً عن بني إسرائيل والباقون بالتاء على الخطاب أي قلنا لهم لا تتخذوا
البحث الثاني قال أبو علي الفارسي إن قوله أَلاَّ تَتَّخِذُواْ فيه ثلاثة أوجه أحدها أن تكون ( أن ) ناصبة للفعل فيكون المعنى وجعلناه هدى لئلا تتخذوا وثانيها أن تكون ( أن ) بمعنى أي التي للتفسير وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قراءة العامة كما انصرف منها إلى الخطاب والأمر في قوله وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ ( ص 6 ) فكذلك انصرف من الغيبة إلى النهي في قوله أَلاَّ تَتَّخِذُواْ وثالثها أن تكون ( أن ) زائدة ويجعل تتخذوا على القول المضمر والتقدير وجعلناه هدى لبني إسرائيل فقلنا لا تتخذوا من دوني وكيلاً
البحث الثالث قوله وَكِيلاً أي رباً تكلون أموركم إليه أقول حاصل الكلام في الآية أنه تعالى ذكر تشريف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالإسراء ثم ذكر عقيبه تشريف موسى عليه الصلاة والسلام بإنزال التوراة عليه ثم وصف التوراة بكونها هدى ثم بين أن التوراة إنما كان هدى لاشتماله على النهي عن اتخاذ غير الله وكيلاً وذلك هو التوحيد فرجع حاصل الكلام بعد رعاية هذه المراتب أنه لا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا منقبة أعظم من أن يصير المرء غرقاً في بحر التوحيد وأن لا يعول في أمر من الأمور إلا على الله فإن نطق نطق بذكر الله وإن تفكر تفكر في دلائل تنزيه الله تعالى وإن طلب طلب من الله فيكون كله لله وبالله ثم قال ذُرّيَّة َ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وفي نصب ذُرّيَّة ِ وجهان
الوجه الأول أن يكون نصباً على النداء يعني يا ذرية من حملنا مع نوح وهذا قول مجاهد لأنه قال هذا نداء قال الواحدي وإنما يصح هذا على قراءة من قرأ بالتاء كأنه قيل لهم لا تتخذوا من دوني وكيلاً يا ذرية من حملنا مع نوح في السفينة قال قتادة الناس كلهم ذرية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين سام وحام ويافث فالناس كلهم من ذرية أولئك فكان قوله يا ذرية من حملنا مع نوح قائماً مقام قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ
الوجه الثاني في نصب قوله ذُرّيَّة ِ أن الاتخاذ فعل يتعدى إلى مفعولين كقوله وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) والتقدير لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً ثم إنه تعالى أثنى على نوح فقال إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ( الإسراء 3 ) أي كان كثير الشكر روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أكل قال ( الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني ) وإذا شرب قال ( الحمد لله الذي أسقاني ولو شاء أظمأني ) وإذا اكتسى قال ( الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني ) وإذا احتذى قال ( الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني ) وإذا قضى حاجته قال ( الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه ) وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجاً آثره به
فإن قيل قوله إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ما وجه ملايمته لما قبله(20/123)
قلنا التقدير كأنه قال لا تتخذوا من دوني وكيلاً ولا تشركوا بي لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان عبداً شكوراً وإنما يكون العبد شكوراً لو كان موحداً لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله وأنتم ذرية قومه فاقتدوا بنوح عليه السلام كما أن آباءكم اقتدوا به والله أعلم
وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا
اعلم أنه تعالى لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم وبأنه جعل التوراة هدى لهم بين أنهم ما اهتدوا بهداه بل وقعوا في الفساد فقال وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ مَرَّتَيْنِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى القضاء في اللغة عبارة عن قطع الأشياء عن إحكام ومنه قوله فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( فصلت 12 ) وقول الشاعر
وعليهما مسرودتان قضاهما داود
فقوله وَقَضَيْنَا أي أعلمناهم وأخبرناهم بذلك وأوحينا إليهم ولفظ إِلَى صلة للإيحاء لأن معنى قضينا أوحينا إليهم كذا وقوله لَتُفْسِدُنَّ يريد المعاصي وخلاف أحكام التوراة وقوله فِى الاْرْضِ يعني أرض مصر وقوله وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً يعني أنه يكون استعلاؤكم على الناس بغير الحق استعلاء عظيماً لأنه يقال لكل متجبر قد علا وتعظم ثم قال فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَاهُمَا يعني أولى المرتين بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ والمعنى أنه إذا جاء وعد الفساق في المرة الأولى أرسلنا عليكم قوماً أولى بأس شديد ونجدة وشدة والبأس القتال ومنه قوله تعالى وَحِينَ الْبَأْسِ ( البقرة 177 ) ومعنى بعثنا عليكم أرسلنا عليكم وخلينا بينكم وبينهم خاذلين إياكم واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم قيل إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء وذلك أول الفسادين فسلط الله عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض الله ملكاً آخر غزا أهل بابل واتفق أن تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا فهو قوله ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ عَلَيْهِمْ(20/124)
والقول الثاني إن المراد من قوله بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أن الله تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة
والقول الثالث إن قوله بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم
ثم قال تعالى فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ قال الليث الجوس والجوسان التردد خلال الديار والبيوت في الفساد والخلال هو الانفراج بين الشيئين والديار ديار بيت المقدس واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فعن ابن عباس فتشوا وقال أبو عبيدة طلبوا من فيها وقال ابن قتيبة عاثوا وأفسدوا وقال الزجاج طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه قال الواحدي الجوس هو التردد والطلب وذلك محتمل لكل ما قالوه
ثم قال تعالى وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً أي كان قضاء الله بذلك قضاء جزماً حتماً لا يقبل النقض والنسخ ثم قال تعالى ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ أي أهلكنا أعداءكم ورددنا الدولة والقوة عليكم وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا النفير العدد من الرجال وأصله من نفر مع الرجل من عشيرته وقومه والنفير والنافر واحد كالقدير والقادر وذكرنا معنى نفر عند قوله فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ ( التوبة 122 ) وقوله انْفِرُواْ خِفَافًا ( التوبة 41 )
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في مسألة القضاء والقدر من وجوه الأول أنه تعالى قال وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً وهذا القضاء أقل احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم فثبت أنه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً جزماً لا يقبل النسخ لأن القضاء معناه الحكم الجزم على ما شرحناه ثم إنه تعالى أكد ذلك القضاء مزيد تأكيد فقال وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً
إذا ثبت هذا فنقول عدم وقوع ذلك الفساد عنهم يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وانقلاب حكمه الجازم باطلاً وانقلاب علمه الحق جهلاً وكل ذلك محال فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالاً فكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً لا يقبل النسخ والرفع مع أنهم كلفوا بتركه ولعنوا على فعله وذلك يدل على قولنا إن الله قد يأمر بشيء ويصد عنه وقد ينهى عن شيء ويقضي بتحصيله فهذا أحد وجوه الاستدلال بهذه الآية
الوجه الثاني في الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ والمراد أولئك الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنهب والأسر فبين تعالى أنه هو الذي بعثهم على بني(20/125)
إسرائيل ولا شك أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكثير والمعاصي العظيمة ثم إنه تعالى أضاف كل ذلك إلى نفسه بقوله ثُمَّ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ وذلك يدل على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى
أجاب الجبائي عنه من وجهين الأول المراد من بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ هو أنه تعالى أمر أولئك الأقوام بغزو بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الفساد فأضيف ذلك الفعل إلى الله تعالى من حيث الأمر والثاني أن يكون المراد خلينا بينهم وبين بني إسرائيل وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم وحاصل الكلام أن المراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع
واعلم أن الجواب الأول ضعيف لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظ التوراة لا يجوز أن يقال إنهم فعلوا ذلك بأمر الله تعالى والجواب الثاني أيضاً ضعيف لأن البعث على الفعل عبارة عن التقوية عليه وإلقاء الدواعي القوية في القلب وأما التخلية فعبارة عن عدم المنع والأول فعل والثاني ترك فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدين بالآخر وأنه لا يجوز فثبت صحة ما ذكرناه والله أعلم
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاًّنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاٌّ خِرَة ِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب وأن الإساءة إليها قبيحة فلهذا المعنى قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا
المسألة الثانية قال الواحدي لا بد ههنا من إضمار والتقدير وقلنا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم والمعنى إن أحسنتم بفعل الطاعات فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات وإن أسأتم بفعل المحرمات أسأتم إلى أنفسكم من حيث إن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات(20/126)
المسألة الثالثة قال النحويون إنما قال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا للتقابل والمعنى فإليها أو فعليها مع أن حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض كقوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ( الزلزلة 4 5 ) أي إليها
المسألة الرابعة قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك
ثم قال تعالى فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون معناه وعد المرة الأخيرة وهذه المرة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام قال الواحدي فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وقتل وخرب بيت المقدس أقول التواريخ تشهد بأن بختنصر كان قبل وقت عيسى عليه الصلاة والسلام ويحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام بسنين متطاولة ومعلوم أن الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له قسطنطين الملك والله أعلم بأحوالهم ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام
المسألة الثانية جواب قوله فَإِذَا جَاء محذوف تقديره فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوؤا وجوهكم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ما تقدم عليه من قوله بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا ( الإسراء 5 ) ثم قال فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى يقال ساءه يسوءه أي أحزنه وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والإسفار في الوجه وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية ونظير هذا المعنى كثير في القرآن
المسألة الثانية قرأ العامة ليسوؤا على صيغة المغايبة قال الواحدي وهي موافقة للمعنى وللفظ أما المعنى فهو أن المبعوثين هم الذين يسوؤنهم في الحقيقة لأنهم هم الذين يقتلون ويأسرون وأما اللفظ فلأنه يوافق قوله وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة ليسوء على إسناد الفعل إلى الواحد وذلك الواحد يحتمل أن يكون أحد أشياء ثلاثة إما اسم الله سبحانه لأن الذي تقدم هو قوله ثم ردنا وأمددنا وكل ذلك ضمير عائد إلى الله تعالى وإما أن يكون ذلك الواحد هو البعث ودل عليه قوله أُولَاهُمَا بَعَثْنَا والفعل المتقدم يدل على المصدر كقوله تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ ( آل عمران 18 ) وقال الزجاج ليسوء الوعد وجوهكم وقرأ الكسائي بالنون وهذا على إسناد الفعل إلى الله تعالى كقوله بعثنا عليكم وأمددنا
ثم قال تعالى وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا يقال تبر الشيء تبراً إذا هلك وتبره أهلكه قال الزجاج كل شيء جعلته مكسراً ومفتتاً فقد تبرته ومنه قيل تبر الزجاج وتبر الذهب لمكسره ومنه قوله تعالى إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأعراف 139 )(20/127)
وقوله وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ ( نوح 28 ) وقوله وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ يحتمل ما غلبوا عليه وظفروا به ويحتمل ويتبروا ما داموا غالبين أي ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل وقوله تَتْبِيرًا ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر وإزالة الشك في صدقه كقوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) أي حقاً والمعنى وليدمروا ويخربوا ما غلبوا عليه
ثم قال تعالى عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ والمعنى لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل
ثم قال وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا يعني أن بعثنا عليكم من بعثنا ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى قال القفال إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ ( الأعراف 167 ) ثم قال وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا والحصير فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى الفاعل أي وجعلنا جهنم حاصرة لهم ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول أي جعلناها موضعاً محصوراً لهم والمعنى أن عذاب الدنيا وإن كان شديداً قوياً إلا أنه قد يتفلت بعض الناس عنه والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص عنه إما بالموت وإما بطريق آخر وأما عذاب الآخرة فإنه يكون حاصراً للإنسان محيطاً به لا رجاء في الخلاص عنه فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطاً بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبداً
إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
اعلم أنه تعالى لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين وهو الإسراء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإيتاء الكتاب لموسى عليه الصلاة والسلام وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم كان ذلك تنبيهاً على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته توجب كل بلية وغرامة لا جرم أثنى على القرآن فقال إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ(20/128)
واعلم أن قوله تعالى دِينًا قِيَمًا مّلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ( إبراهيم 161 ) يدل على كون هذا الدين مستقيماً وقوله في هذه الآية لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ يدل على أن هذا الدين أقوم من سائر الأديان وأقول قولنا هذا الشيء أقوم من ذاك إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية وهذا محال لأن المراد من كونه مستقيماً كونه حقاً وصدقاً ودخول التفاوت في كون الشيء حقاً وصدقاً محال فكان وصفه بأنه أقوم مجازاً إلا أن لفظ الأفعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا الله أكبر أي الله كبير وقولنا الأشج والناقص أعدلا بني مروان أي عادلاً بني مروان أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف والله أعلم
البحث الثاني قوله لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ نعت لموصوف محذوف والتقدير يهدي للملة أو الشريعة أو الطريقة التي هي أقوم الملل والشرائع والطرق ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( فصلت 34 ) أي بالخصلة التي هي أحسن
أما قوله وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا فاعلم أنه تعالى وصف القرآن بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى أنه يهدي للتي هي أقوم وقد مر تفسيره
والصفة الثانية أنه يبشر الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير وذلك لأن الصفة الأولى لما دلت على كون القرآن هادياً إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح وجب أن يظهر لهذا الصواب والصلاح أثر وذلك هو الأجر الكبير لأن الطريق الأقوم لا بد وأن يفيد الربح الأكبر والنفع الأعظم
والصفة الثالثة قوله وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وذلك لأن الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح كما يوجب لفاعله النفع الأكمل الأعظم فكذلك تركه يوجب لتاركه الضرر الأعظم الأكمل
واعلم أن قوله وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ عطف على قوله أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم ونظيره قوله بشرت زيداً أنه سيعطى وبأن عدوه سيمنع
فإن قيل كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب
قلنا مذكور على سبيل التهكم أو يقال إنه من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
فإن قيل هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة فكيف يليق بهذا الموضع قوله وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
قلنا عنه جوابان أحدهما أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين والثاني أن بعضهم قال لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) فهم في هذا القول صاروا كالمنكرين للآخرة والله أعلم(20/129)
وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً
وفي الآية مباحث
البحث الأول اعلم أن وجه النظم هو أن الإنسان بعد أن أنزل الله عليه القرآن وخصه بهذه النعمة العظيمة والكرامة الكاملة قد يعدل عن التمسك بشرائعه والرجوع إلى بياناته ويقدم على ما لا فائدة فيه فقال وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ
البحث الثاني اختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشر على أقوال
القول الأول المراد منه النضر بن الحرث حيث قال اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ( الأنفال 32 ) فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته فكان بعضهم يقول ائتنا بعذاب الله وآخرون يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وإنما فعلوا ذلك للجهل واعتقاد أن محمداً كاذب فيما يقول
والقول الثاني المراد أنه في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً فأقبل يئن بالليل فقالت له ما لك تئن فشكى ألم القيد فأرخت له من كتافه فلما نامت أخرج يده وهرب فلما أصبح النبي عليه الصلاة والسلام دعا به فأعلم بشأنه فقال عليه الصلاة والسلام ( اللهم اقطع يدها ) فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله يدها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني سألت الله أن يجعل دعائي على من لا يستحق عذاباً من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما تغضبون فلترد سودة يدها )
والقول الثالث أقول يحتمل أن يكون المراد أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أن خيره فيه مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولاً مغتراً بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها
البحث الرابع القياس إثبات الواو في قوله وَيَدْعُ إلا أنه حذف في المصحف من الكتابة لأنه لا يظهر في اللفظ أما لم تحذف في المعنى لأنها في موضع الرفع ونظيره سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ ( العلق 18 ) وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ ( المؤمنين 146 ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ الْمُنَادِ ( ق 41 ) فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ ( القمر 5 ) ولو كان بالواو والياء لكان صواباً هذا كلام الفراء وأقول إن هذا يدل على أنه سبحانه قد عصم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإن إثبات الياء والواو في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتهما في هذه المواضع المعدودة يدل على أن هذا القرآن نقل كما سمع وأن أحداً لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوة عقله
ثم قال تعالى وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً وفي هذا الإنسان قولان
القول الأول آدم عليه السلام وذلك لأنه لما انتهت الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه فذهب لينهض فلم يقدر فهو قوله وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً
والقول الثاني أنه محمول على الجنس لأن أحداً من الناس لا يعرى عن عجلة ولو تركها لكان تركها أصلح له في الدين والدنيا وأقول بتقدير أن يكون المراد هو القول الأول كان المقصود عائداً إلى(20/130)
القول الثاني لأنا إذا حملنا الإنسان على آدم عليه الصلاة والسلام كان المعنى أن آدم الذي كان أصل البشر لما كان موصوفاً بهذه العجلة وجب أن تكون هذه صفة لازمة للكل فكان المقصود عائداً إلى القول الثاني والله أعلم
وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ ءَايَة َ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَة َ النَّهَارِ مُبْصِرَة ً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَى ْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير النظم وجوه
الوجه الأول أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه فكذلك الدهر مركب من النهار والليل فالمحكم كالنهار والمتشابه كالليل وكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الوقت والزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل
والوجه الثاني في تقرير النظم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وذلك الأقوم ليس إلا ذكر الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة لا جرم أردفه بذكر دلائل التوحيد وهو عجائب العالم العلوي والسفلي
الوجه الثالث أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولاً أي منتقلاً من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد والله أعلم
المسألة الثانية في قوله وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ قولان
القول الأول أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار والمعنى أنه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا أما في الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير له مع كونهما متعاقبين على الدوام من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودين لذاتهما بل لا بد لهما من فاعل يدبرهما ويقدرهما بالمقادير المخصوصة وأما في الدنيا فلأن مصالح الدنيا لا تتم إلا بالليل والنهار فلولا الليل لما حصل السكون والراحة ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرف في وجوه المعاش
ثم قال تعالى فَمَحَوْنَا ءايَة َ الَّيْلِ وعلى هذا القول تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين والتقدير فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي نفس النهار مبصرة ونظيره قولنا نفس الشيء(20/131)
وذاته فكذلك آية الليل هي نفس الليل ويقال أيضاً دخلت بلاد خراسان أي دخلت البلاد التي هي خراسان فكذلك ههنا
القول الثاني أن يكون المراد وجعلنا نيري الليل والنهر آيتين يريد الشمس والقمر فمحونا آية الليل وهي القمر وفي تفسير محو القمر قولان
القول الأول المراد منه ما يظهر في القمر من الزيادة والنقصان في النور فيبدو في أول الأمر في صورة الهلال ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدراً كاملاً ثم يأخذ في الانتقاص قليلاً قليلاً وذلك هو المحو إلى أن يعود إلى المحاق
والقول الثاني المراد من محو القمر الكلف الذي يظهر في وجهه يروى أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء فأرسل الله جبريل عليه الصلاة والسلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء ومعنى المحو في اللغة إذهاب الأثر تقول محوته أمحوه وانمحى وامتحى إذا ذهب أثره وأقول حمل المحو في هذه الآية على الوجه الأول أولى وذلك لأن اللام في قوله لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ متعلق بما هو مذكور قبل وهو محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله إذا حملنا المحو على زيادة نور القمر ونقصانه لأن سبب حصول هذه الحالة يختلف بأحوال نور القمر وأهل التجارب يبنوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه مثل أحوال البحار في المد والجزر ومثل أحوال التجربات على ما تذكره الأطباء في كتبهم وأيضاً بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الأهلة كما قال وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ فثبت أن حمل المحو على ما ذكرناه أولى وأقول أيضاً لو حملنا المحو على الكلف الحاصل في وجه القمر فهو أيضاً برهان عظيم قاهر على صحة قول المسلمين في المبدأ والمعاد أما دلالته على صحة قولهم في المبدأ فلأن جرم القمر جرم بسيط عند الفلاسفة فوجب أن يكون متشابه الصفات فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدل على أنه ليس بسبب الطبيعة بل لأجل أن الفاعل المختار خصص بعض أجزائه بالنور القوي وبعض أجزائه بالنور الضعيف وذلك يدل على أن مدبر العالم فاعل مختار لا موجب بالذت وأحسن ما ذكره الفلاسفة في الاعتذار عنه أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك فلما كانت تلك الأجرام أقل ضوأ من جرم القمر لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان وهذا لا يفيد مقصود الخصم لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء فلم ارتكزت تلك الأجرام الظلمانية في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء وبمثل هذا الطريق يتمسك في أحوال الكواكب وذلك لأن الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء فلم لم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب وذلك يدل على أن اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعين من الفلك لأجل تخصيص الفاعل المختار وكل هذه الدلائل إنما يراد من تقريرها وإيرادها التنبيه على أن المؤثر في العالم فاعل بالاختيار لا موجب بالذات والله أعلم
أما قوله وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ ففيه وجهان الأول أن معنى كونها مبصرة أي مضيئة وذلك لأن(20/132)
الإضاءة سبب لحصول الإبصار فأطلق اسم الأبصار على الإضاءة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب والثاني قال أبو عبيدة يقال قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون فيه كقوله رجل مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ورجل مضعف إذا كانت ذراريه ضعافاً فكذا قوله والنهار مبصراً أي أهله بصراء
واعلم أنه تعالى ذكر في آيات كثيرة منافع الليل والنهار قال وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 10 و 11 ) وقال أيضاً جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( القصص 73 )
ثم قال تعالى وَلِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ أي لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ
واعلم أن الحساب مبني على أربع مراتب الساعات والأيام والشهور والسنون فالعدد للسنين والحساب لما دون السنين وهي الشهور والأيام والساعات وبعد هذه المراتب الأربع لا يحصل إلا التكرار كما أنهم رتبوا العدد على أربع مراتب الآحاد والعشرات والمئات والألوف وليس بعدها إلا التكرار والله أعلم
ثم قال وَكُلَّ شَى ْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً والمعنى أنه تعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من الله تعالى على أهل الدنيا فلما شرح الله تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق كان ذلك تفصيلاً نافعاً وبياناً كاملاً فلا جرم قال وَكُلَّ شَى ْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً أي كل شيء بكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم فقد فصلناه وشرحناه وهو كقوله تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء ( الأنعام 38 ) وقوله وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء ( النحل 89 ) وقوله تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء بِأَمْرِ رَبّهَا ( الأحقاف 25 ) وإنما ذكر المصدر وهو قوله تَفْصِيلاً لأجل تأكيد الكلام وتقريره كأنه قال وفصلناه حقاً وفصلناه على الوجه الذي لا مزيد عليه والله أعلم
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه
الوجه الأول أنه تعالى لما قال وَكُلَّ شَى ْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً كان معناه أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد فقد صار مذكوراً وكل ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقد صار مذكوراً وإذا كان الأمر كذلك فقد أزيحت الأعذار وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه ونقول له اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(20/133)
الوجه الثاني أنه تعالى لما بين أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعماً عليهم بأعظم وجوه النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولاً عن أعماله وأقواله
الوجه الثالث في تقرير النظم أنه تعالى لما بين أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فلما شرح أحوال الشمس والقمر والليل والنهار كان المعنى إني إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته أنه هل أتى بتلك الخدمة والطاعة أو تمرد وعصى وبغى فهذا هو الوجه في تقرير النظم
المسألة الثانية في تفسير لفظ الطائر قولان
القول الأول أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى ازعاجه وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره قوله تعالى في سورة يس قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ( يس 18 ) إلى قوله قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ( يس 19 ) فقوله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ أي كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه وتدل على صحة هذا الوجه قراءة الحسن ومجاهد أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ
القول الثاني قال أبو عبيدة الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه فبهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر فقوله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ كناية عن أن كل ما قدره الله تعالى ومضى في علمه حصوله فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على أن كل ما قدره الله تعالى للإنسان وحكم عليه به في سابق علمه فهو واجب الوقوع ممتنع العدم وتقريره من وجهين
الوجه الأول أن تقدير الآية وكل إنسان ألزمناه عمله في عنقه فبين تعالى أن ذلك العمل لازم له وما كان لازماً للشيء كان ممتنع الزوال عنه واجب الحصول له وهو المقصود
والوجه الثاني أنه تعالى أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه لأن قوله أَلْزَمْنَاهُ تصريح بأن ذلك الإلزام إنما صدر منه ونظيره قوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى ( الفتح 26 ) وهذه الآية دالة على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) والله أعلم(20/134)
المسألة الثالثة قوله فِى عُنُقِهِ كناية عن اللزوم كما يقال جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به ويقال قلدتك كذا وطوقتك كذا أي صرفته إليك وألزمته إياك ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق ومنه يقال فلان يقلد فلاناً أي جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه قال أهل المعاني وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء بهذا المعنى لأن الذي يكون عليه إما أن يكون خيراً يزينه أو شراً يشينه وما يزين يكون كالطوق والحلي والذي يشين فهو كالغل فههنا عمله إن كان من الخيرات كان زينة له وإن كان من المعاصي كان كالغل على رقبته
ثم قال تعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً قال الحسن يا ابن آدم بسطنا لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وشمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة قوله وَنُخْرِجُ لَهُ أي من قبره يجوز أن يكون معناه نخرج له ذلك لأنه لم ير كتابه في الدنيا فإذا بعث أظهر له ذلك وأخرج من الستر وقرأ يعقوب ( ويخرج له يوم القيامة كتاباً ) أي يخرج له الطائر أي عمله كتاباً منشوراً كقوله تعالى وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ( التكوير 10 ) وقرأ ابن عمر ( يلقاه ) من قولهم لقيت فلاناً الشيء أي استقبلته به قال تعالى وَلَقَّاهُمْ نَضْرَة ً وَسُرُوراً ( الإنسان 11 ) وهو منقول بالتشديد من لقيت الشيء ولقانيه زيد
ثم قال تعالى اقْرَأْ كَتَابَكَ والتقدير يقال له وهذا القائل هو الله تعالى على ألسنة الملائكة اقْرَأْ كَتَابَكَ قال الحسن يقرؤه أمياً كان أو غير أمي وقال بكر بن عبد الله يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها حتى إذا ظن أنها أوبقته قال الله تعالى ( اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك ) فيعظم سروره ويصير من الذين قال في حقهم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس 38 39 ) ثم يقول هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( الحاقة 19 )
وأما قوله كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا أي محاسباً قال الحسن عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك قال السدي يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا والله أعلم
المسألة الرابعة قال حكماء الإسلام هذه الآية في غاية الشرف وفيها أسرار عجيبة في أبحاث
البحث الأول أنه تعالى جعل فعل العبد كالطير الذي يطير إليه وذلك لأنه تعالى قدر لكل أحد في الأزل مقداراً من الخير والشر فذلك الحكم الذي سبق في علمه الأزلي وحكمه الأزلي لا بد وأن يصل إليه فذلك الحكم كأنه طائر يطير إليه من الأزل إلى ذلك الوقت فإذا حضر ذلك الوقت وصل إليه ذلك الطائر وصولاً لا خلاص له ألبتة ولا انحراف عنه ألبتة وإذا علم الإنسان في كل قول وفعل ولمحة وفكرة أنه كان ذلك بمنزلة طئر طيره الله إليه على منهج معين وطريق معين وأنه لا بد وأن يصل إليه ذلك الطائر فعند ذلك عرف أن الكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية(20/135)
والبحث الثاني أن هذه التقديرات إنما تقدرت بإلزام الله تعالى وذلك باعتبار أنه تعالى جعل لكل حادث حادثاً متقدماً عليه لحصول الحادث المتأخر فلما كان وضع هذه السلسلة من الله لا جرم كان الكل من الله وعند هذا يتخيل الإنسان طيوراً لا نهاية لها ولا غاية لأعدادها فإنه تعالى طيرها من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب وأنها صارت وطارت طيراناً لا بداية له ولا غاية له وكان كل واحد منها متوجهاً إلى ذلك الإنسان المعين في الوقت المعين بالصفة المعينة وهذا هو المراد من قوله أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ
البحث الثالث أن التجربة تدل على أن تكرار الأعمال الاختيارية تفيد حدوث الملكة النفسانية الراسخة في جوهر النفس ألا ترى أن من واظب على تكرار قراءة درس واحد صار ذلك الدرس محفوظاً ومن واظب على عمل واحد مدة مديدة صار ذلك العمل ملكة له
إذا عرفت هذا فنقول لما كان التكرار الكثير يوجب حصول الملكة الراسخة وجب أن يحصل لكل واحد من تلك الأعمال أثر ما في جوهر النفس فإنا لما رأينا أن عند توالي القطرات الكثيرة من الماء على الحجر حصلت الثقبة في الحجر علمنا أن لكل واحد من تلك القطرات أثراً ما في حصول ذلك الثقب وإن كان ضعيفاً قليلاً وإن كانت الكتابة أيضاً في عرف الناس عبارة عن نقوش مخصوصة اصطلح الناس على جعلها معرفات لألفاظ مخصوصة فعلى هذا دلالة تلك النقوش على تلك المعاني المخصوصة دلالة كائنة جوهرية واجبة الثبوت ممتنعة الزوال كان الكتاب المشتمل على تلك النقوش أولى باسم الكتاب من الصحيفة المشتملة على النقوش الدالة بالوضع والاصطلاح
وإذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول إن كل عمل يصدر من الإنسان كثيراً كان أو قليلاً قوياً كان أو ضعيفاً فإنه يحصل منه لا محالة في جوهر النفس الإنسانية أثر مخصوص فإن كان ذلك الأثر أثراً لجذب جوهر الروح من الخلق إلى حضرة الحق كان ذلك من موجبات السعادات والكرامات وإن كان ذلك الأثر أثراً لجذب الروح من حضرة الحق إلى الاشتغال بالخلق كان ذلك من موجبات الشقاوة والخذلان إلا أن تلك الآثار تخفى ما دام الروح متعلقاً بالبدن لأن اشتغال الروح بتدبير البدن يمنع من انكشاف هذه الأحوال وتجليها وظهورها فإذا انقطع تعلق الروح عن تدبير البدن فهناك تحصل القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام ( من مات فقد قامت قيامته ) ومعنى كون هذه الحالة قيامة أن النفس الناطقة كأنها كانت ساكنة مستقرة في هذا الجسد السفلي فإذا انقطع ذلك التعلق قامت النفس وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي فهذا هو المراد من كون هذه الحالة قيامة ثم عند حصول القيامة بهذا المعنى زال الغطاء وانكشف الوطاء وقيل له فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( ق 22 ) وقوله وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً معناه ونخرج له عند حصول هذه القيامة من عمق البدن المظلم كتاباً مشتملاً على جميع تلك الآثار الحاصلة بسبب الأحوال الدنيوية ويكون هذا الكتاب في هذا الوقت منشوراً لأن الروح حين كانت في البدن كانت هذه الأحوال فيه مخفية فكانت كالمطوية أما بعد انقطاع التعلق الجسداني ظهرت هذه الأحوال وجلت وانكشفت فصارت كأنها مكشوفة منشورة بعد أن كانت مطوية وظاهرة بعد أن كانت مخفية وعند ذلك تشاهد القوة العقلية جميع تلك الآثار مكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح فيقال له في تلك الحالة اقْرَأْ كَتَابَكَ ثم يقال له كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا فإن تلك الآثار إن كانت من موجبات السعادة(20/136)
حصلت السعادة لا محالة وإن كانت من موجبات الشقاوة حصلت الشقاوة لا محالة فهذا تفسير هذه الآية بحسب الأحوال الروحانية
واعلم أن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضاً والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل والله أعلم بحقائق الأمور
مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال في الآية الأولى وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( الإسراء 13 ) ومعناه أن كل أحد مختص بعمل نفسه عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى أقرب إلى الأفهام وأبعد عن الغلط فقال مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله ولا يتعدى منه إلى غيره ويتأكد هذا بقوله وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ( النجم 39 40 ) قال الكعبي الآية دالة على أن العبد متمكن من الخير والشر وأنه غير مجبور على عمل بعينه أصلاً لأن قوله مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد أما المجبور على أحد الطرفين الممنوع من الطرف الثاني فهذا لا يليق به
المسألة الثانية أنه تعالى أعاد تقرير أن كل أحد مختص بأثر عل نفسه بقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى قال الزجاج يقال وزر يزر فهو وازر ووزر وزرا وزرة ومعناه أثم يأثم إثماً قال وفي تأويل الآية وجهان الأول أن المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره وأيضاً غيره لا يؤاخذ بذنبه بل كل أحد مختص بذنب نفسه والثاني أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم لأن غيره عمله كما قال الكفار وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّذِيرٍ ( الزخرف 32 )
واعلم أن الناس تمسكوا بهذه الآية في إثبات أحكام كثيرة
الحكم الأول
قال الجبائي في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم وإلا لكان الطفل مؤاخذاً بذنب أبيه وذلك على خلاف ظاهر هذه الآية
الحكم الثاني
روى ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله ) فعائشة طعنت في صحة هذا(20/137)
الخبر واحتجت على صحة ذلك الطعن بقوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى فإن تعذيب الميت بسبب بكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره وذلك خلاف هذه الآية
الحكم الثالث
قال القاضي دلت هذه الآية على أن الوزر والإثم ليس من فعل الله تعالى وبيانه من وجوه أحدها أنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره وثانيها أنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلاً لأن الوازر إنما يصح أن يوصف بذلك إذا كان مختاراً يمكنه التحرز ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بهذا
الحكم الرابع
أن جماعة من قدماء الفقهاء امتنعوا من ضرب الدية على العاقلة وقالوا لأن ذلك يقتضي مؤاخذة الإنسان بسبب فعل الغير وذلك على مضادة هذه الآية
وأجيب عنه بأن المخطىء ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل فكيف يصير غيره مؤاخذاً بسبب ذلك الفعل بل ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء من الله تعالى
المسألة الثالثة قال أصحابنا وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع والدليل عليه قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً وجه الاستدلال أن الوجوب لا تتقرر ماهيته إلا بترتيب العقاب على الترك ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية فوجب أن لا يتحقق الوجوب قبل الشرع ثم أكدوا هذه الآية بقوله تعالى رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) وبقوله وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( طه 134 )
ولقائل أن يقول هذا الاستدلال ضعيف وبيانه من وجهين الأول أن نقول لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي ألبتة وهذا باطل فذاك باطل بيان الملازمة من وجوه أحدها أنه إذا جاء المشرع وادعى كونه نبياً من عند الله تعالى وأظهر المعجزة فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزاته أو لا يجب فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة وإن وجب فإما أن يجب بالعقل أو بالشرع فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي وإن وجب بالشرع فهو باطل لأن ذلك الشرع إما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن ذلك الرجل يقول الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول إنه يجب قبول قولي وهذا إثبات للشيء بنفسه وإن كان ذلك الشارع غيره كان الكلام فيه كما في الأول ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان وثانيها أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم إلا أن يقول لو تركت كذا وفعلت كذا لعاقبتك فنقول إما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب فلو لم يجب عليه الاحتراز عن العقاب لم يتقرر معنى الوجوب ألبتة وهذا باطل فذاك باطل وإن وجب عليه الاحتراز عن العقاب فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع فإن وجب بالعقل فهو المقصود وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى هذا الوجوب إلا بسبب ترتيب(20/138)
العقاب عليه وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال وثالثها أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب فلم يبق إلا أن يقال إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب وهذا الخوف حاصل بمحض العقل فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف وثبت أن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل فلزم أن يقال الوجوب حاصل بمحض العقل
فإن قالوا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم
قلنا إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم فعلى هذا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه
وإذا ثبت هذا فنقول في الآية قولان الأول أن نجري الآية على ظاهرها ونقول العقل هو رسول الله إلى الخلق بل هو الرسول الذي لولاه لما تقررت رسالة أحد من الأنبياء فالعقل هو الرسول الأصلي فكان معنى الآية وما كنا معذبين حتى نبعث رسول العقل والثاني أن نخصص عموم الآية فنقول المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع وتخصيص العموم وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه عند قيام الدلائل وقد بينا قيام الدلائل الثلاثة على أنا لو نفينا الوجوب العقلي لزمنا نفي الوجوب الشرعي والله أعلم
واعلم أن الذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به وترك ما يتضرر به أما مجرد العقل لا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء وذلك لأنا مجبولون على طلب النفع والاحتراز عن الضرر فلا جرم كان العقل وحده كافياً في الوجوب في حقنا والله تعالى منزه عن طلب النفع والهرب من الضرر فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعل أو ترك فعل والله أعلم
وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا في تفسير هذا الأمر قولان
القول الأول أن المراد منه الأمر بالفعل ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه تعالى بماذا يأمرهم فقال الأكثرون معناه أنه تعالى يأمرهم بالطاعات والخيرات ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون وقال صاحب ( الكشاف ) ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون إلا أن هذا مجاز ومعناه أنه فتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا قال والدليل على أن ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه أن المأمور به إنما حذف لأن قوله فَفَسَقُواْ يدل عليه يقال أمرته فقام وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن(20/139)
المأمور به قيام أو قراءة فكذا ههنا لما قال أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة لأنا نقول إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق وهذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصر صاحب ( الكشاف ) على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكره الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عناداً وأقدموا على الفسق
القول الثاني في تفسير قوله أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أي أكثرنا فساقها قال الواحدي العرب تقول أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذ كثرهم وآمرهم أيضاً بالمد روى الجرمي عن أبي زيد أمر الله القوم وآمرهم أي كثرهم واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة ) والمعنى مهرة قد كثر نسلها يقولون أمر الله المهرة أي كثر ولدها ومن الناس من أنكر أن يكون أمر بمعنى كثر وقالوا أمر القوم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي كثرهم وحملوا قوله عليه الصلاة والسلام ( مهر مأمورة ) على أن المراد كونها مأمورة بتكثير النسل على سبيل الاستعارة وأما المترف فمعناه في اللغة المتنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش فَفَسَقُواْ فِيهَا أي خرجوا عما أمرهم الله فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ يريد استوجبت العذاب وهذا كالتفسير لقوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسراء 15 ) وقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً ( القصص 59 ) وقوله ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( الأنعام 131 ) فلما حكم تعالى في هذه الآيات أنه تعالى لا يهلك قرية حتى يخالفوا أمر الله فلا جرم ذكر أنه ها هنا يأمرهم فإذا خالفوا الأمر فعند ذلك استوجبوا الأهلاك المعبر عنه بقوله فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ وقوله فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا أي أهلكناها إهلاك الاستئصال والدمار هلاك على سبيل الاستئصال
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجوه الأول أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أراد إيصال الضرر إليهم ابتداء ثم توسل إلى إهلاكهم بهذا الطريق الثاني أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما خص المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنهم يفسقون وذلك يدل على أنه تعالى أراد منهم الفسق والثالث أنه تعالى قال فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ بالتعذيب والكفر ومتى حق عليها القول بذلك امتنع صدور الإيمان منهم لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال قال الكعبي إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب والإهلاك لقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ( الرعد 11 ) وقوله مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ ( النساء 147 ) وقوله وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( القصص 59 ) فكل هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يبتدىء بالإضرار وأيضاً ما قبل هذه الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الإسراء 15 ) ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض فثبت أن الآيات التي تلوناها محكمة وكذا الآية التي نحن في تفسيرها فيجب حمل هذه الآية(20/140)
على تلك الآيات هذا ما قاله الكعبي واعلم أن أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة القفال فإنه ذكر فيه وجهين
الوجه الأول قال إنه تعالى أخبر أنه لا يعذب أحداً بما يعلمه منه ما لم يعمل به أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره فإذا ظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه فقوله وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا معناه وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم أمرنا المتنعمين المتعززين الظانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم ترد عنهم بأسنا بالإيمان بي والعمل بشرائع ديني على ما بلغهم عني رسولي ففسقوا فحينئذ يحق عليهم القضاء السابق بإهلاكهم لظهور معاصيهم فحينئذ دمرناها والحاصل أن المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف في تحقيق ذلك الإهلاك بمجرد ذلك العلم بل أمرنا مترفيها ففسقوا فإذا ظهر منهم ذلك الفسق فحينئذ نوقع عليهم العذاب الموعود به
والوجه الثاني في التأويل أن نقول وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها لم نعاجلها بالعذاب في أول ظهور المعاصي منهم بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي وإنما خص المترفين بذلك الأمر لأن المترف هو المتنعم ومن كثرت نعم الله عليه كان قيامه بالشكر أوجب فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع مرة بعد أخرى مع أنه تعالى لا يقطع عنهم تلك النعم بل يزيدها حالاً بعد حال فحينئذ يظهر عنادهم وتمردهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحق فحينئذ يصب الله البلاء عليهم صباً ثم قال القفال وهذان التأويلان راجعان إلى أن الله تعالى أخبر عباده أنه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة حتى يعذر إليهم غاية الأعذار الذي يقع منه اليأس من إيمانهم كما قال في قوم نوح وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( نوح 27 ) وقال وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ ( هود 36 ) وقال في غيرهم فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ( يونس 74 ) فأخبر تعالى أولاً أنه لا يظهر العذاب إلا بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام ثم أخبر ثانياً في هذه الآية أنه إذا بعث الرسول أيضاً فكذبوا لم يعاجلهم بالعذاب بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ فإن بقوا مصرين على الذنوب فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال وهذا التأويل الذي ذكره القفال في تطبيق الآية على قول المعتزلة لم يتيسر لأحد من شيوخ المعتزلة مثله
وأجاب الجبائي بأن قال ليس المراد من الآية أنه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقوا وذلك لأنه ظلم وهو على الله محال بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة فكان التقدير وإذا قرب وقت إهلاك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها وهو كقول القائل إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدة وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة وليس المراد أن المريض يريد أن يموت والتاجر يريد أن يفتقر وإنما يعنون أنه سيصير كذلك فكذا ههنا
واعلم أن جميع الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في التمسك بهذه الآية لا شك أن كلها عدول عن ظاهر اللفظ أما الوجه الثاني والثالث فقد بقي سليماً عن الطعن والله أعلم
المسألة الثالثة المشهور عند القراء السبعة أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بالتخفيف غير ممدودة الألف وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس أَمْرُنَا بالمد وعن أبي عمرو أَمْرُنَا بالتشديد فالمد على الكثير يقال أمر(20/141)
القوم بكسر الميم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي كثرهم الله والتشديد على التسليط أي سلطنا مترفيها ومعناه التخلية وزوال المنع بالقهر والله أعلم
أما قوله تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ فاعلم أن المراد أن الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ويتمردون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح وهم عاد وثمود وغيرهم ثم إنه تعالى خاطب رسوله بما يكون خطاباً لغيره وردعاً وزجراً للكل فقال وَكَفَى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا وفيه بحثان
البحث الأول أنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادراً على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه وأيضاً أنه منزه عن العبث والظلم ومجموع هذه الصفات الثلاث أعني العلم التام والقدرة الكاملة والبراءة عن الظلم بشارة عظيمة لأهل الطاعة وخوف عظيم لأهل الكفر والمعصية
البحث الثاني قال الفراء لو ألغيت الباء من قولك بربك جاز وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم كقولك كفاك به وأكرم به رجلاً وطاب بطعامك طعاماً وجاد بثوبك ثوباً أما إذا لم يكن مدحاً أو ذماً لم يجز دخولها فلا يجوز أن يقال قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك والله أعلم
مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَة َ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الاٌّ خِرَة َ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَائِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَاؤُلا ءِ وَهَاؤُلا ءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلاٌّ خِرَة ُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال القفال رحمه الله هذه الآية داخلة في معنى قوله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( الإسراء 13 ) ومعناه أن الكمال في الدنيا قسمان فمنهم من يريد بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم اشفاقاً من زوال الرياسة عنه فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً لأنه في قبضة الله تعالى فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان بل كما يشاء الله إلا أن عاقبته جهنم يدخلها فيصلاها بحرها مذموماً ملوماً مدحوراً منفياً(20/142)
مطروداً من رحمة الله تعالى وفي لفظ هذه الآية فوائد
الفائدة الأولى أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة فقوله ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا إشارة إلى المضرة العظيمة وقوله مَذْمُومًا إشارة إلى الإهانة والذم وقوله مَّدْحُورًا إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص
الفائدة الثانية أن من الجهال من إذا ساعدته الدنيا اغتر بها وظن أن ذلك لأجل كرامته على الله تعالى وأنه تعالى بين أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها هي المصير إلى عذاب الله وإهانته فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السوء في لزومها له وكونها سائقة له إلى أشد العذاب
الفائدة الثالثة قوله تعالى لِمَن نُّرِيدُ يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد بل كثير من الكفار والضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا ثم يبقون محرومين عن الدنيا وعن الدين وهذا أيضاً فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضلال الذين يتركون الدين لطلب الدنيا فإنه ربما فاتتهم الدنيا فهم الأخسرون أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً
وأما القسم الثاني وهو قوله تعالى وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَة َ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فشرط تعالى فيه شروطاً ثلاثة
الشرط الأول أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) ولقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) ولأن المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته
والشرط الثاني قوله وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وذلك هو أن يكون العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرب والطاعات وكثير من الناس يتقربون إلى الله تعالى بأعمال باطلة فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان ولهم فيه تأويلان
التأويل الأول يقولون إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته فليس لنا هذا القدر والدرجة ولكن غاية قدرنا أن نشتغل بعبودية بعض المقربين من عباد الله تعالى مثل أن نشتغل بعبادة كوكب أو عبادة ملك من الملائكة ثم إن الملك والكوكب يشتغلون بعبادة الله تعالى فهؤلاء يتقربون إلى الله تعالى بهذا الطريق إلا أنه لما كان فاسداً في نفسه لا جرم لم يحصل الانتفاع به
والتأويل الثاني لهم أنهم قالوا نحن اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء ومرادنا من عبادتها أن تصير أولئك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند الله تعالى وهذا الطريق أيضاً فاسد وأيضاً نقل عن الهند أنهم يتقربون إلى الله تعالى بقتل أنفسهم تارة وبإحراق أنفسهم أخرى ويبالغون في تعظيم الله تعالى(20/143)
إلا أنه لما كان الطريق فاسداً لا جرم لم ينتفع به وكذلك القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقربون إلى الله تعالى بمذاهبهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة وأعمالهم المنحرفة عن قانون الصدق والصواب
والشرط الثالث قوله تعالى وَهُوَ مُؤْمِنٌ وهذا الشرط معتبر لأن الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدم الإيمان فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً والعمل مبروراً
واعلم أن الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال والثناء عليه بالقول والإتيان بأفعال تدل على كونه معظماً عن ذلك الشاكر والله تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة فإنه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات دالة على كونهم معظمين عند الله تعالى وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل الله تعالى ورأيت في كتب المعتزلة أن جعفر بن حرب حضر عنده واحد من أهل السنة وقال الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى أنا نشكر الله على الإيمان ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده لامتنع أن نشكره عليه لأن مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيح قال الله تعالى وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ( آل عمران 188 ) فعجز الحاضرون عن الجواب فدخل ثمامة بن الأشرس وقال إنما نمدح الله تعالى ونشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل والله تعالى يشكرنا على فعل الإيمان قال تعالى فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا قال فضحك جعفر بن حرب وقال صعب المسألة فسهلت
واعلم أن قولنا مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل كلام واضح لأنه تعالى هو الذي أعطى الموجب التام لحصول الإيمان فكان هو المستحق للشكر ولما حصل الإيمان للعبد وكان الإيمان موجباً للسعادة التامة صار العبد أيضاً مشكوراً ولا منافاة بين الأمرين
المسألة الثانية اعلم أن كل من أتى بفعل فإما أن يقصد بذلك الفعل تحصيل خيرات الدنيا أو تحصيل خيرات الآخرة أو يقصد به مجموعهما أو لم يقصد به واحداً منهما هذا هو التقسيم الصحيح أما إن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط فالله تعالى ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية
أما القسم الثالث فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً أو يكون الطلبان متعادلين
أما القسم الأول وهو أن يكون طلب الآخرة راجحاً فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى فيه بحث يحتمل أن يقال إنه غير مقبول لما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكى عن رب العزة أنه قال ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشريكه ) وأيضاً فطلب رضوان الله إما أن يقال إنه كان سبباً مستقلاً بكونه باعثاً على ذلك الفعل أو داعياً إليه وإما أن يقال ما كان كذلك فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء لأن الحكم إذا حصل مسنداً إلى سبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره(20/144)
مدخل فيه وإن كان الثاني فحينئذ يكون الحامل على ذلك الفعل والداعي إليه ذلك المجموع وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله تعالى لأن المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب كونه مغايراً لكل واحد من جزئيه فهذا القسم التحق بالقسم الذي كان الداعي إليه مغايراً لطلب رضوان الله تعالى فوجب أن يكون مقبولاً ويمكن أن يقال لما كان طلب الآخرة راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولاً وأما إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين أو كان طلب الدنيا راجحاً فهذا قد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكلية عن طلب الآخرة
وأما القسم الرابع وهو أن يقال إنه أقدم على ذلك الفعل من غير داع فهذا بناء على أن صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا فالذين يقولون إنه متوقف قالوا هذا القسم ممتنع الحصول والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث والله أعلم
ثم قال تعالى كَلاَّ أي كل واحد من الفريقين والتنوين عوض من المضاف إليه نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ أي أنه تعالى يمد الفريقين بالأموال ويوسع عليهما في الرزق مثل الأموال والأولاد وغيرهما من أسباب العز والزينة في الدنيا لأن عطاءنا ليس يضيق عن أحد مؤمناً كان أو كافراً لأن الكل مخلوقون في دار العمل فوجب إزاحة العذر وإزالة العلة عن الكل وإيصال متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح فبين تعالى أن عطاءه ليس بمحظور أي غير ممنوع يقال حظره يحظره وكل من حال بينه وبين شيء فقد حظره عليك
ثم قال تعالى انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وفيه قولان
القول الأول المعنى انظر إلى عطائنا المباح إلى الفريقين في الدنيا كيف فضلنا بعضهم على بعض فأوصلناه إلى مؤمن وقبضناه عن مؤمن آخر وأوصلناه إلى كافر وقبضناه عن كافر آخر وقد بين تعالى وجه الحكمة في هذا التفاوت فقال نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ( الزخرف 32 ) وقال في آخر سورة الأنعام وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ ( الأنعام 165 )
ثم قال وَلَلاْخِرَة ُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً والمعنى أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإذا كان الانسان تشتد رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب فضيلة الآخرة أولى
القول الثاني أن المراد أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا والمعنى أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين ونظيره قوله تعالى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( الفرقان 24 )(20/145)
لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان وجه النظم فنقول إنه تعالى لما بين أن الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العقاب والعذاب ومنهم من يريد به طاعة الله وهم أهل الثواب ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة أولها إرادة الآخرة وثانيها أن يعمل عملاً ويسعى سعياً موافقاً لطلب الآخرة وثالثها أن يكون مؤمناً لا جرم فصل في هذه الآية تلك المجملات فبدأ أولاً بشرح حقيقة الإيمان وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشركاء والأضداد فقال لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون المقدم عليها والمشتغل بها ساعياً سعياً يليق بطلب الآخرة وصار من الذين سعد طائرهم وحسن بختهم وكملت أحوالهم
المسألة الثانية قال المفسرون هذا في الظاهر خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن في المعنى عام لجميع المكلفين كقوله الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( الطلاق 1 ) ويحتمل أيضاً أن يكون الخطاب للإنسان كأنه قيل أيها الإنسان لا تجعل مع الله إلهاً آخر وهذا الاحتمال عندي أولى لأنه تعالى عطف عليه قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) إلى قوله إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ( الإسراء 23 ) وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده فعلمنا أن المخاطب بهذا هو نوع الإنسان
المسألة الثالثة معنى الآية أن من أشرك بالله كان مذموماً مخذولاً والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوه الأول أن المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذم والخذلان الثاني أنه لما ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر ولا مقدر إلا الواحد الأحد فعلى هذا التقدير تكون جميع النعم حاصلة من الله تعالى فمن أشرك بالله فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير الله تعالى مع أن الحق أن كلها من الله فحينئذ يستحق الذم لأن الخالق تعالى استحق الشكر بإعطاء تلك النعم فلما جحد كونها من الله فقد قابل إحسان الله تعالى بالإساءة والجحود والكفران فاستوجب الذم وإنما قلنا إنه يستحق الخذلان لأنه لما أثبت شريكاً لله تعالى استحق أن يفوض أمره إلى ذلك الشريك فلما كان ذلك الشريك معدوماً بقي بلا ناصر ولا حافظ ولا معين وذلك عين الخذلان الثالث أن الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة فمن أثبت الشريك فقد وقع في جانب النقصان واستوجب الذم والخذلان واعلم أنه لما دل لفظ الآية على أن المشرك مذموم مخذول وجب بحكم الآية أن يكون الموحد ممدوحاً منصوراً والله أعلم
المسألة الرابعة القعود المذكور في قوله فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً فيه وجوه الأول أن معناه المكث أي فتمكث في الناس مذموماً مخذولاً وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى فإذا سأل الرجل غيره ما يصنع فلان في تلك البلدة فيقول المجيب هو قاعد بأسوأ حال معناه المكث سواء كان قائماً أو جالساً الثاني إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه الثالث أن المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها والسعي إنما يتأتى بالقيام وأما العاجز عن تحصيلها فإنه لا يسعى بل يبقى جالساً قاعداً عن الطلب فلما كان القيام على الرجل أحد الأمور التي بها يتم الفوز بالخيرات وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات والقعود كناية عن العجز والضعف(20/146)
المسألة الخامسة قال الواحدي قوله ( فتقعد ) انتصب لأنه وقع بعد الفاء جواباً للنهي وانتصابه بإضمار ( أن ) كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك والتقدير لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء التي هي حرف العطف وإنما سماه النحويون جواباً لكونه مشابهاً للجزاء في أن الثاني مسبب عن الأول ألا ترى أن المعنى إن انقطعت جفوتك كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهاً آخر قعدت مذموماً مخذولاً
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا
اعلم أنه لما ذكر في الآية الأولى ما هو الركن الأعظم في الأيمان أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه وهي أنواع
النوع الأول أن يكون الإنسان مشتغلاً بعبادة الله تعالى وأن يكون محترزاً عن عبادة غير الله تعالى وهذا هو المراد من قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وفيه بحثان
البحث الأول القضاء معناه الحكم الجزم البت الذي لا يقبل النسخ والدليل عليه أن الواحد منا إذا أمر غيره بشيء فإنه لا يقال إنه قضى عليه أما إذا أمره أمراً جزماً وحكم عليه بذلك الحكم على سبيل البت والقطع فههنا يقال قضى عليه ولفظ القضاء في أصل اللغة يرجع إلى إتمام الشيء وانقطاعه وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرىء وَقَضَى رَبُّكَ ثم قال ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأن خلاف قضاء الله ممتنع هكذا رواه عنه الضحاك وسعيد بن جبير وهو قراءة علي وعبد الله
واعلم أن هذا القول بعيد جداً لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين
البحث الثاني قد ذكرنا أن هذه الآية تدل على وجوب عبادة الله تعالى وتدل على المنع عن عبادة غير الله تعالى وهذا هو الحق وذلك لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ونهاية الإنعام عبارة عن إعطاء الوجود والحياة والقدرة والشهوة والعقل وقد ثبت بالدلائل أن المعطي لهذه الأشياء هو الله تعالى لا غيره وإذا كان المنعم بجميع النعم هو الله لا غيره لا جرم كان المستحق للعبادة هو الله تعالى لا غيره فثبت بالدليل العقلي صحة قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة ِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاٌّ وَّابِينَ غَفُوراً(20/147)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى أمر بعبادة نفسه ثم أتبعه بالأمر ببر الوالدين وبيان المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى وبين الأمر ببر الوالدين من وجوه
الوجه الأول أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده والسبب الظاهري هو الأبوان فأمر بتعظيم السبب الحقيقي ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري
الوجه الثاني أن الموجود إما قديم وإما محدث ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله عليه السلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) وأحق الخلق بصرف الشفقة إليه هو الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان فقوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إشارة إلى الشفقة على خلق الله
الوجه الثالث أن الاشتغال بشكر المنعم واجب ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى وقد يكون أحد من المخلوقين منعماً عليك وشكره أيضاً واجب لقوله عليه السلام ( من لم يشكر الناس لم يشكر الله ) وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل ما للوالدين وتقريره من وجوه أحدها أن الولد قطعة من الوالدين قال عليه السلام ( فاطمة بضعة مني ) وثانيها أن شفقة الأبوين على الولد عظيمة وجدهما في إيصال الخير إلى الولد كالأمر الطبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه كالأمر الطبيعي ومتى كانت الدواعي إلى إيصال الخير متوفرة والصوارف عنه زائلة لا جرم كثر إيصال الخير فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة أكثر من كل نعمة تصل من إنسان إلى إنسان وثالثها أن الإنسان حال ما يكون في غاية الضعف ونهاية العجز يكون في إنعام الأبوين فاصناف نعمهما في ذلك الوقت واصلة إليه وأصناف رحمة ذلك الولد واصلة إلى الوالدين في ذلك الوقت ومن المعلوم أن الإنعام إذا كان واقعاً على هذا الوجه كان موقعه عظيماً ورابعها أن إيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه وقد يمتزج بهذا الغرض سائر الأغراض وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فقط فكان الإنعام فيه أتم وأكمل فثبت أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد فبدأ الله تعالى بشكر نعمة الخالق وهو قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً والسبب فيه ما بينا أن أعظم النعم بعد إنعام الإله الخالق نعمة الوالدين
فإن قيل الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لنفسيهما فلزم منه دخول الولد في الوجود وحصوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام للأبوين على الولد حكي أن واحداً من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة وقيل لأبي العلاء المعري ماذا نكتب على قبرك قال اكتبوا عليه(20/148)
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد وقال في ترك التزوج والولد
وتركت أولادي وهم في نعمة ال
عدم التي سبقت نعيم العاجل ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة
ترمي بهم في موبقات الآجل وقيل للإسكندر أستاذك أعظم منة عليك أم والدك فقال الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي أرتعني في نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه وأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد ومن الكلمات المشهورة المأثورة خير الآباء من علمك
والجواب هب أنهما في أول الأمر طلبا لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات وفي دفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات فسقطت هذه الشبهات والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً قال أهل اللغة تقدير الآية وقضى ربك ألا تعبدوا إلا الله وأن تحسنوا أو يقال وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وأحسنوا بالوالدين إحساناً قال صاحب ( الكشاف ) ولا يجوز أن تتعلق الباء في وَبِالْوالِدَيْنِ بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ثم لم يذكر دليلاً على أن المصدر لا يجوز أن تتقدم عليه صلته وقال الواحدي في ( البسيط ) الباء في وَبِالْوالِدَيْنِ من صلة الإحسان وقدمت عليه كما تقول بزيد فامرر وهذا المثال الذي ذكره الواحدي غير مطابق لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه والمثال المذكور ليس كذلك
المسألة الثالثة قال القفال لفظ الإحسان قد يوصل بحرف الباء تارة وبحرف إلى أخرى وكذلك الإساءة يقال أحسنت به وإليه وأسأت به وإليه قال الله تعالى وَقَدْ أَحْسَنَ بَى ( يوسف 100 ) وقال القائل
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت وأقول لفظ الآية مشتمل على قيود كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين أحدها أنه تعالى قال في الآية المتقدمة وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَة َ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) ثم إنه تعالى أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة فذكر من جملتها البر بالوالدين وذلك يدل على أن هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة وثانيها أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة وثالثها أنه تعالى لم يقل وإحساناً بالوالدين بل قال وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً فتقديم ذكرهما يدل على شدة الاهتمام ورابعها أنه قال إِحْسَاناً بلفظ التنكير والتنكير يدل على التعظيم والمعنى وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً عظيماً كاملاً وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء وفي الأمثال المشهورة أن البادي بالبر لا يكافأ(20/149)
ثم قال تعالى إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( إما ) لفظة مركبة من لفظتين إن وما أما كلمة إن فهي للشرط وأما كلمة ( ما ) فهي أيضاً للشرط كقوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ ( البقرة 106 ) فلما جمع بين هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط إلا أن علامة الجزم لم تظهر مع نون التوكيد لأن الفعل يبنى مع نون التأكيد وأقول لقائل أن يقول إن نون التأكيد إنما يليق بالموضع الذي يكون اللائق به تأكيد ذلك الحكم المذكور وتقريره وإثباته على أقوى الوجوه إلا أن هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع لأن قول القائل الشيء إما كذا وإما كذا فالمطلوب منه ترديد الحكم بين ذينك الشيئين المذكورين وهذا الموضع لا يليق به التقرير والتأكيد فكيف يليق الجمع بين كلمة إما وبين نون التأكيد
وجوابه أن المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما أن لا يقع والله أعلم
المسألة الثانية قرأ الأكثرون أَمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا وعلى هذا التقدير فقوله يَبْلُغَنَّ فعل وفاعله هو قوله أَحَدُهُمَا وقوله أَوْ كِلاَهُمَا عطف عليه كقولك ضرب زيد أو عمرو ولو أسند قوله يَبْلُغَنَّ إلى قوله كِلاَهُمَا جاز لتقدم الفعل تقول قال رجل وقال رجلان وقالت الرجال وقرأ حمزة والكسائي يبلغان وعلى هذه القراءة فقوله رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين وكلاهما عطف على أحدهما فاعلاً أو بدلاً
فإن قيل لو قيل إما يبلغان كلاهما كان كلاهما توكيداً لا بدلاً فلم زعمتم أنه بدل
قلنا لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله في كونه بدلاً
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال قوله أَحَدُهُمَا بدل وقوله أَوْ كِلاَهُمَا توكيد ويكون ذلك عطفاً للتوكيد على البدل
قلنا العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلاً والآخر توكيداً خلاف الأصل والله أعلم
المسألة الثالثة قال أبو الهيثم الرازي وأبو الفتح الموصلي وأبو علي الجرجاني إن كلاً اسم مفرد يفيد معنى التثنية ووزنه فعل ولامه معتل بمنزلة لام حجي ورضي وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة ولا تكون إلا مضافة والدليل عليه أنها لو كانت تثنية لوجب أن يقال في النصب والخفض مررت بكلى الرجلين بكسر الياء كما تقول بين يدي الرجل ومن ثلثي الليل ويا صاحبي السجن وطرفي النهار ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست تثنية بل هي لفظة مفردة وضعت للدلالة على التثنية كما أن لفظة كل اسم واحد موضوع للجماعة فاذن أخبرت عن لفظة كما تخبر عن الواحد كقوله تعالى وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَرْداً ( مريم 95 ) وكذلك إذا أخبرت عن كلا أخبرت عن واحد فقلت كلا إخوتك كان قائماً قال الله تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا ( الكهف 33 ) ولم يقل آتتا والله أعلم
المسألة الرابعة قوله يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا معناه أنهما يبلغان إلى حالة الضعف والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر(20/150)
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الجملة فعند هذا الذكر كلف الإنسان في حق الوالدين بخمسة أشياء
النوع الأول قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج فيه سبع لغات كسر الفاء وضمها وفتحها وكل هذه الثلاثة بتنوين وبغير تنوين فهذه ستة واللغة السابعة أفي بالياء قال الأخفش كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه فقال قولي هذا وذكر ابن الأنباري من لغات هذه اللفظة ثلاثة زائدة على ما ذكره الزجاج أُفّ بكسر الألف وفتح الفاء وافه بضم الألف وادخال الهاء و أُفّ بضم الألف وتسكين الفاء
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين ونافع وحفص بكسر الفاء والتنوين والباقون بكسر الفاء من غير تنوين وكلها لغات وعلى هذا الخلاف في سورة الأنبياء أُفّ لَّكُمْ ( الأنبياء 67 ) وفي الأحقاف أُفّ لَّكُمَا ( الأحقاف 17 ) وأقول البحث المشكل ههنا أنا لما نقلنا عشرة أنواع من اللغات في هذه اللفظة فما السبب في أنهم تركوا أكثر تلك اللغات في قراءة هذه اللفظة واقتصروا على وجوه قليلة منها
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير هذه اللفظة وجوهاً الأول قال الفراء تقول العرب جعل فلان يتأفف من ريح وجدها معناه يقول أف أف الثاني قال الأصمعي الأف وسخ الأذن والتف وسخ الظفر يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوا عند كل ما يتأذون به الثالث قال بعضهم أف معناه قلة وهو مأخوذ من الأفيف وهو الشيء القليل وتف أتباع له كقولهم شيطان ليطان خبيث نبيث الرابع روى ثعلب عن ابن الأعرابي الأف الضجر الخامس قال القتبي أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد نفخت فيه لتزيله والصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قولك أف ثم إنهم توسعوا فذكروا هذه اللفظة عند كل مكروه يصل إليهم السادس قال الزجاج أف معناه النتن وهذا قول مجاهد لأنه قال معنى قوله وَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك كنت تخر أو تبول وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف
المسألة الرابعة قول القائل لا تقل لفلان أف مثل يضرب للمنع من كل مكروه وأذية وإن خف وقل واختلف الأصوليون في أن دلالة هذا للفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالة لفظية أو دلالة مفهومة بمقتضى القياس قال بعضهم إنها دلالة لفظية لأن أهل العرف إذا قالوا لا تقل لفلان أف عنوا به أنه لا يتعرض له بنوع من أنواع الإيذاء والايحاش وجرى هذا مجرى قولهم فلان لا يملك نقيراً ولا قطميراً في أنه بحسب العرف يدل على أنه لا يملك شيئاً
والقول الثاني أن هذا اللفظ إنما يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء بحسب القياس الجلي وتقريره أن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن حكم صورة أخرى فإذا أردنا إلحاق الصورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها فهذا على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محل السكوت أولى من ثبوته في محل الذكر مثل هذه الصورة فإن اللفظ إنما دل على المنع من التأفيف والضرب أولى بالمنع من التأفيف وثانيها أن يكون الحكم في محل السكوت مساوياً للحكم في محل الذكر وهذا هو الذي يسميه الأصوليون القياس في معنى الأصل وضربوا لهذا مثلاً وهو قوله عليه(20/151)
السلام ( من أعتق نصيباً له من عبد قوم عليه الباقي ) فإن الحكم في الأمة والعبد متساويان وثالثها أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكبر القياسات
إذا عرفت هذا فنقول المنع من التأفيف إنما يدل على المنع من الضرب بواسطة القياس الجلي الذي يكون من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى والدليل عليه أن التأفيف غير الضرب فالمنع من التأفيف لا يكون منعاً من الضرب وأيضاً المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلاً لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكاً عظيماً كان عدواً له فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته وإذا كان هذا معقولاً في الجملة علمنا أن المنع من التأفيف مغاير للمنع من الضرب وغير مستلزم للمنع من الضرب عقلاً في الجملة إلا أنا علمنا في هذه الصورة أن المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين بدليل قوله وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَة ِ فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب من باب القياس بالأدنى على الأعلى والله أعلم
النوع الثاني من الأشياء التي كلف الله تعالى العباد بها في حق الأبوين قوله وَلاَ تَنْهَرْهُمَا يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره قال تعالى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ( الضحى 10 )
فإن قيل المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بطريق الأولى فلما قدم المنع من التأفيف كان ذكر المنع من الانتهار بعده عبثاً أما لو فرضنا أنه قدم المنع من الانتهار ثم أتبعه بالمنع من التأفيف كان مفيداً حسناً لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف فما السبب في رعاية هذا الترتيب
قلنا المراد من قوله فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ المنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير والمراد من قوله وَلاَ تَنْهَرْهُمَا المنه من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له
النوع الثالث قوله تعالى وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا واعلم أنه تعالى لما منع الإنسان بالآية المتقدمة عن ذكر القول المؤذي الموحش والنهي عن القول المؤذي لا يكون أمراً بالقول الطيب لا جرم أردفه بأن أمره بالقول الحسن والكلام الطيب فقال وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا والمراد منه أن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم والاحترام قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أن يقول له يا أبتاه يا أماه وسئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال هو قول العبد المذنب للسيد الفظ وعن عطاء أن يقال هو أن تتكلم معه بشرط أن لا ترفع عليهما صوتك ولا تشد إليهما نظرك وذلك لأن هذين الفعلين ينافيان القول الكريم
فإن قيل إن إبراهيم عليه السلام كان أعظم الناس حلماً وكرماً وأدباً فكيف قال لأبيه يا آزر على قراءة من قرأ وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ بالضم إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 74 ) فخاطبه بالاسم وهو إيذاء ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال وهو أعظم أنواع الإيذاء
قلنا إن قوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً يدل على أن حق الله تعالى مقدم على حق الأبوين فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديماً لحق الله تعالى على حق الأبوين
النوع الرابع قوله وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَة ِ والمقصود منه المبالغة في التواضع وذكر(20/152)
القفال رحمه الله في تقريره وجهين الأول أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية فكأنه قال للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك والثاني أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه
فإن قيل كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له
قلنا فيه وجهان الأول أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال حاتم الجود فكما أن المراد هناك حاتم الجواد فكذلك ههنا المراد واخفض لهما جناحك الذليل أي المذلول والثاني أن مدار الاستعارة على الخيالات فههنا تخيل للذل جناحاً وأثبت لذلك الجناح ضعفاً تكميلاً لأمر هذه الاستعارة كما قال لبيد
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فأثبت للشمال يداً ووضع زمامها في يد الشمال فكذا ههنا وقوله مِنَ الرَّحْمَة ِ معناه ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما
والنوع الخامس قوله وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا وفيه مباحث
البحث الأول قال القفال رحمه الله تعالى إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول رَّبّ ارْحَمْهُمَا ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا ثم يقول كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي والتربية هي التنمية وهي من قولهم ربا الشيء إذا انتفع ومنه قوله تعالى فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( فصلت 39 )
البحث الثاني اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال
القول الأول أنها منسوخة بقوله تعالى مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( التوبة 113 ) فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ولا يقول رب ارحمهما
والقول الثاني أن هذه الآية غير منسوخة ولكنها مخصوصة في حق المشركين وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ
والقول الثالث أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان
البحث الثالث ظاهر الأمر للوجوب فقوله وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا أمر وظاهر الأمر لا يفيد التكرار فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرة واحدة سئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه أفي اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة فقال نرجو أن نجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قال النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ( الأحزاب 56 ) فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكما أن الله تعالى قال وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( البقرة 203 ) فهم يكررون في أدبار الصلوات(20/153)
ثم قال تعالى رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ والمعنى أنا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله تعالى وبالإحسان بالوالدين ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها فاعلموا أن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها لأن علوم البشر قد يختلط بها السهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل فأما علم الله فمنزه عن كل هذه الأحوال وإذا كان الأمر كذلك كان عالماً بكل ما في قلوبكم والمقصود منه التحذير عن ترك الإخلاص
ثم قال تعالى إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ أي إن كنتم برآء عن جهات الفساد في أحوال قلوبكم كنتم أوابين أي رجاعين إلى الله منقطعين إليه في كل الأعمال وسنة الله وحكمه في الأوابين أنه غفور لهم يكفر عنهم سيآتهم والأواب هو الذي من عادته وديدنه الرجوع إلى أمر الله تعالى والالتجاء إلى فضله ولا يلتجىء إلى شفاعة شفيع كما يفعله المشركون الذين يعبدون من دون الله جماداً يزعمون أنه يشفع لهم ولفظ الأواب على وزن فعال وهو يفيد المداومة والكثرة كقولهم قتال وضراب والمقصود من هذه الآية أن الآية الأولى لما دلت على وجوب تعظيم الوالدين من كل الوجوه ثم إن الولد قد يظهر منه نادرة مخلة بتعظيمهما فقال رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ يعني أنه تعالى عالم بأحوال قلوبكم فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلة البشرية كانت في محل الغفران والله أعلم
وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَة ٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من أعمال الخير والطاعة المذكورة في هذه الآيات وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَءاتِ خطاب مع من فيه قولان
القول الأول أنه خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأمره الله أن يؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة وأوجب عليه أيضاً إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضاً من هذين المثالين
والقول الثاني أنه خطاب للكل والدليل عليه أنه معطوف على قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) والمعنى أنك بعد فراغك من بر الوالدين يجب أن تشتغل ببر سائر الأقارب الأقرب فالأقرب ثم بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل
واعلم أن قوله تعالى وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ مجمل وليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وعند الشافعي رحمه الله أنه لا يجب الانفاق إلا على الولد والوالدين وقال قوم يجب الإنفاق على المحارم بقدر(20/154)
الحاجة واتفقوا على أن من لم يكن من المحارم كأبناء العم فلا حق لهم إلا الموادة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة في السراء والضراء أما المسكين وابن السبيل فقد تقدم وصفهما في سورة التوبة في تفسير آية الزكاة ويجب أن يدفع إلى المسكين ما يفي بقوته وقوت عياله وأن يدفع إلى ابن السبيل ما يكفيه من زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده
ثم قال تعالى وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا والتبذير في اللغة إفساد المال وإنفاقه في السرف قال عثمان بن الأسود كنت أطوف في المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قبيس وقال لو أن رجلاً أنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين ولو أنفق درهماً واحداً في معصية الله كان من المسرفين وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقيل له لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير وعن عبد الله بن عمر قال مر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسعد وهو يتوضأ فقال ما هذا السرف يا سعد فقال أو في الوضوء سرف قال نعم وإن كنت على نهر جارٍ ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين فقال إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ والمراد من هذه الأخوة التشبه بهم في هذا الفعل القبيح وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشيء أخاً له فيقولون فلان أخو الكرم والجود وأخو السفر إذا كان مواظباً على هذه الأعمال وقيل قوله إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ أي قرناءهم في الدنيا والآخرة كما قال وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( الأعراف 36 ) وقال تعالى احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ ( الصافات 22 ) أي قرناءهم من الشياطين ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان فقال وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا ومعنى كون الشيطان كفوراً لربه هو أنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض والإضلال للناس وكذلك كل من رزقه الله تعالى مالاً أو جاهاً فصرفه إلى غير مرضاة الله تعالى كان كفوراً لنعمة الله تعالى والمقصود أن المبذرين إخوان الشياطين بمعنى كونهم موافقين للشياطين في الصفة والفعل ثم الشيطان كفور لربه فيلزم كون المبذر أيضاً كفوراً لربه وقال بعض العلماء خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أعمالهم في هذا الباب
ثم قال تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا والمعنى أنك إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا أي سهلاً ليناً وقوله ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا كناية عن الفقر لأن فاقد المال يطلب رحمة الله وإحسانه فلما كان فقد المال سبباً لهذا الطلب ولهذا الابتغاء أطلق اسم السبب على المسبب فسمى الفقر بابتغاء رحمة الله تعالى والمعنى أن عند حصول الفقر والقلة لا تترك تعهدهم بالقول الجميل والكلام الحسن بل تعدهم بالوعد الجميل وتذكر لهم العذر وهو حصول القلة وعدم المال أو تقول لهم الله يسهل وفي تفسير القول الميسور وجوه الأول القول الميسور هو الرد بالطريق الأحسن والثاني القول الميسور اللين السهل قال الكسائي يسرت أيسر له القول أي لينته له الثالث قال بعضهم القول الميسور مثل قوله قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَة ٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَة ٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ( البقرة 363 ) قالوا والميسور هو المعروف لأن القول المتعارف لا يحوج إلى تكلف والله أعلم(20/155)
وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
اعلم أنه تعالى لما أمره بالانفاق في الآية المتقدمة علمه في هذه الآية أدب الإنفاق واعلم أنه تعالى شرح وصف عبادة المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) فههنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات والمعنى لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيء وحاصل الكلام أن الحكماء ذكروا في كتب ( الأخلاق ) أن لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان فالبخل إفراط في الإمساك والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان والخلق الفاضل هو العدل والوسط كما قال تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا
ثم قال تعالى فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً أما تفسير تقعد فقد سبق في الآية المتقدمة وأما كونه ملوماً فلأنه يلوم نفسه وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة وأما كونه محسوراً فقال الفراء تقول العرب للبعير هو محسور إذا انقطع سيره وحسرت الدابة إذا سيرها حتى ينقطع سيرها ومنه قوله تعالى يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ( الملك 4 ) وجمع الحسير حسرى مثل قتلى وصرعى وقال القفال المقصود تشبيه حال من أنفق كل ماله ونفقاته بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته لأن ذلك المقدار من المال كأنه مطية يحمل الإنسان ويبلغه إلى آخر الشهر أو السنة كما أن ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزاً متحيراً فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدة شهر بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ومن فعل هذا لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره وترك الحزم في مهمات معاشه
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ والمقصود أنه عرف رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) كونه رباً والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض والقدر في اللغة التضييق ومنه قوله تعالى وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( الطلاق 7 ) وقوله تعالى وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ( الفجر 16 ) أي ضيق وإنما وسع على البعض لأن ذلك هو الصلاح لهم قال تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ وَلَاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء ( الشورى 27 )
ثم قال تعالى إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا يعنى أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا(20/156)
يعطيه إلا ذلك القدر فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية المصالح
وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا
هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير النظم وجوه
الوجه الأول أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ( الإسراء 30 ) أتبعه بقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم
الوجه الثاني أنه تعالى لما علم كيفية البر بالوالدين في الآية المتقدمة علم في هذه الآية كيفية البر بالأولاد ولهذا قال بعضهم إن الذين يسمون بالأبرار إنما سموا بذلك لأنهم بروا الآباء والأبناء وإنما وجب بر الآباء مكافأة على ما صدر منهما من أنواع البر بالأولاد وإنما وجب البر بالأولاد لأنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين
الوجه الثالث أن امتناع الأولاد من البر بالآباء يوجب خراب العالم لأن الآباء إذا علموا ذلك قلت رغبتهم في تربية الأولاد فيلزم خراب العالم من الوجه الذي قررناه فثبت أن عمارة العالم إنما تحصل إذا حصلت المبرة بين الآباء والأولاد من الجانبين
الوجه الرابع أن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن بالله وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم فالأول ضد التعظيم لأمر الله تعالى والثاني ضد الشفقة على خلق الله تعالى وكلاهما مذموم والله أعلم
الوجه الخامس أن قرابة الأولاد قرابة الجزئية والبعضية وهي من أعظم الموجبات للمحبة فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح وقسوة في القلب وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة فرغب الله في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة
المسألة الثانية العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على النهب والغارة وأيضاً كانوا يخافون أن فقرها ينفر كفأها عن الرغبة فيها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء وفي ذلك عار شديد فقال تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ وهذا لفظ عام للذكور والإناث والمعنى أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولداً وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور وبين الإناث وأما ما يخاف من الفقر من البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر وقد يخاف أيضاً في العاجزين من البنين
ثم قال تعالى نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم يعني الأرزاق بيد الله تعالى فكما أنه تعالى فتح أبواب الرزق على الرجال فكذلك يفتح أبواب الرزق على النساء
المسألة الثالثة الجمهور قرؤا إن قتلهم كان خطأ كبيراً أي إثماً كبيراً يقال خطىء يخطأ خطأ مثل(20/157)
أثم يأثم إثماً قال تعالى إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ( يوسف 97 ) أي آثمين وقرأ ابن عامر خطأ بالفتح يقال أخطأ يخطىء إخطاء وخطأ إذا أتى بما لا ينبغي من غير قصد ويكون الخطأ اسماً للمصدر والمعنى على هذه القراءة أن قتلهم ليس بصواب قال القفال رحمه الله وقرأ ابن كثير خطاء بكسر الخاء ممدودة ولعلهما لغتان مثل دفع ودفاع ولبس ولباس
وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَسَآءَ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما أمر بالأشياء الخمسة التي تقدم ذكرها وحاصلها يرجع إلى شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله أتبعها بذكر النهي عن أشياء أولها أنه تعالى نهى عن الزنا فقال وَلاَ تَقْرَبُواْ قال القفال إذا قيل للإنسان لا تقربوا هذا فهذا آكد من أن يقول له لا تفعله ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه كَانَ فَاحِشَة ً وَسَاء سَبِيلاً
واعلم أن الناس قد اختلفوا في أنه تعالى إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء فهل يصح أن يقال إنه تعالى إنما أمر بذلك الشيء أو نهى عنه لوجه عائد إليه أم لا فقال القائلون بتحسين العقل وتقبيحه الأمر كذلك وقال المنكرون لتحسين العقل وتقبيحه ليس الأمر كذلك احتج القائلون بتحسين العقل وتقبيحه على صحة قولهم بهذه الآية قالوا إنه تعالى نهى عن الزنا وعلل ذلك النهي بكونه فاحشة فيمتنع أن يكون كونه فاحشة عبارة عن كونه منهياً عنه وإلا لزم تعليل الشيء بنفسه وهو محال فوجب أن يقال كونه فاحشة وصف حاصل له باعتبار كونه زنا وذلك يدل على أن الأشياء تحسن وتقبح لوجوه عائدة إليها في أنفسها ويدل أيضاً على أن نهي الله تعالى عنها معلل بوقوعها في أنفسها على تلك الوجوه وهذا الاستدلال قريب والأولى أن يقال إن كون الشيء في نفسه مصلحة أو مفسدة أمر ثابت لذاته لا بالشرع فإن تناول الغذاء الموافق مصلحة والضرب المؤلم مفسدة وكونه كذلك أمر ثابت بالعقل لا بالشرع
وإذا ثبت هذا فنقول تكاليف الله تعالى واقعة على وفق مصالح العالم في المعاش والمعاد فهذا هو الكلام الظاهري وفيه مشكلات هائلة ومباحث عميقة نسأل الله التوفيق لبلوغ الغاية فيها
إذا عرفت هذا فنقول الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد أولها اختلاط الأنساب واشتباهها فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره فلا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده وذلك يوجب ضياع الأولاد وذلك يوجب انقطاع النسل وخراب العالم وثانيها أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل أولى بهذه المرأة من غيره لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل وذلك يفضي إلى فتح باب الهرج والمرج والمقاتلة وكم سمعنا وقوع القتل الذريع بسبب إقدام المرأة الواحدة على الزنا وثالثها أن المرأة إذا باشرت الزنا وتمرنت عليه يستقذرها كل طبع سليم وكل خاطر مستقيم وحينئذ لا تحصل الألفة والمحبة ولا يتم السكن والإزدواج ولذلك فإن المرأة إذا اشتهرت بالزنا تنفر عن مقارنتها طباع أكثر الخلق ورابعها أنه إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم(20/158)
فرق في هذا الباب وخامسها أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب وأن تكون قائمة بأمور الأولاد والعبيد وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية وسادسها أن الوطء يوجب الذل الشديد والدليل عليه أن أعظم أنواع الشتم عند الناس ذكر ألفاظ الوقاع ولولا أن الوطء يوجب الذل وإلا لما كان الأمر كذلك وأيضاً فإن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا في المواضع المستورة وفي الأوقات التي لا يطلع عليهم أحد وأن جميع العقلاء يستنكفون عن ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم لما يقدمون على وطئهن ولولا أن الوطء ذل وإلا لما كان كذلك
وإذا ثبت هذا فنقول لما كان الوطء ذلاً كان السعي في تقليله موافقاً للعقول فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعى في تقليل ذلك العمل وأيضاً ما فيه من الذل يصير مجبوراً بالمنافع الحاصلة في النكاح أما الزنا فإنه فتح باب لذلك العمل القبيح ولم يصر مجبوراً بشيء من المنافع فوجب بقاؤه على أصل المنع والحجر فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضي على الزنا بالقبح
وإذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى وصف الزنا بصفات ثلاثة كونه فاحشة ومقتاً في آية أخرى وَسَاء سَبِيلاً أما كونه فاحشة فهو إشارة إلى اشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم وإلى اشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج وهو أيضاً يوجب خراب العالم وأما المقت فقد ذكرنا أن الزانية تصير ممقوتة مكروهة وذلك يوجب عدم حصول السكن والازدواج وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه وأما أنه ساء سبيلاً فهو ما ذكرنا أنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث وأيضاً يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة من غير أن يصير مجبوراً بشيء من المنافع فقد ذكرنا في قبح الزنا ستة أوجه والله تعالى ذكر ألفاظاً ثلاثة فحملنا كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة على وجهين من تلك الوجوه الستة والله أعلم بمراده
وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا
هذا هو النوع الثاني مما نهى الله عنه في هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله القتل فما السبب في أن الله تعالى بدأ أولاً بذكر النهي عن الزنا وثانياً بذكر النهي عن القتل
وجوابه أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده فلهذا السبب ذكر الله تعالى(20/159)
الزنا أولاً ثم ذكر القتل ثانياً
المسألة الثانية اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة والحل إنما يثبت بسبب عارضي فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى الله عن القتل مطلقاً بناء على حكم الأصل ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال إِلاَّ بِالْحَقّ فنفتقر ههنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم والذي يدل عليه وجوه الأول أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) ولا يريد بكم العسر ولا ضرر ولا ضرار الثاني قوله عليه السلام ( الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب ) الثالث أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) ولقوله عليه السلام ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل الرابع أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ ( الأعراف 85 ) الخامس أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجح وهو محال السادس أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنساناً عاقلاً حكمنا فيه بتحريم قتله وما لم نعرف شيئاً زائداً على كونه إنساناً لم نحكم فيه بحل دمه ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية
وإذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ فقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ نهي وتحريم وقوله حَرَّمَ اللَّهُ إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال إِلاَّ بِالْحَقّ ثم ههنا طريقان
الطريق الأول أن مجرد قوله إِلاَّ بِالْحَقّ مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو ثم إنه تعالى قال وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً أي في استيفاء القصاص من القاتل وهذا الكلام يصلح جعله بياناً لذلك المجمل وتقريره كأنه تعالى قال وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وذلك الحق هو أن من قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً في استيفاء القصاص وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط فصار تقدير الآية ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا عند القصاص وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصاً صريحاً في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة
والطريق الثاني أن نقول دلت السنة على أن ذلك الحق هو أحد أمور ثلاثة وهو قوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق )
واعلم أن هذا الخبر من باب الآحاد فإن قلنا إن قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً تفسير لقوله إِلاَّ بِالْحَقّ كانت الآية صريحة في أنه لا يحل القتل إلا بهذا السبب الواحد فحينئذ يصير هذا الخبر مخصصاً لهذه الآية ويصير ذلك فرعاً لقولنا إنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وأما إن قلنا إن قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً ليس تفسيراً لقوله إِلاَّ بِالْحَقّ فحينئذ يصير هذا(20/160)
الخبر مفسراً للحق المذكور في الآية وعلى هذا التقدير لا يصير هذا فرعاً على مسألة جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد فلتكن هذه الدقيقة معلومة والله أعلم
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية أنه لا سبب لحل القتل إلا قتل المظلوم وظاهر الخبر يقتضي ضم شيئين آخرين إليه وهو الكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان ودلت آية أخرى على حصول سبب رابع وهو قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ( المائدة 33 ) ودلت آية أخرى على حصول سبب خامس وهو الكفر قال تعالى قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 29 ) وقال وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( النساء 89 ) والفقهاء تكلموا واختلفوا في أشياء أخرى فمنها أن تارك الصلاة هل يقتل أم لا فعند الشافعي رحمه الله يقتل وعن أبي حنيفة رحمه الله لا يقتل وثانيها أن فعل اللواط هل يوجب القتل فعند الشافعي يوجب وعند أبي حنيفة لا يوجب وثالثها أن الساحر إذا قال قتلت بسحري فلاناً فعند الشافعي يوجب القتل وعند أبي حنيفة لا يوجب ورابعها أن القتل بالمثقل هل يوجب القصاص فعند الشافعي يوجب وعند أبي حنيفة لا يوجب وخامسها أن الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل أم لا اختلفوا فيه في زمان أبي بكر وسادسها أن إتيان البهيمة هل يوجب القتل فعند أكثر الفقهاء لا يوجب وعند قوم يوجب حجة القائلين بأنه لا يجوز القتل في هذه الصور هو أن الآية صريحة في منع القتل على الإطلاق إلا لسبب واحد وهو قتل المظلوم ففيما عدا هذا السببب الواحد وجب البقاء على أصل الحرمة ثم قالوا وهذا النص قد تأكد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدم على الإطلاق فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارض وذلك المعارض إما أن يكون نصاً متواتراً أو نصاً من باب الآحاد أو يكون قياساً أما النص المتواتر فمفقود وإلا لما بقي الخلاف وأما النص من باب الآحاد فهو مرجوح بالنسبة إلى هذه النصوص المتواترة الكثيرة وأما القياس فلا يعارض النص فثبت بمقتضى هذا الأصل القوي القاهر أن الأصل في الدماء الحرمة إلا في الصور المعدودة والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فيه بحثان
البحث الأول أن هذه الآية تدل على أنه أثبت لولي الدم سلطاناً فأما بيان أن هذه السلطنة تحصل فيما ذا فليس في قوله فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً دلالة عليه ثم ههنا طريقان الأول أنه تعالى لما قال بعده فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ عرف أن تلك السلطنة إنما حصلت في استيفاء القتل وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فلا ينبغي أن يسرف الظالم في ذلك القتل لأن ذلك المقتول منصور بواسطة إثبات هذه السلطنة لوليه والثاني أن تلك السلطنة مجملة ثم صارت مفسرة بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى في سورة البقرة الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) إلى قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ( البقرة 178 ) وقد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن الواجب هو كون المكلف مخيراً بين القصاص وبين الدية وأما الخبر فهو قوله عليه السلام يوم الفتح ( من قتل قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ) وعلى هذا الطريق فقوله فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ معناه أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص إن شاء(20/161)
وسلطنة استيفاء الدية إن شاء قال بعده فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ معناه أن الأولى أن لا يقدم على استيفاء القتل وأن يكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو وبالجملة فلفظة ( في ) محمولة على الباء والمعنى فلا يصير مسرفاً بسبب إقدامه على القتل ويصير معناه الترغيب في العفو والاكتفاء بالدية كما قال وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 )
البحث الثاني أن في قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا ذكر كونه مظلوماً بصيغة التنكير وصيغة التنكير على ما عرف تدل على الكمال فالإنسان المقتول ما لم يكن كاملاً في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص قال الشافعي رحمه الله قد دللنا على أن المسلم إذا قتل الذمي لم يدخل تحت هذه الآية بدليل أن الذمي مشرك والمشرك يحل دمه إنما قلنا إنه مشرك لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) حكم بأن ما سوى الشرك مغفور في حق البعض فلو كان كفر اليهودي والنصراني شيئاً مغايراً للشرك لوجب أن يصير مغفوراً في حق بعض الناس بمقتضى هذه الآية فلما لم يصر مغفوراً في حق أحد دل على أن كفرهم شرك ولأنه تعالى قال لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ ( البقرة 73 ) فهذا التثليث الذي قال به هؤلاء إما أن يكون تثليثاً في الصفات وهو باطل لأن ذلك هو الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة فلا يمكن جعله تثليثاً للكفر وإما أن يكون تثليثاً في الذوات وذلك هو الحق ولا شك أن القائل به مشرك فثبت أن الذمي مشرك وإنما قلنا إن المشرك يجب قتله لقوله تعالى اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ( التوبة 5 ) ومقتضى هذا الدليل إباحة دم الذمي فإن لم تثبت الإباحة فلا أقل من حصول شبهة الإباحة
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت أنه ليس كاملاً في المظلومية فلم يندرج تحت قوله تعالى وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً وأما الحر إذا قتل عبداً فهو داخل تحت هذه الآية إلا أنا بينا أن قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ( البقرة 178 ) يدل على المنع من قتل الحر بالعبد من وجوه كثيرة وتلك الآية أخص من قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً والخاص مقدم على العام فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص ولا في مسألة أنه يجب قتل المسلم بالذمي ولا في مسألة أنه يجب قتل الحر بالعبد والله أعلم
أما قوله تعالى فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ ففيه مباحث
البحث الأول فيه وجوه الأول المراد هو أن يقتل القاتل وغير القاتل وذلك لأن الواحد منهم إذا قتل واحداً من قبيلة شريفة فأولياء ذلك المقتول كانوا يقتلون خلقاً من القبيلة الدنيئة فنهى الله تعالى عنه وأمر بالاقتصار على قتل القاتل وحده الثاني هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإن أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشراف قبيلة القاتل ثم كانوا يقتلون منهم قوماً معينين ويتركون القاتل والثالث هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يمثل به ويقطع أعضاؤه قال القفال ولا يبعد حمله على الكل لأن جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافاً
البحث الثاني قرأ الأكثرون فَلاَ يُسْرِف بالياء وفيه وجهان الأول التقدير فلا ينبغي أن يسرف الولي في القتل الثاني أن الضمير للقاتل الظالم ابتداء أي فلا ينبغي أن يسرف ذلك الظالم وإسرافه عبارة(20/162)
عن إقدامه على ذلك القتل الظلم وقرأ حمزة والكسائي فَلا بالتاء على الخطاب وهذه القراءة تحتمل وجهين أحدهما أن يكون الخطاب للمبتدىء القاتل ظلماً كأنه قيل له لا تسرف أيها الإنسان وذلك الإسراف هو إقدامه على ذلك القتل الذي هو ظلم محض والمعنى لا تفعل فإنك إن قتلته مظلوماً استوفى القصاص منك والآخر أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير لا تسرف في القتل أيها الولي أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة وأما قوله الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ففيه ثلاثة أوجه الأول كأنه قيل للظالم المبتدىء بذلك القتل على سبيل الظلم لا تفعل ذلك فإن ذلك المقتول يكون منصوراً في الدنيا والآخرة أما نصرته في الدنيا فبقتل قاتله وأما في الآخرة فبكثرة الثواب له وكثرة العقاب لقاتله
والقول الثاني أن هذا الولي يكون منصوراً في قتل ذلك القاتل الظالم فليكتف بهذا القدر فإنه يكون منصوراً فيه ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منه لأن من يكون منصوراً من عند الله يحرم عليه طلب الزيادة
والقول الثالث أن هذا القاتل الظالم ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص وأن لا يطلب الزيادة
واعلم أن على القول الأول والثاني ظهر أن المقتول وولي دمه يكونان منصورين من عند الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قلت لعلي بن أبي طالب عليه السلام وأيم الله ليظهرن عليكم ابن أبي سفيان لأن الله تعالى يقول وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً وقال الحسن والله ما نصر معاوية على علي عليه السلام إلا بقول الله تعالى وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً والله أعلم
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات
اعلم أنا ذكرنا أن الزنا يوجب اختلاط الأنساب وذلك يوجب منع الاهتمام بتربية الأولاد وذلك يوجب انقطاع النسل وذلك يوجب المنع من دخول الناس في الوجود وأما القتل فهو عبارة عن إعدام الناس بعد دخولهم في الوجود فثبت أن النهي عن الزنا والنهي عن القتل يرجع حاصله إلى النهي عن إتلاف النفوس فلما ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال لأن أعز الأشياء بعد النفوس الأموال وأحق الناس بالنهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم لأنه لصغره وضعفه وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله فلهذا السبب خصهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم فقال وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ( النساء 6 ) وفي تفسير قوله إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ وجهان الأول إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره الثاني المراد هو أن تأكل معه إذا احتجت إليه وروى مجاهد عن ابن عباس قال إذا احتاج أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه فإن لم يوسر فلا شيء عليه
واعلم أن الولي إنما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشده وهو بلوغ النكاح كما بينه الله تعالى(20/163)
في آية أخرى وهو قوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ( النساء 6 ) والمراد بالأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله وعند ذلك تزول ولاية غيره عنه وذلك حد البلوغ فأما إذا بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه والله أعلم وبلوغ العقل هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية والله أعلم
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
اعلم أنه تعالى أمر بخمسة أشياء أولاً ثم أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي النهي عن الزنا وعن القتل إلا بالحق وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ثم أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة فالأول قوله وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ
واعلم أن كل عقد تقدم لأجل توثيق الأمر وتوكيده فهو عهد فقوله وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ نظير لقوله تعالى عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) فدخل في قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ كل عقد من العقود كعقد البيع والشركة وعقد اليمين والنذر وعقد الصلح وعقد النكاح وحاصل القول فيه أن مقتضى هذه الآية أن كل عقد وعهد جرى بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بمقتضى ذلك العقد والعهد إلا إذا دل دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به فمقتضاه الحكم بصحة كل بيع وقع التراضي به وبصحة كل شركة وقع التراضي بها ويؤكد هذا النص بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود كقوله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ( البقرة 177 ) وقوله وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 ) وقوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ( البقرة 275 ) وقوله لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ( النساء 29 ) وقوله وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ( البقرة 282 ) وقوله عليه السلام ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيبة من نفسه ) وقوله ( إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد ) وقوله ( من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه ) فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أن الأصل في البيوعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام
إذا ثبت هذا فنقول إن وجدنا نصاً أخص من هذه النصوص يدل على البطلان والفساد قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا قضينا بالصحة في الكل وأما تخصيص النص بالقياس فقد أبطلناه وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها وأطنابها مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة ويكون المكلف آمن القلب مطمئن النفس في العمل لأنه لما دلت هذه النصوص على صحتها فليس بعد بيان الله بيان وتصير الشريعة مضبوطة معلومة(20/164)
ثم قال تعالى إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ وفيه وجوه أحدها أن يراد صاحب العهد كان مسؤلاً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) وثانيها أن العهد كان مسؤلا أي مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به وثالثها أن يكون هذا تخييلاً كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفي بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموؤدة بِأَى ّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( التكوير 9 ) وكقوله قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن ( المائدة 116 ) الآية فالمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره
النوع الثاني من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ والمقصود منه إتمام الكيل وذكر الوعيد الشديد في نقصانه في قوله وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( المطففين 1 3 )
النوع الثالث من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ فالآية المتقدمة في إتمام الكيل وهذه الآية في إتمام الوزن ونظيره قوله تعالى وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ( الرحمن 9 ) وقوله وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ ( هود 85 )
واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم فوجب على العاقل الاحتراز منه وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء وقد يكون الإنسان غافلاً لا يهتدي إلى حفظ ماله فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان سعياً في إبقاء الأموال على الملاك ومنعاً من تلطيخ النفس بسرقة ذلك المقدار الحقير والقسطاس في معنى الميزان إلا أنه في العرف أكبر منه ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنه القبان وقيل أنه بلسان الروم أو السرياني والأصح أنه لغة العرب وهو مأخوذ من القسط وهو الذي يحصل فيه الاستقامة والاعتدال وبالجملة فمعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين وأجمعوا على جواز اللغتين فيه ضم القاف وكسرها فالكسر قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والباقون بالضم
ثم قال تعالى ذالِكَ خَيْرٌ أي الإيفاء بالتمام والكمال خير من التطفيف القليل من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً والتأويل ما يؤل إليه الأمر كما قال في موضع آخر خَيْرٌ مَّرَدّاً ( مريم 76 ) خَيْرٌ عُقْبًا ( الكهف 46 ) خَيْرٌ أَمَلاً ( الكهف 44 ) وإنما حكم تعالى بأن عاقبة هذا الأمر أحسن العواقب لأنه في الدنيا إذا اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل وكم قد رأينا من الفقراء لما اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة أقبلت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة لهم في المدة القليلة وأما في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً(20/165)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما شرح الأوامر الثلاثة عاد بعده إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء أولها قوله وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وقوله تَقْفُ مأخوذ من قولهم قفوت أثر فلان أقفو قفواً وقفواً إذا اتبعت أثره وسميت قافية الشعر قافية لأنها تقفو البيت وسميت القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوال الإنسان وقال تعالى ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا ( الحديد 27 ) وسمي القفا قفا لأنه مؤخر بدن الإنسان كأنه شيء يتبعه ويقفوه فقوله وَلاَ تَقْفُ أي ولا تتبع ولا تقتف ما لا علم لك به من قول أو فعل وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوماً وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة وكل واحد من المفسرين حمله على واحد من تلك الأنواع وفيه وجوه
الوجه الأول المراد نهي المشركين عن المذاهب التي كانوا يعتقدونها في الإلهيات والنبوات بسبب تقليد أسلافهم لأنه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء ضِيزَى إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ ( النجم 23 ) وقال في إنكارهم البعث بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاْخِرَة ِ بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ ( النمل 66 ) وحكي عنهم أنهم قالوا إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( الجاثية 32 ) وقال وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ ( القصص 50 ) وقال وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَاذَا حَلَالٌ وَهَاذَا حَرَامٌ ( النحل 116 ) الآية وقال هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( الأنعام 148 )
والقول الثاني نقل عن محمد بن الحنفية أن المراد منه شهادة الزور وقال ابن عباس لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك
والقول الثالث المراد منه النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه
والقول الرابع المراد منه النهي عن الكذب قال قتادة لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم
والقول الخامس أن القفو هو البهت وأصله من القفا كأنه قول يقال خلفه وهو في معنى الغيبة وهو ذكر الرجل في غيبته بما يسوءه وفي بعض الأخبار من قفا مسلماً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال واعلم أن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقليد والله أعلم
المسألة الثانية احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا القياس لا يفيد إلا الظن والظن مغاير للعلم فالحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم فوجب أن لا يجوز لقوله تعالى وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
أجيب عنه من وجوه الأول أن الحكم في الدين بمجرد الظن جائز بإجماع الأمة في صور كثيرة(20/166)
أحدها أن العمل بالفتوى عمل بالظن وهو جائز وثانيها العمل بالشهادة عمل بالظن وأنه جائز وثالثها الاجتهاد في طلب القبلة لا يفيد إلا الظن وأنه جائز ورابعها قيم المتلفات وأروش الجنايات لا سبيل إليها إلا بالظن وأنه جائز وخامسها الفصد والحجامة وسائر المعالجات بناء على الظن وأنه جائز وسادسها كون هذه الذبيحة ذبيحة للمسلم مظنون لا معلوم وبناء الحكم عليه جائز وسابعها قال تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا ( النساء 35 ) وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم وثامنها الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمناً مظنون ثم نبني على هذا الظن أحكاماً كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين وغيرهما وتاسعها جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون جائز وعاشرها قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) وذلك تصريح بأن الظن معتبر في هذه الأنواع العشرة فبطل قول من يقول إنه لا يجوز بناء الأمر على الظن
والجواب الثاني أن الظن قد يسمى بالعلم والدليل عليه قوله تعالى إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ( الممتحنة 10 ) ومن المعلوم أنه إنما يمكن العلم بأيمانهن بناء على اقرارهن وذلك لا يفيد إلا الظن فههنا الله تعالى سمى الظن علماً
والجواب الثالث أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس وكان ذلك الدليل دليلاً على أنه متى حصل ظن أن حكم الله في هذه السورة يساوي حكمه في محل النص فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن فههنا الظن وقع في طريق الحكم فأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن
أجاب نفاة القياس عن السؤال الأول فقالوا قوله تعالى وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ عام دخله التخصيص في الصور العشرة المذكورة فيبقى هذا العموم فيما وراء هذه الصور حجة ثم نقول الفرق بين هذه الصور العشر وبين محل النزاع أن هذه الصور العشر مشتركة في أن تلك الأحكام أحكام مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة فإن الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعين إلى المعنى المعين واقعة متعلقة بذلك الشخص المعين وكذلك القول في الشهادة وفي طلب القبلة وفي سائر الصور والتنصيص على وقائع الأشخاص المعينين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له وذلك متعذر فلهذه الضرورة اكتفينا بالظن أما الأحكام المثبتة بالأقيسة فهي أحكام كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة قليلة والتنصيص عليها ممكن ولذلك فإن الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها وذكروها في كتبهم
إذا عرفت هذا فنقول التنصيص على الأحكام في الصور العشر التي ذكرتموها غير ممكن فلا جرم اكتفى الشارع فيها بالظن أما المسائل المثبتة بالطرق القياسية التنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن فظهر الفرق
وأما الجواب الثاني وهو قولهم الظن قد يسمى علماً فنقول هذا باطل فإنه يصح أن يقال هذا مظنون وغير معلوم وهذا معلوم وغير مظنون وذلك يدل على حصول المغايرة ثم الذي يدل عليه قوله تعالى(20/167)
قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( الأنعام 148 ) نفي العلم واثبات للظن وذلك يدل على حصول المغايرة وأما قوله تعالى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ( الممتحنة 10 ) فالمؤمن هو المقر وذلك الإقرار هو العلم
وأما الجواب الثالث فهو أيضاً ضعيف لأن ذلك الكلام إنما يتم لو ثبت أن القياس حجة بدليل قاطع وذلك باطل لأن تلك الحجة إما أن تكون عقلية أو نقلية والأول باطل لأن القياس الذي يفيد الظن لا يجب عقلاً أن يكون حجة والدليل عليه أنه لا نزاع أن يصح من الشرع أن يقول نهيتكم عن الرجوع إلى القياس ولو كان كونه حجة أمراً عقلياً محضاً لامتنع ذلك والثاني أيضاً باطل لأن الدليل النقلي في كون القياس حجة إنما يكون قطعياً لو كان منقولاً نقلاً متواتراً وكانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعية غير محتملة النقيض ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولعرفه الكل ولارتفع الخلاف وحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يحصل في هذه المسألة دليل سمعي قاطع فثبت أنه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطع ألبتة فبطل قولكم كون الحكم المثبت بالقياس حجة معلوم لا مظنون فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب عنه إن التمسك بهذه الآية التي عولتم عليها تمسك بعام مخصوص والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بهذه الآية غير جائز فالقول بكون هذه الآية حجة يفضي ثبوته إلى نفيه فكان تناقضاً فسقط الاستدلال به والله أعلم وللمجيب أن يجيب فيقول نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر والله أعلم
المسألة الثالثة قوله إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ فيه بحثان
البحث الأول أن العلوم إما مستفادة من الحواس أو من العقول أما القسم الأول فإليه الإشارة بذكر السمع والبصر فإن الإنسان إذا سمع شيئاً ورآه فإنه يرويه ويخبر عنه وأما القسم الثاني فهو العلوم المستفادة من العقل وهي قسمان البديهية والكسبية وإلى العلوم العقلية الإشارة بذكر الفؤاد
البحث الثاني ظاهر الآية يدل على أن هذه الجوارح مسؤولة وفيه وجوه
الوجه الأول أن المراد أن صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأن السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلاً وهذه الجوارح ليست كذلك بل العاقل الفاهم هو الإنسان فهو كقوله تعالى حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) والمراد أهلها يقال له لم سمعت ما لايحل لك سماعه ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه ولم عزمت على ما لا يحل لك العزم عليه
والوجه الثاني أن تقرير الآية أن أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عن السمع والبصر والفؤاد فيقال لهم استعملتم السمع فيماذا أفي الطاعة أو في المعصية وكذلك القول في بقية الأعضاء وذلك لأن هذه الحواس آلات النفس والنفس كالأمير لها والمستعمل لها في مصالحها فإن استعملتها النفس في الخيرات استوجبت الثواب وإن استعملتها في المعاصي استحقت العقاب(20/168)
والوجه الثالث أنه ثبت بالقرآن أنه تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم إنها تشهد على الإنسان والدليل عليه قوله تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النور 24 ) ولذلك لا يبعد أن يخلق الحياة والعقل والنطق في هذه الأعضاء ثم إنه تعالى يوجه السؤال عليها
وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات وفيه مسائل
المسألة الأولى المرح شدة الفرح يقال مرح يمرح مرحاً فهو مرح والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشياً يدل على الكبرياء والعظمة قال الزجاج لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان 63 ) وقال في سورة لقمان وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ( لقمان 19 ) وقال أيضاً فيها وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( لقمان 18 )
المسألة الثانية قال الأخفش ولو قرى مَرَحاً بالكسر كان أحسن في القراءة قال الزجاج مرحاً مصدر ومرحاً اسم الفاعل وكلاهما جائز إلا أن المصدر أحسن ههنا وأوكد تقول جاء زيد ركضاً وراكضاً فركضاً أوكد لأنه يدل على توكيد الفعل ثم إنه تعالى أكد النهي عن الخيلاء والتكبر فقال إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاْرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً والمراد من الخرق ههنا نقب الأرض ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول أن المشي إنما يتم بالارتفاع والانخفاض فكأنه قيل إنك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رؤوس الجبال والمراد التنبيه على كونه ضعيفاً عاجزاً فلا يليق به التكبر الثاني المراد منه أن تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها فأنت محاط بك من فوقك وتحتك بنوعين من الجماد وأنت أضعف منهما بكثير والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله المحصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي
ثم قال تعالى كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا وفيه مسائل
المسألة الأولى الأكثرون قرؤا سيئه بضم الهاء والهمزة وقرى نافع وابن كثير وأبو عمرو سيئه منصوبة أما وجه قراءة الأكثرين فظاهر من وجهين
الوجه الأول قال الحسن إنه تعالى ذكر قبل هذا أشياء أمر ببعضا ونهى عن بعضها فلو حكم على الكل بكونه سيئه لزم كون المأمور به سيئة وذلك لا يجوز أما إذا قرأناه بالإضافة كان المعنى أن ما كان من تلك الأشياء المذكورة سيئة فهو مكروه عند الله واستقام الكلام(20/169)
والوجه الثاني أنا لو حكمنا على كل ما تقدم ذكره بكونه سيئه لوجب أن يقال إنها مكروهة وليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال مَكْرُوهًا أما إذا قرأناه بصيغة الإضافة كان المعنى أن سيىء تلك الأقسام يكون مكروهاً وحينئذ يستقيم الكلام أما قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو فيها وجوه الأول أن الكلام تم عند قوله ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( النساء 59 ) ثم ابتدأ وقال وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ( الإسراء 37 )
ثم قال كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيّئُهُ والمراد هذه الأشياء الأخيرة التي نهى الله عنها والثاني أن المراد بقوله كُلُّ ذالِكَ أي كل ما نهى الله عنه فيما تقدم وأما قوله مَكْرُوهًا فذكروا في تصحيحه على هذه القراءة وجوهاً الأول التقدير كل ذلك كان سيئة وكان مكروهاً الثاني قال صاحب ( الكشاف ) السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئه ألا ترى أنك تقول الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث الثالث فيه تقديم وتأخير والتقدير كل ذلك كان مكروهاً وسيئة عند ربك الرابع أنه محمول على المعنى لأن السيئة هي الذنب وهو مذكر
المسألة الثانية قال القاضي دلت هذه الآية على أن هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى والمكروه لا يكون مراداً له فهذه الأعمال غير مرادة لله تعالى فبطل قول من يقول كل ما دخل في الوجود فهو مراد لله تعالى وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى وجب أن لا تكون مخلوقة له لأنها لو كانت مخلوقة لله تعالى لكانت مرادة له لا يقال المراد من كونها مكروهة أن الله تعالى نهى عنها وأيضاً معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها وعلى هذا التقدير فهذا لا يمنع أن الله تعالى أراد وجودها لأن الجواب عن الأول أنه عدول عن الظاهر وأيضاً فكونها سيئة عند ربك يدل على كونها منهياً عنها فلو حملنا المكروه على النهي لزم التكرار
والجواب عن الثاني أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال ولا يليق بهذا الموضع أن يقال إنه يكره وقوعها هذا تمام هذا الاستدلال
والجواب أن المراد من المكروه المنهي عنه ولا بأس بالتكرير لأجل التأكيد والله أعلم
المسألة الثالثة قال القاضي دلت هذه الآية على أنه تعالى كما أنه موصوف بكونه مريداً فكذلك أيضاً موصوف بكونه كارهاً وقال أصحابنا الكراهية في حقه تعالى محمولة إما على النهي أو على إرادة العدم والله أعلم
ذَالِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَة ِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَة ِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا(20/170)
اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعاً من التكاليف فأولها قوله وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ ( الإسراء 22 ) وقوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) مشتمل على تكليفين الأمر بعبادة الله تعالى والنهي عن عبادة غير الله فكان المجموع ثلاثة وقوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) هو الرابع ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي قوله فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَة ِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا ( الإسراء 23 24 ) فيكون المجموع تسعة ثم قال وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وهو ثلاثة فيكون المجموع إثني عشر ثم قال وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا ( الإسراء 26 ) فيصير ثلاثة عشر ثم قال وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا وهو الرابع عشر ثم قال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ ( الإسراء 28 29 ) إلى آخر الآية وهو الخامس عشر ثم قال وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ ( الإسراء 31 ) وهو السادس عشر ثم قال وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وهو السابع عشر ثم قال وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً وهو الثامن عشر ثم قال فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ ( الإسراء 33 ) وهو التاسع عشر ثم قال وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ( الإسراء 34 ) وهو العشرون ثم قال وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وهو الحادي والعشرون ثم قال وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ( الإسراء 35 ) وهو الثاني والعشرون ثم قال وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) وهو الثالث والعشرون ثم قال وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ( الإسراء 37 ) وهو الرابع والعشرون ثم قال وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ وهو الخامس والعشرون فهذه خمسة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها الله تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ( الإسراء 22 ) وخاتمتها قوله وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا
إذا عرفت هذا فنقول ههنا فوائد
الفائدة الأولى قوله ذالِكَ إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة وإنما سماها بهذا الاسم لوجوه أحدها أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والعقول تدل على صحتها فالأتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعياً إلى دين الرحمن وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( الشعراء 221 222 ) وثانيها أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال فكانت محكمة وحمكة من هذا الاعتبار وثالثها أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة وعن ابن عباس أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام أولها وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ قال تعالى وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَى ْء مَّوْعِظَة ً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء ( الأعراف 145 )
والفائدة الثانية من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك(20/171)
وختمها بعين هذا المعنى والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد تنبيهاً على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولاً وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوماً مدحوراً فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول وبين الملوم المدحور فنقول أما الفرق بين المذموم وبين الملوم فهو أن كونه مذموماً معناه أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذموماً وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت من هذا لعمل إلا إلحاق الضرر بنفسك وهذا هو اللوم فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموماً وآخره أن يصير ملوماً وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت وأما المدحور فهو المطرود والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته والاستخفاف به فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولاً وآخره أن يصير مدحوراً والله أعلم بمراده
وأما قوله أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَئِكَة ِ إِنَاثًا فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ونظيراً نبه على طريقة من أثبت له الولد وعلى كمال جهل هذه الفرقة وهي أنهم اعتقدوا أن الولد قسمان فأشرف القسمين البنون وأخسهما البنات ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية عجزهم ونقصهم وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له والجلال الذي لا غاية له وذلك يدل على نهاية جهل القائل بهذا القول ونظيره قوله تعالى أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( الطور 39 ) وقوله أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( النجم 21 ) وقوله أَفَأَصْفَاكُمْ يقال أصفاه بالشيء إذا آثر به ويقال للضياع التي يستخصها السلطان بخاصية الصوافي قال أبو عبيدة في قوله أَفَأَصْفَاكُمْ أفخصكم وقال المفضل أخلصكم قال النحويون هذه الهمزة همزة تدل على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد لا جواب لصاحبه إلا بما فيه أعظم الفضيحة
ثم قال تعالى إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا وبيان هذا التعظيم من وجهين الأول أن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته وذلك عظيم من القول ومنكر من الكلام والثاني أن بتقدير ثبوت الولد فقد جعلتم أشرف القسمين لأنفسكم وأخس القسمين لله وهذا أيضاً جهل عظيم
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَة ٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَى ْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(20/172)
اعلم أن التصريف في اللغة عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة نحو تصريف الرياح وتصريف الأمور هذا هو الأصل في اللغة ثم جعل لفظ التصريف كناية عن التبيين لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ومن مثال إلى مثال آخر ليكمل الإيضاح ويقوي البيان فقوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا أي بينا ومفعول التصريف محذوف وفيه وجوه أحدها ولقد صرفنا في هذا القرآن ضروباً من كل مثل وثانيها أن تكون لفظة ( في ) زائدة كقوله وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى ( الأحقاف 15 ) أي أصلح لي ذريتي أما قوله لّيَذْكُرُواْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ الجمهور لّيَذْكُرُواْ بفتح الذال والكاف وتشديدهما والمعنى ليتذكروا فأدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما وقرأ حمزة والكسائي ليذكروا ساكنة الذال مضمومة الكاف وفي سورة الفرقان مثله من الذكر قال الواحدي والتذكر ههنا أشبه من الذكر لأن المراد منه التدبر والتفكر وليس المراد منه الذكر الذي يحصل بعد النسيان ثم قال وأما قراءة حمزة والكسائي ففيها وجهان الأول أن الذكر قد جاء بمعنى التأمل والتدبر كقوله تعالى خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ ( البقرة 63 ) والمعنى وافهموا ما فيه والثاني أن يكون المعنى صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه
المسألة الثانية قال الجبائي قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءانِ لِيَذَّكَّرُواْ يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن وإنما أكثر فيه من ذكر الدلائل لأنه تعالى أراد منهم فهمها والإيمان بها وهذا يدل على أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية ويدل على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل سواء آمنوا أو كفروا والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الأصم شبههم بالدواب النافرة أي ما ازدادوا من الحق إلا بعداً وهو كقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا ( التوبة 125 )
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكفار وقالوا إنه تعالى عالم بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً فلو أراد الإيمان منهم لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة ونبوة عنه لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سبباً لمزيد النفرة والنبوة عنه فإنه عندما يحاول تحصيل ذلك المقصود يحترز عما يوجب مزيد النفرة والنبوة فلما أخبر تعالى أن هذا التصريف يزيدهم نفوراً علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم والله أعلم
أما قوله تعالى قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَة ٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسيره وجهان(20/173)
الوجه الأول أن المراد من قوله إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى لغلب بعضهم بعضاً وحاصله يرجع إلى دليل التمانع وقد شرحناه في سورة الأنبياء في تفسير قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فلا فائدة في الإعادة
الوجه الثاني أن الكفار كانوا يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فقال الله لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها أيضاً قربة إلى الله تعالى وسبيلاً إليه ولطلبت لأنفسها المراتب العالية والدرجات الشريفة من الأحوال الرفيعة فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلاً إلى الله فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله
المسألة الثانية قرأ ابن كثير كما يقولون وعما يقولون ويسبح بالياء في هذه الثلاثة والمعنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه فهو مثل قوله قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ( آل عمران 12 ) وقرأ حمزة والكسائي كلها بالتاء وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في الأول بالتاء على الخطاب وفي الثاني والثالث بالياء على الحكاية وقرأ حفص عن عاصم الأولين بالياء والأخير بالتاء وقرأ أبو عمرو الأول والأخير بالتاء والأوسط بالياء
ثم قال تعالى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيرًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى لما أقام الدليل القاطع على كونه منزهاً عن الشركاء وعلى أن القول بإثبات الآلهة قول باطل أردفه بما يدل على تنزيهه عن هذا القول الباطل فقال سُبْحَانَهُ وقد ذكرنا أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا يليق به ثم قال وَتَعَالَى والمراد من هذا التعالي الارتفاع وهو العلو وظاهر أن المراد من هذا التعالي ليس هو التعالي في المكان والجهة لأن التعالي عن الشريك والنظير والنقائص والآفات لا يمكن تفسيره بالتعالي بالمكان والجهة فعلمنا أن لفظ التعالي في حق الله تعالى غير مفسر بالعلو بحسب المكان والجهة
المسألة الثانية جعل العلو مصدر التعالي فقال تعالى عُلُوّاً كَبِيراً وكان يجب أن يقال تعالى تعالياً كبيراً إلا أن نظيره قوله تعالى وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( نوح 17 )
فإن قيل ما الفائدة في وصف ذلك العلو بالكبير
قلنا لأن المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد منافاة بلغت في القوة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته وبين القديم والمحدث وبين الغني والمحتاج منافاة لا تعقل الزيادة عليها فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبير
ثم قال تعالى تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَن فِيهِنَّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن الحي المكلف يسبح لله بوجهين الأول بالقول كقوله باللسان سبحان الله والثاني بدلالة أحواله على توحيد الله تعالى وتقديسه وعزته فأما الذي لا يكون مكلفاً مثل البهائم ومن لا يكون حياً مثل الجمادات فهي إنما تسبح لله تعالى بالطريق الثاني لأن التسبيح بالطريق الأول لا يحصل إلا(20/174)
مع الفهم والعلم والإدراك والنطق وكل ذلك في الجماد محال فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلا بالطريق الثاني
واعلم أنا لو جوزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلماً لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالماً قادراً على كونه حياً وحينئذ يفسد علينا باب العلم بكونه حياً وذلك كفر فإنه يقال إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله تعالى وصفاته وتسبحه مع أنها ليست بأحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشيء عالماً قادراً متكلماً كونه حياً فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حياً وذلك جهل وكفر لأن من المعلوم بالضرورة أن من ليس بحي لم يكن عالماً قادراً متكلماً هذا هو القول الذي أطبق العلماء المحققون عليه ومن الناس من قال إن الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلها تسبح الله تعالى واحتجوا على صحة قولهم بأن قالوا دل هذا النص على كونها مسبحة لله تعالى ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته لأنه تعالى قال وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا ودلالتها على وجود قدرة الله وحكمته معلوم والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم فدل على أنها تسبح الله تعالى وأن تسبيحها غير معلوم لنا فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثر من الأجزاء التي لا تتجزأ وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ حفاة مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات فلا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم
إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله وكل صفة من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضاً دليل تام على وجود الإله تعالى ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم وأحوال تلك الصفات غير معلومة فلهذا المعنى قال تعالى وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
والوجه الثاني هو أن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا يتفكرون في أنواع الدلائل ولهذا المعنى قال تعالى وَكَأَيّن مِن ءايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ فكان المراد من قوله وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ هذا المعنى
والوجه الثالث أن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته ولذلك فإنهم استبعدوا كونه تعالى قادراً على الحشر والنشر فكان المراد ذلك وأيضاً فإنه تعالى قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَة ٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل فلما ذكر هذا الدليل قال تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعُ وَالاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ فتسبيح السموات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه بل نقول إن القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد فكان المراد من قوله وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ذلك ومما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا فذكر الحليم(20/175)
والغفور ههنا يدل على أن كونهم بحيث لا يفقهون ذلك التسبيح جرم عظيم صدر عنهم وهذا إنما يكون جرماً إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه دلالة تلك الدلائل أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح الله بأقوالها وألفاظها لم يكن عدم الفقه لتلك التسبيحات جرماً ولا ذنباً وإذا لم يكن ذلك جرماً ولا ذنباً لم يكن قوله إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا لائقاً بهذا الموضع فهذا وجه قوي في نصرة القول الذي اخترناه واعلم أن القائلين بأن هذه الجمادات والحيوانات تسبح الله بألفاظها أضافوا إلى كل حيوان نوعاً آخر من التسبيح وقالوا إنها إذا ذبحت لم تسبح مع أنهم يقولون إن الجمادات تسبح الله فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبحاً فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التسبيح وقالوا أيضاً إن غصن الشجرة إذا كسر لم يسبح وإذا كان كونه جماداً لم يمنع من كونه مسبحاً فكسره كيف يمنع من ذلك فعلم أن هذه الكلمات ضعيفة والله أعلم
المسألة الثانية قوله تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعُ وَالاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ تصريح بإضافة التسبيح إلى السموات والأرض وإلى المكلفين الحاصلين فيهن وقد دللنا على أن التسبيح المضاف إلى الجمادات ليس إلا بمعنى الدلالة على تنزيه الله تعالى وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجاز وأما التسبيح الصادر عن المكلفين وهو قولهم سبحان الله فهذا حقيقة فيلزم أن يكون قوله تُسَبّحُ لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً وأنه باطل على ما ثبت دليله في أصول الفقه فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على الوجه المجازي في حق الجمادات لا في حق العقلاء لئلا يلزم ذلك المحذور والله أعلم
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاٌّ مْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما تكلم في الآية المتقدمة في المسائل الإلهية تكلم في هذه الآية فيما يتعلق بتقرير النبوة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ قولان
القول الأول أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قرأ القرآن على الناس روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصي يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار وعن أسماء أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان جالساً ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب(20/176)
ومعها فهر تريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي تقول
مذمماً أتينا ودينه قلينا وأمره عصينا
فقال أبو بكر يا رسول الله معها فهر أخشاها عليك فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية فجاءت فما رأت رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالت إن قريشاً قد علمت أني ابنة سيدها وأن صاحبك هجاني فقال أبو بكر لا ورب هذا البيت ما هجاك وروى ابن عباس أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويستمعون إلى حديثه فقال النضر يوماً ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء وقال أبو سفيان أني لأرى بعض ما يقوله حقاً وقال أبو جهل هو مجنون وقال أبو لهب هو كاهن وقال حويطب بن عبد العزى هو شاعر فنزلت هذه الآية وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاثة آيات وهي قوله في سورة الكهف وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا ( الكهف 57 ) وفي النحل أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( النحل 108 ) وفي حم الجاثية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) إلى آخر الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله تعالى جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وفيه سؤال وهو أنه كان يجب أن يقال حجاباً ساتراً
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن ذلك الحجاب حجاب يخلقه الله تعالى في عيونهم بحيث يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك الحجاب شيء لا يراه فكان مستوراً من هذا الوجه احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضراً مع أنه لا يراه ذلك الإنسان لأجل أن الله تعالى خلق في عينيه مانعاً يمنعه عن رؤيته بهذه الآية قالوا إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان حاضراً وكانت حواس الكفار سليمة ثم إنهم ما كانوا يرونه وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أنه جعل بينه وبينهم حجاباً مستوراً والحجاب المستور لا معنى له إلا المعنى الذي خلقه الله تعالى في عيونهم وكان ذلك المعنى مانعاً لهم من أن يروه ويبصروه
والوجه الثاني في الجواب أنه كما يجوز أن يقال لابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر فكذلك لا يبعد أن يقال مستوراً معناه ذو ستر والدليل عليه قوله مرطوب أي ذو رطوبة ولا يقال رطيبة ويقال مكان مهول أي فيه هول ولا يقال هلت المكان بمعنى جعلت فيه الهول ويقال جارية مغنوجة ذات غنج ولا يقال غنجتها
والوجه الثالث في الجواب قال الأخفش المستور ههنا بمعنى الساتر فإن الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما يقال إنك لمشؤم علينا وميمون وإنما هو شائم ويامن لأنه من قولهم شأمهم ويمنهم هذا قول الأخفش وتابعه عليه قوم إلا أن كثيراً منهم طعن في هذا القول والحق هو الجواب الأول
القول الثاني أن معنى الحجاب الطبع الذي على قلوبهم والطبع والمنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده فالمراد من الحجاب المستور ذلك الطبع الذي خلقه الله في قلوبهم
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً وهذه الآية مذكورة بعينها في(20/177)
سورة الأنعام وذكرنا استدلال أصحابنا بها وذكرنا سؤالات المعتزلة ولا بأس بإعادة بعضها قال الأصحاب دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل قلوبهم في الأكنة والأكنة جمع كنان وهو ما ستر الشيء مثل كنان النبل وقوله أَن يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفقهوه وجعل في آذانهم وقراً ومعلوم أنهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين فعلمنا أن المراد منعهم عن الإيمان ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره ولا يفهمون دقائقه وحقائقه قالت المعتزلة ليس المراد من الآية ما ذكرتم بل المراد منه وجوه أخرى الأول قال الجبائي كانوا يطلبون موضعه في الليالي لينتهوا إليه ويؤذونه ويستدلون على مبيته باستماع قراءته فأمنه الله تعالى من شرهم وذكر له أنه جعل بينه وبينهم حجاباً لا يمكنهم الوصول إليه معه وبين أنه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته ويجوز أن يكون ذلك مرضاً شاغلاً يمنعهم من المصير إليه والتفرغ له لا أنه حصل هناك كن للقلب ووقر في الأذن الثاني قال الكعبي إن القوم لشدة امتناعهم عن قبول دلائل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب مانع وساتر وإنما نسب الله تعالى ذلك الحجاب إلى نفسه لأنه لما خلاهم مع أنفسهم وما منعهم عن ذلك الأعراض صارت تلك التخلية كأنها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة وهذا مثل أن السيد إذا لم يراقب أحوال عبده فإذا ساءت سيرته فالسيد يقول أنا الذي ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك مع رأيك وما راقبت أحوالك الثالث قال القفال إنه تعالى لما خذلهم بمعنى أنه لم يفعل الألطاف الداعية لهم إلى الإيمان صح أن يقال إنه فعل الحجاب السائر
واعلم أن هذه الوجوه مع كلمات أخرى ذكرناها في سورة الأنعام وأجبنا عنها فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا واعلم أن المراد أن القوم كانوا عند استماع القرآن على حالتين لأنهم إذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين متحيرين لا يفهمون منه شيئاً وإذا سمعوا آية فيها ذكر الله تعالى وذم الشرك بالله ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس وذكر الزجاج في قوله وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً وجهين الأول المصدر والمعنى ولوا نافرين نفورا والثاني أن يكون نفوراً جمع نافر مثل شهود وشاهد وركوع وراكع وسجود وساجد وقعود وقاعد
ثم قال تعالى نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزؤ والتكذيب و بِهِ في موضع الحال كما تقول مستمعين بالهزؤ و إِذْ يَسْتَمِعُونَ نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وَإِذَا هُمْ نَجْوَى أي وبما يتناجون به إذ هم ذو نجوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بدل من قوله وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا وفيه مباحث الأول قال المفسرون أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علياً أن يتخذ طعاماً ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل علي عليه السلام ذلك ودخل عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال قولوا لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتدين لكم العجم فأبوا عليه ذلك وكانوا عند استماعهم من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) القرآن والدعوة إلى الله تعالى يقولون بينهم متناجين هو ساحر وهو مسحور وما أشبه ذلك من القول فأخبر الله تعالى نبيه بأنهم يقولون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا
فإن قيل إنهم لم يتبعوا رسول الله فكيف يصح أن يقولوا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا(20/178)
قلنا معناه أنكم إن اتبعتموه فقد اتبعتم رجلاً مسحوراً والمسحور الذي قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء هذا هو القول الصحيح وقال بعضهم المسحور هو الذي أفسد يقال طعام مسحور إذا أفسد عمله وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها قال أبو عبيدة يريد بشراً ذا سحر أي ذارئة قال ابن قتيبة ولا أدري ما الذي حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة وقال مجاهد مَّسْحُورًا أي مخدوعاً لأن السحر حيلة وخديعة وذلك لأن المشركين كانوا يقولون إن محمداً يتعلم من بعض الناس هذه الكلمات وأولئك الناس يخدعونه بهذه الكلمات وهذه الحكايات فلذلك قالوا إنه مسحور أي مخدوع وأيضاً كانوا يقولون إن الشيطان يتخيل له فيظن أنه ملك فقالوا إنه مخدوع من قبل الشيطان
ثم قال انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ أي كل أحد شبهك بشيء آخر فقالوا إنه كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون فضلوا عن الحق والطريق المستقيم فلا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والحق
وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولاً في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات ذكر في هذه الآية شبهات القوم في إنكار المعاد والبعث والقيامة وقد ذكرنا كثيراً أن مدار القرآن على المسائل الأربعة وهي الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر وأيضاً أن القوم وصفوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكونه مسحوراً فاسد العقل فذكروا من جملة ما يدل على فساد عقله أنه يدعي أن الإنسان بعدما يصير عظاماً ورفاتاً فإنه يعود حياً عاقلاً كما كان فذكروا هذا الكلام رواية عنه لتقرير كونه مختل العقل قال الواحدي رحمه الله الرفت كسر الشيء بيدك تقول رفته أرفته بالكسر كما يرفت المدر والعظم البالي والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء يكسر يقال رفت عظام الجزور رفتاً إذا كسرها ويقال للتبن الرفت لأنه دقاق الزرع قال الأخفش رفت رفتاً فهو مرفوت نحو حطم حطماً فهو محطوم والرفات والحطام الاسم كالجذاد والرضاض والفتات فهذا ما يتعلق باللغة أما تقرير شبهة القوم فهي أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في حوالي العالم فاختلط بتلك الأجزاء سائر أجزاء العالم أما الأجزاء المائية في البدن فتختلط بمياه العالم وأما الأجزاء الترابية فتختلط بتراب العالم وأما الأجزاء الهوائية فتختلط بهواء العالم وأما الأجزاء النارية فتختلط بنار العالم وإذا صار الأمر كذلك فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرة أخرى وكيف يعقل عود الحياة(20/179)
إليها بأعيانها مرة أخرى فهذا هو تقرير الشبهة
والجواب عنها أن هذا الإشكال لا يتم إلا بالقدح في كمال علم الله وفي كمال قدرته أما إذا سلما كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات فحينئذ هذه الأجزاء وإن اختلطت بأجزاء العالم إلا أنها متمايزة في علم الله تعالى ولما سلمنا كونه تعالى قادراً على كل الممكنات كان قادراً على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها فثبت أنا متى سلمنا كمال علم الله وكمال قدرته زالت هذه الشبهة بالكلية
أما قوله تعالى قُلْ كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً فالمعنى أن القوم استبعدوا أن يردهم إلى حال الحياة بعد أن صاروا عظاماً ورفاتاً وهي وإن كانت صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر لكن قدروا انتهاء هذه الأجسام بعد الموت إلى صفة أخرى أشد منافاة لقبول الحياة من كونها عظاماً ورفاتاً مثل أن تصير حجارة أو حديداً فإن المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشد من المنافاة بين العظمية وبين قبول الحياة وذلك أن العظم قد كان جزءاً من بدن الحي أما الحجارة والحديد فما كانا البتة موصوفين بالحياة فبتقدير أن تصير أبدان الناس موصوفة بصفة الحجرية والحديدية بعد الموت فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ويجعلها حياً عاقلاً كما كان والدليل على صحة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل إذ لو لم يكن هذا القبول حاصلاً لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر وإله العالم عالم بجميع الجزئيات فلا تشتبه عليه أجزاء بدن زيد المطيع بأجزاء بدن عمر والعاصي وقادر على كل الممكنات وإذا ثبت أن عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكن في نفسه وثبت أن إله العالم عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكناً قطعاً سواء صارت عظاماً ورفاتاً أو صارت شيئاً أبعد من العظم في قبول الحياة وهي أن تصير حجارة أو حديداً فهذا تقرير هذا الكلام بالدليل العقلي القاطع وقوله كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً ليس المراد منه الأمر بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة وذلك كقول القائل للرجل أتطمع في وأنا فلان فيقول كن من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقي
فإن قيل ما المراد بقوله أَوْ خَلْقًا
قلنا المراد أن كون الحجر والحديد قابلاً للحياة أمر مستبعد فقيل لهم فافرضوا شيئاً آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث يستبعد عقلكم كونه قابلاً للحياة وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى أن يتعين ذلك الشيء لأن المراد أن أبدان الناس وإن انتهت بعد موتها إلى أي صفة فرضت وأي حالة قدرت وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة فإن الله تعالى قادر على إعادة الحياة إليها وإذا كان المراد من الآية هذا المعنى فلا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء وقال ابن عباس المراد منه الموت يعني لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها واعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره على سبيل المبالغة مثل أن يقال لو كنت عين الحياة فالله يميتك ولو كنت عين الغنى فإن الله يفقرك فهذا قد ذكر على سبيل المبالغة أما في نفس الأمر فهذا محال لأن أبدان الناس أجسام والموت عرض والجسم لا ينقلب عرضاً ثم بتقدير أن ينقلب عرضاً فالموت لا يقبل الحياة لأن أحد الضدين يمتنع اتصافه بالضد الآخر وقال مجاهد يعني السماء والأرض
ثم قال فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ والمعنى أنه لما قال لهم كونوا حجارة أو(20/180)
حديداً أو شيئاً أبعد في قبول الحياة من هذين الشيئين فإن إعادة الحياة إليه ممكنة فعند ذلك قالوا من هذا الذي يقدر على إعادة الحياة إليه قال تعالى قل يا محمد الذي فطركم أول مرة يعني أن القول بصحة الإعادة فرع على تسليم أن خالق الحيوانات هو الله تعالى
فإذا ثبت ذلك فنقول إن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل وإله العالم قادر لذاته عالم لذاته فلا يبطل علمه وقدرته ألبتة فالقادر على الابتداء يجب أن يبقى قادراً على الإعادة وهذا كلام تام وبرهان قوي
ثم قال تعالى فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ قال الفراء يقال أنغض فلان رأسه ينغضه إنغاضاً إذا حركه إلى فوق وإلى أسفل وسمي الظليم نغضاً لأنه يحرك رأسه وقال أبو الهيثم يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكاراً له قد أنغض رأسه فقوله فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ يعني يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد ثم قال تعالى رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ واعلم أن هذا السؤال فاسد لأنهم حكموا بامتناع الحشر والنشر بناء على الشبهة التي حكيناها ثم إن الله تعالى بين بالبرهان الباهر كونه ممكناً في نفسه فقولهم متى هو كلام لا تعلق له بالبحث الأول فإنه لما ثبت بالدليل العقلي كونه ممكن الوجود في نفسه وجب الاعتراف بامكانه فأما أنه متى يوجد فذاك لا يمكن إثباته من طريق العقل بل إنما يمكن إثباته بالدلائل السمعية فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعين عرف وإلا فلا سبيل إلى معرفته
واعلم أنه تعالى بين في القرآن أنه لا يطلع أحداً من الخلق على وقته المعين فقال إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) وقال إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي ( الأعراف 187 ) وقال إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( طه 15 ) فلا جرم قال تعالى قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا قال المفسرون عسى من الله واجب معناه أنه قريب
فإن قالوا كيف يكون قريباً وقد انقرض ستمائة سنة ولم يظهر
قلنا إذا كان ما مضى أكثر مما بقي كان الباقي قريباً قليلاً ثم قال تعالى يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وفيه قولان الأول أنه خطاب مع الكفار بدليل أن ما قبل هذه الآية كله خطاب مع الكفار ثم نقول انتصب يوماً على البدل من قوله قريباً والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفحة الأخيرة كما قال يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( ق 41 ) يقال إن إسرافيل ينادي أيتها الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت بقدرة الله تعالى وبإذنه وتكوينه وقال تعالى يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَى ْء نُّكُرٍ ( القمر 6 ) وقوله فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أي تجيبون والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي أوكد من الإجابة وقوله بِحَمْدِهِ قال سعيد بن جبير يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون سبحانك وبحمدك فهو قوله فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وقال قتادة بمعرفته وطاعته وتوجيه هذا القول أنهم لما أجابوا بالتسبيح والتحميد كان ذلك معرفة منهم وطاعة ولكنهم لا ينفعهم ذلك في ذلك اليوم فلهذا قال المفسرون حمدوا حين لا ينفعهم الحمد وقال أهل المعاني تستجيبون بحمده أي تستجيبون حامدين كما يقال جاء بغضبه أي جاء غضبان وركب الأمير بسيفه أي وسيفه معه وقال صاحب ( الكشاف ) بحمده حال منهم أي حامدين وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بعمل يشق عليه ستأتي به وأنت حامد شاكر أي(20/181)
ستنتهي إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفي منك بذلك العمل وهذا يذكر في معرض التهديد
ثم قال وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً قال ابن عباس يريد بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت والدليل عليه قوله في سورة يس مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ( يس 52 ) فظنهم بأن هذا لبث قليل عائد إلى لبثهم فيما بين النفختين وقال الحسن معناه تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا وقيل المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول في النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة
القول الثاني أن الكلام مع الكفار تم عند قوله عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا وأما قوله يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ فهو خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأن هذا الكلام هو اللائق بالمؤمنين لأنهم يستجيبون لله بحمده ويحمدونه على إحسانه إليهم والقول الأول هو المشهور والثاني ظاهر الاحتمال
وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِى َ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا
اعلم أن قوله قُل لّعِبَادِى َ فيه قولان
القول الأول أن المراد به المؤمنون وذلك لأن لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختص بالمؤمنين قال تعالى فَبَشّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ( الزمر 17 18 ) وقال فَادْخُلِى فِى عِبَادِى ( الفجر 29 ) وقال عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 )
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في إبطال الشرك وهو قوله لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَة ٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ( الإسراء 42 ) وذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد وهو قوله قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الإسراء 51 ) قال في هذه الآية وقل يا محمد لعبادي إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا تلك الدلائل بالطريق الأحسن وهو أن لا يكون ذكر الحجة مخلوطاً بالشتم والسب ونظير هذه الآية قوله ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وقوله وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) وذلك لأن ذكر الحجة لو اختلط به شيء من السب والشتم لقابلوكم بمثله كما قال وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) ويزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود أما إذا وقع الاقتصار على ذكر الحجة بالطريق(20/182)
الأحسن الخالي عن الشتم والإيذاء أثر في القلب تأثيراً شديداً فهذا هو المراد من قوله وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ثم إنه تعالى نبه على وجه المنفعة في هذا الطريق فقال إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ جامعاً للفريقين أي متى صارت الحجة مرة ممزوجة بالبذاءة صارت سبباً لثوران الفتنة
ثم قال إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا والمعنى أن العداوة الحاصلة بين الشيطان وبين الإنسان عداوة قديمة قال تعالى حكاية عنه ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ( الأعراف 17 ) وقال كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذَا قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الحشر 16 ) وقال وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ( الأنفال 48 ) وقال لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ إلى قوله إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ ( الأنفال 48 )
ثم قال تعالى رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ واعلم أنا إنما نتكلم الآن على تقدير أن قوله تعالى قُل لّعِبَادِى َ المراد به المؤمنون وعلى هذا التقدير فقوله رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ خطاب مع المؤمنين والمعنى إن يشأ يرحمكم والمراد بتلك الرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم ثم قال وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يا محمد عَلَيْهِمْ وَكِيلاً أي حافظاً وكفيلاً فاشتغل أنت بالدعوة ولا شيء عليك من كفرهم فإن شاء الله هدايتهم هداهم وإلا فلا
والقول الثاني أن المراد من قوله وَقُل لّعِبَادِى الكفار وذلك لأن المقصود من هذه الآيات الدعوة فلا يبعد في مثل هذا الموضع أن يخاطبوا بالخطاب الحسن ليصير ذلك سبباً لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين الحق فكأنه تعالى قال يا محمد قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عباداً لي يقولوا التي هي أحسن وذلك لأنا قبل النظر في الدلائل والبينات نعلم بالضرورة أن وصف الله تعالى بالتوحيد والبراءة عن الشركاء والأضداد أحسن من إثبات الشركاء والأضداد ووصفه بالقدرة على الحشر والنشر بعد الموت أحسن من وصفه بالعجز عن ذلك وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على تلك المذاهب الباطلة تعصباً للأسلاف لأن الحامل على مثل هذا التعصب هو الشيطان والشيطان عدو فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله ثم قال لهم رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بأن يوفقكم للإيمان والهداية والمعرفة وإن يشأ يمتكم على الكفر فيعذبكم إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق ولا تصروا على الباطل والجهل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية ثم قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم في القول والمقصود من كل هذه الكلمات إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة فإن ذلك هو الذي يؤثر في القلب ويفيد حصول المقصود
ثم قال وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمعنى أنه لما قال قبل ذلك رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ قال بعده رَبَّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بمعنى أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذوات الأرضين والسموات فيعلم حال كل واحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد فلهذا السبب فضل بعض النبيين على بعض وآتى موسى التوراة وداود الزبور وعيسى الإنجيل فلم يبعد أيضاً أن يؤتي محمداً القرآن ولم يبعد أن يفضله على جميع الخلق(20/183)
فإن قيل ما السبب في تخصيص داود عليه الصلاة والسلام في هذا المقام بالذكر 0
قلنا فيه وجوه
الوجه الأول أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض
ثم قال وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً يعني أن داود كان ملكاً عظيماً ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيهاً على أن التفضيل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال
والوجه الثاني أن السبب في تخصيصه بالدكر أنه تعالى كتب في الزبور أن محمداً خاتم النبيين وأن أمته خير الأمم قال تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء 105 ) وهم محمد وأمته
فإن قيل هل عرف كما في فقوله ولقد كتبنا في الزبور 5
قلنا التنكير ههنا يدل على تعظيم حاله لأن الزبور عبارة عن المزبور فكان معناه الكتاب فكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً
والوجه الثالث أن السبب فيه أن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات واليهود كانوا يقولون إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة بنقض الله تعالى عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود وقرأ حمزة زبوراً بضم الزاي وذكرنا وجه ذلك في آخر سورة ( النساء 163 )
قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَة َ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على المشركين وقد ذكرنا أن المشركين كانوا يقولون ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى فنحن نعبد بعض المقربين من عباد الله وهم الملائكة ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالاً وصورة واشتغلوا بعبادته على هذا التأويل والله تعالى احتج على بطلان قولهم في هذه الآية فقال قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في صفتهم أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَة َ وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام ألبتة
إذا ثبت هذا فنقول إن قوماً عبدوا الملائكة فنزلت هذه الآية فيهم وقيل إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيراً وقيل إن قوماً عبدوا نفراً من الجن فأسلم النفر من الجن وبقي أولئك الناس متمسكين(20/184)
بعبادتهم فنزلت هذه الآية قال ابن عباس كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه لفظ زعم فهو كذب ثم إنه تعالى احتج على فساد مذهب هؤلاء أن الإله المعبود هو الذي يقدر على إزالة الضرر وإيصال المنفعة وهذه الأشياء التي يعبدونها وهي الملائكة والجن والمسيح وعزير لا يقدرون على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فوجب القطع بأنها ليست آلهة
ولقائل أن يقول هذا الدليل إنما يتم إذا دللتم على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فما الدليل على أن الأمر كذلك حتى يتم دليلكم فإن قلتم لأنا نرى أن أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها فلا تحصل الإجابة
قلنا معارضة لذلك قد نرى أيضاً أن المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى فلا تحصل الإجابة والمسلمون يقولون إن القدر الحاصل من كشف الضر وتحصيل النفع إنما يحصل من الله تعالى لا من الملائكة وأولئك الكفار يقولون إنه يحصل من الملائكة لا من الله تعالى وعلى هذا التقدير فالدليل غير تام
والجواب أن الدليل تام كامل وذلك لأن الكفار كانوا مقرين بأن الملائكة عباد الله وخالق الملائكة وخالق العالم لا بد وأن يكون أقدر من الملائكة وأقوى منهم وأكمل حالاً منهم
وإذا ثبت هذا فنقول كمال قدرة الله تعالى معلوم متفق عليه وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرة وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة لأن كون الله مستحقاً للعبادة معلوم وكون الملائكة كذلك مجهول والأخذ بالمعلوم أولى وأما أصحابنا المتكلمون من أهل السنة والجماعة فلهم في هذا الباب طريقة أخرى وهو أنهم يقيمون بالحجة العقلية على أنه لا موجد إلا الله تعالى ولا مخرج لشيء من العدم إلى الوجود إلا الله تعالى
وإذا ثبت هذا ثبت أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة لأنهم لما ججوزوا كون العبد موجداً لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة لا قدرة لها على الإحياء والإماتة وخلق الجسم وإذا عجزوا عن ذلك لم يتم لهم هذا الدليل فهذا هو ذكر الدليل القاطع على صحة قوله لاَّ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً والتحويل عبارة عن النقل من حال إلى حال ومكان إلى مكان يقال حوله فتحول
ثم قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَة َ وفيه قولان الأول قال الفراء قوله يَدَّعُونَ فعل الآدميين العابدين وقوله يَبْتَغُونَ فعل المعبودين ومعناه أولئك المعبودين يبتغون إلى ربهم الوسيلة فإنه لا نزاع أن الملائكة يرجعون إلى الله في طلب المنافع ودفع المضار ويرجون رحمته ويخافون عذابه وإذا كان كذلك كانوا موصوفين بالعجز والحاجة والله تعالى أغنى الأغنياء فكان الاشتغال بعبادته أولى
فإن قالوا لا نسلم أن الملائكة محتاجون إلى رحمة الله وخائفون من عذابه فنقول هؤلاء الملائكة إما أن يقال إنها واجبة الوجود لذواتها أو يقال ممكنة الوجود لذواتها والأول باطل لأن جميع الكفار كانوا(20/185)
معترفين بأن الملائكة عباد الله ومحتاجون إليه وأما الثاني فهو يوجب القول بكون الملائكة محتاجين في ذواتها وفي كمالاتها إلى الله تعالى فكان الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة
والقول الثاني أن قوله أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ هم الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقوله وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ ( الإسراء 55 ) وتعلق هذا الكلام بما سبق هو أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا الله تعالى ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه فأنتم بالاقتداء بهم حق فلا تعبدوا غبر الله تعالى واحتج القائلون بهذا القول على صحته بأن قالوا الملائكة لا يعصون الله فلا يخافون عذابه فثبت أن هذا غير لائق بالملائكة وإنما هو لائق بالأنبياء
قلنا الملائكة يخافون عذاب الله لو أقدموا على الذنب والدليل عليه قوله تعالى وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 )
أما قوله إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا فالمراد أن من حقه أن يحذر فإن لم يحذره بعض الناس لجهله فهو لا يخرج من كونه بحيث يجب الحذر عنه
وَإِن مِّن قَرْيَة ٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذالِك فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا
واعلم أنه تعالى لما قال إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا ( الإسراء 57 ) بين أن كل قرية مع أهلها فلا بد وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين إما الإهلاك وإما التعذيب قال مقاتل أما الصالحة فبالموت وأما الطالحة فبالعذاب وقيل المراد من قوله وَإِن مّن قَرْيَة ٍ قرى الكفار ولا بد أن تكون عاقبتها أحد أمرين إما الاستئصال بالكلية وهو المراد من الإهلاك أو بعذاب شديد دون ذلك من قتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم بين تعالى أن هذا الحكم حكم مجزوم به واقع فقال كَانَ ذالِك فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا ومعناه ظاهر
وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاٌّ يَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاٌّ وَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَة َ مُبْصِرَة ً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاٌّ يَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَة ً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَة َ الْمَلْعُونَة َ فِى القُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا(20/186)
اعلم تعالى أنه لما ذكر الدليل على فساد قول المشركين وأتبعه بالوعيد أتبعه بذكر مسألة النبوة وذلك لأن كفار قريش اقترحوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إظهار معجزات عظيمة قاهرة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَة ٍ ( طه 133 ) كَمَا أُرْسِلَ الاْوَّلُونَ ( الأنبياء 5 ) وقال آخرون المراد ما طلبوه بقولهم لَن نُّؤْمِنَ ذالِكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وعن سعيد بن جبير أن القوم قالوا إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى فأتنا بشي من هذه المعجزات فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاْوَّلُونَ وفي تفسير هذا الجواب وجوه
الوجه الأول المعنى أنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم فحينئذ يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال لكن إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمة غير جائز لأن الله تعالى أعلم أن فيهم من سيؤمن أو يؤمن أولادهم فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم وما أظهر تلك المعجزات القاهرة روى ابن عباس أن أهل مكة سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن يزيل لهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي فطلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك من الله تعالى فقال الله تعالى إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط أنهم إن كفروا أهلكتهم فقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أريد ذلك بل تتأنى بهم ) فنزلت هذه الآية
الوجه الثاني في تفسير هذا الجواب أنا لا نظهر هذه المعجزات لأن آباءكم الذين رأوها لم يؤمنوا بها وأنتم مقلدون لهم فلو رأيتموها أنتم لم تؤمنوا بها أيضاً
الوجه الثالث أن الأولين شاهدوا هذه المعجزات وكذبوا بها فعلم الله منكم أيضاً أنكم لو شاهدتموها لكذبتم فكان إظهارها عبثاً والعبث لا يفعله الحكيم
ثم قال تعالى 6 وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وفيه أبحاث
البحث الأول المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى
البحث الثاني قوله تعالى وفيه أبحاث
البحث الأول المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى
البحث الثاني قوله تعالى مُبْصِرَة ً وفيه وجهان الأول قال الفراء مُبْصِرَة ً أي مضيئة قال تعالى وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ( يونس 67 ) أي مضيئاً والثاني مُبْصِرَة ً أي ذات أبصار أي فيها أبصار لمن تأملها يبصر بها رشده ويستدل بها على صدق ذلك الرسول
البحث الثالث قوله فَظَلَمُواْ بِهَا أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها وقال ابن قتيبة ظَلَمُواْ بِهَا أي جحدوا بأنها من الله تعالى
ثم قال تعالى وَمَا نُرْسِلُ بِالاْيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا قيل لا آية إلا وتتضمن التخويف بها عند التكذيب إما من العذاب المعجل أو من عذاب الآخرة
فإن قيل المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدعي فكيف حصر المقصود من إظهارها في التخويف
قلنا المقصود أن مدعي النبوة إذا أظهر الآية فإذا سمع الخلق أنه أظهر آية فهم لا يعلمون أن تلك(20/187)
الآية معجزة أو مخوفة إلا أنهم يجوزون كونها معجزة وبتقدير أن تكون معجزة فلو لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها على الصدق لاستحقوا العقاب الشديد فهذا هو الخوف الذي يحملهم على التفكر والتأمل في تلك المعجزات فالمراد من قوله وَمَا نُرْسِلُ بِالاْيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا هذا الذي ذكرناه والله أعلم
واعلم أن القوم لما طالبوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمعجزات القاهرة وأجاب الله تعالى بأن إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سبباً لجرأة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له لو كنت رسولاً حقاً من عند الله تعالى لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها منك كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء فعند هذا قوى الله قلبه وبين له أنه تعالى ينصره ويؤيده فقال وَإِذَا قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وفيه قولان
القول الأول المعنى أن حكمته وقدرته محيطة بالناس فهم في قبضته وقدرته ومتى كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره والمقصود كأنه تعالى يقول له ننصرك ونقويك حتى تبلغ رسالتنا وتظهر ديننا قال الحسن حال بينهم وبين أن يقتلوه كما قال تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 )
والقول الثاني أن المراد بالناس أهل مكة وإحاطة الله بهم هو أنه تعالى يفتحها للمؤمنين فكان المعنى وإذ بشرناك بأن الله أحاط بأهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم ونظيره قوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( القمر 45 ) وقال قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ( آل عمران 12 ) إلى قوله أَحَاطَ بِالنَّاسِ لما كان كل ما يخبر الله عن وقوعه فهو واجب الوقوع فكان من هذا الاعتبار كالواقع فلا جرم قال أَحَاطَ بِالنَّاسِ وروي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول ( أللهم إني أسألك عهدك ووعدك لي ) ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
ثم قال تعالى وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلنَّاسِ وفي هذه الرؤيا أقوال
القول الأول أن الله أرى محمداً في المنام مصارع كفار قريش فحين ورد ماء بدر قال ( والله كأني أنظر إلى مصارع القوم ) ثم أخذ يقول ( هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان ) فلما سمعت قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية وكانوا يستعجلون بما وعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن المراد رؤياه التي رآها أنه يدخل مكة وأخبر بذلك أصحابه فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم وقال عمر لأبي بكر أليس قد أخبرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا ندخل البيت ونطوف به فقال أبو بكر إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى فلما جاء العام المقبل دخلها وأنزل الله تعالى لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ ( الفتح 27 ) اعترضوا على هذين القولين فقالوا هذه السورة مكية وهاتان الواقعتان مدنيتان وهذا السؤال ضعيف لأن هاتين الواقعتين مدنيتان أما رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولها في مكة
والقول الثالث قال سعيد بن المسيب رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والإشكال المذكور عائد فيه لأن هذه الآية مكية وما كان(20/188)
لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة منبر ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يرى بمكة أن له بالمدينة منبراً يتداوله بنو أمية
والقول الرابع وهو الأصح وهو قول أكثر المفسرين أن المراد بها ما أراه الله تعالى ليلة الإسراء واختلفوا في معنى هذه الرؤيا فقال الأكثرون لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة يقال رأيت بعيني رؤية ورؤيا وقال الأقلون هذا يدل على أن قصة الإسراء إنما حصلت في المنام وهذا القول ضعيف باطل على ما قررناه في أول هذه السورة وقوله إِلاَّ فِتْنَة ً لّلنَّاسِ معناه أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان آمن به وازداد المخلصون إيماناً فلهذا السبب كان امتحاناً
ثم قال تعالى وَالشَّجَرَة َ الْمَلْعُونَة َ فِى القُرْءانِ وهذا على التقديم والتأخير والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس وقيل المعنى والشجرة الملعونة في القرآن كذلك واختلفوا في هذه الشجرة فالأكثرون قالوا إنها شجرة الزقوم المذكورة في القرآن في قوله إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ ( الدخان 43 44 ) وكانت هذه الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين الأول أن أبا جهل قال زعم صاحبكم بأن نار جهنم تحرق الحجر حيث قال وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ ( التحريم 6 ) ثم يقول بأن في النار شجراً والنار تأكل الشجر فكيف تولد فيها الشجر والثاني قال ابن الزبعري ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر إِنَّا جَعَلْنَاكَ فِتْنَة ً لّلظَّالِمِينَ ( الصافات 63 ) الآيات
فإن قيل ليس في القرآن لعن هذه الشجرة
قلنا فيه وجوه الأول المراد لعن الكفار الذين يأكلونها الثاني العرب تقول لكل طعام مكروه ضار إنه ملعون والثالث أن اللعن في أصل اللغة هو التبعيد فلما كانت هذه الشجرة الملعونة في القرآن مبعدة عن جميع صفات الخير سميت ملعونة
القول الثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما الشجرة بنو أمية يعني الحكم بن أبي العاص قال ورأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره فقص رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما فلما تفرقوا سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحكم يخبر برؤيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاشتد ذلك عليه واتهم عمر في إفشاء سره ثم ظهر أن الحكم كان يتسمع إليهم فنفاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال الواحدي هذه القصة كانت بالمدينة والسورة مكية فيبعد هذا التفسير إلا أن يقال هذه الآية مدنية ولم يقل به أحد ومما يؤكد هذا التأويل قول عائشة لمروان لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنه الله
والقول الثالث أن الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( المائدة 78 )
فإن قال قائل إن القوم لما طلبوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الإتيان بالمعجزات القاهرة فأجاب أنه لا مصلحة في إظهارها لأنها لو ظهرت ولم تؤمنوا نزل الله عليكم عذاب الاستئصال وذلك غير جائز وأي تعلق لهذا الكلام بذكر الرؤيا التي صارت فتنة للناس وبذكر الشجرة التي صارت فتنة للناس(20/189)
قلنا التقدير كأنه قيل إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا يوهن أمرك ولا يصير سبباً لضعف حالك ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا صار سبباً لوقوع الشبهة العظيمة في القلوب ثم إن قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفاً في أمرك ولا فتوراً في اجتماع المحقين عليك فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا توجب فتوراً في حالك ولا ضعفاً في أمرك والله أعلم
ثم قال تعالى وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا والمقصود منه ذكر سبب آخر في أنه تعالى ما أظهر المعجزات التي اقترحوها وذلك لأن هؤلاء خوفوا بمخاوف الدنيا والآخرة وبشجرة الزقوم فما زادهم هذا التخويف إلا طغياناً كبيراً وذلك يدل على قسوة قلوبهم وتماديهم في الغي والطغيان وإذا كان الأمر كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها ولا يزدادون إلا تمادياً في الجهل والعناد وإذا كان كذلك وجب في الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات والله أعلم(20/190)
بداية الجزء الحادى والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(21/2)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَى َّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاٌّ مْوَالِ وَالاٌّ وْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً
فيه مسائل
المسألة الأولى ي كيفية النظم وجوه الأول اعلم أنه تعالى لما ذكر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه بين أن حال الأنبياء مع أهل زمانهم كذلك ألا ترى أن أول الأولياء هو آدم ثم إنه كان في محنة شديدة من إبليس الثاني أن القوم إنما نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد أما الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد وأما الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة والدرجة العالية فبين تعالى أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج من الإيمان والدخول في الكفر فهذه بلية قديمة ومحنة عظيمة للخلق والثالث أنه تعالى لما وصفهم بقوله فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا الإسراء 60 بين ما هو السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس لأحتنكن ذريته إلا قليلا فلأجل هذا المقصود ذكر الله تعالى قصة إبليس وآدم فهذا هو الكلام في كيفية النظم
المسألة الثانية اعلم أنه هذه القصة قد ذكرها الله تعالى في سور سبعة وهي البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدم في البقرة الأعراف والحجر فلا فائدة في الإعادة ولا بأس بتعديد بعض المسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن المأمورين بالسجود لآدم أهم جميع الملائكة أم ملائكة الأرض على التخصيص فظاهر لفظ الملائكة بفبد العموم إلا أن قوله تعالى في آخر سورة الأعراف في صفة ملائكة السموات وله يسجدون الأعراف 206 يوجب خروج ملائكة السموات من هذا العموم
المسألة الثانية أن المراد من هذه السجدة وضع الجبهة على الأرض أو التحية وعلى التقدير الأول(21/3)
فآدم كان هو المسجود له أو يقال كان المسجود له هو الله تعالى وآدم كان قبلة للسجود
المسألة الثالثة إن إبليس هل هو من الملائكة أم لا وإن لم يكن من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود كيف يتناوله
المسألة الرابعة هل كان إبليس كافرا من أول الأمر أو يقال إنما كفر في ذلك الوقت
المسالة الخامسة الملائكة سجدوا لآدم من أول ما كملت حياته أو بعد ذلك
االمسألة السادسة شبهة إبليس في الامتناع من السجود أهو قوله أأسجد لمن خلقت طينا أو غيره
المسألة السابعة دلت هذه الآيات على أن إبليس كان عارفا بربه إلا أنه وقع في الكفر بسبب الكبر والحسد ومنهم من أنكر وقال ما عرف الله البتة
المسألة الثامنة ما سبب حكمة إمهال إبليس وتسليطه على الخلق بالوسوسة
ولنرجع إلى التفسير فنقول إنه تعالى حكة في هذه الآية عن إبليس نوعا واحدا من العمل ونوعين من القول أما العمل فهو أنه لم يسجد لآدم وهو المراد من قوله فسجدوا إلا إبليس وأما النوعان من القول فأولهما قوله أأسجد لمن خلقت طينا وهذا استفهام بمعنى الإنكار معناه أن أصلي أشرف من أصله فوجب أن أكون أنا أشرف منه والأشرف يقبح في العقول أمره بخدمة الأدنى والنوع الثاني من كلامه قوله أرأيتك هذا الذي كرمت علي قال الزجاج قوله أرأيت معناه أخبرني وقد استقصينا البحث في تفسير هذه الكلمة في سورة الأنعام وقوله هذا الذي كرمت علي فيه وجوه الأول معناه أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته علي وأنا خير منه ثم اختصر الكلام لكونه مفهوما الثاني يمكن أن يقال خذا مبتدأ محذوف منه حرف الاستفهام والذي مع صلته خبر تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي وذلك على وجه محذوف منه حرف الاستفهام والذي مع صلته خبر تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي أغنى عن تكراره والوجه الثالث أن يكون هذا مفعول أرأيت لأن الكاف جاءت لمجرد الخطاب لا محل لها كأنه قال على وجه التعجب والإنكار أبصرت أو علمت هذا الذي كرمت علي بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا تكرمه علي هذا هو حقيقة هذه الكلمة ثم قال تعالى حكاية عنه لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا وفيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير لئن أخرتني إلى يوم القيامة بإثبات الياء في الوصل والوقف وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف نافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف
البحث الثاني في الاحتناك قولان أحدهما أنه عبارة عن الأخذ بالكلية يقال احتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية والثاني أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به وقال أبو مسلم الأحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالإغواء وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها
البحث الثالث قوله إلا قليلا هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان البقرة 30(21/4)
فإن قيل كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم قلنا فيه وجوه الأول أنه سمع الملائكة يقولون أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء البقرة 30 فعرف هذه الأحوال الثاني أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم الثالث أنه عرف أنه مركب من قوة بهيمية شهوانية وقوة سبعية غضبية وقوة وهمية شيطانية وقوة عقلية ملكية وعرف أن القوى الثلاث أعني الشهوانية والغضبية والوهمية تكون هي المستولية في أول الخلقة ثم إن القوة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر ومتى كان الأمر كذلك كان ما ذكره إبليس لازما واعلم أنه تعالى لما حكى عن إبليس ذلك حكى عن نفسه أنه تعالى قال له اذهب وهذا ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته والمقصود التخلية وتفويض الأمر إليه
ثم قال فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ونظيره قول موسى عليه الصلاة والسلام فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس طه 97 فإن قيل أليس الأولى أن يقال فإن جهنم جزاؤهم جزاء موفورا ليكون هذا الضمير راجعا إلى قوله فمن تبعك قلنا فيه وجوه الأول التقدير فإن جهنم جزاؤهم وجزاؤكم ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل جزاؤكم والثاني يجوز أن يكون هذا الخطاب مع الغائبين على طريقة الالتفات والثالث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال { من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزر ذلك العامل
فلما كان إبليس هو الأصل في كل المعاصي صار المخاطب بالوعيد هو إبليس ثم قال جزاء موفورا وهذه اللفظة قد تجيء متعديا ولازما أما المتعدي فيقال وفرته أفره وفرا و وفرة فهو موفور و موفر قال زهير ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
واللازم كقوله وفر المال يفر وفورا فهو وافر فعلى التقدير الأول يكون المعنى جزاء موفورا موفرا وعلى الثاني يكون المعنى جزاء موفورا وافرا وانتصب قوله جزاء على المصدر
قوله تعالى
واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا(21/5)
اعلم أن إبليس لما طلب من الله الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم فالله تعالى ذكر أشياء أولها قوله اذْهَبْ ومعناه أمهلتك هذه المدة وثانيها قوله تعالى وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ يقال أفزه الخوف واستفزه أي أزعجه واستخفه وصوته دعاؤه إلى معصية الله تعالى وقيل أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب ومعنى صيغة الأمر هنا التهديد كما يقال اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك وثالثها بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ في قوله وَأَجْلِبْ وجوه الأول قال الفراء إنه من الجلبة وهو الصياح وربما قالوا الجلب كما قالوا الغلبة والغلب والشفقة والشفق وقال الليث وأبو عبيدة أجلبوا وجلبوا من الصياح الثاني قال الزجاج في فعل وأفعل أجلب على العدو إجلاباً إذا جمع عليه الخيول الثالث قال ابن السكيت يقال هم يجلبون عليه بمعنى أنهم يعينون عليه والرابع روى ثعلب عن ابن الأعرابي أجلب الرجل على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع فقوله وأجلب عليهم معناه على قول الفراء صح عليهم بخيلك ورجلك وعلى قول الزجاج أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وتكون الباء في قوله بخيلك زائدة على هذا القول وعلى قول ابن السكيت معناه أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف كأنه يستعين على إغوائهم بخيله ورجله وهذا أيضاً يقرب من قول ابن الأعرابي واختلفوا في تفسير الخيل والرجل فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال ( كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده ) ويدخل فيه كل راكب وماشٍ في معصية الله تعالى فعلى هذا التقدير خيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية والقول الثاني يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل والقول الثالث أن المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وهذا الوجه أقرب والخيل تقع على الفرسان قال عليه الصلاة والسلام ( يا خيل الله اركبي ) وقد تقع على الأفراس خاصة والمراد ههنا الأول والرجل جمع راجل كما قالوا تاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب وروى حفص عن عاصم ورجلك بكسر الجيم وغيره بالضم قال أبو زيد يقال رجل ورجل بمعنى واحد ومثله حدث وحدث وندس وندس قال ابن الأنباري أخبرنا ثعلب عن الفراء قال يقال رجل ورجل ورجلان بمعنى واحد والنوع الرابع من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس قوله وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلَادِ نقول أما المشاركة في الأموال فهي عبارة عن كل تصرف قبيح في المال سواء كان ذلك القبيح بسبب أخذه من غير حقه أو وضعه في غير حقه ويدخل فيه الربا والغصب والسرقة والمعاملات الفاسدة وهكذا قاله القاضي وهو ضبط حسن وأما المفسرون فقد ذكروا وجوهاً قال قتادة المشاركة في الأموال هي أن جعلوا بحيرة وسائبة وقال عكرمة هي عبارة عن تبتيكهم آذان الأنعام وقيل هي أن جعلوا من أموالهم شيئاً لغير الله تعالى كما قال تعالى فَقَالُواْ هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَائِنَا ( الأنعام 136 ) والأصوب ما قاله القاضي وأما المشاركة في الأولاد فذكروا فيه وجوهاً أحدها أنها الدعاء إلى الزنا وزيف الأصم ذلك بأن قال إنه لا ذم على الولد ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد وشاركهم في طريق تحصيل الولد وذلك بالدعاء إلى الزنا وثانيها أن يسموا أولادهم بعبد اللات وعبد العزى وثالثها أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية وغيرهما ورابعها إقدامهم على قتل الأولاد ووأدهم وخامسها ترغيبهم في حفظ الأشعار المشتملة على الفحش وترغيبهم في القتل والقتال والحرف الخبيثة الخسيسة والضابط أن يقال إن كل تصرف من المرء في ولده على وجه يؤدي إلى ارتكاب منكر أو(21/6)
قبيح فهو داخل فيه
والنوع الخامس من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس في هذه الآية قوله وَعَدَّهُمْ
واعلم أنه لما كان مقصود الشيطان الترغيب في الاعتقاد الباطل والعمل الباطل والتنفير عن الاعتقاد الحق والعمل الحق ومعلوم أن الترغيب في الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا ضرر البتة في فعله ومع ذلك فإنه يفيد المنافع العظيمة والتنفير عن الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا فائدة في فعله ومع ذلك فيفيد المضار العظيمة إذا ثبت هذا فنقول إن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد وأن يقرر أولاً أنه لا مضرة في فعله البتة وذلك إنما يمكن إذا قال لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة فبهذا الطريق يقرر عنده أنه لا مضرة البتة في فعل هذه المعاصي وإذا فرغ عن هذا المقام قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في هذه الدنيا إلا به فتفويتها غبن وخسران كما قال الشاعر خذوا بنصيب من سرور ولذة
فكل وإن طال المدى يتصرم
فهذا هو طريق الدعوة إلى المعصية وأما طريق التنفير عن الطاعة فهو أن يقرر أولاً عنده أنه لا فائدة فيه وتقريره من وجهين الأول أن يقول لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عذاب والثاني أن هذه العبادات لا فائدة فيها للعابد والمعبود فكانت عبثاً محضاً فبهذين الطريقين يقرر الشيطان عند الإنسان أنه لا فائدة فيها وإذا فرغ عن هذا المقام قال إنها توجب التعب والمحنة وذلك أعظم المضار فهذه مجامع تلبيس الشيطان فقوله وَعَدَّهُمْ يتناول كل هذه الأقسام قال المفسرون قوله وَعَدَّهُمْ أي بأنه لا جنة ولا نار وقال آخرون وَعَدَّهُمْ بتسويف التوبة وقال آخرون وَعَدَّهُمْ بالأماني الباطلة مثل قوله لآدم مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) وقال آخرون وعدهم بشفاعة الأصنام عند الله تعالى وبالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل وبالجملة فهذه الأقسام كثيرة وكلها داخلة في الضبط الذي ذكرناه وإن أردت الاستقصاء في هذا الباب فطالع كتاب ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين للشيخ الغزالي حتى يحيط عقلك بمجامع تلبيس إبليس واعلم أن الله تعالى لما قال وَعَدَّهُمْ أردفه بما يكون زاجراً عن قبول وعده فقال وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى أحد أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة وعلو الدرجة ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى ولا إلى خدمته وتلك الأشياء الثلاثة معنوية من وجوه كثيرة أحدها أنها في الحقيقة ليست لذات بل هي خلاص عن الآلام وثانيها وإن كانت لذات لكنها لذات خسيسة مشترك فيها بين الكلاب والديدان والخنافس وغيرها وثالثها أنها سريعة الذهاب والانقضاء والانقراض ورابعها أنها لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة وخامسها أن لذات البطن والفرج لا تتم إلا بمزاولة رطوبات عفنة مستقذرة وسادسها أنها غير باقية بل يتبعها الموت والهرم والفقر والحسرة على الفوت والخوف من الموت فلما كانت هذه المطالب وإن كانت لذيذة بحسب الظاهر إلا أنها ممزوجة بهذه الآفات العظيمة والمخالفات الجسيمة كان الترغيب فيها تغريراً ولهذا المعنى قال تعالى وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
واعلم أنه تعالى لما قال له افعل ما تقدر عليه فقال تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وفيه قولان(21/7)
الأول أن المراد كل عباد الله من المكلفين وهذا قول أبي علي الجبائي قال والدليل عليه أن الله تعالى إستثنى منه في آيات كثيرة من يتبعه بقوله إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ ( الحجر 42 ) ثم استدل بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع الناس وتخبيط عقولهم وأنه لا قدرة له إلا على قدر الوسوسة وأكد ذلك بقوله تعالى وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ( إبراهيم 22 ) وأيضاً فلو قدر على هذه الأعمال لكان يجب أن يتخبط أهل الفضل وأهل العلم دون سائر الناس ليكون ضرره أعظم ثم قال وإنما يزول عقله لا من جهة الشيطان لكن لغلبة الأخلاط الفاسدة ولا يمتنع أن يكون أحد أسباب ذلك المرض اعتقاد أن الشيطان يقدم عليه فيغلب الخوف فيحدث ذلك المرض
والقول الثاني أن المراد بقوله إِنَّ عِبَادِى أهل الفضل والعلم والإيمان لما بينا فيما تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوص بأهل الإيمان والدليل عليه أنه قال في آية أخرى إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ( النحل 100 )
ثم قال وَكَفَى بِرَبّكَ وَكِيلاً وفيه بحثان
البحث الأول أنه تعالى لما مكن إبليس من أن يأتي بأقصى ما يقدر عليه في باب الوسوسة وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان قال وَكَفَى بِرَبّكَ وَكِيلاً ومعناه أن الشيطان وإن كان قادراً فالله تعالى أقدر منه وأرحم بعباده من الكل فهو تعالى يدفع عنه كيد الشيطان ويعصمه من إضلاله وإغوائه
البحث الثاني هذه الآية تدل على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلالة لأنه لو كان الإقدام على الحق والاحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه لوجب أن يقال وكفى الإنسان نفسه في الاحتراز عن الشيطان فلما لم يقل ذلك بل قال وَكَفَى بِرَبّكَ علمنا أن الكل من الله ولهذا قال المحققون لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول أن إبليس هل كان عالماً بأن الذي تكلم معه بقوله وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ هو إله العالم أو لم يعلم ذلك فإن علم ذلك ثم إنه تعالى قال فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعاً له من المعصية مع أنه سمعه من الله تعالى من غير واسطة وإن لم يعلم أن هذا القائل هو إله العالم فكيف قال قَالَ أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ
والجواب لعله كان شاكاً في الكل أو كان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن
والسؤال الثاني ما الحكمة في أنه تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة والحكيم إذا أراد أمراً وعلم أن شيئاً من الأشياء يمنع من حصوله فإنه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع
والجواب أما مذهبنا فظاهر في هذا الباب وأما المعتزلة فلهم قولان قال الجبائي علم الله تعالى أن الذين كفروا عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد إبليس وإذا كان كذلك لم يكن في وجوده(21/8)
مزيد مفسدة وقال أبو هاشم لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة إلا أنه تعالى أبقاه تشديداً للتكليف على الخلق ليستحقوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثواب وهذان الوجهان قد ذكرناهما في سورة الأعراف والحجر وبالغنا في الكشف عنهما والله أعلم
رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَة ً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته وقد ذكرنا أن المقصود الأعظم في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد فإذا امتد الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد والمذكور ههنا الوجوه المستنبطة من الانعامات في أحوال ركوب البحر
فالنوع الأول كيفية حركة الفلك على وجه البحر وهو قوله رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حال وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله بِبِضَاعَة ٍ مُّزْجَاة ٍ والمعنى ربكم الذي يسير الفلك على وجه البحر لتبتغوا من فضله في طلب التجارة إنه كان بكم رحيماً والخطاب في قوله رَبُّكُمْ وفي قوله إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ عام في حق الكل والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها
والنوع الثاني قوله وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ والمراد من الضر الخوف الشديد كخوف الغرق ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ والمراد أن الإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والشمس والقمر والملك والفلك وإنما يتضرع إلى الله تعالى فلما نجاكم من الغرق والبحر وأخرجكم إلى البر أعرضتم عن الإيمان والإخلاص وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا لنعم الله بسبب أن عند الشدة يتمسك بفضله ورحمته وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره
والنوع الثالث قوله أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفْ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ قال الليث الخسف والخسوف هو دخول الشيء في الشيء يقال عين خاسفة وهي التي غابت حدقتها في الرأس وعين من الماء خاسفة أي غائرة الماء وخسفت الشمس أي احتجبت وكأنها وقعت تحت حجاب أو دخلت في جحر فقوله ءانٍ يَخْسِفْ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ(21/9)
أي نغيبكم من جانب البر وهو الأرض وإنما قال جَانِبَ الْبَرّ لأنه ذكر البحر في الآية الأولى فهو جانب والبر جانب خبر الله تعالى أنه كما قدر على أن يغيبهم في الماء فهو قادر أيضاً على أن يغيبهم في الأرض فالغرق تغييب تحت الماء كما أن الخسف تغييب تحت التراب وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم كانوا خائفين من هول البحر فلما نجاهم منه آمنوا فقال هب أنكم نجوتم من هول البحر فكيف أمنتم من هو البر فإنه تعالى قادر على أن يسلط عليكم آفات البر من جانب التحت أو من جانب الفوق أما من جانب التحت فبالخسف وأما من جانب الفوق فبامطار الحجارة عليهم وهو المراد من قوله أَوْ نُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فكما لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى عند ركوب البحر فكذلك يجب أن لا يتضرعوا إلا إليه في كل الأحوال ومعنى الحصب في اللغة الرمي يقال حصبت أحصب حصباً إذا رميت والحصب المرمي ومنه قوله تعالى حَصَبُ جَهَنَّمَ أي يلقون فيها ومعنى قوله حَاصِباً أي عذاباً يحصبهم أي يرميهم بحجارة ويقال للريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب والسحاب الذي يرمي بالثلج والبرد يسمى حاصباً لأنه يرمي بهما رمياً وقال الزجاج الحاصب التراب الذي فيه حصباء والحاصب على هذا ذو الحصباء مثل اللابن والتامر وقوله ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً يعني لا تجدوا ناصراً ينصركم ويصونكم من عذاب الله ثم قال أَمْ أَمِنتُمْ أَن نُعِيدُكُمْ فِيهِ أي في البحر تارة أخرى وقوله فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا من الريح القاصف الكاسر يقال قصف الشيء يقصفه قصفاً إذا كسره بشدة والقاصف من الريح التي تكسر الشجر وأراد ههنا ريحاً شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ أي بسبب كفركم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً قال الزجاج أي لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم وتبيع بمعنى تابع
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ خمسة وهي قوله ءانٍ نَخْسِفْ أَوْ نُرْسِلُ أَوْ نُعِيدُكُمْ قرأ ابن كثير وأبو عمرو جميع هذه الخمسة بالنون والباقون بالياء فمن قرأ بالياء فلأن ما قبله على الواحد الغائب وهو قوله مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ ( الإسراء 67 ) ومن قرأ بالنون فلأن هذا البحر من الكلام قد ينقطع بعضه من بعض وهو سهل لأن المعنى واحد ألا ترى أنه قد جاء وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إِسْراءيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً فانتقل من الجمع إلى الأفراد وكذلك ههنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب والمعنى واحد والكل جائز والله أعلم
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر نعمة أخرى جليلة رفيعة من نعم الله تعالى على الإنسان وهي الأشياء التي بها فضل الإنسان على غيره وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أربعة أنواع
النوع الأول قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ واعلم أن الإنسان جوهر مركب من النفس والبدن فالنفس(21/10)
الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في العالم السفلي وبدنه أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي وتقرير هذه الفضيلة في النفس الإنسانية هي أن النفس الإنسانية قواها الأصلية ثلاث وهي الأغتذاء والنمو والتوليد والنفس الحيوانية لها قوتان الحساسة سواء كانت ظاهرة أو باطنة والحركة بالاختيار فهذه القوى الخمسة أعني الاغتذاء والنمو والتوليد والحس والحركة حاصلة للنفس الإنسانية ثم إن النفس الإنسانية مختصة بقوة أخرى وهي القوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي وهي التي يتجلى فيها نور معرفة الله تعالى ويشرق فيها ضوء كبريائه وهو الذي يطلع على أسرار عالمي الخلق والأمر ويحيط بأقسام مخلوقات الله من الأرواح والأجسام كما هي وهذه القوة من تلقيح الجواهر القدسية والأرواح المجردة الإلهية فهذه القوة لا نسبة لها في الشرف والفضل إلى تلك القوى النباتية والحيوانية وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن النفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في هذا العالم وإن أردت أن تعرف فضائل القوة العقلية ونقصانات القوى الجسمية فتأمل ما كتبناه في هذا الكتاب في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) فإنا ذكرنا هناك عشرين وجهاً في بيان أن القوة العقلية أجل وأعلى من القوة الجسمية فلا فائدة في الإعادة وأما بيان أن البدن الإنساني أشرف أجسام هذا العالم فالمفسرون إنما ذكروا في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ هذا النوع من الفضائل وذكروا أشياء أحدها روى ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ قال كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيديه وقيل إن الرشيد أحضرت عنده أطعمة فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف فقال له جاء في التفسير عن جدك في قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه وثانيها قال الضحاك بالنطق والتمييز وتحقيق الكلام أن من عرف شيئاً فأما أن يعجز عن تعريف غيره كونه عارفاً بذلك الشيء أو يقدر على هذا التعريف
أما القسم الأول فهو حال جملة الحيوانات سوى الإنسان فإنه إذا حصل في باطنها ألم أو لذة فإنها تعجز عن تعريف غيرها تلك الأحوال تعريفاً تاماً وافيا
وأما القسم الثاني فهو الإنسان فإنه يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه ووقف عليه وأحاط به فكونه قادراً على هذا النوع من التعريف هو المراد بكونه ناطقاً وبهذا البيان ظهر أن الإنسان الأخرس داخل في هذا الوصف لأنه وإن عجز عن تعريف غيره ما في قلبه بطريق اللسان فإنه يمكنه ذلك بطريق الإشارة وبطريقة الكتابة وغيرهما ولا يدخل فيه الببغاء لأنه وإن قدر على تعريفات قليلة فلا قدرة له على تعريف جميع الأحوال على سبيل الكمال والتمام وثالثها قال عطاء بامتداد القامة
واعلم أن هذا الكلام غير تام لأن الأشجار أطور من قامة الإنسان بل ينبغي أن يشترط فيه شرط وهو طول القامة مع استكمال القوة العقلية والقوى الحسية والحركية ورابعها قال بيان بحسن الصورة والدليل عليه قوله تعالى وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ( غافر 64 ) لما ذكر الله تعالى خلقة الإنسان قال فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وقال صِبْغَة َ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة ً ( البقرة 138 ) وإن شئت فتأمل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان وهو العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض(21/11)
الجفن سواد الحاجبين ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق بياض الجبهة سواد الشعر وليكن هذا المثال الواحد أنموذجاً لك في هذا الباب وخامسها قال بعضهم من كرامات الآدمي أن آتاه الله الخط وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلم الذي يقدر الإنسان على استنباطه يكون قليلاً أما إذا استنبط الإنسان علماً وأودعه في الكتاب وجاء الإنسان الثاني واستعان بذلك الكتاب وضم إليه من عند نفسه أشياء أخرى ثم لا يزالون يتعاقبون ويضم كل متأخر مباحث كثيرة إلى علم المتقدمين كثرت العلوم وقويت الفضائل والمعارف وانتهت المباحث العقلية والمطالب الشرعية إلى أقصى الغايات وأكمل النهايات ومعلوم أن هذا الباب لا يتأتى إلا بواسطة الخط والكتبة ولهذه الفضيلة الكاملة قال تعالى اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وسادسها أن أجسام هذا العالم إما بسائط وإما مركبات أما البسائط فهي الأرض والماء والهواء والنار والإنسان ينتفع بكل هذه الأربع أما الأرض فهي لنا كالأم الحاضنة قال تعالى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَة ً أُخْرَى ( طه 55 ) وقد سماها الله تعالى بأسماء بالنسبة إلينا وهي الفراش والمهد والمهاد وأما الماء فانتفاعنا به في الشرب والزراعة والحراثة ظاهر وأيضاً سخر البحر لنأكل منه لحماً طرياً ونستخرج منه حلية نلبسها ونرى الفلك مواخر فيه وأما الهواء فهو مادة حياتنا ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على هذه المعمورة وأما النار فيها طبخ الأغذية والأشربة ونضجها وهي قائمة مقام الشمس والقمر في الليالي المظلمة وهي الدافعة لضرر البرد كما قال الشاعر ومن يرد في الشتاء فاكهة
فإن نار الشتاء فاكهته
وأما المركبات فهي إما الآثار العلوية وإما المعادن والنبات وأما الحيوان والإنسان كالمستولي على هذه الأقسام والمنتفع بها والمستسخر لكل أقسامها فهذا العالم بأسره جار مجرى قرية معمورة أو خان معد وجميع منافعها ومصالحها مضروفة إلى الإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع وسائر الحيوانات بالنسبة إليه كالعبيد وكل ذلك يدل على كونه مخصوصاً من عند الله بمزيد التكريم والتفضيل والله أعلم وسابعها أن المخلوقات تنقسم إلى أربعة أقسام إلى ما حصلت له القوة العقلية الحكمية ولم تحصل له القوة الشهوانية الطبيعية وهم الملائكة وإلى ما يكون بالعكس وهم البهائم وإلى ما خلا عن القسمين وهو النبات والجمادات وإلى ما حصل النوعان فيه وهو الإنسان ولا شك أن الإنسان لكونه مستجمعاً للقوة العقلية القدسية المحضة وللقوى الشهوانية البهيمية والغضبية والسبعية يكون أفضل من البهيمية ومن السبعية ولا شك أيضاً أنه أفضل من الأجسام الخالية عن القوتين مثل النبات والمعادن والجمادات وإذا ثبت ذلك ظهر أن الله تعالى فضل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات بقي ههنا بحث في أن الملك أفضل أم البشر والمعنى أن الجوهر البسيط الموصوف بالقوة العقلية القدسية المحضة أفضل أم البشر المستجمع لهاتين القوتين وذلك بحث آخر وثامنها الموجود إما أن يكون أزلياً وأبدياً معاً وهو الله سبحانه وتعالى وإما أن يكون ولا أزلياً لا أبدياً وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان وهذا أخس الأقسام وإما أن يكون أزلياً لا أبدياً وهو الممتنع الوجود لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه وإما أن لا يكون أزلياً ولكنه يكون أبدياً وهو الإنسان والملك ولا شك أن هذا القسم أشرف من القسم الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر مخلوقات الله تعالى وتاسعها العالم العلوي أشرف من العالم السفلي وروح(21/12)
الإنسان من جنس الأرواح العلوية والجواهر القدسية فليس في موجودات العالم السفلي شيء حصل فيه شيء من العالم العلوي إلا الإنسان فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفلي وعاشرها أشرف الموجودات هو الله تعالى وإذا كان كذلك فكل موجود كان قربه من الله تعالى أتم وجب أن يكون أشرف لكن أقرب موجودات هذا العالم من الله هو الإنسان بسبب أن قلبه مستنير بمعرفة الله تعالى ولسانه مشرف بذكر الله وجوارحه وأعضاؤه مكرمة بطاعة الله تعالى فوجب الجزم بأن أشرف موجودات هذا العالم السفلي هو الإنسان ولما ثبت أن الإنسان موجود ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ثبت أن كل ما حصل للإنسان من المراتب العالية والصفات الشريفة فهي إنما حصلت بإحسان الله تعالى وإنعامه فلهذا المعنى قال تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ومن تمام كرامته على الله تعالى أنه تعالى لما خلقه في أول الأمر وصف نفسه بأنه أكرم فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ ( العلق 1 4 ) ووصف نفسه بالتكريم عند تربيته للإنسان فقال وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ووصف نفسه بالكرم في آخر أحوال الإنسان فقال وَأَخَّرَتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الإنفطار 6 ) وهذا يدل على أنه لا نهاية لكرم الله تعالى ولفضله وإحسانه مع الإنسان والله أعلم
والوجه الحادي عشر قال بعضهم هذا التكريم معناه أنه تعالى خلق آدم بيده وخلق غيره بطريق كن فيكون ومن كان مخلوقاً بيد الله كانت العناية به أتم وأكمل وكان أكرم وأكمل ولما جعلنا من أولاده وجب كون بني آدم أكرم وأكمل والله أعلم
النوع الثاني من المدائح المذكورة في هذه الآية قوله وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ قال ابن عباس في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وفي البحر على السفن وهذا أيضاً من مؤكدات التكريم المذكور أولاً لأنه تعالى سخر هذه الدواب له حتى يركبها ويحمل عليها ويغزو ويقاتل ويذب عن نفسه وكذلك تسخير الله تعالى المياه والسفن وغيرها ليركبها وينقل عليها ويتكسب بها مما يختص به ابن آدم كل ذلك مما يدل على أن الإنسان في هذا العالم كالرئيس المتبوع والملك المطاع وكل ما سواه فهو رعيته وتبع له
النوع الثالث من المدائح قوله وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وذلك لأن الأغذية إما حيوانية وإما نباتية وكلا القسمين إنما يتغذى الإنسان منه بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامة والطبخ الكامل والنضج البالغ وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان
النوع الرابع قوله وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً وههنا بحثان
البحث الأول أنه قال في أول الآية وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وقال في آخرها وَفَضَّلْنَاهُمْ ولا بد من الفرق بين هذا التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار والأقرب أن يقال إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم إنه تعالى عرضه بواسطة ذلك العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل
البحث الثاني أنه تعالى لم يقل وفضلناهم على الكل بل قال وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(21/13)
فهذا يدل على أنه حصل في مخلوقات الله تعالى شيء لا يكون الإنسان مفضلاً عليه وكل من أثبت هذا القسم قال إنه هو الملائكة فلزم القول بأن الإنسان ليس أفضل من الملائكة بل الملك أفضل من الإنسان وهذا القول مذهب ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط واعلم أن هذا الكلام مشتمل على بحثين
البحث الأول أن الأنبياء عليهم السلام أفضل أم الملائكة وقد سبق ذكر هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ ( البقرة 34 )
والبحث الثاني أن عوام الملائكة وعوام المؤمنين أيهما أفضل منهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة واحتجوا عليه بما روي عن زيد بن أسلم أنه قال قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا ذاك في الآخرة فقال وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت له كُنَّ فكان وقال أبو هريرة رضي الله عنه المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده هكذا أورده الواحدي في ( البسيط ) وأما القائلون بأن الملك أفضل من البشر على الإطلاق فقد عولوا على هذه الآية وهو في الحقيقة تمسك بدليل الخطاب لأن تقرير الدليل أن يقال إن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد وذلك تمسك بدليل الخطاب والله أعلم
يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَائِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاٌّ خِرَة ِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا ذكر أحوال درجاته في الآخرة في هذه الآية وفيها مسائل
المسألة الأولى قرىء يدعو بالياء والنون ويدعى كل أناس على البناء للمفعول وقرأ الحسن يدعو كل أناس قال الفراء وأهل العربية لا يعرفون وجهاً لهذه القراءة المنقولة عن الحسن ولعله قرأ يدعى بفتحة ممزوجة بالضم فظن الراوي أنه قرأ يدعو
المسألة الثانية قوله يوم ندعو نصب بإضمار اذكر ولا يجوز أن يقال العامل فيه قوله وفضلناهم لأنه فعل ماضٍ ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد ونفضلهم بما نعطيهم من الكرامة والثواب
المسألة الثالثة قوله بِإِمَامِهِمْ الإمام في اللغة كل من ائتم به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبي إمام أمته والخليفة إمام رعيته والقرآن إمام المسلمين وإمام القوم هو الذي يقتدي به في الصلاة وذكروا في تفسير الإمام ههنا أقوال القول الأول إمامهم نبيهم روي ذلك مرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن(21/14)
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويكون المعنى أنه ينادي يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بإيمانهم ثم ينادي يا أتباع فرعون يا أتباع نمروذ يا أتباع فلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر وعلى هذا القول فالباء في قوله بإمامهم فيه وجهان الأول أن يكون التقدير يدعو كل أناس بإمامهم تبعاً وشيعة لأمامهم كما تقول ادعوك باسمك والثاني أن يتعلق بمحذوف وذلك المحذوف في موضع الحال كأنه قيل يدعو كل أناس مختلطين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده والقول الثاني وهو قول الضحاك وابن زيد بإمامهم أي بكتابهم الذي أنزل عليهم وعلى هذا التقدير ينادي في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل والقول الثالث قال الحسن بكتابهم الذي فيه أعمالهم وهو قول الربيع وأبي العالية والدليل على أن هذا الكتاب يسمى إماماً قوله تعالى وَكُلَّ شى ْء أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ ( ي س 12 ) فسمى الله تعالى هذا الكتاب إماماً وتقدير الباء على هذا القول بمعنى مع أي ندعو كل أناس ومعهم كتابهم كقولك ادفعه إليه برمته أي ومعه رمته القول الرابع قال صاحب ( الكشاف ) ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم وأن الناس يدعون يوم القيامة بإمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا ثم قال صاحب ( الكشاف ) وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته والقول الخامس أقول في اللفظ احتمال آخر وهو أن أنواع الأخلاق الفاضلة والفاسدة كثيرة والمستولي على كل إنسان نوع من تلك الأخلاق فمنهم من يكون الغالب عليه الغضب ومنهم من يكون الغالب عليه شهوة النقود أو شهوة الضياع ومنهم من يكون الغالب عليه الحقد والحسد وفي جانب الأخلاق الفاضلة منهم من يكون الغالب عليه العفة أو الشجاعة أو الكرم أو طلب العلم والزهد إذا عرفت هذا فنقول الداعي إلى الأفعال الظاهرة من تلك الأخلاق الباطنة فذلك الخلق الباطن كالإمام له والملك المطاع والرئيس المتبوع فيوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق فهذا هو المراد من قوله يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بمراده ثم قال تعالى فَمَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً قال صاحب ( الكشاف ) إنما قال أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع والفتيل القشرة التي في شق النواة وسمي بهذا الاسم لأنه إذا أراد الإنسان استخراجه انفتل وهذا يضرب مثلاً للشيء الحقير التافه ومثله القطمير والنقير في ضرب المثل به والمعنى لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيل ونظيره قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ( مريم 60 ) فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ( طه 112 ) وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال الفتيل هو الوسخ الذي يظهر بفتل الإنسان إبهامه بسبابته وهو فعيل من الفتل بمعنى مفتول فإن قيل لهم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أصحاب الشمال يقرؤونه أيضاً قلنا الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة والمخازي الشديدة فيستولي الخوف والدهشة على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزوا عن القراءة وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه وأثبتها ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارىء لأهل الحشر هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( الحاقه 19 ) فظهر الفرق والله أعلم ثم قال تعالى وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ونصر عن الكسائي ومن كان في هذه أعمى بالامالة(21/15)
والكسر فهو في الآخرة أعمى بالفتح وقرأ بالفتح والتفخيم فيهما ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في رواية بالامالة فيهما قال أبو علي الفارسي الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أن المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى وبهذا التقدير تكون هذه الكلمة تامة فتقبل الإمالة وأما في الكلمة الثانية فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل فكانت بمعنى أفعل من وبهذا التقدير لا تكون لفظة أعمى تامة فلم تقبل الإمالة والحاصل أن إدخال الأمالة في الأولى دل على أنه ليس المراد أفعل التفضيل وتركها في الثانية يدل على أن المراد منها أفعل التفضيل والله أعلم
المسألة الثانية لا شك أنه ليس المراد من قوله تعالى وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ أَعْمَى عمى البصر بل المراد منه عمى القلب أما قوله فهو في الآخرة أعمى ففيه قولان القول الأول أن المراد منه أيضاً عمى القلب وعلى هذا التقدير ففيه وجوه الأول قال عكرمة جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال اقرأ ما قبلها فقرأ رَبَّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ ( الإسراء 66 ) إلى قوله تَفْضِيلاً ( الإسراء 66 70 ) قال ابن عباس من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا وعلى هذا الوجه فقوله في هذه إشارة إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدمة وثانياً روى أبو ورق عن الضحاك عن ابن عباس قال من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي في خلق السموات والأرض والبحار والجبال والناس والدواب فهو عن أمر الآخرة أعمى وأضل سبيلاً وأبعد عن تحصيل العلم به وعلى هذا الوجه فقوله فمن كان في هذه إشارة إلى الدنيا وعلى هذين القولين فالمراد من كان في الدنيا أعمى القلب عن معرفة هذه النعم والدلائل فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى فالعمى في المرتين حصل في الدنيا وثالثها قال الحسن من كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من أبواب الآفات وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة ورابعها أنه لا يمكن حمل العمى الثاني على الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة فكان المراد منه العمى عن طريق الجنة أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن معرفة الله فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة وخامسها أن الذين حصل لهم عمى القلب في الدنيا إنما حصلت هذه الحالة لهم لشدة حرصهم على تحصيل الدنيا وابتهاجهم بلذاتها وطيباتها فهذه الرغبة تزداد في الآخرة وتعظم هناك حسرتها على فوات الدنيا وليس معهم شيء من أنوار معرفة الله تعالى فيبقون في ظلمة شديدة وحسرة عظيمة فذاك هو المراد من العمى القول الثاني أن يحمل العمى الثاني على عمى العين والبصر فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر كما قال وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ( طه 124 126 ) وقال وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا وهذا العمى زيادة في عقوبتهم والله أعلم(21/16)
وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِى َ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا
إعلم أنه تعالى لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر والتلبي فقال وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس في رواية عطاء نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألوه شططاً وقالوا متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يجبهم فكرروا ذلك الالتماس وقالوا إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنهم وداخلهم الطمع فصاح عليهم عمر وقال أما ترون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه فأنزل الله هذه الآية وروى صاحب ( الكشاف ) أنهم جاءوا بكاتبهم فكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله إلى ثقيف لا يعشرون ولا يحشرون فقالوا ولا يجبون فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب اكتب ولا يجبون والكاتب ينظر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقام عمر بن الخطاب وسل سيفه وقال أسعرتم قلب نبينا يا معشر قريش أسعر الله قلوبكم ناراً فقالوا لسنا نكلمك إنما نكلم محمداً فنزلت هذه الآية واعلم أن هذه القصة إنما وقعت بالمدينة فلهذا السبب قالوا إن هذه الآيات مدنية وروى أن قريشاً قالوا له اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت هذه الآية وقال الحسن الكفار أخذوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة بمكة قبل الهجرة فقالوا كف يا محمد عن ذم آلهتنا وشتمها فلو كان ذلك حقاً كان فلان وفلان بهذا الأمر أحق منك فوقع في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكف عن شتم آلهتهم وعلى هذا التقدير فهذه الآية مكية وعن سعيد بن جبير أنه عليه السلام كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون لا ندعك حتى تستلم آلهتنا فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قال الزجاج معنى الكلام كادوا يفتنونك ودخلت إن واللام للتأكيد وإن مخففة من(21/17)
الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والمعنى إن الشأن ( أنهم ) قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين ( و ) أصل الفتنة الاختبار يقال فتن الصائغ الذهب إذا أدخله النار وأذابه لتميز جيده من رديئه ثم استعملوه في كل من أزال الشيء عن حده وجهته فقالوا فتنه فقوله وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أي يزيلونك ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك يعني القرآن والمعنى عن حكمة وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وقوله لِتفْتَرِى َ عَلَيْنَا غَيْرَهُ أي غير ما أوحينا إليك وهو قولهم قل الله أمرني بذلك وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلاً وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كونهم وراضٍ بشركهم ثم قال وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ أي على الحق بعصمتنا إياك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ أي تميل إليهم شيئاً قليلاً وقوله شَيْئاً عبارة عن المصدر أي ركوناً قليلاً قال ابن عباس يريد حيث سكت عن جوابهم قال قتادة لما نزلت هذه الآية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) ثم توعده في ذلك أشد التوعد فقال إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة والضعف عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله فإن الرجل إذا قال لوكيله أعط فلاناً شيئاً فأعطاه درهماً فقال أضعفه كان المعنى ضم إلى ذلك الدرهم مثله إذا عرفت هذا فنقول إنا حسن إضمار العذاب في قوله ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ ( ص 61 ) وقال لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ( الأعراف 38 ) وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همتك لاستحققت بذلك تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى عَظِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( الأحزاب 30 ) فإن قيل قال عليه السلام ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو رضي بما قالوه لكان وزره مثل وزر كل أحد من أولئك الكفار وعلى هذا التقدير يكون عقابه زائداً على الضعف قلنا إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب وهو حجة ضعيفة ثم قال تعالى ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا يعني إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا وعقابنا والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم عنهم من وجوه الأول أن الآية دلت على أنه عليه السلام قرب من أن يفتري على الله والفرية على الله من أعظم الذنوب والثاني أنها تدل على أنه لولا أن الله تعالى ثبته وعصمه لقرب من أن يركن إلى دينهم ويميل إلى مذهبهم والثالث أنه لولا سبق جرم وجناية وإلا فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشديد والجواب عن الأول أن كاد معناه المقاربة فكان معنى الآية أنه قرب وقوعه في الفتنة وهذا القدر لا يدل على الوقوع في تلك الفتنة فإنا إذا قلنا كاد الأمير أن يضرب فلاناً لا يفهم منه أنه ضربه والجواب عن الثاني أن كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره تقول لولا علي لهلك عمر معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر فكذلك ههنا قوله وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ معناه(21/18)
أنه حصل تثبيت الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان حصول ذلك التثبيت مانعاً من حصول ذلك الركون والجواب عن الثالث أن ذلك التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها والدليل عليه آيات منها قوله وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( الحاقة 44 46 ) ومنها قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) ومنها قوله وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) والله أعلم
المسألة الرابعة احتج أصحابنا على صحة قولهم بأنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى بقوله وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً قالوا إنه تعالى بين أنه لولا تثبيت الله تعالى له لمال إلى طريقة الكفار ولا شك أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان أقوى من غيره في قوة الدين وصفاء اليقين فلما بين الله تعالى أن بقاءه معصوماً عن الكفر والضلال لم يحصل إلا باعانة الله تعالى وإغاثته كان حصول هذا المعنى في حق غيره أولى قالت المعتزلة المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة له عن ذلك وهي ما خطر بباله من ذكر وعده ووعيده ومن ذكر أن كونه نبياً من عند الله تعالى يمنع من ذلك والجواب لا شك أن هذا التثبيت عبارة عن فعل فعله الله يمنع الرسول من الوقوع في ذلك العمل المحذور فنقول لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك العمل المحذور في حق الرسول لما كان إلى إيجاد هذا المانع حاجة وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أن المقتضى قد حصل في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأن هذا المانع الذي فعله الله منع ذلك المقتضى من العمل وهذا لا يتم إلا إذا قلنا إن القدرة مع الداعي توجب الفعل فإذا حصلت داعية أخرى معارضة للداعية الأولى اختل المؤثر فامتنع الفعل ونحن لا نريد إلا إثبات هذا المعنى والله أعلم
المسألة الخامسة قال القفال رحمه الله قد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية الوجوه المذكورة ويمكن أيضاً تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأقصى ما يقدرون عليه فتارة كانوا يقولون إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك فأنزل الله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الكافرون 1 2 ) وقوله وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( القلم 9 ) وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فأنزل الله تعالى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ( طه 131 ) ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( الأنعام 52 ) فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه وأن يزيلوه عن منهجه فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم وعلى هذا الطريق فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيء من تلك الروايات والله أعلم
وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّة َ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً
في هذه الآية قولان الأول قال قتادة هم أهل مكة هموا بإخراج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا ولكن الله منعهم من اخراجه حتى أمره الله بالخروج ثم إنه قل لبثهم بعد خروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من(21/19)
مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر وهذا قول مجاهد والقول الثاني قال ابن عباس إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فقالوا يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم فعسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أميال من المدينة قيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت هذه الآية فرجع فالقول الأول اختيار الزجاج وهو الوجه لأن السورة مكية فإن صح القول الثاني كانت الآية مدنية والأرض في قوله لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ على القول الأول مكة وعلى القول الثاني المدينة وكثر في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ ( المائدة 33 ) يعني من مواضعهم وقوله فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ ( يوسف 80 ) يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة فإن قيل قال الله تعالى وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ هِى َ أَشَدُّ قُوَّة ً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ ( محمد 13 ) يعني مكة والمراد أهلها فذكر أنهم أخرجوه وقال في هذه الآية وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا فكيف ( يمكن ) الجمع بينهما على قول من قال الأرض في هذه الآية مكة قلنا إنهم هموا بإخراجه وهو عليه السلام ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله تعالى فزال التناقض ثم قال تعالى وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عن عاصم خلفك بفتح الخاء وسكون اللام والباقون خلافك زعم الأخفش أن خلافك في معنى خلفك وروى ذلك يونس عن عيسى وهذا كقوله بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ ( التوبة 81 ) وقال الشاعر عفت الديار خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصير
قال صاحب ( الكشاف ) قرىء لا يلبثون وفي قراءة أبي لا يلبثوا على إعمال إذن فإن قيل ما وجه القراءتين قلنا أما السابقة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد والفعل في خير كاد واقع موقع الاسم وأما قراءة أبي ففيها الجملة برأسها التي هي قوله إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ يَلْبَثُونَ عطف على جملة قوله وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ ثم قال تعالى سُنَّة َ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا يعني أن كل قوم أخرجوا نبيهم من ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم فقوله سَنَة ٍ نصب على المصدر المؤكد أي سننا ذلك سنة فيمن قد أرسلنا قبلك ثم قال وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً والمعنى أن ما أجرى الله تعالى به العادة لم يتهيأ لأحد أن يقلب تلك العادة وتمام الكلام في هذا الباب أن اختصاص كل حادث بوقته المعين وصفته المعينة ليس أمراً ثابتاً له لذاته وإلا لزم أن يدوم أبداً على تلك الحالة وأن لا يتميز الشيء عما يماثله في تلك الصفات بل إنما يحصل ذلك الاختصاص بتخصيص المخصص وذلك التخصيص هو أنه تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقت ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت ثم يتعلق علمه بحصوله في ذلك الوقت ثم نقول هذه الصفات الثلاثة التي هي المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص إن كانت حادثة افتقر حدوثها إلى تخصيص آخر ولزم التسلل وهو محال وإن كانت قديمة فالقديم يمتنع تغيره لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ولما كان التغير على تلك الصفات المؤثرة في ذلك الاختصاص ممتنعاً كان التغير في تلك الأشياء المقدرة ممتنعاً فثبت بهذا البرهان صحة قوله تعالى وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً(21/20)
أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة ً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى في النظم وجوه الأول أنه تعالى لما قرر أمر الالهيات والمعاد والنبوات أردفها بذكر الأمر بالطاعات بعد الإيمان وأشرف الطاعات بعد الإيمان الصلاة فلهذا السبب أمر بها الثاني أنه تعالى لما قال وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ أمره تعالى بالإقبال على عبادته لكي ينصره عليهم فكأنه قيل له لا تبال بسعيهم في إخراجك من بلدتك ولا تلتفت إليهم واشتغل بعبادة الله تعالى وداوم على أداء الصلوات فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرهم عنك ويجعل يدك فوق أيديهم ودينك غالباً على أديانهم ونظيره قوله في سورة طه فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ ( طه 130 ) وقال وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 97 99 ) والوجه الثالث في تقرير النظم أن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء عزم ( صلى الله عليه وسلم ) على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد وما النصرة والدولة إلا بتأييده ونصرته فداوم على الصلوات وارجع إلى مقرك ومسكنك وإذا دخلته ورجعت إليه فقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي في هذا البلد سلطاناً نصيراً في تقرير دينك وإظهار شرعك والله أعلم
المسألة الثانية اختلف أهل اللغة والمفسرون في معنى دلوك الشمس على قولين أحدهما أن دلوكها غروبها وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة فنقل الواحدي في البسيط عن علي عليه السلام أنه قال دلوك الشمس غروبها وروى زر بن حبيش أن عبد الله بن مسعود قال دلوك الشمس غروبها وروى سعيد بن جبير هذا القول عن ابن عباس وهذا القول اختيار الفراء وابن قتيبة من المتأخرين والقول الثاني أن دلوك الشمس هو زوالها عن كبد السماء وهو اختيار الأكثرين من الصحابة والتابعين واحتج القائلون بهذا القول على صحته بوجوه الحجة الأولى روى الواحدي في البسيط عن جابر أنه قال ( طعم عندي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا حين دلكت الشمس ) الحجة الثانية روى صاحب ( الكشاف ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر ) الحجة الثالثة قال أهل اللغة معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ولذلك(21/21)
قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة وقيل لها إذا أفلت دالكة لأنها في الحالتين زائلة هكذا قاله الأزهري وقال القفال أصل الدلوك الميل يقال مالت الشمس للزوال ويقال مالت للغروب إذا عرفت هذا فنقول وجب أن يكون المراد من الدلوك ههنا الزوال عن كبد السماء وذلك لأنه تعالى علق إقامة الصلاة بالدلوك والدلوك عبارة عن الميل والزوال فوجب أن يقال إنه أول ما حصل الميل والزوال تعلق به هذا الحكم فلما حصل هذا المعنى حال ميلها من كبد السماء وجب أن يتعلق به وجوب الصلاة وذلك يدل على أن المراد من الدلوك في هذه الآية ميلها عن كبد السماء وهذه حجة قوية في هذا الباب استنبطتها بناء على ما اتفق عليه أهل اللغة أن الدلوك عبارة عن الميل والزوال والله أعلم الحجة الرابعة قال الأزهري الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النهار والمعنى أَقِمِ الصَّلَواة َ أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل وعلى هذا التقدير فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم قال أَقِمِ الصَّلَواة َ فإذا حملنا الدلوك على الزوال دخلت الصلوات الخمس في هذه الآية وإن حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات وهي المغرب والعشاء والفجر وحمل كلام الله تعالى على ما يكون أكثر فائدة أولى فوجب أن يكون المراد من الدلوك الزوال واحتج الفراء على قوله الدلوك هو الغروب بقول الشاعر هذا مقام قدمي رباح
وقفت حتى دلكت براح
وبراح اسم الشمس أي حتى غابت واحتج ابن قتيبة بقول ذي الرمة مصابيح ليست باللواتي يقودها
نجوم ولا أفلاكهن الدوالك
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لأن عندنا الدلوك عبارة عن الميل والتغير وهذا المعنى حاصل في الغروب فكان الغروب نوعاً من أنواع الدلوك فكان وقوع لفظ الدلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزوال كما أن وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس ومنهم من احتج أيضاً على صحة هذا القول بأن الدلوك اشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها وهذا إنما يصح في الوقت الذي يمكن النظر إليها ومعلوم أنها عند كونها في وسط السماء لا يمكن النظر إليها أما عند قربها من الغروب فيمكن النظر إليها ( و ) عندما ينظر الإنسان إليها في ذلك الوقت يدلك عينيه فثبت أن لفظ الدلوك مختص بالغروب والجواب أن الحاجة إلى ذلك التبيين عند كونها في وسط السماء أتم فهذا الذي ذكرته بأن يدل على أن الدلوك عبارة عن الزوال من وسط السماء أولى والله أعلم
المسألة الثالثة قال الواحدي اللام في قوله لدلوك الشمس لام الأجل والسبب وذلك لأن الصلاة إنما تجب بزوال الشمس فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس
المسألة الرابعة قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ غسق الليل سواده وظلمته قال الكسائي غسق الليل غسوقاً والغسق الاسم بفتح السين وقال النضر بن شميل غسق الليل دخول أوله وأتيته حين غسق الليل أي حين يختلط ويسد المناظر وأصل هذا الحرف من السيلان يقال غسقت العين تغسق وهو هملان العين بالماء والغاسق السائل ومن هذا يقال لما يسيل من أهل النار الغساق فمعنى غسق الليل أي انصب بظلامه وذلك أن الظلمة كأنها تنصب على العالم وأما قول المفسرين قال ابن جريج قلت لعطاء ما غسق الليل قال أوله حين يدخل وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق قال دخول الليل(21/22)
بظلمته وقال الأزهري غسق الليل عند غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة واشتدادها يقال غسقت العين إذا امتلأت دمعاً وغسقت الجراحة إذا امتلأت دماً قال لأنا لو حملنا الغسق على هذا المعنى دخلت الصلوات الأربع فيه وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء ولو حملنا الغسق على ظهور أول الظلمة لم يدخل فيه إلا الظهر والمغرب فوجب أن يكون الأول أولى واعلم أنه يتفرع على هذين القولين بحث شريف فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين وأن يكون أول المغرب وقتاً للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقاً إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر ولا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزاً بعذر السفر وعذر المطر وغيره أما إن فسرنا الغسق بالظلمة المتراكمة فنقول الظلمة المتراكمة إنما تحصل عند غيبوبة الشفق الأبيض وكلمة إلى لانتهاء الغاية والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعاً قبل حصول تلك الغاية فوجب جواز إقامة الصلوات كلها قبل غيبوبة الشفق الأبيض وهذا إنما يصح إذا قلنا إنها تجب عند غيبوبة الشفق الأحمر والله أعلم
المسألة الخامسة قوله وقرآن الفجر أجمعوا على أن المراد منه صلاة الصبح وانتصابه بالعطف على الصلاة في قوله أقم الصلاة والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وفيه فوائد الأولى أن هذه الآية تدل على أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة الفائدة الثانية أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير أقم قرآن الفجر فوجب أن تتعلق القراءة بحصول الفجر وفي أول طلوع الصبح قد حصل الفجر لأن الفجر سمى فجراً لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح وظاهر الأمر للوجوب فمقتضى هذا اللفظ وجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه إلا أنا أجمعنا على أن هذا الوجوب غير حاصل فوجب أن يبقى الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع من الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تنقل مخالفة الدليل فثبت أن هذه الآية تقتضي أن إقامة الفجر في أول الوقت أفضل وهذا يدل على صحة مذهب الشافعي في أن التغليس أفضل من التنوير والله أعلم الفائدة الثالثة أن الفقهاء بينوا أن السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات فالمقصود من قوله وقرآن الفجر الحث على أن تطويل القراءة في هذه الصلاة مطلوب لأن التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره الفائدة الرابعة أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهوداً قال الجمهور معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة وقبل أن تعرج ملائكة الليل فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول الله تعالى للملائكة اشهدوا أني قد غفرت لهم وأقول هذا أيضاً دليل قوي في أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار فبهذا الطريق تحضر في هذه الصلاة ملائكة الليل وملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك ما بقيت(21/23)
الظلمة فلم يبق في ذلك الوقت أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فثبت أن قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ مَشْهُودًا دليل قوي على أن التغليس أفضل وعندي في تفسير قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ مَشْهُودًا احتمال آخر وذلك لأنه كلما كانت الحوادث الحادثة أعظم وأكمل كان الإستدلال بها على كمال قدرة الله تعالى أكمل فالإنسان إذا شرع في أداء صلاة الصبح من أول هذا الوقت كانت الظلمة القوية باقية في العالم فإذا امتدت القراءة في أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء والظلمة مناسبة للموت والعدم والضوء مناسب للحياة والوجود وعلى هذا التقدير فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ثم إنه مع ذلك يشاهد في أثناء صلاته انقلاب كلية هذا العالم من الظلمة إلى الضوء ومن الموت إلى الحياة ومن السكون إلى الحركة ومن العدم إلى الوجود وهذه الحالة حالة عجيبة تشهد العقول والأرواح بأنه لا يقدر على هذا التقليب والتحويل والتبديل إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية وحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة وينفتح على العقل والروح أبواب المكاشفات الروحانية الإلهية فتصير الصلاة التي هي عبارة عن أعمال الجوارح مشهوداً عليها بهذه المكاشفات الإلهية المقدسة ولذلك فكل من له ذوق سليم وطبع مستقيم إذا قام من منامه وأدى صلاة الصبح في أول الوقت واعتبر اختلاف أحوال العالم من الظلمة الحاصلة إلى النور ومن السكون إلى الحركة فإنه يجد في قلبه روحاً وراحة ومزيداً في نور المعرفة وقوة اليقين فهذا هو المراد من قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى وظهر أن هذا الاعتبار لا يحصل إلا عند أداء صلاة الفجر على سبيل التغليس فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بمراده وفي الآية احتمال ثالث وهو أن يكون المراد من قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى الترغيب في أن تؤدي هذه الصلاة بالجماعة ويكون المعنى كونه مشهوداً بالجماعة الكثيرة ومزيد التحقيق فيه أنا بينا أن تأثير هذه الصلاة في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر الصلوات فإذا حضر جمع من المسلمين في المسجد لأداء هذه العبادة استنار قلب كل واحد منهم ثم بسبب ذلك الاجتماع كأنه ينعكس نور معرفة الله تعالى ونور طاعته في ذلك الوقت من قلب كل واحد إلى قلب الآخر فتصير أرواحهم كالمرايا المشرقة المتقابلة إذا وقعت عليها أنوار الشمس فإنه ينعكس النور من كل واحدة من تلك المرايا إلى الأخرى فكذا في هذه الصورة ولهذا السبب فإن كل من له ذوق سليم وأدى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من قلبه فسحة ونوراً وراحة الفائدة الخامسة قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ يحتمل أن يكون السبب في كونه مشهوداً هو أن الإنسان لما نام طول الليل فصار كالغافل في هذه المدة عن مراقبة أحوال الدنيا فزالت صورة الحوادث الجسمانية عن لوح خياله وفكره وعقله وصارت هذه الألواح كألواح سطرت فيها نقوش فاسدة ثم غسلت وأزيلت تلك النقوش عنها ففي أول وقت القيام من المنام صارت ألواح عقله وفكره وخياله مطهرة عن النقوش الفاسدة الباطلة فإذا تسارع الإنسان في ذلك الوقت إلى عبادة الله تعالى وقراءة الكلمات الدالة على تنزيهه والإقدام على الأفعال الدالة على تعظيم الله تعالى انتقش في لوح عقله وفكره وخياله هذه النقوش الطاهرة المقدسة ثم إن حصول هذه النقوش يمنع من استحكام النقوش الفاسدة وهي النقوش المتولدة من الميل إلى الدنيا وشهواتها فبهذا الطريق يترشح الميل إلى معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته ويضعف الميل إلى الدنيا وشهواتها إذا عرفت هذا فنقول هذه الحكمة إنما تحصل إذا شرع الإنسان في الصلاة من أول قيامه من النوم عند التغليس وذلك يدل على المقصود واعلم أن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب(21/24)
الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى والأنبياء كالأطباء الحاذقين والمريض ربما قد قوي مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلاً فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر إلا أن الطبيب إذا كان مشفقاً حاذقاً فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه فإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وتخفيفه إذا عرفت هذا فنقول مرض حب الدنيا مستولٍ على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس وقل من يقبله وينقاد له لا جرم ( أن ) الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض وحمل الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم مما ينفع في إزالة هذا المرض من الوجه الذي قررناه فوجب أن يكون مشروعاً والله أعلم بأسرار كلامه
أما قوله تعالى وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة ً لَّكَ فاعلم أنه تعالى لما أمر بالصلوات الخمس على سبيل الرمز والإشارة أردفه بالحث على صلاة الليل وفيه مباحث
البحث الأول التهجد عبارة عن صلاة الليل فقوله فتهجد به أي بالقرآن كما قال قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ( المزمل 2 ) إلى قوله وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً ( المزمل 4 )
البحث الثاني قال الواحدي الهجود في اللغة النوم وهو معروف كثير في الشعر يقال أهجدته وهجدته أي أنمته ومنه قول لبيد
هجدنا فقد طال السرى
كأنه قال نومنا فإن السرى قد طال علينا حتى غلبنا النوم وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة الهاجد النائم والهاجد المصلي بالليل وروى ثعلب عن ابن الأعرابي مثل هذا القول كأنه قال هجد الرجل إذا صلى من الليل وهجد إذا نام بالليل فعند هؤلاء هذا اللفظ من الأضداد وأما الأزهري فإنه توسط في تفسير هذا اللفظ وقال المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم ثم رأينا أن في الشرع يقال لمن قام من النوم إلى الصلاة إنه متهجد فوجب أن يحمل هذا على أنه سمي متهجداً لالقائه الهجود عن نفسه كما قيل للعابد متحنث لألقائه الحنث عن نفسه وهو الإثم ويقال فلان رجل متحرج ومتأثم ومتحوب أي يلقي الحرج والإثم والحوب عن نفسه وأقول فيه احتمال آخر وهو أن الإنسان إنما يترك لذة النوم ويتحمل مشقة القيام إلى الصلاة ليطيب رقاده وهجوده عند الموت فلما كان غرضه من ترك هذا الهجود أن يصل إلى الهجود اللذيذ عند الموت كان هذا القيام طلباً لذلك الهجود فسمي تهجداً لهذا السبب وفيه وجه ثالث وهو ما روي أن الحجاج بن عمرو المازني قال أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا عرفت هذا فنقول كلما صلى الإنسان طلب هجوداً ورقاداً فلا يبعد أنه سمي تهجداً لهذا السبب
البحث الثالث قوله مِنْ في قوله وَمِنَ الَّيْلِ لا بد له من متعلق والفاء في قوله فَتَهَجَّدْ لا بد له من معطوف عليه والتقدير قم من الليل أي في بعض الليل فتهجد به وقوله بِهِ أي بالقرآن والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن(21/25)
البحث الرابع معنى النافلة في اللغة ما كان زيادة على الأصل ذكرناه في قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ ( الأنفال 1 ) ومعناها أيضاً في هذه الآية الزيادة وفي تفسير كونها زيادة قولان مبنيان على أن صلاة الليل هل كانت واجبة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أم لا فمن الناس من قال إنها كانت واجبة عليه ثم نسخت فصارت نافلة أي تطوعاً وزيادة على الفرائض وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها ( نافلة ) وجهاً حسناً قالا إنه تعالى غفر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة فإنه لا يكون تأثيرها في كفارة الذنوب البتة بل يكون تأثيرها في زيادة الدرجات وكثرة الثواب وكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب فلهذا سميت نافلة بخلاف الأمة فإن لهم ذنوباً محتاجة إلى الكفارات فهذه الطاعة محتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات فثبت أن هذه الطاعات إنما تكون زوائد ونوافل في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا في حق غيره فلهذا السبب قال نَافِلَة ً لَّكَ يعني أنها زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك وتقريره ما ذكرناه وأما الذين قالوا إن صلاة الليل كانت واجبة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا معنى كونها نافلة له على التخصيص أنها فريضة عليك زائدة على الصلوات الخمس خصصت بها من بين أمتك ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله فتهجد أمر وصيغة الأمر للوجوب فوجب كون هذا التهجد واجباً فلو حملنا قوله نافلة لك على عدم الوجوب لزم التعارض وهو خلاف الأصل فوجب أن يكون معنى كونها نافلة له ما ذكرناه من كون وجوبها زائداً على وجوب الصلوات الخمس والله أعلم
البحث الخامس قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصاً بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أنه في المعنى عام في حق الأمة والدليل عليه أنه قال ومن الليل فتهجد به نافلة لك فبين أن الأمر بالتهجد مخصوص بالرسول وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة الخمس غير مخصوص بالرسول عليه السلام وإلا لم يكن لتقييد الأمر بالتهجد بهذا القيد فائدة أصلاً والله أعلم ثم قال تعالى عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا اتفق المفسرون على أن كلمة عسى من الله واجب قال أهل المعاني لأن لفظة عسى تفيد الأطماع ومن أطمع إنساناً في شيء ثم حرمه كان عاراً والله تعالى أكرم من أن يطمع أحداً في شيء ثم لا يعطيه ذلك وقوله مَقَاماً مَّحْمُودًا فيه بحثان
البحث الأول في انتصاب قوله محموداً وجهان الأول أن يكون انتصابه على الحال من قوله يبعثك أي يبعثك محموداً والثاني أن يكون نعتاً للمقام وهو ظاهر
البحث الثاني في تفسير المقام المحمود أقوال الأول أنه الشفاعة قال الواحدي أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية ( هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ) وأقول اللفظ مشعر به وذلك لأن الإنسان إنما يصير محموداً إذا حمده حامد والحمد إنما يكون على الانعام فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاماً أنعم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليم الشرع لأن ذلك كان حاصلاً في الحال وقوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا تطميع وتطميع الإنسان في الشيء الذي وعده في الحال محال فوجب أن يكون ذلك الانعام الذي لأجله يصير محموداً إنعاماً سيصل منه حصل له بعد ذلك إلى الناس وما ذاك إلا شفاعته عند الله فدل هذا على أن لفظ الآية وهو قوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا يدل على هذا المعنى وأيضاً التنكير في قوله مقاماً محموداً يدل على أنه يحصل للنبي عليه السلام في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل ومن المعلم أن حمد(21/26)
الإنسان على سعيه في التخليص عن العقاب أعظم من حمده في السعي في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها لأن احتياج الإنسان إلى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعاراً قوياً ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى وجب حل اللفظ عليه ومما يؤكد هذا الوجه الدعاء المشهور وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون واتفق الناس على أن المراد منه الشفاعة والقول الثاني قال حذيفة يجمع الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأول مدعو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول ( لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجاً منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت ) فهذا هو المراد من قوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وأقول القول الأول أولى لأن سعيه في الشفاعة يفيده إقدام الناس على حمده فيصير محموداً وأما ذكر هذا الدعاء فلا يفيد إلا الثواب أما الحمد فلا فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يحمده على هذا القول قلنا لأن الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الأنعام فقط فإن ورد لفظ الحمد في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز القول الثالث المراد مقام تحمد عاقبته وهذا أيضاً ضعيف للوجه الذي ذكرناه في القول الثاني القول الرابع قال الواحدي روى عن ابن مسعود أنه قال ( يقعد الله محمداً على العرش ) وعن مجاهد أنه قال يجلسه معه على العرش ثم قال الواحدي وهذا قول رذل موحش فظيع ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه الأول أن البعث ضد الإجلاس يقال بعثت النازل والقاعد فانبعث ويقال بعث الله الميت أي أقامه من قبره فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد والثاني أنه تعالى قال مقاماً محموداً ولم يقل مقعداً والمقام موضع القيام لا موضع القعود والثالث لو كان تعالى جالساً على العرش بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدوداً متناهياً ومن كان كذلك فهو محدث والرابع يقال إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون في كل أهل الجنة إنهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا فيها في الدنيا وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين لم يكن لتخصيص محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بها مزيد شرف ورتبة والخامس أنه إذا قيل السلطان بعث فلاناً فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه فثبت أن هذا القول كلام رذل ساقط لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين والله أعلم ثم قال تعالى وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وفيه مباحث
البحث الأول أنا ذكرنا في تفسير قوله وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ ( الإسراء 76 ) قولين أحدهما المراد منه سعي كفار مكة في إخراجه منها والثاني المراد منه أن اليهود قالوا له الأولى لك أن تخرج من المدينة إلى الشام ثم إنه تعالى قال له أَقِمِ الصَّلَواة َ واشتغل بعبادة الله تعالى ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهال فإنه تعالى ناصرك ومعينك ثم عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة فإن فسرنا تلك الآية أن المراد منها أن كفار مكة أرادوا إخراجه من مكة كان معنى هذه الآية أنه تعالى أمره بالهجرة إلى المدينة وقال له وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وهو المدينة وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وهو مكة وهذا قول الحسن وقتادة وإن فسرنا تلك الآية بأن المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذهاب إلى الشام فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منها(21/27)
ثم أمره الله بأن يرجع إليها كان المراد أنه عليه الصلاة والسلام عند العود إلى المدينة قال رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وهو المدينة وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ يعني أخرجني منها إلى مكة مخرج صدق أي افتحها لي والقول الثاني في تفسير هذه الآية وهو أكمل مما سبق أن المراد وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى في الصلاة وَأَخْرِجْنِى منها مع الصدق والإخلاص وحضور ذكرك والقيام بلوازم شكرك والقول الثالث وهو أكمل مما سبق أن المراد وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى فِى وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى منها بعد الفراغ منها إخراجاً لا يبقى علي منها تبعة ربقية والقول الرابع وهو أعلى مما سبق وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك وقدسك ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد المنزه عن التكثيرات والتغيرات والقول الخامس أدخلني في كل ما تدخلني فيه مع الصدق في عبوديتك والاستغراق بمعرفتك وأخرجني عن كل ما تخرجني عنه مع الصدق في العبودية والمعرفة والمحبة والمقصود منه أن يكون صدق العبودية حاصلاً في كل دخول وخروج وحركة وسكون والقول السادس أدخلني القبر مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق
البحث الثاني مدخل بضم الميم مصدر كالإدخال يقال أدخلته مدخلاً كما قال وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً ( المؤمنون 29 ) ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما كأنه سأل الله تعالى إدخالاً حسناً وإخراجاً حسناً لا يرى فيهما ما يكره ثم قال تعالى وَاجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا ( الإسراء 80 ) أي حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني وبالجملة فقد سأل الله تعالى أن يرزقه التقوية على من خالفه بالحجة وبالقهر والقدرة وقد أجاب الله تعالى دعاءه وأعلمه بأنه يعصمه من الناس فقال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) وقال أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( المجادلة 22 ) وقال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ولما سأل الله النصرة بين الله له أنه أجاب دعاءه فقال وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وهو دينه وشرعه وَزَهَقَ الْبَاطِلُ وهو كل ما سواه من الأديان والشرائع وزهق بطل واضمحل وأصله من زهقت نفسه تزهق أي هلكت وعن ابن مسعود ( أنه دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل فجعل الصنم ينكب على وجهه ) وقوله إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا يعني أن الباطل وإن اتفقت له دولة وصولة إلا أنها الا تبقى بل تزول على أسرع الوجوه والله أعلم
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَة ٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الإلهيات والنبوات والحشر والمعاد والبعث وإثبات القضاء والقدر ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ونبه على ما فيها من الأسرار وإنما ذكر كل ذلك في القرآن أتبعه ببيان كون القرآن(21/28)
شفاء ورحمة فقال وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة ٌ ولفظة من ها هنا ليست للتبعيض بل هي للجنس كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) والمعنى وننزل من هذا الجنس الذي هو قرآن ما هو شفاء فجميع القرآن شفاء للمؤمنين واعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية وشفاء أيضاً من الأمراض الجسمانية أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان الاعتقادات الباطلة والاخلاق المذمومة أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر والقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب وإبطال المذاهب الباطلة فيها ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ في هذه المطالب والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب الباطنة لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة والأعمال المحمودة فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقي المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثاراً عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم المشتمل على ذكر الله وكبريائه وتعظيم الملائكة المقربين وتحقير المردة والشياطين سبباً لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى ويتأكد ما ذكرنا بما روى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى ) وأما كونه رحمة للمؤمنين فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مريضة بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة والقرآن قسمان بعضهما يفيد الخلاص عن شبهات الضالين وتمويهات المبطلين وهو الشفاء وبعضهما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين وهو الرحمة ولما كان إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة لا جرم بدأ الله تعالى في هذه الآية بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة واعلم أنه تعالى لما بين كون القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين بين كونه سبباً للخسار والضلال في حق الظالمين والمراد به المشركون وإنما كان كذلك لأن سماع القرآن يزيدهم غيظاً وغضباً وحقداً وحسداً وهذه الأخلاق الذميمة تدعوهم إلى الأعمال الباطلة وتزيد في تقوية تلك الأخلاق الفاسدة في جواهر نفوسهم ثم لا يزال الخلق الخبيث النفساني يحمل على الأعمال الفاسدة والإتيان بتلك الأعمال يقوي تلك الأخلاق فبهذا الطريق يصير القرآن سبباً لتزايد هؤلاء المشركين الضالين في درجات الخزي والضلال والفساد والنكال ثم إنه تعالى ذكر السبب الأصلي في وقوع هؤلا الجاهلين الضالين في أودية الضلال ومقامات الخزي والنكال وهو حب الدنيا والرغبة في المال والجاه واعتقادهم أن ذلك إنما يحصل بسبب جدهم واجتهادهم فقال وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وفيه مباحث
الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة وهذا بعيد بل المراد أن نوع الإنسان من شأنه أنه إذا فاز بمقصوده ووصل إلى مطلوبه اغتر وصار غافلاً عن عبودية الله تعالى متمرداً عن طاعة الله كما قال إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 )
البحث الثاني قوله أعرض أي ولى ظهره أي عرضه إلى ناحية ونأى بجانبه أي تباعد ومعنى النأي(21/29)
في اللغة البعد والإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره وأراد الاستكبار لأن ذلك عادة المتكبرين وفي قوله نأى قراءات إحداها وهي قراءة العامة بفتح النون والهمزة وفي حم السجدة مثله وهي اللغة الغالبة والنأي البعد يقال نأي أي بعد وثانيها قراءة ابن عامر ناء وله وجهان تقديم اللام على العين كقولهم راء في رأى ويجوز أن يكون من نأى بمعنى نهض وثالثها قراءة حمزة والكسائي بإمالة الفتحتين وذلك لأنهم أمالوا الهمزة من نأى ثم كسروا النون إتباعاً للكسرة مثل رأى ورابعها قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ونصير عن الكسائي وحمزة نأى بفتح النون وكسر الهمزة على الأصل في فتح النون وإمالة الهمزة ثم قال تعالى وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ أي إذا مسه فقر أو مرض أو نازلة من النوازل كان يؤوساً شديد اليأس من رحمة الله وَلاَ يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ ( يوسف 87 ) والحاصل أنه إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها فنسي ذكر الله وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله تعالى فهذا المسكين محروم أبداً عن ذكر الله ونظيره قوله تعالى فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ ( الفجر 15 ) إلى قوله رَبّى أَهَانَنِ ( الفجر 16 ) وكذلك قوله إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( المعارج 19 20 21 ) ثم قال تعالى قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ قال الزجاج الشاكلة الطريقة والمذهب والدليل عليه أنه يقال هذا طريق ذو شواكل أي يتشعب منه طرق كثيرة ثم الذي يقوي عندي أن المراد من الآية ذلك قوله تعالى فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً وفيه وجه آخروهو أن المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسه نفساً مشرقة خيرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة وإن كانت نفسه نفساً كدرة نذلة خبيثة مضلة ظلمانية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة وأقول العقلاء اختلفوا في أن النفوس الناطقة البشرية هل هي مختلفة بالماهية أم لا منهم من قال إنها مختلفة بالماهية وإن اختلاف أفعالها وأحوالها لأجل اختلاف جواهرها وماهياتها ومنهم من قال إنها متساوية في الماهية واختلاف أفعالها لأجل اختلاف أمزجتها والمختار عندي هو القسم الأول والقرآن مشعر بذلك وذلك لأنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة إلى البعض يفيد الشفاء والرحمة وبالنسبة إلى أقوام آخرين يفيد الخسارة والخزي ثم أتبعه بقوله قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ومعناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه وهذا الكلام إنما يتم المقصود منه إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة بماهياتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال على ضلال ونكال على نكال
وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ختم الآية المتقدمة بقوله كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ وذكرنا أن المراد منه مشاكلة الأرواح للأفعال الصادرة عنها وجب البحث ها هنا عن ماهية الروح وحقيقته فلذلك سألوا عن الروح وفي الآية مسائل
المسألة الأولى للمفسرين في الروح المذكورة في هذه الآية أقوال أظهرها أن المراد منه الروح الذي(21/30)
هو سبب الحياة روى أن اليهود قالوا لقريش اسألوا محمداً عن ثلاث فإن أخبركم باثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي اسألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الثلاثة فقال عليه السلام غداً أخبركم ولم يقل إن شاء الله فانقطع عنه الوحي أربعين يوماً ثم نزل الوحي بعده وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 24 ) ثم فسر لهم قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وأبهم قصة الروح ونزل فيه قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وبين أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة حقيقة الروح فقال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه أولها أن الروح ليس أعظم شأناً ولا أعلى مكاناً من الله تعالى فإذا كانت معرفة الله تعالى ممكنة بل حاصلة فأي مانع يمنع من معرفة الروح وثانيها أن اليهود قالوا إن أجاب عن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ولم يجب عن الروح فهو نبي وهذا كلام بعيد عن العقل لأن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ليست إلا حكاية من الحكايات وذكر الحكاية يمتنع أن يكون دليلاً على النبوة وأيضاً فالحكاية التي يذكرها إما أن تعتبر قبل العلم بنبوته أو بعد العلم بنبوته فإن كان قبل العلم بنبوته كذبوه فيها وإن كان بعد العلم بنبوته فحينئذ صارت نبوته معلومة قبل ذلك فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية وأما عدم الجواب عن حقيقة الروح فهذا يبعد جعله دليلاً على صحة النبوة وثالثها أن مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة وأراذل المتكلمين فلو قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إني لا أعرفها لأورث ذلك ما يوجب التحقير والتنفير فإن الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أي إنسان كان فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماء وأفضل الفضلاء ورابعها أنه تعالى قال في حقه الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 2 ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) وقال وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) وقال في صفة القرآن وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 59 ) وكان عليه السلام يقول ( أرنا الأشياء كما هي ) فمن كان هذا حاله وصفته كيف يليق به أن يقول أنا لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة بين جمهور الخلق بل المختار عندنا أنهم سألوه عن الروح وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) أجاب عنه على أحسن الوجوه وتقريره أن المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة أحدها أن يقال ماهية الروح أهو متحيز أو حال في المتحيز أو موجود غير متحيز ولا حال في التحيز وثانيها أن يقال الروح قديمة أو حادثة وثالثها أن يقال الأرواح هل تبقى بعد موت الأجسام أو تفنى ورابعها أن يقال ما حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة وقوله يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحُ ليس فيه ما يدل على أنهم عن هذه المسائل سألوا أو عن غيرها إلا أنه تعالى ذكر له في الجواب عن هذا السؤال قوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وهذا الجواب لا يليق إلا بمسألتين من المسائل التي ذكرناها إحداهما السؤال عن ماهية الروح والثانية عن قدمها وحدوثها
أما البحث الأول فهم قالوا ما حقيقة الروح وماهيته أهو عبارة عن أجسام موجودة في داخل هذا البدن متولدة من امتزاج الطبائع والأخلاط أو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب أو هو عبارة عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام أو هو عبارة عن موجود يغاير هذه الأجسام والأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض وذلك لأن هذه الأجسام أشياء تحدث من امتزاج الأخلاط والعناصر وأما الروح فإنه ليس كذلك بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث قوله كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 )(21/31)
فقالوا لم كان شيئاً مغايراً لهذه الأجسام ولهذه الأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود يحدث بأمر الله وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة لهذا الجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء وماهياتها مجهولة فأنا نعلم أن السكنجبين له خاصية تقتضي قطع الصفراء فأما إذا أردنا أن نعرف ماهية تلك الخاصية وحقيقتها المخصوصة فذاك غير معلوم فثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها فكذلك ها هنا وهذا هو المراد من قوله وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 )
وأما المبحث الثاني فهو أن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال تعالى وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( هود 97 ) وقال فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا ( هود 66 ) أي فعلنا فقوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى أي من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أن الروح قديمة أو حادثة فقال بل هي حادثة وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده ثم احتج على حدوث الروح بقوله وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً يعني أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها العلوم والمعارف فهي لا تزال تكون في التغيير من حال إلى حال وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغيير والتبديل من أمارات الحدوث فقوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى يدل على أنهم سألوه أن الروح هل هي حادثة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله وتكوينه وهو المراد من قوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال وهو المراد من قوله وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية في ذكر سائر الأقوال المقولة في نفس الروح المذكورة في هذه الآية اعلم أن الناس ذكروا أقوالاً أخرى سوى ما تقدم ذكره فالقول الأول أن المراد من هذا الروح هو القرآن قالوا وذلك لأن الله تعالى سمى القرآن في كثير من الآيات روحاً واللائق بالروح المسؤول عنه في هذا الموضع ليس إلا القرآن فلا بد من تقرير مقامين المقام الأول تسمية الله القرآن بالروح يدل عليه قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) وقوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) وأيضاً السبب في تسمية القرآن بالروح أن بالقرآن تحصل حياة الأرواح والعقول لأن به تحصل معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته ومعرفة كتبه ورسله والأرواح إنما تحيا بهذه المعارف وتمام تقرير هذا الموضع ذكرناه في تفسير قوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) وأما بيان المقام الثاني وهو أن الروح اللائق بهذا الموضع هو القرآن لأنه تقدمه قوله وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( الإسراء 82 ) والذي تأخر عنه قوله وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( الإسراء 86 ) إلى قوله قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 ) فلما كان قبل هذه الآية في وصف القرآن وما بعدها كذلك وجب أيضاً أن يكون المراد من هذا الروح القرآن حتى تكون آيات القرآن كلها متناسبة متناسقة وذلك لأن القوم استعظموا أمر القرآن فسألوا أنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله فقال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى أي القرآن ظهر بأمر ربي وليس من جنس كلام البشر والقول الثاني أن الروح المسؤول عنه في هذه الآية ملك من ملائكة السموات وهو أعظمهم قدراً وقوة وهو المراد من قوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً ( النبأ 38 ) ونقلوا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هو ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق(21/32)
الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة قالوا ولم يخلق الله تعالى خلقاً أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهن بلقمة واحدة لفعل ولقائل أن يقول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه الأول أن هذا التفصيل لما عرفه علي فالنبي أولى أن يكون قد عرفه فلم لم يخبرهم به وأيضاً أن علياً ما كان ينزل عليه الوحي فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك الشرح والبيان لعلي ولم يذكره لغيره الثاني أن ذلك الملك إن كان حيواناً واحداً وعاقلاً واحداً لم يكن في تكثير تلك اللغات فائدة وإن كان المتكلم بكل واحدة من تلك اللغات حيواناً آخر لم يكن ذلك ملكاً واحداً بل يكون ذلك مجموع ملائكة والثالث أن هذا شيء مجهول الوجود فكيف يسأل عنه أما الروح الذي هو سبب الحياة فهو شيء تتوفر دواعي العقلاء على معرفته فصرف هذا السؤال إليه أولى والقول الرابع وهو قول الحسن وقتادة أن هذا الروح جبريل والدليل عليه أنه تعالى سمى جبريل بالروح في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وفي قوله فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ( مريم 17 ) ويؤكد هذا أنه تعالى قال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( في جبريل ) وقال ( حكاية عن ) جبريل وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 ) فسألوا الرسول كيف جبريل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي إليه والقول الخامس قال مجاهد الروح خلق ليسوا من الملائكة على صورة بني آدم يأكلون ولهم أيد وأرجل ورؤوس وقال أبو صالح يشبهون الناس وليسوا بالناس ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئاً يمكن التمسك به في إثبات هذا القول وأيضاً فهذا شيء مجهول فيبعد صرف هذا السؤال إليه فحاصل ما ذكرناه في تفسير الروح المذكور في هذه الآية هذه الأقوال الخمسة والله أعلم بالصواب
المسألة الثالثة في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان اعلم أن العلم الضروري حاصل بأن ها هنا شيئاً إليه يشير الإنسان بقوله أنا وإذا قال الإنسان علمت وفهمت وأبصرت وسمعت وذقت وشممت ولمست وغضبت فالمشار إليه لكل أحد بقوله أنا إما أن يكون جسماً أو عرضاً أو مجموع الجسم والعرض أو شيئاً مغايراً للجسم والعرض أو من ذلك الشيء الثالث فهذا ضبط معقول أما القسم الأول وهو أن يقال إن الإنسان جسم فذلك الجسم إما أن يكون هو هذه البنية أو جسماً داخلاً في هذه البنية أو جسماً خارجاً عنها أما القائلون بأن الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة وعن هذا الجسم المحسوس فهم جمهور المتكلمين وهؤلاء يقولون الإنسان لا يحتاج تعريفه إلى ذكر حد أو رسم بل الواجب أن يقال الإنسان هو الجسم المبني بهذه البنية المسحوسة واعلم أن هذا القول عندنا باطل وتقريره أنهم قالوا الإنسان هو هذا الجسم المحسوس فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وأبطلنا كون الإنسان محسوساً فقد بطل كلامهم بالكلية والذي يدل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارة ( عن ) هذا الجسم وجوه الحجة الأولى أن العلم البديهي حاصل بأن أجزاء هذه الجثة متبدلة بالزيادة والنقصان تارة بحسب النمو والذبول وتارة بحسب السمن والهزال والعلم الضروري حاصل بأن المتبدل المتغير مغاير للثابت الباقي ويحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاثة العلم القطعي بأن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه الجثة الحجة الثانية أن الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجه الهمة نحو أمر معين مخصوص فإنه في تلك الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه وعن أعضائه وأبعاضه مجموعها ومفصلها وهو في تلك الحالة(21/33)
غير غافل عن نفسه المعينة بدليل أنه في تلك الحالة قد يقول غضبت واشتهيت وسمعت كلامك وأبصرت وجهك وتاء الضمير كناية عن نفسه فهو في تلك الحالة عالم بنفسه المخصوصة وغافل عن جملة بدنه وعن كل واحد من أعضائه وأبعاضه و ( يكون ) المعلوم غير معلوم فالإنسان يجب أن يكون مغايراً لجملة هذا البدن ولكل واحد من أعضائه وأبعاضه الحجة الثالثة أن كل أحد يحكم عقله بإضافة كل واحد من هذه الأعضاء إلى نفسه فيقول رأسي وعيني ويدي ورجلي ولساني وقلبي والمضاف غير المضاف إليه فوجب أن يكون الشيء الذي هو الإنسان مغايراً لجملة هذا البدن ولكل واحد من هذه الأعضاء فإن قالوا قد يقول نفسي وذاتي فيضيف النفس والذات إلى نفسه فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه وهو محال قلنا قد يراد به هذا البدن المخصوص وقد يراد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا فإذا قال نفسي وذاتي فإن كان المراد البدن فعندنا أنه مغاير لجوهر الإنسان أما إذا أريد بالنفس والذات المخصوصة المشار إليها بقوله أنا فلا نسلم أن الإنسان يمكنه أن يضيف ذلك الشيء إلى نفسه بقوله إنساني وذلك لأن عين الإنسان ذاته فكيف يضيفه مرة أخرى إلى ذاته الحجة الرابعة أن كل دليل على أن الإنسان يمتنع أن يكون جسماً فهو أيضاً يدل على أنه يمتنع أن يكون عبارة عن هذا الجسم وسيأتي تقرير تلك الدلائل الحجة الخامسة أن الإنسان قد يكون حياً حال ما يكون البدن ميتاً فوجب كون الإنسان مغايراً لهذا البدن والدليل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) فهذا النص صريح في أن أولئك المقتولين أحياء والحس يدل على أن هذا الجسد ميت
الحجة السادسة أن قوله تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 ) وقوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) يدل على أن الإنسان يحيا بعد الموت وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ( أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ) وكذلك قوله عليه السلام ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ) وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ( من مات فقد قامت قيامته ) كل هذه النصوص تدل على أن الإنسان يبقى بعد موت الجسد وبديهة العقل والفطرة شاهدان بأن هذا الجسد ميت ولو جوزنا كونه حياً جاز مثله في جميع الجمادات وذلك عين السفسطة وإذا ثبت أن الإنسان شيء وكان الجسد ميتاً لزم أن الإنسان شيء غير هذا الجسد
الحجة السابعة قوله عليه السلام في خطبة طويلة له ( حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله وغير حله فالغنى لغيري والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي ) وجه الاستدلال أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صرح بأن حال ما يكون الجسد محمولاً على النعش بقي هناك شيء ينادي ويقول يا أهلي ويا ولدي جمعت المال من حله وغير حله ومعلوم أن الذي كان الأهل أهلاً له وكان جامعاً للمال من الحرام والحلال والذي بقي في رقبته الوبال ليس إلا ذلك الإنسان فهذا تصريح بأن في الوقت الذي كان فيه الجسد ميتاً محمولاً كان ذلك الإنسان حياً باقياً(21/34)
فاهماً وذلك تصريح بأن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ولهذا الهيكل
الحجة الثامنة قوله تعالى أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 27 28 ) والخطاب بقوله ارجعي إنما هو متوجه عليها حال الموت فدل هذا على أن الشيء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد يكون حياً راضياً عن الله ويكون راضياً عنه الله والذي يكون راضياً ليس إلا الإنسان فهذا يدل على أن الإنسان بقي حياً بعد موت الجسد والحي غير الميت فالإنسان مغاير لهذا الجسد
الحجة التاسعة قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 61 62 ) أثبت كونهم مردودين إلى الله الذي هو مولاهم حال كون الجسد ميتاً فوجب أن يكون ذلك المردود إلى الله مغايراً لذلك الجسد الميت
الحجة العاشرة نرى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم ولولا أنهم بعد موت الجسد بقوا أحياء لكان التصدق عنهم عبثاً والدعاء لهم عبثاً ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثاً فالاطباق على هذه الصدقة وعلى هذا الدعاء وعلى هذه الزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شيء غير هذا الجسد وأن ذلك الشيء لا يموت بل ( الذي ) يموت هذا الجسد
الحجة الحادية عشرة أن كثيراً من الناس يرى أباه أو ابنه بعد موته في المنام ويقول له اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهباً دفنته لك وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه ثم عند اليقظة إذا فتش كان كما رآه في النوم من غير تفاوت ولولا أن الإنسان يبقى بعد الموت لما كان كذلك ولما دل هذا الدليل على أن الإنسان يبقى بعد الموت ودل الحس على أن الجسد ميت كان الإنسان مغايراً لهذا الجسد الميت
الحجة الثانية عشرة أن الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه أو رجلاه أو تقلع عيناه أو تقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإن ذلك الإنسان يجد من قلبه وعقله أنه هو عين ذلك الإنسان ولم يقع في عين ذلك الإنسان تفاوت حتى أنه يقول أنا ذلك الإنسان الذي كنت موجوداً قبل ذلك إلا أنه يقول إنهم قطعوا يدي ورجلي وذلك برهان يقيني على أن ذلك الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وذلك يبطل قول من يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة
الحجة الثالثة عشرة أن القرآن والأحاديث يدلان على أن جماعة من اليهود قد مسخهم الله وجعلهم في صورة القردة والخنازير فنقول إن ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أو لم يبق فإن لم يبق كان هذا إماتة لذلك الإنسان وخلقاً لذلك الخنزير وليس هذا من المسخ في شيء وإن قلنا إن ذلك الإنسان بقي حال حصول ذلك المسخ فنقول على ذلك التقدير ذلك الإنسان باق وتلك البنية وذلك الهيكل غير باق فوجب أن يكون ذلك الإنسان شيئاً مغايراً لتلك البنية
الحجة الرابعة عشرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يرى جبريل عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي وكان يرى إبليس في صورة الشيخ النجدي فها هنا بنية الإنسان وهيكله وشكله حاصل مع أن حقيقة الإنسان(21/35)
غير حاصلة وهذا يدل على أن الإنسان ليس عبارة عن هذه البنية وهذا الهيكل والفرق بين هذه الحجة والتي قبلها أنه حصلت صورة هذه البنية مع عدم هذه البنية وهذا الهيكل
الحجة الخامسة عشرة أن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره فوجب أن يكون الإنسان شيئاً آخر سوى الفرج وسوى الظهر ويقال إن ذلك الشيء يستعمل الفرج في عمل والظهر في عمل آخر فيكون المتلذذ والمتألم هو ذلك الشيء إلا أنه تحصل تلك اللذة بواسطة ذلك العضو ويتألم بواسطة الضرب على هذا العضو
الحجة السادسة عشرة أني إذا تكلمت مع زيد وقلت له افعل كذا أو لا تفعل كذا فالمخاطب بهذا الخطاب والمأمور والمنهي ليس هو جبهة زيد ولا حدقته ولا أنفه ولا فمه ولا شيئاً من أعضائه بعينه فوجب أن يكون المأمور والمنهي والمخاطب شيئاً مغايراً لهذه الأعضاء وذلك يدل على أن ذلك المأمور والمنهي غير هذا الجسد فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال المأمور والمنهي جملة هذا البدن لا شيء من أعضائه وأبعاضه قلنا بوجه التكليف على الجملة إنما يصح لو كانت الجملة فاهمة عالمة فنقول لو كانت الجملة فاهمة عالمة فإما أن يقوم بمجموع البدن علم واحد أو يقوم بكل واحد من أجزاء البدن علم على حدة والأول يقتضي قيام العرض بالمحال الكثيرة وهو محال والثاني يقتضي أن يكون كل واحد من أجزاء البدن عالماً فاهماً مدركاً على سبيل الاستقلال وقد بينا أن العلم الضروري حاصل بأن الجزء المعين من البدن ليس عالماً فاهماً مدركاً بالاستقلال فسقط هذا السؤال
الحجة السابعة عشرة أن الإنسان يجب أن يكون عالماً والعلم لا يحصل إلا في القلب فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشيء الموجود في القلب وإذا ثبت هذا بطل القول بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل وهذه الجثة إنما قلنا إن الإنسان يجب أن يكون عالماً لأنه فاعل مختار والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القلب والاختيار وهما مشروطان بالعلم لأن ما لا يكون مقصوداً امتنع القصد إلى تكوينه فثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالماً بالأشياء وإنما قلنا إن العلم لا يوجد إلا في القلب للبرهان والقرآن أما البرهان فلأنا نجد العلم الضروري بأنا نجد علومنا من ناحية القلب وأما القرآن فآيات نحو قوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ( الأعراف 179 ) وقوله كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادلة 22 ) وقوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وإذا ثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالماً وثبت أن العلم ليس إلا في القلب هو هذا الجسد وهذا الهيكل
وأما البحث الثاني وهو بيان أن الإنسان غير محسوس وهو أن حقيقة الإنسان شيء مغاير للسطح واللون وكل ما هو مرئي فهو إما السطح وإما اللون وهما مقدمتان قطعيتان وينتج هذا القياس أن حقيقة الإنسان غير مرئية ولا محسوسة وهذا برهان يقيني
المسألة الرابعة في شرح مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي إما أن تكون أحد العناصر الأربعة أو ما يكون متولداً من امتزاجها ويمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص بل لا بد وأن يكون الحاصل جسماً متولداً من(21/36)
امتزاجات هذه الأربعة فنقول أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء وذلك لأن هذه الأعضاء كثيفة ثقيلة ظلمانية فلا جرم لم يقل أحد من العقلاء بأن الإنسان عبارة عن أحد هذه الأعضاء وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو الأخلاط الأربعة ولم يقل أحد في شيء منها إنه الإنسان إلا في الدم فإن منهم من قال إنه هو الروح بدليل أنه إذا خرج لزم الموت أما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية والنارية فهو الأرواح وهي نوعان أحدهما أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولدة إما في القلب أو في الدماغ وقالوا إنها هي الروح وإنها هي الإنسان ثم اختلفوا فمنهم من يقول الإنسان هو الروح الذي في القلب ومنهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ ومنهم من يقول الروح عبارة عن أجزاء نارية مختلطة بهذه الأرواح القلبية والدماغية وتلك الأجزاء النارية وهي المسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان ومن الناس من يقول الروح عبارة عن أجسام نورانية سماوية لطيفة والجوهر على طبيعة ضوء الشمس وهي لا تقبل التحلل والتبدل ولا التفرق ولا التمزق فإذا تكون البدن وتم استعداده وهو المراد بقوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ نفذت تلك الأجسام الشريفة السماوية الإلهية في داخل أعضاء البدن نفاذ النار في الفحم ونفاذ دهن السمسم في السمسم ونفاذ ماء الورد في جسم الورد ونفاذ تلك الأجسام السماوية في جوهر البدن هو المراد بقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( ص 72 ) ثم إن البدن ما دام يبقى سليماً قابلاً لنفاذ تلك الأجسام الشريفة بقي حياً فإذا تولدت في البدن أخلاط غليظة منعت تلك الأخلاط الغليظة من سريان تلك الأجسام الشريفة فيها فانفصلت عن هذا البدن فحينئذ يعرض الموت فهذا مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت فهذا تفصيل مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن وأما أن الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحداً ذهب إلى هذا القول أما القسم الثاني وهو أن يقال الإنسان عرض حال في البدن فهذا لا يقول به عاقل لأن من المعلوم بالضرورة أن الإنسان جوهر لأنه موصوف بالعلم والقدرة والتدبر والتصرف ومن كان كذلك كان جوهراً والجوهر لا يكون عرضاً بل الذي يمكن أن يقول به كل عاقل هو أن الإنسان يشترط أن يكون موصوفاً بأعراض مخصوصة وعلى هذا التقدير فللناس فيه أقوال القول الأول أن العناصر الأربعة إذا امتزجت وانكسرت سورة كل واحدة منها بسورة الآخر حصلت كيفية معتدلة هي المزاج ومراتب هذا المزاج غير متناهية فبعضها هي الإنسانية وبعضها هي الفرسية فالإنسانية عبارة عن أجسام موصوفة متولدة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص هذا قول جمهور الأطباء ومنكري بقاء النفس وقول أبي الحسين البصري من المعتزلة والقول الثاني أن الإنسان عبارة عن أجسام مخصوصة بشرط كونها موصوفة بصفة الحياة والعلم والقدرة والحياة عرض قائم بالجسم وهؤلاء أنكروا الروح والنفس وقالوا ليس ها هنا إلا أجسام مؤتلفة موصوفة بهذه الأعراض المخصوصة وهي الحياة والعلم والقدرة وهذا مذهب أكثر شيوخ المعتزلة والقول الثالث أن الإنسان عبارة عن أجسام موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والإنسان إنما يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه وأجزائه إلا أن هذا مشكل فإن الملائكة قد يتشبهون بصور الناس فها هنا صورة الإنسان حاصلة مع عدم الإنسانية وفي صورة المسخ معنى الإنسانية حاصل مع أن هذه الصورة غير حاصلة(21/37)
فقد بطل اعتبار هذا الشكل في حصول معنى الإنسانية طرداً وعكساً أما القسم الثالث وهو أن يقال الإنسان موجود ليس بجسم ولا جسمانية فهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة القائلين ببقاء النفس المثبتين للنفس معاداً روحانياً وثواباً وعقاباً وحساباً روحانياً وذهب إليه جماعة عظيمة من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي رحمهما الله ومن قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الملقب عندهم بالشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة واعلم أن القائلين بإثبات النفس فريقان الأول وهم المحققون منهم من قال الإنسان عبارة عن هذا الجوهر المخصوص وهذا البدن وعلى هذا التقدير فالإنسان غير موجود في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل بالعالم ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعالم إلا على سبيل التصرف والتدبير والفريق الثاني الذين قالوا النفس إذا تعلقت بالبدن اتحدت بالبدن فصارت النفس عين البدن والبدن عين النفس ومجموعهما عند الاتحاد هو الإنسان فإذا جاء وقت الموت بطل هذا الاتحاد وبقيت النفس وفسد البدن فهذه جملة مذاهب الناس في الإنسان وكان ثابت بن قرة يثبت النفس ويقول إنها متعلقة بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد التفرق والتمزق وأن تلك الأجسام تكون سارية في البدن وما دام يبقى ذلك السريان بقيت النفس مدبرة للبدن فإذا انفصلت تلك الأجسام اللطيفة عن جوهر البدن انقطع تعلق النفس عن البدن
المسألة الخامسة في دلائل مثبتي النفس من ناحية العقل احتج القوم بوجوه كثيرة بعضها قوي وبعضها ضعيف والوجوه القوية بعضها قطعية وبعضها إقناعية فلنذكر الوجوه القطعية
الحجة الأولى لا شك أن الإنسان جوهر فإما أن يكون جوهراً متحيزاً أو غير متحيز والأول باطل فتعين الثاني والذي يدل على أنه يمتنع أن يكون جوهراً متحيزاً أنه لو كان كذلك لكان كونه متحيزاً غير تلك الذات ولو كان كذلك لكان كل ما علم الإنسان ذاته المخصوصة وجب أن يعلم كونه متحيزاً بمقدار مخصوص وليس الأمر كذلك فوجب أن لا يكون الإنسان جوهراً متحيزاً فنفتقر في تقرير هذا الدليل إلى مقدمات ثلاثة المقدمة الأولى لو كان الإنسان جوهراً متحيزاً لكان كونه متحيزاً عين ذاته المخصوصة والدليل عليه أنه لو كان تحيزه صفة قائمة لكان ذلك المحل من حيث هو مع قطع النظر عن هذه الصفة إما أن يكون متحيزاً أو لا يكون والقسمان باطلان فبطل القول بكون التحيز صفة قائمة بالمحل إنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز لأنه يلزم كون الشيء الواحد متحيزاً مرتين ولأنه يلزم اجتماع المثلين ولأنه ليس جعل أحدهما ذاتاً والآخر صفة أولى من العكس ولأن التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود وإن كان صفة لزم التسلسل وهو محال وإنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز غير متحيز لأن حقيقة التحيز هو الذهاب في الجهات والامتداد فيها والشيء الذي لا يكون متحيزاً لم يكن له اختصاص بالجهات وحصوله فيها ليس بمتحيز محال فثبت بهذا أنه لو كان الإنسان جوهراً متحيزاً لكان تحيزه غير ذاته المخصوصة المقدمة الثانية لو كان تحيز ذاته المخصوصة عين ذاته المخصوصة لكان متى عرف ذاته المخصوصة فقد عرف كونها متحيزة والدليل عليه أنه لو صارت ذاته المخصوصة معلومة وصار تحيزه مجهولاً لزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال(21/38)
المقدمة الثالثة أنا قد نعرف ذاتنا حال كوننا جاهلين بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاثة وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان فإن الإنسان حال كونه مشتغلاً بشيء من المهمات مثل أن يقول لعبده لم فعلت كذا ولم خالفت أمري وإني أبالغ في تأديبك وضربك فعندما يقول لم خالفت أمري يكون عالماً بذاته المخصوصة إذ لو لم يعلم ذاته المخصوصة لامتنع أن يعلم أن ذلك الإنسان خالفه ولامتنع أن يخبر عن نفسه بأنه على عزم أن يؤدبه ويضربه ففي هذه الحالة يعلم ذاته المخصوصة مع أنه في تلك الحالة لا يخطر بباله حقيقة التحيز والامتداد في الجهات والحصول في الحيز فثبت بما ذكرنا أنه لو كان ذات الإنسان جوهراً متحيزاً لكان تحيزه عن عين المخصوصة ولو كان كذلك لكان كل ما علم ذاته المخصوصة فقد علم التحيز وثبت أنه ليس كذلك فيلزم أن يقال ذات الإنسان ليس جوهراً متحيزاً وذلك هو المطلوب فإن قالوا هذا معارض بأنه لو كان جوهراً مجرداً لكان كل من عرف ذات نفسه عرف كونه جوهراً مجرداً وليس الأمر كذلك قلنا الفرق ظاهر لأن كونه مجرداً معناه أنه ليس بمتحيز ولا حالاً في المتحيز وهذا السلب ليس عين تلك الذات المخصوصة لأن السلب ليس عين الثبوت وإذا كان كذلك لم يبعد أن تكون تلك الذات المخصوصة معلومة وأن لا يكون ذلك السلب معلوماً بخلاف كونه متحيزاً فأنا قد دللنا على أن تقدير كون الإنسان جوهراً متحيزاً يكون تحيزه عين ذاته المخصوصة وعلى هذا التقدير يمتنع أن تكون ذاته معلومة ويكون تحيزه مجهولاً فظهر الفرق
الحجة الثانية النفس واحدة ومتى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه فهذه الحجة مبنية على مقدمات المقدمة الأولى هي قولنا النفس واحدة ولنا ها هنا مقامان تارة ندعي العلم البديهي فيه وأخرى نقيم البرهان على صحته أما المقام الأول وهو إدعاء البديهية فنقول المراد من النفس هو الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا وكل أحد يعلم بالضرورة أنه إذا أشار إلى ذاته المخصوصة بقوله أنا كان ذلك المشار إليه واحداً غير متعدد فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المشار إليه لكل أحد بقوله أنا وإن كان واحداً إلا أن ذلك الواحد يكون مركباً من أشياء كثيرة قلنا إنه لا حاجة لنا في هذا المقام إلى دفع هذه السؤال بل نقول المشار إليه بقول أنا معلوم بالضرورة أنه شيء واحد فأما أن ذلك الواحد هل هو واحد مركب من أشياء كثيرة أو هو واحد في نفسه واحد في حقيقته فهذا لا حاجة إليه في هذا المقام أما المقام الثاني وهو مقام الاستدلال فالذي يدل على وحدة النفس وجوه
الحجة الأولى أن الغضب حالة نفسانية تحدث عند إرادة دفع المنافر والشهوة حالة نفسانية تحدث عند طلب الملايم مشروطاً بالشعور بكون الشيء ملايماً ومنافراً فالقوة الغضبية التي هي قوة دافعة للمنافر إن لم يكن لها شعور بكونه منافراً امتنع انبعاثها لدفع ذلك المنافر على سبيل القصد والاختيار لأن القصد إلى الجذب تارة وإلى لدفع أخرى مشروط بالشعور بالشيء فالشيء المحكوم عليه بكونه دافعاً للمنافر على سبيل الاختيار لا بد وأن يكون له شعور بكونه منافراً فالذي يغضب لا بد وأن يكون هو بعينه مدركاً فثبت بهذا البرهان اليقيني مباينة حاصلة في ذوات متباينة
الحجة الثانية أنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين يكون كل واحد منهما مستقلاً بفعله الخاص امتنع أن يصير اشتغال أحدهما بفعله الخاص مانعاً للآخر من اشتغاله بفعله الخاص به وإذا ثبت هذا فنقول لو كان محل الإدراك والفكر جوهراً ومحل الغضب جوهراً آخر ومحل الشهوة جوهراً ثالثاً وجب أن لا يكون اشتغال(21/39)
القوة الغضبية بفعلها مانعاً للقوة الشهوانية من الاشتغال بفعلها ولا بالعكس لكن الثاني باطل فإن اشتغال الإنسان بالشهوة وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب وانصبابه إليه وبالعكس فعلمنا أن هذه الأمور الثلاثة ليست مباديء مستقلة بل هي صفات مختلفة بجوهر واحد فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال عائقاً له عن الإشتغال بالفعل الآخر
الحجة الثالثة أنا إذا أدركنا أشياء فقد يكون الإدراك سبباً لحصول الشهوة وقد يصير سبباً لحصول الغضب فلو كان الجوهر المدرك مغايراً للذي يغضب والذي يشتهي فحين أدرك الجوهر المدرك لم يحصل عند الجوهر المشتهى من ذلك الإدراك أثر ولا خبر فوجب أن لا يترتب على ذلك الإدراك لا حصول الشهوة ولا حصول الغضب وحيث حصل هذا الترتيب والاستلزام علمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة بعينها وصاحب الغضب بعينه
الحجة الرابعة أن حقيقة الحيوان أنه جسم ذو نفس حساسة متحركة بالإرادة فالنفس لا يمكنها أن تتحرك بالإدارة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه وهذا يقتضي أن يكون المتحرك بالإرادة هو بعينه مدركاً للخير والشر والملذ والمؤذي والنافع والضار فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد وثبت أن ذلك الشيء هو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيل والمتفكر والمتذكر والمشتهي والغاضب وهو الموصوف بجميع الإدراكات وهو الموصوف بجميع الأفعال الاختيارية والحركات الإرادية وأما المقدمة الثانية في بيان أنه لما كانت النفس شيئاً واحداً وجب أن لا تكون النفس في هذا البدن ولا شيئاً من أجزائه فنقول أما بيان أنه متى كان الأمر كذلك امتنع كون النفس عبارة عن جملة هذا البدن وكذا القوة السامعة وكذا سائر القوى كالتخيل والتذكر والتفكر والعلم بأن هذه القوى غير سارية في جملة أجزاء البدن علم بديهي بل هو من أقوى العلوم البديهية وأما بيان أنه يمتنع أن تكون النفس جزءاً من أجزاء هذا البدن فانا نعلم بالضرورة أنه ليس في البدن جزء واحد وهو بعينه موصوف بالأبصار والسماع والفكر والذكر بل الذي يتبادر إلى الخاطر أن الأبصار مخصوص بالعين لا بسائر الأعضاء والسماع مخصوص بالأذن لا بسائر الأعضاء والصوت مخصوص بالحلق لا بسائر الأعضاء وكذلك القول في سائر الإدراكات وسائر الأفعال فأما أن يقال إنه حصل في البدن جزء واحد موصوف بكل هذه الإدراكات وبكل هذه الأفعال فالعلم الضروري حاصل بأنه ليس الأمر كذلك فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد موصوف بجملة هذه الإدراكات وبجملة هذه الأفعال وثبت بالبديهية أن جملة البدن ليست كذلك وثبت أيضاً أن شيئاً من أجزاء البدن ليس كذلك فحينئذ يحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه وهو المطلوب ولنقرر هذا البرهان بعبارة أخرى فنقول إنا نعلم بالضرورة أنا إذا أبصرنا شيئاً عرفناه وإذا عرفناه اشتهيناه وإذا اشتهيناه حركنا أبداننا إلى القرب منه فوجب القطع بأن الذي أبصر هو الذي عرف وأن الذي عرف هو الذي اشتهى وأن الذي اشتهى هو الذي حرك إلى القرب منه فيلزم القطع بأن المبصر لذلك الشيء والعارف به والمشتهي والمتحرك إلى القرب منه شيء واحد إذ لو كان المبصر شيئاً والعارف شيئاً ثانياً والمشتهي شيئاً ثالثاً والمتحرك شيئاً رابعاً لكان الذي أبصر لم يعرف والذي عرف لم يشته والذي اشتهى لم يتحرك ومن المعلوم أن كون الشيء مبصراً لشيء لا يقتضي(21/40)
صيرورة شيء آخر عالماً بذلك الشيء وكذلك القول في سائر المراتب وأيضاً فأنا نعلم بالضرورة أن الرائي للمرئيات لما كان رآها فقد عرفها ولما عرفها فقد اشتهاها ولما اشتهاها طلبها وحرك الأعضاء إلى القرب منها ونعلم أيضاً بالضرورة أن الموصوف بهذه الرؤية وبهذا العلم وبهذ الشهوة وبهذا التحرك هو لا غيره وأيضاً العقلاء قالوا الحيوان لا بد أن يكون حساساً متحركاً بالإرادة فإنه إن لم يحس بشيء لم يشعر بكونه ملائماً أو بكونه منافراً وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريداً للجذب أو الدفع فثبت أن الشيء الذي يكون متحركاً بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساساً فثبت أن المدرك لجميع المدركات يدرك بجميع أصناف الإدراكات وأن المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شيء واحد وأيضاً فلأنا إذا تكلمنا بكلام نقصد منه تفهيم الغير ( عقلنا ) معاني تلك الكلمات ثم لما عقلناها أردنا تعريف غيرنا تلك المعاني ولما حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف والأصوات في الوجود لنتوسل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني إذ ثبت هذا فنقول إن كان محمل العلم والإرادة ومحل تلك الحروف والأصوات جسماً واحداً لزم أن يقال إن محل العلوم والإرادات هو الحنجرة واللهاة واللسان ومعلوم أنه ليس كذلك وإن قلنا محل العلوم والإرادات هو القلب لزم أيضاً أن يكون محل الصوت هو القلب وذلك أيضاً باطل بالضرورة وإن قلنا محل الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان ومحل العلوم والإرادات هو القلب ومحل القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات كنا قد وزعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة لكنا أبطلنا ذلك وبينا أن المدرك لجميع المدركات والمحرك لجميع الأضاء بكل أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئاً واحداً فلم يبق إلا أن يقال في الإدراك والقدرة على التحريك ( أنه ) شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن وأن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات فكما أن الإنسان يعقل أفعالاً مختلفة بواسطة آلات محتلفة فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكر بالدماغ وتعقل بالقلب فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها والنفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير وهذا البرهان برهان شريف يقيني في ثبوت هذا المطلوب والله أعلم
المقدمة الثالثة لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة وإما أن يقوم بمجموع الأجزاء حياة وعلم وقدرة والقسمان باطلان فبطل القول بكون الإنسان عبارة عن هذا الجسد وأما بطلان القسم الأول فلأنه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حياً عالماً قادراً على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيواناً واحداً بل أحياء عالمين قادرين وحينئذ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس وربط بعضهم بالبعض بالتسلسل لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتاً واحدة لا حيوانات كثيرين وأيضاً فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيواناً واحداً على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منهما خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآن أن يتحرك إلى الجانب الآخر فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين شخصين وفساد ذلك معلوم بالبديهة وأما بطلان القسم الثاني فلأنه يقضتي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة وذلك معلوم البطلان بالضرورة ولأنه لو جاز حلول الصفة الواحدة في المحال الكثيرة لم يبعد أيضاً حصول الجسم الواحد في الأحياز الكثيرة ولأن بتقدير أن تحصل الصفة الواحدة في المحال المتعددة فحينئذ يكون كل واحد من تلك الأجزاء حياً عاقلاً(21/41)
عالماً فيتجرد الأمر إلى كون هذه الجثة الواحدة أناساً كثيرين ولما ظهر فساد القسمين ثبت أن الإنسان ليس هو هذه الجثة فإن قالوا لم لا يجوز أن تقوم الحياة الواحدة بالجزء الواحد ثم إن تلك الحياة تقتضي صيرورة جملة الأجزاء أحياء قلنا هذا باطل لأنه لا معنى للحياة إلا الحيية ولا معنى للعلم إلا العالمية وبتقدير أن نساعد على أن الحياة معنى يوجب الحيية والعلم معنى يوجب العالمية إلا أنا نقول إن حصل في مجموع جثة مجموع حياة واحدة وعالمية واحدة فقد حصلت الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال وإن حصل في كل جزء وجثة حياة على حدة وعالمية على حدة عاد ما ذكرنا من كون الإنسان الواحد أناساً كثيرين وهو محال
المقدمة الرابعة أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم وذلك يدل على أن النفس ليست جسماً وتقرير هذه المنافاة من وجوه الأول أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى زوالاً تاماً مثاله أن الشمع إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه نعم إنا وجدنا الحال في تصور النفس بصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يبعد قبولها شيئاً من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة صار قبولها للصورة الثانية أسهل ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف ألبتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر صار قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع ولهذا السبب يزداد الإنسان فهماً وإدراكاً كلما ازداد تخرجاً وارتباطاً في العلوم فثبت أن قبول النفس للصور العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم والثاني أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن أما أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس من القوة إلى الفعل في التعقلات والإدراكات وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها وأما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه وهذه الحالة لو استمرت لانتقلت إلى الماليخوليا وسوق الموت فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد سبباً لكماله ونقصانه معاً ولحياته وموته معاً وأنه محال والثالث أنا إذا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفاً نحيفاً فإذا لاح له نور من الأنوار القدسية وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جراءة عظيمة وسلطنة قوية ولم يعبأ بحضور أكابر السلاطين ولم يقم لهم وزناً ولولا أن النفس شيء سوى البدن لما كان الأمر كذلك الرابع أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوة الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محروماً عن آثار النطق والعقل والمعرفة ولولا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك الخامس أنا نرى أن النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل أما إذا آل الأمر إلى العقل والإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ولذلك فإن الإنسان لا يمكنه أن يبصر شيئاً إذا أغمض عينيه وأن لا يسمع صوتاً إذا سد أذنيه كما لا يمكنه البتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالماً به فعلمنا أن النفس غنية بذاتها في العلوم والمعارف عن شيء من الآلات البدنية فهذه الوجوه الخمسة أمارات قوية في أن النفس(21/42)
ليست بجسم وفي المسألة الأولى كثير من دلائل المتقدمين ذكرناها في كتبنا الحكمية فلا فائدة في الاعادة
المسألة السادسة في إثبات أن النفس ليست بجسم من الدلائل السمعية
الحجة الأولى قوله تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( الحشر 19 ) ومعلوم أن أحداً من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شيء آخر غير هذا البدن
الحجة الثانية قوله تعالى أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ( الأنعام 93 ) وهذا صريح أن النفس غير البدن وقد استقصينا في تفسير هذه فليرجع إليه
الحجة الثالثة أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( المؤمنون 12 13 ) إلى قوله فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ( المؤمنون 14 ) ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن فإن قالوا هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ وكلمة من للتبعيض وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين قلنا كلمة من أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلاً من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولاً ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من السلالة
الحجة الرابعة قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) ميز تعالى بين البشرية وبين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء وتعديل المزاج والأشباح فلما ميز نفخ الروح عن تسوية الأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله مِن رُّوحِى دل ذلك على أن جوهر الروح معنى مغاير لجوهر الجسد
الحجة الخامسة قوله تعالى وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( الشمس 7 8 ) وهذه الآية صريحة في وجود شيء موصوف بالإدراك والتحريك حقاً لأن الإلهام عبارة عن الإدراك وأما الفجور والتقوى فهو فعل وهذه الآية صريحة في أن الإنسان شيء واحد وهو موصوف أيضاً بالإدراك والتحريك وموصوف أيضاً بفعل الفجور تارة وفعل التقوى تارة أخرى ومعلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين فلا بد من إثبات جوهر آخر يكون موصوفاً بكل هذه الأمور
الحجة السادسة قوله تعالى ءانٍ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( الإنسان 2 ) فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء هو المبتلي بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضواً من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير لجملة البدن ومغاير لأجزاء البدن وهو موصوف بكل هذه الصفات واعلم أن الأحاديث(21/43)
الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد والعجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما كان يعرف الروح وهذا من العجائب والله أعلم
المسألة السابعة في دلالة الآية التي نحن في تفسيرها على صحة ما ذكرناه أن الروح لو كان جسماً منتقلاً من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساوياً للبدن في كونه متولداً من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فإذا سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا حتى صار روحاً مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال إِنَّهُ مِنَ أَمَرَ رَبّي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كُنْ فَيَكُونُ ( البقرة 117 ) دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد واعلم أن أكثر العارفين المكاشفين من أصحاب الرياضيات وأرباب المكاشفات والمشاهدات مصرون على هذا القول جازمون بهذا المذهب قال الواسطي خلق الله الأرواح من بين الجمال والبهاء فلولا أنه سترها لسجد لها كل كافر وأما بيان أن تعلقه الأول بالقلب ثم بواسطته يصل تأثيره إلى جملة الأعضاء فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( الشعراء 193 194 ) واحتج المنكرون بوجوه الأول لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية وذلك محال الثاني قوله تعالى قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَى ّ شَى ْء خَلَقَهُ مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ ( عبس 17 22 ) وهذا تصريح بأن الإنسان شيء مخلوق من النطفة وأنه يموت ويدخل القبر ثم إنه تعالى يخرجه من القبر ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثة لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة الثالث قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إلى قوله يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ ( آل عمران 169 170 ) وهذا يدل على أن الروح جسم لأن الأرزاق والفرح من صفات الأجسام الجواب عن الأول أن المساواة في أنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز مساواة في صفة سلبية والمساواة في الصفة السلبية لا توجب المماثلة واعلم أن جماعة من الجهال يظنون أنه لما كان الروح موجوداً ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وجب أن يكون مثلاً للإله أو جزءاً للإله وذلك جهل فاحش وغلط قبيح وتحقيقه ما ذكرناه من أن المساواة في السلوب لو أوجبت المماثلة لوجب القول باستواء كل المختلفات وأن كل ماهيتين مختلفتين فلا بد أن يشتركا في سلب كل ما عداهما فلتكن هذه الدقيقة معلومة فإنها مغلطة عظيمة للجهال والجواب عن الثاني أنه لما كان الإنسان في العرف والظاهر عبارة عن هذه الجثة أطلق عليه اسم الإنسان في العرف والجواب عن الثالث أن الرزق المذكور في الآية محمول على ما يقوي حالهم ويكمل كمالهم وهو معرفة الله ومحبته بل نقول هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا لأن أبدانهم قد بليت تحت التراب والله تعالى يقول إن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وهذا يدل على أن الروح غير البدن وليكن هذا آخر كلامنا في هذا الباب ولنرجع إلى علم التفسير ثم قال تعالى وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً وعلى قولنا قد ذكرنا فيه احتمالين أما المفسرون فقالوا إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فقال عليه الصلاة والسلام ( بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً ) فقالوا ما أعجب شأنك يا محمد ساعة تقول(21/44)
( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) وساعة تقول هذا فنزل قوله وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ ( لقمان 27 ) إلى آخره وما ذكروه ليس بلازم لأن الشيء قد يكون قليلاً بالنسبة إلى شيء كثيراً بالنسبة إلى شيء آخر فالعلوم الحاصلة عند الناس قليلة جداً بالنسبة إلى علم الله وبالنسبة إلى حقائق الأشياء ولكنها كثيرة بالنسبة إلى الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية
وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه ما آتاهم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً بين في هذه الآية أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضاً لقدر عليه وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان أمراً مخالفاً للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه
المسألة الثانية احتج الكعبي بهذه الآية على أن القرآن مخلوق فقال والذي يقدر على إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديماً بل يجب أن يكون محدثاً وهذا الاستدلال بعيد لأن المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب وإزالة النقوش الدالة عليه عن المصحف وذلك لا يوجب كون ذلك المعلوم المدلول محدثاً وقوله ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً أي لا تجد من تتوكل عليه في رد شيء منه ثم قال إِلاَّ رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به وهذا امتنان من الله ببقاء القرآن على أنه تعالى من على جميع العلماء بنوعين من المنة أحدهما تسهيل ذلك العلم عليه الثاني إبقاء حفظه عليه وقوله إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا فيه قولان الأول المراد أن فضله كان عليك كبيراً بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك الثاني المراد أن فضله كان عليك كبيراً بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود فلما كان كذلك لا جرم أنعم عليك أيضاً بإبقاء العلم والقرآن عليك
( 88 )
قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( البقرة 23 ) بالغنا في بيان إعجاز القرآن وللناس فيه قولان منهم من قال القرآن معجز في(21/45)
نفسه ومنهم من قال إنه ليس في نفسه معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإثبات بمعارضته مع أن تلك الدواعي كانت قوية كانت هذه الصرفة معجزة والمختار عندنا في هذا الباب أن نقول القرآن في نفسه إما أن يكون معجزاً أو لا يكون فإن كان معجزاً فقد حصل المطلوب وإن لم يكن معجزاً بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة وما كان لهم عنها صارف ومانع وعلى هذا التقدير كان الإتيان بمعارضته واجباً لازماً فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً فهذا هو الطريق الذي نختاره في هذا الباب
المسألة الثانية لقائل أن يقول هب أنه قد ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف عرفتم عجز الجن عن معارضته وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال إن هذا الكلام نظم الجن ألقوه على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وخصوه به على سبيل السعي في إضلال الخلق فعلى هذا إنما تعرفون صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذا عرفتم أن محمداً صادق في قوله أنه ليس من كلام الجن بل هو من كلام الله تعالى فحينئذ يلزم الدور وليس لأحد أن يقول كيف يعقل أن يكون هذا من قول الجن لأنا نقول إن هذه الآية دلت على وقوع التحدي مع الجن وإنما يحسن هذا التحدي لو كانوا فصحاء بلغاء ومتى كان الأمر كذلك كان الاحتمال المذكور قائماً أجاب العلماء عن الأول بأن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزاً وعن الثاني أن ذلك لو وقع لوجب في حكمة الله أن يظهر ذلك التلبيس وحيث لم يظهر ذلك دل على عدمه وعلى أنه تعالى قد أجاب عن هذا السؤال بالأجوبة الشافية الكافية في آخر سورة الشعراء في قوله هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( الشعراء 221 222 ) وقد شرحنا هذه الأجوبة هناك فلا فائدة في الإعادة
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية دالة على أن القرآن مخلوق لأن التحدي بالقديم وهذه المسألة قد ذكرناها أيضاً بالاستقصاء في سورة البقرة فلا فائدة في الإعادة
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا
وهذا الكلام يحتمل وجوهاً أحدها أنه وقع التحدي بكل القرآن كما في هذه الآية ووقع التحدي أيضاً بعشر سور منه كما في قوله تعالى فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ( هود 13 ) ووقع التحدي بالسورة الواحدة كما في قوله تعالى فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ووقع التحدي بكلام من سورة واحدة كما في قوله فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( الطور 34 ) فقوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ يحتمل أن يكون المراد منه التحدي كما شرحناه ثم أنهم مع ظهور عجزهم في جميع هذه المراتب بقوا مصرين على كفرهم وثانيها أن يكون المراد من قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ أنا أخبرناهم بأن الذين بقوا مصرين على الكفر مثل قوم نوح وعاد وثمود كيف ابتلاهم بأنواع البلاء وشرحنا هذه الطريقة مراراً وأطواراً ثم إن هؤلاء الأقوام يعني أهل مكة لم ينتفعوا بهذا البيان بل بقوا مصرين على الكفر وثالثها أن يكون المراد أنه تعالى ذكر دلائل التوحيد ونفي الشركاء والأضداد في هذا القرآن مراراً كثيرة وذكر شبهات منكري النبوة والمعاد مراراً وأطواراً وأجاب عنها ثم أردفها بذكر الدلائل القاطعة على صحة النبوة والمعاد(21/46)
ثم إن هؤلاء الكفار لم ينتفعوا بسماعها بل بقوا مصرين على الشرك وإنكار النبوة
يريد ( أبى ) أكثر أهل مكة إِلاَّ كُفُورًا أي جحودا للحق وذلك أنهم أنكروا ما لا حاجة إلى إظهاره فإن قيل كيف جاز فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ولا يجوز أن يقال ضربت إلا زيداً قلنا لفظ أبى يفيد النفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفورا
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّة ٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الاٌّ نْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِى َ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً
اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزاً وظهر هذا المعجز على وفق دعوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فحينئذ تم الدليل على كونه نبياً صادقاً لأنا نقول إن محمداً ادعى النبوة وظهر المعجزة على وفق دعواه وكل من كان كذلك فهو نبي صادق فهذا يدل على أن محمدالله ( صلى الله عليه وسلم ) صادق وليس من شرط كونه نبياً صادقاً تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها لأنا لو فتحنا هذا الباب للزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى الرسول بمعجز اقترحوا عليه معجزاً آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حد ينقطع عنده عناد المعاندين وتغلب الجاهلين لأنه تعالى حكى عن الكفار أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزاً التمسوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ستة أنواع من المعجزات القاهرة كما حكى عن ابن عباس ( أن رؤساء أهل مكة أرسلوا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهم جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لننتفع فيها وفجر لنا فيها ينبوعاً أي نهراً وعيوناً نزرع فيها فقال لا أقدر عليه فقال قائل منهم أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً فقال لا أقدر عليه فقيل أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا فقال لا أقدر عليه فقيل له أما تستطيع أن تأتي قومك بما يسألونك فقال لا أستطيع قالوا فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أي قطعاً بالعذاب وقوله كما زعمت إشارة إلى قوله إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ) إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الانفطار 1 ) فقال عبد الله بن أمية المخزومي وأمه عمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا والذي يحلف به لا أومن بك حتى تشد سلماً فتصعد فيه ونحن ننظر إليك فتأتي بأربعة من الملائكة يشهدون لك(21/47)
بالرسالة ثم بعد ذلك لا أدري أنؤمن بك أم لاا ) فهذا شرح هذه القصة كما رواها ابن عباس
المسألة الثانية اعلم أنهم اقترحوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنواعاً من المعجزات أولها قولهم حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا قرأ عاصم وحمزة والكسائي تفجر بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة واختاره أبو حاتم قال لأن الينبوع واحد والباقون بالتشديد واختاره أبو عبيدة ولم يختلفوا في الثانية مشددة لأجل الأنهار لأنها جمع يقال فجرت الماء فجراً وفجرته تفجيراً فمن ثقل أراد به كثرة الأشجار من الينبوع وهو وإن كان واحداً فلكثرة الانفجار فيه يحسن أن يثقل كما تقول ضرب زيد إذا كثر الضرب منه فيكثر فعله وإن كان الفاعل واحداً ومن خفف فلأن الينبوع واحد وقوله ينبوعاً يعني عيناً ينبع الماء منه تقول نبع الماء ينبع نبعاً ونبوعاً ونبعاً ذكره الفراء قال القوم أزل عنا جبال مكة وفجر لنا الينبوع ليسهل علينا أمر الزراعة والحراثة وثانيها قولهم أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّة ٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الاْنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا والتقدير كأنهم قالوا هب أنك لا تفجر هذه الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك وثالثها قولهم أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر كسفاً بفتح السين ها هنا وفي سائر القرآن بسكونها وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم ها هنا وفي الروم بفتح السين وفي باقي القرآن بسكونها وقرأ حفص في سائر القرآن بالفتح إلا في الروم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي في الروم بفتح السين وفي سائر القرآن بسكون السين قال الواحدي رحمه الله كسفاً فيه وجهان من القراءة سكون السين وفتحها قال أبو زيد يقال كسفت الثوب أكسفه كسفاً إذا قطعته قطعاً وقال الليث الكسف قطع العرقوب والكسفة القطعة وقال الفراء سمعت أعرابياً يقول لبزاز أعطني كسفة يريد قطعة فمن قرأ بسكون السين احتمل قوله وجوهاً أحدها قال الفراء أن يكون جمع كسفة مثل دمنة ودمن وسدرة وسدر وثانيها قال أبو علي إذا كان المصدر الكسف فالكسف الشيء المقطوع كما تقول في الطحن والطبخ السقي ويؤكد هذا قوله وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء سَاقِطاً ( الطور 44 ) وثالثها قال الزجاج من قرأ كسفاً كأنه قال أو يسقطها طبقاً علينا واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته وأما فتح السين فهو جمع كسفة مثل قطعة وقطع وسدرة وسدر وهو نصب على الحال في القراءتين جميعاً كأنه قيل أو تسقط السماء علينا مقطعة
المسألة الثانية قوله كَمَا زَعَمْتَ فيه وجوه الأول قال عكرمة كما زعمت يا محمد أنك نبي فأسقط السماء علينا والثاني قال آخرون كما زعمت أن ربك إن شاء فعل الثالث يمكن أن يكون المراد ما ذكره الله تعالى في هذه السورة في قوله أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ( الإسراء 68 ) فقيل اجعل السماء قطعاً متفرقة كالحاصب وأسقطها علينا ورابعها قولهم أَوْ تَأْتِى َ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَة ِ قَبِيلاً وفي لفظ القبيل وجوه الأول القبيل بمعنى المقابل كالعشير بمعنى المعاشر وهذا القول منهم يدل على جهلهم حيث لم يعلموا أنه لا يجوز عليه المقابلة ويقرب منه قوله وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْء قُبُلاً ( الأنعام 111 ) والقول الثاني ما قاله ابن عباس يريد فوجاً بعد فوج قال الليث وكل جند من الجن والإنس قبيل وذكرنا ذلك في قوله إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ القول الثالث إن قوله قبيلاً معناه ها هنا ضامناً وكفيلاً قال الزجاج يقال قبلت به أقبل كقولك كفلت به أكفل وعلى(21/48)
هذا القول فهو واحد أريد به الجمع كقوله تعالى وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) والقول الرابع قال أبو علي معناه المعاينة والدليل عليه قوله تعالى لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ( الفرقان 21 ) وخامسها قولهم أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ قال مجاهد كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن ذَهَبَ قال الزجاج الزخرف الزينة يدل عليه قوله تعالى حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ( يونس 24 ) أي أخذت كمال زينتها ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب وسادسها قولهم أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاء قال الفراء يقال رقيت وأنا أرقى رقي ورقيا وأنشد أنت الذي كلفتني رقي الدرج
على الكلال والمشيب والعرج
وقوله في السماء أي في معارج السماء فحذف المضاف يقال رقي السلم ورقي الدرجة ثم قالوا وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ أي لن نؤمن لأجل رقيك حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا مّنَ السَّمَاء فيه تصديقك قال عبد الله بن أمية لَن نُّؤْمِنَ حتى نصنع على السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول ولما حكى الله تعالى عن الكفار اقتراح هذه المعجزات قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً وفيه مباحث
المبحث الأول أنه تعالى حكى من قول الكفار قولهم لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى وكل ذلك كلام القوم وإنا لا نجد بين تلك الكلمات وبين سائر آيات القرآن تفاوتاً في النظم فصح بهذا صحة ما قاله الكفار لو نشاء لقلنا مثل هذا والجواب أن هذا القرآن قليل لا يظهر فيه التفاوت بين مراتب الفصاحة والبلاغة فزال هذا السؤال
البحث الثاني هذه الآيات من أدل الدلائل على أن المجيء والذهاب على الله محال لأن كلمة سبحان للتنزيه عما لا ينبغي وقوله سبحان ربي تنزيه لله تعالى عن شيء لا يليق به أو نسب إليه مما تقدم ذكره وليس فيما تقدم ذكره شيء لا يليق بالله إلا قولهم أو تأتي بالله فدل هذا على أن قوله سُبْحَانَ رَبّى تنزيه لله عن الإتيان والمجيء وذلك يدل على فساد قول المشبهة في أن الله تعالى يجيء ويذهب فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى عن أن يتحكم عليه المتحكمون في اقتراح الأشياء قلنا القوم لم يتحكموا على الله وإنما قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إن كنت نبياً صادقاً فاطلب من الله أن يشرفك بهذه المعجزات فالقوم تحكموا على الرسول وما تحكموا على الله فلا يليق حمل قوله سُبْحَانَ رَبّى على هذا المعنى فوجب حمله على قولهم أو تأتي بالله
البحث الثالث تقرير هذا الجواب أن يقال إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء أو طلبتم مني أن أطلب من الله تعالى إظهارها على يدي لتدل على كوني رسولاً حقاً من عند الله والأول باطل لأني بشر والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء والثاني أيضاً باطل لأني قد أتيتكم بمعجزة واحدة وهي القرآن والدلالة على كونها معجزة فطلب هذه المعجزات طلب لما لا حاجة إليه ولا ضرورة فكأن طلبها يجري مجرى التعنت والتحكم وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على الله فسقط هذا السؤال فثبت أن قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً جواب كاف في هذا الباب وحاصل الكلام أنه سبحانه بين بقوله سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً كونهم على الضلال في الإلهيات(21/49)
وفي النبوات أما في الإلهيات فيدل على ضلالهم قوله سبحان ربي أي سبحانه عن أن يكون له إتيان ومجيء وذهاب وأما في النبوات فيدل على ضلالهم قوله هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً وتقريره ما ذكرناه
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض مَلَائِكَة ٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
اعلم أنه تعالى لما حكى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزائدة وأجاب عنها حكى عنهم شبهة أخرى وهي أن القوم استبعدوا أن يبعث الله إلى الخلق رسولاً من البشر بل اعتقدوا أن الله تعالى لو أرسل رسولاً إلى الخلق لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه الأول قوله وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وتقرير هذا الجواب أن بتقدير أن يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الخلق فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولاً من عند الله لأجل قيام المعجز الدال على صدقه وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة ذلك الملك في إدعاء رسالة الله تعالى فالمراد من قوله تعالى إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى هو المعجز فقط فهذا المعجز سواء ظهر على يد الملك أو على يد البشر وجب الإقرار برسالته فثبت أن يكون قولهم بأن الرسول لا بد وأن يكون من الملائكة تحكماً فاسداً وتعنتاً باطلاً الوجه الثاني من الأجوبة التي ذكرها الله في هذه الآية عن هذه الشبهة هو أن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة لأن الجنس إلى الجنس أميل أما لو كان أهل الأرض من البشر لوجب أن يكون رسولهم من البشر وهو المراد من قوله لَوْ كَانَ فِى الاْرْضِ مَلَائِكَة ٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً الوجه الثالث من الأجوبة المذكورة في هذه الآية قوله قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وتقريره أن الله تعالى لما أظهر المعجزة على وفق دعواي كان ذلك شهادة من الله تعالى على كوني صادقاً ومن شهد الله على صدقه فهو صادق فبعد ذلك قول القائل بأن الرسول يجب أن يكون ملكاً لا إنساناً تحكم فاسد لا يلتفت إليه ولما ذكر الله تعالى هذه الأجوبة الثلاثة أردفها بما يجري مجرى التهديد والوعيد فقال إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا يعني يعلم ظواهرهم وبواطنهم ويعلم من قلوبهم أنهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد وحب الرياسة والاستنكاف من الانقياد للحق
وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِأايَاتِنَا وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(21/50)
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة وأردفها بالوعيد الإجمالي وهو قوله إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ذكر بعده الوعيد الشديد على سبيل التفصيل أما قوله مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ فالمقصود تسلية الرسول وهو أن الذين سبق لهم حكم الله بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال واستحال أن يوجد من يصرفهم عن ذلك الضلال واحتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم في الهدى والضلال والمعتزلة حملوا هذا الإضلال تارة على الإضلال عن طريق الجنة وتارة على منع الألطاف وتارة على التخلية وعدم التعرض له بالمنع وهذه المباحث قد ذكرناها مراراً فلا فائدة في الإعادة أما قوله تعالى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا فإن قيل كيف يمكنهم المشي على وجوههم قلنا الجواب من وجهين الأول إنهم يسحبون على وجوههم قال تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( القمر 48 ) الثاني روى أبو هريرة قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم قال إن الذي يمشيهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم قال حكماء الإسلام الكفار أرواحهم شديدة التعلق بالدنيا ولذاتها وليس لها تعلق بعالم الأبرار وحضرة الإله سبحانه وتعالى فلما كانت وجوه قلوبهم وأرواحهم متوجهة إلى الدنيا لا جرم كان حشرهم على وجوههم وأما قوله عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا فاعلم أن واحداً قال لابن عباس رضي الله عنه أليس أنه تعالى يقول وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ( الكهف 53 ) وقال سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ( الفرقان 12 ) وقال دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ( الفرقان 13 ) وقال يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ( النحل 111 ) وقال حكاية عن الكفار وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلمون فكيف قال ههنا عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا أجاب ابن عباس وتلامذته عنه من وجوه الأول قال ابن عباس عمياً لا يرون شيئاً يسرهم صماً لا يسمعون شيئاً يسرهم بكماً لا ينطقون بحجة الثاني قال في رواية عطاء عمياً عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه بكماً عن مخاطبة الله ومخاطبة الملائكة المقربين صماً عن ثناء الله تعالى على أوليائه الثالث قال مقاتل إنه حين يقال لهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) يصيرون عمياً بكماً صماً أما قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون الرابع أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولولا ذلك لما قدروا على أن يطالعوا كتبهم ولا أن يسمعوا إلزام حجة الله عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم الله عمياً وبكماً وصماً والجواب أن الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون أما قوله تعالى مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ فظاهر وأما قوله كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ففيه مباحث
البحث الأول قال الواحدي الخبو سكون النار يقال خبت النار تخبوا إذا سكن لهبها ومعنى خبت سكنت وطفئت يقال في مصدره الخبو وأخبأها المخبىء إخباء أي أخمدها ثم قال زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا قال ابن قتيبة زدناهم سعيراً أي تلهباً
البحث الثاني لقائل أن يقول إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب وقوله كُلَّمَا خَبَتْ يدل على أن العذاب يخف في ذلك الوقت قلنا كلما خبت يقتضي سكون لهب النار أما لا يدل هذا على أنه يخف(21/51)
العذاب في ذلك الوقت
البحث الثالث قوله كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ظاهره يقتضي وجوب أن تكون الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى وإذا كان كذلك كانت الحالة الأولى بالنسبة إلى الحالة الثانية تخفيفاً والجواب الزيادة حصلت في الحالة الأولى أخف من حصولها في الحالة الثانية فكان العذاب شديداً ويحتمل أن يقال لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أوقاته غير مشعور به نعوذ بالله منه ولما ذكر تعالى أنواع هذا الوعيد قال ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ والباء في قوله بأنهم كفروا باء السببية وهو حجة لمن يقول العمل علة الجزاء والله أعلم
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا
قوله تعالى وَقَالُواْ وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات منكري النبوة عاد إلى حكاية شبهة منكري الحشر والنشر ليجيب عنها وتلك الشبهة هي أن الإنسان بعد أن يصير رفاتاً ورميماً يبعد أن يعود هو بعينه وأجاب الله تعالى عنه بأن من قدر على خلق السموات والأرض لم يبعد أن يقدر على إعادتهم بأعيانهم وفي قوله قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ قولان الأول المعنى قادر على أن يخلقهم ثانياً فعبر عن خلقهم ثانياً بلفظ المثل كما يقول المتكلمون أن الإعادة مثل الابتداء القول الثاني المراد قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحدونه ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا التفسير فهو كقوله تعالى وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( إبراهيم 19 ) وقوله وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ( التوبة 39 ) قال الواحدي والقول هو الأول لأنه أشبه بما قبله ولما بين الله تعالى بالدليل المذكور أن البعث والقيامة أمر ممكن الوجود في نفسه أردفه بأن لوقوعه ودخوله في الوجود وقتاً معلوماً عند الله وهو قوله وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( الإسراء 99 ) ثم قال تعالى فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا أي بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والنفور والجحود
قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَة ِ رَبِّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَة َ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أن الكفار لما قالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) طلبوا(21/52)
إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم وتتسع عليهم معيشتهم فبين الله تعالى لهم أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ولما أقدموا على إيصال النفع إلى أحد وعلى هذا التقدير فلا فائدة في إسعافهم بهذا المطلوب الذي التمسوه فهذا هو الكلام في وجه النظم والله أعلم
المسألة الثانية قوله لَّوْ أَنتُمْ فيه بحث يتعلق بالنحو وبحث آخر يتعلق بعلم البيان أما البحث النحوي فهو أن كلمة لَوْ من شأنها أن تختص بالفعل لأن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره والاسم يدل على الذوات والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال والمنتفى هو الأحوال والآثار لا الذوات فثبت أن كلمة لَوْ مختصة بالأفعال وأنشدوا قول المتلمس لو غير أخوالي أرادوا نقيصتي
نصبت لهم فوق العرانين مأتما
والمعنى لو أراد غير أخوالي وأما البحث المتعلق بعلم البيان فهو أن التقديم بالذكر يدل على التخصيص فقوله أَنتُمْ تَمْلِكُونَ دلالة على أنهم هم المختصون بهذه الحالة الخسيسة والشح الكامل
المسألة الثالثة خزائن فضل الله ورحمته غير متناهية فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء ثم قال تعالى وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا أي بخيلاً يقال قتر يقتر قتراً وأقتر إقتاراً وقتر تقتيراً إذا قصر في الانفاق فإن قيل فقد دخل في الإنسان الجواد الكريم فالجواب من وجوه الأول أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجاً والمحتاج لا بد أن يحب ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج فثبت أن الأصل في الإنسان البخل الثاني أن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل الثالث إن المراد بهذا الإنسان المعهود السابق وَهُمْ الَّذِينَ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 )
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ يامُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَاؤُلا ءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يافِرْعَونُ مَثْبُورًا فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَاءِيلَ اسْكُنُواْ الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاٌّ خِرَة ِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا
في الآية مسائل(21/53)
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذا الكلام أيضاً الجواب عن قولهم لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تأتينا بهذه المعجزات القاهرة فقال تعالى أَنَاْ مُوسَى الْكِتَابَ معجزات مساوية لهذه الأشياء التي طلبتموها بل أقوى منها وأعظم فلو حصل في علمنا أن جعلها في زمانكم مصلحة لفعلناها كما فعلنا في حق موسى فدل هذا على إنا إنما لم نفعلها في زمانكم لعلمنا أنه لا مصلحة في فعلها
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه الصلاة والسلام أحدها أن الله تعالى أزال العقدة من لسانه قيل في التفسير ذهبت العجمة وصار فصيحاً وثانيها إنقلاب العصا حية وثالثها تلقف الحية حبالهم وعصيهم مع كثرتها ورابعها اليد البيضاء وخمسة أخر وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعاشر شق البحر وهو قوله وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) والحادي عشر الحجر وهو قوله أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ ( الأعراف 160 ) الثاني عشر إظلال الجبل وهو قوله تعالى وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ والثالث عشر إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه والرابع عشر والخامس عشر قوله تعالى وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ ( الأعراف 130 ) والسادس عشر الطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير روى ابن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ فذكر محمد بن كعب في مسألة التسع حل عقدة اللسان والطمس فقال عمر بن عبد العزيز هكذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا فيه بيض مكسور نصفين وجوز مكسور وفول وحمص وعدس كلها حجارة إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى ذكر في القرآن هذه المعجزات الستة عشر لموسى عليه الصلاة والسلام وقال في هذه الآية وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ وتخصيص التسعة بالذكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه لأنا بينا في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد بل نقول إنما يتمسك في هذه المسألة بهذه الآية ثم نقول أما هذه التسعة فقد اتفقوا على سبعة منها وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وبقي الاثنان ولكل واحد من المفسرين قول آخر فيهما ولما لم تكن تلك الأحوال مستندة إلى حجة ظنية فضلاً عن حجة يقينية لا جرم تركت تلك الروايات وفي تفسير قوله تعالى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ أقوال أجودها ما روى صفوان بن عسال أنه قال إن يهودياً قال لصاحبه إذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات فذهبا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسألاه عنها فاقل هن أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا الفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود أن تعدلوا في السبت فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالوا نشهد إنك نبي ولولا نخاف القتل وإلا اتبعناك
المسألة الثالثة قوله فَاسْأَلْ بَنِى إِسْراءيلَ إِذْ جَاءهُمْ فيه مباحث
البحث الأول فيه وجوه الوجه الأول أنه اعتراض دخل في الكلام والتقدير وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ إذ جاء بني إسرائيل فاسألهم وعلى هذا التقدير فليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره الرسول فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد والوجه الثاني أن يكون قوله فاسأل بني إسرائيل أي سلهم عن فرعون وقل له(21/54)
أرسل معي بني إسرائيل والوجه الثالث سل بني إسرائيل أي سلهم أن يوافقوك والتمس منهم الإيمان الصالح وعلى هذا التأويل فالتقدير فقلنا له سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك
البحث الثاني أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يسأل بني إسرائيل معناه الذين كانوا موجودين في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والذين جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام هم الذين كانوا في زمانه إلا أن الذين كانوا في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما كانوا أولاد أولئك الذين كانوا في زمان موسى حسنت هذه الكناية ثم أخبر تعالى أن فرعون قال لموسى إِنّى لاظُنُّكَ يامُوسَى مُوسَى مَّسْحُورًا ( الإسراء 45 ) وفي لفظ المسحور وجوه الأول قال الفراء إنه بمعنى الساحر كالمشؤوم والميمون وذكرنا هذا في قوله حِجَابًا مَّسْتُورًا أنه مفعول من السحر أي أن الناس سحروك وخبلوك فتقول هذه الكلمات لهذا السبب الثالث قال محمد بن جرير الطبري معناه أعطيت علم السحر فهذه العجائب التي تأتي بها من ذلك السحر ثم أجابه موسى عليه الصلاة والسلام بقوله لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ الكسائي علمت بضم التاء أي علمت أنها من علم الله فإن علمت وأقررت وإلا هلكت والباقون بالفتح وضم التاء قراءة علي وفتحها قراءة ابن عباس وكان علي رضي الله عنه يقول والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فاحتج بقوله وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ( النمل 14 ) على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى عليه السلام قال الزجاج الأجود في القراءة الفتح لأن علم فرعون بأنها آيات نازلة من عند الله أوكد في الحجة فاحتجاج موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج بعلم نفسه وأجاب الناصرون لقراءة علي عليه السلام عن دليل ابن عباس فقالوا قوله وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ يدل على أنهم استيقنوا شيئاً ما فأما أنهم استيقنوا كون هذه الآيات نازلة من عند الله فليس في الآية ما يدل عليه وأجابوا عن الوجه الثاني بأن فرعون قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) قال موسى لَقَدْ عَلِمْتَ فكأنه نفي ذلك وقال لقد علمت صحة ما أتيت به علماً صحيحاً علم العقلاء واعلم أن هذه الآيات من عند الله ولا تشك في ذلك بسبب سفاهتك
البحث الثاني التقدير ما أنزل هؤلاء الآيات ونظيره قوله والعيش بعد أولئك الأقوام
وقوله بصائر أي حججاً بينة كأنها بصائر العقول وتحقيق الكلام أن المعجزة فعل خارق للعادة فعله فاعله لغرض تصديق المدعى ومعجزات موسى عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة بهذين الوصفين لأنها كانت أفعالاً خارقة للعادة وصرائح العقول تشهد بأن قلب العصا حية معجزة عظيمة لا يقدر عليها إلا الله ثم إن تلك الحية تلقفت حبال السحرة وعصيهم على كثرتها ثم عادت عصا كما كانت فأصناف تلك الأفعال لا يقدر عليها أحد إلا الله وكذا القول في فرق البحر وإظلال الجبل فثبت أن تلك الأشياء ما أنزلها إلا رب السموات الصفة الثانية أنه تعالى إنما خلقها لتدل على صدق موسى في دعوة النبوة وهذا هو المراد من قوله مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ حال كونها بصائر أي دالة على صدق موسى في دعواه وهذه الدقائق لا يمكن فهمها من القرآن إلا بعد إتقان علم الأصول وأقول يبعد أن يصير غير علم الأصول العقلي قاهراً في تفسير كلام الله ثم حكى تعالى أن موسى قال لفرعون إِنّى لاظُنُّكَ يامُوسَى فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ( الإسراء 103 ) واعلم أن فرعون(21/55)
قال لموسى وَإِنّى لاظُنُّكَ يافِرْعَونُ مُوسَى مَّسْحُورًا فعارضه موسى وقال له وَإِنّى لاظُنُّكَ يافِرْعَونُ فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا قال الفراء المثبور الملعون المحبوس عن الخير والعرب تقول ما ثبرك عن هذا أي ما منعك منه وما صرفك وقال أبو زيد يقال ثبرت فلاناً عن الشيء أثبره أي رددته عنه وقال مجاهد وقتادة هالكاً وقال الزجاج يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا هلك والثبور الهلاك ومن معروف الكلام فلان يدعو بالويل والثبور عند مصيبة تناله وقال تعالى دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ( الفرقان 13 14 ) واعلم أن فرعون لما وصف موسى بكونه مسحوراً أجابه موسى بأنك مثبور يعني هذه الآيات ظاهرة وهذه المعجزات قاهرة ولا يرتاب العاقل في أنها من عند الله وفي أنه تعالى إنما أظهرها لأجل تصديقي وأنت تنكرها فلا يحملك على هذا الإنكار إلا الحسد والعناد والغي والجهل وحب الدنيا ومن كان كذلك كانت عاقبته الدمار والثبور ثم قال تعالى فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مّنَ الاْرْضِ يعني أراد فرعون أن يخرجهم يعني موسى وقومه بني إسرائيل ومعنى تفسير الاستفزاز تقدم في هذه السورة من الأرض يعني أرض مصر قال الزجاج لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منهم بالقتل أو بالتنحية ثم قال فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا المعنى ما ذكره الله تعالى في قوله وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( فاطر 43 ) أراد فرعون أن يخرج موسى من أرض مصر لتخلص له تلك البلاد والله تعالى أهلك فرعون وجعل ملك مصر خالصة لموسى ولقومه وقال لِبَنِى إِسْراءيلَ اسْكُنُواْ الاْرْضَ خالصة لكم خالية من عدوكم قال تعالى فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَة ِ يريد القيامة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا من ها هنا وها هنا واللفيف الجمع العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدنيء والمطيع والعاصي والقوي والضعيف وكل شيء خلطته بشيء آخر فقد لففته ومنه قيل لففت الجيوش إذا ضربت بعضها ببعض وقوله التفت الزحوف ومنه التفت الساق بالساق والمعنى جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطاً يعني جميع الخلق المسلم والكافر والبر والفاجر
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً قُلْ ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاٌّ ذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً
اعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن معجز قاهر دال على الصدق في قوله قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ(21/56)
( الإسراء 88 ) ثم حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز بل طلبوا سائر المعجزات ثم أجاب الله بأنه لا حاجة إلى إظهار سائر المعجزات وبين ذلك بوجوه كثيرة منها أن قوم موسى عليه الصلاة والسلام آتاهم الله تسع آيات بينات فلما جحدوا بها أهلكهم الله فكذا ها هنا ثم إنه تعالى لو آتى قوم محمد تلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها وجب إنزال عذاب الاستئصال بهم وذلك غير جائز في الحكمة لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن والذي لا يؤمن فسيظهر من نسله من يصير مؤمناً ولما تم هذا الجواب عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة درجته فقال وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ والمعنى أنه ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق وكما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع هذا المعنى وحصل وفي هذه الآية فوائد الفائدة الأولى أن الحق هو الثابت الذي لا يزول كما أن الباطل هو الزائل الذاهب وهذا الكتاب الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ومشتمل أيضاً على شريعة باقية لا يتطرق إليها النسخ والنقض والتحريف وأيضاً فهذا الكتاب كتاب تكفل الله بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) فكان هذا الكتاب حقاً من كل الوجوه الفائدة الثانية أن قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ يفيد الحصر ومعناه أنه ما أنزل لمقصود آخر سوى إظهار الحق وقالت المعتزلة وهذا يدل على أنه ما قصد بإنزاله إضلال أحد من الخلق ولا إغواؤه ولا منعه عن دين الله الفائدة الثالثة قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ يدل على أن الإنزال غير النزول فوجب أن يكون الخلق غير المخلوق وأن يكون التكوين غير المكون على ما ذهب إليه قوم الفائدة الرابعة قال أبو علي الفارسي الباء في قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ بمعنى مع كما تقول نزل بعدته وخرج بسلاحه والمعنى أنزلنا القرآن مع الحق وقوله وَبِالْحَقّ نَزَلَ فيه احتمالان أحدهما أن يكون التقدير نزل بالحق كما تقول نزلت بزيد وعلى هذا التقدير الحق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن القرآن نزل به أي عليه الثاني أن تكون بمعنى مع كما قلنا في قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ ثم قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا والمقصود أن هؤلاء الجهال الذين يقترحون عليك هذه المعجزات ويتمردون عن قبول دينك لا شيء عليك من كفرهم فإني ما أرسلتك إلا مبشراً للمطيعين ونذيراً للجاحدين فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء
ثم قال وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وفيه مباحث
البحث الأول أن القوم قالوا هب إن هذا القرآن معجز إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة ليظهر فيه وجه الإعجاز فجعلوا إتيان الرسول بهذا القرآن متفرقاً شبهة في أنه يتفكر في فصل فصل ويقرأه على الناس فأجاب الله عنه بأنه إنما فرقه ليكون حفظه أسهل ولتكون الإحاطة والوقوف على دقائقه وحقائقه أسهل
البحث الثاني قال سعيد بن جيبر نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى ثم فصل في السنين التي نزل فيها قال قتادة كان بين أوله وآخره عشرون سنة والمعنى قطعناه آية آية وسورة سورة ولم ننزله جملة لتقرأه على الناس على مكث بالفتح والضم على مهل وتؤدة أي لا على فورة قال الفراء يقال مكث ومكث يمكث والفتح قراءة عاصم في قوله فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( النمل 22 )(21/57)
البحث الثالثة الاختيار عند الأئمة فرقناه بالتخفيف وفسره أبو عمرو بيناه قال أبو عبيد التخفيف أعجب إلي لأن تفسيره بيناه ومن قرأ بالتشديد لم يكن له معنى إلا أنه أنزل متفرقاً فالفرق يتضمن التبيين ويؤكده ما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام ويدل عليه أيضاً قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) ولم يقل يفترقا والتفرق مطاوع التفريق والافتراق مطاوع الفرق ثم قال وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً أي على الحد المذكور والصفة المذكورة ثم قال قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة على وجه التهديد والإنكار أي أنه تعالى أوضح البينات والدلائل وأزاح الأعذار فاختاروا ما تريدون ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن قال مجاهد هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خروا سجداً منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام ثم قال يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا وفيه أقوال القول الأول قال الزجاج الذقن مجمع اللحيين وكلما يبتدىء الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذقن والقول الثاني أن الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخضوع والخشوع ربما مسح لحيته على التراب فإن اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب فقد أتى بغاية التعظيم والقول الثالث أن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه ومتى كان الأمر كذلك كان خروره على الذقن في موضع السجود فقوله يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته ثم بقي في الآية سؤالان السؤال الأول لم قال يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا ولم يقل يسجدون والجواب المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى أنهم يسقطون السؤال الثاني لم قال يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ ولم يقل على الأذقان والجواب العرب تقول إذا خر الرجل فوقع على وجهه خر للذقن والله أعلم ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً والمعنى أنهم يقولون في سجودهم سُبْحَانَ رَبّنَا أي ينزهونه ويعظمونه إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً أي بإنزال القرآن وبعث محمد وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب لأن الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم فهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد ثم قال وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين وهما خرورهم للسجود وفي حال كونهم باكين عند استماع القرآن ويدل عليه قوله وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ويجوز أن يكون تكرار القول دلالة على تكرار الفعل منهم وقوله يَبْكُونَ معناه الحال وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا أي تواضعاً واعلم أن المقصود من هذه الآية تقرير تحقيرهم والازدراء بشأنهم وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وامتناعهم منه وأنهم وإن لم يؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منهم
قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاٌّ سْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِى ٌّ مَّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا(21/58)
قال صاحب ( الكشاف ) المراد بهما الاسم لا المسمى والواو للتخيير بمعنى ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أي سموا بهذا الاسم أو بهذا أو اذكروا إما هذا وإما هذا والتنوين في أَيّا عوض عن المضاف إليه و مَا صلة للإبهام المؤكد لما في أي والتقدير أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى والضمير في قوله فَلَهُ ليس براجع إلى أحد الإسمين المذكورين ولكن إلى مسماهما وهو ذاته عز وعلا والمعنى أَيّا مَّا تَدْعُواْ فهو حسن فوضع موضعه قوله فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى لأنه إذا حسنت أسماؤه فقد حسن هذان الإسمان لأنهما منها ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التحميد والتقديس وقد سبق الاستقصاء في هذا الباب في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فادعوه بها واحتج الجبائي بهذه الآية فقال لو كان تعالى هو الخالق للظلم والجور لصح أن يقال يا ظالم وحينئذ يبطل ما ثبت في هذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة والجواب أنا لا نسلم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد لصح وصفه بأنه ظالم وجائر كما أنه لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون والسواد والبياض أن يقال يا متحرك ويا ساكن ويا أسود ويا أبيض فإن قالوا فيلزم جواز أن يقال يا خالق الظلم والجور قلنا فيلزمكم أن تقولوا يا خالق العذرات والديدان والخنافس وكما أنكم تقولون أن ذلك حق في نفس الأمر ولكن الأدب أن يقال يا خالق السموات والأرض فكذا قولنا هنا ثم قال تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وفيه مباحث
البحث الأول قوله وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيه أقوال الأول روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمع المشركون فيسبوا الله عدواً بغير علم وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا فلا تسمع أصحابك وابتغ بين ذلك سبيلا القول الثاني روى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طاف بالليل على دور الصحابة وكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر لم تخفي صوتك فقال أناجي ربي وقد علم حاجتي وقال لعمر لم ترفع صوتك فقال أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر أن يرفع صوته قليلاً وعمر أن يخفض صوته قليلاً القول الثالث معناه وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ كلها وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا كلها وابتغ بين ذلك سبيلاً بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار والقول الرابع أن المراد بالصلاة الدعاء وهذا قول عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة ومجاهد قالت عائشة رضي الله عنها هي في الدعاء وروى هذا مرفوعاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في هذه الآية إنما ذلك في الدعاء والمسألة لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعير بها فالجهر بالدعاء منهى عنه والمبالغة في الإسرار غير جائزة والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال لم يخافت من أسمع أذنيه والقول الخامس قال الحسن لا تراه بعلانيتها ولا تسىء بسريتها
البحث الثاني الصلاة عبارة عن مجموع الأفعال والأذكار والجهر والمخافتة من عوارض الصوت(21/59)
فالمراد ههنا من الصلوات بعض أجزاء ماهية الصلاة وهو الأذكار والقرآن وهو من باب إطلاق اسم الكل لإرادة الجزء
البحث الثالث يقال خفت صوته يخفت خفتاً وخفوتاً إذا ضعف وسكن وصوت خفيت أي خفيض ومنه يقال للرجل إذا مات قد خفت أي انقطع كلامه وخفت الزرع إذا ذبل وخفت الرجل يخافت بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت وقد تخافت القوم إذا تساروا بينهم وأقول ثبت في كتب الأخلاق أن كلا طرفي الأمور ذميم والعدل هو رعاية الوسط ولهذا المعنى مدح الله هذه الأمة بقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) وقال في مدح المؤمنين وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) وأمر الله رسوله فقال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) فكذا ههنا نهى عن الطرقين وهو الجهر والمخافتة وأمر بالتوسط بينهما فقال وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً ومنهم من قال الآية منسوخة بقوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 55 ) وهو بعيد واعلم أنه تعالى لما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد فقال وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِى ٌّ مَّنَ الذُّلّ فذكر ههنا من صفات التنزيه والجلال وهي السلوب ثلاثة أنواع من الصفات النوع الأول من الصفات أنه لم يتخذ ولداً والسبب فيه وجوه الأول أن الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء شيء آخر فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء والمركب محدث والمحدث محتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد الثاني أن كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض كل تلك النعم على عبيده الثالث أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه وفنائه فلو كان له ولد لكان منقضياً ومن كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك فحينئذ لا يعرف كونه مستحقاً للحمد والشكر والنوع الثالث قوله وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِى ٌّ مَّنَ الذُّلّ والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو جاز عليه ولي من الذل لم يجب شكره لتجويز أن غيره حمله على ذلك الإنعام أو منعه منه أما إذا كان منزهاً عن الولد وعن الشريك وكان منزهاً عن أن يكون له ولي يلي أمره كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد ومستحقاً لأجل أقسام الشكر ثم قال تعالى وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا ومعناه أن التحميد يجب أن يكون مقروناً بالتكبير ويحتمل أنواعاً من المعاني أولها تكبيره في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل ما سواه وثانيها تكبيره في صفاته وذلك من ثلاثة أوجه أولها أن يعتقد أن كل ما كان صفة له فهو من صفات الجلال والعز والعظمة والكمال وهو منزه عن كل صفات النقائص وثالثها أن يعتقد أن كل واحد من تلك الصفات متعلق بما لا نهاية له من المعلومات وقدرته متعلقة بما لا نهاية له من المقدورات والممكنات ورابعها أن يعتقد أنه كما تقدست ذاته عن الحدوث وتنزهت عن التغير والزوال والتحول والانتقال فكذلك صفاته أزلية قديمة سرمدية منزهة عن التغير والزوال والتحول والانتقال النوع الثالث من تكبير الله تكبيره في أفعاله وعند هذا تختلف أهل الجبر والقدر فقال أهل السنة إنا نحمد الله ونكبره ونعظمه على أن يجري في سلطانه شيء لا على وفق حكمه وإرادته فالكل واقع بقضاء الله وقدرته ومشيئته وإرادته وقالت المعتزلة إنا نكبر الله ونعظمه عن أن يكون فاعلاً لهذه القبائح والفواحش بل نعتقد أن حكمته تقتضي التنزيه والتقديس عنها وعن إرادتها وسمعت(21/60)
أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني كان جالساً في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني فلما رآه قال سبحان من تنزه عن الفحشاء فقال الأستاذ أبو إسحاق سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء النوع الرابع تكبير الله في أحكامه وهو أن يعتقد أنه ملك مطاع وله الأمر والنهي والرفع والخفض وأنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء ويذل من يشاء النوع الخامس تكبير الله في أسمائه وهو أن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية المنزهة النوع السادس من التكبير هو أن الإنسان بعد أن يبلغ في التكبير والتعظيم والتنزيه والتقديس مقدار عقله وفهمه وخاطره يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال الله ولسانه لا يفي بشكره وجوارحه وأعضاؤه لا تفي بخدمته فكبر الله عن أن يكون تكبيره وافياً بكنه مجده وعزته وهذا أقصى ما يقدر عليه العبد الضعيف من التكبير والتعظيم ونسأل الله تعالى الرحمة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت إنه الكريم الرحيم وبالله العصمة والتوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل(21/61)
سورة الكهف
مائة وإحدى عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى أما الكلام في حقائق قولنا الْحَمْدُ للَّهِ فقد سبق والذي أقوله ههنا أن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدماً على التحميد ألا ترى أنه يقال سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ إذا عرفت هذا فنقول إنه جل جلاله ذكر التسبيح عندما أخبر أنه أسرى بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) وذكر التحميد عندما ذكر أنه أنزل الكتاب على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وفيه فوائد
الفائدة الأولى أن التسبيح أول الأمر لأنه عبارة عن تنزيه الله عما لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته والتحميد عبارة عن كونه مكملاً لغيره ولا شك أن أول الأمر هو كونه كاملاً في ذاته ونهاية الأمر كونه مكملاً لغيره فلا جرم وقع الابتداء في الذكر بقولنا سبحان الله ثم ذكر بعده الحمد لله تنبيهاً على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية إذا عرفت هذا فنقول ذكر عند الإسراء لفظ التسبيح وعند إنزال الكتاب لفظ التحميد وهذا تنبيه على أن الإسراء به أول درجات كماله وإنزال الكتاب غاية درجات كماله والأمر في الحقيقة كذلك لأن الإسراء به إلى المعراج يقتضي حصول الكمال له وإنزال الكتاب عليه يقتضي(21/62)
كونه مكملاً للأرواح البشرية وناقلاً لها من حضيض البهيمية إلى أعلى درجات الملكية ولا شك أن هذا الثاني أكمل وهذا تنبيه على أن أعلى مقامات العباد مقاماً أن يصير ( العبد ) عالماً في ذاته معلماً لغيره ولهذا روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من تعلم وعلم فذاك يدعى عظيماً في السموات )
الفائدة الثانية أن الإسراء عبارة عن رفع ذاته من تحت إلى فوق وإنزال الكتاب عليه عبارة عن إنزال نور الوحي عليه من فوق إلى تحت ولا شك أن هذا الثاني أكمل
الفائدة الثالثة أن منافع الإسراء به كانت مقصورة عليه ألا ترى أنه تعالى قال هنالك لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا ( الإسراء 1 ) ومنافع إنزال الكتاب عليه متعدية ألا ترى أنه قال لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ والفوائد المتعدية أفضل من القاصرة
المسألة الثانية المشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق والجواب عنه مذكور بالتمام في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( الأعراف 54 )
المسألة الثالثة إنزال الكتاب نعمة عليه ونعمة علينا أما كونه نعمة عليه فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علوم التوحيد والتنزيه وصفات الجلال والإكرام وأسرار أحوال الملائكة والأنبياء وأحوال القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفلي بأحوال العالم العلوي وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب وكيفية ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات وتصيير النفس كالمرآة التي يتجلى فيها عالم الملكوت وينكشف فيها قدس اللاهوت فلا شك أن ذلك من أعظم النعم وأما كون هذا الكتاب نعمة علينا فلأنه مشتمل على التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والثواب والعقاب وبالجملة فهو كتاب كامل في أقصى الدرجات فكل واحد ينتفع به بمقدار طاقته وفهمه فلما كان كذلك وجب على الرسول وعلى جميع أمته أن يحمدوا الله عليه فعلمهم الله تعالى كيفية ذلك التحميد فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين فقال وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً وفيه أبحاث
البحث الأول أنا قد ذكرنا أن الشيء يجب أن يكون كاملاً في ذاته ثم يكون مكملاً لغيره ويجب أن يكون تاماً في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عليه كمال الغير إذا عرفت هذا فنقول في قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته وقوله قَيِّماً إشارة إلى كونه مكملاً لغيره لأن القيم عبارة عن القائم بمصالح الغير ونظيره قوله في أول سورة البقرة في صفة الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) فقوله لاَ رَيْبَ فِيهِ إشارة إلى كونه في نفسه بالغاً في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه وقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ إشارة إلى كونه سبباً لهداية الخلق وإكمال حالهم فقوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قائم مقام قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ وقوله قَيِّماً قائم مقام قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وهذه أسرار لطيفة(21/63)
البحث الثاني قال أهل اللغة العوج في المعاني كالعوج في الأعيان والمراد منه وجوه أحدها نفي التناقض عن آياته كما قال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) وثانيها أن كل ما ذكر الله من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف فهو حق وصدق ولا خلل في شيء منها البتة وثالثها أن الإنسان كأنه خرج من عالم الغيب متوجهاً إلى عالم الآخرة وإلى حضرة جلال الله وهذه الدنيا كأنها رباط بني على طريق عالم القيامة حتى أن المسافر إذا نزل فيه اشتغل بالمهمات التي يجب رعايتها في هذا السفر ثم يرتحل منه متوجهاً إلى عالم الآخرة فكل ما دعاه في الدنيا إلى الآخرة ومن الجسمانيات إلى الروحانيات ومن الخلق إلى الحق ومن اللذات الشهوانية الجسدانية إلى الاستنارة بالأنوار الصمدانية فثبت أنه مبرأ عن العوج والانحراف والباطل فلهذا قال تعالى وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا الصفة الثانية للكتاب وهي قوله قَيِّماً قال ابن عباس يريد مستقيماً وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الإعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار وأنه باطل بل الحق ما ذكرناه وأن المراد من كونه قَيِّماً أنه سبب لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيماً للأطفال فالأرواح البشرية كالأطفال والقرآن كالقيم الشفيق القائم بمصالحهم
البحث الثالث قال الواحدي جميع أهل اللغة والتفسير قالوا هذا من التقديم والتأخير والتقدير أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً وأقول قد بينا ما يدل على فساد هذا الكلام لأنا بينا أن قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا يدل على كونه كاملاً في ذاته وقوله قَيِّماً يدل على كونه مكملاً لغيره وكونه كاملاً في ذاته متقدم بالطبع على كونه مكملاً لغيره فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله تعالى وهو قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً فظهر أن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه
البحث الرابع اختلف النحويون في انتصاب قوله قَيِّماً وذكروا فيه وجوهاً الأول قال صاحب ( الكشاف ) لا يجوز جعله حالاً من الكتاب لأن قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا معطوف على قوله أَنَزلَ فهو داخل في حيز الصلة فجعله حالاً من الكتاب يوجب الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة وأنه لا يجوز قال ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا وجعله قَيِّماً الوجه الثاني قال الأصفهاني الذي نرى فيه أن يقال قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا حال وقوله قَيِّماً حال أخرى وهما حالان متواليان والتقدير أنزل على عبده الكتاب غير مجعول له عوجاً قيماً الوجه الثالث قال السيد صاحب ( حل العقد ) يمكن أن يكون قوله قَيِّماً بدلاً من قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا لأن معنى لَّمْ يَجْعَلِ لَّهُ عِوَجَا أنه جعله مستقيماً فكأنه قيل أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وجعله قَيِّماً الوجه الرابع أن يكون حالاً من الضمير في قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا أي حال كونه قائماً بمصالح العباد وأحكام الدين واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الموصوف بهذه الصفات المذكورة أردفه ببيان ما لأجله أنزله فقال لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ وأنذر متعد إلى مفعولين كقوله إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ( النبإ 40 ) إلا أنه اقتصر ههنا على أحدهما وأصله لّيُنذِرَ الذين كفروا بَأْسًا شَدِيدًا كما قال في ضده وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ والبأس مأخوذ من قوله تعالى بِعَذَابٍ بَئِيسٍ وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل(21/64)
بأساً وبآسة وقوله مِن لَّدُنْهُ أي صادراً من عنده قال الزجاج وفي لَّدُنْ لغات يقال لدن ولدي ولد والمعنى واحد قال وهي لا تتمكن تمكن عند لأنك تقول هذا القول صواب عندي ولا تقول صواب لدني وتقول عندي مال عظيم والمال غائب عنك ولدني لما يليك لا غير وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بسكون الدال مع إشمام الضم وكسر النون والهاء وهي لغة بني كلاب ثم قال تعالى وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا واعلم أن المقصود من إرسال الرسل إنذار المذنبين وبشارة المطيعين ولما كان دفع الضرر أهم عند ( ذوي ) لعقول من إيصال النفع لا جرم قدم الإنذار على التبشير في اللفظ قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء ويبشر بالتخفيف والتثقيل وقوله مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا يعني خالدين وهو حال للمؤمنين من قوله أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا قال القاضي الآية دالة على صحة قولنا في مسائل أحدها أن القرآن مخلوق وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزول وذلك من صفات المحدثات فإن القديم لا يجوز عليه التغير الثاني وصفه بكونه كتاباً والكتب هو الجمع وهو سمي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروف والكلمات وما صح فيه التركيب والتأليف فهو محدث الثالث أنه تعالى أثبت الحمد لنفسه على إنزال الكتاب والحمد إنما يستحق على النعمة والنعمة محدثة مخلوقة الرابع أنه وصف الكتاب بأنه غير معوج وبأنه مستقيم والقديم لا يمكن وصفه بذلك فثبت أنه محدث مخلوق وثانيها مسألة خلق الأعمال فإن هذه الآيات تدل على قولنا في هذه المسألة من وجوه الأول نفس الأمر بالحمد لأنه لو لم يكن للعبد فعل لم ينتفع بالكتاب إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر على أن يفعل ما دل الكتاب على أنه يجب فعله ويترك ما دل الكتاب على أنه يجب تركه وهو إنما يفعل ذلك لو كان مستقلاً بنفسه أما إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثر في اعوجاج فعله ولم يكن لكون الكتاب قيماً أثر في استقامة فعله أما إذا كان العبد قادراً على الفعل مختاراً فيه بقي لعوج الكتاب واستقامته أثر في فعله والثاني أنه تعالى لو كان أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض وأنزل الباقي ليؤمن البعض الآخر فمن أين أن الكتاب قيم لا عوج فيه لأنه لو كان فيه عوج لما زاد على ذلك والثالث قوله لّيُنذِرَ وفيه دلالة على أنه تعالى أراد منه ( صلى الله عليه وسلم ) إنذار الكل وتبشير الكل وبتقدير أنه يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذار والتبشير معنى لأنه تعالى إذا خلق الإيمان فيه حصل شاء أو لم يشأ وإذا خلق الكفر فيه حصل شاء أو لم يشاء فبقي الإنذار والتبشير على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذار والتبشير على كونه طويلاً قصيراً وأسود وأبيض مما لا قدرة له عليه والرابع وصفه المؤمنين بأنهم يعملون الصالحات فإن كان ما وقع خلق الله تعالى فلا عمل لهم البتة الخامس إيجابه لهم الأجر الحسن على ما عملوا فإن كان الله تعالى يخلق ذلك فيهم فلا إيجاب ولا استحقاق
المسألة الرابعة قال قوله لّيُنذِرَ يدل على أنه تعالى إنما يفعل أفعاله لأغراض صحيحة وذلك يبطل قول من يقول إن فعله غير معلل بالغرض واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لأبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَة ً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً(21/65)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله تعالى وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا معطوف على قوله لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ ( الكهف 2 ) والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه فالأول عام في حق كل من استحق العذاب والثاني خاص بمن أثبت لله ولداً وعادة القرآن جارية بأنه إذا ذكر قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي كقوله تعالى وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) فكذا ههنا العطف يدل على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى
المسألة الثانية الذين أثبتوا الولد لله تعالى ثلاث طوائف أحدها كفار العرب الذين قالوا الملائكة بنات الله وثانيها النصارى حيث قالوا المسيح ابن الله وثالثها اليهود الذين قالوا عزيز ابن الله والكلام في أن إثبات الولد لله كفر عظيم ويلزم منه محالات عظيمة قد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 10 ) وتمامه مذكور في سورة مريم ثم إنه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد لله تعالى من وجهين الأول قوله مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لائَبَائِهِمْ فإن قيل اتخاذ الله ولداً محال في نفسه فكيف قيل ما لهم به من علم قلنا انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه وقد يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به ونظيره قوله وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ( المؤمنون 117 ) واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على أن القول في الدين بغير علم باطل والقول بالقياس الظني قول في الدين بغير علم فيكون باطلاً وتمام تقريره مذكور في قوله وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) وقوله وَلاَ لائَبَائِهِمْ أي ولا أحد من أسلافهم وهذا مبالغة في كون تلك المقالة باطلة فاسدة النوع الثاني مما ذكره الله في إبطاله قوله كَبُرَتْ كَلِمَة ً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وفيه مباحث
البحث الأول قرىء كَبُرَتْ كَلِمَة ً بالنصب على التمييز وبالرفع على الفاعلية قال الواحدي ومعنى التمييز أنك إذا قلت كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذباً أو جهلاً أو افتراء فلما قلت كلمة ميزتها من محتملاتها فانتصبت على التمييز والتقدير كبرت الكلمة كلمة فحصل فيه الإضمار أما من رفع فلم يضمر شيئاً كما تقول عظم فلان فلذلك قال النحويون والنصب أقوى وأبلغ وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أكبرها كلمة
البحث الثاني قوله كَبُرَتْ أي كبرت الكلمة والمراد من هذه الكلمة ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا فصارت مضمرة في كبرت وسميت كلمة كما يسمون القصيدة كلمة
البحث الثالث احتج النظام في إثبات قوله أن الكلام جسم بهذه الآية قال إنه تعالى وصف الكلمة بأنها تخرج من أفواههم والخروج عبارة عن الحركة والحركة لا تصح إلا على الأجسام والجواب أن الحروف إنما تحدث بسبب خروج النفس عن الحلق فلما كان خروج النفس سبباً لحدوث الكلمة أطلق لفظ الخروج على الكلمة(21/66)
البحث الرابع قوله تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ يدل على أن هذا الكلام مستكره جداً عند العقل كأنه يقول هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتة لكونه في غاية الفساد والبطلان فكأنه شيء يجري به لسانهم على سبيل التقليد لأنهم مع أنها قولهم عقولهم وفكرهم تأباها وتنفر عنها ثم قال تعالى إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ومعناه ظاهر واعلم أن الناس قد اختلفوا في حقيقة الكذب فعندنا أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه سواء اعتقد المخبر أنه مطابق أم لا ومن الناس من قال شرط كونه كذباً أن لا يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق وهذا القيد عندنا باطل والدليل عليه هذه الآية فإنه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذباً مع أن الكثير منهم يقول ذلك ولا يعلم كونه باطلاً فعلمنا أن كل خبر لا يطابق المخبر عنه فهو كذب سواء علم القائل بكونه مطابقاً أو لم يعلم ثم قال تعالى فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً وفيه مباحث
البحث الأول المقصود منه أن يقال للرسول لا يعظم حزنك وأسفك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذراً ومبشراً فأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه والغرض تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عنه
البحث الثاني قال الليث بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظاً من شدة وجده بالشيء وقال الأخفش والفراء أصل البخع الجهد يقال بخعت لك نفسي أي جهدتها وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عمر فقالت بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك وقال الكسائي بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة وبخع الرجل نفسه إذا نهكها وعلى هذا معنى بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أي ناهكها وجاهدها حتى تهلكها ولكن أهل التأويل كلهم قالوا قاتل نفسك ومهلكها والأصل ما ذكرناه هكذا قال الواحدي
البحث الثالث قوله عَلَى ءاثَارِهِمْ أي من بعدهم يقال مات فلان على أثر فلان أي بعده وأصل هذا أن الإنسان إذا مات بقيت علاماته وآثاره بعد موته مدة ثم إنها تنمحي وتبطله بالكلية فإذا كان موته قريباً من موت الأول كان موته حاصلاً حال بقاء آثار الأول فصح أن يقال مات فلان على أثر فلان
البحث الرابع قوله إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ المراد بالحديث القرآن قال القاضي وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث وذلك يدل على فساد قول من يقول إنه قديم وجوابه أنه محمول على الألفاظ وهي حادثة
البحث الخامس قوله أَسَفاً الأسف المبالغة في الحزن وذكرنا الكلام فيه عند قوله غَضْبَانَ أَسِفًا في سورة الأعراف وعند قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ وفي انتصابه وجوه الأول أنه نصب على المصدر ودل ما قبله من الكلام على أنه يأسف الثاني يجوز أن يكون مفعولاً له أي للأسف كقولك جئتك ابتغاء الخير والثالث قال الزجاج أَسَفاً منصوب لأنه مصدر في موضع الحال
البحث السادس الفاء في قوله فَلَعَلَّكَ جواب الشرط وهو قوله إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ قدم عليه ومعناه التأخير
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَة ً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً(21/67)
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي وجه النظم كأنه تعالى يقول يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمردون مع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم فأنت أيضاً يا محمد ينبغي أن لا تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق
المسألة الثانية اختلفوا في تفسير هذه الزينة فقال بعضهم النبات والشجر وضم بعضهم إليه الذهب والفضة والمعادن وضم بعضهم إلى سائر الحيوانات وقال بعضهم بل المراد الناس فهم زينة الأرض وبالجملة فليس بالأرض إلا المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان وأشرف أنواع الحيوان الإنسان وقال القاضي الأولى أنه لا يدخل في هذه الزينة المكلف لأنه تعالى قال إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ فمن يبلوه يجب أن لا يدخل في ذلك فأما سائر النبات والحيوان فإنهم يدخلون فيه كدخول سائر ما ينتفع به وقوله زِينَة ً لَّهَا أي للأرض ولا يمتنع أن يكون ما يحسن به الأرض زينة للأرض كما جعل الله السماء مزينة بزينة الكواكب أما قوله لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ففيه مسائل
المسألة الأولى ذهب هشام بن الحكم إلى أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند دخولها في الوجود فعلى هذا الابتلاء والامتحان على الله جائز واحتج عليه بأنه تعالى لو كان عالماً بالجزئيات قبل وقوعها لكان كل ما علم وقوعه واجب الوقوع وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوع وإلا لزم انقلاب علمه جهلاً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال ولو كان ذلك واجباً فالذي علم وقوعه يجب كونه فاعلاً له ولا قدرة له على الترك والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع ولا قدرة له على الفعل وعلى هذا يلزم أن لا يكون الله قادراً على شيء أصلاً بل يكون موجباً بالذات وأيضاً فيلزم أن لا يكون للعبد قدرة لا على الفعل ولا على الترك لأن ما علم الله وقوعه امتنع من العبد تركه وما علم الله عدمه امتنع منه فعله فالقول بكونه تعالى عالماً بالأشياء قبل وقوعها يقدح في الربوبية وفي العبودية وذلك باطل فثبت أنه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها وعلى هذا التقدير فالابتلاء والامتحان والاختبار جائز عليه وعند هذا قال يجري قوله تعالى لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً على ظاهره وأما جمهور علماء الإسلام فقد استبعدوا هذا القول وقالوا إنه تعالى من الأزل إلى الأبد عالم بجميع الجزئيات فالابتلاء والامتحان محالان عليه وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة لو صدرت تلك المعاملة عن غيره لكان ذلك على سبيل الإبتلاء والامتحان وقد ذكرنا هذه المسألة مراراً كثيرة
المسألة الثانية قال القاضي معنى قوله لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً هو أنه يبلوهم ليبصرهم أيهم أطوع لله وأشد استمراراً على خدمته لأن من هذا حاله هو الذي يفوز بالجنة فبين تعالى أنه كلف لأجل ذلك لا لأجل أن يعصى فدل ذلك على بطلان قول من يقول خلق بعضهم للنار
المسألة الثالثة اللام في قوله لِنَبْلُوَهُمْ تدل ظاهراً على أن أفعال الله معللة بالأغراض عند المعتزلة وأصحابنا قالوا هذا محال لأن التعليل بالغرض إنما يصح في حق من لا يمكنه تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة وهذا يقتضي العجز وهو على الله محال(21/68)
المسألة الرابعة قال الزجاج أيهم رفع بالإبتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام والمعنى لنختبر ونمتحن هذا أحسن عملاً أم ذاك ثم قال تعالى وَأَنْ لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً والمعنى أنه تعالى بين أنه إنما زين الأرض لأجل الإمتحان والإبتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعماً أبداً لأنه يزهد فيها بقوله وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا الآية ونظيره قوله كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) وقوله فَيَذَرُهَا قَاعاً ( طه 106 ) الآية وقوله وَإِذَا الاْرْضُ مُدَّتْ ( الإنشقاق 13 ) الآية والمعنى أنه لا بد من المجازاة بعد فناء ما على الأرض وتخصيص الإبطال والإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أن سائر الآيات دلت على أن الأرض أيضاً لا تبقى وهو قوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) قال أبو عبيدة الصعيد المستوي من الأرض وقال الزجاج هو الطريق الذي لا نبات فيه وقد ذكرنا تفسير الصعيد في آية التيمم وأما الجرز فقال الفراء الجرز الأرض التي لا نبات عليها يقال جرزت الأرض فهي مجروزة وجرزها الجراد والشاء والإبل إذا أكلت ما عليها وامرأة جروز إذا كانت أكولاً وسيف جراز إذا كان مستأصلاً ونظيره قوله تعالى نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الاْرْضِ الْجُرُزِ ( السجدة 27 )
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَة ُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً وَهَيِّى ءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان فقال تعالى أم حسبت أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادراً على تخليق السموات والأرض ثم يزين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان ثم يجعلها بعد ذلك صعيداً جرزاً خالية عن الكل كيف يستبعدون من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم هذا هو الوجه في تقرير النظم والله أعلم
المسألة الثانية قد ذكرنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحاً فقال كان النضر بن الحارث من شياطين قريش وكان يؤذي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وينصب له العداوة وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا جلس مجلساً ذكر فيه الله وحدث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام فقال أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ثم يحدثهم عن ملوك فارس ثم إن قريشاً بعثوه وبعثوا معه عتبة بن(21/69)
أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما سلوهم عن محمد وصفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما إلى المدينة فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال أحبار اليهود سلوه عن ثلاث عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإن حديثهم عجب وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وسلوه عن الروح وما هو فإن أخبركم فهو نبي وإلا فهو متقول فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد وأخبروا بما قاله اليهود فجاؤوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسألوه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أخبركم بما سألتم عنه غداً ) ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يذكرون خمس عشرة ليلة حتى أرجف أهل مكة به وقالوا وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة ليلة فشق عليه ذلك ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم وفيها خبر أولئك الفتية وخبر الرجل الطواف
المسألة الثالثة الكهف الغار الواسع في الجبل فإذا صغر فهو الغار وفي الرقيم أقوال الأول روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال كل القرآن اعلمه إلا أربعة غسلين وحنانا والأواه والرقيم الثاني روى عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الرقيم فقال زعم كعب أنها القرية التي خرجوا منها وهو قول السدي الثالث قال سعيد بن جبير ومجاهد الرقيم لوح من حجارة وقيل من رصاص كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وشد ذلك اللوح على باب الكهف وهذا قول جميع أهل المعاني والعربية قالوا الرقيم الكتاب والأصل فيه المرقوم ثم نقل إلى فعيل والرقم الكتابة ومنه قوله تعالى كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( المطففين 9 ) أي مكتوب قال الفراء الرقيم لوح كان فيه أسماؤهم وصفاتهم ونظن أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه وقيل الناس رقموا حديثهم نقراً في جانب الجبل وقوله كَانُواْ مِنْ ءايَاتِنَا عَجَبًا المراد أحسبت أن واقعتهم كانت عجيبة في أحوال مخلوقاتنا فلا تحسب ذلك فإن تلك الواقعة ليست عجيبة في جانب مخلوقاتنا والعجب ههنا مصدر سمي المفعول به والتقدير كانوا معجوباً منهم فسموا بالمصدر والمفعول به من هذا يستعمل باسم المصدر ثم قال تعالى إِذْ أَوَى الْفِتْيَة ُ إِلَى الْكَهْفِ لا يجوز أن يكون إذ هنا متعلقاً بما قبله على تقدير أم حسبت إذ أوى الفتية لأنه كان بين النبي وبينهم مدة طويلة فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف بل يتعلق بمحذوف والتقدير اذكر إذ أوى ومعنى أوى الفتية في الكهف صاروا إليه وجعلوه مأواهم قال فقالوا رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً أي رحمة من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وإحسانك وهي الهداية بالمعرفة والصبر والرزق والأمن من الأعداء وقوله من لدنك يدل على عظمة تلك الرحمة وهي التي تكون لائقة بفضل الله تعالى وواسع جوده وهيىء لنا أي أصلح من قولك هيأت الأمر فتهيأ مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا الرشد والرشاد نقيض الضلال وفي تفسير اللفظ وجهان الأول التقدير وهيىء لنا أمراً ذا رشد حتى نكون بسببه راشدين مهتدين الثاني اجعل أمرنا رشداً كله كقولك رأيت منك رشداً ثم قال تعالى فَضَرَبْنَا عَلَى ءاذَانِهِمْ قال المفسرون معناه أنمناهم وتقدير الكلام أنه تعالى ضرب على آذانهم حجاباً يمنع من أن تصل إلى أسماعهم الأصوات الموقظة والتقدير ضربنا عليهم حجاباً إلا أنه حذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة ثم إنه تعالى بين أنه ضرب على آذانهم في الكهف وهو ظرف المكان وقوله سنين عدداً ظرف الزمان وفي قوله عدداً بحثان الأول قال الزجاج ذكر العدد ههنا يفيد كثرة السنين وكذلك كل شيء مما يعد إذا ذكر فيه العدد ووصف به أريد كثرته لأنه إذا قل فهم مقداره بدون(21/70)
التعديد أما إذا أكثر فهناك يحتاج إلى التعديد فإذا قلت أقمت أياماً عدداً أردت به الكثرة
البحث الثاني في انتصاب قوله عدداً وجهان أحدهما نعت لسنين المعنى سنين ذات عدد أي معدودة هذا قول الفراء وقول الزجاج وعلى هذا يجوز في الآية ضربان من التقدير أحدهما حذف المضاف والثاني تسمية المفعول باسم المصدر قال الزجاج ويجوز أن ينتصب على المصدر المعنى تعد عداً ثم قال تعالى ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ يريد من بعد نومهم يعني أيقظناهم بعد نومهم وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا فيه مسائل
المسألة الأولى قوله ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لنعلم اللام لام الغرض فيدل على أن أفعال الله معللة بالأغراض وقد سبق الكلام فيه
المسألة الثانية ظاهر اللفظ يقتضي أنه تعالى إنما بعثهم ليحصل له هذا العلم وعند هذا يرجع إلى أنه تعالى هل يعلم الحوادث قبل وقوعها أم لا فقال هشام لا يعلمها إلا عند حدوثها واحتج بهذه الآية والكلام فيه قد سبق ونظائر هذه الآية كثيرة في القرآن منها ما سبق في هذه السورة ومنها قوله في سورة البقرة إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ( البقرة 143 ) وفي آل عمران وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ( التوبة 16 ) وقوله إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ ( الكهف 7 ) وقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ ( محمد 31 )
المسألة الثالثة أَيُّ رفع بالإبتداء وَأَحْصَى خبره وهذه الجملة بمجموعها متعلق العلم فلهذا السبب لم يظهر عمل قوله لَنَعْلَمُ في لفظة أَيُّ بل بقيت على ارتفاعها ونظيره قوله اذهب فاعلم أيهم قام قال تعالى سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذالِكَ زَعِيمٌ ( القلم 40 ) وقوله ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَة ٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ( مريم 69 ) وقرىء ليعلم على فعل ما لم يسم فاعله وفي هذه القراءة فائدتان إحداهما أن على هذا التقدير لا يلزم إثبات العلم المتجدد لله بل المقصود أنا بعثناهم ليحصل هذا العلم لبعض الخلق والثانية أن على هذا التقدير يجب ظهور النصب في لفظة أي لكن لقائل أن يقول الإشكال بعد باق لأن ارتفاع لفظة أي بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه ولمجيب أن يجيب فيقول إنه لا يمتنع اجتماع عاملين على معمول واحد لأن العوامل النحوية علامات ومعرفات ولا يمتنع اجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في الحزبين فقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك فالملوك حزب وأصحاب الكهف حزب والقول الثاني قال مجاهد الحزبان من هذه الفتية لأن أصحاب الكهف لما انتبهوا اختلفوا في أنهم كم ناموا والدليل عليه قوله تعالى قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ( الكهف 19 ) فالحزبان هما هذان وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول القول الثالث قال الفراء إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم
المسألة الخامسة قال أبو علي الفارسي قوله أحصى ليس من باب أفعل التفضيل لأن هذا البناء من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس فأما قولهم ما أعطاه للدرهم وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق فمن الشواذ والشاذ لا يقاس عليه بل الصواب أن أحصى فعل ماضٍ وهو خبر المبتدأ والمبتدأ(21/71)
والخبر مفعول نعلم وأمداً مفعول به لأحصى وما في قوله تعالى لِمَا لَبِثُواْ مصدرية والتقدير أحصى أمداً للبثهم وحاصل الكلام لنعلم أي الحزبين أحصى أمد ذلك اللبث ونظيره قوله أَحْصَاهُ اللَّهُ ( المجادلة 6 ) وقوله وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْء عَدَداً ( الجن 28 )
المسألة السادسة احتج أصحابنا الصوفية بهذه الآية على صحة القول بالكرامات وهو استدلال ظاهر ونذكر هذه المسألة ههنا على سبيل الاستقصاء فنقول قبل الخوض في الدليل على جواز الكرامات نفتقر إلى تقديم مقدمتين
المقدمة الأولى في بيان أن الولي ما هو فنقول ههنا وجهان الأول أن يكون فعيلاً مبالغة من الفاعل كالعليم والقدير فيكون معناه من توالت طاعاته من غير تخلل معصية الثاني أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول كقتيل وجريح بمعنى مقتول ومجروح وهو الذي يتولى الحق سبحانه حفظه وحراسته على التوالي عن كل أنواع المعاصي ويديم توفيقه على الطاعات واعلم أن هذا الاسم مأخوذ من قوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 257 ) وقوله وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( الأعراف 196 ) وقوله تعالى أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( البقرة 286 ) وقوله ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ( محمد 11 ) وقوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( المائدة 55 ) وأقول الولي هو القريب في اللغة فإذا كان العبد قريباً من حضرة الله بسبب كثرة طاعاته وكثرة إخلاصه وكان الرب قريباً منه برحمته وفضله وإحسانه فهناك حصلت الولاية
المقدمة الثانية إذا ظهر فعل خارق للعادة على الإنسان فذاك إما أن يكون مقروناً بالدعوى أو لا مع الدعوى والقسم الأول وهو أن يكون مع الدعوى فتلك الدعوى إما أن تكون دعوى الإلهية أو دعوى النبوة أو دعوى الولاية أو دعوى السحر وطاعة الشياطين فهذه أربعة أقسام القسم الأول إدعاء الإلهية وجوز أصحابنا ظهور خوارق العادات على يده من غير معارضة كما نقل أن فرعون كان يدعي الإلهية وكانت تظهر خوارق العادات على يده وكما نقل ذلك أيضاً في حق الدجال قال أصحابنا وإنما جاز ذلك لأن شكله وخلقته تدل على كذبه فظهور الخوارق على يده لا يفضي إلى التلبيس والقسم الثاني وهو ادعاء النبوة فهذا القسم على قسمين لأنه إما أن يكون ذلك المدعي صادقاً أو كاذباً فإن كان صادقاً وجب ظهور الخوارق على يده وهذا متفق عليه بين كل من أقر بصحة نبوة الأنبياء وإن كان كاذباً لم يجز ظهور الخوارق على يده وبتقدير أن تظهر وجب حصول المعارضة وأما القسم الثالث وهو ادعاء الولاية والقائلون بكرامات الأولياء اختلفوا في أنه هل يجوز أن يدعي الكرامات ثم إنها تحصل على وفق دعواه أم لا وأما القسم الرابع وهو ادعاء السحر وطاعة الشيطان فعند أصحابنا يجوز ظهور خوارق العادات على يده وعند المعتزلة لا يجوز وأما القسم الثاني وهو أن تظهر خوارق العادات على يد إنسان من غير شيء من الدعاوى فذلك الإنسان إما أن يكون صالحاً مرضياً عند الله وإما أن يكون خبيثاً مذنباً والأول هو القول بكرامات الأولياء وقد اتفق أصحابنا على جوازه وأنكرها المعتزلة إلا أبا الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وأما القسم الثالث وهو أن تظهر خوارق العادات على بعض من كان مردوداً عن طاعة الله تعالى فهذا هو المسمى بالاستدراج فهذا تفصيل الكلام في هاتين المقدمتين إذا عرفت ذلك فنقول الذي يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول أما القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات(21/72)
الحجة الأولى قصة مريم عليها السلام وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها
الحجة الثانية قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم أحياء سالمين عن الآفات مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين وأنه تعالى كان يعصمهم من حر الشمس كما قال وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ( الكهف 18 ) إلى قوله وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ( الهف 17 ) ومن الناس من تمسك في هذه المسألة بقوله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ( النمل 39 ) وقد بينا أن ذلك الذي كان عنده علم من الكتاب هو سليمان فسقط هذا الاستدلال أجاب القاضي عنه بأن قال لا بد من أن يكون فيهم أو في ذلك الزمان نبي يصير ذلك علماً له لما فيه من نقض العادة كسائر المعجزات قلنا إنه يستحيل أن تكون هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء لأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأن الناس لا يصدقونه في هذه الواقعة لأنهم لا يعرفون كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤوا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلثمائة سنين وتسع سنين وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء فلم يبق إلا أن تجعل كرامة للأولياء وإحساناً إليهم أما الأخبار فكثيرة الخبر الأول ما أخرج في ( الصحيحين ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم عليه السلام وصبي في زمن جريج الناسك وصبي آخر أما عيسى فقد عرفتموه وأما جريج فكان رجلاً عابداً ببني إسرائيل وكانت له أم فكان يوماً يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت يا جريج فقال يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى فدعته ثانياً فقال مثل ذلك حتى قال ثلاث مرات وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمه قالت اللهم لا تمته حتى تريه المومسات وكانت زانية هناك فقالت لهم أنا أفتن جريجاً حتى يزني فأتته فلم تقدر على شيء وكان هناك راعٍ يأوي بالليل إلى أصل صومعته قلما أعياها راودت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت ولدي هذا من جريج فأتاها بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام قال أبو هريرة كأني أنظر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال بيده يا غلام من أبوك فقال الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني صومعتك من ذهب أو فضة فأبى عليهم وبناها كما كانت وأما الصبي الآخر فإن امرأة كان معها صبي لها ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة حسنة فقالت اللهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي اللهم لا تجعلني مثله ثم مرت بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت اللهم لا تجعل ابني مثل هذا فقال الصبي اللهم اجعلني مثلها فقالت له أمه في ذلك فقال إن الشاب كان جباراً من الجبابرة فكرهت أن أكون مثله وإن هذه قيل إنها زنت ولم تزن وقيل إنها سرقت ولم تسرق وهي تقول حسبي الله ) الخبر الثاني وهو خبر الغار وهو مشهور في ( الصحاح ) عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار فقالوا والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوماً فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما فقمت والقدح في يدي انتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا(21/73)
ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه ثم قال الآخر كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالاً عظيماً على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت لا يجوز لك أن تفك الخاتم إلا بحقها فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين وقال يا عبد الله أد إلي أجرتي فقلت له كل ما ترى من أجرتك من الإبل والغنم والرقيق فقال يا عبد الله أتستهزىء بي فقلت إني لا أستهزىء بك فأخذ ذلك كله اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون ) وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه الخبر الثالث قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ) ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله الخبر الرابع روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه البقرة فقالت إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ) الخبر الخامس عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( بينما رجل يسمع رعداً أو صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال فعدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له ما اسمك قال فلان بن فلان بن فلان قلت فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها قال ولم تسأل عن ذلك قلت لأني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً فأجعل لنفسي وأهلي ثلثاً وأجعل للمساكين وابن السبيل ثلثاً وأنفق عليها ثلثاً ) ( أما الآثار ) فلنبدأ بما نقل أنه ظهر عن الخلفاء الراشدين من الكرامات ثم بما ظهر عن سائر الصحابة أما أبو بكر رضي الله عنه فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد انفتح وإذا بهاتف يهتف من القبر ادخلوا الحبيب إلى الحبيب وأما عمر رضي الله عنه فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته وأحدها ما روي أنه بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى سارية بن الحصين فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر يا سارية الجبل الجبل قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فكتبت تاريخ تلك الكلمة فقدم رسول مقدم الجيش فقال يا أمير المؤمنين غزونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت قلت سمعت بعض المذكرين قال كان ذلك معجزة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه قال لأبي بكر وعمر أنتما مني بمنزلة السمع والبصر فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم الثاني روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة وكان لا يجري حتى يلقى فيه(21/74)
جارية واحدة حسناء فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الواقعة إلى عمر فكتب عمر على خزفة أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر وإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة بنا إليكا فألقيت تلك الخزفة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك الثالث وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال اسكني بإذن الله فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك الرابع وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خزفة يا نار اسكني بإذن الله فألقوها في النار فانطفأت في الحال الخامس روى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر فطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا ليس له ذلك وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر رضي الله عنه وضع درته تحت رأسه ونام على التراب فعجب الرسول من ذلك وقال إن أهل الشرق والغرب يخافون من هذا الإنسان وهو على هذه الصفة ا ثم قال في نفسه إني وجدته خالياً فأقتله وأخلص الناس منه فلما رفع السيف أخرج الله من الأرض أسدين فقصداه فخاف وألقى السيف من يده وانتبه عمر ولم ير شيئاً فسأله عن الحال فذكر له الواقعة وأسلم وأقول هذه الوقائع رويت بالآحاد وههنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وقلب الممالك والدول لو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أول عهد آدم إلى الآن ما تيسر له فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات وأما عثمان رضي الله عنه فروى أنس قال سرت في الطريق فرفعت عيني إلى امرأة ثم دخلت على عثمان فقال ما لي أراكم تدخلون علي وآثار الزنا ظاهرة عليكم فقلت أجاء الوحي بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لا ولكن فراسة صادقة الثاني أنه لما طعن بالسيف فأول قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( البقرة 137 ) الثالث أن جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان وكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته وأما علي كرم الله وجهه فيروي أن واحداً من محبيه سرق وكان عبداً أسود فأتى به إلى علي فقال له أسرقت قال نعم فقطع يده فانصرف من عند علي عليه السلام فلقيه سلمان الفارسي وابن الكرا فقال ابن الكرا من قطع يدك فقال أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول فقال قطع يدك وتمدحه فقال ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النارا فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات فسمعنا صوتاً من السماء ارفع الرداء عن اليد فرفعناه فإذا اليد قد برأت بإذن الله تعالى وجميل صنعه أما سائر الصحابة فأحوالهم في هذا الباب كثيرة فنذكر منها شيئاً قليلاً الأول روى محمد بن المنكدر عن سفينة مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها فركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إلي يريدني فقلت يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودعني ورجع الثاني روى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار تحدثا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وفي يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما انفرق بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى في ضوئها حتى بلغ منزله الثالث قالوا لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلاً على فرس ومعه زق خمر فقال ما هذا قال خل فقال خالد اللهم اجعله خلاً فذهب الرجل إلى(21/75)
أصحابه فقال أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلهاا فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا والله ما جئتنا إلا بخل فقال هذا والله دعاء خالد بن الوليد الرابع الواقعة المشهورة وهي أن خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وماضره الخامس روي أن ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم ثم قال إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء السادس روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم ومشوا على الماء وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحد والحصر فمن أرادها طالعها وأما الدلائل العقلية القطعية على جواز الكرامات فمن وجوه
الحجة الأولى أن العبد ولي الله قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( يونس 62 ) والرب ولي العبد قال تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 257 ) وقال وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( الأعراف 166 ) وقال إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( المائدة 55 ) وقال أَنتَ مَوْلَانَا ( البقرة 286 ) وقال ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ ( محمد 11 ) فثبت أن الرب ولي العبد وأن العبد ولي الرب وأيضاً الرب حبيب العبد والعبد حبيب الرب قال تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) وقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) وقال إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ( البقرة 222 ) وإذا ثبت هذا فنقول العبد إذا بلغ في الطاعة إلى حيث يفعل كل ما أمره الله وكل ما فيه رضاه وترك كل ما نهى الله وزجر عنه فكيف يبعد أن يفعل الرب الرحيم الكريم مرة واحدة ما يريده العبد بل هو أولى لأن العبد مع لؤمه وعجزه لما فعل كل ما يريده الله ويأمره به فلأن يفعل الرب الرحيم مرة واحدة ما أراده العبد كان أولى ولهذا قال تعالى أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 45 )
الحجة الثانية لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إما لأجل أن الله ليس أهلاً لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أن المؤمن ليس أهلاً لأن يعطيه الله هذه العطية والأول قدح في قدرة الله وهو كفر والثاني باطل فإن معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ومحبة الله وطاعاته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد مني مفازة أو تسخير حية أو أسد فلما أعطى المعرفة والمحبة والذكر والشكر من غير سؤال فلأن يعطيه رغيفاً في مفازة فأي بعد فيه
الحجة الثالثة قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن رب العزة ( ما تقرب عبد إلي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً وقلباً ويداً ورجلاً بي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي ) وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب لغير الله ولا في بصرهم ولا في سائر أعضائهم إذ لو بقي هناك نصيب لغير الله لما قال أنا سمعه وبصره إذا ثبت هذا فنقول لا شك أن هذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع وإعطاء الرغيف وعنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل الله برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفاً واحداً أو شربة ماء في مفازة
الحجة الرابعة قال عليه السلام حاكياً عن رب العزة ( من آذى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) فجعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذائه وهذا قريب من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقال وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَة ٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً ( الأحزاب 36 ) وقال إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ(21/76)
( الأحزاب 57 ) فجعل بيعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بيعة مع الله ورضاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رضاء الله وإيذاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إيذاء الله فلا جرم كانت درجة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أعلى الدرجات إلى أبلغ الغايات فكذا ههنا لما قال ( من آذى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) دل ذلك على أنه تعالى جعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذاء نفسه ويتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول ( يوم القيامة مرضت فلم تعدني استسقيتك فما سقيتني استطعمتك فما أطعمتني فيقول يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمينا فيقول إن عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي ) وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أن أولياء الله يبلغون إلى هذه الدرجات فأي بعد في أن يعطيه الله كسرة خبز أو شربة ماء أو يسخر له كلباً أو ورداً
الحجة الخامسة أنا نشاهد في العرف أن من خصه الملك بالخدمة الخاصة وأذن له في الدخول عليه في مجلس الأنس فقد يخصه أيضاً بأن يقدره على ما لا يقدر عليه غيره بل العقل السليم يشهد بأنه متى حصل ذلك القرب فإنه يتبعه هذه المناصب فجعل القرب أصلاً والمنصب تبعاً وأعظم الملوك هو رب العالمين فإذا شرف عبداً بأنه أوصله إلى عتبات خدمته ودرجات كرامته وأوقفه على أسرار معرفته ورفع حجب البعد بينه وبين نفسه وأجلسه على بساط قربه فأي بعد في أن يظهر بعض تلك الكرامات في هذا العالم مع أن كل هذا العالم بالنسبة إلى ذرة من تلك السعادات الروحانية والمعارف الربانية كالعدم المحض
الحجة السادسة لا شك أن المتولي للأفعال هو الروح لا البدن ولا شك أن معرفة الله تعالى للروح كالروح للبدن على ما قررناه في تفسير قوله تعالى يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النمل 20 ) وقال عليه السلام ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) ولهذا المعنى نرى أن كل من كان أكثر علماً بأحوال عالم الغيب كان أقوى قلباً وأقل ضعفاً ولهذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية وذلك لأن علياً كرم الله وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء فتقوى روحه وتشبه بجواهر الأرواح الملكية وتلألأت فيه أضواء عالم القدس والعظمة فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره وكذلك العبد إذا واظب على الطاعات بلغ إلى المقام الذي يقول الله كنت له سمعاً وبصراً فإذا صار نور جلال الله سمعاً له سمع القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور بصراً له رأى القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور يداً له قدر على التصرف في الصعب والسهل والبعيد والقريب
الحجة السابعة وهي مبنية على القوانين العقلية الحكمية وهي أنا قد بينا أن جوهر الروح ليس من جنس الأجسام الكائنة الفاسدة المتعرضة للتفرق والتمزق بل هو من جنس جواهر الملائكة وسكان عالم السموات ونوع المقدسين المطهرين إلا أنه لما تعلق بهذا البدن واستغرق في تدبيره صار في ذلك الاستغراق إلى حيث نسي الوطن الأول والمسكن المتقدم وصار بالكلية متشبهاً بهذا الجسم الفاسد فضعفت قوته وذهبت مكنته ولم يقدر على شيء من الأفعال أما إذا استأنست بمعرفة الله ومحبته وقل انغماسها في تدبير(21/77)
هذا البدن وأشرقت عليها أنوار الأرواح السماوية العرشية المقدسة وفاضت عليها من تلك الأنوار قويت على التصرف في أجسام هذا العالم مثل قوة الأرواح الفلكية على هذه الأعمال وذلك هو الكرامات وفيه دقيقة أخرى وهي أن مذهبنا أن الأرواح البشرية مختلفة بالماهية ففيها القوية والضعيفة وفيها النورانية والكدرة وفيها الحرة والنذلة والأرواح الفلكية أيضاً كذلك ألا ترى إلى جبريل كيف قال الله في وصفه إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 19 20 ) وقال في قوم آخرين من الملائكة وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً ( النجم 26 ) فكذا ههنا فإذا اتفق في نفس من النفوس كونها قوية القوة القدسية العنصرية مشرقة الجوهر علوية الطبيعة ثم انضاف إليها أنواع الرياضات التي تزيل عن وجهها غبرة عالم الكون والفساد أشرقت وتلألأت وقويت على التصرف في هيولي عالم الكون والفساد بإعانة نور معرفة الحضرة الصمدية وتقوية أضواء حضرة الجلال والعزة ولنقبض ههنا عنان البيان فإن وراءها أسراراً دقيقة وأحوالاً عميقة من لم يصل إليها لم يصدق بها ونسأل الله الإعانة على إدراك الخيرات واحتج المنكرون للكرامات بوجوه الشبهة الأولى وهي التي عليها يعولون وبها يضلون أن ظهور الخارق للعادة جعله الله دليلاً على النبوة فلو حصل لغير نبي لبطلت هذه الدلالة لأن حصول الدليل مع عدم المدلول يقدح في كونه دليلاً وذلك باطل والشبهة الثانية تمسكوا بقوله عليه السلام حكاية عن الله سبحانه ( لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم ) قالوا هذا يدل على أن التقرب إلى الله بأداء الفرائض أعظم من التقرب إليه بأداء النوافل ثم إن المتقرب إليه بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى أن لا يحصل له ذلك الشبهة الثالثة تمسكوا بقوله تعالى وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ الانفُسِ ( النحل 7 ) والقول بأن الولي ينتقل من بلد إلى بلد بعيد لا على الوجه طعن في هذه الآية وأيضاً أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال أن الولي ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في يوم واحد الشبهة الرابعة قالوا هذا الولي الذي تظهر عليه الكرامات إذا ادعى على إنسان درهماً فهل نطالبه بالبينة أم لا فإن طالبناه بالبينة كان عبثاً لأن ظهور الكرامات عليه يدل على أنه لا يكذب ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني وإن لم نطالبه بها فقد تركنا قوله عليه السلام ( البينة على المدعي ) فهذا يدل على أن القول بالكرامة باطل الشبهة الخامسة إذا جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء جاز ظهورها على الباقين فإذا كثرت الكرامات حتى خرقت العادة جرت وفقاً للعادة وذلك يقدح في المعجزة والكرامة ( والجواب ) عن الشبهة الأولى أن الناس اختلفوا في أنه هل يجوز للولي دعوى الولاية فقال قوم من المحققين إن ذلك لا يجوز فعلى هذا القول يكون الفرق بين المعجزات والكرامات أن المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوة والكرامة لا تكون مسبوقة بدعوى الولاية والسبب في هذا الفرق أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا إلى الخلق ليصيروا دعاة للخلق من الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة فلو لم تظهر دعوى النبوة لم يؤمنوا به وإذا لم يؤمنوا به بقوا على الكفر وإذا ادعوا النبوة وأظهروا المعجزة آمن القوم بهم فإقدام الأنبياء على دعوى النبوة ليس الغرض منه تعظيم النفس بل المقصود منه إظهار الشفقة على الخلق حتى ينتقلوا من الكفر إلى الإيمان أما ثبوت الولاية للولي فليس الجهل بها كفراً ولا معرفتها إيماناً فكان دعوى الولاية طلباً لشهوة النفس فعلمنا أن النبي يجب عليه إظهار دعوى النبوة(21/78)
والولي لا يجوز له دعوى الولاية فظهر الفرق أما الذين قالوا يجوز للولي دعوى الولاية فقد ذكروا الفرق بين المعجزة والكرامة من وجوه الأول أن ظهور الفعل الخارق للعادة يدل على كون ذلك الإنسان مبرءاً عن المعصية ثم إن اقترن هذا الفعل بادعاء النبوة دل على كونه صادقاً في دعوى النبوة وإن اقترن بادعاء الولاية دل على كونه صادقاً في دعوى الولاية وبهذا الطريق لا يكون ظهور الكرامة على الأولياء طعناً في معجزات الأنبياء عليهم السلام الثاني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يدعي المعجزة ويقطع بها والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها لأن المعجزة يجب ظهورها أما الكرامة ( ف ) لا يجب ظهورها الثالث أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة الرابع أنا لا نجوز ظهور الكرامة على الولي عند ادعاء الولاية إلا إذا أقر عند تلك الدعوى بكونه على دين ذلك النبي ومتى كان الأمر كذلك صارت تلك الكرامة معجزة لذلك النبي ومؤكدة لرسالته وبهذا التقدير لا يكون ظهور الكرامة طاعناً في نبوة النبي بل يصير مقوياً لها ( والجواب ) عن الشبهة الثانية أن التقرب بالفرائض وحدها أكمل من التقرب بالنوافل أما الولي فإنما يكون ولياً إذا كان آتياً بالفرائض والنوافل ولا شك أنه يكون حاله أتم من حال من اقتصر على الفرائض فظهر الفرق ( والجواب ) على الشبهة الثالثة أن قوله تعالى وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ الانفُسِ محمول على المعهود المتعارف وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثناة عن ذلك العموم وهذا هو ( الجواب ) عن الشبهة الرابعة وهي التمسك بقوله عليه السلام البينة على المدعي ( والجواب ) عن الشبهة الخامسة أن المطيعين فيهم قلة كما قال تعالى وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وكما قال إبليس وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( الأعراف 17 ) وإذا حصلت القلة فيهم لم يكن ما يظهر عليهم من الكرامات في الأوقات النادرة قادحاً في كونها على خلاف العادة
المسألة السابعة في الفرق بين الكرامات والاستدراج اعلم أن من أراد شيئاً فأعطاه الله مراده لم يدل ذلك على كون ذلك العبد وجيهاً عند الله تعالى سواء كانت العطية على وفق العادة أو لم تكن على وفق العادة بل قد يكون ذلك إكراماً للعبد وقد يكون استدراجاً له ولهذا الاستدراج أسماء كثيرة من القرآن أحدها الاستدراج قال الله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ( الأعراف 182 ) ومعنى الاستدراج أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده فيزداد كل يوم بعداً من الله وتحقيقه أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرر الأفعال سبب لحصول الملكة الراسخة فإذا مال قلب العبد إلى الدنيا ثم أعطاه الله مراده فحينئذ يصل الطالب إلى المطلوب وذلك يوجب حصول اللذة وحصول اللذة يزيد في الميل وحصول الميل يوجب مزيد السعي ولا يزال يتأدى كل واحد منهما إلى الآخر وتتقوى كل واحدة من هاتين الحالتين درجة فدرجة ومعلوم أن الاشتغال بهذه اللذات العاجلة مانع عن مقامات المكاشفات ودرجات المعارف فلا جرم يزداد بعده عن الله درجة فدرجة إلى أن يتكامل فهذا هو الاستدراج وثانيها المكر قال تعالى فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ( الأعراف 99 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( آل عمران 54 ) وقال وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( النمل 50 ) وثالثها الكيد قال تعالى يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) وقال يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ ( البقرة 9 ) ورابعها الإملاء قال تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرًا لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل(21/79)
عمران 178 ) وخامسها الإهلاك قال تعالى حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ ( الأنعام 44 ) وقال في فرعون وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ ( القصص 39 40 ) فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات بقي علينا أن نذكر الفرق بين الكرامات وبين الاستدراجات فنقول إن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد وحذره من قهر الله أقوى فإنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج وأما صاحب الاستدراج فإنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه ويظن أنه إنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقاً لها وحينئذ يستحقر غيره ويتكبر عليه ويحصل له أمن من مكر الله وعقابه ولا يخاف سوء العاقبة فإذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجاً لا كرامة فلهذا المعنى قال المحققون أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أنواع البلاء والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه
الحجة الأولى أن هذا الغرور إنما يحصل إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذ الكرامة لأن بتقدير أن لا يكون مستحقاً لها امتنع حصول الفرح بها بل يجب أن يكون فرحه بكرم المولى وفضله أكبر من فرحه بنفسه فثبت أن الفرح بالكرامة أكثر من فرحه بنفسه وثبت أن الفرح بالكرامة لا يحصل إلا إذا اعتقد أنه أهل ومستحق لها وهذا عين الجهل لأن الملائكة قالوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ( البقرة 32 ) وقال تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 ) وأيضاً قد ثبت بالبرهان اليقيني أنه لا حق لأحد من الخلق على الحق فكيف يحصل ظن الاستحقاق
الحجة الثانية أن الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب عن الحق والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور
الحجة الثالثة أن من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه ومن كان لعمله وقع عنده كان جاهلاً ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرىء في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) فقال علامة أن الحق رفع عملك أن لا يبقى ( ذكره ) عندك فإن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع وإن لم يبق معك فهو مرفوع مقبول
الحجة الرابعة أن صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتواضع في حضرة الله فإذا ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق ثبوته يؤديه إلى عدمه فكان مردوداً ولهذا المعنى لما ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مناقب نفسه وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ولا فخر يعني لا أفتخر بهذه الكرامات وإنما أفتخر بالمكرم والمعطي
الحجة الخامسة أن ظاهر الكرامات في حق إبليس وفي حق بلعام كان عظيماً ثم قيل لإبليس وكان من الكافرين وقيل لبلعام فمثله كمثل الكلب وقيل لعلماء بني إسرائيل مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاة َ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً(21/80)
( الجمعة 5 ) وقيل أيضاً في حقهم وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ( آل عمران 19 ) فبين أن وقوعهم في الظلمات والضلالات كان بسبب فرحهم بما أوتوا من العلم والزهد
الحجة السادسة أن الكرامة غير المكرم وكل ما هو غير المكرم فهو ذليل وكل من تعزز بالذليل فهو ذليل ولهذا المعنى قال الخليل صلوات الله عليه أما إليك فلا فالاستغناء بالفقير فقر والتقوي بالعاجز عجز والاستكمال بالناقص نقصان والفرح بالمحدث بله والإقبال بالكلية على الحق خلاص فثبت أن الفقير إذا ابتهج بالكرامة سقط عن درجته أما إذا كان لا يشاهد في الكرامات إلا المكرم ولا في الإعزاز إلا المعز ولا في الخلق إلا الخالق فهناك يحق الوصول
الحجة السابعة أن الافتخار بالنفس وبصفاتها من صفات إبليس وفرعون قال إبليس أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ( الأعراف 12 ) وقال فرعون أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ ( الزخرف 51 ) وكل من ادعى الإلهية أو النبوة بالكذب فليس له غرض إلا تزيين النفس وتقوية الحرص والعجب ولهذا قال عليه السلام ( ثلاث مهلكات وختمها بقوله وإعجاب المرء بنفسه )
الحجة الثامنة أنه تعالى قال فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ ( الأعراف 144 ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 ) فلما أعطاه الله العطية الكبرى أمره بالاشتغال بخدمة المعطى لا بالفرح بالعطية
الحجة التاسعة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما خيره الله بين أن يكون ملكاً نبياً وبين أن يكون عبداً نبياً ترك الملك ولا شك أن وجدان الملك الذي يعم المشرق والمغرب من الكرامات بل من المعجزات ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) ترك ذلك الملك واختار العبودية لأنه إذا كان عبداً كان افتخاره بمولاه وإذا كان ملكاً كان افتخاره بعبيده فلما اختار العبودية لا جرم جعل السنة التي في التحيات التي رواها ابن مسعود ( وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) وقيل في المعراج سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( الإسراء 1 )
الحجة العاشرة أن محب المولى غير ومحب ما للمولى غير فمن أحب المولى لم يفرح بغير المولى ولم يستأنس بغير المولى فالاستئناس بغير المولى والفرح بغيره يدل على أنه ما كان محباً للمولى بل كان محباً لنصيب نفسه ونصيب النفس إنما يطلب للنفس فهذا الشخص ما أحب إلا نفسه وما كان المولى محبوباً له بل جعل المولى وسيلة إلى تحصيل ذلك المطلوب والصنم الأكبر هو النفس كما قال تعالى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) فهذا الإنسان عابد للصنم الأكبر حتى أن المحققين قالوا لا مضرة في عبادة شيء من الأصنام مثل المضرة الحاصلة في عبادة النفس ولا خوف من عبادة الأصنام كالخوف من الفرح بالكرامات
الحجة الحادية عشرة قوله تعالى وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وهذا يدل على أن من لم يتق الله ولم يتوكل عليه لم يحصل له شيء(21/81)
من هذه الأفعال والأحوال
المسألة الثامنة في أن الولي هل يعرف كونه ولياً قال الأستاذ أبو بكر بن فورك لا يجوز وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري يجوز وحجة المانعين وجوه
الحجة الأولى لو عرف الرجل كونه ولياً لحصل له الأمن بدليل قوله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ لكن حصول الأمن غير جائز ويدل عليه وجوه أحدها قوله مالي فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ واليأس أيضاً غير جائز لقوله تعالى يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن ولقوله تعالى وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ والمعنى فيه أن الأمن لا يحصل إلا عند اعتقاد العجز واليأس لا يحصل إلا عند اعتقاد البخل واعتقاد العجز والبخل في حق الله كفر فلا جرم كان حصول الأمن والقنوط كفراً الثاني أن الطاعات وإن كثرت إلا أن قهر الحق أعظم ومع كون القهر غالباً لا يحصل الأمن الثالث أن الأمن يقتضي زوال العبودية وترك الخدمة والعبودية يوجب العداوة والأمن يقتضي ترك الخوف الرابع أنه تعالى وصف المخلصين بقوله وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ قيل رغباً في ثوابنا ورهباً من عقابنا وقيل رغباً في فضلنا ورهباً من عدلنا وقيل رغباً في وصالنا ورهباً من فراقنا والأحسن أن يقال رغباً فينا ورهباً منا
الحجة الثانية على أن الولي لا يعرف كونه ولياً أن الولي إنما يصير ولياً لأجل أن الحق يحبه لا لأجل أنه يحب الحق وكذلك القول في العدو ثم إن محبة الحق وعداوته سران لا يطلع عليهما أحد فطاعات العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأن الطاعات والمعاصي محدثة وصفات الحق قديمة غير متناهية والمحدث المتناهي لا يصير غالباً للقديم غير المتناهي وعلى هذا التقدير فربما كان العبد في الحال في عين المعصية إلا أن نصيبه من الأزل عين المحبة وربما كان العبد في الحال في عين الطاعة ولكن نصيبه من الأزل عين العداوة وتمام التحقيق أن محبته وعداوته صفة وصفة الحق غير معللة ومن كانت محبته لا لعلة فإنه يمتنع أن يصير عدواً بعلة المعصية ومن كانت عدواته لا لعلة يمتنع أن يصير محباً لعلة الطاعة ولما كانت محبة الحق وعداوته سرين لا يطلع عليهما لا جرم قال عيسى عليه السلام تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
الحجة الثالثة على أن الولي لا يعرف كونه ولياً أن الحكم بكونه ولياً وبكونه من أهل الثواب والجنة يتوقف على الخاتمة والدليل عليه قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ولم يقل من عمل حسنة فله عشر أمثالها وهذا يدل على أن استحقاق الثواب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل والذي يؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد وهذا دليل على أن العبرة بالخاتمة لا بأول العمل ولهذا قال تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ فثبت أن العبرة في الولاية والعداوة وكونه من أهل الثواب أو من أهل العقاب بالخاتمة فظهر أن الخاتمة غير معلومة لأحد فوجب القطع بأن الولي لا يعلم كونه ولياً أما الذين قالوا إن الولي قد يعرف كونه ولياً فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الولاية لها ركنان أحدهما كونه في الظاهر منقاداً للشريعة الثاني كونه في الباطن مستغرقاً في نور الحقيقة فإذا حصل الأمران وعرف الإنسان حصولهما(21/82)
عرف لا محالة كونه ولياً أما الانقياد في الظاهر للشريعة فظاهر وأما استغراق الباطن في نور الحقيقة فهو أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله وأن لا يكون له استقرار مع شيء سوى الله والجواب أن تداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة غامضة والقضاء عسر والتجربة خطر والجزم غرور ودون الوصول إلى عالم الربوبية أستار تارة من النيران وأخرى من الأنوار والله العالم بحقائق الأسرار ولنرجع إلى التفسير
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَة ٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلاهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَاؤُلا ءِ قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَة ً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
اعلم أنه تعالى ذكر من قبل جملة من واقعتهم ثم قال نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ أي على وجه الصدق نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم كانوا جماعة من الشبان آمنوا بالله ثم قال تعالى في صفاتهم وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أي ألهمناها الصبر وثبتناها إِذْ قَامُواْ وفي هذا القيام أقوال الأول قال مجاهد كانوا عظماء مدينتهم فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم أكبر القوم إني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أن أحداً يجده قالوا ما تجد قال أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض القول الثاني أنهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس الجبار وقالوا ربنا رب السموات والأرض وذلك لأنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى عصوا ذلك الجبار وأقروا بربوبية الله وصرحوا بالبراءة عن الشركاء والأنداد والقول الثالث وهو قول عطاء ومقاتل أنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم وهذا بعيد لأن الله استأنف قصتهم بقوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ وقوله لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا معنى الشطط في اللغة مجاوزة الحد قال الفراء يقال قد أشط في السوم إذ جاوز الحد ولم يسمع إلا أشط يشط أشطاطاً وشططاً وحكى الزجاج وغيره شط الرجل وأشط إذا جاوز الحد ومنه قوله وَلاَ تُشْطِطْ ( ص 22 ) وأصل هذا من قولهم شطت الدار إذا بعدت فالشطط البعد عن الحق وهو ههنا منصوب على المصدر والمعنى لقد قلنا إذا قولاً شططاً أما قوله هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً هذا من قول أصحاب الكهف ويعنون الذين كانوا في زمان دقيانوس عبدوا الأصنام لَّوْلاَ يَأْتُونَ لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ بحجة بينة(21/83)
ومعنى عليهم أي على عبادة الآلهة ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدلائل على ذلك لا يدل على عدم المدلول ومن الناس من يحتج بعدم الدليل على عدم المدلول ويستدل على صحة هذه الطريقة بهذه الآية فقال إنه تعالى استدل على عدم الشركاء والأضداد بعدم الدليل عليها فثبت أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة قوية ثم قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا يعني أن الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله وكذب عليه وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّى ءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَة ٍ مِّنْهُ ذالِكَ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا
اعلم أن المراد أنه قال بعضهم لبعض وَإِذَا اعْتَزَلْتُمُوهُمْ واعتزلتم الشيء الذي يعبدونه إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادة الله فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ قال الفراء هو جواب إذ كما تقول إذ فعلت كذا فافعل كذا ومعناه إذهبوا إليه واجعلوه مأواكم يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ أي يبسطها عليكم وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا قرأن افع وابن عامر وعاصم في رواية مرفقاً بفتح الميم وكسر الفاء والباقون مرفقاً بكسر الميم وفتح الفاء قال الفراء وهما لغتان واشتقاقهما من الإرتفاق وكان الكسائي ينكر في مرفق الإنسان الذي في اليد إلا كسر الميم وفتح الفاء والفراء يجيزه في الأمر وفي اليد وقيل هما لغتان إلا أن الفتح أقيس والكسر أكثر وقيل المرفق ما ارتفقت به والمرفق بالفتح المرافق ثم قال تعالى وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن عامر تَزْوَرُّ ساكنة الزاي المعجمة مشددة الراء مثل تحمر وقرأ عاصم وحمزة والكسائي تزاور بالألف والتخفيف والباقون تزاور بالتشديد والألف والكل بمعنى واحد والتزاور هو الميل والانحراف ومنه زاره إذا مال إليه والزور الميل عن الصدق وأما التشديد فأصله تتزاور سكنت التاء الثانية وأدغمت في الزاي وأما التخفيف فهو تفاعل من الزور وأما تزور فهو من الإزورار
البحث الثاني قوله وَتَرَى الشَّمْسَ أي أنت أيها المخاطب ترى الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم وليس المراد أن من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو ومعناه أنك لو رأيته على هذه الصورة
البحث الثالث قوله ذَاتَ الْيَمِينِ أي جهة اليمين وأصله أن ذات صفة أقيمت مقام الموصوف لأنها(21/84)
تأنيث ذو في قولهم رجل ذو مال وامرأة ذات مال والتقدير كأنه قيل تزاور عن كهفهم جهة ذات اليمين وأما قوله وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ ففيه بحثان
البحث الأول قال الكسائي قرضت المكان أي عدلت عنه وقال أبو عبيدة القرض في أشياء فمنها القطع وكذلك السير في البلاد أي إذا قطعها تقول لصاحبك هل وردت مكان كذا فيقول المجيب إنما قرضته فقوله تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ أي تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال
البحث الثاني للمفسرين ههنا قولان القول الأول أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل والمقصود أن الله تعالى صان أصحاب الكهف من أن يقع عليهم ضوء الشمس وإلا لفسدت أجسامهم فهي مصونة عن العفونة والفساد والقول الثاني أنه ليس المراد ذلك وإنما المراد أن الشمس إذا طلعت منع الله ضوء الشمس من الوقوع وكذا القول حال غروبها وكان ذلك فعلاً خارقاً للعادة وكرامة عظيمة خص الله بها أصحاب الكهف وهذا قول الزجاج واحتج على صحته بقوله ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ قال ولو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمراً معتاداً مألوفاً فلم يكن ذلك من آيات الله وأما إذا حملنا الآية على هذا الوجه الثاني كان ذلك كرامة عجيبة فكانت من آيات الله واعلم أنه تعالى أخبر بعد ذلك أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء قال وَهُمْ فِى فَجْوَة ٍ مّنْهُ أي من الكهف والفجوة متسع في مكان قال أبو عبيدة وجمعها فجوات ومنه الحديث ( فإذا وجد فجوة نص ) ثم قال تعالى ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وفيه قولان الذين قالوا إنه يمنع وصول ضوء الشمس بقدرته قالوا المراد من قوله ذلك أي ذلك التزاور والميل والذين لم يقولوا به قالوا المراد بقوله ذلك أي ذلك الحفظ الذي حفظهم الله في الغار تلك المدة الطويلة من آيات الله الدالة على عجائب قدرته وبدائع حكمته ثم بين تعالى أنه كما أن بقاءهم هذه المدة الطويلة مصوناً عن الموت والهلاك من تدبيراته ولطفه وكرمه فكذلك رجوعهم أولاً عن الكفر ورغبتهم في الإيمان كان بإعانة الله ولطفه فقال مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ مثل أصحاب الكهف وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا كدقيانوس الكافر وأصحابه ومناظرات أهل الجبر والقدر في هذه الآية معلومة
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا
اعلم أن معنى قوله وَتَحْسَبُهُمْ على ما ذكرناه في قوله وَتَرَى الشَّمْسَ أي لو رأيتهم لحسبتهم أَيْقَاظًا وهو جمع يقظ ويقظان قاله الأخفش وأبو عبيدة والزجاج وأنشدوا لرؤبة
ووجدوا إخوانهم أيقاظاً(21/85)
ومثله قوله نجد ونجدان وأنجاد وهم رقود أي نائمون وهو مصدر سمي المفعول به كما يقال قوم ركوع وقعود وسجود يوصف الجمع بالمصدر ومن قال إنه جمع راقد فقد أبعد لأنه لم يجمع فاعل على فعول قال الواحدي وإنما يحسبون أَيْقَاظًا لأن أعينهم مفتحة وهم نيام وقال الزجاج لكثرة تقلبهم يظن أنهم أيقاظ والدليل عليه قوله تعالى وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ واختلفوا في مقدار مدة التقليب فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن لهم في كل عام تقليبتين وعن مجاهد يمكثون على أيمانهم تسع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقوداً تسع سنين وقيل لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء وأقول هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليه وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف وقال ابن عباس رضي الله عنهما فائدة تقليبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا تبليهم وأقول هذا عجيب لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم مدة ثلثمائة سنة وأكثر فلم لا يقدر على حفظ أجسادهم أيضاً من غير تقليب وقوله ذَاتُ منصوبة على الظرف لأن المعنى نقلبهم في ناحية عَنِ الْيَمِينِ أو على ناحية الْيَمِينِ كما قلنا في قوله تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وقوله وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ قال ابن عباس وأكثر المفسرين قالوا إنهم هربوا ليلاً من ملكهم فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه وقال كعب مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا مراراً فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم وقال عبيد بن عمير كان ذلك كلب صيدهم ومعنى بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ أي يلقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين ومنه الحديث في الصلاة ( أنه نهى عن افتراش السبع ) وقال ( لا تفترش ذراعيك افتراش السبع ) قوله بِالوَصِيدِ يعني فناء الكهف قال الزجاج الوصيد فناء البيت وفناء الدار وجمعه وصائد ووصد وقال يونس والأخفش والفراء الوصيد والأصيد لغتان مثل الوكاف والإكاف وقال السدي الوصيد الباب والكهف لا يكون له باب ولا عتبة وإنما أراد أن الكلب منه بموضع العتبة من البيت ثم قال بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي أشرفت عليهم يقال اطلعت عليهم أي أشرفت عليهم ويقال أطلعت فلاناً على الشيء فاطلع وقوله لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا قال الزجاج قوله فِرَاراً منصوب على المصدر لأن معنى وليت منهم فررت وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا أي فزعاً وخوفاً قيل في التفسير طالت شعورهم وأظفارهم وبقيت أعينهم مفتوحة وهم نيام فلهذا السبب لو رآهم الرائي لهرب منهم مرعوباً وقيل إنه تعالى جعلهم بحيث كل من رآهم فزع فزعاً شديداً فأما تفصيل سبب الرعب فالله أعلم به وهذا هو الأصح وقوله وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا قرأ نافع وابن كثير لملئت بتشديد اللام والهمزة والباقون بتخفيف اللام وروى عن ابن كثير بالتخفيف والمعنى واحد إلا أن في التشديد مبالغة قال الأخفش الخفيفة أجود في كلام العرب يقال ملأتني رعباً ولا يكادون يعرفون ملأتني ويدل على هذا أكثر استعمالهم كقوله
فيملأ بيتنا أقطاً وسمناً(21/86)
وقول الآخر ومن مالىء عينيه من شيء غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وقال الآخر
لا تملأ الدلو وعرق فيها
وقال الآخر
امتلأ الحوض وقال قطني
وقد جاء التثقيل أيضاً وأنشدوا للمخبل السعدي وإذا قتل النعمان بالناس محرما
فملأ من عوف بن كعب سلاسله
وقرأ ابن عامر والكسائي رعباً بضم العين في جميع القرآن والباقون بالإسكان
وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَاذِهِ إِلَى الْمَدِينَة ِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا
اعلم أن التقدير وكما زِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ فَضَرَبْنَا عَلَى ءاذَانِهِمْ وأنمناهم وأبقيناهم أحياء لا يأكلون ولا يشربون ونقلبهم فكذلك بعثناهم أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت ليتساءلوا بينهم تساءل تنازع واختلاف في مدة لبثهم فإن قيل هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا قلنا لا يبعد ذلك لأنهم إذا تساءلوا انكشف لهم من قدرة الله تعالى أمور عجيبة وأحوال غريبة وذلك الانكشاف أمر مطلوب لذاته ثم قال تعالى قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم أي كم مقدار لبثنا في هذا الكهف لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال المفسرون إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النهار فلذلك قالوا لبثنا يوماً فلما رأوا الشمس باقية قالوا أو بعض يوم ثم قال تعالى قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ قال ابن عباس هو رئيسهم يمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى لأنه لما نظر إلى أشعارهم وأظفارهم وبشرة وجوههم رأى فيها آثار التغير الشديد فعلم أن مثل ذلك التغير لا يحصل إلا في الأيام(21/87)
الطويلة ثم قال فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَاذِهِ إِلَى الْمَدِينَة ِ قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بورقكم ساكنة الراء مفتوحة الواو ومنهم من قرأ ( ها ) مكسورة الواو ساكنة الراء وقرأ ابن كثير بورقكم بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم القاف في الكاف وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين على هذه والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا ويدل عليه ما روى أن عرفجة اتخذ أنفاً من ورق وفيه لغات ورق وورق وورق مثل كبد وكبد وكبد ذكره الفراء والزجاج قال الفراء وكسر الواو أردؤها ويقال أيضاً للورق الرقة قال الأزهري أصله ورق مثل صلة وعدة قال المفسرون كانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم يعني بالمدينة التي يقال لها اليوم طرسوس وهذه الآية تدل على أن السعي في إمساك الزاد أمر مهم مشروع وأنه لا يبطل التوكل وقوله فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا قال ابن عباس يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون إيمانهم وقال مجاهد كان ملكهم ظالماً فقولهم أَزْكَى طَعَامًا يريدون أيها أبعد عن الغضب وقيل أيها أطيب وألذ وقيل أيها أرخص قال الزجاج قوله أَيُّهَا رفع بالابتداء و أَزْكَى خبره و طَعَامًا نصب على التمييز وقوله وَلْيَتَلَطَّفْ أي يكون ذلك في سر وكتمان يعني دخول المدينة وشراء الطعام وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا أي لا يخبرن بمكانكم أحداً من أهل المدينة إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ أي يطلعوا ويشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه ومنه قوله تعالى فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( الصف 14 ) أي عالين وكذلك قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) أي ليعليه وقوله يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم والرجم بمعنى القتل كثير في التنزيل كقوله وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ( هود 91 ) وقوله أَن تَرْجُمُونِ ( الدخان 20 ) وأصله الرمي قال الزجاج أي يقتلوكم بالرجم والرجم أخبث أنواع القتل أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ أي يردوكم إلى دينهم وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا أي إذا رجعتم إلى دينهم لن تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة قال الزجاج قوله إِذًا أَبَدًا يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن رجعتم إلى ملتهم أبداً قال القاضي ما على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين فأحدهما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل والآخر هلاك الدين بأن يردوا إلى الكفر فإن قيل أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى إنهم أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا قلنا يحتمل أن يكون المراد أنهم لو ردوا هؤلاء المسلمين إلى الكفر على سبيل الإكراه بقوا مظهرين لذلك الكفر مدة فإنه يميل قلبهم إلى ذلك الكفر ويصيرون كافرين في الحقيقة فهذا الاحتمال قائم فكان خوفهم منه والله أعلم
وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَة َ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَة ٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً(21/88)
اعلم أن المعنى كما زدناهم هدى وربطنا على قلوبهم وأنمناهم وقلبناهم وبعثناهم لما فيها من الحكم الظاهرة فكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا غيرهم على أحوالهم يقال عثرت على كذا أي علمته وقالو إن أصل هذا أن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه فكان العثار سبباً لحصول العلم والتبين فأطلق اسم السبب على المسبب واختلفوا في السبب الذي لأجله عرف الناس واقعة أصحاب الكهف على وجهين الأول أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولاً مخالفاً للعادة وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبة تدل على أن مدتهم قد طالت طولاً خارجاً عن العادة والثاني أن ذلك الرجل لما دخل إلى لسوق ليشتري الطعام وأخرج الدراهم لثمن الطعام قال صاحب الطعام هذه النقود غير موجودة في هذا اليوم وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدة طويلة ودهر داهر فلعلك وجدت كنزاً واختلف الناس فيه وحملوا ذلك الرجل إلى ملك البلد فقال الملك من أين وجدت هذه الدراهم فقال بعت بها أمس شيئاً من التمر وخرجنا فراراً من الملك دقيانوس فعرف ذلك الملك أنه ما وجد كنزاً وأن الله بعثه بعد موته ثم قال تعالى لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني أنا إنما أطلعنا القوم على أحوالهم ليعلم القوم أن وعد الله حق بالبعث والحشر والنشر روى أن ملك ذلك الوقت كان ممن ينكر البعث إلا أنه كان مع كفرة منصفاً فجعل الله أمر الفتية دليلاً للملك وقيل بل اختلفت الأمة في ذلك الزمان فقال بعضهم الجسد والروح يبعثان جميعاً وقال آخرون الروح تبعث وأما الجسد فتأكله الأرض ثم إن ذلك الملك كان يتضرع إلى الله أن يظهر له آية يستدل بها على ما هو الحق في هذه المسألة فأطلعه الله تعالى على أمر أصحاب أهل الكهف فاستدل ذلك الملك بواقعتهم على صحة البعث للأجساد لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل يشبه من يموت ثم يبعث فقوله إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ متعلق باعثرنا أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم واختلفوا في المراد بهذا التنازع فقيل كانوا يتنازعون في صحة البعث فالقائلون به استدلوا بهذه الواقعة على صحته وقالوا كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها وقيل إن الملك وقومه لما رأوا أصحاب الكهف ووقفوا على أحوالهم عاد القوم إلى كهفهم فأماتهم الله فعند هذا اختلف الناس فقال قوم إنهم نيام كالكرة الأولى وقال آخرون بل الآن ماتوا والقول الثالث أن بعضهم قال الأولى أن يسد باب الكهف لئلا يدخل عليهم أحد ولا يقف على أحوالهم إنسان وقال آخرون بل الأولى أن يبني على باب الكهف مسجد وهذا القول يدل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة والقول الرابع أن الكفار قالوا إنهم كانوا على ديننا فنتخذ عليهم بنياناً والمسلمون قالوا كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجداً والقول الخامس أنهم تنازعوا في قدر مكثهم والسادس أنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم ثم قال تعالى رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ وهذا فيه وجهان أحدهما أنه من كلام المتنازعين كأنهم لما تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أسمائهم وأحوالهم ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا ربهم أعلم بهم الثاني أن هذا من كلام الله تعالى ذكره رداً للخائضين في حديثهم من(21/89)
أولئك المتنازعين ثم قال تعالى قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ قيل المراد به الملك المسلم وقيل أولياء أصحاب الكهف وقيل رؤساء البلد لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا نعبد الله فيه ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد ثم قال تعالى سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ الضمير في قوله سَيَقُولُونَ عائد إلى المتنازعين روى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبياً كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم وقال العاقب وكان نسطورياً كانوا خمسة سادسهم كلبهم وقال المسلمون كانوا سبعة وثامنهم كلبهم قال أكثر المفسرين هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه الأول أن الواو في قوله وَثَامِنُهُمْ هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف ومنه قوله تعالى وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( الحجر 4 ) وفائدتها توكيد ثبوت الصفة للموصوف والدلالة على أن اتصافه بها ) أمر ثابت مستقر فكانت هذه الواو دالة على صدق الذين قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم وأنهم قالوا قولاً متقرراً متحققاً عن ثبات وعلم وطمأنينة نفس الوجه الثاني قالوا إنه تعالى خص هذا الموضع بهذا الحرف الزائد وهو الواو فوجب أن تحصل به فائدة زائدة صوناً للفظ عن التعطيل وكل من أثبت هذه الفائدة الزائدة قال المراد منها تخصيص هذا القول بالإثبات والتصحيح الوجه الثالث أنه تعالى أتبع القولين الأولين بقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه فوجب أن يكون المخصوص بالظن الباطل هو القولان الأولان وأن يكون القول الثالث مخالفاً لهما في كونهما رجماً بالظن والوجه الرابع أنه تعالى لما حكى قولهم وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قال بعده قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فاتباع القولين الأولين بكونهما رجماً بالغيب وإتباع هذا القول الثالث بقوله قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ يدل على أن هذا القول ممتاز عن القولين الأولين بمزيد القوة والصحة والوجه الخامس أنه تعالى قال مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ وهذا يقتضي أنه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل وكل من قال من المسلمين قولاً في هذا الباب قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول كانوا سبعة وأسماؤهم هذا يمليخا مكسلمينا مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوس ودبرنوس وسادنوس وكان الملك يستشير هؤلاء الستة في مهماته والسابع هو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم واسم كلبهم قطمير وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول أنا من ذلك العدد القليل وكان يقول إنهم سبعة وثامنهم كلبهم
الوجه السادس أنه تعالى لما قال وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ والظاهر أنه تعالى لما حكى الأقوال فقد حكى كل ما قيل من الحق والباطل لأنه يبعد أنه تعالى ذكر الأقوال الباطلة ولم يذكر ما هو الحق فثبت أن جملة الأقوال الحقة والباطلة ليست إلا هذه الثلاثة ثم خص(21/90)
الأولين بأنهما رجم بالغيب فوجب أن يكون الحق هو هذا الثالث الوجه السابع أنه تعالى قال لرسوله فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً فمنعه الله تعالى عن المناظرة معهم وعن استفتائهم في هذا الباب وهذا إنما يكون لو علمه حكم هذه الواقعة وأيضاً أنه تعالى قال مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبي ولا يحصل للنبي فعلمنا أن العلم بهذه الواقعة حصل للنبي عليه السلام والظاهر أنه لم يحصل ذلك العلم إلا بهذا الوحي لأن الأصل فيما سواه العدم وأن يكون الأمر كذلك فكان الحق هو قوله وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ واعلم أن هذه الوجوه وإن كان بعضها أضعف من بعض إلا أنه لما تقوى بعضها ببعض حصل فيه كمال وتمام والله أعلم بقي في الآية مباحث
البحث الأول في الآية حذف والتقدير سيقولون هم ثلاثة فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه
البحث الثاني خص القول الأول بسين الاستقبال وهو قوله سيقولون والسبب فيه أن حرف العطف يوجب دخول القولين الآخرين فيه
البحث الثالث الرجم هو الرمي والغيب ما غاب عن الإنسان فقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ معناه أن يرى ما غاب عنه ولا يعرفه بالحقيقة يقال فلان يرمي بالكلام رمياً أي يتكلم من غير تدبر
البحث الرابع ذكروا في فائدة الواو في قوله وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ وجوهاً الوجه الأول ما ذكرنا أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال وثانيها أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد قال تعالى إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً وإذا كان كذلك فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظاً يدل على الاستئناف فقالوا وثمانية فجاء هذا الكلام على هذا القانون قالوا ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات وهي قوله وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ ( التوبة 112 ) لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة وقوله حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا ( الزمر 73 ) لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة وقوله ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ( التحريم 5 ) هو العدد الثامن مما تقدم والناس يسمون هذه الواو واو الثمانية ومعناه ما ذكرناه قال القفال وهذا ليس بشيء والدليل عليه قوله تعالى هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبّرُ ( الحشر 23 ) ولم يذكر الواو في النعت الثامن ثم قال تعالى قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ وهذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم والحوادث التي حدثت في الماضي والمستقبل لا تحصل إلا عند الله تعالى وإلا عند من أخبره الله عنها وقال ابن عباس أنا من أولئك القليل قال القاضي إن كان قد عرفه ببيان الرسول صح وإن كان قد تعلق فيه بحرف الواو فضعيف ويمكن أن يقال الوجوه السبعة المذكورة وإن كانت لا تفيد الجزم إلا أنها تفيد الظن واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه القصة أتبعه بأن نهي رسوله عن شيئين عن المراء والاستفتاء أما النهي عن المراء فقوله فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظَاهِرًا والمراد من المراء الظاهر أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف وترك القطع ونظيره قوله تعالى وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) وأما النهي عن الاستفتاء فقوله وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً وذلك لأنه لما ثبت أنه ليس عندهم علم في هذا الباب وجب المنع من استفتائهم واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية(21/91)
قالوا لأن قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ وضع الرجم فيه موضع الظن فكأنه قيل ظناً بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظن مكان قولهم ظن حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين ألا ترى إلى قوله
وما هو عنها بالحديث المرجم
أي المظنون هكذا قاله صاحب الكشاف وذلك يدل على أن القول بالظن مذموم عند الله ثم إنه تعالى لما ذم هذه الطريقة رتب عليه من استفتاء هؤلاء الظانين فدل ذلك على أن الفتوى بالمظنون غير جائز عند الله وجواب مثبتي القياس عنه قد ذكرناه مراراً
وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لاًّقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَة ٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون إن القوم لما سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن المسائل الثلاثة قال عليه السلام أجيبكم عنها غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي خمسة عشر يوماً وفي رواية أخرى أربعين يوماً ثم نزلت هذه الآية اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين الأول أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان عالماً بأنه إذا أخبر عن أنه سيفعل الفعل الفلاني غداً فربما جاءته الوفاة قبل الغد وربما عاقه عائق آخر عن الإقدام على ذلك الفعل غداً وإذا كان كل هذه الأمور محتملاً فلو لم يقل إن شاء الله ربما خرج الكلام مخالفاً لما عليه الوجود وذلك يوجب التنفير عنه وعن كلامه عليه السلام أما إذا قال إن شاء الله كان محترزاً عن هذا المحذور وإذا كان كذلك كان من البعيد أن يعد بشيء ولم يقل فيه إن شاء الله الثاني أن هذه الآية مشتملة على فوائد كثيرة وأحكام جمة فيبعد قصرها على هذا السبب ويمكن أن يجاب عن الأول أنه لا نزاع أن الأولى أن يقول إن شاء الله إلا أنه ربما اتفق له أنه نسي هذا الكلام لسبب من الأسباب فكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل وأن يجاب عن الثاني أن اشتماله على الفوائد الكثيرة لا يمنع من أن يكون سبب نزوله واحداً منها(21/92)
المسألة الثانية قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ليس فيه بيان أنه شاء الله ماذا وفيه قولان الأول التقدير وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ أن يأذن لك في ذلك القول والمعنى أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك أنك تفعل الفعل الفلاني إلا إذا أذن الله لك في ذلك الإخبار القول الثاني أن يكون التقدير وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إلا أن تقول إِن شَاء اللَّهُ والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول هو أن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضاً لو بقي حياً أن يعوقه عن ذلك الفعل شيء من العوائق فإذا كان لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في ذلك الوعد والكذب منفرد وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام فلهذا السبب أوجب عليه أن يقول إِن شَاء اللَّهُ حتى أن بتقدير أن يتعذر عليه الوفاء بذلك الموعود لم يصر كاذباً فلم يحصل التنفير
المسألة الثالثة اعلم أن مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الإيمان والطاعة من العبد والعبد يريد الكفر والمعصية لنفسه فيقع مراد العبد ولا يقع مراد الله فتكون إرادة العبد غالبة وإرادة الله تعالى مغلوبة وأما عندنا فكل ما أراد الله تعالى فهو واقع فهو تعالى يريد الكفر من الكافر ويريد الإيمان من المؤمن وعلى هذا التقرير فإرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة إذا عرفت هذا فنقول إذا قال العبد لأفعلن كذا غداً إلا أن يشاء الله والله إنما يدفع عنه الكذب إذا كانت إرادة الله غالبة على إرادة العبد فإن على هذا القول يكون التقدير أن العبد قال أنا أفعل الفعل الفلاني إلا إذا كانت إرادة الله بخلافه فأنا على هذا التقدير لا أفعل لأن إرادة الله غالبة على إرادتي فعند قيام المانع الغالب لا أقوى على الفعل أما بتقدير أن تكون إرادة الله تعالى مغلوبة فإنها تلا تصلح عذراً في هذا الباب لأن المغلوب لا يمنع الغالب إذا ثبت هذا فنقول أجمعت الأمة على أنه إذا قال والله لأفعلن كذا ثم قال إن شاء الله دافعاً للحنث فلا يكون دافعاً للحنث إلا إذا كانت إرادة الله غالبة فلما حصل دفع الحنث بالإجماع وجب القطع بكون إرادة الله تعالى غالبة وأنه لا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله وأصحابنا أكدوا هذا الكلام في صورة معينة وهو أن الرجل إذا كان له على إنسان دين وكان ذلك المديون قادراً على أداء الدين فقال والله لأقضين هذا الدين غداً ثم قال إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض هذا الدين لم يحنث وعلى قول المعتزلة أنه تعالى يريد منه قضاء الدين وعلى هذا التقدير فقوله إِن شَاء اللَّهُ تعليق لذلك الحكم على شرط واقع فوجب أن يحنث ولما أجمعوا على أن لا يحنث علمنا أن ذلك إنما كان لأن الله تعالى ما شاء ذلك الفعل مع أن ذلك الفعل قد أمر الله به ورغب فيه وزجر عن الإخلال به وثبت أنه تعالى قد ينهى عن الشيء ويريده وقد يأمر بالشيء ولا يريده وهو المطلوب فإن قيل هب أن الأمر كما ذكرتم إلا أن كثيراً من الفقهاء قالوا إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع الطلاق فما السبب فيه قلنا السبب هو أنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئة الله لم يقع إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا أولاً حصول هذه المشيئة لكن مشيئة الله تعالى غيب فلا سبيل إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة قد وقع وحصل وهو الطلاق فعلى هذا الطريق لا نعرف حصول المشيئة إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا وقوع المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منها على العلم بالآخرة وهو دور والدور باطل فلهذا السبب قالوا الطلاق غير واقع
المسألة الرابعة احتج القائلون بأن المعدوم شيء بقوله وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً أَن يَشَاء اللَّهُ قالوا الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً سماه الله تعالى في الحال بأنه شيء لقوله(21/93)
وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء ومعلوم أن الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً فهو معدوم في الحال فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء والجواب أن هذا الاستدلال لا يفيد إلا أن المعدوم مسمى بكونه شيئاً وعندنا أن السبب فيه أن الذي سيصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال كما أنه قال أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ( النحل 1 ) والمراد سيأتي أمر الله أما قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ففيه وجهان الأول أنه كلام متعلق بما قبله والتقدير أنه إذا نسي أن يقول إن شاء الله فليذكره إذا تذكره وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس رضي الله عنهما لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في دفع الحنث وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم وعن طاوس أنه يقدر على الاستثناء في مجلسه وعن عطاء يستثني على مقدار حلب الناقة الغزيرة وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً واحتج ابن عباس بقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ لأن الظاهر أن المراد من قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ هو الذي تقدم ذكره في قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ غير مختص بوقت معين بل هو يتناول كل الأوقات فوجب أن يجب عليه هذا الذكر في أي وقت حصل هذا التذكر وكل من قال وجب هذا الذكر قال إنه إنما وجب لدفع الحنث وذلك يفيد المطلوب واعلم أن استدلال ابن عباس رضي الله عنهما ظاهر في أن الاستثناء لا يجب أن يكون متصلاً أما الفقهاء فقالوا إنا لو جوزنا ذلك لزم أن لا يستقر شيء من العقود والإيمان يحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس في الأستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال أبو حنيفة رحمه الله هذا يرجع عليك فإنك تأخذ البيعة بالإيمان أتفرض أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن المنصور كلامه ورضي به واعلم أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى تخصيص النص بالقياس وفيه ما فيه وأيضاً فلو قال إن شاء الله على سبيل الخفية بلسانه بحيث لا يسمعه أحد فهو معتبر ودافع للحنث بالإجماع مع أن المحذور الذي ذكرتم حاصل فيه فثبت أن الذي عولوا عليه ليس بقوي والأولى أن يحتجوا في وجوب كون الاستثناء متصلاً بأن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد قال تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وقال وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ( الإسراء 34 ) فالآتي بالعهد يجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان متصلاً لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أن لفظ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً فهو جار مجرى نصف اللفظ الواحدة فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة وعلى هذا التقدير فعند ذكر الاستثناء عرفنا أنه لم يلزم شيء بخلاف ما إذا كان الاستثناء متصلاً فإنه حصل الالتزام التام بالكلام فوجب عليه الوفاء بذلك الملتزم والقول الثاني أن قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ لا تعلق له بما قبله بل هو كلام مستأنف وعلى هذا القول ففيه وجوه أحدها واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء والمراد منه الترغيب في الاهتمام بذكر هذه الكلمة وثانيها واذكر ربك إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي وثالثها حمله بعضهم على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها وهذا القول بما فيه من الوجوه الثلاثة بعيد لأن تعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضية وجعله كلاماً مستأنفاً يوجب صيرورة الكلاء مبتدأ منقطعاً وذلك لا يجوز ثم قال(21/94)
تعالى وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لاِقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا وفيه وجوه الأول أن ترك قوله أَن يَشَاء اللَّهُ ليس بحسن وذكره أحسن من تركه وقوله لاِقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا المراد منه ذكر هذه الجملة الثاني إذا وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول عسى أن يهديني ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به والثالث أن قوله لاِقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والدلائل على صحة أني نبي من عند الله صادق القول في ادعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من نبأ أصحاب الكهف وقد فعل الله ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأما قوله تعالى وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ مِئَة ٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِى ّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا فاعلم أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف وفي قوله وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ قولان الأول أن هذا حكاية كلام القوم والدليل عليه أنه تعالى قال سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وكذا إلى أن قال وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ أي أن أولئك الأقوام قالوا ذلك ويؤكده أنه تعالى قال بعده قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ وهذا يشبه الرد على الكلام المذكور قبله ويؤكده أيضاً ما روي في مصحف عبد الله وقالوا ولبثوا في كهفهم والقول الثاني أن قوله وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ هو كلام الله تعالى فإنه أخبر عن كمية تلك المدة وأما قوله سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ فهو كلام قد تقدم وقد تخلل بينه وبين هذه الآية ما يوجب انقطاع أحدهما عن الآخر وهو قوله فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظَاهِرًا وقوله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لا يوجب أن ما قبله حكاية وذلك لأنه تعالى أراد قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي ثلثمائة سنين بغير تنوين والباقون بالتنوين وذلك لأن قوله سِنِينَ عطف بيان لقوله ثلثمائة لأنه لما قال وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ لم يعرف أنها أيام أم شهور أم سنون فلما قال سنين صار هذا بياناً لقوله ثلثمائة فكان هذا عطف بيان له وقيل هو على التقديم والتأخير أي لبثوا سنين ثلثمائة وأما وجه قراءة حمزة فهو أن الواجب في الإضافة ثلثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً ( الكهف 103 )
المسألة الثالثة قوله وَازْدَادُواْ تِسْعًا المعنى وازدادوا تسع سنين فإن قالوا لم لم يقل ثلثمائة وتسع سنين وما الفائدة في قوله وَازْدَادُواْ تِسْعًا قلنا قال بعضهم كانت المدة ثلثمائة سنة من السنين الشمسية وثلثمائة وتسع سنين من القمرية وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول ويمكن أن يقال لعلهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قرب أمرهم من الأنبياء ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين ثم قال قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ معناه أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدة من الناس الذين اختلفوا فيها وإنما كان أولى بأن يكون عالماً به لأنه موجد للسموات والأرض ومدبر للعالم وإذا كان كذلك كان عالماً بغيب(21/95)
السموات والأرض فيكون عالماً بهذه الواقعة لا محالة ثم قال تعالى أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ وهذه كلمة تذكر في التعجب والمعنى ما أبصره وما أسمعه وقد بالغنا في تفسير كلمة التعجب في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( البقرة 175 ) ثم قال تعالى مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِى ّ وفيه وجوه الأول ما لأصحاب الكهف من دون الله من ولي فإنه هو الذي يتولى حفظهم في ذلك النوم الطويل الثاني ليس لهؤلاء المختلفين في مدة لبث أهل الكهف ولي من دون الله يتولى أمرهم ويقيم لهم تدبير أنفسهم فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير أعلامه الثالث أن بعض القوم لما ذكروا في هذا الباب أقوالاً على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب فبين الله أنه ليس لهم من دونه ولي يمنع الله من إنزال العقاب عليهم ثم قال وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا والمعنى أنه تعالى لما حكم أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول قولاً بخلافه والأصل أن الاثنين إذا كانا لشريكين فإن الاعتراض من كل واحد منهما على صاحبه يكثر ويصير ذلك مانعاً لكل واحد منهما من إمضاء الأمر على وفق ما يريده وحاصله يرجع إلى قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فالله تعالى نفى ذلك عن نفسه بقوله تعالى وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا وقرأ ابن عامر ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي والخطاب عطفاً على قوله وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء أو على قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ والمعنى ولا تسأل أحداً عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف واقتصر على حكمه وبيانه ولا تشرك أحداً في طلب معرفة تلك الواقعة وقرأ الباقون بالياء والرفع على الخبر والمعنى أنه تعالى لا يفعل ذلك
المسألة الرابعة اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف وفي مكانهم أما الزمان الذي حصلوا فيه فقيل إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام وإن موسى ذكرهم في التوراة ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم وقيل إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبر المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى عليه السلام وبين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح وحكى القفال هذا القول عن محمد بن إسحق وقال قوم إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة وأما مكان هذا الكهف فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف إلى الروم قال فوجه ملك الروم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه قال وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم قال فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم قال وعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره ثم قال القفال والذي عندنا لا يعرف أن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف أو موضع آخر والذي أخبر الله عنه وجب القطع به ولا عبرة بقول أهل الروم إن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف وذكر في الكشاف عن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس رضي الله عنهما ليس لك ذلك قد منع الله من هو خير منك فقال لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً فقال لابن عباس لا أنتهي حتى أعلم حالهم فبعث أناساً فقال لهم اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأحرقتهم وأقول العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال وإنما يستفاد ذلك من نص وذلك مفقود فثبت أنه لا سبيل إليه(21/96)
المسألة الخامسة اعلم أن مدار القول بإثبات البعث والقيامة على أصول ثلاثة أحدها أنه تعالى قادر على كل الممكنات والثاني أنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات وثالثها أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات فإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث والقيامة فكذلك ها هنا ثبت أنه تعالى عالم قادر على الكل وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن فكذلك بقاؤه مدة ثلثمائة سنة يجب أن يكون ممكناً بمعنى أن إله العالم يحفظه ويصونه عن الآفة وأما الفلاسفة فإنهم يقولون أيضاً لا يبعد وقوع أشكال فلكية غريبة توجب في هيولي عالم الكون والفساد حصول أحوال غريبة نادرة وأقول هذه السور الثلاثة المتعاقبة اشتمل كل واحد منها على حصول حالة عجيبة نادرة في هذا العالم فسورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بجسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة إلى الشام وهو حالة عجيبة وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدة ثلثمائة سنة وأزيد وهو أيضاً حالة عجيبة وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب وهو أيضاً حالة عجيبة والمعتمد في بيان إمكان كل هذه العجائب والغرائب المذكورة في هذه السور الثلاثة المتوالية هو الطريقة التي ذكرناها ومما يدل على أن هذا المعنى من الممكنات أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من كتاب الشفاء أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف ثم قال أبو علي ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف
وَاتْلُ مَآ أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا
اعلم أن من هذه الآية إلى قصة موسى والخضر كلام واحد في قصة واحدة وذلك أن أكابر كفار قريش احتجوا وقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن أردت أن نؤمن بك فاطرد من عندك هؤلاء الفقراء الذين آمنوا بك والله تعالى نهاه عن ذلك ومنعه عنه وأطنب في جملة هذه الآيات في بيان أن الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد واقتراح باطل ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه وعلى العمل به وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنت المتعنتين فقال وَاتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ وفي الآية مسألة وهي أن قوله اتْلُ يتناول القراءة ويتناول الإتباع فيكون المعنى الزم قراءة الكتاب الذي أوحى إليك والزم العمل به ثم قال لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ أي يمتنع تطرق التغيير والتبديل إليه وهذه الآية يمكن التمسك بها في إثبات أن تخصيص النص بالقياس غير جائز لأن قوله اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ كِتَابِ رَبّكَ معناه ألزم العمل بمقتضى هذا الكتاب وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره(21/97)
فإن قيل فيجب ألا يتطرق النسخ إليه قلنا هذا هو مذهب أبي مسلم الأصفهاني فليس يبعد وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالغاية فكيف يكون تبديلاً أما قوله وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا اتفقوا على أن الملتحد هو الملجأ قال أهل اللغة هو من لحد وألحد إذا مال ومنه قوله تعالى لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ ( النحل 103 ) والملحد المائل عن الدين والمعنى ولن تجد من دونه ملجأ في البيان والرشاد
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
اعلم أن أكابر قريش اجتمعوا وقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء من عندك فإذا حضرنا لم يحضروا وتعين لهم وقتاً يجتمعون فيه عندك فأنزل الله تعالى وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( الأنعام 52 ) الآية فبين فيها إنه لا يجوز طردهم بل تجالسهم وتوافقهم وتعظم شأنهم ولا تلتفت إلى أقوال أولئك الكفار ولا تقيم لهم في نظرك وزناً سواء غابوا أو حضروا وهذه القصة منقطعة عما قبلها وكلام مبتدأ مستقل ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِمُ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ ( الأنعام 52 ) ففي تلك الآية نهي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن طردهم وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم فقوله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أصل الصبر الحبس ومنه نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن المصبورة وهي البهيمة تحبس فترمي أما قوله مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر بالغدوة بضم الغين والباقون بالغداة وكلاهما لغة
المسألة الثانية في قوله بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ وجوه الأول المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل ليس لفلان عمل بالغداة والعشي إلا شتم الناس الثاني أن المراد صلاة الفجر والعصر الثالث المراد أن الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النوم إلى اليقظة وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة والعشي هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من اليقظة إلى النوم ومن الحياة إلى الموت والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه ثم قال وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره وجاء القوم عدا زيداً وإنما عدي بلفظة عن لأنها تفيد المباعدة فكأنه تعالى نهى عن تلك المباعدة وقرى وَلاَ تَعْدُ عَيْنَيْكَ ولا تعد عينيك من أعداه وعداه نقلاً بالهمزة وتثقيل الحشو ومنه قوله شعر
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له
والمقصود من الآية أنه تعالى نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أن يزدرى فقراء المؤمنين وأن تنبو عيناه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء وحسن صورتهم وقوله تُرِيدُ زِينَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا نصب في موضع الحال يعني أنك ( إن ) فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا ولما بالغ في أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين فقال وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا وفيه مسائل(21/98)
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهال لأن قوله أَغْفَلْنَا يدل على هذا المعنى قالت المعتزلة المراد بقوله تعالى أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا أنا وجدنا قلبه غافلاً وليس المراد خلق الغفلة فيه والدليل عليه ما روي عن عمرو بن معديكرب الزبيدي أنه قال لبني سليم قاتلناكم فما أجبناكم وسألناكم فما ابخلناكم وهجوناكم فما أفحمناكم أي ما وجدناكم جبناء ولا بخلاء ولا مفحمين ثم نقول حمل اللفظ على هذا المعنى أولى ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان كذلك لما استحقوا الذم الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه لما صح ذلك الثالث لو كان المراد هو أنه تعالى جعل قلبه غافلاً لوجب أن يقال ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه لأن على هذا التقدير يكون ذلك من أفعال المطاوعة وهي إنما تعطف بالفاء لا بالواو ويقال كسرته فانكسر ودفعته فاندفع ولا يقال وانكسر واندفع الرابع قوله تعالى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ولو كان تعالى أغفل في الحقيقة قلبه لم يجز أن يضاف ذلك إلى اتباعه هواه والجواب قوله المراد من قوله أَغْفَلْنَا أي وجدناه غافلاً وليس المارد تحصيل الغفلة فيه قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن الاشتراك خلاف الأصل فوجب أن يعتقد أن وزن الأفعال حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وجعله حقيقة في التكوين مجازاً في الوجدان أولى من العكس وبيانه من وجوه أحدها أن مجيء بناء الأفعال بمعنى التكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان والكثرة دليل الرجحان وثانيها أن مبادرة الفهم من هذا البناء إلى التكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان ومبادرة الفهم دليل الرجحان وثالثها أنا إن جعلناه حقيقة في التكوين أمكن جعله مجازاً في الوجدان لأن العلم بالشيء تابع لحصول المعلوم فجعل اللفظ حقيقة في المتبوع ومجازاً في التبع موافق للمعقول أما لو جعلناه حقيقة في الوجدان مجازاً في الإيجاد لزم جعله حقيقة في التبع مجازاً في الأصل وأنه عكس المعقول فثبت أن الأصل جعل هذا البناء حقيقة في الإيجاد لا في الوجدان الوجه الثاني في الجواب عن السؤال أنا نسلم كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان إلا أنا نقول يجب حمل قوله أَغْفَلْنَا على إيجاد الغفلة وذلك لأن الدليل العقلي دل على أنه يمتنع كون العبد موجداً للغفلة في نفسه والدليل عليه أنه إذا حاول إيجاد الغفلة فأما أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معين والأول باطل وإلا لم يكن بأن تحصل له الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن تحصل له الغفلة عن شيء آخر لأن الطبيعة المشترك فيها بين الأنواع الكثيرة تكون نسبتها إلى كل تلك الأنواع على السوية أما الثاني فهو أيضاً باطل لأن الغفلة عن كذا عبارة عن غفلة لا تمتاز عن سائر أقسام الغفلات إلا بكونها منتسبة إلى ذلك الشيء المعين بعينه فعلى هذا لا يمكنه أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا إذا تصور أن تلك الغفلة غفلة عن كذا ولا يمكنه أن يتصور كون تلك الغفلة غفلة عن كذا إلا إذا تصور كذا لأن العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروط بتصور كل واحد من المنتسبين فثبت أنه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا مع الشعور بكذا لكن الغفلة عن كذا ضد الشعور بكذا فثبت أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه اغفلة إلا عند اجتماع الضدين وذلك محال والموقوف على المحال محال فثبت أن العبد غير قادر على إيجاد الغفلة فوجب أن يكون خالق الغفلات وموجدها في العباد هو الله وهذه نكتة قاطعة في(21/99)
إثبات هذا المطلوب وعند هذا يظهر أن المراد بقوله تعالى وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ هو إيجاد الغفلة لا وجدانها أما حديث المدح والذ فقد عارضناه مراراً وأطواراً بالعلم والداعي أما قوله تعالى بعد هذه الآية فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ فالبحث عنه سيأتي إن شاء الله تعالى أما قوله وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ لو كان المراد إيجاد الغفلة لوجب ذكر الفاء لا ذكر الواو فنقول هذا إنما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتباع الهوى كما أن الكسر من لوازمه حصول الإنكسار وليس الأمر كذلك لأنه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله ومع ذلك فلا يتبع الهوى بل يبقى متوقفاً لا ينافي مقام الحيرة والدهشة والخوف من الكل فسقط هذا السؤال وذكر القفال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً أخرى فأحدها أنه تعالى لما صب عليهم الدنيا صباً وأدى ذلك إلى رسوخ الغفلة في قلوبهم صح على هذا التأويل أنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم كما في قوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) والوجه الثاني أن معنى قوله أَغْفَلْنَا أي تركناه غافلاً فلم نسمه بسمة أهل الطهارة والتقوى وهو من قولهم بعير غفل أي لا سمة عليه وثالثها أن المراد من قوله أغفلنا قلبه أي خلاه مع الشيطان ولم يمنع الشيطان منه فيقال في الوجه الأول إن فتح باب لذات الدنيا عليه هل يؤثر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر فإن أثر كان أثر إيصال اللذات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه وذلك عين القول بأنه تعالى فعل ما يوجب حصول الغفلة في قلبه وإن كان لا تأثير له في حصول هذه الغفلة بطل إسناده إليه وقد يقال في الوجه الثاني إن قوله أغفلنا قلبه بمنزلة قوله سودنا قلبه وبيضنا وجهه ولا يفيد إلا ما ذكرناه ويقال في الوجه الثالث إن كان لتلك التخلية أثر في حصول تلك الغفلة فقد صح قولنا وإلا بطل استناد تلك الغفلة إلى الله تعالى
المسألة الثانية قوله وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ يدل على أن شر أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق وتحقيق القول أن ذكر الله نور وذكر غيره ظلمة لأن الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله وما سوى الله فهو ممكن الوجود لذاته والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامة فالإعراض عن الحق هو المراد بقوله أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا والإقبال على الخلق هو المراد بقوله وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
المسألة الثالثة قيل فُرُطًا أي مجاوزاً للحد من قولهم فرس فرط إذا كان متقدماً الخيل قال الليث الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقال كل أمر فلان فرط وأنشد شعراً لقد كلفني شططا
وأمراً خائباً فرطا
أي مضيعاً فقوله وكان أمره فرطاً معناه أن الأمر الذي يلزمه الحفظ له والاهتمام به وهو أمر دينه يكون مخصوصاً بإيقاع التفريط والتقصير فيه وهذه الحالة صفة من لا ينظر لدينه وإنما عمله لدنياه فبين تعالى من حال الغافلين عن ذكر الله التابعين لهواهم أنهم مقصرون في مهماتهم معرضون عما وجب عليهم من التدبر(21/100)
في الآيات والتحفظ بمهمات الدنيا والآخرة والحاصل أنه تعالى وصف أولئك الفقراء بالمواظبة على ذكر الله والإعراض عن غير ذكر الله فقال مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ووصف هؤلاء الأغنياء بالإعراض عن ذكر الله تعالى والإقبال على غير الله وهو قوله أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ثم أمر رسوله بمجالسة أولئك والمباعدة عن هؤلاء روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال كنت جالساً في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستر بعضاً من العرى وقارىء يقرأ القرآن فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ماذا كنتم تصنعون قلنا يا رسول الله كان واحد يقرأ من كتاب الله ونحن نستمع فقال عليه السلام ( الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت إلى أن أصبر نفسي معهم ) ثم جلس وسطنا وقال ( أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف سنة )
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير النظم وجوه الأول أنه تعالى لما أمر رسوله بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا إن طردت الفقراء آمنا بك قال بعده وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ أي قل لهؤلاء إن هذا الدين الحق إنما أتى من عند الله فإن قبلتموه عاد النفع إليكم وإن لم تقبلوه عاد الضرر إليكم ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى والقبح والحسن والخمول والشهرة الوجه الثاني في تقرير النظم يمكن أن يكون المراد أن الحق ما جاء من عند الله والحق الذي جاءني من عنده أن أصبر نفسي مع هؤلاء الفقراء ولا أطردهم ولا ألتفت إلى الرؤساء وأهل الدنيا والوجه الثالث في تقرير النظم أن يكون المراد هو أن الحق الذي جاء من عند الله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وأن الله تعالى لم يأذن في طرد من آمن وعمل صالحاً لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار فإن قيل أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهم على المهم فطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلا سقوط حرمتهم وهذا ضرر قليل أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر وهذا ضرر عظيم قلنا أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر فمسلم إلا أن من ترك الإيمان لأجل الحذر من مجالسة الفقراء فإيمانه ليس بإيمان بل هو نفاق قبيح فوجب على العاقل أن لا يلتفت إلى إيمان من هذا حاله وصفته
المسألة الثانية قالت المعتزلة قوله تعالى فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ صريح في أن الأمر في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية مفوض إلى العبد واختياره فمن أنكر ذلك فقد خالف صريح القرآن ولقد سألني بعضهم عن هذه الآية فقلت هذه الآية من أقوى الدلائل على صحة قولنا وذلك لأن الآية صريحة في(21/101)
أن حصول الإيمان وحصول الكفر موقوف على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر وصريح العقل أيضاً يدل له فإن العقل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه وبدون الاختيار له إذا عرفت هذا فنقول حصول ذلك القصد والاختيار إن كان بقصد آخر يتقدمه واختيار آخر يتقدمه لزمه أن يكون كل قصد واختيار مسبوقاً بقصد آخر إلى غير النهاية وهو محال فوجب انتهاء تلك القصود وتلك الاختيارت إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة عند حصول ذلك القصد الضروري والاختيار الضروري يوجب الفعل فالإنسان شاء أو لم يشأ إن لم تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعارض لم يترتب الفعل وإذا حصلت تلك المشيئة الجازمة شاء أو لم يشأ يجب ترتب الفعل عليه فلا حصول المشيئة مترتب على حصول الفعل ولا حصول الفعل مترتب على المشيئة فالإنسان مضطر في صورة مختار ولقد قرر الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله هذا المعنى في باب التوكل من كتاب إحياء علوم الدين فقال فإن قلت إني أجد في نفسي وجداناً ضرورياً أني إن شئت الفعل قدرت على الفعل وإن شئت الترك قدرت على الترك فالفعل والترك بي لا بغيري وأجاب عنه وقال هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة وإن لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل بل العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا بسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار في هذا المقام فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضاً أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى
المسألة الثالثة قوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ فيه فوائد
الفائدة الأولى الآية تدل على أن صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والداعي محال
الفائدة الثانية أن صيغة الأمر لا لمعنى الطلب في كتاب الله كثيرة ثم نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هذه الصيغة تهديد ووعيد وليست بتخيير
الفائدة الثالثة أنها تدل على أنه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين بل نفع الإيمان يعود عليهم وضرر الكفر يعود عليهم كما قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) واعلم أنه تعالى لما وصف الكفر والإيمان والباطل والحق أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والأعمال الباطلة وبذكر الوعد على الإيمان والعمل الصالح أما الوعيد فقوله تعالى إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا يقول اعتدنا لمن ظلم نفسه ووضع العبادة في غير موضعها والأنفة في غير محلها فعندما استحسن بهواه وأنف عن قبول الحق لأجل أن الذين قبلوه فقراء ومساكين فهذا كله ظلم ووضع للشيء في غير موضعه فأخبر تعالى أنه أعد لهؤلاء الأقوام ناراً وهي الجحيم ثم وصف تعالى تلك النار بصفتين الصفة الأولى قوله وَأَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا والسرادق هو الحجزة التي تكون حول الفسطاط فأثبت للنار شيئاً شبيهاً بذلك يحيط بهم من جميع الجهات والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة بهم من كل الجوانب وقال بعضهم المراد من هذا السرادق الدخان الذي وصفه الله في قوله انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ ( المرسلات 30 ) وقالوا هذه الإحاطة بهم إنما تكون قبل دخولهم النار فيغشاهم هذا الدخان ويحيط بهم كالسرادق حول الفسطاط(21/102)
والصفة الثانية لهذه النار قوله وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ قيل في حديث مرفوع إنه دردي الزيت وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل بيت المال وأخرج نفاثة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال هذا هو المهل قال أبو عبيدة والأخفش كل شيء أذبته من ذهب أو نحاس أو فضة فهو المهل وقيل إنه الصديد والقيح وقيل إنه ضرب من القطران ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم إذا طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى تَصْلَى نَاراً حَامِيَة ً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَة ٍ ( الغاشية 4 5 ) ويحتمل أن يستغيثوا من حر جهنم فيطلبوا ماء يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء قال تعالى حكاية عنهم أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء ( الأعراف 50 ) وقال في آية أخرى سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ( إبراهيم 50 ) فإذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص وقوله تعالى يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ وارد على سبيل الاستهزاء كقوله
تحية بينهم ضرب وجيع
ثم قال تعالى بِئْسَ الشَّرَابُ أي أن الماء الذي هو كالمهل بئس الشراب لأن المقصود بشرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في احتراق الأجسام مبلغاً عظيماً ثم قال تعالى وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا قال قائلون ساءت النار منزلاً ومجتمعاً للرفقة لأن أهل النار يجتمعون رفقاء كأهل الجنة قال تعالى في صفة أهل الجنة وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) وأما رفقاء النار فهم الكفار والشياطين والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء وبئس موضع الترافق النار كما أنه نعم الرفقاء أهل الجنة ونعم موضع الرفقاء الجنة وقال آخرون مرتفقاً أي متكأ وسمي المرفق مرفقاً لأنه يتكأ عليه فالإتكاء إنما يكون للاستراحة والمرتفق موضع الاستراحة والله أعلم
أُوْلَائِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاٌّ رَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان لأن العطف يوجب المغايرة
المسألة الثانية قوله إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ظاهره يقتضي أنه يستوجب المؤمن بحسن عمله على الله أجراً وعند أصحابنا ذلك الاستيجاب حصل بحكم الوعد وعند المعتزلة لذات الفعل وهو باطل لأن نعم الله كثيرة وهي موجبة للشكر والعبودية فلا يصير الشكر والعبودية موجبين لثواب آخر لأن أداء(21/103)
الواجب لا يوجب شيئاً آخر
المسألة الثالثة نظير قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ الخ قول الشاعر إن الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به ترجى الخواتيم
كرر أن تأكيداً للأعمال والجزاء عليها
المسألة الرابعة أولئك خبر إن وإنا لا نضيع اعتراض ولك أن تجعل إنا لا نضيع وأولئك خبرين معاً ولك أن تجعل أولئك كلاماً مستأنفاً بياناً للأجر المبهم واعلم أنه تعالى لما أثبت الأجر المبهم أردفه بالتفصيل من وجوه أولها صفة مكانهم وهو قوله أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَارُ والعدن في اللغة عبارة عن الإقامة فيجوز أن يكون المعنى أولئك لهم جنات إقامة كما يقال هذه دار إقامة ويجوز أن يكون العدن إسماً لموضع معين من الجنة وهو وسطها وأشرف أماكنها وقد استقصينا فيه فيما تقدم وقوله جَنَّاتُ لفظ جمع فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) ويمكن أن يكون المراد أن نصيب كل واحد من المكلفين جنة على حدة وذكر أن من صفات تلك الجنات أن الأنهار تجري من تحتها وذلك لأن أفضل المساكن في الدنيا البساتين التي يجري فيها الأنهار وثانيها إن لباس أهل الدنيا إما لباس التحلي وإما لباس التستر أما لباس التحلي فقال تعالى في صفته يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ والمعنى أنه يحليهم الله تعالى ذلك أو تحليهم الملائكة وقال بعضهم على كل واحد منهم ثلاثة أسورة سوار من ذهب لأجل هذه الآية وسوار من فضة لقوله تعالى وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّة ٍ ( الإنسان 21 ) وسوار من لؤلؤ لقوله تعالى وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( الحج 23 ) وأما لباس التستر فقوله وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ والمراد من سندس الآخرة واستبرق الآخرة والأول هو الديباج الرقيق وهو الخز والثاني هو الديباج الصفيق وقيل أصله فارسي معرب وهو استبره أي غليظ فإن قيل ما السبب في أنه تعالى قال في الحلي يُحَلَّوْنَ على فعل ما لم يسم فاعله وقال في السندس والاستبرق ويلبسون فأضاف اللبس إليهم قلنا يحتمل أن يكون اللبس إشارة إلى ما استوجبوه بعملهم وأن يكون الحلي إشارة إلى ما تفضل الله عليهم ابتداء من زوائد الكرم وثالثها كيفية جلوسهم فقال في صفتها متكئين فيها على الأرائك قالوا الأرائك جمع أريكة وهي سرير في حجلة أما للسرير وحده فلا يسمى أريكة ولما وصف الله تعالى هذه الأقسام قال نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً والمراد أن يكون هذا في مقابلة ما تقدم ذكره من قوله وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا
وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاًّحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّة َ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا فعسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَة ٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا(21/104)
اعلم أن المقصود من هذا أن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين فبين الله تعالى أن ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنياً والغني فقيراً أما الذي يجب حصول المفاخرة به فطاعة الله وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبين ذلك بضرب هذا المثل المذكور في الآية فقال وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ أي مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين كانا أخوين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه براطوس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وقيل هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ ( الصافات 51 ) ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فأخذ كل واحد منهما النصف فاشترى الكافر أرضاً فقال المؤمن اللهم إني أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه داراً بألف فقال المؤمن اللهم إني اشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال المؤمن اللهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور العين ثم اشترى أخوه خدماً وضياعاً بألف فقال المؤمن(21/105)
اللهم إني اشتريت منك الولدان بألف فتصدق به ثم أصابه حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقوله تعالى جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ فاعلم أن الله تعالى وصف تلك الجنة بصفات الصفة الأولى كونها جنة وسمى البستان جنة لاستتار ما يستتر فيها بظل الأشجار وأصل الكلمة من الستر والتغطية والصفة الثانية قوله وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ أي وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين نظيره قوله تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ( الزمر 75 ) أي واقفين حول العرش محيطين به والحفاف جانب الشيء والأحفة جمع فمعنى قول القائل حف به القوم أي صاروا في أحفته وهي جوانبه قال الشاعر له لحظات في حفافي سريره
إذا كرها فيها عقاب ونائل
قال صاحب ( الكشاف ) حفوه إذا طافوا به وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيده الباء مفعولاً ثانياً كقوله غشيته وغشيته به قال وهذه الصفة مما يؤثرها الدهاقين في كرومهم وهي أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة وهو أيضاً حسن في المنظر الصفة الثالثة وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا والمقصود منه أمور أحدها أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه وثانيها أن تكون تلك الأرض متسعة الأطراف متباعدة الأكناف ومع ذلك فإنها لم يتوسطها ما يقطع بعضها عن بعض وثالثها أن مثل هذه الأرض تأتي في كل وقت بمنفعة أخرى وهي ثمرة أخرى فكانت منافعها دارة متواصلة الصفة الرابعة قوله تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا كلا إسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان وكلتا اسم مفرد يؤكد به مؤنثان معرفتان وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك جاءني كلا أخويك ورأيت كلا أخويك ومررت بكلا أخويك وجاءني كلتا أختيك ورأيت كلتا أختيك ومررت بكلتا أختيك وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف وفي الجر والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً وقوله اتَتْ أُكُلَهَا حمل على اللفظ لأن كلتا لفظه لفظ مفرد ولو قيل أتتا على المعنى لجاز وقوله وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا أي لم تنقص والظلم النقصان يقول الرجل ظلمني حقي أي نقصني الصفة الخامسة قوله تعالى وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً أي كان النهر يجري في داخل تلك الجنتين وفي قراءة يعقوب وفجرنا مخففة وفي قراءة الباقين وفجرنا مشددة والتخفيف هو الأصل لأنه نهر واحد والتشديد على المبالغة لأن النهر يمتد فيكون كأنهار و خِلَالَهُمَا أي وسطهما وبينهما ومنه قوله تعالى ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ ( التوبة 47 ) ومنه يقال خللت القوم أي دخلت بين القوم الصفة السادسة قوله تعالى وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ قرأ عاصم بفتح الثاء والميم في الموضعين وهو جمع ثمار أو ثمرة وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم في الحرفين والباقون بضم الثاء والميم في الحرفين ذكر أهل اللغة أنه بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما وبالفتح حمل الشجر قال قطرب كان أبو عمرو بن العلاء يقول الثمر المال والولد وأنشد للحارث بن كلدة ولقد رأيت معاشرا
قد أثمروا مالاً وولدا
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم
ما أثمروه أمن مال ومن ولد(21/106)
وقوله وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ أي أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثر وعن مجاهد الذهب والفضة أي كان مع الجنتين أشياء من النقود ولما ذكر الله تعالى هذه الصفات قال بعده فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً والمعنى أن المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله وبالبعث والمحاورة مراجعة الكلام من قولهم حار إذا رجع قال تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى ( الانشقاق 14 15 ) فذكر تعالى أن عند هذه المحاورة قال الكافر أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً والنفر عشيرة الرجل وأصحابه الذين يقومون بالذب عنه وينفرون معه وحاصل الكلام أن الكافر ترفع على المؤمن بجاهه وماله ثم إنه أراد أن يظهر لذلك المسلم كثرة ماله فأخبر الله تعالى عن هذه الحالة فقال وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وأراه إياها على الحالة الموجبة للبهجة والسرور وأخبره بصنوف ما يملكه من المال فإن قيل لم أفرد الجنة بعد التثنية قلنا المراد أنه ليس له جنة ولا نصيب في الجنة التي وعد المتقون المؤمنون وهذا الذي ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحداً منهما ثم قال تعالى وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وهو اعتراض وقع في أثناء الكلام والمراد التنبيه على أنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى الكفران والجحود لقدرته على البعث كان واضعاً تلك النعم في غير موضعها ثم حكى تعالى عن الكافر أنه قال وَمَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً فجمع بين هذين فالأول قطعه بأن تلك الأشياء لا تهلك ولا تبيد أبداً مع أنها متغيرة متبدلة فإن قيل هب أنه شك في القيامة فكيف قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً مع أن الحدس يدل على أن أحوال الدنيا بأسرها ذاهبة باطلة غير باقية قلنا المراد أنها لا تبيد مدة حياته ووجوده ثم قال وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً أي مرجعاً وعاقبة وانتصابه على التمييز ونظيره قوله تعالى وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى وقوله لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً والسبب في وقوع هذه الشبهة أنه تعالى لما أعطاه المال في الدنيا ظن أنه إنما أعطاه ذلك لكونه مستحقاً له والاستحقاق باق بعد الموت فوجب حصول العطاء والمقدمة الأولى كاذبة فإن فتح باب الدنيا على الإنسان يكون في أكثر الأمر للاستدراج والتملية قرأ نافع وابن كثير خيراً منهما والمقصود عود الكناية إلى الجنتين والباقون منها والمقصود عود الكناية إلى الجنة التي دخلها ثم ذكر تعالى جواب المؤمن فقال جل جلاله قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً وفيه بحثان
البحث الأول أن الإنسان الأول قال وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وهذا الثاني كفره حيث قال أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ وهذا يدل على أن الشاك في حصول البعث كافر
البحث الثاني هذا الاستدلال يحتمل وجهين الأول يرجع إلى الطريقة المذكورة في القرآن وهو أنه تعالى لما قدر على الابتداء وجب أن يقدر على الإعادة فقوله خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً إشارة إلى خلق الإنسان في الابتداء الوجه الثاني أنه لما خلقك هكذا فلم يخلقك عبثاً وإنما خلقك للعبودية وإذا خلقك لهذا المعنى وجب أن يحصل للمطيع ثواب وللمذنب عقاب وتقريره ما ذكرناه في سورة يس ويدل على هذا الوجه قوله ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً أي هيأك هيئة تعقل وتصلح للتكليف فهل يجوز في العقل مع هذه الحالة إهماله أمرك ثم قال المؤمن لَكُنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى وفيه بحثان
البحث الأول قال أهل اللغة لكنا أصله لكن أنا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن فاجتمعت النونان فادغمت نون لكن في النون التي بعدها ومثله(21/107)
وتقلينني لكن إياك لا أقلى
أي لكن أنا لا أقليك وهو في قوله هُوَ اللَّهُ رَبّى ضمير الشأن وقوله اللَّهُ رَبّى جملة من المبتدأ والخبر واقعة في معرض الخبر لقوله هو فإن قيل قوله لَكُنَّا استدراك لماذا قلنا لقوله أَكَفَرْتَ كأنه قال لأخيه أكفرت بالله لكني مؤمن موحد كما تقول زيد غائب لكن عمرو حاضر
والبحث الثاني قرأ ابن عامر ويعقوب الحضرمي ونافع في رواية لَكُنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى في الوصل بالألف وفي قراءة الباقين لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبّى بغير ألف والمعنى واحد ثم قال المؤمن وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا ذكر القفال فيه وجوهاً أحدها إني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلي ولا أتكبر عندما ينعم علي ولا أرى كثرة المال والأعوان من نفسي وذلك لأن الكافر لما اعتز بكثرة المال والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى وثانيها لعل ذلك الكافر مع كونه منكراً للبعث كان عابد صنم فبين هذا المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء وثالثها أن هذا الكافر لما عجز الله عن البعث والحشر فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك ثم قال المؤمن للكافر وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّة َ إِلاَّ بِاللَّهِ فأمره أن يقول هذين الكلامين الأول قوله مَا شَاء اللَّهُ وفيه وجهان الأول أن تكون ( ما ) شرطية ويكون الجزاء محذوفاً والتقدير أي شيء شاء الله كان والثاني أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف وتقديره الأمر ما شاء الله واحتج أصحابنا بهذا على أن كل ما أراده الله وقع وكل ما لم يرده لم يقع وهذا يدل على أنه ما أراد الله الإيمان من الكافر وهو صريح في إبطال قول المعتزلة أجاب الكعبي عنه بأن تأويل قولهم ما شاء مما تولى فعله لا مما هو فعل العباد كما قالوا لا مرد لأمر الله لم يرد ما أمر به العباد ثم قال لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريده كما يحصل فيه ما نهى عنه واعلم أن الذي ذكر الكعبي ليس جواباً عن الاستدلال بل هو التزام المخالفة لظاهر النص وقياس الإرادة على الأمر باطل لأن هذا النص دال على أنه لا يوجد إلا ما أراده الله وليس في النصوص ما يدل على أنه لا يدخل في الوجود إلا ما أمر به فظهر الفرق وأجاب القفال عنه بأن قال هلا إذا دخلت بستانك قلت ما شاء الله كقول الإنسان هذه الأشياء الموجودة في هذا البستان ما شاء الله ومثله قوله سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وهم ثلاثة وقوله وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة 58 ) أي قولوا هذه حطة وإذا كان كذلك كان المراد من هذا الشيء الموجود في البستان شيء شاء الله تكوينه وعلى هذا التقدير لم يلزم أن يقال كل ما شاء الله وقع لأن هذا الحكم غير عام في الكل بل مختص بالأشياء المشاهدة في البستان وهذا التأويل الذي ذكره القفال أحسن بكثير مما ذكره الجبائي والكعبي وأقول إنه على جوابه لا يدفع الإشكال على المعتزلة لأن عمارة ذلك البستان ربما حصلت بالغصوب والظلم الشديد فلا يصح أيضاً على قول المعتزلة أن يقال هذا واقع بمشيئة الله اللهم إلا أن نقول المراد أن هذه الثمار حصلت بمشيئة الله تعالى إلا أن هذا تخصيص لظاهر النص من غير دليل والكلام الثاني الذي أمر المؤمن الكافر بأن يقوله هو قوله لاَ قُوَّة َ إِلاَّ بِاللَّهِ أي لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره والمقصود إنه قال المؤمن للكافر هلا قلت عند دخول جنتك الأمر ما شاء الله والكائن ما قدره الله(21/108)
اعترافاً بأنها وكل خير فيها بمشيئة الله وفضله فإن أمرها بيده إن شاء تركها وإن شاء خربها وهلا قلت لا قوة إلا بالله إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فهو بمعونة الله وتأييده لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله ثم إن المؤمن لما علم الكافر الإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا من قرأ أقل بالنصب فقد جعل أنا فصلاً وأقل مفعولاً ثانياً ومن قرأ بالرفع جعل قوله أَنَاْ مبتدأ وقوله أَقُلْ خبر والجملة مفعولاً ثانياً لترن واعلم أن ذكر الولد ههنا يدل على أن المراد بالنفر المذكور في قوله وَأَعَزُّ نَفَراً الأعوان والأولاد كأنه يقول له إن كنت تراني أَقُلْ مَالاً وَوَلَدًا وأنصاراً في الدنيا الفانية فعسَى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ إما في الدنيا وإما في الآخرة ويرسل على جنتك حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء أي عذاباً وتخريباً والحسبان مصدر كالغفران والبطلان بمعنى الحساب أي مقداراً قدره الله وحسبه وهو الحكم بتخريبها قال الزجاج عذاب حسبان وذلك الحسبان حسبان ما كسبت يداك وقيل حسباناً أي مرامي الواحد منها حسبانة وهي الصواعق فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أي فتصبح جنتك أرضاً ملساء لا نبات فيها والصعيد وجه الأرض زلقاً أي تصير بحيث تزلق الرجل عليها زلقاً ثم قال أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا أي يغوص ويسفل في الأرض فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا أي فيصير بحيث لا تقدر على رده إلى موضعه قال أهل اللغة في قوله مَاؤُهَا غَوْرًا أي غائراً وهو نعت على لفظ المصدر كما يقال فلان زور وصوم للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ويقال نساء نوح أي نوائح ثم أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدره هذا المؤمن فقال وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وهو عبارة عن إهلاكه بالكلية وأصله من إحاطة العدو لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ( يوسف 66 ) ومثله قولهم أتى عليه إذا أهلكه من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعلياً عليهم ثم قال تعالى فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ وهو كناية عن الندم والحسرة فإن من عظمت حسرته يصفق إحدى يديه على الأخرى وقد يمسح إحداهما على الأخرى وإنما يفعل هذا ندامة على ما أنفق في الجنة التي وعظه أخوه فيها وعذله وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا أي ساقطة على عروشها فيمكن أن يكون المراد بالعروش عروش الكرم فهذه العروش سقطت ثم سقطت الجدران عليها ويمكن أن يراد من العروش السقوف وهي سقطت على الجدران وحاصل الكلام أن هذه اللفظة كناية عن بطلانها وهلاكها ثم قال تعالى وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا والمعنى أن المؤمن لما قال لَكُنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا فهذا الكافر تذكر كلامه وقال وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا فإن قيل هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنته بشؤم شركه وليس الأمر كذلك لأن أنواع البلاء أكثرها إنما يقع للمؤمنين قال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( الزخرف 33 ) وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) وأيضاً فلما قال وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا فقد ندم على الشرك ورغب في التوحيد فوجب أن يصير مؤمناً فلم قال بعده وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَة ٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً والجواب عن السؤال الأول أنه لما عظمت حسرته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا وكان معرضاً في كل عمره عن طلب الدين فلما ضاعت الدنيا بالكلية بقي الحرمان عن الدنيا والدين عليه فلهذا السبب عظمت حسرته والجواب عن السؤال الثاني أنه إنما ندم على الشرك لاعتقاده أنه لو كان موحداً غير مشرك لبقيت عليه جنته فهو إنما رغب في التوحيد والرد عن الشرك لأجل طلب(21/109)
الدنيا فلهذا السبب ما صار توحيده مقبولاً عند الله ثم قال تعالى وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَة ٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وفيه بحثان
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي ( ولم يكن له فئة ) بالياء لأن قوله فِئَة ٌ جمع فإذا تقدم على الكناية جاز التذكير ولأنه رعاية للمعنى والباقون بالتاء المنقوطة باثنتين من فوق لأن الكناية عائدة إلى اللفظة وهي الفئة
البحث الثاني المراد من قوله يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ هو أنه ما حصلت له فئة يقدرون على نصرته من دون الله أي هو الله تعالى وحده القادر على نصرته ولا يقدر أحد غيره أن ينصره ثم قال تعالى هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَى
المسألة الأولى اختلف القراء في ثلاثة مواضع من هذه الآية أولها في لفظ الولاية ففي قراءة حمزة والكسائي بكسر الواو وفي قراءة الباقين بالفتح وحكى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال كسر الواو لحن قال صاحب الكشاف الولاية بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك وثانيها قرأ أبو عمرو والكسائي قوله الحق بالرفع والتقدير هنالك الولاية الحق لله وقرأ الباقون بالجر صفة لله وثالثها قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي وابن عامر عقباً بضم القاف وقرأ عاصم وحمزة عقبى بتسكين القاف
المسألة الثانية هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ فيه وجوه الأول أنه تعالى لما ذكر من قصة الرجلين ما ذكر علمنا أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقال هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقّ أي في مثل ذلك الوقت وفي مثل ذلك المقام تكون الولاية لله يوالي أولياءه فيغلبهم على أعدائه ويفوض أمر الكفار إليهم فقوله هنالك إشارة إلى الموضع والوقت الذي يريد الله إظهار كرامة أوليائه وإذلال أعدائه ( فيهما ) والوجه الثاني في التأويل أن يكون المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولى الله ويلتجيء إليه كل محتاج مضطر يعني أن قوله وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا كلمة ألجيء إليها ذلك الكافر فقالها جزعاً مما ساقه إليه شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها والوجه الثالث المعنى هنالك الولاية لله ينصر بها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم يعني أنه تعالى نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن وصدق قوله في قوله فعسَى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء ويعضده قوله هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَى أي لأوليائه والوجه الرابع أن قوله هنالك إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الآخرة الولاية لله كقوله لمن الملك اليوم لله ثم قال تعالى هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا أي في الآخرة لمن آمن به والتجأ إليه وَخَيْرٌ عُقْبَى أي هو خير عاقبة لمن رجاه وعمل لوجهه وقد ذكرنا أنه قرىء عقبى بضم القاف وسكونها وعقبى على فعلى وكلها بمعنى العاقبة
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ مُّقْتَدِرًا(21/110)
اعلم أن المقصود اضرب مثلاً آخر يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين فقال وَاضْرِبْ لَهُم أي لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين مَثَلُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ثم ذكر المثل فقال كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ وحينئذ يربو ذلك النبات ويهتز ويحسن منظره كما قال تعالى فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( الحج 5 ) ثم إذا انقطع ذلك مدة جف ذلك النبات وصار هشيماً وهو النبت المتكسر المتفتت ومنه قوله هشمت أنفه وهشمت الثريد وأنشد عمرو الذي هشم الثريد لأهله
ورجال مكة مسنتون عجاف
وإذا صار النبات كذلك طيرته الرياح وذهبت بتلك الأجزاء إلى سائر الجوانب وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء مُّقْتَدِرًا بتكوينه أولاً وتنميته وسطاً وإبطاله آخراً وأحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أولاً في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلاً قليلاً ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الهلاك والفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به والباء في قوله فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ فيه وجوه الأول التقدير فاختلط بعض أنواع النبات بسائر الأنواع بسبب هذا الماء وذلك لأن عند نزول المطر يقوي النبات ويختلط بعضه بالبعض ويشتبك بعضه بالبعض ويصير في المنظر في غاية الحسن والزينة والثاني فاختلط ذلك الماء بالنبات واختلط ذلك النبات بالماء حتى روى ورف رفيفاً وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منها بصفة صاحبه
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً
لما بين تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بين تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل وسنعقد منه قياس الإنتاج وهو أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض ينتج إنتاجاً بديهياً أن المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض ومن المقتضى البديهي أن ما كان كذلك فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له في نظره وزناً فهذا برهان باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد ثم ذكر ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً وتقرير هذا الدليل أن خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة لا سيما إذا ثبت أن خيرات الدنيا خسيسة حقيرة وأن خيرات الآخرة عالية رفيعة لأن خيرات(21/111)
الدنيا حسية وخيرات الآخرة عقلية والعقلية أشرف من الحسية بكثير بالدلائل المذكورة في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ في بيان أن الإدراكات العقلية أفضل من الحسية وإذا كان كذلك كان مجموع السعادات العقلية والحسية هي السعادات الأخروية فوجب أن تكون أفضل من السعادات الحسية الدنيوية والله أعلم والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالاً قيل إنها قولنا ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) وللشيخ الغزالي رحمه الله في تفسير هذه الكلمات وجه لطيف فقال روي أن من قال سبحان الله حصل له من الثواب عشر مرات فإذا قال والحمد لله صارت عشرين فإذا قال ولا إله إلا الله صارت ثلاثين فإذا قال والله أكبر صارت أربعين قال وتحقيق القول فيه أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته فإذا قال سبحان الله فقد عرف كونه سبحانه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك والحمد لله فقد أقر بأن الحق سبحانه مع كونه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا تضاعف الثواب فإذا قال مع ذلك ولا إله إلا الله فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لكل ما ينبغي وليس في الوجود موجود هكذا إلا الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال والله أكبر معناه أنه أكبر وأعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة لا جرم صارت درجات الثواب أربعة والقول الثاني أن الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس والقول الثالث أنها الطيب من القول كما قال تعالى وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ ( الحج 24 ) والقول الرابع أن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بمعرفة الله وبمحبته وخدمته فهو الباقيات الصالحات وكل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك وذلك أن كل ما سوى الحق سبحانه فهو فان لذاته هالك لذاته فكان الاشتغال به والالتفات إليه عملاً باطلاً وسعياً ضائعاً أما الحق لذاته فهو الباقي لا يقبل الزوال لا جرم كان الاشتغال بمعرفة الله ومحبته وطاعته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولا يفنى ثم قال تعالى خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً أي كل عمل أريد به وجه الله فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل يكون خيراً وأفضل لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة
( 47 )
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرض بَارِزَة ً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(21/112)
اعلم أنه تعالى لما بين خساسة الدنيا وشرف القيامة أردفه بأحوال القيامة فقال وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ والمقصود منه الرد على المشركين الذي افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأعوان واختلفوا في الناصب لقوله وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ على وجوه أحدها أنه يكون التقدير واذكر لهم يَوْمٍ نُسَيّرُ الْجِبَالَ عطفاً على قوله وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( الكهف 45 ) الثاني أنه يكون التقدير وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ حصل كذا وكذا يقال لهم لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ لأن القول مضمر في هذا الموضع فكان المعنى أنه يقال لهم هذا في هذا الموضع الثالث أن يكون التقدير خَيْرٌ أَمَلاً في يَوْمٍ نُسَيّرُ الْجِبَالَ والأول أظهر إذا عرفت هذا فنقول إنه ذكر في الآية من أحوال القيامة أنواعاً النوع الأول قوله وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وفيه بحثان
البحث الأول قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر تسير على فعل ما لم يسم فاعله الجبال بالرفع بإسناد تسير إليه اعتباراً بقوله تعالى وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ ( التكوير 3 ) والباقون نسير باسناد فعل التسيير إلى نفسه ( تعالى و ) الجبال بالنصب لكونه مفعول نسير والمعنى نحن نفعل بها ذلك اعتباراً بقوله وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا الله سبحانه ونقل صاحب الكشاف قراءة أخرى وهي تسير الجبال بإسناد تسير إلى الجبال
البحث الثاني قوله وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ ليس في لفظ الآية ما يدل على أنها إلى أين تسير فيحتمل أن يقال إنه تعالى يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك الموضع لخلقه والحق أن المراد أنه تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ( طه 105 107 ) ولقوله وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً ( الواقعة 5 6 ) و النوع الثاني من أحوال القيامة قوله تعالى وَتَرَى الاْرْضَ بَارِزَة ً وفي تفسيره وجوه أحدها أنه لم يبق على وجهها شيء من العمارات ولا شيء من الجبال ولا شيء من الأشجار فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها وهو المراد من قوله لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً وثانيها أن المراد من كونها بارزة أنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فهي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف ودليله قوله تعالى وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ( الانشقاق 4 ) وقوله وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ( الزلزلة 2 ) وقوله وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا وثالثها أن وجوه الأرض كانت مستورة بالجبال والبحار فلما أفنى الله تعالى الجبال والبحار فقد برزت وجوه تلك البقاع بعد أن كانت مستورة والنوع الثالث من أحوال القيامة قوله وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً والمعنى جمعناهم للحساب فلم نغادر منهم أحداً أي لم نترك من الأولين والآخرين أحداً إلا وجمعناهم لذلك اليوم ونظيره قوله تعالى قُلْ إِنَّ الاْوَّلِينَ وَالاْخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( الواقعة 49 50 ) ومعنى لم نغادر لم نترك يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر ترك الوفاء ومنه الغدير لأنه ما تركته السيول ومنه سميت ضفيرة المرأة بالغديرة لأنها تجعلها خلفها
ولما ذكر الله تعالى حشر الخلق ذكر كيفية عرضهم فقال وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الصف وجوه أحدها أنه تعرض الخلق كلهم على الله صفاً واحداً ظاهرين بحيث لا يحجب بعضهم بعضاً قال القفال ويشبه أن يكون الصف راجعاً إلى الظهور والبروز ومنه اشتق الصفصف للصحراء وثانيها لا يبعد أن يكون الخلق صفوفاً يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف(21/113)
المحيطة بالكعبة التي يكون بعضها خلف بعض وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله صفاً صفوفاً كقوله يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 ) أي أطفالاً وثالثها صفاً أي قياماً كما قال تعالى فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ( الحج 36 ) قالوا قياماً
المسألة الثانية قالت المشبهة قوله تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ( الفجر 22 ) يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وتعرض عليه أهل القيامة صفاً وكذلك قوله تعالى لَّقَدْ جِئْتُمُونَا يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وأجيب عنه بأنه تعالى جعل وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم ويحاسبهم عليها عرضاً عليه لا على أنه تعالى يحضر في مكان وعرضوا عليه ليراهم بعد أن لم يكن يراهم ثم قال تعالى لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه لأنهم خلقوا صغاراً ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد أنه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين في الدنيا على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ عراة حفاة بغير أموال ولا أعوان ونظيره قوله تعالى لَّقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ وَتَرَكْتُمْ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وقال تعالى أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً إِلَى قَوْلُهُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ( مريم 77 80 ) ثم قال تعالى بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا أي كنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار تنكرون البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن البعث والقيامة حق ثم قال تعالى وَوُضِعَ الْكِتَابُ والمراد أنه يوضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال والمراد الجنس وهو صحف الأعمال فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أي خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة وخائفين من ظهور ذلك لأهل الموقف فيفتضحون وبالجملة يحصل لهم خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة عند الخلق ويقولون يا ويلتنا ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات مَّالِ هَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا وهي عبارة عن الإحطاة بمعنى لا يترك شيئاً من المعاصي سواء كانت أو كبيرة إلا وهي مذكورة في هذا الكتاب ونظيره قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( الانفطار 10 12 ) وقوله إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجاثية 29 ) وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة على تقدير أن المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة إِلاَّ أَحْصَاهَا إلا ضبطها وحصرها قال بعض العلماء ضجوا من الصغائر قبل الكبائر لأن تلك الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر فاحترزوا من الصغائر جداً وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا معناه أنه لا يكتب عليه ما لم يفعل ولا يزيد في عقابه المستحق ولا يعذب أحداً بجرم غيره بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الجبائي هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في مسائل أحدها أنه لو عذب عباده من غير فعل صدر منهم لكان ظالماً وثانيها أنه لا يعذب الأطفال بغير ذنب وثالثها بطلان قولهم لله(21/114)
أن يفعل ما يشاء ويعذب من غير جرم لأن الخلق خلقه إذ لو كان كذلك لما كان لنفي الظلم عنه معنى لأن بتقدير أنه إذا فعل أي شيء أراد لم يكن ظلماً منه لم يكن لقوله إنه لا يظلم فائدة فيقال له أما الجواب عن الأولين فهو المعارضة بالعلم والداعي وأما الجواب عن هذا الثالث فهو أنه تعالى قال مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) ولم يدل هذا على أن اتخاذ الولد صحيح عليه فكذا ههنا
المسألة الثانية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة يوسف وأيوب وسليمان فيدعو بالمملوك ويقول له ما شغلك عني فيقول جعلتني عبداً للآدمي فلم تفرغني فيدعو يوسف عليه السلام ويقول كان هذا عبداً مثلك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار ثم يدعو بالمبتلي فإذا قال شغلتني بالبلاء دعا بأيوب عليه السلام فيقول قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع ما آتاه الله من الغنى والسعة فيقول ماذا عملت فيما آتيتك فيقول شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان عليه السلام فيقول هذا عبدي سليمان آتيته أكثر ما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك ويؤمر به إلى النار ) وعن معاذ عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن جسده فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه كيف عمل به )
المسألة الثالثة دلت الآية على إثبات صغائر وكبائر في الذنوب وهذا متفق عليه بين المسلمين إلا أنهم اختلفوا في تفسيره فقالت المعتزلة الكبيرة ما يزيد عقابه على ثواب فاعله والصغيرة ما ينقص عقابه عن ثواب فاعله واعلم أن هذا الحد إنما يصح لو ثبت أن الفعل يوجب ثواباً وعقاباً وذلك عندنا باطل لوجوه كثيرة ذكرناها في سورة البقرة في إبطال القول بالإحباط والتكفير بل الحق عندنا أن الطاعات محصورة في نوعين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكل ما كان أقوى في كونه جهلاً بالله كان أعظم في كونه كبيرة وكل ما كان أقوى في كونه إضراراً بالغير كان أكثر في كونه ذنباً أو معصية فهذا هو الضبط
وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِى َ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا(21/115)
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من ذكر الآيات المتقدمة الرد على القوم الذين افتخروا بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى وذلك لأن إبليس إنما تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه وقال خلقتني من نار وخلقته من طين فأنا أشرف منه في الأصل والنسب فكيف أسجد وكيف أتواضع لها وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المسلمين بعين هذه المعاملة فقالوا كيف نجلس مع هؤلاء الفقراء مع أنا من أنساب شريفة وهم من أنساب نازلة ونحن أغنياء وهم فقراء فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا تنبيهاً على أن هذه الطريقة هي بعينها طريقة إبليس ثم إنه تعالى حذر عنها وعن الاقتداء بها في قوله أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء فهذا هو وجه النظم وهو حسن معتبر وذكر القاضي وجهاً آخر فقال إنه تعالى لما ذكر من قبل أمر القيامة وما يجري عند الحشر ووضع الكتاب وكأن الله تعالى يريد أن يذكر ههنا أنه ينادي المشركين ويقول لهم أين شركائي الذي زعمتم وكان قد علم تعالى أن إبليس هو الذي يحمل الإنسان على إثبات هؤلاء الشركاء لا جرم قدم قصته في هذه الآية إتماماً لذلك الغرض ثم قال القاضي وهذه القصة وإن كان تعالى قد كررها في سور كثيرة إلا أن في كل موضع منها فائدة مجددة
المسألة الثانية أنه تعالى بين في هذه الآية أن إبليس كان من الجن وللناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال الأول أنه من الملائكة وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجن ولهم فيه وجوه الأول أن قبيلة من الملائكة يسمون بذلك لقوله تعالى وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً ( الصافات 158 ) وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ ( الأنعام 100 ) والثاني أن الجن سموا جناً للاستتار والملائكة كذلك فهم داخلون في الجن الثالث أنه كان خازن الجنة ونسب إلى الجنة كقولهم كوفي وبصري وعن سعيد بن جبير أنه كان من الجنانين الذين يعملون في الجنات حي من الملائكة يصوغون حلية أهل الجنة مذ خلقوا رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبير والقول الثاني أنه من الجن الذين هم الشياطين والذين خلقوا من نار وهو أبوهم والقول الثالث قول من قال كان من الملائكة فمسخ وغير وهذه المسألة قد أحكمناها في سورة البقرة وأصل ما يدل على أنه ليس من الملائكة أنه تعالى أثبت له ذرية ونسلاً في هذه الآية وهو قوله أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى والملائكة ليس لهم ذرية ولا نسل فوجب أن لا يكون إبليس من الملائكة بقي أن يقال إن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود فلو لم يكن إبليس من الملائكة فكيف تناوله ذلك الأمر وأيضاً لو لم يكن من الملائكة فكيف يصح استثناؤه منهم وقد أجبنا عن كل ذلك بالاستقصاء ثم قال تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ وفي ظاهره إشكال لأن الفاسق لا يفسق عن أمر ربه فلهذا السبب ذكروا فيه وجوهاً الأول قال الفراء ففسق عن أمر ربه أي خرج عن طاعته والعرب تقول فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها من البابين وقال رؤبة يهوين في نجد وغور غائرا
فواسقا عن قصدها جوائرا(21/116)
الثاني حكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه قال لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر والمعنى أنه لولا ذلك الأمر السابق لما حصل الفسق فلأجل هذا المعنى حسن أن يقال فسق عن أمر ربه الثالث قال قطرب فسق عن أمر ربه رده كقوله واسأل القرية واسأل العير قال تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ وفيه مسائل
المسألة الأولى المقصود من هذا الكلام أن إبليس تكبر على آدم وترفع عليه لما ادعى أن أصله أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون هو أشرف من آدم فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على آدم فلما علمتم أن إبليس عدو لكم فكيف تقتدون به في هذه الطريقة المذمومة هذا هو تقرير الكلام فإن قيل إن هذا الكلام لا يتم إلا بإثبات مقدمات فأولها إثبات إبليس وثانيها إثبات ذرية إبليس وثالثها إثبات عداوة بين إبليس وذريته وبين أولاد آدم ورابعها أن هذا القول الذي قاله أولئك الكفار اقتدوا فيه بإبليس وكل هذه المقدمات الأربعة لا سبيل إلى إثباتها إلا بقول النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالجاهل بصدق النبي جاهل بها إذا عرفت هذا فنقول المخاطبون بهذه الآيات هل عرفوا كون محمد نبياً صادقاً أو ما عرفوا ذلك فإن عرفوا كونه نبياً صادقاً قبلوا قوله في كل ما يقوله فكلما نهاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قول انتهو عنه وحينئذ فلا حاجة إلى قصة إبليس وإن لم يعرفوا كونه نبياً جهلوا كل هذه المقدمات الأربعة ولم يعرفوا صحتها فحينئذ لا يكون في إيرادها عليهم فائدة والجواب أن المشركين كانوا قد سمعوا قصة إبليس وآدم من أهل الكتاب واعتقدوا صحتها وعلموا أن إبليس إنما تكبر على آدم بسبب نسبه فإذا أوردنا عليهم هذه القصة كان ذلك زاجراً لهم عما أظهروه مع فقراء المسلمين من التكبر والترفع
المسألة الثانية قال الجبائي في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد إذ لو أراده وخلقه فيه ثم عاقبه عليه لكان ضرر إبليس أقل من ضرر الله عليهما فكيف يوبخهم بقوله بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً تعالى الله عنه علواً كبيراً بل على هذا المذهب لا ضرر البتة من إبليس بل الضرر كله من الله والجواب المعارضة بالداعي والعلم
المسألة الثالثة إنما قال للكفار المفتخرين بأنسابهم وأموالهم على فقراء المسلمين أفتتخذون إبليس وذريته أولياء من دون الله لأن الداعي لهم إلى ترك دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو النخوة وإظهار العجب فهذا يدل على أن كل من أقدم على عمل أو قول بناء على هذا الداعي فهو متبع لإبليس حتى أن من كان غرضه في إظهار العلم والمناظرة التفاخر والتكبر والترفع فهو مقتد بإبليس وهو مقام صعب غرق فيه أكثر الخلق فنسأل الله الخلاص منه ثم قال تعالى بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً أي بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله به فأطاعه بدل طاعته ثم قال مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في أن الضمير في قوله مَّا أَشْهَدتُّهُمْ إلى من يعود فيه وجوه أحدها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذي اتخذتموهم أولياء خلق السموات والأرض ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 66 ) يعني ما أشهدتهم لأعتضد بهم والدليل عليه قوله وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً أي وما كنت متخذهم فوضع الظاهر موضع المضمر بياناً لإضلالهم وقوله عَضُداً أي أعواناً وثانيها وهو أقرب عندي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا(21/117)