وأما اللفظ الثاني وهو الْحُسْنَى فقال ابن الأنباري الحسنى في اللغة تأنيث الأحسن والعرب توقع هذه اللفظة على الحالة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها ولذلك لم تؤكد ولم تنعت بشيء وقال صاحب ( الكشاف ) المراد المثوبة الحسنى ونظير هذه الآية قوله هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ ( الرحمن 60 )
وأما اللفظ الثالث وهو الزيادة فنقول هذه الكلمة مبهمة ولأجل هذا اختلف الناس في تفسيرها وحاصل كلامهم يرجع إلى قولين
القول الأول أن المراد من منها رؤية الله سبحانه وتعالى قالوا والدليل عليه النقل والعقل
أما النقل فالحديث الصحيح الوارد فيه وهو أن الحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى الله سبحانه وتعالى
وأما العقل فهو أن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف فانصرف إلى المعهود السابق وهو دار للسلام والمعروف من المسلمين والمتقرر بين أهل الإسلام من هذه اللفظة هو الجنة وما فيها من المنافع والتعظيم وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الزيادة أمراً مغايراً لكل ما في الجنة من المنافع والتعظيم وإلا لزم التكرار وكل من قال بذلك قال إنما هي رؤية الله تعالى فدل ذلك على أن المراد من هذه الزيادة الرؤية ومما يؤكد هذا وجهان الأول أنه تعالى قال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 22 23 ) فأثبت لأهل الجنة أمرين أحدهما نضرة الوجوه والثاني النظر إلى الله تعالى وآيات القرآن يفسر بعضها بعضاً فوجب حمل الحسنى ههنا على نضرة الوجوه وحمل الزيادة على رؤية الله تعالى الثاني أنه تعالى قال لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ( الإنسان 20 ) أثبت له النعيم ورأية الملك الكبير فوجب ههنا حمل الحسنى والزيادة على هذين الأمرين
القول الثاني أنه لا يجوز حمل هذه الزيادة على الرؤية قالت المعتزلة ويدل على ذلك وجوه الأول أن الدلائل العقلية دلت على أن رؤية الله تعالى ممتنعة والثاني أن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ورؤية الله تعالى ليست من جنس نعيم الجنة الثالث أن الخبر الذي تمسكتم به في هذا الباب هو ما روي أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى وهذا الخبر يوجب التشبيه لأن النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي وذلك يقتضي كون المرئي في الجهة لأن الوجه اسم للعضو المخصوص وذلك أيضاً يوجب التشبيه فثبت أن هذا اللفظ لا يمكن حمله على الرؤية فوجب حمله على شيء آخر وعند هذا قال الجبائي الحسنى عبارة عن الثواب المستحق والزيادة هي ما يزيده الله تعالى على هذا الثواب من التفضل قال والذي يدل على صحته القرآن وأقوال المفسرين
أما القرآن فقوله تعالى لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ ( فاطر 30 )
وأما أقوال المفسرين فنقل عن علي رضي الله عنه أنه قال الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة وعن ابن عباس أن الحسنى هي الحسنة والزيادة عشر أمثالها وعن الحسن عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وعن مجاهد الزيادة مغفرة الله ورضوانه ورضوانه وعن يزيد بن سمرة الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة(17/63)
فتقول ما تريدون أن أمطركم فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم أجاب أصحابنا عن هذه الوجوه فقالوا أما قولكم إن الدلائل العقلية دلت على امتناع رؤية الله تعالى فهذا ممنوع لأنا بينا في كتب الأصول أن تلك الدلائل في غاية الضعف ونهاية السخافة وإذا لم يوجد في العقل ما يمنع من رؤية الله تعالى وجاءت الأخبار الصحيحة بإثبات الرؤية وجب إجراؤها على ظواهرها أما قوله الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه فنقول المزيد عليه إذا كان مقدراً بمقدار معين وجب أن تكون الزيادة عليه مخالفة له
مثال الأول قول الرجل لغيره أعطيتك عشرة أمداد من الحنطة وزيادة فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة من الحنطة
ومثال الثاني قوله أعطيتك الحنطة وزيادة فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة غير الحنطة والمذكور في هذه الآية لفظ الْحُسْنَى وهي الجنة وهي مطلقة غير مقدرة بقدر معين فوجب أن تكون تلك الزيادة عليها شيئاً مغايراً لكل ما في الجنة وأما قوله الخبر المذكور في هذا الباب اشتمل على لفظ النظر وعلى إثبات الوجه لله تعالى وكلاهما يوجبان التشبيه فنقول هذا الخبر أفاد إثبات الرؤية وأفاد إثبات الجسمية ثم قام الدليل على أنه ليس بجسم ولم يقم الدليل على امتناع رأيته فوجب ترك العمل بما قام الدليل على فساده فقط وأيضاً فقد بينا أن لفظ هذه الآية يدل على أن الزيادة هي الرؤية من غير حاجة تنافي تقرير ذلك الخبر والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما شرح ما يحصل لأهل الجنة من السعادات شرح بعد ذلك الآفات التي صانهم الله بفضله عنها فقال وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّة ٌ والمعنى لا يغشاها قتر وهي غبرة فيها سواد وَلاَ ذِلَّة ٌ ولا أثر هوان ولا كسوف
فالصفة الأولى هي قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ ( عبس 40 )
والصفة الثانية هي قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَة ٌ عَامِلَة ٌ نَّاصِبَة ٌ ( الغاشية 2 3 ) والغرض من نفي هاتين الصفتين نفي أسباب الخوف والحزن والذل عنهم ليعلم أن نعيمهم الذي ذكره الله تعالى خالص غير مشوب بالمكروهات وإنه لا يجوز عليهم ما إذا حصل غير صفحة الوجه ويزيل ما فيها من النضارة والطلاقة ثم بين أنهم خالدون في الجنة لا يخافون الانقطاع
واعلم أن علماء الأصول قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم فقوله وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السَّلَامِ ( يونس 25 ) يدل على غاية التعظيم وقوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ يدل على حصول المنفعة وقوله وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّة ٌ يدل على كونها خالصة وقوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع والله أعلم
وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَة ٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(17/64)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه كما شرح حال المسلمين في الآية المتقدمة شرح حال من أقدم على السيئات في هذه الآية وذكر تعالى من أحوالهم أموراً أربعة أولها قوله جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا والمقصود من هذا القيد التنبيه على الفرق بين الحسنات وبين السيئات لأنه تعالى ذكر في أعمال البر أنه يوصل إلى المشتغلين بها الثواب مع الزيادة وأما في عمل السيئات فإنه تعالى ذكر أنه لا يجازي إلا بالمثل والفرق هو أن الزيادة على الثواب تكون تفضلاً وذلك حسن ويكون فيه تأكيد للترغيب في الطاعة وأما الزيادة على قدر الاستحقاق في عمل السيئات فهو ظلم ولو فعله لبطل الوعد والوعيد والترهيب والتحذير لأن الثقة بذلك إنما تحصل إذا ثبتت حكمته ولو فعل الظلم لبطلت حكمته تعالى الله عن ذلك هكذا قرره القاضي تفريعاً على مذهبه وثانيها قوله وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ وذلك كناية عن الهوان والتحقير واعلم أن الكمال محبوب لذاته والنقصان مكروه لذاته فالإنسان الناقص إذا مات بقيت روحه ناقصة خالية عن الكمالات فيكون شعوره بكونه ناقصاً سبباً لحصول الذلة والمهانة والخزي والنكال وثالثها قوله مَّا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ واعلم أنه لا عاصم من الله لا في الدنيا ولا في الآخرة فإن قضاءه محيط بجميع الكائنات وقدره نافذ في كل المحدثات إلا أن الغالب على الطباع العاصية أنهم في الحياة العاجلة مشتغلون بأعمالهم ومراداتهم أما بعد الموت فكل أحد يقر بأنه ليس له من الله من عاصم ورابعها قوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ والمراد من هذا الكلام إثبات ما نفاه عن السعداء حيث قال وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّة ٌ ( يونس 26 )
واعلم أن حكماء الإسلام قالوا المراد من هذا السواد المذكور ههنا سواد الجهل وظلمة الضلالة فإن العلم طبعه طبع النور والجهل طبعه طبع الظلمة فقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ المراد منه نور العلم وروحه وبشره وبشارته وقوله وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة
المسألة الثانية قوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ فيه وجهان أحدهما أن يكون معطوفاً على قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ( آل عمران 172 ) كأنه قيل للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها والثاني أن يكون التقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها على معنى أن جزاءهم أن يجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها وهذا يدل على أن حكم الله في حق المحسنين ليس إلا بالفضل وفي حق المسيئين ليس إلا بالعدل
المسألة الثالثة قال بعضهم المراد بقوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ الكفار واحتجوا عليه بأن سواد الوجه من علامات الكفر بدليل قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ( آل عمران 106 ) وكذلك قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ولأنه تعالى قال بعد هذه الآية وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ( الأنعام 22 ) والضمير في قوله هُمْ عائد إلى هؤلاء ثم إنه تعالى وصفهم(17/65)
بالشرك وذلك يدل على أن هؤلاء هم الكفار ولأن العلم نور وسلطان العلوم والمعارف هو معرفة الله تعالى فكل قلب حصل فيه معرفة الله تعالى لم يحصل فيه الظلمة أصلاً وكان الشبلي رحمة الله تعالى عليه يتمثل بهذا ويقول كل بيت أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الناس بالحجج
وقال القاضي إن قوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ عام يتناول الكافر والفاسق إلا أنا نقول الصيغة وإن كانت عامة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تخصصه
المسألة الرابعة قال الفراء في قوله جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا وجهان الأول أن يكون التقدير فلهم جزاء السيئة بمثلها كما قال فَفِدْيَة ٌ مّن صِيَامٍ ( البقرة 196 ) أي فعليه والثاني أن يعلق الجزاء بالباء في قوله بِمِثْلِهَا قال ابن الأنباري وعلى هذا التقدير الثاني فلا بد من عائد الموصول والتقدير فجزاء سيئة منهم بمثلها
أما قوله وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ فهو معطوف على يجازي لأن قوله جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا تقديره يجازي سيئة بمثلها وقرىء وَلاَ ذِلَّة ٌ بالياء
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أُغْشِيَتْ أي ألبست وُجُوهُهُمْ قِطَعًا قرأ ابن كثير والكسائي قِطَعًا بسكون الطاء وقرأ الباقون بفتح الطاء والقطع بسكون القطعة وهي البعض ومنه قوله تعالى قَالُواْ يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ ( هود 81 ) أي قطعة وأما قطع بفتح الطاء فهو جمع قطعة ومعنى الآية وصف وجوههم بالسواد حتى كأنها ألبست سواداً من الليل كقوله تعالى تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) وكقوله فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ( آل عمران 106 ) وكقوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ( الرحمن 41 ) وتلك العلامة هي سواد الوجه وزرقة العين
المسألة الثانية قوله مُظْلِماً قال الفراء والزجاج هو نعت لقوله قِطَعًا وقال أبو علي الفارسي ويجوز أن يجعل حالاً كأنه قيل أغشيت وجوههم قطعاً من الليل في حال ظلمته
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ(17/66)
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا نوع آخر من شرح فضائح أولئك الكفار فالضمير في قوله وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ عائد إلى المذكور السابق وذلك هو قوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ ( يونس 27 ) فلما وصف الله هؤلاء الذين يحشرهم بالشرك والكفر دل على أن المراد من قوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ الكفار وحاصل الكلام أنه تعالى يحشر العابد والمعبود ثم إن المعبود يتبرأ من العابد ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته والمقصود منه أن القوم كانوا يقولون هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 180 ) فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار بل يتبرؤن منهم وذلك يدل على نهاية الخزي والنكال في حق هؤلاء الكفار ونظيره آيات منها قوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ( البقرة 166 ) ومنها قوله تعالى ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَة ِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ( سبأ 40 41 )
واعلم أن هذا الكلام يشير على سبيل الرمز إلى دقيقة عقلية وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته والممكن لذاته محتاج بحسب ماهيته والشيء الواحد يمتنع أن يكون قابلاً وفاعلاً معاً فما سوى الواحد لأحد الحق لا تأثير له في الإيجاد والتكوين فالممكن المحدث لا يليق به أن يكون معبوداً لغيره بل المعبود الحق ليس إلا الموجد الحق وذلك ليس إلا الموجود الحق الذي هو واجب الوجود لذاته فبراءة المعبود من العابدين يحتمل أن يكون المراد منه ما ذكرناه والله أعلم بمراده
المسألة الثانية الْحَشْرِ الجمع من كل جانب إلى موقف واحد و جَمِيعاً نصب على الحال أي نحشر الكل حال اجتماعهم و مَكَانَكُمْ منصوب بإضمار الزموا والتقدير الزموا مكانكم و أَنتُمْ تأكيد للضمير وَشُرَكَاؤُكُمْ عطف عليه واعلم أن قوله مَكَانَكُمْ كلمة مختصة بالتهديد والوعيد والمراد أنه تعالى يقول للعابدين والمعبودين مكانكم أي الزموا مكانكم حتى تسألوا ونظيره قوله تعالى احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( الصافات 22 24 )
أما قوله وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ففيه بحثان
البحث الأول أن هذه الكلمة جاءت على لفظ المضي بعد قوله ثُمَّ نَقُولُ وهو منتظر والسبب فيه أن الذي حكم الله فيه بأن سيكون صار كالكائن الراهن الآن ونظيره قوله تعالى وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 44 )
البحث الثاني زيلنا فرقنا وميزنا قال الفراء قوله فَزَيَّلْنَا ليس من أزلت إنما هو من زلت إذا فرقت تقول العرب زلت الضأن من المعز فلم تزل أي ميزتها فلم تتميز ثم قال الواحدي فالزيل والتزييل والمزايلة والتمييز والتفريق قال الواحدي وقرىء لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وهو مثل فَزَيَّلْنَا وحكى الواحدي عن ابن قتيبة أنه قال في هذه الآية هو من زال يزول وأزلته أنا ثم حكى عن الأزهري أنه قال هذا غلط لأنه لم يميز بين زال يزول وبين زال يزيل وبينهما بون بعيد والقول ما قاله الفراء ثم قال المفسرون فَزَيَّلْنَا أي فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة والأصنام وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا(17/67)
وأما قوله وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ففيه مباحث
البحث الأول إنما أضاف الشركاء إليهم لوجوه الأول أنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام فصيروها شركاء لأنفسهم في تلك الأموال فلهذا قال تعالى وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ الثاني أنه يكفي في الإضافة أدنى تعلق فلما كان الكفار هم الذين أثبتوا هذه الشركة لا جرم حسنت إضافة الشركاء إليهم الثالث أنه تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله مَكَانَكُمْ صاروا شركاء في هذا الخطاب
البحث الثاني اختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء فقال بعضهم هم الملائكة واستشهدوا بقوله تعالى يَوْمٍ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَة ِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) ومنهم من قال بل هي الأصنام والدليل عليه أن هذا الخطاب مشتمل على التهديد والوعيد وذلك لا يليق بالملائكة المقربين ثم اختلفوا في أن هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام فقال بعضهم إن الله تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق فيها فلا جرم قدرت على ذكر هذا الكلام وقال آخرون إنه تعالى يخلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى يسمع منها ذلك الكلام وهو ضعيف لأن ظاهر قوله وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هم الشركاء
فإن قيل إذا أحياهم الله تعالى فهل يبقيهم أو يفنيهم
قلنا الكل محتمل ولا اعتراض على الله في شيء من أفعاله وأحوال القيامة غير معلومة إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن
والقول الثالث إن المراد بهؤلاء الشركاء كل من عبد من دون الله تعالى من صنم وشمس وقمر وأنسي وجني وملك
البحث الثالث هذا الخطاب لا شك أنه تهديد في حق العابدين فهل يكون تهديداً في حق المعبودين أما المعتزلة فإنهم قطعوا بأن ذلك لا يجوز قالوا لأنه لا ذنب للمعبود ومن لا ذنب له فإنه يقبح من الله تعالى أن يوجه التخويف والتهديد والوعيد إليه وأما أصحابنا فإنهم قالوا إنه تعالى لا يسئل عما يفعل
البحث الرابع أن الشركاء قالوا مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ وهم كانوا قد عبدوهم فكان هذا كذباً وقد ذكرنا في سورة الأنعام اختلاف الناس في أن أهل القيامة هل يكذبون أم لا وقد تقدمت هذه المسألة على الاستقصاء والذي نذكره ههنا أن منهم من قال إن المراد من قولهم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ هو أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا قالوا والدليل على أن المراد ما ذكرناه وجهان الأول أنهم استشهدوا بالله في ذلك حيث قالوا فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ والثاني أنهم قالوا إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ فأثبتوا لهم عبادة إلا أنهم زعموا أنهم كانوا غافلين عن تلك العبادة وقد صدقوا في ذلك لأن من أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور ألبتة ومن الناس من أجرى الآية على ظاهرها وقالوا إن الشركاء أخبروا أن الكفار ما عبدوها ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة فذلك الكذب يكون جارياً مجرى كذب الصبيان ومجرى كذب(17/68)
المجانين والمدهوشين والثاني أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم ولهذا المعنى قالوا إنهم ما عبدونا والثالث أنهم تخيلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة فهم في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات ولما كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات فهم ما عبدوها وإنما عبدوا أموراً تخيلوها ولا وجود لها في الأعيان وتلك الصفات التي تخيلوها في أصنامهم أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله بغير إذنه
هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
واعلم أن هذه الآية كالتتمة لما قبلها وقوله هُنَالِكَ معناه في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو يكون المراد في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان وفي قوله تَبْلُواْ مباحث
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي تَتْلُواْ بتاءين وقرأ عاصم تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ بالنون ونصب كل والباقون تَبْلُواْ بالتاء والباء أما قراءة حمزة والكسائي فلها وجهان الأول أن يكون معنى قوله تَتْلُواْ أي تتبع ما أسلفت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة وإلى طريق النار الثاني أن يكون المعنى أن كل نفس تقرأ ما في صحيفتها من خير أو شر ومنه قوله تعالى اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ( الإسراء 14 ) وقال فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كِتَابَهُمْ ( الإسراء 71 ) وأما قراءة عاصم فمعناها أن الله تعالى يقول في ذلك الوقت نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل والمعنى أنا نعرف حالها بمعرفة حال عملها إن كان حسناً فهي سعيدة وإن كان قبيحاً فهي شقية والمعنى نفعل بها فعل المختبر كقوله تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( الملك 2 ) وأما القراءة المشهورة فمعناها أن كل نفس نختبر أعمالها في ذلك الوقت
البحث الثاني الابتلاء عبارة عن الاختبار قال تعالى وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ ( الأعراف 168 ) ويقال البلاء ثم الابتلاء أي الاختبار ينبغي أن يكون قبل الابتلاء
ولقائل أن يقول إن في ذلك الوقت تنكشف نتائج الأعمال وتظهر آثار الأفعال فكيف يجوز تسمية حدوث العلم بالابتلاء
وجوابه أن الابتلاء سبب لحدوث العلم وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور
وأما قوله وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ فاعلم أن الرد عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه وههنا فيه احتمالات الأول أن يكون المراد من قوله وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ أي وردوا إلى حيث لا حكم إلا لله على ما تقدم من نظائره والثاني أن يكون المراد وَرُدُّواْ إلى ما يظهر لهم من الله من ثواب وعقاب منبهاً بذلك على أن حكم الله بالثواب والعقاب لا يتغير الثالث أن يكون المراد من قوله وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ أي جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلهيته بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله تعالى ولذلك قال(17/69)
مَوْلَاهُمُ الْحَقّ أعني أعرضوا عن المولى الباطل ورجعوا إلى المولى الحق
وأما قوله مَوْلَاهُمُ الْحَقّ فقد مر تفسيره في سورة الأنعام
وأما قوله وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فالمراد أنهم كانوا يدعون فيما يعبدونه أنهم شفعاء وأن عبادتهم مقربة إلى الله تعالى فنبه تعالى على أن ذلك يزول في الآخرة ويعلمون أن ذلك باطل وافتراء واختلاق
قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والاٌّ بْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَى ِّ وَمَن يُدَبِّرُ الاٌّ مْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل الدالة على فساد هذا المذهب
فالحجة الأولى ما ذكره في هذه الآية وهو أحوال الرزق وأحوال الحواس وأحوال الموت والحياة أما الرزق فإنه إنما يحصل من السماء والأرض أما من السماء فبنزول الأمطار الموافقة وأما من الأرض فلأن الغذاء إما أن يكون نباتاً أو حيواناً أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض وأما الحيوان فهو محتاج أيضاً إلى الغذاء ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيواناً آخر وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال فثبت أن أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات وثبت أن تولد النبات من الأرض فلزم القطع بأن الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض ومعلوم أن مدبر السموات والأرضين ليس إلا الله سبحانه وتعالى فثبت أن الرزق ليس إلا من الله تعالى وأما أحوال الحواس فكذلك لأن أشرفها السمع والبصر وكان علي رضي الله عنه يقول سبحان من بصر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم وأما أحوال الموت والحياة فهو قوله وَمَن يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَى ّ وفيه وجهان الأول أنه يخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَى ّ أي يخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر والثاني أن المراد منه أنه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن والأكثرون على القول الأول وهو إلى الحقيقة أقرب ثم إنه تعالى لما ذكر هذا التفصيل ذكر بعده كلاماً كلياً وهو قوله وَمَن يُدَبّرُ الاْمْرَ وذلك لأن أقسام تدبير الله تعالى في العالم العلوي وفي العالم السفلي وفي عالمي الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها وذكر كلها كالمتعذر فلما ذكر بعض تلك التفاصيل لا جرم عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بين تعالى أن الرسول عليه السلام إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون إنه الله سبحانه(17/70)
وتعالى وهذا يدل على أن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام إنها تقربنا إلى الله زلفى وإنهم شفعاؤنا عند الله وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر فعند ذلك قال لرسوله عليه السلام فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ يعني أفلا تتقون أن تجعلوا هذه الأوثان شركاء لله في المعبودية مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل من رحمة الله وإحسانه واعترافكم بأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر ألبتة
ثم قال تعالى فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ ومعناه أن من هذه قدرته ورحمته هو رَبُّكُمُ الْحَقُّ الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه وإذا ثبت أن هذا هو الحق وجب أن يكون ما سواه ضلالاً لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين فإذا كان أحدهما حقاً وجب أن يكون ما سواه باطلاً
ثم قال فَأَنَّى تُصْرَفُونَ والمعنى أنكم لما عرفتم هذا الأمر الواضح الظاهر فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وكيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر واعلم أن الجبائي قد استدل بهذه الآية وقال هذا يدل على بطلان قول المجبرة أنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يقول فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كما لا يقول إذا أعمى بصر أحدهم إني عميت واعلم أن الجواب عنه سيأتي عن قريب
أما قوله كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء الله تعالى وإرادته وتقريره أنه تعالى أخبر عنهم خبراً جزماً قطعاً أنهم لا يؤمنون فلو آمنوا لكان إما أن يبقى ذلك الخبر صدقاً أو لا يبقى والأول باطل لأن الخبر بأنه لا يؤمن يمتنع أن يبقى صدقاً حال ما يوجد الإيمان منه والثاني أيضاً باطل لأن انقلاب خبر الله تعالى كذباً محال فثبت أن صدور الإيمان منهم محال والمحال لا يكون مراداً فثبت أنه تعالى ما أراد الإيمان من هذا الكافر وأنه أراد الكفر منه ثم نقول إن كان قوله فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يدل على صحة مذهب القدرية فهذه الآية الموضوعة بجنبه تدل على فساده وقد كان من الواجب على الجبائي مع قوة خاطره حين استدل بتلك الآية على صحة قوله أن يذكر هذه الحجة ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر كَلِمَاتُ رَبَّكَ على الجمع وبعده إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبَّكَ ( يونس 96 ) وفي حم المؤمن كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ ( غافر 6 ) كله بالألف على الجمع والباقون كَلِمَتُ رَبّكَ في جميع ذلك على لفظ الوحدان
المسألة الثالثة الكاف في قوله كَذالِكَ للتشبيه وفيه قولان الأول أنه كما ثبت وحق أنه ليس بعد الحق إلا الضلال كذلك حقت كلمة ربك بأنهم لا يؤمنون الثاني كما حق صدور العصيان منهم كذلك حقت كلمة العذاب عليهم
المسألة الرابعة أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بدل من كَلِمَاتُ أي حق عليهم انتفاء الإيمان
المسألة الخامسة المراد من كلمة الله إما إخباره عن ذلك وخبره صدق لا يقبل التغير والزوال أو علمه بذلك وعلمه لا يقبل التغير والجهل وقال بعض المحققين علم الله تعلق بأنه لا يؤمن وخبره(17/71)
تعالى تعلق بأنه لا يؤمن وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر فيه وإرادته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر فيه وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ وأشهد عليه ملائكته وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء فينقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وقدرته عجزاً وإرادته كرهاً وإشهاده باطلاً وإخبار الملائكة والأنبياء كذباً وكل ذلك محال
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
اعلم أن هذا هو الحجة الثانية وتقريرها ما شرح الله تعالى في سائر الآيات من كيفية ابتداء تخليق الإنسان من النطفة والعلقة والمضغة وكيفية إعادته ومن كيفية ابتداء تخليق السموات والأرض فلما فصل هذه المقامات لا جرم اكتفى تعالى بذكرها ههنا على سبيل الإجمال وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام
والجواب أن الكلام إذا كان ظاهراً جلياً ثم ذكر على سبيل الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤول كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب
السؤال الثاني القوم كانوا منكرين الإعادة والحشر والنشر فكيف احتج عليهم بذلك
والجواب أنه تعالى قدم في هذه السورة ذكر ما يدل عليه وهو وجوب التمييز بين المحسن وبين المسيء وهذه الدلالة ظاهرة قوية لا يتمكن العاقل من دفعها فلأجل كمال قوتها وظهورها تمسك به سواء ساعد الخصم عليه أو لم يساعد
السؤال الثالث لم أمر رسوله بأن يعترف بذلك والإلزام إنما يحصل لو اعترف الخصم به
والجواب أن الدليل لما كان ظاهراً جلياً فإذا أورد على الخصم في معرض الاستفهام ثم إنه بنفسه يقول الأمر كذلك كان هذا تنبيهاً على أن هذا الكلام بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به وأنه سواء أقر أو أنكر فالأمر متقرر ظاهر
أما قوله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فالمراد التعجب منهم في الذهاب عن هذا الأمر الواضح الذي دعاهم الهوى والتقليد أو الشبهة الضعيفة إلى مخالفته لأن الإخبار عن كون الأوثان آلهة كذب وإفك والاشتغال بعبادتها مع أنها لا تستحق هذه العبادة يشبه الإفك
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(17/72)
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الحجة الثالثة واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً ثم بالهداية ثانياً عادة مطردة في القرآن فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) وعن موسى عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وأمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقال سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ( الأعلى 1 3 ) وهو في الحقيقة دليل شريف لأن الإنسان له جسد وله روح فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية فههنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله أَم مَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( النمل 64 ) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية
واعلم أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح كما قال تعالى وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالافْئِدَة َ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( الحل 78 ) وهذا كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد وإنما أعطى الحواس لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم وأيضاً فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية فإنها كمالات باقية أبد الآباد مصونة عن الكون والفساد فعلمنا أن الخلق تبع للهداية والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية
إذا ثبت هذا فنقول العقول مضطربة والحق صعب والأفكار مختلطة ولم يسلم من الغلط إلا الأقلون فوجب أن الهداية وإدراك الحق لا يكون إلا بإعانة الله سبحانه وتعالى وهدايته وإرشاده ولصعوبة هذا الأمر قال الكليم عليه السلام بعد استماع الكلام القديم رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ( طه 25 ) وكل الخلق يطلبون الهداية ويحترزون عن الضلالة مع أن الأكثرين وقعوا في الضلالة وكل ذلك يدل على أن حصول الهداية والعلم والمعرفة ليس إلا من الله تعالى
إذا عرفت هذا فنقول الهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق وإما أن تكون عبارة عن تحصيل تلك المعرفة وعلى التقديرين فقد دللنا على أنها أشرف المراتب البشرية وأعلى السعادات الحقيقية ودللنا على أنها ليست إلا من الله تعالى وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق ولا في الإرشاد إلى الصدق فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك وإذا كان كذلك كان الاشتغال بعبادتها جهلاً محضاً وسفهاً صرفاً فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال
المسألة الثانية قال الزجاج يقال هديت إلى الحق وهديت للحق بمعنى واحد والله تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ(17/73)
المسألة الثالثة في قوله أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّى ست قراءات الأول قرأ ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع يَهْدِى بفتح الياء والهاء وتشديد الدال وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم لأن أصله يهتدي أدغمت التاء في الدال ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء الثانية قرأ نافع ساكنة الهاء مشددة الدال أدغمت التاء في الدال وتركت الهاء على حالها فجمع في قراءته بين ساكنين كما جمعوا في يَخِصّمُونَ ( يس 49 ) قال علي بن عيسى وهو غلط على نافع الثالثة قرأ أبو عمرو بالإشارة إلى فتحة الهاء من غير إشباع فهو بين الفتح والجزم مختلسة على أصل مذهبه اختياراً للتخفيف وذكر علي بن عيسى أنه الصحيح من قراءة نافع الرابعة قرأ عاصم بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال فراراً من التقاء الساكنين والجزم يحرك بالكسر الخامسة قرأ حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء أتبع الكسرة للكسرة وقيل هو لغة من قرأ نَسْتَعِينُ السادسة قرأ حمزة والكسائي مَّن يَهْدِى ساكنة الهاء وبتخفيف الدال على معنى يهتدي والعرب تقول يهدي بمعنى يهتدي يقال هديته فهدى أي اهتدى
المسألة الرابعة في لفظ الآية إشكال وهو أن المراد من الشركاء في هذه الآية الأصنام وأنها جمادات لا تقبل الهداية فقوله أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يَهْدِى لا يليق بها
والجواب من وجوه الأول لا يبعد أن يكون المراد من قوله قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ هو الأصنام والمراد من قوله قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ رؤساء الكفر والضلالة والدعاة إليها والدليل عليه قوله سبحانه اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ إلى قوله لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( التوبة 31 ) والمراد أن الله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الدين الحق بواسطة ما أظهر من الدلائل العقلية والنقلية وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله تعالى فكان التمسك بدين الله تعالى أولى من قبول قول هؤلاء الجهال
الوجه الثاني في الجواب أن يقال إن القوم لما اتخذوها آلهة لا جرم عبر عنها كما يعبر عمن يعلم ويعقل ألا ترى أنه تعالى قال إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ( الأعراف 194 ) مع أنها جمادات وقال إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ ( فاطر 14 ) فأجرى اللفظ على الأوثان على حسب ما يجري على من يعقل ويعلم فكذا ههنا وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل وإن لم يكن الأمر كذلك الثالث أنا نحمل ذلك على التقدير يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي فإنها لا تهدي غيرها إلا بعد أن يهديها غيرها وإذا حملنا الكلام على هذا التقدير فقد زال السؤال الرابع أن البنية عندنا ليست شرطاً لصحة الحياة والعقل فتلك الأصنام حال كونها خشباً وحجراً قابلة للحياة والعقل وعلى هذا التقدير فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة ثم إنها تشتغل بهداية الغير الخامس أن الهدى عبارة عن النقل والحركة يقال هديت المرأة إلى زوجها هدى إذا نقلت إليه والهدي ما يهدى إلى الحرم من النعم وسميت الهدية هدية لانتقالها من رجل إلى غيره وجاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه وتمايله
إذا ثبت هذا فنقول قوله أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يَهْدِى يحتمل أن يكون معناه أنه لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه وعلى هذا التقدير فالمراد الإشارة إلى كون هذه الأصنام جمادات خالية عن الحياة(17/74)
والقدرة واعلم أنه تعالى لما قرر على الكفار هذه الحجة الظاهرة قال فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ يعجب من مذهبهم الفاسد ومقالتهم الباطلة أرباب العقول
ثم قال تعالى وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا وفيه وجهان الأول وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظناً لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم الثاني وما يتبع أكثرهم في قولهم الأصنام آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن والقول الأول أقوى لأنا في القول الثاني نحتاج إلى أن نفسر الأكثر بالكل
ثم قال تعالى إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا العمل بالقياس عمل بالظن فوجب أن لا يجوز لقوله تعالى إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا
أجاب مثبتو القياس فقالوا الدليل الذي دل على وجوب العمل بالقياس دليل قاطع فكان وجوب العمل بالقياس معلوماً فلم يكن العمل بالقياس مظنوناً بل كان معلوماً
أجاب المستدل عن هذا السؤال فقال لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله تعالى لكان ترك العمل به كفراً لقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) ولما لم يكن كذلك بطل العمل به وقد يعدون عن هذه الحجة بأنهم قالوا الحكم المستفاد من القياس إما أن يعلم كونه حكماً لله تعالى أو يظن أو لا يعلم ولا يظن والأول باطل وإلا لكان من لم يحكم به كافراً لقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) وبالاتفاق ليس كذلك والثاني باطل لأن العمل بالظن لا يجوز لقوله تعالى إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا والثالث باطل لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوماً ولا مظنوناً كان مجرد التشهي فكان باطلاً لقوله تعالى فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواة َ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ ( مريم 59 )
وأجاب مثبتو القياس بأن حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسك بالعمومات والتمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن فلما كانت هذه العمومات دالة على المنع من التمسك بالظن لزم كونها دالة على المنع من التمسك بها وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكاً
المسألة الثانية دلت هذه الآية على أن كل من كان ظاناً في مسائل الأصول وما كان قاطعاً فإنه لا يكون مؤمناً
فإن قيل فقول أهل السنة أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر
قلنا هذا ضعيف من وجوه الأول مذهب الشافعي رحمه الله أن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل والشك أصل في أن هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية الثاني أن الغرض من قوله إن شاء الله بقاء الإيمان عند الخاتمة الثالث الغرض منه هضم النفس وكسرها والله أعلم(17/75)
وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الظَّالِمِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا حين شرعنا في تفسير قوله تعالى وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ ( بونس 20 ) ذكرنا أن القوم إنما ذكروا ذلك لاعتقادهم أن القرآن ليس بمعجز وأن محمداً إنما يأتي به من عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق ثم إنه تعالى ذكر الجوابات الكثيرة عن هذا الكلام وامتدت تلك البيانات على الترتيب الذي شرحناه وفصلناه إلى هذا الموضع ثم إنه تعالى بين في هذا المقام أن إتيان محمد عليه السلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى ولكنه وحي نازل عليه من عند الله ثم إنه تعالى احتج على صحة هذا الكلام بقوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ وذلك يدل على أنه معجز نازل عليه من عند الله تعالى وأنه مبرأ عن الافتراء والافتعال فهذا هو الترتيب الصحيح في نظم هذه الآيات
المسألة الثانية قوله تعالى وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْءانُ أَن يُفْتَرَى فيه وجهان الأول أن قوله أَن يُفْتَرَى في تقدير المصدر والمعنى وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله كما تقول ما كان هذا الكلام إلا كذباً والثاني أن يقال إن كلمة ءانٍ جاءت ههنا بمعنى اللام والتقدير ما كان هذا القرآن ليفترى من دون الله كقوله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً ( التوبة 122 ) مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ( آل عمران 179 ) أي لم يكن ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك فكذلك ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى أي ليس وصفه وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر والقرآن معجز لا يقدر عليه البشر والافتراء افتعال من فريت الأديم إذا قدرته للقطع ثم استعمل في الكذب كما استعمل قولهم اختلف فلان هذا الحديث في الكذب فصار حاصل هذا الكلام أن هذا القرآن لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل ثم إنه تعالى احتج على هذه الدعوى بأمور
الحجة الأولى قوله وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وتقرير هذه الحجة من وجوه أحدها أن محمداً عليه السلام كان رجلاً أمياً ما سافر إلى بلدة لأجل التعلم وما كانت مكة بلدة العلماء وما كان فيها(17/76)
شيء من كتب العلم ثم إنه عليه السلام أتى بها القرآن فكان هذا القرآن مشتملاً على أقاصيص الأولين والقوم كانوا في غاية العداوة له فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التوراة والإنجيل لقدحوا فيه ولبالغوا في الطعن فيه ولقالوا له إنك جئت بهذه الأقاصيص لا كما ينبغي فلما لم يقل أحد ذلك مع شدة حرصهم على الطعن فيه وعلى تقبيح صورته علمنا أنه أتى بتلك الأقاصيص مطابقة لما في التوراة والإنجيل مع أنه ما طالعهما ولا تلمذ لأحد فيهما وذلك يدل على أنه عليه السلام إنما أخبر عن هذه الأشياء بوحي من قبل الله تعالى
الحجة الثانية أن كتب الله المنزلة دلت على مقدم محمد عليه السلام على ما استقصينا في تقريره في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وإذا كان الأمر كذلك كان مجيء محمد عليه السلام تصديقاً لما في تلك الكتب من البشارة بمجيئه ( صلى الله عليه وسلم ) فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه
الحجة الثالثة أنه عليه السلام أخبر في القرآن عن الغيوب الكثيرة في المستقبل ووقعت مطابقة لذلك الخبر كقوله تعالى الم غُلِبَتِ الرُّومُ ( الروم 1 2 ) الآية وكقوله تعالى لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ ( الفتح 27 ) وكقوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ ( النور 55 ) وذلك يدل على أن الإخبار عن هذه الغيوب المستقبلة إنما حصل بالوحي من الله تعالى فكان ذلك عبارة عن تصديق الذي بين يديه فالوجهان الأولان إخبار عن الغيوب الماضية والوجه الثالث إخبار عن الغيوب المستقبلة ومجموعها عبارة عن تصديق الذي بين يديه
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَتَفْصِيلَ كُلّ شَى ْء
واعلم أن الناس اختلفوا في أن القرآن معجز من أي الوجوه فقال بعضهم إنه معجز لاشتماله على الإخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة وهذا هو المراد من قوله تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ ومنهم من قال إنه معجز لاشتماله على العلوم الكثيرة وإليه الإشارة بقوله وَتَفْصِيلَ كُلّ شَى ْء وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلوم إما أن تكون دينية أو ليست دينية ولا شك أن القسم الأول أرفع حالاً وأعظم شأناً وأكمل درجة من القسم الثاني وأما العلوم الدينية فإما أن تكون علم العقائد والأديان وإما أن تكون علم الأعمال أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أما معرفة الله تعالى فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله ومعرفة صفات إكرامه ومعرفة أفعاله ومعرفة أحكامه ومعرفة أسمائه والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب بل لا يقرب منه شيء من المصنفات وأما علم الأعمال فهو إما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر وهو علم الفقه ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن وإما أن يكون علماً بتصفية الباطن أو رياضة القلوب وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يكاد يوجد في غيره كقوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) وقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى ( النمل 90 ) فثبت أن القرآن مشتمل على تفاصيل جميع العلوم الشريفة عقليها ونقليها اشتمالاً يمتنع حصوله في سائر الكتب(17/77)
فكان ذلك معجزاً وإليه الإشارة بقوله وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ
أما قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ فتقريره أن الكتاب الطويل المشتمل على هذه العلوم الكثيرة لا بد وأن يشتمل على نوع من أنواع التناقض وحيث خلي هذا الكتاب عنه علمنا أنه من عند الله وبوحيه وتنزيله ونظيره قوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 )
واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول هذه الآية أن هذا القرآن لا يليق بحاله وصفته أن يكون كلاماً مفترى على الله تعالى وأقام عليه هذين النوعين من الدلائل المذكورة عاد مرة أخرى بلفظ الاستفهام على سبيل الإنكار فقال أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ثم إنه تعالى ذكر حجة أخرى على إبطال هذا القول فقال قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وهذه الحجة بالغنا في تقريرها في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ ( البقرة 23 ) وههنا سؤالات
السؤال الأول لم قال في سورة البقرة مّن مّثْلِهِ وقال ههنا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ
والجواب أن محمداً عليه السلام كان رجلاً أمياً لم يتلمذ لأحد ولم يطالع كتاباً فقال في سورة البقرة فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ يعني فليأت إنسان يساوي محمداً عليه السلام في عدم التلمذ وعدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة وحيث ظهر العجز ظهر المعجز فهذا لا يدل على أن السورة في نفسها معجزة ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد عليه السلام في عدم التلمذ والتعلم معجز ثم إنه تعالى بين في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجز فإن الخلق وإن تلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا فإنه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور فلا جرم قال تعالى في هذه الآية فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ ولا شك أن هذا ترتيب عجيب في باب التحدي وإظهار المعجز
السؤال الثاني قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ هل يتناول جميع السور الصغار والكبار أو يختص بالسور الكبار
الجواب هذه الآية في سورة يونس وهي مكية فالمراد مثل هذه السورة لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه
السؤال الثالث أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن القرآن مخلوق قالوا إنه عليه السلام تحدى العرب بالقرآن والمراد من التحدي أنه طلب منهم الإتيان بمثله فإذا عجزوا عنه ظهر كونه حجة من عند الله على صدقه وهذا إنما يمكن لو كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ولو كان قديماً لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر فوجب أن لا يصح التحدي
والجواب أن القرآن اسم يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله تعالى وعلى هذه الحروف والأصوات ولا نزاع في أن الكلمات المركبة من هذه الحروف والأصوات محدثة مخلوقة والتحدي إنما وقع بها لا بالصفة القديمة(17/78)
أما قوله وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فالمراد منه تعليم أنه كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة لو كانوا قادرين عليها وتقريره أن الجماعة إذا تعاونت وتعاضدت صارت تلك العقول الكثيرة كالعقل الواحد فإذا توجهوا نحو شيء واحد قدر مجموعهم على ما يعجز كل واحد منهم فكأنه تعالى يقول هب أن عقل الواحد والاثنين منكم لا يفي باستخراج معارضة القرآن فاجتمعوا وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة فإذا عرفتم عجزكم حالة الاجتماع وحالة الانفراد عن هذه المعارضة فحينئذ يظهر أن تعذر هذه المعارضة إنما كان لأن قدرة البشر غير وافية بها فحينئذ يظهر أن ذلك فعل الله لا فعل البشر
واعلم أنه قد ظهر بهذا الذي قررناه أن مراتب تحدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالقرآن ستة فأولها أنه تحداهم بكل القرآن كما قال قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 ) وثانيها أنه عليه السلام تحداهم بعشر سور قال تعالى فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وثالثها أنه تحداهم بسورة واحدة كما قال فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( الطور 34 ) ورابعها أنه تحداهم بحديث مثله فقال فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ وخامسها أن في تلك المراتب الأربعة كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في عدم التلمذ والتعلم ثم في سورة يونس طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان سواء تعلم العلوم أو لم يتعلمها وسادسها أن في المراتب المتقدمة تحدى كل واحد من الخلق وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة كما قال وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وههنا آخر المراتب فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أن القرآن معجز ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا القرآن فقال بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِيهِمُ تَأْوِيلِهِ واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوهاً
الوجه الأول أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها فأولها بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ونقل أهله من العز إلى الذل ومن الذل إلى العز وذلك يدل على قدرة كاملة وثانيها أنها تدل على العبرة من حيث إن الإنسان يعرف بها أن الدنيا لا تبقى فنهاية كل متحرك سكون وغاية كل متكون أن لا يكون فيرفع قلبه عن حب الدنيا وتقوى رغبته في طلب الآخرة كما قال لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 ) وثالثها أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ دل ذلك على أنه بوحي من الله تعالى كما قال في سورة الشعراء بعد أن ذكر القصص وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( الشعراء 192 194 )
والوجه الثاني أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم بالقرآن وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ( آل عمران 7 )
والوجه الثالث أنهم رأوا أن القرآن يظهر شيئاً فشيئاً فصار ذلك سبباً للطعن الرديء فقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة فأجاب الله تعالى عنه بقوله كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( الفرقان 32 ) وقد شرحنا هذا الجواب في سورة الفرقان(17/79)
والوجه الرابع أن القرآن مملوء من إثبات الحشر والنشر والقوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ولم يتقرر ذلك في قلوبهم فظنوا أن محمداً عليه السلام إنما يذكر ذلك على سبيل الكذب والله تعالى بين صحة القول بالمعاد بالدلائل القاهرة الكثيرة
الوجه الخامس أن القرآن مملوء من الأمر بالصلاة والزكاة وسائر العبادات والقوم كانوا يقولون إله العالمين غني عنا وعن طاعتنا وإنه تعالى أجل من أن يأمر بشيء لا فائدة فيه فأجاب الله تعالى عنه بقوله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون 115 ) وبقوله إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) وبالجملة فشبهات الكفار كثيرة فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ولم يطلعوا على وجه الحكمة فيها لا جرم كذبوا بالقرآن والحاصل أن القوم ما كانوا يعرفون أسرار الإلهيات وكانوا يجرون الأمور على الأحوال المألوفة من عالم المحسوسات وما كانوا يطلبون حكمها ولا وجوه تأويلاتها فلا جرم وقعوا في التكذيب والجهل فقوله بَلْ كَذَّبُواْ لَّمّاً لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء وقوله وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ إشارة إلى عدم جدهم واجتهادهم في طلب تلك الأسرار
ثم قال فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الظَّالِمِينَ والمراد أنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم ومن الناس من قال المراد منه عذاب الاستئصال وهو الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الرسل من ضروب العذاب في الدنيا قال أهل التحقيق قوله وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل على التأويل فيصير ذلك نوراً على نور يهدي الله لنوره من يشاء
وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِي ئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الظَّالِمِينَ وكان المراد منه تسليط العذاب عليهم في الدنيا أتبعه بقوله وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ منبهاً على أن الصلاح عنده تعالى كان في هذه الطائفة التبقية دون الاستئصال من حيث كان المعلوم أن منهم من يؤمن به والأقرب أن يكون الضمير في قوله بِهِ رجعاً إلى القرآن لأنه هو المذكور من قبل ثم يعلم أنه متى حصل الإيمان بالقرآن فقد حصل معه الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً واختلفوا في قوله وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ لأن كلمة يؤمن فعل مستقبل وهو يصلح للحال والاستقبال فمنهم من حمله على الحال وقال المراد أن منهم من يؤمن بالقرآن باطناً لكنه يتعمد الجحد وإظهار التكذيب ومنهم من باطنه كظاهره في التكذيب ويدخل فيه أصحاب الشبهات وأصحاب التقليد ومنهم(17/80)
من قال المراد هو المستقبل يعني أن منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الفكر ويبدله بالإيمان ومنهم من بصر ويستمر على الكفر
ثم قال وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي هو العالم بأحوالهم في أنه هل يبقى مصراً على الكفر أو يرجع عنه
ثم قال وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ قيل فقل لي عملي الطاعة والإيمان ولكم عملكم الشرك وقيل لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم
ثم قال أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ قيل معنى الآية الزجر والردع وقيل بل معناه استمالة قلوبهم قال مقاتل والكلبي هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد لأن شرط الناسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخ ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب وذلك لا يقتضي حرمة القتال فآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية فكان القول بالنسخ باطلاً
وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْى َ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى في الآية الأولى قسم الكفار إلى قسمين منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وفي هذه الآية قسم من لا يؤمن به قسمين منهم من يكون في غاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه ومنهم من لا يكون كذلك فوصف القسم الأول في هذه الآية فقال ومنهم من يستمع كلامك مع أنه يكون كالأصم من حيث إنه لا ينتفع ألبتة بذلك الكلام فإن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر وعظمت نفرته عنه صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابح كلامه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه فالصمم في الأذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت فكذلك حصول هذا البغض الشديد كالمنافي للوقوف على محاسن ذلك الكلام والعمى في العين معنى ينافي حصول إدراك الصورة فكذلك البغض ينافي وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه والوقوف على ما آتاه الله تعالى من الفضائل فبين تعالى أن في أولئك الكفار من بلغت حالته في البغض والعداوة إلى هذا الحد ثم كما أنه لا يمكن جعل الأصم سميعاً ولا جعل الأعمى بصيراً فكذلك لا يمكن جعل العدو البالغ في العداوة إلى هذا الحد صديقاً تابعاً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذه الطائفة قد بلغوا في مرض العقل إلى حيث لا يقبلون العلاج والطبيب إدا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أعرض عنه ولم يستوحش من عدم قبوله للعلاج فكذلك وجب عليك أن لا تستوحش من حال هؤلاء الكفار(17/81)
المسألة الثانية احتج ابن قتيبة بهذه الآية على أن السمع أفضل من البصر فقال إن الله تعالى قرن بذهاب السمع ذهاب العقل ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر وزيف ابن الأنباري هذا الدليل فقال إن الذي نفاه الله مع السمع بمنزلة الذي نفاه الله مع البصر لأنه تعالى أراد إبصار القلوب ولم يرد إبصار العيون والذي يبصره القلب هو الذي يعقله واحتج ابن قتيبة على هذا المطلوب بحجة أخرى من القرآن فقال كلما ذكر الله السمع والبصر فإنه في الأغلب يقدم السمع على البصر وذلك يدل على أن السمع أفضل من البصر ومن الناس من ذكر في هذا الباب دلائل أخرى فأحدها أن العمى قد وقع في حق الأنبياء عليهم السلام أما الصمم فغير جائز عليهم لأنه يخل بأداء الرسالة من حيث إنه إذا لم يسمع كلام السائلين تعذر عليه الجواب فيعجز عن تبليغ شرائع الله تعالى
الحجة الثانية أن القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلا من جهة واحدة وهي المقابل
الحجة الثالثة أن الإنسان إنما يستفيد العلم بالتعلم من الأستاذ وذلك لا يمكن إلا بقوة السمع فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع ولا يتوقف على قوة البصر فكان السمع أفضل من البصر
الحجة الرابعة أنه تعالى قال إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ والمراد من القلب ههنا العقل فجعل السمع قريناً للعقل ويتأكد هذا بقوله تعالى وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( الملك 10 ) فجلوا السمع سبباً للخلاص من عذاب السعير
الحجة الخامسة أن المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق والكلام وإنما ينتفع بذلك القوة السامعة فمتعلق السمع النطق الذي به حصل شرف الإنسان ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر
الحجة السادسة أن الأنبياء عليهم السلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم فنبوتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأصوات المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع وبيان الأحكام فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئي فلزم أن يكون السمع أفضل من البصر فهذا جملة ما تمسك به القائلون بأن السمع أفضل من البصر ومن الناس من قال البصر أفضل من السمع ويدل عليه وجوه
الحجة الأولى أنهم قالوا في المثل المشهور ليس وراء العيان بيان وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الأبصار
الحجة الثانية أن آلة القوة الباصرة هو النور وآلة القوة السامعة هي الهواء والنور أشرف من الهواء فالقوة الباصرة أشرف من القوة السامعة(17/82)
الحجة الثالثة أن عجائب حكمة الله تعالى في تخليق العين التي هي محل الأبصار أكثر من عجائب خلقته في الأذن التي هي محل السماع فإنه تعالى جعل تمام روح واحد من الأرواح السبعة الدماغية من العصب آلة للأبصار وركب العين من سبع طبقات وثلاث رطوبات وخلق لتحريكات العين عضلات كثيرة على صورة مختلفة والأذن ليس كذلك وكثرة العناية في تخليق الشيء تدل على كونه أفضل من غيره
الحجة الرابعة أن البصر يرى ماحصل فوق سبع سموات والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ فكان البصر أقوى وأفضل وبهذا البيان يدفع قولهم إن السمع يدرك من كل الجوانب والبصر لا يدرك إلا من الجانب الواحد
الحجة الخامسة أن كثيراً من الأنبياء سمع كلام الله في الدنيا واختلفوا في أنه هل رآه أحد في الدنيا أم لا وأيضاً فإن موسى عليه السلام سمع كلامه من غير سبق سؤال والتماس ولما سأل الرؤية قال لَن تَرَانِى ( الأعراف 143 ) وذلك يدل على أن حال الرؤية أعلى من حال السماع
الحجة السادسة قال ابن الأنباري كيف يكون السمع أفضل من البصر وبالبصر يحصل جمال الوجه وبذهابه عيبه وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً العرب تسمي العينين الكريمتين ولا تصف السمع بمثل هذا ومنه الحديث يقول الله تعالى ( من أذهبت كريمته فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة )
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى قالوا الآية دالة على أن قلوب أولئك الكفار بالنسبة إلى الإيمان كالأصم بالنسبة إلى استماع الكلام وكالأعمى بالنسبة إلى إبصار الأشياء وكما أن هذا ممتنع فكذلك ما نحن فيه قالوا والذي يقوي ذلك أن حصول العداوة القوية الشديدة وكذلك حصول المحبة الشديدة في القلب ليس باختيار الإنسان لأن عند حصول هذه العداوة الشديدة يجد وجداناً ضرورياً أن القلب يصير كالأصم والأعمى في استماع كلام العدو وفي مطالعة أفعاله الحسنة وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل المطلوب وأيضاً لما حكم الله تعالى عليها حكماً جازماً بعدم الإيمان فحينئذ يلزم من حصول الإيمان انقلاب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وذلك محال وأما المعتزلة فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وجه الاستدلال به أنه يدل على أنه تعالى ما ألجأ أحداً إلى هذه القبائح والمنكرات ولكنهم باختيار أنفسهم يقدمون عليها ويباشرونها
أجاب الواحدي عنه فقال إنه تعالى إنما نفى الظلم عن نفسه لأنه يتصرف في ملك نفسه ومن كان كذلك لم يكن ظالماً وإنما قال وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَة ً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ(17/83)
اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الكفار بقلة الإصغاء وترك التدبر أتبعه بالوعيد فقال وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَة ً مّنَ النَّهَارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حفص عن عاصم يَحْشُرُهُمْ بالياء والباقون بالنون
المسألة الثانية قوله كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ في موضع الحال أي مشابهين من لم يلبث إلا ساعة من النهار وقوله يَتَعَارَفُونَ يجوز أن يكون متعلقاً بيوم نحشرهم ويجوز أن يكون حالاً بعد حال
المسألة الثالثة كَانَ هذه هي المحففة من الثقيلة التقدير كأنهم لم يلبثوا فخففت كقوله وكأن قد
المسألة الرابعة قيل كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار وقيل في قبورهم والقرآن وارد بهذين الوجهين قال تعالى كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( المؤمنون 112 113 ) قال القاضي والوجه الأول أولى لوجهين أحدهما أن حال المؤمنين كحال الكافرين في أنهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلى وقت الحشر فيجب أن يحمل ذلك على أمر يختص بالكفار وهو أنهم لما لم ينتفعوا بعمرهم استقلوه والمؤمن لما انتفع بعمره فإنه لا يستقله الثاني أنه قال يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ لأن التعارف إنما يضاف إلى حال الحياة لا إلى حال الممات
المسألة الخامسة ذكروا في سبب هذا الاستقلال وجوهاً الأول قال أبو مسلم لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على لذاتها لم ينتفعوا بعمرهم ألبتة فكان وجود ذلك العمر كالعدم فلهذا السبب استقلوه ونظيره قوله تعالى وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ( البقرة 96 ) الثاني قال الأصم قل ذلك عندهم لما شاهدوا من أهوال الآخرة والأنسان إذا عظم خوفه نسي الأمور الظاهرة الثالث أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة وفي العذاب المؤبد الرابع أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا لطول وقوفهم في الحشر الخامس المراد أنهم عند خروجهم من القبور يتعارفون كما كانوا يتعارفون في الدنيا وكأنهم لم يتعارفوا بسبب الموت إلا مدة قليلة لا تؤثر في ذلك التعارف وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن عذاب الكافر مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإهانة والإذلال والإحساس بالمضرة أقوى من الإحساس باللذة بدليل أن أقوى اللذات هي لذات الوقاع والشعور بأم القولنج وغيره والعياذ بالله تعالى أقوى من الشعور بلذة الوقاع وأيضاً لذات الدنيا مع خساستها ما كانت خالصة بل كانت مخلوطة بالهمومات الكثيرة وكانت تلك اللذات مغلوبة بالمؤلمات والآفات وأيضاً إن لذات الدنيا ما حصلت إلا بعض أوقات الحياة الدنيوية وآلام الآخرة أبدية سرمدية لا تنقطع ألبتة ونسبة عمر جميع الدنيا إلى الآخرة الأبدية أقل من الجزء الذي لا يتجزأ بالنسبة إلى ألف ألف عالم مثل العالم الموجود
إذا عرفت هذا فنقول أنه متى قوبلت الخيرات الحاصلة بسبب الحياة العاجلة بالآفات الحاصلة(17/84)
للكافر وجدت أقل من اللذة بالنسبة إلى جميع العالم فقوله كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَة ً مّنَ النَّهَارِ إشارة إلى ما ذكرناه من قلتها وحقارتها في جنب ما حصل من العذاب الشديد
أما قوله يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ففيه وجوه الأول يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا يعرفون في الدنيا الثاني يعرف بعضهم بعضاً بما كانوا عليه من الخطأ والكفر ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب وتبرأ بعضهم من بعض
فإن قيل كيف توافق هذه الآية قوله وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( المعارج 10 ) والجواب عنه من وجهين
الوجه الأول أن المراد من هذه الآية أنهم يتعارفون بينهم يوبخ بعضهم بعضاً فيقول كل فريق للآخر أنت أضللتني يوم كذا وزينت لي الفعل الفلاني من القبائح فهذا تعارف تقبيح وتعنيف وتباعد وتقاطع لا تعارف عطف وشفقة وأما قوله تعالى وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً فالمراد سؤال الرحمة والعطف
والوجه الثاني في الجواب حمل هاتين الآيتين على حالتين وهو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة فلذلك لا يسأل حميم حميماً
أما قوله تعالى قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ ففيه وجهان الأول أن يكون التقدير ويوم يحشرهم حال كونهم متعارفين وحال كونهم قائلين قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ الثاني أن يكون قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ كلام الله فيكون هذا شهادة من الله عليهم بالخسران والمعنى أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني
وأما قوله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ فالمراد أنهم ما اهتدوا إلى رعاية مصالح هذه التجارة وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة فصاروا كمن رأى زجاجة حسنة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب وأما قوله وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فاعلم أن قوله فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ وجواب نُرِيَنَّكَ محذوف والتقدير وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك أو نتوفينك قبل أن نرينك ذلك الموعد فإنك ستراه في الآخرة
واعلم أن هذا يدل على أنه تعالى يُري رسوله أنواعاً من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا وسيزيد عليه بعد وفاته ولا شك أنه حصل الكثير منه في زمان حياة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحصل الكثير أيضاً بعد وفاته والذي سيحصل يوم القيامة أكثر وهو تنبيه على أن عاقبة المحقين محمودة وعاقبة المذنبين مذمومة
وَلِكُلِّ أُمَّة ٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع قومه بين أن حال كل الأنبياء مع أقوامهم كذلك وفي(17/85)
الآية مسائل
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أن كل جماعة ممن تقدم قد بعث الله إليهم رسولاً والله تعالى ما أهمل أمة من الأمم قط ويتأكد هذا بقوله تعالى وَإِن مّنْ أُمَّة ٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ( فاطر 24 )
فإن قيل كيف يصح هذا مع ما يعلمه من أحوال الفترة ومع قوله سبحانه لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ ( يس 6 )
قلنا الدليل الذي ذكرناه لا يوجب أن يكون الرسول حاضراً مع القوم لأن تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسولاً إليهم كما لا يمنع تقدم رسولنا من كونه مبعوثاً إلينا إلى آخر الأبد وتحمل الفترة على ضعف دعوة الأنبياء ووقوع موجبات التخليط فيها
المسألة الثانية في الكلام إضمار والتقدير فإذا جاء رسولهم وبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون قضى بينهم أي حكم وفصل
المسألة الثالثة المراد من الآية أحد أمرين إما بيان أن الرسول إذا بعث إلى كل أمة فإنه بالتبليغ وإقامة الحجة يزيح كل علة فلا يبقى لهم عذر في مخالفته أو تكذيبه فيدل ذلك على أن ما يجري عليهم من العذاب في الآخرة يكون عدلاً ولا يكون ظلماً لأنهم من قبل أنفسهم وقعوا في ذلك العقاب أو يكون المراد أن القوم إذا اجتمعوا في الآخرة جمع الله بينهم وبين رسولهم في وقت المحاسبة وبأن الفصل بين المطيع والعاصي ليشهد عليهم بما شاهد منهم وليقع منهم الاعتراف بأنه بلغ رسالات ربه فيكون ذلك من جملة ما يؤكد الله به الزجر في الدنيا كالمساءلة وإنطاق الجوارح والشهادة عليهم بأعمالهم والموازين وغيرها وتمام التقرير على هذا الوجه الثاني أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الله شهيد عليهم فكأنه تعالى يقول أنا شهيد عليهم وعلى أعمالهم يوم القيامة ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة مع كل قوم رسولهم حتى يشهد عليهم بتلك الأعمال والمراد منه المبالغة في إظهار العدل
واعلم أن دليل القول الأول هو قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسراء 15 ) وقوله رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) وقوله وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ( طه 134 ) ودليل القول الثاني قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا إلى قوله وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) وقوله وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ رَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً ( الفرقان 30 ) وقوله تعالى قُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ فالتكرير لأجل التأكيد والمبالغة في نفي الظلم
وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّة ٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(17/86)
اعلم أن هذه الشبهة الخامسة من شبهات منكري النبوة فإنه عليه السلام كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين واحتجوا بعدم ظهوره على القدح في نوبته عليه السلام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أن قوله تعالى وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ كالدليل على أن المراد مما تقدم من قوله قُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ( يونس 147 ) القضاء بذلك في الدنيا لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في الدار الآخرة لأن الحال في الآخرة حال يقين ومعرفة لحصول كل وعد ووعيد وإلا ظهر أنهم إنما قالوا ذلك على وجه التكذيب للرسول عليه السلام فيما أخبرهم من نزول العذاب للأعداء والنصرة للأولياء أو على وجه الاستبعاد لكونه محقاً في ذلك الإخبار ويدل هذا القول على أن كل أمة قالت لرسولها مثل ذلك القول بدليل قوله إِن كُنتُمْ وذلك لفظ جمع وهو موافق لقوله يَفْعَلُونَ وَلِكُلّ أُمَّة ٍ رَّسُولٌ ( يونس 47 ) ثم إنه تعالى أمره بأن يجيب عن هذه الشبهة بجواب يحسم المادة وهو قوله قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصرة للأولياء لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه وأنه تعالى ما عين لذلك الوعد والوعيد وقتاً معيناً حتى يقال لما لم يحصل ذلك الموعود في ذلك الوقت دل على حصول الخلف فكان تعيين الوقت مفوضاً إلى الله سبحانه إما بحسب مشيئته وإلهيته عند من لا يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح وإما بحسب المصلحة المقدرة عند من يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه ويمتنع عليه التقدم والتأخر
المسألة الثانية المعتزلة احتجوا بقوله قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ فقالوا هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملمصالح ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه ويمتنع عليه التقدم والتأخر
المسألة الثانية المعتزلة احتجوا بقوله قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ فقالوا هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملوله إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ يدل على أن أحداً لا يموت إلا بانقضاء أجله وكذلك المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه وهذه مسألة طويلة وقد ذكرناها في هذا الكتاب في مواضع كثيرة
المسألة الخامسة أنه تعالى قال ههنا إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ فقوله إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ شرط وقوله فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ جزاء والفاء حرف الجزاء فوجب إدخاله على الجزاء كما في هذه الآية وهذه الآية تدل على أن الجزاء يحصل مع حصول الشرط لا متأخراً عنه وأن حرف الفاء لا يدل على التراخي وإنما يدل على كونه جزاء
إذا ثبت هذا فنقول إذا قال الرجل لامرأة أجنبية إن نكحتك فأنت طالق قال الشافعي رضي الله عنه لا يصح هذا التعليق وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يصح والدليل على أنه لا يصح أن هذه الآية دلت على(17/87)
أن الجزاء إنما يحصل حال حصول الشرط فلو صح هذا التعليق لوجب أن يحصل الطلاق مقارناً للنكاح لما ثبت أن الجزاء يجب حصوله مع حصول الشرط وذلك يوجب الجمع بين الضدين ولما كان هذا اللازم باطلاً وجب أن لا يصح هذا التعليق
قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنْتُمْ بِهِ ءَآأنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن قولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وفيه مسائل
المسألة الأولى حاصل الجواب أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب بتقدير أن يحصل هذا المطلوب وينزل هذا العذاب ما الفائدة لكم فيه فإن قلتم نؤمن عنده فذلك باطل لأن الإيمان في ذلك الوقت إيمان حاصل في وقت الإلجاء والقسر وذلك لا يفيد نفعاً ألبتة فثبت أن هذا الذي تطلبونه لو حصل لم يحصل منه إلا العذاب في الدنيا ثم يحصل عقيبه يوم القيامة عذاب آخر أشد منه وهو أنه يقال للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد ثم يقرن بذلك العذاب كلام يدل على الإهانة والتحقير وهو أنه تعالى يقول هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ فحاصل هذا الجواب أن هذا الذي تطلبونه هو محض الضرر العاري عن جهات النفع والعاقل لا يفعل ذلك
المسألة الثانية قوله بَيَاتًا أي ليلاً يقال بت ليلتي أفعل كذا والسبب فيه أن الإنسان في الليل يكون ظاهراً في البيت فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل والبيات مصدر مثل التبييت كالوداع والسراح ويقال في النهار ظللت أفعل كذا لأن الإنسان في النهار يكون ظاهراً في الظل وانتصب بياتاً على الظرف أي وقت بيات وكلمة مَاذَا فيها وجهان أحدهما أن يكون ماذا اسماً واحداً ويكون منصوب المحل كما لو قال ماذا أراد الله ويجوز أن يكون ذا بمعنى الذي فيكون ماذا كلمتين ومحل ما الرفع على الابتداء وخبره ذا وهو بمعنى الذي فيكون معناه ما الذي يستعجل منه المجرمون ومعناه أي شيء الذي يستعجل من العذاب المجرمون
واعلم أن قوله إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا شرط
وجوابه قوله ماذا يستعجل منه المجرمون وهو كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني يعني إن حصل هذا المطلوب فأي مقصود تستعجلونه منه
وأما قوله أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ فاعلم أن دخول حرف الاستفهام على ثم كدخوله على الواو والفاء في قوله أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ( الأعراف 98 ) أَفَأَمِنَ ( الأعراف 97 ) وهو يفيد التقريع والتوبيخ ثم أخبر(17/88)
تعالى أن ذلك الإيمان غير واقع لهم بل يعيرون ويوبخون يقال آلآن تؤمنون وترجون الانتفاع بالإيمان مع أنكم كنتم قبل ذلك به تستعجلون على سبيل السخرية والاستهزاء وقرىء الئَانَ بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام
وأما قوله ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ فهو عطف عى الفعل المضمر قبل الئَانَ والتقدير قيل آلان وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد
وأما قوله تعالى هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ففيه ثلاث مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أينما ذكر العقاب والعذاب ذكر هذه العلة كأن سائلاً يسأل وهو يقول يا رب العزة أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا التشديد والوعيد فهو تعالى يقول ( أنا ما عالمته بهذه المعاملة ابتداء بل هذا وصل إليه جزاء على عمله الباطل ) وذلك يدل على أن جانب الرحمة راجح غالب وجانب العذاب مرجوح مغلوب
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن الجزاء يوجب العمل أما عند الفلاسفة فهو أثر العمل لأن العمل الصالح يوجب تنوير القلب وإشراقه إيجاب العلة معلولها وأما عند المعتزلة فلأن العمل الصالح يوجب استحقاق الثواب على الله تعالى وأما عند أهل السنة فلأن ذلك الجزاء واجب بحكم الوعد المحض
المسألة الثالثة الآية تدل على كون العبد مكتسباً خلافاً للجبرية وعندنا أن كونه مكتسباً معناه أن مجموع القدرة مع الداعية الخالصة يوجب الفعل والمسألة الطويلة معروفة بدلائلها
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَة َ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
اعلم أنه سبحانه أخبر عن الكفار بقوله وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
وأجاب عنه بما تقدم فحكى عنهم أنهم رجعوا إلى الرسول مرة أخرى في عين هذه الواقعة وسألوه عن ذلك السؤال مرة أخرى وقالوا أحق هو واعلم أن هذا السؤال جهل محض من وجوه أولها أنه قد تقدم هذا السؤال مع الجواب فلا يكون في الإعادة فائدة وثانيها أنه تقدم ذكر الدلالة العقلية على كون محمد رسولاً من عند الله وهو بيان كون القرآن معجزاً وإذا صحت نبوته لزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه فهذه المعاني توجب الإعراض عنهم وترك الالتفات إلى سؤالهم واختلفوا في الضمير في قوله أَحَقٌّ هُوَ قيل أحق ما جئتنا به من القرآن والنبوة والشرائع وقيل ما تعدنا من البعث والقيامة وقيل ما تعدنا من نزول العذاب علينا في الدنيا(17/89)
ثم إنه تعالى أمره أن يجيبهم بقوله قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ والفائدة فيه أمور أحدها أن يستمليهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء وأكده بالقسم فقد أخرجه عن الهزل وأدخله في باب الجد وثانيها أن الناس طبقات فمنهم من لا يقر بالشيء إلا بالبرهان الحقيقي ومنهم من لا ينتفع بالبرهان الحقيقي بل ينتفع بالأشياء الإقناعية نحو القسم فإن الأعرابي الذي جاء الرسول عليه السلام وسأل عن نبوته ورسالته اكتفى في تحقيق تلك الدعوى بالقسم فكذا ههنا
ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ولا بد فيه من تقدير محذوف فيكون المراد وما أنتم بمعجزين لمن وعدكم بالعذاب أن ينزله عليكم والغرض منه التنبيه على أن أحداً لا يجوز أن يمانع ربه ويدافعه عما أراد وقضى ثم إنه تعالى بين أن هذا الجنس من الكلمات إنما يجوز عليهم ما داموا في الدنيا فأما إذا حضروا محفل القيامة وعاينوا قهر الله تعالى وآثار عظمته تركوا ذلك واشتغلوا بأشياء أخرى ثم إنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء أولها قوله وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الاْرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ إلا أن ذلك متعذر لأنه في محفل القيامة لا يملك شيئاً كما قال تعالى وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَرْداً ( مريم 95 ) وبتقدير أن يملك خزائن الأرض لا ينفعه الفداء لقوله تعالى وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( البقرة 48 ) وقال في صفة هذا اليوم لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ ( البقرة 254 ) وثانيها قوله وَأَسَرُّواْ النَّدَامَة َ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ
واعلم أن قوله وَأَسَرُّواْ النَّدَامَة َ جاء على لفظ الماضي والقيامة من الأمور المستقبلة إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع جعل الله مستقبلها كالماضي واعلم أن الإسرار هو الإخفاء والإظهار وهو من الأضداد أما ورود هذه اللفظة بمعنى الإخفاء فظاهر وأما ورودها بمعنى الإظهار فهو من قولهم سر الشيء وأسره إذا أظهره
إذا عرفت هذا فنقول من الناس من قال المراد منه إخفاء تلك الندامة والسبب في هذا الإخفاء وجوه الأول أنهم لما رأوا العذاب الشديد صاروا مبهوتين متحيرين فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً سوى إسرار الندم كالحال فيمن يذهب به ليصلب فإنه يبقى مبهوتاً متخيراً لا ينطق بكلمة الثاني أنهم أسروا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم
فإن قيل إن مهاية ذلك الموقف تمنع الإنسان عن هذا التدبير فكيف قدموا عليه
قلنا إن هذا الكتمان إنما يحصل قبل الاحتراق بالنار فإذا احترقوا تركوا هذا الإخفاء وأظهروه بدليل قوله تعالى قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ( المؤمنون 106 ) الثالث أنهم أسروا تلك الندامة لأنهم اخلصوا لله في تلك الندامة ومن أخلص في الدعاء أسره وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم يعني أنهم لما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته ولم ينفعهم بل كان من الواجب عليهم أن يأتوا به في دار الدنيا وقت التكليف وأما من فسر الإسرار بالإظهار فقوله ظاهر لأنهم إنما أخفوا الندامة على الكفر والفسق في الدنيا لأجل حفظ الرياسة وفي القيامة بطل هذا الغرض فوجب الإظهار وثالثها قوله تعالى وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ فقيل بين المؤمنين والكافرين وقيل بين الرؤساء والأتباع وقيل بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم(17/90)
واعلم أن الكفار وإن اشتركوا في العذاب فإنه لا بد وأن يقضي الله تعالى بينهم لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضاً في الدنيا وخانه فيكون في ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب الباقين لأن العدل يقتضي أن ينتصف للمظلومين من الظالمين ولا سبيل إليه إلا بأن يخفف من عذاب المظلومين ويثقل في عذاب الظالمين
أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْى ِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
اعلم أن من الناس من قال إن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى قال قبل هذه الآية وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الاْرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ ( يونس 54 ) فلا جرم قال في هذه الآية ليس للظالم شيء يفتدى به فإن كل الأشياء ملك الله تعالى وملكه واعلم أن هذا التوجيه حسن أما الأحسن أن يقال إنا قد ذكرنا أن الناس على طبقات فمنهم من يكون انتفاعه بالإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات وإنما تعويلهم على الدلائل البينة والبراهين القاطعة فلما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا أحق هو أمر الرسول عليه السلام بأن يقول إِى وَرَبّى وهذا جار مجرى الإقناعيات فلما ذكر ذلك أتبعه بما هو البرهان القاطع على صحته وتقريره أن القول بالنبوة والقول بصحة المعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم وأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه فعبر عن هذا المعنى بقوله أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ولم يذكر الدليل على صحة هذه القضية لأنه تعالى قد استقصى في تقرير هذه الدلائل فيما سبق من هذه السورة وهو قوله إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( يونس 6 ) وقوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ( يونس 5 ) فلما تقدم ذكر هذه الدلائل القاهرة اكتفى بذكرها وذكر أن كل ما في العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور فهو ملكه وملكه ومتى كان الأمر كذلك كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات غنياً عن جميع الحاجات منزهاً عن النقائص والآفات فهو تعالى لكونه قادراً على جميع الممكنات يكون قادراً على إنزال العذاب على الأعداء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادراً على إيصال الرحمة إلى الأولياء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادراً على تأييد رسوله عليه السلام بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة ويكون قادراً على إعلاء شأن رسوله وإظهار دينه وتقوية شرعه ولما كان قادراً على كل ذلك فقد بطل الاستهزاء والتعجب ولما كان منزهاً عن النقائص والآفات كان منزهاً عن الخلف والكذب وكل ما وعد به فلا بد وأن يقع هذا إذا قلنا إنه تعالى لا يراعي مصالح العباد أما إذا قلنا إنه تعالى يراعيها فنقول الكذب إنما يصدر عن العاقل إما للعجز أو للجهل أو للحاجة ولما كان الحق سبحانه منزهاً عن الكل كان الكذب عليه محالاً فلما أخبر عن نزول العذاب بهؤلاء الكفار وبحصول الحشر والنشر وجب القطع بوقوعه فثبت بهذا(17/91)
البيان أن قوله تعالى أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مقدمة توجب الجزم بصحة قوله أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ثم قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ والمراد أنهم غافلون عن هذه الدلائل مغرورون بظواهر الأمور فلا جرم بقوا محرومين عن هذه المعارف ثم إنه أكد هذه الدلائل فقال هُوَ يُحْى ِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ والمراد أنه لما قدر على الإحياء في المرة الأولى فإذا أماته وجب أن يبقى قادراً على إحيائه في المرة الثانية فظهر بما ذكرنا أنه تعالى أمر رسوله بأن يقول إِى وَرَبّى ( يونس 53 ) ثم إنه تعالى أتبع ذلك الكلام بذكر هذه الدلائل القاهرة
واعلم أن في قوله أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ دقيقة أخرى وهي كلمة إِلا وذلك لأن هذه الكلمة إنما تذكر عند تنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين وأهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيقولون البستان للأمير والدار للوزير والغلام لزيد والجارية لعمرو فيضيفون كل شيء إلى مالك آخر والخلق لكونهم مستغرقين في نوم الجهل ورقدة الغفلة يظنون صحة تلك الإضافات فالحق نادى هؤلاء النائمين الغافلين بقوله أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وذلك لأنه لما ثبت بالعقل أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته وثبت أن الممكن مستند إلى الواجب لذاته إما ابتداء أو بواسطة فثبت أن ما سواه ملكه وملكه وإذا كان كذلك فليس لغيره في الحقيقة ملك فلما كان أكثر الخلق غافلين عن معرفة هذا المعنى غير عالمين به لا جرم أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يذكر هذا النداء لعل واحداً منهم يستيقظ من نوم الجهالة ورقدة الضلالة
ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَة ٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء عليهم السلام أمران الأول أن نقول إن هذا الشخص قد ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك فهو رسول من عند الله حقاً وصدقاً وهذا الطريق مما قد ذكره الله تعالى في هذه السورة وقرره على أحسن الوجوه في قوله وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْءانُ أَن يَفْتَرِى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( يوس 37 38 ) وقد ذكرنا في تفسير هذه الآية ما يقوي الدين ويورث اليقين ويزيل الشكوك والشبهات ويبطل الجهالات والضلالات
وأما الطريق الثاني فهو أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو فكل من جاء ودعا الخلق إليهم وحملهم عليه وكانت لنفسه قوة قوية في نقل الناس من الكفر إلى الإيمان ومن الاعتقاد الباطل إلى الاعتقاد الحق ومن الأعمال الداعية إلى الدنيا إلى الأعمال الداعية إلى الآخرة فهو النبي الحق الصادق(17/92)
المصدق وتقريره أن نفوس الخلق قد استولى عليها أنواع النقص والجهل وحب الدنيا ونحن نعلم بعقولنا أن سعادة الإنسان لا تحصل إلا بالاعتقاد الحق والعمل الصالح وحاصله يرجع إلى حرف واحد وهو أن كل ما قوى نفرتك عن الدنيا ورغبتك في الآخرة فهو العمل الصالح وكل ما كان بالضد من ذلك فهو العمل الباطل والمعصية وإذا كان الأمر كذلك كانوا محتاجين إلى إنسان كامل قوي النفس مشرق الروح علوي الطبيعة ويكون بحيث يقوى على نقل هؤلاء الناقصين من مقام النقصان إلى مقام الكمال وذلك هو النبي فالحاصل أن الناس أقسام ثلاثة الناقصون والكاملون الذين لا يقدرون على تكميل الناقصين والقسم الثالث هو الكامل الذي يقدر على تكميل الناقصين فالقسم الأول هو عامة الخلق والقسم الثاني هم الأولياء والقسم الثالث هم الأنبياء ولما كانت القدرة على نقل الناقصين من درجة النقصان إلى درجة الكمال مراتبها مختلفة ودرجاتها متفاوتة لا جرم كانت درجات الأنبياء في قوة النبوة مختلفة ولهذا السر قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل )
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إنه تعالى لما بين صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بطريق المعجزة ففي هذه الآية بين صحة نبوته بالطريق الثاني وهذا الطريق طريق كاشف عن حقيقة النبوة معرف لماهيتها فالاستدلال بالمعجز هو الذي يسميه المنطقيون برهان الآن وهذا الطريق هو الطريق الذي يسمونه برهان اللم وهو أشرف وأعلى وأكمل وأفضل
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف القرآن في هذه الآية بصفات أربعة أولها كونه موعظة من عند الله وثانيها كونه شفاء لما في الصدور وثالثها كونه هدى ورابعها كونه رحمة للمؤمنين ولا بد لكل واحد من هذه الصفات من فائدة مخصوصة فنقول إن الأرواح لما تعلقت بالأجساد كان ذلك التعلق بسبب عشق طبيعي وجب للروح على الجسد ثم إن جوهر الروح التذ بمشتهيات هذا العالم الجسداني وطيباته بواسطة الحواس الخمس وتمرن على ذلك وألف هذه الطريقة واعتادها ومن المعلوم أن نور العقل إنما يحصل في آخر الدرجة حيث قويت العلائق الحسية والحوادث الجسدانية فصار ذلك الاستغراق سبباً لحصول العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة في جوهر الروح وهذه الأحوال تجري مجرى الأمراض الشديدة لجوهر الروح فلا بد لها من طبيب حاذق فإن من وقع في المرض الشديد فإن لم يتفق له طبيب حاذق يعالجه بالعلاجات الصائبة مات لا محالة وإن اتفق أن صادفه مثل هذا الطبيب وكان هذا البدن قابلاً للعلاجات الصائبة فربما حصلت الصحة وزال السقم
إذا عرفت هذا فنقول إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان كالطبيب الحاذق وهذا القرآن عبارة عن مجموع أدويته التي بتركيبها تعالج القلوب المريضة ثم إن الطبيب إذا وصل إلى المريض فله معه مراتب أربعة
المرتبة الأولى أن ينهاه عن تناول ما لا ينبغي ويأمره بالاحتراز عن تلك الأشياء التي بسببها وقع في ذلك المرض وهذا هو الموعظة فإنه لا معنى للوعظ إلا الزجر عن كل ما يبعد عن رضوان الله تعالى والمنع عن كل ما يشغل القلب بغير الله
المرتبة الثانية الشفاء وهو أن يسقيه أدوية تزيل عن باطنه تلك الأخلاط الفاسدة الموجبة للمرض فكذلك الأنبياء عليهم السلام إذا منعوا الخلق عن فعل المحظورات صارت ظواهرهم مطهرة عن فعل ما لا(17/93)
ينبغي فحينئذ يأمرونهم بطهارة الباطن وذلك بالمجاهدة في إزالة الأخلاق الذميمة وتحصيل الأخلاق الحميدة وأوائلها ما ذكره الله تعالى في قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى ( النحل 90 ) وذلك لأنا ذكرنا أن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة جارية مجرى الأمراض فإذا زالت فقد حصل الشفاء للقلب وصار جوهر الروح مطهراً عن جميع النقوش المانعة عن مطالعة عالم الملكوت
والمرتبة الثالثة حصول الهدى وهذه المرتبة لا يمكن حصولها إلا بعد المرتبة الثانية لأن جوهر الروح الناطقة قابل للجلايا القدسية والأضواء الإلهية وفيض الرحمة عام غير منقطع على ما قال عليه الصلاة والسلام ( إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ) وأيضاً فالمنع إنما يكون إما للعجز أو للجهل أو للبخل والكل في حق الحق ممتنع فالمنع في حقه ممتنع فعلى هذا عدم حصول هذه الأضواء الروحانية إنما كان لأجل أن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة طبعها طبع الظلمة وعند قيام الظلمة يمتنع حصول النور فإذا زالت تلك الأحوال فقد زال العائق فلا بد وأن يقع ضوء عالم القدس في جوهر النفس القدسية ولا معنى لذلك الضوء إلا الهدى فعند هذه الحالة تصير هذه النفس بحيث قد انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت وأول هذه المرتبة هو قوله أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ ( الفجر 27 ) وأوسطها قوله تعالى فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( الذاريات 50 ) وآخرها قوله قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( الأنعام 91 ) ومجموعها قوله وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( هود 123 ) وسيجيء تفسير هذه الآيات في مواضعها بإذن الله تعالى وهذه المرتبة هي المراد بقوله سبحانه وَهَدَى
وأما المرتبة الرابعة فهي أن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم وذلك هو المراد بقوله وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وإنما خص المؤمنين بهذا المعنى لأن أرواح المعاندين لا تستضيء بأنوار أرواح الأنبياء عليهم السلام لأن الجسم القابل للنور عن قرص الشمس هو الذي يكون وجهه مقابلاً لوجه الشمس فإن لم تحصل هذه المقابلة لم يقع ضوء الشمس عليه فكذلك كل روح لما لم تتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين لم تنتفع بأنوارهم ولم يصل إليها آثار تلك الأرواح المطهرة المقدسة وكما أن الأجسام التي لا تكون مقابلة لقرص الشمس مختلفة الدرجات والمراتب في البعد عن هذه المقابلة ولا تزال تتزايد درجات هذا البعد حتى ينتهي ذلك الجسم إلى غاية بعده عن مقابلة قرص الشمس فلا جرم يبقى خالص الظلمة فكذلك تتفاوت مراتب النفوس في قبول هذه الأنوار عن أرواح الأنبياء ولا تزال تتزايد حتى تنتهي إلى النفس التي كملت ظلمتها وعظمت شقاوتها وانتهت في العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة إلى أقصى الغايات وأبعد النهايات فالحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة والهدى وهو إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة والرحمة وهي إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للناقصين وهي النبوة فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه(17/94)
الألفاظ القرآنية لا يمكن تأخير ما تقدم ذكره ولا تقديم ما تأخر ذكره ولما نبه الله تعالى في هذه الآية على هذه الأسرار العالية الآلهية قال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ والمقصود منه الإشارة إلى ما قرره حكماء الإسلام من أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية وقد سبق في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبالغة في تقرير هذا المعنى فلا فائدة في الإعادة انتهى
المسألة الثانية قوله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ وتقديره بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم يقول مرة أخرى فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ والتكرير للتأكيد وأيضاً قوله فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ يفيد الحصر يعني يجب أن لا يفرح الإنسان إلا بذلك واعلم أن هذا الكلام يدل على أمرين أحدهما أنه يجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية ويدل عليه وجوه الأول أن جماعة من المحققين قالوا لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به والثاني أن بتقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية لكنها معنوية من وجوه الأول أن التضرر بآلامها أقوى من الانتفاع بلذاتها ألا ترى أن أقوى اللذات الجسمانية لذة الوقاع ولا شك أن الالتذاذ بها أقل مرتبة من الاستضرار بألم القولنج وسائر الآلام القوية والثاني أن مداخل اللذات الجسمانية قليلة فإنه لا سبيل إلى تحصيل اللذات الجسمانية إلا بهذين الطريقين أعني لذة البطن والفرج وأما الآلام فإن كل جزء من أجزاء بدن الإنسان معه نوع آخر من الآلام ولكل نوع منها خاصية ليست للنوع الآخر والثالث أن اللذات الجسمانية لا تكون خالصة ألبتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره فلو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب النفس في مقدماتها وفي لواحقها لكفى الرابع أن اللذات الجسمانية لا تكون باقية فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من خوف فواتها أكثر وأشد ولذلك قال المعري إن حزنا في ساعة الموت أضعا
ف سرور في ساعة الميلاد
فمن المعلوم أن الفرح الحاصل عند حدوث الولد لا يعادل الحزن الحاصل عند موته الخامس أن اللذات الجسمانية حال حصولها تكون ممتنعة البقاء لأن لذة الأكل لا تبقى بحالها بل كما زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل ولا يمكن استبقاء تلك اللذة السادس أن اللذات الجسمانية التذاذ بأشياء خسيسة فإنها التذاذ بكيفيات حاصلة في أجسام رخوة سريعة الفساد مستعدة للتغير فأما اللذات الروحانية فإنها بالضد في جميع هذه الجهات فثبت أن الفرح باللذات الجسمانية فرح باطل وأما الفرح الكامل فهو الفرح بالروحانيات والجواهر المقدسة وعالم الجلال ونور الكبرياء
والبحث الثاني من مباحث هذه الآية أنه إذا حصلت اللذات الروحانية فإنه يجب على العاقل أن لا يفرح بها من حيث هي هي بل يجب أن يفرح بها من حيث إنها من الله تعالى وبفضل الله وبرحمته فلهذا السبب قال الصديقون من فرح بنعمة الله من حيث إنها تلك النعمة فهو مشرك أما من فرح بنعمة الله من حيث إنها من الله كان فرحه بالله وذلك هو غاية الكمال ونهاية السعادة فقوله سبحانه قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ يعني فليفرحوا بتلك النعم لا من حيث هي هي بل من حيث إنها بفضل الله وبرحمة الله فهذه أسرار عالية اشتملت عليها هذه الألفاظ التي ظهرت من عالم الوحي والتنزيل هذا ما تلخص عندنا في هذا الباب أما المفسرون فقالوا فضل الله الإسلام ورحمته القرآن وقال أبو سعيد(17/95)
الخدري فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله
المسألة الرابعة قرىء فلتفرحوا بالتاء قال الفراء وقد ذكر عن زيد بن ثابت أنه قرأ بالتاء وقال معناه فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار قال وقريب من هذه القراءة قراءة أبي فَبِذَلِكَ والأصل في الأمر للمخاطب والغائب اللام نحو لتقم يا زيد وليقم زيد وذلك لأن حكم الأمر في الصورتين واحد إلا أن العرب حذفوا اللام من فعل المأمور المخاطب لكثرة استعماله وحذفوا التاء أيضاً وأدخلوا ألف الوصل نحو اضرب واقتل ليقع الابتداء به وكان الكسائي يعيب قولهم فليفرحوا لأنه وجده قليلاً فجعله عيباً إلا أن ذلك هو الأصل وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في بعض المشاهد ( لتأخذوا مصافكم ) يريد به خذوا هذا كله كلام الفراء وقرىء تجمعون بالتاء ووجهه أنه تعالى عنى المخاطبين والغائبين إلا أنه غلب المخاطب على الغائب كما يغلب التذكير على التأنيث فكأنه أراد المؤمنين هكذا قاله أهل اللغة وفيه دقيقة عقلية وهو أن الإنسان حصل فيه معنى يدعوه إلى خدمة الله تعالى وإلى الاتصال بعالم الغيب ومعارج الروحانيات وفيه معنى آخر يدعوه إلى عالم الحس والجسم واللذات الجسدانية وما دام الروح متعلقاً بهذا الجسد فإنه لا ينفك عن حب الجسد وعن طلب اللذات الجسمانية فكأنه تعالى خاطب الصديقين العارفين وقال حصلت الخصومة بين الحوادث العقلية الإلهية وبين النوازع النفسانية الجسدانية والترجيح لجانب العقل لأنه يدعو إلى فضل الله ورحمته والنفس تدعو إلى جمع الدنيا وشهواتها وفضل الله ورحمته خير لكم مما تجمعون من الدنيا لأن الآخرة خير وأبقى وما كان كذلك فهو أولى بالطلب والتحصيل
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الناس ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً ولا أستحسن واحداً منها والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى وجهان الأول أن المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة وتقريره أنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم ( إنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها فهذا الحكم تقولونه على سبيل الافتراء على الله تعالى أو تعلمون أنه حكم حكم الله به ) والأول طريق باطل بالاتفاق فلم يبق إلا الثاني ثم من المعلوم أنه تعالى ما خاطبكم به من غير واسطة ولما بطل هذا ثبت أن هذه الأحكام إنما وصلت إليكم بقول رسول أرسله الله إليكم ونبي بعثه الله إليكم وحاصل الكلام أن(17/96)
حكمهم بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها مع اشتراك الكل في الصفات المحسوسة والمنافع المحسوسة يدل على اعترافكم بصحة النبوة والرسالة وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكنكم أن تبالغوا هذه المبالغات العظيمة في إنكار النبوة والرسالة وحمل الآية على هذا الوجه الذي ذكرته طريق حسن معقول
الطريق الثاني في حسن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر الدلائل الكثيرة على صحة نبوة نفسه وبين فساد سؤالاتهم وشبهاتهم في إنكارها أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم وبين أن التمييز بين هذه الأشياء بالحل والحرمة مع أنه لم يشهد بذلك لا عقل ولا نقل طريق باطل ومنهج فاسد والمقصود إبطال مذاهب القوم في أديانهم وفي أحكامهم وأنهم ليسوا على شيء في باب من الأبواب
المسألة الثانية المراد بالشيء الذي جعلوه حراماً ما ذكروه من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وأيضاً قوله تعالى يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ( الأنعام 138 ) إلى قوله وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الانْعَامِ خَالِصَة ٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْواجِنَا ( الأنعام 139 ) وأيضاً قوله تعالى ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ( الأنعام 143 ) والدليل عليه أن قوله فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا إشارة إلى أمر تقدم منهم ولم يحك الله تعالى عنهم إلا هذا فوجب توجه هذا الكلام إليه ثم لما حكى تعالى عنهم ذلك قال لرسوله عليه الصلاة والسلام قُلِ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وهذه القسمة صحيحة لأن هذه الأحكام إما أن تكون من الله تعالى أو لم تكن من الله فإن كانت من الله تعالى فهو المراد بقوله اللَّهِ أَذِنَ لَكُمْ وإن كانت ليست من الله فهو المراد بقوله أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ
ثم قال تعالى وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهذا وإن كان في صورة الاستعلام فالمراد منه تعظيم وعيد من يفتري على الله وقرأ عيسى بن عمر وَمَا ظَنُّ على لفظ الفعل ومعناه أي ظن ظنوه يوم القيامة وجيء به على لفظ الماضي لما ذكرنا أن أحوال القيامة وإن كانت آتية إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع في الحكمة ولا جرم عبر الله عنها بصيغة الماضي
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ فلا يستعملون للعقل في التأمل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبياء الله ولا ينتفعون باستماع كتب الله
المسألة الثالثة ما في قوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ اللَّهُ فيه وجهان أحدهما بمعنى الذي فينتصب برأيتم والآخر أن يكون بمعنى أي في الاستفهام فينتصب بأنزل وهو قول الزجاج ومعنى أنزل ههنا خلق وأنشأ كقوله وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ( الزمر 6 ) وجاز أن يعبر عن الخلق بالإنزال لأن كل ما في الأرض من رزق فما أنزل من السماء من ضرع وزرع وغيرهما فلما كان إيجاده بالإنزال سمي إنزالاً
وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّة ٍ فِي الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ(17/97)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه لما أطال الكلام في أمر الرسول بإيراد الدلائل على فساد مذاهب الكفار وفي أمره بإيراد الجواب عن شبهاتهم وفي أمره بتحمل أذاهم وبالرفق معهم ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السلوة والسرور للمطيعين وتمام الخوف والفزع للمذنبين وهو كونه سبحانه عالماً بعمل كل واحد وبما في قلبه من الدواعي والصوارف فإن الإنسان ربما أظهر من نفسه نسكاً وطاعة وزهداً وتقوى ويكون باطنه مملوأ من الخبث وربما كان بالعكس من ذلك فإذا كان الحق سبحانه عالماً بما في البواطن كان ذلك من أعظم أنواع السرور للمطيعين ومن أعظم أنواع التهديد للمذنبين
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى خصص الرسول في أول هذه الآية بالخطاب في أمرين ثم أتبع ذلك بتعميم الخطاب مع كل المكلفين في شيء واحد أما الأمران المخصوصان بالرسول عليه الصلاة والسلام فالأول منهما قوله وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ واعلم أن مَا ههنا جحد والشأن الخطب والجمع الشؤن تقول العرب ما شأن فلان أي ما حاله قال الأخفش وتقول ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله وفيه وجهان قال ابن عباس وما تكون يا محمد في شأن يريد من أعمال البر وقال الحسن في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها والثاني منهما قوله تعالى وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا واختلفوا في أن الضمير في قوله مِنْهُ إلى ماذا يعود وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول أنه راجع إلى الشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل هو معظم شأنه وعلى هذا التقدير فكان هذا داخلاً تحت قوله وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ إلا أنه خصه بالذكر تنبيهاً على علو مرتبته كما في قوله تعالى وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) وكما في قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْراهِيمَ ( الأحزاب 7 ) والثاني أن هذا الضمير عائد إلى القرآن والتقدير وما تتلو من القرآن من قرآن وذلك لأن كما أن القرآن اسم للمجموع فكذلك هو اسم لكل جزء من أجزاء القرآن والإضمار قبل الذكر يدل على التعظيم الثالث أن يكون التقدير وما تتلو من قرآن من الله أي نازل من عند الله وأقول قوله وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ أمران مخصوصان بالرسول ( صلى الله عليه وسلم )
وأما قوله وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فهذا خطاب مع النبي ومع جميع الأمة والسبب في أن خص الرسول بالخطاب أولاً ثم عمم الخطاب مع الكل هو أن قوله وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وإن كان بحسب الظاهر خطاباً مختصاً بالرسول إلا أن الأمة داخلون فيه ومرادون منه لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب والدليل عليه قوله تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( الطلاق 1 ) ثم إنه تعالى بعد أن خص الرسول بذينك الخطابين عمم الكل بالخطاب الثالث فقال وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فدل ذلك على كونهم داخلين في الخطابين الأولين
ثم قال تعالى إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا وذلك لأن الله تعالى شاهد على كل شيء وعالم بكل شيء(17/98)
أما على أصول أهل السنة والجماعة فالأمر فيه ظاهر لأنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى فكل ما يدخل في الوجود من أفعال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة فكلها حصلت بإيجاد الله تعالى وإحداثه والموجد للشيء لا بد وأن يكون عالماً به فوجب كونه تعالى عالماً بكل المعلومات وأما على أصول المعتزلة فقد قالوا إنه تعالى حي وكل من كان حياً فإنه يصح أن يعلم كل واحد من المعلومات والموجب لتلك العالمية هو ذاته سبحانه فنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية ببعض المعلومات كنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية بسائر المعلومات فلما اقتضت ذاته حصول العالمية ببعض المعلومات وجب أن تقتضي حصول العالمية بجميع المعلومات فثبت كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات
أما قوله تعالى إِذْ لّلْعَالَمِينَ فِيهِ فاعلم أن الإفاضة ههنا الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل يقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه وقد أفاضوا من عرفة إذا دفعوا منه بكثرتهم فتفرقوا
فإن قيل إِذْ ههنا بمعنى حين فيصير تقدير الكلام إلا كنا عليكم شهوداً حين تفيضون فيه وشهادة الله تعالى عبارة عن علمه فيلزم منه أن يقال إنه تعالى ما علم الأشياء إلا عند وجودها وذلك باطل
قلنا هذا السؤال بناء على أن شهادة الله تعالى عبادة عن علمه وهذا ممنوع فإن الشهادة لا تكون إلا عند وجود المشهود عليه وأما العلم فلا يمتنع تقدمه على الشيء والدليل عليه أن الرسول عليه السلام لو أخبرنا عن زيد أنه يأكل غداً كنا من قبل حصول تلك الحالة عالمين بها ولا نوصف بكوننا شاهدين لها واعلم أن حاصل هذه الكلمات أنه لا يخرج عن علم الله شيء ثم إنه تعالى أكد هذا الكلام زيادة تأكيد فقال وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّة ٍ فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى أصل العزوب من البعد يقال كلأ عازب إذا كان بعيد المطلب وعزب الرجل بإبله إذا أرسلها إلى موضع بعيد من المنزل والرجل سمي عزباً لبعده عن الأهل وعزب الشيء عن علمي إذا بعد
المسألة الثانية قرأ الكسائي وَمَا يَعْزُبُ بكسر الزاي والباقون بالضم وفيه لغتان عزب يعزب وعزب يعزب
المسألة الثالثة قوله مِن مّثْقَالِ ذَرَّة ٍ أي وزن ذرة ومثقال الشيء ما يساويه في الثقل والمعنى ما يساوي ذرة والذر صغار النمل واحدها ذرة وهي تكون خفيفة الوزن جداً وقوله فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء فالمعنى ظاهر
فإن قيل لم قدم الله ذكر الأرض ههنا على ذكر السماء مع أنه تعالى قال في سورة سبأ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ ( سبأ 3 )
قلنا حق السماء أن تقدم على الأرض إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم ثم وصل ذلك قوله لا يعزب عنه ناسب أن تقدم الأرض على السماء في هذا الموضع(17/99)
ثم قال وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ وفيه قراءتان قرأ حمزة وَلاَ أَصْغَرَ وَلا أَكْبَرَ بالرفع فيهما والباقون بالنصب
واعلم أن قوله وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّة ٍ تقديره وما يعزب عن ربك مثقال ذرة فلفظ مِثْقَالَ عند دخول كلمة مِنْ عليه مجرور بحسب الظاهر ولكنه مرفوع في المعنى فالمعطوف عليه إن عطف على الظاهر كان مجروراً إلا أن لفظ أصغر وأكبر غير منصرف فكان مفتوحاً وإن عطف على المحل وجب كونه مرفوعاً ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل وعاقل وكذا قوله مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ( الأعراف 59 ) وغيره وقال الشاعر
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
هذا ما ذكره النحويون قال صاحب ( الكشاف ) لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب وحينئذ يلزم أن يكون الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله تعالى وأنه باطل
وأجاب بعض المحققين عنه بوجهين
الوجه الأول أنا بينا أن العزوب عبارة عن مطلق البعد
وإذا ثبت هذا فنقول الأشياء المخلوقة على قسمين قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض وقسم آخر أوجده الله بواسطة القسم الأول مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود فقوله وَمَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ أي لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين وهو كتاب كتبه الله تعالى وأثبت صور تلك المعلومات فيه ومتى كان الأمر كذلك فقد كان عالماً بها محيطاً بأحوالها والغرض منه الرد على من يقول إنه تعالى غير عالم بالجزئيات وهو المراد من قوله إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجاثية 29 )
والوجه الثاني في الجواب أن نجعل كلمة إِلا في قوله إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ استثناء منقطعاً لكن بمعنى هو في كتاب مبين وذكر أبو علي الجرجاني صاحب ( النظم ) عنه جواباً آخر فقال قوله وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّة ٍ فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ ههنا تم الكلام وانقطع ثم وقع الابتداء بكلام آخر وهو قوله إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ أي وهو أيضاً في كتاب مبين قال والعرب تضع ( إلا ) موضع ( واو النسق ) كثيراً على معنى الابتداء كقوله تعالى لاَ يَخَافُ لَدَى َّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ( النمل 10 ) يعني ومن ظلم وقوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( البقرة 150 ) يعني والذين ظلموا وهذا الوجه في غاية التعسف
وأجاب صاحب ( الكشاف ) بوجه رابع فقال الإشكال إنما جاء إذا عطفنا قوله وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ على قوله مِن مّثْقَالِ ذَرَّة ٍ فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء إما بحسب الظاهر أو بحسب المحل لكنا(17/100)
لا نقول ذلك بل نقول الوجه في القراءة بالنصب في قوله وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ الحمل على نفي الجنس وفي القراءة بالرفع الحمل على الابتداء وخبره قوله فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ وهذا الوجه اختيار الزجاج
أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّ خِرَة ِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
اعلم أنا بينا أن قوله تعالى وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ ( يونس 61 ) مما يقوي قلوب المطيعين ومما يكسر قلوب الفاسقين فأتبعه الله تعالى بشرح أحوال المخلصين الصادقين الصديقين وهو المذكور في هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا نحتاج في تفسير هذه الآية إلى أن نبين أن الولي من هو ثم نبين تفسير نفي الخوف والحزن عنه فنقول أما إن الوحي من هو فيدل عليه القرآن والخبر والأثر والمعقول أما القرآن فهو قوله في هذه الآية الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ فقوله ءامَنُواْ إشارة إلى كمال حال القوة النظرية وقوله وَكَانُواْ يَتَّقُونَ إشارة إلى كمال حال القوة العملية وفيه قيام آخر وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل ثم نصف الولي بأنه كان متقياً في الكل أما التقوى في موقف العلم فلأن جلال الله أعلى من أن يحيط به عقل البشر فالصديق إذا وصف الله سبحانه بصفة من صفات الجلال فهو يقدس الله عن أن يكون كماله وجلاله مقتصراً على ذلك المقدار الذي عرفه ووصفه به وإذا عبد الله تعالى فهو يقدس الله تعالى عن أن تكون الخدمة اللائقة بكبريائه متقدرة بذلك المقدار فثبت أنه أبداً يكون في مقام الخوف والتقوى وأما الأخبار فكثيرة روى عمر رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ) ثم قرأ هذه الآية وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( هم الذين يذكر الله تعالى برؤيتهم ) قال أهل التحقيق السبب فيه أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما يشاهد فيهم من آيات الخشوع والخضوع ولما ذكر الله تعالى سبحانه في قوله سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( الفتح 29 ) وأما الأثر فقال أبو بكر الأصم أولياء الله هم الذين تولى الله تعالى هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبودية الله تعالى والدعوة إليه وأما المعقول فنقول ظهر في علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب فولى كل شيء هو الذي يكون قريباً منه والقرب من الله تعالى بالمكان والجهة محال فالقرب منه إنما يكون إذا كان القلب مستغرقاً في نور معرفة الله تعالى سبحانه فإن رأى رأى دلائل قدرة الله وإن سمع سمع آيات الله وإن نطق نطق بالثناء على الله وإن تحرك تحرك تحرك في خدمة الله وإن اجتهد اجتهد في طاعة الله فهنالك يكون في غاية القرب من الله فهذا الشخص يكون ولياً لله تعالى وإذا كان(17/101)
كذلك كان الله تعالى ولياً له أيضاً كما قال الله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( البقرة 257 ) ويجب أن يكون الأمر كذلك لأن القرب لا يحصل إلا من الجانبين وقال المتكلمون ولي الله من يكون آتياً بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ويكون آتياً بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة فهذا كلام مختصر في تفسير الولي
وأما قوله تعالى في صفتهم لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ففيه بحثان
البحث الأول أن الخوف إنما يكون في المستقبل بمعنى أنه يخاف حدوث شيء في المستقبل من المخوف والحزن إنما يكون على الماضي إما لأجل أنه كان قد حصل في الماضي ما كرهه أو لأنه فات شيء أحبه
البحث الثاني قال بعض المحققين إن نفي الحزن والخوف إما أن يحصل للأولياء حال كونهم في الدنيا أو حال انتقالهم إلى الآخرة والأول باطل لوجوه أحدها أن هذا لا يحصل في دار الدنيا لأنها دار خوف وحزن والمؤمن خصوصاً لا يخلو من ذلك على ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) وعلى ما قال ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) وثانيها أن المؤمن وإن صفا عيشه في الدنيا فإنه لا يخلو من هم بأمر الآخرة شديد وحزن على ما يفوته من القيام بطاعة الله تعالى وإذا بطل هذا القسم وجب حمل قوله تعالى لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ على أمر الآخرة فهذا كلام محقق وقال بعض العارفين إن الولاية عبارة عن القرب فولى الله تعالى هو الذي يكون في غاية القرب من الله تعالى وهذا التقرير قد فسرناه باستغراقه في معرفة الله تعالى بحيث لا يخطر بباله في تلك اللحظة شيء مما سوى الله ففي هذه الساعة تحصل الولاية التامة ومتى كانت هذه الحالة حاصلة فإن صاحبها لا يخاف شيئاً ولا يحزن بسبب شيء وكيف يعقل ذلك والخوف من الشيء والحزن على الشيء لا يحصل إلا بعد الشعور به والمستغرق في نور جلال الله غافل عن كل ما سوى الله تعالى فيمتنع أن يكون له خوف أو حزن وهذه درجة عالية ومن لم يذقها لم يعرفها ثم إن صاحب هذه الحالة قد تزول عنه الحالة وحينئذ يحصل له الخوف والحزن والرجاء والرغبة والرهبة بسبب الأحوال الجسمانية كما يحصل لغيره وسمعت أن إبراهيم الخواص كان بالبادية ومعه واحد يصحبه فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له فجلس في موضعه وجاءت السباع ووقفوا بالقرب منه والمريد تسلق على رأس شجرة خوفاً منها والشيخ ما كان فازعاً من تلك السباع فلما أصبح وزالت تلك الحالة ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على يده فأظهر الجزع من تلك البعوضة فقال المريد كيف تليق هذه الحالة بما قبلها فقال الشيخ إنا إنما تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي فلما غاب ذلك الوارد فأنا أضعف خلق الله تعالى
المسألة الثانية قال أكثر المحققين إن أهل الثواب لا يحصل لهم خوف في محقل القيامة واحتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وبقوله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ ( الأنبياء 103 ) وأيضاً فالقيامة دار الجزاء فلا يليق به إيصال الخوف ومنهم من قال بل يحصل فيه أنواع من الخوف وذكروا فيه أخباراً تدل عليه إلا أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد(17/102)
وأما قوله الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ففيه ثلاثة أوجه الأول النصب بكونه صفة للأولياء والثاني النصب على المدح والثالث الرفع على الابتداء وخبره لهم البشرى
وأما قوله تعالى لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ ففيه أقوال الأول المراد منه الرؤيا الصالحة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( ذهبت النبوة وبقيت المبشرات ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم حلماً يخافه فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرات فإنه لا يضره ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ) وعن ابن مسعود الرؤيا ثلاثة الهم يهم به الرجل من النهار فيراه في الليل وحضور الشيطان والرؤيا التي هي الرؤيا الصادقة وعن إبراهيم الرؤيا ثلاثة فالمبشرة من الله جزء من سبعين جزءاً من النبوة والشيء يهم به أحدكم بالنهار فلعله يراه بالليل والتخويف من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يحزنه فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة الله من شر رؤياي التي رؤيتها أن تضرني في دنياي أو في آخرتي
واعلم أنا إذا حملنا قوله لَهُمُ الْبُشْرَى على الرؤيا الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحصل هذه الحالة إلا لهم والعقل أيضاً يدل عليه وذلك لأن ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب والروح بذكر الله ومن كان كذلك فهو عند النوم لا يبقى في روحه إلا معرفة الله ومن المعلوم أن معرفة الله ونور جلال الله لا يفيده إلا الحق والصدق وأما من يكون متوزع الفكر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم فإنه إذا نام يبقى كذلك فلا جرم لا اعتماد على رؤياه فلهذا السبب قال لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواة ِ الدُّنْيَا على سبيل الحصر والتخصيص
القول الثاني في تفسير البشرى أنها عبارة عن محبة الناس له وعن ذكرهم إياه بالثناء الحسن عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال ( تلك عاجل بشرى المؤمن )
واعلم أن المباحث العقلية تقوي هذا المعنى وذلك أن الكمال محبوب لذاته لا لغيره وكل من اتصف بصفة من صفات الكمال صار محبوباً لكل أحد ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة الله مستغرق اللسان بذكر الله مستغرق الجوارح والأعضاء بعبودية الله فإذا ظهر عليه أمر من هذا الباب صارت الألسنة جارية بمدحه والقلوب مجبولة على حبه وكلما كانت هذه الصفات الشريفة أكثر كانت هذه المحبة أقوى وأيضاً فنور معرفة الله مخدوم بالذات ففي أي قلب حضر صار ذلك الإنسان مخدوماً بالطبع ألا ترى أن البهائم والسباع قد تكون أقوى من الإنسان ثم إنها إذا شاهدت الإنسان هابته وفرت منه وما ذاك إلا لمهابة النفس الناطقة
والقول الثالث في تفسير البشرى أنها عبارة عن حصول البشرى لهم عند الموت قال تعالى تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة ُ أَن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ ( فصلت 30 ) وأما البشرى في الآخرة فسلام الملائكة عليهم كما قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 ) وسلام الله عليهم كما قال سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ويندرج في هذا الباب ما ذكره الله في هذا الكتاب(17/103)
الكريم من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يلقون فيها من الأحوال السارة فكل ذلك من المبشرات
والقول الرابع إن ذلك عبارة عما بشر الله عباده المتقين في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه ودليله قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ ( التوبة 21 )
واعلم أن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية ومجموع الأمور المذكورة مشتركة في هذه الصفة فيكون الكل داخلاً فيه فكل ما يتعلق من هذه الوجوه بالدنيا فهو داخل تحت قوله لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواة ِ الدُّنْيَا وكل ما يتعلق بالآخرة فهو داخل تحت قوله وَفِي الاْخِرَة ِ ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أولياء الله وشرح أحوالهم قال تعالى لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ والمراد أنه لا خلف فيها والكلمة والقول سواء ونظيره قوله مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ ( ق 29 ) وهذا أحد ما يقوي أن المراد بالبشرى وعد الله بالثواب والكرامة لمن أطاعه بقوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ ثم بين تعالى أن ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وهو كقوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ( الإنسان 20 ) ثم قال القاضي قوله لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ يدل على أنها قابلة للتبديل وكل ما قبل العدم امتنع أن يكون قديماً ونظير هذا الاستدلال بحصول النسخ على أن حكم الله تعالى لا يكون قديماً وقد سبق الكلام على أمثال هذه الوجوه
وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السَّمَاوَات وَمَنْ فِى الأرض وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
اعلم أن القوم لما أوردوا أنواع الشبهات التي حكاها الله تعالى عنهم فيما تقدم من هذه السورة وأجاب الله عنها بالأجوبة التي فسرناها وقررناها عدلوا إلى طريق آخر وهو أنهم هددوه وخوفوه وزعموا أنا أصحاب التبع والمال فنسعى في قهرك وفي إبطال أمرك والله سبحانه أجاب عن هذا الطريق بقوله وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً
واعلم أن الإنسان إنما يحزن من وعيد الغير وتهديده ومكره وكيده لو جوز كونه مؤثراً في حاله فإذا علم من جهة علام الغيوب أن ذلك لا يؤثر خرج من أن يكون سبباً لحزنه ثم إنه تعالى كما أزال عن الرسول حزن الآخرة بسبب قوله أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( يونس 62 ) فكذلك أزال حزن الدنيا بقوله وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً فإذا كان الله تعالى هو الذي أرسله إلى الخلق وهو الذي أمره بدعوتهم إلى هذا الدين كان لا محالة ناصراً له ومعيناً ولما ثبت أن العزة والقهر والغلبة ليست إلا له فقد حصل الأمن وزال الخوف(17/104)
فإن قيل فكيف آمنه من ذلك ولم يزل خائفاً حتى احتاج إلى الهجرة والهرب ثم من بعد ذلك يخاف حالاً بعد حال
قلنا إن الله تعالى وعده الظفر والنصرة مطلقاً والوقت ما كان معيناً فهو في كل وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقت المعين ذلك الوقت فحينئذ يحصل الانكسار والانهزام في هذا الوقت
وأما قوله تعالى إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً ففيه أبحاث
البحث الأول قال القاضي إن العزة بالألف المكسورة وفي فتحها فساد يقارب الكفر لأنه يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحزنه ذلك أما إذا كسرت الألف كان ذلك استئنافاً وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ أبو حيوة إِنَّ الْعِزَّة َ بالفتح على حذف لام العلة يعني لأن العزة على صريح التعليل
البحث الثاني فائدة إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ في هذا المقام أمور الأول المراد منه أن جميع العزة والقدرة هي لله تعالى يعطي ما يشاء لعباده والغرض منه أنه لا يعطي الكفار قدرة عليه بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو بذلك أعز منهم فآمنه الله تعالى بهذا القول من إضرار الكفار به بالقتل والإيذاء ومثله قوله تعالى كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ( غافر 51 ) الثاني قال الأصم المراد أن المشركين يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم ويخوفونك بها وتلك الأشياء كلها لله تعالى فهو القادر على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء وأن ينصرك وينقل أموالهم وديارهم إليك
فإن قيل قوله إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً كالمضادة لقوله تعالى وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقون 8 )
قلنا لا مضادة لأن عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله فهي لله
أما قوله هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي يسمع ما يقولون ويعلم ما يعزمون عليه وهو يكافئهم بذلك
وأما قوله أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ففيه وجهان الأول أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا يدل على أن كل ما لا يعقل فهو ملك لله تعالى وملك له وأما ههنا فكلمة مِنْ مختصة بمن يعقل فتدل على أن كل العقلاء داخلون تحت ملك الله وملكه فيكون مجموع الآيتين دالاً على أن الكل ملكه وملكه والثاني أن المراد مَن فِى السَّمَاوَاتِ العقلاء المميزون وهم الملائكة والثقلان وإنما خصهم بالذكر ليدل على أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه فالجمادات أولى بهذه العبودية فيكون ذلك قدحاً في جعل الأصنام شركاء لله تعالى
ثم قال تعالى وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وفي كلمة مَا قولان الأول أنه نفي وجحد والمعنى أنهم ما اتبعوا شريك الله تعالى إنما اتبعوا شيئاً ظنوه شريكاً لله تعالى ومثاله أن أحدنا لو ظن أن زيداً في الدار وما كان فيها فخاطب إنساناً في الدار ظنه زيداً فإنه لا يقال إنه خاطب زيداً بل يقال خاطب من ظنه زيداً الثاني أن مَا استفهام كأنه قيل أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء والمقصود تقبيح فعلهم يعني أنهم ليسوا على شيء(17/105)
ثم قال تعالى إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ والمعنى أنهم إنما اتبعوا ظنونهم الباطلة وأوهامهم الفاسدة ثم بين أن هذا الظن لا حكم له وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ وذكرنا معنى الخرص في سورة الأنعام عند قوله إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ( الأنعام 16 )
هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر قوله إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً احتج عليه بهذه الآية والمعنى أنه تعالى جعل الليل ليزول التعب والكلال بالسكون فيه وجعل النهار مبصراً أي مضيئاً لتهتدوا به في حوائجكم بالأبصار والمبصر الذي يبصر والنهار يبصر فيه وإنما جعله مبصراً على طريق نقل الاسم من السبب إلى المسبب
فإن قيل إن قوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ يدل على أنه تعالى ما خلقه إلا لهذا الوجه وقوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يدل على أنه تعالى أراد بتخليق الليل والنهار أنواعاً كثيرة من الدلائل
قلنا إن قوله تعالى لّتَسْكُنُواْ لا يدل على أنه لا حكمة فيه إلا ذلك بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة
أما قوله تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ فالمراد يتدبرون ما يسمعون ويعتبرون به
قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَات وَمَا فِى الأرض إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَاذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من الأباطيل التي حكاها الله تعالى عن الكفار وهي قولهم اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ويحتمل أن يكون المراد حكاية قول من يقول الملائكة بنات الله ويحتمل أن يكون المراد قول من يقول الأوثان أولاد الله ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قوم من النصارى قالوا ذلك ثم إنه تعالى لما استنكر هذا القول قال بعده هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ
واعلم أن كونه تعالى غنياً مالكاً لكل ما في السموات والأرض يدل على أنه يستحيل أن يكون له ولد وبيان ذلك من وجوه الأول أنه سبحانه غني مطلقاً على ما في هذه الآية والعقل أيضاً يدل عليه لأنه لو كان محتاجاً لافتقر إلى صانع آخر وهو محال وكل من كان غنياً فإنه لا بد أن يكون فرداً منزهاً عن الأجزاء(17/106)
والأبعاض وكل من كان كذلك امتنع أن ينفصل عنه جزء من أجزائه والولد عبارة عن أن ينفصل جزء من أجزاء الإنسان ثم يتولد عن ذلك الجزء مثله وإذا كان هذا محالاً ثبت أن كونه تعالى غنياً يمنع ثبوت الولد له
الحجة الثانية أنه تعالى غني وكل من كان غنياً كان قديماً أزلياً باقياً سرمدياً وكل من كان كذلك امتنع عليه الانقراض والانقضاء والولد إنما يحصل للشيء الذي ينقضي وينقرض فيكون ولده قائماً مقامه فثبت أن كونه تعالى غنياً يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد
الحجة الثالثة أنه تعالى غني وكل من كان غنياً فإنه يمتنع أن يكون موصوفاً بالشهوة واللذة وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون له صاحبة وولد
الحجة الرابعة أنه تعالى غني وكل من كان غنياً امتنع أن يكون له ولد لأن اتخاذ الولد إنما يكون في حق من يكون محتاجاً حتى يعينه ولده على المصالح الحاصلة والمتوقعة فمن كان غنياً مطلقاً امتنع عليه اتخاذ الولد
الحجة الخامسة ولد الحيوان إنما يكون ولداً له بشرطين إذا كان مساوياً له في الطبيعة والحقيقة ويكون ابتداء وجوده وتكونه منه وهذا في حق الله تعالى محال لأنه تعالى غني مطلقاً وكل من كان غنياً مطلقاً كان واجب الوجود لذاته فلو كان لواجب الوجود ولد لكان ولده مساوياً له فيلزم أن يكون ولد واجب الوجود أيضاً واجب الوجود لكن كونه واجب الوجود يمنع من تولده من غيره وإذا لم يكن متولداً من غيره لم يكن ولداً فثبت أن كونه تعالى غنياً من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا ولد له وهذه الثلاثة مع الثلاثة الأول في غاية القوة
الحجة السادسة أنه تعالى غني وكل من كان غنياً امتنع أن يكون له أب وأم وكل من تقدس عن الوالدين وجب أن يكون مقدساً عن الأولاد
فإن قيل يشكل هذا بالوالد الأول
قلنا الوالد الأول لا يمتنع كونه ولداً لغيره لأنه سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق الوالد الأول من أبوين يقدمانه أما الحق سبحانه فإنه يمتنع افتقاره إلى الأبوين وإلا لما كان غنياً مطلقاً
الحجة السابعة إنه تعالى غني مطلقاً وكل من كان غنياً مطلقاً امتنع أن يفتقر في إحداث الأشياء إلى غيره
إذا ثبت هذا فنقول هذا الولد إما أن يكون قديماً أو حادثاً فإن كان قديماً فهو واجب الوجود لذاته آذ لو كان ممكن الوجود لافتقر إلى المؤثر وافتقار القديم إلى المؤثر يقتضي إيجاد الموجود وهو محال وإذا كان واجب الوجود لذاته لم يكن ولداً لغيره بل كان موجوداً مستقلاً بنفسه وأما إن كان هذا الولد حادثاً والحق سبحانه غني مطلقاً فكان قادراً على إحداثه ابتداء من غير تشريك شيء آخر فكان هذا عبداً مطلقاً ولم يكن ولداً فهذه جملة الوجوه المستنبطة من قوله هُوَ الْغَنِى ُّ الدالة على أنه يمتنع أن يكون له ولد(17/107)
أما قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ فاعلم أنه نظير قوله إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 93 ) وحاصله يرجع إلى أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن وكل ممكن محتاج وكل محتاج محدث فكل ما سوى الواحد الأحد الحق محدث والله تعالى محدثه وخالقه وموجده وذلك يدل على فساد القول بإثبات الصاحبة والولد ولما بين تعالى بالدليل الواضح امتناع ما أضافوا إليه عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ فقال إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بِهَاذَا منبهاً بهذا على أنه لا حجة عندهم في ذلك ألبتة ثم بالغ في ذلك الإنكار فقال أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وقد ذكرنا أن هذه الآية يحتج بها في إبطال التقليد في أصول الديانات ونفاة القياس وأخبار الآحاد قد يحتجون بها في إبطال هذين الأصلين وقد سبق الكلام فيه
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل القاهر أن إثبات الولد لله تعالى قول باطل ثم بين أنه ليس لهذا القائل دليل على صحة قوله فقد ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله ونسبه لما لا يليق به إليه فبين أن من هذا حاله فإنه لا يفلح ألبتة ألا ترى أنه تعالى قال في أول سورة المؤمنون قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) وقال في آخر هذه السورة إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( المؤمنون 117 )
واعلم أن قوله إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ يدخل فيه هذه الصورة ولكنه لا يختص بهذه الصورة بل كل من قال في ذات الله تعالى وفي صفاته قولاً بغير علم وبغير حجة بينة كان داخلاً في هذا الوعيد ومعنى قوله لاَ يُفْلِحُ قد ذكرناه في أول سورة البقرة في قوله تعالى وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( آل عمران 104 ) وبالجملة فالفلاح عبارة عن الوصول إلى المقصود والمطلوب فمعنى أنه لا يفلح هو أنه لا ينجح في سعيه ولا يفوز بمطلوبه بل خاب وخسر ومن الناس من إذا فاز بشيء من المطالب العاجلة والمقاصد الخسيسة ظن أنه قد فاز بالمقصد الأقصى والله سبحانه أزال هذا الخيال بأن قال إن ذلك المقصود الخسيس متاع قليل في الدنيا ثم لا بد من الموت وعند الموت لا بد من الرجوع إلى الله وعند هذا الرجوع لا بد من أن يذيقه العذاب الشديد بسبب ذلك الكفر المتقدم وهذا كلام في غاية الانتظام ونهاية الحسن والجزالة والله أعلم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّة ً ثُمَّ اقْضُوا إِلَى َّ وَلاَ تُنظِرُونَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(17/108)
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات وفي الجواب عن الشبه والسؤالات شرع بعد ذلك في بيان قصص الأنبياء عليهم السلام لوجوه أحدها أن الكلام إذا أطال في تقرير نوع من أنواع العلوم فربما حصل نوع من أنواع الملالة فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر انشرح صدره وطاب قلبه ووجد في نفسه رغبة جديدة وقوة حادثة وميلاً قوياً وثانيها ليكون للرسول عليه الصلاة والسلام ولأصحابه أسوة بمن سلف من الأنبياء فإن الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكفار مع الكل الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه خف ذلك على قلبه كما يقال المصيبة إذا عمت خفت وثالثها أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص وعلموا أن الجهال وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدمين إلا أن الله تعالى أعانهم بالآخرة ونصرهم وأيدهم وقهر أعداءهم كان سماع هؤلاء الكفار لأمثال هذه القصص سبباً لانكسار قلوبهم ووقوع الخوف والوجل في صدورهم وحينئذ يقللون من أنواع الإيذاء والسفاهة ورابعها أنا قد دللنا على أن محمداً عليه الصلاة والسلام لما لم يتعلم علماً ولم يطالع كتاباً ثم ذكر هذه الأقاصيص من غير تفاوت ومن غير زيادة ومن غير نقصان دل ذلك على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما عرفها بالوحي والتنزيل
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة من قصص الأنبياء عليهم السلام ثلاثة
فالقصة الأولى قصة نوح عليه السلام وهي المذكورة في هذه الآية وفيها وجهان من الفائدة الأول أن قوم نوح عليهم السلام لما أصروا على الكفر والجحد عجل الله هلاكهم بالغرق فذكر الله تعالى قصتهم لتصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار وداعية إلى مفارقة الجحد بالتوحيد والنبوة والثاني أن كفار مكة كانوا يستعجلون العذاب الذي يذكره الرسول عليه السلام لهم وكانوا يقولون له كذبت فإنه ما جاءنا هذا العذاب فالله تعالى ذكر لهم قصة نوح عليه السلام لأنه عليه السلام كان يخوفهم بهذا العذاب وكانوا يكذبونه فيه ثم بالآخرة وقع كما أخبر فكذا ههنا
المسألة الثانية أن نوحاً عليه السلام قال لقومه إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ وهذا جملة من الشرط والجزاء أما الشرط فهو مركب من قيدين
القيد الأول قوله إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى قال الواحدي في ( البسيط ) يقال كبر يكبر كبراً في السن وكبر الأمر والشيء إذا عظم يكبر كبراً وكبارة قال ابن عباس ثقل عليكم وشق عليكم وعظم أمره عندكم والمقام بفتح الميم مصدر كالإقامة يقال أقام بين أظهرهم مقاماً وإقامة والمقام بضم الميم الموضع الذي يقام فيه وأراد بالمقام ههنا مكثه ولبثه فيهم وبالجملة فقوله كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى جار مجرى قولهم فلان ثقيل الظل
واعلم أن سبب هذا الثقل أمران أحدهما أنه عليه السلام مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً والثاني أن أولئك الكفار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة والطرائق الباطلة والغالب أن من ألف طريقة(17/109)
في الدين فإنه يثقل عليه أن يدعى إلى خلافها ويذكر له ركاكتها فإن اقترن بذلك طول مدة الدعاء كان أثقل وأشد كراهية فإن اقترن به إيراد الدلائل القاهرة على فساد تلك المذهب كانت النفرة أشد فهذا هو السبب في حصول ذلك الثقل
والقيد الثاني هو قوله وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ
واعلم أن الطباع المشغوفة بالدنيا الحريصة على طلب اللذات الهاجلة تكون شديدة النفرة عن الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والمنكرات قوية الكراهة لسماع ذكر الموت وتقبيح صورة الدنيا ومن كان كذلك فإنه يستثقل الإنسان الذي يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون قوله إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ معناه أنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم ظاهراً وكلامهم مسموعاً كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود
واعلم أن هذا هو الشرط المذكور في هذه الآية أما الجزاء ففيه قولان
القول الأول أن الجزاء هو قوله فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ يعني أن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على الله
واعلم أنه عليه السلام كان أبداً متوكلاً على الله تعالى وهذا اللفظ يوهم أنه توكل على الله في هذه الساعة لكن المعنى أنه إنما توكل على الله في دفع هذا الشر في هذه الساعة
والقول الثاني وهو قول الأكثرين إن جواب الشرط هو قوله فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ وقوله فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ كلام اعترض به بين الشرط وجوابه كما تقول في الكلام إن كنت أنكرت علي شيئاً فالله حسبي فاعمل ما تريد واعلم أن جواب هذا الشرط مشتمل على قيود خمسة على الترتيب
القيد الأول قوله فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وفيه بحثان
البحث الأول قال الفراء الإجماع الإعداد والعزيمة على الأمر وأنشد ف يا ليت شعري والمنى لا ينفع
هل اغدون يوماً وأمري مجمع
فإذا أردت جمع التفرق قلت جمعت القوم فهم مجموعون وقال أبو الهيثم أجمع أمره أي جعله جميعاً بعد ما كان متفرقاً قال وتفرقه أي جعل يتدبره فيقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعاً فهذا هو الأصل في الإجماع ومنه قوله تعالى وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ ( يوسف 102 ) ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى فقيل أجمعت على الأمر أي عزمت عليه والأصل أجمعت الأمر
البحث الثاني روى الأصمعي عن نافع فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ بوصل الألف من الجمع وفيه وجهان الأول قال أبو علي الفارسي فاجمعوا ذوي الأمر منكم فحذف المضاف وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت الثاني قال ابن الأنباري المراد من الأمر ههنا وجوه كيدهم ومكرهم(17/110)
فالتقدير ولا تدعوا من أمركم شيئاً إلا أحضرتموه
والقيد الثاني قوله وَشُرَكَاءكُمْ وفيه أبحاث
البحث الأول الواو ههنا بمعنى مع والمعنى فأجمعوا أمركم مع شركائكم ونظيره قولهم لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها ولو خليت نفسك والأسد لأكلك
البحث الثاني يحتمل أن يكون المراد من الشركاء الأوثان التي سموها بالآلهة ويحتمل أن يكون المراد منها من كان على مثل قولهم ودينهم فإن كان المراد هو الأول فإنما حث الكفار على الاستعانة بالأوثان بناء على مذهبهم من أنها تضر وتنفع وإن كان المراد هو الثاني فوجه الاستعانة بها ظاهر
البحث الثالث قرأ الحسن وجماعة من القراء وَشُرَكَاؤُكُمْ بالرفع عطفاً على الضمير المرفوع والتقدير فأجمعوا أنتم وشركاؤكم قال الواحدي وجاز ذلك من غير تأكيد الضمير كقوله اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ ( البقرة 35 ) لأن قوله أَمَرَكُمُ فصل بين الضمير وبين المنسوق فكان كالعوض من التوكيد وكان الفراء يستقبح هذه القراءة لأنها توجب أن يكتب وشركاؤكم بالواو وهذا الحرف غير موجود في المصاحف
القيد الثالث قوله ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّة ً قال أبو الهيثم أي مبهماً من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التبس قال طرفة ف لعمري ما أمري علي بغمة
نهاري ولا ليلي علي بسرمد
وقال الليث إنه لفي غمة من أمره إذا لم يهتد له قال الزجاج أي ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً
القيد الرابع قوله ثُمَّ اقْضُواْ إِلَى َّ وفيه بحثان
البحث الأول قال ابن الأنباري معناه ثم امضوا إلي بمكروهكم وما توعدونني به تقول العرب قضى فلان يريدون مات ومضى وقال بعضهم قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه وبه يسمى القاضي لأنه إذا حكم فقد فرغ فقوله ثُمَّ اقْضُواْ إِلَى َّ أي افرغوا من أمركم وامضوا ما في أنفسكم واقطعوا ما بيني وبينكم ومنه قوله تعالى وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ ( الإسراء 4 ) أي أعلمناهم إعلاماً قاطعاً قال تعالى وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ ( الحجر 66 ) قال القفال رحمه الله تعالى ومجاز دخول كلمة إِلَى في هذا الموضع من قولهم برئت إليك وخرجت إليك من العهد وفيه معنى الإخبار فكأنه تعالى قال ثم اقضوا ما يستقر رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه
البحث الثاني قرىء ثم أفضوا إلي بالفاء بمعنى ثم انتهوا إلى بشركم وقيل هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء أي أصحروا به إلي وأبرزوه إلي
القيد الخامس قوله وَلاَ تُنظِرُونَ معناه لا تمهلون بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه فهذا هو تفسير هذه الألفاظ وقد نظم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه فقال إنه عليه السلام قال ( في أول الأمر فعلى الله توكلت فإني واثق بوعد الله جازم بأنه لا يخلف الميعاد ولا تظنوا أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى الله تعالى ) ثم إنه عليه السلام أورد ما يدل على صحة دعوته فقال ( فأجمعوا أمركم ) فكأنه يقول(17/111)
لهم أجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضموا إلى أنفسهم شركائهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانتهم وبالتقرب إليهم ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثاً وهو قوله ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّة ً وأراد أن يبلغوا فيه كل غاية في المكاشفة والمجاهرة ثم لم يقتصر على ذلك حتى ضم إليها رابعاً فقال ثُمَّ اقْضُواْ إِلَى َّ والمراد أن وجهوا كل تلك الشرور إلي ثم ضم إلى ذلك خامساً وهو قوله وَلاَ تُنظِرُونَ أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من عير أنظار فهذا آخر هذا الكلام ومعلوم أن مثل هذا الكلام يدل على أنه عليه السلام كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله تعالى وأنه كان قاطعاً بأن كيدهم لا يصل إليه ومكرهم لا ينفذ فيه
وأما قوله تعالى فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فقال المفسرون هذا إشارة إلى أنه ما أخذ منهم مالاً على دعوتهم إلى دين الله تعالى ومتى كان الإنسان فارغاً من الطمع كان قوله أقوى تأثيراً في القلب وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال إنه عليه السلام بين أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه وذلك لأن الخوف إنما يحصل بأحد شيئين إما بإيصال الشر أو بقطع المنافع فبين فيما تقدم أنه لا يخاف شرهم وبين بهذه الآية أنه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعوا عنه خيراً لأنه ما أخذ منهم شيئاً فكان يخاف أن يقطعوا منه خيراً
ثم قال إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وفيه قولان الأول أنكم سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوا فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام والثاني أني مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إلي لأجل هذه الدعوة وهذا الوجه أليق بهذا الموضع لأنه لما قال ثُمَّ اقْضُواْ إِلَى َّ بين لهم أنه مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إليه في هذا الباب والله أعلم
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُنْذَرِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى الكلمات التي جرت بين نوح وبين أولئك الكفار ذكر ما إليه رجعت عاقبة تلك الواقعة أما في حق نوح وأصحابه فأمران أحدهما أنه تعالى نجاهم من الكفار الثاني أنه جعلهم خلائف بمعنى أنهم يخلفون من هلك بالغرق وأما في حق الكفار فهو أنه تعالى أغرقهم وأهلكهم وهذه القصة إذا سمعها من صدق الرسول ومن كذب به كانت زجراً للمكلفين من حيث يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح وتكون داعية للمؤمنين على الثبات على الإيمان ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح وهذه الطريقة في الترغيب والتحذير إذا جرت على سبيل الحكاية عمن تقدم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ وعلى هذا الوجه ذكر تعالى أقاصيص الأنبياء عليهم السلام
وأما تفاصيل هذه القصة فهي مذكورة في سائر السور
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ(17/112)
اعلم أن المراد ثم بعثنا من بعد نوح رسلاً ولم يسمهم وكان منهم هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب صلوات الله عليهم أجمعين بالبينات وهي المعجزات القاهرة فأخبر تعالى عنهم أنهم جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب ولم يزجرهم ما بلغهم من إهلاك الله تعالى المكذبين من قوم نوح عن ذلك فلهذا قال فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وليس المراد عين ما كذبوا به لأن ذلك لم يحصل في زمانه بل المراد بمثل ما كذبوا به من البينات لأن البينات الظاهرة على الأنبياء عليهم السلام أجمع كأنها واحدة
ثم قال تعالى كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ واحتج أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع المكلف عن الإيمان بهذه الآية وتقريره ظاهر قال القاضي الطبع غير مانع من الإيمان بدليل قوله تعالى بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 155 ) ولو كان هذا الطبع مانعاً لما صح هذا الاستثناء
والجواب أن الكلام في هذه المسألة قد سبق على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ( البقرة 7 ) فلا فائدة في الإعادة
القصة الثانية
قصة موسى عليه السلام
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ
اعلم أن هذا الكلام غني عن التفسير وفيه سؤال واحد وهو أن القوم لما قالوا إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ فكيف حكى موسى عليه السلام أنهم قالوا أَسِحْرٌ هَاذَا على سبيل الاستفهام
وجوابه أن موسى عليه السلام ما حكى عنهم أنهم قالوا أَسِحْرٌ هَاذَا بل قال أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ(17/113)
ما تقولون ثم حذف عنه مفعول أَتَقُولُونَ لدلالة الحال عليه ثم قال مرة أخرى أَسِحْرٌ هَاذَا وهذا استفهام على سبيل الإنكار ثم احتج على أنه ليس بسحر وهو قوله وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ يعني أن حاصل صنعهم تخييل وتمويه وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ وأما قلب العصا حية وفلق البحر فمعلوم بالضرورة أنه ليس من باب التخييل والتمويه فثبت أنه ليس بسحر
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِى بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَة ُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى حكى عن فرعون وقومه أنهم لم يقبلوا دعوة موسى عليه السلام وعللوا عدم القبول بأمرين الأول قوله أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَائِنَا قال الواحدي اللفت في أصل اللغة الصرف عن أمر وأصله اللي يقال لفت عنقه إذا لواها ومن هذا يقال التفت إليه أي أمال وجهه إليه قال الأزهري لفت الشيء وفتله إذا لواه وهذا من المقلوب
واعلم أن حاصل هذا الكلام أنهم قالوا لا نترك الدين الذي نحن عليه لأنا وجدنا آبائنا عليه فقد تمسكوا بالتقليد ودفعوا الحجة الظاهرة بمجرد الإصرار
والسبب الثاني في عدم القبول قوله وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِى الاْرْضِ قال المفسرون المعنى ويكون لكما الملك والعز في أرض مصر والخطاب لموسى وهرون قال الزجاج سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا وأيضاً فالنبي إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه فصار أكبر القوم
واعلم أن السبب الأول إشارة إلى التمسكل بالتقليد والسبب الثاني إشارة إلى الحرص على طلب الدنيا والجد في بقاء الرياسة ولما ذكر القوم هذين السببين صرحوا بالحكم وقالوا وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ
واعلم أن القوم لما ذكروا هذه المعاني حاولوا بعد ذلك وأرادوا أن يعارضوا معجزة موسى عليه السلام بأنواع من السحر ليظهروا عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السحر فجمع فرعون السحرة وأحضرهم فَقَالَ لَهُمُ مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ(17/114)
فإن قيل كيف أمرهم بالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر
قلنا إنه عليه السلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصي ليظهر للخلق أن ما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر فلما ألقوا حبالهم وعصيهم قال لهم موسى ما جئتم به هو السحر الباطل والغرض منه أن القوم قالوا لموسى إن ما جئت به سحر فذكر موسى عليه السلام أن ما ذكرتموه باطل بل الحق أن الذي جئتم به هو السحر والتمويه الذي يظهر بطلانه ثم أخبرهم بأن الله تعالى يحق الحق ويبطل الباطل وقد أخبر الله تعالى في سائر السور أنه كيف أبطل ذلك السحر وذلك بسبب أن ذلك الثعبان قد تلقف كل تلك الجبال والعصي
المسألة الثانية قوله مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما ههنا موصولة بمعنى الذي وهي مرتفعة بالابتداء وخبرها السحر قال الفراء وإنما قال السِّحْرُ بالألف واللام لأنه جواب كلام سبق ألا ترى أنهم قالوا لما جاءهم موسى هذا سحر فقال لهم موسى بل ما جئتم به السحر فوجب دخول الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة يقول الرجل لغيره لقيت رجلاً فيقول له من الرجل فيعيده بالألف واللام ولو قال له من رجل لم يقع في فهمه أنه سأله عن الرجل الذي ذكره له وقرأ أبو عمرو السِّحْرُ بالاستفهام وعلى هذه القراءة ما استفهامية مرتفع بالابتداء وجئتم به في موضع الخبر كأنه قيل أي شيء جئتم به ثم قال على وجه التوبيخ والتقريع السِّحْرُ كقوله تعالى قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( المائدة 116 ) والسحر بدل من المبتدأ ولزم أن يلحقه الاستفهام ليساوي المبدل منه في أنه استفهام كما تقول كم مالك أعشرون أم ثلاثون فجعلت أعشرون بدلاً من كم ولا يلزم أن يضمر للسحر خبر لأنك إذا أبدلته من المبتدأ صار في موضعه وصار ما كان خبراً عن المبدل منه خبراً عنه
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيهلكه ويظهر فضيحة صاحبه إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يقويه ولا يكمله
ثم قال وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ ومعنى إحقاق الحق إظهاره وتقويته وقوله بِكَلِمَاتِهِ أي بوعده موسى وقيل بما سبق من قضائه وقدره وفي كلمات الله أبحاث غامضة عميقة عالية وقد ذكرناها في بعض مواضع من هذا الكتاب
فَمَآ ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّة ٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ
واعلم أنه تعالى بين فيما تقدم ما كان من موسى عليه السلام من المعجزات العظيمة وما ظهر من تلقف العصا لكل ما أحضروه من آلات السحر ثم إنه تعالى بين أنهم مع مشاهدة المعجزات العظيمة ما آمن به منهم إلا ذرية من قومه وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه كان يغتم بسبب إعراض القوم عنه(17/115)
واستمرارهم على الكفر فبين أن له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة لأن الذي ظهر من موسى عليه السلام كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم ومع ذلك فما آمن به منهم إلا ذرية واختلفوا في المراد بالذرية على وجوه الأول أن الذرية ههنا معناها تقليل العدد قال ابن عباس لفظ الذرية يعبر به عن القوم على وجه التحقير والتصغير ولا سبيل إلى حمله على التقدير على وجه الإهانة في هذا الموضع فوجب حمله على التصغير بمعنى قلة العدد الثاني قال بعضهم المراد أولاد من دعاهم لأن الآباء استمروا على الكفر إما لأن قلوب الأولاد ألين أو دواعيهم على الثبات على الكفر أخف الثالث أن الذرية قوم كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل الرابع الذرية من آل فرعون آسية امرأة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وماشطتها وأما الضمير في قوله مِن قَوْمِهِ فقد اختلفوا أن المراد من قوم موسى أو من قوم فرعون لأن ذكرهما جميعاً قد تقدم والأظهر أنه عائد إلى موسى لأنه أقرب المذكورين ولأنه نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل
أما قوله عَلَى خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ففيه أبحاث
البحث الأول أن أولئك الذين آمنوا بموسى كانوا خائفين من فرعون جداً لأنه كان شديد البطش وكان قد أظهر العداوة مع موسى فإذا علم ميل القوم إلى موسى كان يبالغ في إيذائهم فلهذا السبب كانوا خائفين منه
البحث الثاني إنما قال وَمَلَئِهِمْ مع أن فرعون واحد لوجوه الأول أنه قد يعبر عن الواحد بلفظ الجمع والمراد التعظيم قال الله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) الثاني أن المراد بفرعون آل فرعون الثالث أن هذا من باب حذف المضاف كأنه أريد بفرعون آل فرعون
ثم قال أَن يَفْتِنَهُمْ أي يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم
ثم قال وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الاْرْضِ أي لغالب فيها قاهر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ قيل المراد أنه كثير القتل كثير التعذيب لمن يخالفه في أمر من الأمور والغرض منه بيان السبب في كون أولئك المؤمنين خائفين وقيل إنما كان مسرفاً لأنه كان من أخس العبيد فادعى الإلهية
وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أن قوله وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ جزاء معلق على شرطين أحدهما متقدم والآخر متأخر والفقهاء قالوا المتأخر يجب أن يكون متقدماً والمتقدم يجب أن يكون متأخراً ومثاله أن يقول الرجل لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً وإنما كان الأمر(17/116)
كذلك لأن مجموع قوله إن دخلت الدار فأنت طالق صار مشروطاً بقوله إن كلمت زيداً والمشروط متأخر عن الشرط وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متقدماً في المعنى وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى والتقدير كأنه يقول لامرأته حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدار فأنت طالق فلو حصل هذا التعليق قبل إن كلمت زيداً لم يقع الطلاق
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً لأن يصيروا مخاطبين بقوله وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل والأمر كذلك لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام وهو إشارة إلى الانقياد للتكاليف الصادرة عن الله تعالى وإظهار الخضوع وترك التمرد وأما الإيمان فهو عبارة عن صيرورة القلب عارفاً بأن واجب الوجود لذاته واحد وأن ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على الله فهذه الآية من لطائف الأسرار والتوكل على الله عبارة عن تفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأحوال على الله تعالى
واعلم أن من توكل على الله في كل المهمات كفاه الله تعالى كل الملمات لقوله وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ( الطلاق 3 )
المسألة الثانية أن هذا الذي أمر موسى قومه به وهو التوكل على الله هو الذي حكاه الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ( يونس 71 ) وعند هذا يظهر التفاوت بين الدرجتين لأن نوحاً عليه السلام وصف نفسه بالتوكل على الله تعالى وموسى عليه السلام أمر قومه بذلك فكان نوحاً عليه السلام تاماً وكان موسى عليه السلام فوق التمام
المسألة الثالثة إنما قال فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ ولم يقل توكلوا عليه لأن الأول يفيد الحصر كأنه عليه السلام أمرهم بالتوكل عليه ونهاهم عن التوكل على الغير والأمر كذلك لأنه لما ثبت أن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وتسخيره وتحت حكمه وتدبيره امتنع في العقل أن يتوكل الإنسان على غيره فلهذا السبب جاءت هذ الكلمة بهذه العبارة ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام لما أمرهم بذلك قبلوا قوله وَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا أي توكلنا عليه ولا نلتفت إلى أحد سواه ثم لما فعلوا ذلك اشتغلوا بالدعاء فطلبوا من الله تعالى شيئين أحدهما أن قالوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وفيه وجوه الأول أن المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا لوقع في قلوبهم أنا لو كنا على الحق لما سلطتهم علينا فيصير ذلك شبهة قوية في إصرارهم على الكفر فيصير تسليطهم علينا فتنة لهم الثاني أنك لو سلطتهم علينا لاستوجبوا العقاب الشديد في الآخرة وذلك يكون فتنة لهم الثالث لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لَهُمْ أي موضع فتنة لهم أي موضع عذاب لهم الرابع أن يكون المراد من الفتنة المفتون لأن إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز كالخلق بمعنى المخلوق والتكوين بمعنى المكون والمعنى لا تجعلنا مفتونين أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالظلم والقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه وهذا التأويل متأكد بما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّة ٌ مّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ(17/117)
وأما المطلوب الثاني في هذا الدعاء فهو قوله تعالى وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
واعلم أن هذا الترتيب يدل على أنه كان اهتمام هؤلاء بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم وذلك لأنا إن حملنا قولهم رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ على أنهم إن سلطوا على المسلمين صار ذلك شبهة لهم في أن هذا الدين باطل فتضرعوا إلي تعالى في أن يصون أولئك الكفار عن هذه الشبهة وقدموا هذا الدعاء على طلب النجاة لأنفسهم وذلك يدل على أن عنايتهم بمصالح دين أعدائهم فوق عنايتهم بمصالح أنفسهم وإن حملناه على أن لا يمكن الله تعالى أولئك الكفار من أن يحملوهم على ترك هذا الدين كان ذلك أيضاً دليلاً على أن اهتمامهم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم وعلى جميع التقديرات فهذه لطيفة شريفة
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أنه لما شرح خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر منهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهرون باتخاذ المساجد والإقبال على الصلوات يقال تبوأ المكان أي اتخذه مبوأ كقوله توطنه إذا اتخذه موطناً والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة والصلاة
ثم قال وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً وفيه أبحاث
البحث الأول من الناس من قال المراد من البيوت المساجد كما في قوله تعالى فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ بَعْدِى اسْمُهُ ( النور 36 ) ومنهم من قال المراد مطلق البيوت أما الأولون فقد فسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة ثم قالوا والمراد من قوله وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً أي اجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة وقال الفراء واجعلوا بيوتكم قبلة أي إلى القبلة وقال ابن الأنباري واجعلوا بيوتكم قبلة أي قبلاً يعني مساجد فأطلق لفظ الوحدان والمراد الجمع واختلفوا في أن هذه القبلة أين كانت فظاهر أن لفظ القرآن لا يدل على تعيينه إلا أنه نقل عن ابن عباس أنه قال كانت الكعبة قبلة موسى عليه السلام وكان الحسن يقول الكعبة قبلة كل الأنبياء وإنما وقع العدول عنها بأمر الله تعالى في أيام الرسول عليه السلام بعد الهجرة وقال آخرون كانت تلك القبلة جهة بيت المقدس وأما القائلون بأن المراد من لفظ البيوت المذكورة في هذه الآية مطلق البيت فهؤلاء لهم في تفسير قوله قِبْلَة َ وجهان الأول المراد بجعل تلك البيوت قبلة أي متقابلة والمقصود منه حصول الجمعية واعتضاد البعض بالبضع وقال آخرون المراد واجعلوا دوركم قبلة أي صلوا في بيوتكم(17/118)
البحث الثاني أنه تعالى خص موسى وهرون في أول هذه الآية بالخطاب فقال ءانٍ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ثم عمم هذا الخطاب فقال وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً والسبب فيه أنه تعالى أمر موسى وهرون أن يتبوآ لقومهما بيوتاً للعبادة وذلك مما يفوض إلى الأنبياء ثم جاء الخطاب بعد ذلك عاماً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها لأن ذلك واجب على الكل ثم خص موسى عليه السلام في آخر الكلام بالخطاب فقال وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة فخص الله تعالى موسى بها ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى عليه السلام وأن هرون تبع له
البحث الثالث ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً ثلاثة الأول أن موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أول الإسلام في مكة الثاني قيل إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون الثالث أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهرون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل تعالى أنه يصونهم عن شر الأعداء
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاّهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن موسى لما بالغ في إظهار المعجزات الظاهرة القاهرة ورأى القوم مصرين على الجحود والعناد والإنكار أخذ يدعو عليهم ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أولاً سبب إقدامه على تلك الجرائم وكان جرمهم هو أنهم لأجل حبهم الدنيا تركوا الدين فلهذا السبب قال موسى عليه السلام رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً والزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصامت والناطق
ثم قال لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وعاصم لِيُضِلُّواْ بضم الياء وقرأ الباقون بفتح الياء(17/119)
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يضل الناس ويريد إضلالهم وتقريره من وجهين الأول أن اللام في قوله لِيُضِلُّواْ لام التعليل والمعنى أن موسى قال يا رب العزة إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا فدل هذا على أنه تعالى قد يريد إضلال المكلفين الثاني أنه قال وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فقال الله تعالى قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا وذلك أيضاً يدل على المقصود قال القاضي لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ويدل عليه وجوه الأول أنه ثبت أنه تعالى منزه عن فعل القبيح وإرادة الكفر قبيحة والثاني أنه لو أراد ذلك لكان الكفار مطيعين لله تعالى بسبب كفرهم لأنه لا معنى للطاعة إلا الإتيان بما يوافق الإرادة ولو كانوا كذلك لما استحقوا الدعاء عليهم بطمس الأموال وشد القلوب والثالث أنا لو جوزنا أن يريد إضلال العباد لجوزنا أن يبعث الأنبياء عليهم السلام للدعاء إلى الضلال ولجاز أن يقوي الكذابين الضالين المضلين بإظهار المعجزات عليهم وفيه هدم الدين وإبطال الثقة بالقرآن والرابع أنه لا يجوز أن يقول لموسى وهرون عليهما السلام فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وأن يقول وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( الأعراف 130 ) ثم إنه تعالى أراد الضلالة منهم وأعطاهم النعم لكي يضلوا لأن ذلك كالمناقضة فلا بد من حمل أحدهما على موافقة الآخر الخامس أنه لا يجوز أن يقال إن موسى عليه السلام دعا ربه بأن يطمس على أموالهم لأجل أن لا يؤمنوا مع تشدده في إرادة الإيمان
واعلم أنا بالغنا في تكثير هذه الوجوه في مواضع كثيرة من هذا الكتاب
وإذا ثبت هذا فنقول وجب تأويل هذه الكلمة وذلك من وجوه الأول أن اللام في قوله لِيُضِلُّواْ لام العاقبة كقوله تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) ولما كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال وقد أعلمه الله تعالى لا جرم عبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ الثاني أن قوله رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ أي لئلا يضلوا عن سبيلك فحذف لا لدلالة المعقول عليه كقوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) والمراد أن لا تضلوا وكقوله تعالى قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( الأعراف 172 ) والمراد لئلا تقولوا ومثل هذا الحذف كثير في الكلام الثالث أن يكون موسى عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التعجب المقرون بالإنكار والتقدير كأنك آتيتهم ذلك الغرض فإنهم لا ينفقون هذه الأموال إلا فيه وكأنه قال آتيتهم زينة وأموالاً لأجل أن يضلوا عن سبيل الله ثم حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا
أراد أكذبتك فكذا ههنا الرابع قال بعضهم هذه اللام لام الدعاء وهي لام مكسورة تجزم المستقل ويفتتح بها الكلام فيقال ليغفر الله للمؤمنين وليعذب الله الكافرين والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك الخامس أن هذه اللام لام التعليل لكن بحسب ظاهر الأمر لا في نفس الحقيقة وتقريره أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال وصارت تلك الأموال سبباً لمزيد البغي والكفر أشبهت هذه الحالة حالة من أعطى المال لأجل الإضلال فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى السادس بينا في تفسير قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا في أول سورة البقرة إن الضلال قد جاء في القرآن بمعنى الهلاك يقال الماء(17/120)
في اللبن أي هلك فيه
إذا ثبت هذا فنقول قوله رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ معناه ليهلكون ويموتوا ونظيره قوله تعالى فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( التوبة 55 ) فهذا جملة ما قيل في هذا الباب
واعلم أنا قد أجبنا عن هذه الوجوه مراراً كثيرة في هذا الكتاب ولا بأس بأن نعيد بعضها في هذا المقام فنقول الذي يدل على أن حصول الإضلال من الله تعالى وجوه الأول أن العبد لا يقصد إلا حصول الهداية فلما لم تحصل الهداية بل حصل الضلال الذي لا يريده علمنا أن حصوله ليس من العبد بل من الله تعالى
فإن قالوا إنه ظن بهذا الضلال أنه هدى فلا جرم قد أوقعه وأدخله في الوجود فنقول فعلى هذا يكون إقدامه على تحصيل هذا الجهل بسبب الجهل السابق فلو كان حصول ذلك الجهل السابق بسبب جهل آخر لزم التسلسل وهو محال فثبت أن هذه الجهالات والضلالات لا بد من انتهائها إلى جهل أول وضلال أول وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد وتكوينه لأنه كرهه وإنما اراد ضده فوجب أن يكون من الله تعالى الثاني إنه تعالى لما خلق الخلق بحيث يحبون المال والجاه حبا شديدا لا يمكنه إزالة هذا الحب عن نفسه البتة وكان حصول هذا الحب يوجب الإعراض عمن يستخدمه ويوجب التكبر عليه وترك الالتفات إلى قوله وذلك يوجب الكفر فهذه الأشياء بعضها يتأدى إلى البعض تأديا على سبيل اللزوم وجب أن يكون فاعل هذا الكفر هو الذي خلق الإنسان مجبولا على حب المال والجاه الثالث وهو الحجة الكبرى أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية فلا يترجح أحد الطرفين على الثاني إلا لمرجح وذلك المرجح ليس من العبد وإلا لعاد الكلام فيه فلا بد وأن يكون من الله تعالى وإذا كان كذلك كانت الهداية والإضلال من الله تعالى الرابع أنه تعالى أعطى فرعون وقومه زينة وأموالا وقوى حب ذلك المال والجاه في قلوبهم وأودع في طباعهم نفرة شديدة عن خدمة موسى عليه السلام والانقياد له لا سيما وكان فرعون كالمنعم في حقه والمربي له والنفرة عن خدمة من هذا شأنه راسخة في القلوب وكل ذلك يوجب إعراضهم عن قبول دعوة موسى عليه السلام وإصرارهم على إنكار صدقه فثبت بالدليل العقلي أن إعطاء الله تعالى فرعون وقومه زينة الدنيا وأموال الدنيا لا بد وأن يكون موجبا لضلالهم فثبت أن ما أشعر به ظاهر اللفظ فقد ثبت صحته بالعقل الصريح فكيف يمكن ترك ظاهر اللفظ في مثل هذا المقام وكيف يحسن حمل الكلام على الوجوه المتكلفة الضعيفة جدا
إذا عرفت هذا فنقول
أما الوجه الأول وهو حمل اللام على لام العاقبة فضعيف لأن موسى عليه السلام ما كان عالما بالعواقب
فإن قالوا إن الله تعالى أخبره ب 1 لك
قلنا فلما أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون كان صدور الإيمان منهم محالا لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله كذبا وهو محال والمفضي إلى المحال محال(17/121)
وأما الوجه الثاني وهو قولهم يحمل قوله ليضلوا عن سبيلك على أن المراد لئلا يضلوا عن سبيلك فنقول إن هذا التأويل ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره وأقول إنه لما شرع في تفسير
قوله تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ ثم نقل عن بعض أصحابنا أنه قرأ فَمِن نَّفْسِكَ على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ثم إنه استبعد هذه القراءة وقال إنها تقتضي تحريف القرآن وتغييره وتفتح باب تأويلات الباطنية وبالغ في إنكار تلك القراءة وهذا الوجه الذي ذكره ههنا شر من ذلك لأنه قلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً وتجويزه يفتح باب أن لا يبقى الاعتماد على القرآن لا في نفيه ولا في إثباته وحينئذ يبطل القرآن بالكلية هذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد منه الاستفهام بمعنى الإنكار فإن تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواطن فلعله تعالى إنما قال وَأَنْ أَقِيمُواْ وَإِذْ أَخَذْنَا على سبيل الإنكار والتعجب وأما بقية الجوابات فلا يخفى ضعفها
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وذكرنا معنى الطمس عند قوله تعالى مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً ( النساء 47 ) والطمس هو المسخ قال ابن عباس رضي الله عنهما بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً وجعل سكرهم حجارة
ثم قال وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان قال الواحدي وهذا دليل على أن الله تعالى يفعل ذلك بمن يشاء ولولا ذلك لما حسن من موسى عليه السلام هذا السؤال
ثم قال فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ وفيه وجهان أحدهما أنه يجوز أن يكون معطوفاً على قوله لِيُضِلُّواْ والتقدير ربنا ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وقوله رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ يكون اعتراضاً والثاني يجوز أن يكون جواباً لقوله وَاشْدُدْ والتقدير اطبع على قلوبهم وقسها حتى لا يؤمنوا فإنها تستحق ذلك
ثم قال تعالى قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا وفيه وجهان الأول قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن موسى كان يدعو وهرون كان يؤمن فلذلك قال قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا وذلك لأن من يقول عند دعاء الداعي آمين فهو أيضاً داع لأن قوله آمين تأويله استجب فهو سائل كما أن الداعي سائل أيضاً الثاني لا يبعد أن يكون كل واحد منهما ذكر هذا الدعاء غاية ما في الباب أن يقال إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً إلا أن هذا لا ينافي أن يكون هرون قد ذكر ذلك الدعاء أيضاً
وأما قوله فَاسْتَقِيمَا يعني فاستقيما على الدعوة والرسالة والزيادة في إلزام الحجة فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلاً فلا تستعجلا قال ابن جريج إن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة
وأما قوله وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ففيه بحثان
البحث الأول المعنى لا تتبعان سبيل الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجاباً كان المقصود(17/122)
حاصلاً في الحال فربما أجاب الله تعالى دعاء إنسان في مطلوبه إلا أنه إنما يوصله إليه في وقته المقدر والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال وهذا كما قال لنوح عليه السلام إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( هود 46 )
واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام كما أن قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) لا يدل على صدور الشرك منه
البحث الثاني قال الزجاج قوله وَلاَ تَتَّبِعَانّ موضعه جزم والتقدير ولا تتبعا إلا أن النون الشديدة دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها وسكون النون التي قبلها فاختير لها الكسرة لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية وقرأ ابن عامر وَلاَ تَتَّبِعَانّ بتخفيف النون
وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنوا إِسْرَاءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ءَاأنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَة ً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ ءايَاتِنَا لَغَافِلُونَ
اعلم أن تفسير اللفظ في قوله وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ مذكور في سورة الأعراف والمعنى أنه تعالى لما أجاب دعاءهما أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ويسر لهم أسبابه وفرعون كان غافلاً عن ذلك فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج على عقبهم وقوله فَأَتْبَعَهُمْ أي لحقهم يقال أتبعه حتى لحقه وقوله بَغْيًا وَعَدْوًا البغي طلب الاستعلاء بغير حق والعدو الظلم روي أن موسى عليه السلام لما خرج مع قومه وصلوا إلى طرف البحر وقرب فرعون مع عسكره منهم فوقعوا في خوف شديد لأنهم صاروا بين بحر مغرق وجند مهلك فأنعم الله عليهم بأن أظهر لهم طريقاً في البحر على ما ذكر الله تعالى هذه القصة بتمامها في سائر السور ثم إن موسى عليه السلام مع أصحابه دخلوا وخرجوا وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً ليطمع فرعون وجوده في التمكن من العبور فلما دخل مع جمعه أغرقه الله تعالى بأن أوصل أجزاء الماء ببعضها وأزال الفلق فهو معنى قوله فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وبين ما كان في قلوبهم من البغي وهي محبة الإفراط في قتلهم وظلمهم والعدو وهوتجاوز الحد ثم ذكر تعالى أنه لما أدركه الغرق أظهر كلمة الإخلاص ظناً منه أنه ينجيه من تلك الآفات وههنا سؤالان
السؤال الأول أن الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفظ بهذا اللفظ فكيف حكى الله تعالى عنه أنه ذكر ذلك(17/123)
والجواب من وجهين الأول أن مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو كلام النفس لا كلام اللسان فهو إنما ذكر هذا الكلام بالنفس لا بكلام اللسان ويمكن أن يستدل بهذه الآية على إثبات كلام النفس لأنه تعالى حكى عنه أنه قال هذا الكلام وثبت بالدليل أنه ما قاله باللسان فوجب الاعتراف بثبوت كلام غير كلام اللسان وهو المطلوب الثاني أن يكون المراد من الغرق مقدماته
السؤال الثاني أنه آمن ثلاث مرات أولها قوله ءامَنتُ وثانيها قوله لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ وثالثها قوله وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فما السبب في عدم القبول والله تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ وحقد حتى يقال إنه لأجل ذلك الحقد لم يقبل منه هذا الإقرار
والجواب العلماء ذكروا فيه وجوهاً
الوجه الأول أنه إنما آمن عند نزول العذاب والإيمان في هذا الوقت غير مقبول لأن عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء وفي هذا الحال لا تكون التوبة مقبولة ولهذا السبب قال تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 )
الوجه الثاني هو أنه إنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة والمحنة الناجزة فما كان مقصوده من هذه الكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى والاعتراف بعزة الربوبية وذلة العبودية وعلى هذا التقدير فما كان ذكر هذه الكلمة مقروناً بالإخلاص فلهذا السبب ما كان مقبولاً
الوجه الثالث هو أن ذلك الإقرار كان مبنياً على محض التقليد ألا ترى أنه قال لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله إلا أنه سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلهاً فهو أقر بذلك الإله الذي سمع من بني إسرائيل أنهم أقروا بوجوده فكان هذا محض التقليد فلهذا السبب لم تصر الكلمة مقبولة منه ومزيد التحقيق فيه أن فرعون على ما بيناه في سورة طه كان من الدهرية وكان من المنكرين لوجود الصانع تعالى ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنو الحجج القطعية والدلائل اليقينية وأما بالتقليد المحض فهو لا يفيد لأنه يكون ضماً لظلمة التقليد إلى ظلمة الجهل السابق
الوجه الرابع رأيت في بعض الكتب أن بعض أقوام من بني إسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلما قال فرعون أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى الَّذِينَ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ إِسْراءيلَ انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت فكانت هذه الكلمة في حقه سبباً لزيادة الكفر
الوجه الخامس أن اليهود كانت قلوبهم مائلة إلى التشبيه والتجسيم ولهذا السبب اشتغلوا بعبادة العجل لظنهم أنه تعالى حل في جسد ذلك العجل ونزل فيه فلما كان الأمر كذلك وقال فرعون وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا إِسْراءيلَ فكإنه آمن بالإله الموصوف بالجسمية والحلول والنزول وكل من اعتقد ذلك كان كافراً فلهذا السبب ما صح إيمان فرعون
الوجه السادس لعل الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى والإقرار بنبوة موسى عليه السلام فههنا لما أقر فرعون بالوحدانية ولم يقر بالنبوة لا جرم لم يصح إيمانه ونظيره أن الواحد من الكفار(17/124)
لو قال ألف مرة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمان إلا إذا قال معه وأشهد أن محمداً رسول الله فكذا ههنا
الوجه السابع روى صاحب ( الكشاف ) أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا فيها ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه فكتب فرعون فيها يقول أبو العباس الوليد بن مصعب جزاء العبد الخارج على سيده الكافر بنعمته أن يغرق في البحر ثم إن فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه
أما قوله تعالى ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ففيه سؤالات
السؤال الأول من القائل له ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ
الجواب الأخبار دالة على أن قائل هذا القول هو جبريل وإنما ذكر قوله وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ في مقابلة قوله وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ومن الناس من قال إن قائل هذا القول هو الله تعالى لأنه ذكر بعده فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ إلى قوله فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى
السؤال الثاني ظاهر اللفظ يدل على أنه إنما لم تقبل توبته للمعصية المتقدمة والفساد السابق وصحة هذا التعليل لا تمنع من قبول التوبة
والجواب مذهب أصحابنا أن قبول التوبة غير واجب عقلاً وأحد دلائلهم على صحة ذلك هذه الآية وأيضاً فالتعليل ما وقع بمجرد المعصية السابقة بل بتلك المعصية مع كونه من المفسدين
السؤال الثالث هل يصح أن جبريل عليه السلام أخذ يملأ فمه من الطين لئلا يتوب غضباً عليه
والجواب الأقرب أنه لا يصح لأن في تلك الحالة إما أن يقال التكليف كان ثابتاً أو ما كان ثابتاً فإن كان ثابتاً لم يجز على جبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة لقوله تعالى وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ( المائدة 2 ) وأيضاً فلو منعه بما ذكروه لكانت التوبة ممكنة لأن الأخرس قد يتوب بأن يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح وحينئذ لا يبقى لما فعله جبريل عليه السلام فائدة وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر وأيضاً فكيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهرون عليهما السلام فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) ثم يأمر جبريل عليه السلام بأن يمنعه من الإيمان ولو قيل إن جبريل عليه السلام إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله تعالى فهذا يبطله قول جبريل وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 ) وقوله تعالى في صفتهم وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( الأنبياء 28 ) وقوله لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) وأما إن قيل إن التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى لهذا الفعل الذي نسب جبريل إليه فائدة أصلاً
ثم قال تعالى فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ وفيه وجوه الأول نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ أي نلقيك بنجوة من(17/125)
الأرض وهي المكان المرتفع الثاني نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ولكن بعد أن تغرق وقوله بِبَدَنِكَ في موضع الحال أي في الحال التي أنت فيه حينئذ لا روح فيك الثالث أن هذا وعد له بالنجاة على سبيل التهكم كما في قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) كأنه قيل له ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك ومثل هذا الكلام قد يذكر على سبيل الاستهزاء كما يقال نعتقك ولكن بعد الموت ونخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت الرابع قرأ بعضهم نُنَجّيكَ بالحاء المهملة أي نلقيك بناحية مما يلي البحر وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب من جوانب البحر قال كعب رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور
وأما قوله بِبَدَنِكَ ففيه وجوه الأول ما ذكرنا أنه في موضع الحال أي في الحال التي كنت بدناً محضاً من غير روح الثاني المراد ننجيك ببدنك كاملاً سوياً لم تتغير الثالث نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ أي نخرجك من البحر عرياناً من غير لباس الرابع نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ أي بدرعك قال الليث البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين فقوله بِبَدَنِكَ أي بدرعك وهذا منقول عن ابن عباس قال كان عليه درع من ذهب يعرف بها فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف أقول إن صح هذا فقد كان ذلك معجزة لموسى عليه السلام
وأما قوله لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً ففيه وجوه الأول أن قوماً ممن اعتقدوا فيه الإلهية لما لم يشاهدوا غرقه كذبوا بذلك وزعموا أن مثله لا يموت فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى شاهدوه وزالت الشبهة عن قلوبهم وقيل كان مطرحه على ممر بني إسرائيل الثاني لا يبعد أنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 ) ليكون ذلك زجراً للخلق عن مثل طريقته ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة ثم آل أمره إلى ما يرون الثالث قرأ بعضهم لِمَنْ خَلَقَكَ بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته الرابع أنه تعالى لما أغرقه مع جميع قومه ثم إنه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قعر البحر بل خصه بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة العجيبة دالاً على كمال قدرة الله تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة
وأما قوله فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً فالأظهر أنه تعالى لما ذكر قصة موسى وفرعون وذكر حال عاقبة فرعون وختم ذلك بهذا الكلام وخاطب به محمداً عليه الصلاة والسلام فيكون ذلك زاجراً لأمته عن الإعراض عن الدلائل وباعثاً لهم على التأمل فيها والاعتبار بها فإن المقصود من ذكر هذه القصص حصول الاعتبار كما قال تعالى لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 )
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(17/126)
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده ذكر أيضاً في هذه الآية ما وقع عليه الختم في أمر بني إسرائيل وههنا بحثان
البحث الأول أن قوله بَوَّأْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي أسكناهم مكان صدق أي مكاناً محموداً وقوله مُبَوَّأَ صِدْقٍ فيه وجهان الأول يجوز أن يكون مبوأ صدق مصدراً أي بوأناهم تبوأ صدق الثاني أن يكون المعنى منزلاً صالحاً مرضياً وإنما وصف المبوأ بكونه صدقاً لأن عادة العرب أنها إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق تقول رجل صدق وقدم صدق قال تعالى وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ ( الإسراء 80 ) والسبب فيه أن ذلك الشيء إذا كان كاملاً في وقت صالحاً للغرض المطلوب منه فكل ما يظن فيه من الخبر فإنه لا بد وأن يصدق ذلك الظن
البحث الثاني اختلفوا في أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية أهم اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام أم الذين كانوا في زمن محمد عليه السلام
أما القول الأول فقد قال به قوم ودليلهم أنه تعالى لما ذكر هذه الآية عقيب قصة موسى عليه السلام كان حمل هذه الآية على أحوالهم أولى وعلى هذا التقدير كان المراد بقوله وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ الشام ومصر وتلك البلاد فإنها بلاد كثيرة الخصب قال تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( الإسراء 1 ) والمراد من قوله وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ تلك المنافع وأيضاً المراد منها أنه تعالى أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق والصامت والحرث والنسل كما قال وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا ( الأعراف 137 )
ثم قال تعالى فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ والمراد أن قوم موسى عليه السلام بقوا على ملة واحدة ومقالة واحدة من غير اختلاف حتى قرؤا التوراة فحينئذ تنبهوا للمسائل والمطالب ووقع الاختلاف بينهم ثم بين تعالى أن هذا النوع من الاختلاف لا بد وأن يبقى في دار الدنيا وأنه تعالى يقضي بينهم يوم القيامة
وأما القول الثاني وهو أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية اليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام فهذا قال به قوم عظيم من المفسرين قال ابن عباس وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من الطيبات والمراد ما في تلك البلاد من الرطب والتمر التي ليس مثلها طيباً في البلاد ثم إنهم بقوا على دينهم ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم العلم والمراد من العلم القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام وإنما سماه علماً لأنه سبب العلم وتسمية السبب باسم المسبب مجاز مشهور وفي كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان الأول أن اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام ويفتخرون به على سائر الناس فلما بعثه الله تعالى كذبوه حسداً وبغياً وإيثاراً لبقاء الرياسة وآمن به طائفة منهم فبهذا الطريق صار نزول القرآن سبباً لحدوث الاختلاف فيهم الثاني أن يقال إن هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً(17/127)
بالكلية وبقوا على هذه الحالة حتى جاءهم العلم فعند ذلك اختلفوا فآمن قوم وبقي أقوام آخرون على كفرهم
وأما قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فالمراد منه أن هذا النوع من الاختلاف لا حيلة في إزالته في دار الدنيا وأنه تعالى في الآخرة يقضي بينهم فيتميز المحق من المبطل والصديق من الزنديق
فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل اختلافهم عند ما جاءهم العلم أورد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية ما يقوي قلبه في صحة القرآن والنبوة فقال تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي الشك في وضع اللغة ضم بعض الشيء إلى بعض يقال شك الجواهر في العقد إذا ضم بعضها إلى بعض ويقال شككت الصيد إذا رميته فضممت يده أو رجله إلى رجله والشكائك من الهوادج ما شك بعضها ببعض والشكاك البيوت المصطفة والشكائك الأدعياء لأنهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم أي يضمون وشك الرجل في السلاح إذا دخل فيه وضمه إلى نفسه وألزمه إياها فإذا قالوا شك فلان في الأمور أرادوا أنه وقف نفسه بين شيئين فيجوز هذا ويجوز هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه
المسألة الثانية اختلف المفسرون في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو فقيل النبي عليه الصلاة والسلام وقيل غيره أما من قال بالأول فاختلفوا على وجوه
الوجه الأول أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر والمراد غيره كقوله تعالى مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 1 ) وكقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وكقوله اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ( المائدة 116 ) ومن الأمثلة المشهورة إياك أعني واسمعي يا جاره
والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه الأول قوله تعالى في آخر السورة قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى ( يونس 104 ) فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه(17/128)
الآية على سبيل التصريح الثاني أن الرسول لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية والثالث أن بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل فالكل مصحف محرف فثبت أن الحق هو أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن المراد هو الأمة ومثل هذا معتاد فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير وكان تحت راية ذلك الأمير جمع فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه عليهم بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم
الوجه الثاني أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام فإنه يصرح ويقول ( يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة ) ونظيره قوله تعالى للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ( سبأ 41 ) وكما قال لعيسى عليه السلام قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا
الوجه الثالث هو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان من البشر وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس ونظيره قوله تعالى فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ( هود 12 ) وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله فَإِن كُنتَ فِي شَكّ فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين فهو كلام حق لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع فليس في الآية دلالة عليه والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة
والوجه الرابع في تقرير هذا المعنى أن تقول المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات وذلك الاستحياء صار مانعاً لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلاً على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب(17/129)
ولا يحصل بسببه نقصان فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات
الوجه الخامس أن يكون التقدير أنك لست شاكاً ألبتة ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة
الوجه السادس قال الزجاج إن الله خاطب الرسول في قوله فَإِن كُنتَ فِي شَكّ وهو شامل للخلق وهو كقوله الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( الطلاق 1 ) قال وهذا أحسن الأقاويل قال القاضي هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلاً تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر ثم قال ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل
الوجه السابع هو أن لفظ ءانٍ في قوله إِن كُنتَ فِى شَكّ للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقيناً
وأما الوجه الثاني وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع كما في قوله وَأَخَّرَتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ ( الانفطار 6 7 ) و وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ ( الانشقاق 6 ) وقوله فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ ( الزمر 49 ) ولم يرد في جميع هذه الآيات إنساناً بعينه بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ
المسألة الثالثة اختلفوا في أن المسؤول منه في قوله فَاسْأَلِ الَّذِينَ أُمُّ الْكِتَابِ من هم فقال المحققون هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وعبدالله بن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم ومنهم من قال الكل سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار لأنهم إذا بلغوا عدد التواتر ثم قرؤا آية من التوراة والإنجيل وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد حصل الغرض
فإن قيل إذا كان مذهبكم أن هذه الكتب قد دخلها التحريف والتغيير فكيف يمكن التعويل عليها
قلنا إنهم إنما حرفوها بسبب إخفاء الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته كان ذلك من أقوى الدلائل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنها لما بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دل ذلك على أنها كانت في غاية الظهور وأما أن المقصود من ذلك(17/130)
السؤال معرفة أي الأشياء ففيه قولان الأول أنه القرآن ومعرفة نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أنه رجع ذلك إلى قوله تعالى فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ ( يونس 93 ) والأول أولى لأنه هو الأهم والحاجة إلى معرفته أتم واعلم أنه تعالى لما بين هذا الطريق قال بعده لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ أي فأثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك وانتفاء التكذيب بآيات الله ويجوز أن يكون ذلك على طريق التهييج وإظهار التشدد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام عند نزوله ( لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق )
ثم قال وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَكُنتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ
واعلم أن فرق المكلفين ثلاثة إما أن يكون من المصدقين بالرسول أو من المتوقفين في صدقه أو من المكذبين ولا شك أن أمر المتوقف أسهل من أمر المكذب لا جرم قد ذكر المتوقف بقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ثم أتبعه بذكر المكذب وبين أنه من الخاسرين ثم إنه تعالى لما فصل هذا التفصيل بين أن له عباداً قضى عليهم بالشقاء فلا يتغيرون وعباداً قضى لهم بالكرامة فلا يتغيرون فقال إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر كلمات على الجمع وقرأ الباقون كلمة على لفظ الواحد وأقول إنها كلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة واحدة بحسب الواحدة الجنسية
المسألة الثانية المراد من هذه الكلمة حكم الله بذلك وإخباره عنه وخلقه في العبد مجموع القدرة والداعية الذي هو موجب لحصول ذلك الأثر أما الحكم والأخبار والعلم فظاهر وأما مجموع القدرة والداعي فظاهر أيضاً لأن القدرة لما كانت صالحة للطرفين لم يترجح أحد الجانبين على الآخر إلا لمرجح وذلك المرجح من الله تعالى قطعاً للتسلسل وعند حصول هذا المجموع يجب الفعل وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب وهو حق وصدق ولا محيص عنه
ثم قال تعالى وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ والمراد أنهم لا يؤمنون ألبتة ولو جاءتهم الدلائل التي لا حد لها ولا حصر وذلك لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى فإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل
القصة الثالثة
من القصص المذكورة في هذه السورة قصة يونس عليه السلام
فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَة ٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْى ِ فِى الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(17/131)
اعلم أنه تعالى لما بين من قبل إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( يونس 96 97 ) أتبعه بهذه الآية لأنها دالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم وانتفعوا بذلك الإيمان وذلك يدل على أن الكفار فريقان منهم من حكم عليه بخاتمة الكفر ومنهم من حكم عليه بخاتمة الإيمان وكل ما قضى الله به فهو واقع وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كلمة لَوْلاَ في هذه الآية طريقان
الطريق الأول أن معناه النفي روى الواحدي في ( البسيط ) قال قال أبو مالك صاحب ابن عباس كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر لولا فمعناه هلا إلا حرفين فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَة ٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا معناه فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها وكذلك فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ ( هود 116 ) معناه فما كان من القرون فعلى هذا تقدير الآية فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس وانتصب قوله إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ على أنه استثناء منقطع عن الأول لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها ووقع استثناء القول من القرية فكان كقوله وما بالربع من أحد
ألاأواري
وقرىء أيضاً بالرفع على البدل
الطريق الثاني أن لَوْلاَ معناه هلا والمعنى هلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر وأخلصت في الإيمان قبل معاينة العذاب إلا قوم يونس وظاهر اللفظ يقتضي استثناء قوم يونس من القرى إلا أن المعنى استثناء قوم يونس من أهل القرى وهو استثناء منقطع بمعنى ولكن قوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا
المسألة الثانية روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً فلما فقدوه خافوا نزول العقاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة وكان يونس قال لهم إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة ظهر في السماء غيم أسود شديد السواد فظهر منه دخان شديد وهبط ذلك الدخان حتى وقع في المدينة وسود سطوحهم فخرجوا إلى الصحراء وفرقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها فحن بعضها إلى بعض فعلت الأصوات وكثرت التضرعات وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة وعن ابن مسعود بلغ من توبتهم أن يردوا المظالم حتى أن الرجل كان يقلع الحجر بعد أن وضع عليه بناء أساسه فيرده إلى مالكه وقيل خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا قد نزل بنا العذاب فما ترى فقال لهم قولوا يا حي حين لاحي ويا حي يا محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوا فكشف الله العذاب عنهم وعن الفضل بن عباس أنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله
المسألة الثالثة إن قال قائل إنه تعالى حكى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته وحكى عن قوم يونس أنهم تابوا وقبل توبتهم فما الفرق(17/132)
والجواب أن فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب وأما قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك فإنهم لما ظهرت لهم أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن شاهدوا فظهر الفرق
وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ
اعلم أن هذه السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان حكاية شبهات الكفار في إنكار النبوة مع الجواب عنها وكانت إحدى شبهاتهم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يهددهم بنزول العذاب مع الكافرين وبعد اتباعه إن الله ينصرهم ويعلي شأنهم ويقوي جانبهم ثم إن الكفار ما رأوا ذلك فجعلوا ذلك شبهة في الطعن في نبوته وكانوا يبالغون في استعجال ذلك العذاب على سبيل السخرية ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد ثم ضرب لهذا أمثلة وهي واقعة نوح وواقعة موسى عليهما السلام مع فرعون وامتدت هذه البيانات إلى هذه المقامات ثم في هذه الآية بين أن جد الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفع ومبالغته في تقرير الدلائل وفي الجواب عن الشبهات لا تفيد لأن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته فإذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمان وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن جميع الكائنات بمشيئة الله تعالى فقالوا كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فقوله وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل أجاب الجبائي والقاضي وغيرهما بأن المراد مشيئة الإلجاء أي لو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه ولصح ذلك منه ولكنه ما فعل ذلك لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة ثم قال الجبائي ومعنى إلجاء الله تعالى إياهم إلى ذلك أن يعرفهم اضطراراً أنهم لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك وعند هذا لا بد وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه كما أن من علم منا أنه إن حاول قتل ملك فإنه يمنعه منه قهراً لم يكن تركه لذلك الفعل سبباً لاستحقاق المدح والثواب فكذا ههنا
واعلم أن هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه الأول أن الكافر كان قادراً على الكفر فهل كان قادراً على الإيمان أو ما كان قادراً عليه فإن قدر على الكفر ولم يقدر على الإيمان فحينئذ تكون القدرة على الكفر مستلزمة للكفر فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أن يقال إنه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر فوجب أن يقال إنه أراد منه الكفر وأما إن كانت القدرة صالحة للضدين كما هو مذهب القوم فرجحان أحد الطرفين على الآخر إن لم يتوقف على المرجح فقد حصل الرجحان لا لمرجح وهذا باطل وإن توقف على مرجح فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من الله فإن كان من العبد عاد التقسيم فيه ولزم التسلسل(17/133)
وهو محال وإن كان من الله تعالى فحينئذ يكون مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية موجباً لذلك الكفر فإذا كان خالق القدرة والداعية هو الله تعالى فحينئذ عاد الإلزام الثاني أن قوله وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يطلب أن يحصل لهم إيمان لا يفيدهم في الآخرة فبين تعالى أنه لا قدرة للرسول على تحصيل هذا الإيمان ثم قال وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا فوجب أن يكون المراد من الإيمان المذكور في هذه الآية هو هذا الإيمان النافع حتى يكون الكلام منتظماً فأما حمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء فإنه لا يليق بهذا الموضع الثالث المراد بهذا الإلجاء إما أن يكون هو أن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ثم يأتي بالإيمان عندها وإما أن يكون المراد خلق الإيمان فيهم والأول باطل لأنه تعالى بين فيما قبل هذه الآية أن إنزال هذه الآيات لا يفيد وهو قوله إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( يونس 96 97 ) وقال أيضاً وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الأنعام 111 ) وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان بل كان ذلك عبارة عن خلق الإيمان فيهم ثم يقال لكنه ما خلق الإيمان فيهم فدل على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم وهذا عين مذهبنا
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ والمعنى أنه لا قدرة لك على التصرف في أحد والمقصود منه بيان أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى
المسألة الثانية احتج أصحابنا على صحة قولهم أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع بقوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ قالوا وجه الاستدلال به أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان ثم قالوا والذي يدل عليه من جهة العقل وجوه الأول أن معرفة الله تعالى والاشتغال بشكره والثناء عليه لا يدل العقل على حصول نفع فيه فوجب أن لا يجب ذلك بحسب العقل بيان الأول أن ذلك النفع إما أن يكون عائداً إلى المشكور أو إلى الشاكر والأول باطل لأن في الشاهد المشكور ينتفع بالشكر فيسره الشكر ويسوءه الكفران فلا جرم كان الشكر حسناً والكفران قبيحاً أما الله سبحانه فإنه لا يسره الشكر ولا يسوءه الكفران فلا ينتفع بهذا الشكر أصلاً والثاني أيضاً باطل لأن الشاكر يتعب في الحال بذلك الشكر ويبذل الخدمة مع أن المشكور لا ينتفع به ألبتة ولا يمكن أن يقال إن ذلك الشكر علة الثواب لأن الاستحقاق على الله تعالى محال فإن الاستحقاق على الغير إنما يعقل إذا كان ذلك الغير بحيث لو لم يعط لأوجب امتناعه من إعطاء ذلك الحق حصول نقصان في حقه ولما كان الحق سبحانه منزهاً عن النقصان والزيادة لم يعقل ذلك في حقه فثبت أن الاشتغال بالإيمان وبالشكر لا يفيد نفعاً بحسب العقل المحض وما كان كذلك امتنع أن يكون العقل موجباً له فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ قال القاضي المراد أن الإيمان لا يصدر عنه إلا بعلم الله أو بتكليفه أو بإقداره عليه
وجوابنا أن حمل الإذن على ما ذكرتم ترك للظاهر وذلك لا يجوز لا سيما وقد بينا أن الدليل القاطع العقلي يقوي قولنا(17/134)
المسألة الثالثة قرأ أبو بكر عن عاصم وَنَجْعَلُ بالنون وقرأ الباقون بالياء كناية عن اسم الله تعالى
المسألة الرابعة احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وتقريره أن الرجس قد يراد به العمل القبيح قال تعالى إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) والمراد من الرجس ههنا العمل القبيح سواء كان كفراً أو معصية وبالتطهير نقل العبد من رجس الكفر والمعصية إلى طهارة الإيمان والطاعة فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه ذكر بعده أن الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر فثبت دلالة هذه الآية على أن الكفر والإيمان من الله تعالى
أجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال الرجس يحتمل وجهين آخرين أحدهما أن يكون المراد منه العذاب فقوله وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ أي يلحق العذاب بهم كما قال وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ( الفتح 6 ) والثاني أنه تعالى يحكم عليهم بأنهم رجس كما قال إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) والمعنى أن الطهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم
والجواب أنا قد بينا بالدليل العقلي أن الجهل لا يمكن أن يكون فعلاً للعبد لأنه لا يريده ولا يقصد إلى تكوينه وإنما يريد ضده وإنما قصد إلى تحصيل ضده فلو كان به لما حصل إلا ما قصده وأوردنا السؤالات على هذه الحجة وأجبنا عنها فيما سلف من هذا الكتاب وأما حمل الرجس على العذاب فهو باطل لأن الرجس عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على جهلهم وكفرهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقاً صدقاً صواباً وأما حمل لفظ الرجس على حكم الله برجاستهم فهو في غاية البعد لأن حكم الله تعالى بذلك صفته فكيف يجوز أن يقال إن صفة الله رجس فثبت أن الحجة التي ذكرناها ظاهرة
قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة قُلِ انظُرُواْ بكسر اللام لالتقاء الساكنين والأصل فيه الكسر والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللام
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات السالفة أن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
واعلم أن هذا يدل على مطلوبين الأول أنه لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بالتدبر في الدلائل كما قال عليه الصلاة والسلام ( تفكروا في الخلق ولاتتفكروا في الخلق ) والثاني وهو أن الدلائل إما أن تكون(17/135)
من عالم السموات أو من عالم الأرض أما الدلائل السماوية فهي حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها وما فيها من الشمس والقمر والكواكب وما يختص به كل واحد منها من المنافع والفوائد وأما الدلائل الأرضية فهي النظر في أحوال العناصر العلوية وفي أحوال المعادن وأحوال النبات وأحوال الإنسان خاصة ثم ينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها ولو أن الإنسان أخذ يتفكر في كيفية حكمة الله سبحانه في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقله قبل أن يصل إلى أقل مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد ولا شك أن الله سبحانه أكثر من ذكر هذه الدلائل في القرآن المجيد فلهذا السبب ذكر قوله قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ولم يذكر التفصيل فكأنه تعالى نبه على القاعدة الكلية حتى أن العاقل يتنبه لأقسامها وحينئذ يشرع في تفصيل حكمة كل واحد منها بقدر القوة العقلية والبشرية ثم إنه تعالى لما أمر بهذا التفكر والتأمل بين بعد ذلك أن هذا التفكر والتدبر في هذه الآيات لا ينفع في حق من حكم الله تعالى عليه في الأزل بالشقاء والضلال فقال وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال النحويون مَا في هذا الموضع تحتمل وجهين الأول أن تكون نفياً بمعنى أن هذه الآيات والنذر لا تفيد الفائدة في حق من حكم الله عليه بأنه لا يؤمن كقولك ما يغني عنك المال إذا لم تنفق والثاني أن تكون استفهاماً كقولك أي شيء يغني عنهم وهو استفهام بمعنى الإنكار
المسألة الثانية الآيات هي الدلائل والنذر الرسل المنذرون أو الإنذارات
المسألة الثالثة قرىء وَمَا يُغْنِى بالياء من تحت
فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنَّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ
واعلم أن المعنى هل ينتظرون إلا أياماً مثل أيام الأمم الماضية والمراد أن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كانوا يتوعدون كفار زمانهم بمجيء أيام مشتملة على أنواع العذاب وهم كانوا يكذبون بها ويستعجلونها على سبيل السخرية وكذلك الكفار الذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا كانوا يفعلون ثم إنه تعالى أمره بأن يقول لهم فَانتَظِرُواْ إِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُنتَظِرِينَ ثم إنه تعالى قال ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي في رواية نصير نُنَجّى خفيفة وقرأ الباقون مشددة وهما لغتان وكذلك في قوله نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ
المسألة الثانية ثم حرف عطف وتقدير الكلام كانت عادتنا فيما مضى أن نهلكهم سريعاً ثم ننجي رسلنا(17/136)
المسألة الثالثة لما أمر الرسول في الآية الأولى أن يوافق الكفار في انتظار العذاب ذكر التفصيل فقال العذاب لا ينزل إلا على الكفار وأما الرسول وأتباعه فهم أهل النجاة
ثم قال كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) أي مثل ذلك الإنجاء ننصر المؤمنين ونهلك المشركين وحقاً علينا اعتراض يعني حق ذلك علينا حقاً
المسألة الثانية قال القاضي قوله حَقّاً عَلَيْنَا المراد به الوجوب لأن تخليص الرسول والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب ولولاه لما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشاقة وإذا ثبت وجوبه لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدم
والجواب أنا نقول إنه حق بسبب الوعد والحكم ولا نقول إنه حق بسبب الاستحقاق لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً
قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ
واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على أقصى الغايات وأبلغ النهايات أمر رسوله بإظهار دينه وبإظهار المباينة عن المشركين لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره وتخرج عبادة الله من طريقة السر إلى الإظهار فقال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن هؤلاء الكفار ما كانوا يعرفون دين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الخبر إنهم كانوا يقولون فيه قد صبأ وهو صابىء فأمر الله تعالى أن يبين لهم أنه على دين إبراهيم حنيفاً مسلماً لقوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ( النحل 120 ) ولقوله وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ حَنِيفاً ( الأنعام 79 ) ولقوله لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الكافرون 2 ) والمعنى أنكم إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل ثم ذكر فيه أموراً
فالقيد الأول قوله فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وإنما وجب تقديم هذا النفي لما ذكرنا أن إزالة النقوش الفاسدة عن اللوح لا بد وأن تكون مقدمة على إثبات النقوش الصحيحة في ذلك اللوح وإنما وجب هذا النفي لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا بمن حصلت له غاية الجلال والإكرام وأما الأوثان فإنها أحجار والإنسان أشرف حالاً منها وكيف يليق بالأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس(17/137)
القيد الثاني قوله وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ والمقصود أنه لما بين أنه يجب ترك عبادة غير الله بين أنه يجب الاشتغال بعبادة الله
فإن قيل ما الحكمة في ذكر المعبود الحق في هذا المقام بهذه الصفة وهي قوله الَّذِى يَتَوَفَّاكُم
قلنا فيه وجوه الأول يحتمل أن يكون المراد أني أعبد الله الذي خلقكم أولاً ثم يتوفاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً وهذه المراتب الثلاثة قد قررناها في القرآن مراراً وأطواراً فههنا اكتفى بذكر التوفي منها لكونه منبهاً على البواقي الثاني أن الموت أشد الأشياء مهابة فنخص هذا الوصف بالذكر في هذا المقام ليكون أقوى في الزجر والردع الثالث أنهم لما استعجلوا نزول العذاب قال تعالى فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنَّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( يونس 102 103 ) فهذه الآية تدل على أنه تعالى يهلك أولئك الكفار ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم فلما كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وهو إشارة إلى ما قرره وبينه في تلك الآية كأنه يقول أعبد ذلك الذي وعدني بإهلاكهم وبإبقائي
والقيد الثالث من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ واعلم أنه لما ذكر العبادة وهي من جنس أعمال الجوارح انتقل منها إلى الإيمان والمعرفة وهذا يدل على أنه ما لم يصر الظاهر مزيناً بالأعمال الصالحة فإنه لا يحصل في القلب نور الإيمان والمعرفة
والقيد الرابع قوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا وفيه مسائل
المسألة الأولى الواو في قوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ حرف عطف وفي المعطوف عليه وجهان الأول أن قوله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ قائم مقام قوله وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ الثاني أن قوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ قائم مقام قوله وَأُمِرْتُ بإقامة الوجه فصار التقدير وأمرت بأن أكون من المؤمنين وبإقامة الوجه للدين حنيفاً
المسألة الثانية إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكلية إلى طلب الدين لأن من يريد أن ينظر إلى شيء نظراً بالاستقصاء فإنه يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يصرفه عنه لا بالقليل ولا بالكثير لأنه لو صرفه عنه ولو بالقليل فقد بطلت تلك المقابلة وإذا بطلت تلك المقابلة فقد اختل الأبصار فلهذا السبب حسن جعل إقامة الوجه للدين كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين وقوله حَنِيفاً أي مائلاً إليه ميلاً كلياً معرضاً عما سواه إعراضاً كلياً وحاصل هذا الكلام هو الإخلاص التام وترك الالتفات إلى غيره فقوله أولاً وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى تحصيل أصل الإيمان وقوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا إشارة إلى الاستغراق في نور الإيمان والإعراض بالكلية عما سواه
والقيد الخامس قوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ
واعلم أنه لا يمكن أن يكون هذا نهياً عن عبادة الأوثان لأن ذلك صار مذكوراً بقوله تعالى في هذه الآية فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فوجب حمل هذا الكلام على فائدة زائدة وهو أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي(17/138)
والقيد السادس قوله تعالى وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق وإذا كان كذلك فما سوى الحق فلا وجود له إلا إيجاد الحق وعلى هذا التقدير فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا الحق فكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك فلا حكم إلا لله ولا رجوع في الدارين إلا إلى الله
ثم قال في آخر الآية فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الظالمين لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه فإذا كان ما سوى الحق معزولاً عن التصرف كانت إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعاً للشيء في غير موضعه فيكون ظلماً
فإن قيل فطلب الشبع من الأكل والري من الشرب هل يقدح في ذلك الإخلاص
قلنا لا لأن وجود الخبز وصفاته كلها بإيجاد الله وتكوينه وطلب الانتفاع بشيء خلقه الله للانتفاع به لا يكون منافياً للرجوع بالكلية إلى الله إلا أن شرط هذا الإخلاص أن لا يقع بصر عقله على شيء من هذه الموجودات إلا ويشاهد بعين عقله أنها معدومة بذواتها وموجودة بإيجاد الحق وهالكة بأنفسها وباقية بإبقاء الحق فحينئذ يرى ما سوى الحق عدماً محضاً بحسب أنفسها ويرى نور وجوده وفيض إحسانه عالياً علي الكل
وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه وتعالى قرر في آخر هذه السورة أن جميع الممكنات مستندة إليه وجميع الكائنات محتاجة إليه والعقول والهة فيه والرحمة والجود والوجود فائض منه
واعلم أن الشيء إما أن يكون ضاراً وإما أن يكون نافعاً وإما أن يكون لا ضاراً ولا نافعاً وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير ولما كان الضر أمراً وجودياً لا جرم قال فيه وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ ولما كان الخير قد يكون وجودياً وقد يكون عدمياً لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ والآية دالة على أن الضر والخير واقعان بقدرة الله تعالى وبقضائه فيدخل فيه الكفر والإيمان والطاعة والعصيان والسرور والآفات والخيرات والآلام واللذات والراحات والجراحات فبين سبحانه وتعالى أنه إن قضى لأحد شراً فلا كاشف له إلا هو وإن قضى لأحد خيراً فلا راد لفضله ألبتة ثم في الآية دقيقة أخرى وهي أنه تعالى رجح جانب الخير على جانب الشر من ثلاثة أوجه الأول أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو وذلك يدل على أنه تعالى يزيل المضار لأن الاستثناء من النفي إثبات ولما ذكر الخير لم يقل بأنه يدفعه بل قال إنه لا راد لفضله وذلك يدل على أن الخير مطلوب بالذات وأن الشر مطلوب بالعرض(17/139)
كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رواية عن رب العزة أنه قال ( سبقت رحمتي غضبي ) الثاني أنه تعالى قال في صفة الخير يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وذلك يدل على أن جانب الخير والرحمة أقوى وأغلب والثالث أنه قال وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وهذا أيضاً يدل على قوة جانب الرحمة وحاصل الكلام في هذه الآية أنه سبحانه وتعالى بين أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتكوين والإبداع وأنه لا موجد سواه ولا معبود إلا إياه ثم نبه على أن الخير مراد بالذات والشر مراد بالعرض وتحت هذا الباب أسرار عميقة فهذا ما نقوله في هذه الآية
المسألة الثانية قال المفسرون إنه تعالى لما بين في الآية الأولى في صفة الأصنام أنها لا تضر ولا تنفع بين في هذه الآية أنها لا تقدر أيضاً على دفع الضرر الواصل من الغير وعلى الخير الواصل من الغير قال ابن عباس رضي الله عنهما إِن يَمْسَسْكُمْ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ يعني بمرض وفقر فلا دافع له إلا هو
وأما قوله وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فقال الواحدي هو من المقلوب معناه وإن يرد بك الخير ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر وأقول التقديم في اللفظ يدل على زيادة العناية فقوله وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يدل على أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله فهذه الدقيقة لا تستفاد إلا من هذا التركيب
قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
واعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل المذكورة في التوحيد والنبوة والمعاد وزين آخر هذه السورة بهذه البيانات الدالة على كونه تعالى مستبداً بالخلق والإبداع والتكوين والاختراع ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية وفي تفسيرها وجهان الأول أنه من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع له ذلك ومن حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه الثاني وهو الكلام اللائق بالمعتزلة قال القاضي إنه تعالى بين أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فلا يجب علي من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم وفي تخليصكم من العذاب الأليم أزيد مما فعلت قال ابن عباس هذه الآية منسوخة بآية القتال
ثم إنه تعالى ختم هذه الخاتمة بخاتمة أخرى لطيفة فقال وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
والمعنى أنه تعالى أمره باتباع الوحي والتنزيل فإن وصل إليه بسبب ذلك الاتباع مكروه فليصبر عليه(17/140)
إلى أن يحكم الله فيه وهو خير الحاكمين وأنشد بعضهم في الصبر شعراً فقال سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري
وأصبر حتى يحكم الله في أمري
أصبر حتى يعلم الصبر أنني
صبرت على شيء أمر من الصبر(17/141)
سورة هود
مكية إلا الآيات 12 و 17 و 114 فمدنية
وآياتها 123 نزلت بعد سورة يونس
ال ر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله الر اسم للسورة وهو مبتدأ وقوله كِتَابٌ خبره وقوله الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ صفة للكتاب قال الزجاج لا يجوز أن يقال الر مبتدأ وقوله كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ خبر لأن الر ليس هو الموصوف بهذه الصفة وحده وهذا الاعتراض فاسد لأنه ليس من شرط كون الشيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه ولا أدري كيف وقع للزجاج هذا السؤال ثم إن الزجاج اختار قولاً آخر وهو أن يكون التقدير الر هذا كتاب أحكمت آياته وعندي أن هذا القول ضعيف لوجهين الأول أن على هذا التقدير يقع قوله الر كلاماً باطلاً لا فائدة فيه والثاني أنك إذا قلت هذا كتاب فقوله ( هذا ) يكون إشارة إلى أقرب المذكورات وذلك هو قوله الر فيصير حينئذ الر مخبراً عنه بأنه كتاب أحكمت آياته فيلزمه على هذا القول ما لم يرض به في القول الأول فثبت أن الصواب ما ذكرناه
المسألة الثانية في قوله الر كِتَابٌ وجوه الأول الر كِتَابٌ نظمت نظماً رصيفاً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم المرصف الثاني أن الإحكام عبارة عن منع الفساد من الشيء فقوله الر كِتَابٌ أي لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها
واعلم أن على هذا الوجه لا يكون كل الكتاب محكماً لأنه حصل فيه آيات منسوخة إلا أنه لما كان الغالب كذلك صح إطلاق هذا الوصف عليه إجراء للحكم الثابت في الغالب مجرى الحكم الثابت في(17/142)
الكل الثالث قال صاحب ( الكشاف ) أُحْكِمَتْ يجوز أن يكون نقلاً بالهمزة من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً أي جعلت حكيمة كقوله الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ ( يونس 1 ) الرابع جعلت آياته محكمة في أمور أحدها أن معاني هذا الكتاب هي التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وهذه المعاني لا تقبل النسخ فهي في غاية الإحكام وثانيها أن الآيات الواردة فيه غير متناقضة والتناقض ضد الإحكام فإذا خلت آياته عن التناقض فقد حصل الإحكام وثالثها أن ألفاظ هذه الآيات بلغت في الفصاحة والجزالة إلى حيث لا تقبل المعارضة وهذا أيضاً مشعر بالقوة والإحكام ورابعها أن العلوم الدينية إما نظرية وإما عملية أما النظرية فهي معرفة الإله تعالى ومعرفة الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر وهذا الكتاب مشتمل على شرائف هذه العلوم ولطائفها وأما العملية فهي إما أن تكون عبارة عن تهذيب الأعمال الظاهرة وهو الفقه أو عن تهذيب الأحوال الباطنة وهي علم التصفية ورياضة النفس ولا نجد كتاباً في العالم يساوي هذا الكتاب في هذه المطالب فثبت أن هذا الكتاب مشتمل على أشرف المطالب الروحانية وأعلى المباحث الإلهية فكان كتاباً محكماً غير قابل للنقض والهدم وتمام الكلام في تفسير المحكم ذكرناه في تفسير قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ( آل عمران 7 )
المسألة الثالثة في قوله فُصّلَتْ وجوه أحدها أن هذا الكتاب فصل كما تفصل الدلائل بالفوائد الروحانية وهي دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص والثاني أنها جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية الثالث فُصّلَتْ بمعنى أنها فرقت في التنزيل وما نزلت جملة واحدة ونظيره قوله تعالى فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ ( الأعراف 133 ) والمعنى مجيء هذه الآيات متفرقة متعاقبة الرابع فصل ما يحتاج إليه العباد أي جعلت مبينة ملخصة الخامس جعلت فصولاً حلالاً وحراماً وأمثالاً وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونهياً لكل معنى فيها فصل قد أفرد به غير مختلط بغيره حتى تستكمل فوائد كل واحد منها ويحصل الوقوف على كل باب واحد منها على الوجه الأكمل
المسألة الرابعة معنى ثُمَّ في قوله ثُمَّ فُصّلَتْ ليس للتراخي في الوقت لكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل وكما تقول فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ أي أحكمتها أنا ثم فصلتها وعن عكرمة والضحاك ثُمَّ فُصّلَتْ أي فرقت بين الحق والباطل
المسألة السادسة احتج الجبائي بهذه الآية على أن القرآن محدث مخلوق من ثلاثة أوجه الأول قال المحكم هو الذي أتقنه فاعله ولولا أن الله تعالى يحدث هذا القرآن وإلا لم يصح ذلك لأن الإحكام لا يكون إلا في الأفعال ولا يجوز أن يقال كان موجوداً غير محكم ثم جعله الله محكماً لأن هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً أن يكون محدثاً ولم يقل أحد بأن القرآن بعضه قديم وبعضه محدث الثاني أن قوله ثُمَّ فُصّلَتْ يدل على أنه حصل فيه انفصال وافتراق ويدل على أن ذلك الانفصال والافتراق إنما حصل بجعل جاعل وتكوين مكون وذلك أيضاً يدل على المطلوب الثالث قوله مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(17/143)
والمراد من عنده والقديم لا يجوز أن يقال إنه حصل من عند قديم آخر لأنهما لو كانا قديمين لم يكن القول بأن أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس
أجاب أصحابنا بأن هذه النعوت عائدة إلى هذه الحروف والأصوات ونحن معترفون بأنها محدثة مخلوقة وإنما الذي ندعي قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) قوله مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يحتمل وجوهاً الأول أنا ذكرنا أن قوله كِتَابٌ خبر و أُحْكِمَتْ صفة لهذا الخبر وقوله مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة ثانية والتقدير الر كتاب من لدن حكيم خبير والثاني أن يكون خبراً بعد خبر والتقدير الر من لدن حكيم خبير والثالث أن يكون ذلك صفة لقوله أُحْكِمَتْ أي أحكمت وفصلت من لدن حكيم خبير وعلى هذا التقدير فقد حصل بين أول هذه الآية وبين آخرها نكتة لطيفة كأنه يقول أحكمت آياته من لدن حكيم وفصلت من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في قوله خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ وجوهاً الأول أن يكون مفعولاً له والتقدير كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل ألا تعبدوا إلا الله وأقول هذا التأويل يدل على أنه لا مقصود من هذا الكتاب الشريف إلا هذا الحرف الواحد فكل من صرف عمره إلى سائر المطالب فقد خاب وخسر الثاني أن تكون ءانٍ مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول والحمل على هذا أولى لأن قوله وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ معطوف على قوله أَلاَّ تَعْبُدُواْ فيجب أن يكون معناه أي لا تعبدوا ليكون الأمر معطوفاً على النهي فإن كونه بمعنى لئلا تعبدوا يمنع عطف الأمر عليه والثالث أن يكون التقدير الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ليأمر الناس أن لا يعبدوا إلا الله ويقول لهم إنني لكم منه نذير وبشير والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية مشتملة على التكليف من وجوه الأول أنه تعالى أمر بأن لا يعبدوا إلا الله وإذا قلنا الاستثناء من النفي إثبات كان معنى هذا الكلام النهي عن عبادة غير الله تعالى والأمر بعبادة الله تعالى وذلك هو الحق لأنا بينا أن ما سوى الله فهو محدث مخلوق مربوب وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده والعبادة عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهاية التواضع والتذلل وهذا لا يليق إلا بالخالق المدبر الرحيم المحسن فثبت أن عبادة غير الله منكرة والإعراض عن عبادة الله منكر(17/144)
واعلم أن عبادة الله مشروطة بتحصيل معرفة الله تعالى قبل العبادة لأن من لا يعرف معبوده لا ينتفع بعبادته فكان الأمر بعبادة الله أمراً بتحصيل المعرفة أولاً ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ( البقرة 21 ) ثم أتبعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وهو قوله الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 21 ) إنما حسن ذلك لأن الأمر بالعبادة يتضمن الأمر بتحصيل المعرفة فلا جرم ذكر ما يدل على تحصيل المعرفة
ثم قال إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وفيه مباحث
البحث الأول أن الضمير في قوله مِنْهُ عائد إلى الحكيم الخبير والمعنى إنني لكم نذير وبشير من جهته
البحث الثاني أن قوله أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ مشتمل على المنع عن عبادة غير الله وعلى الترغيب في عبادة الله تعالى فهو عليه الصلاة والسلام نذير على الأول بإلحاق العذاب الشديد لمن لم يأت بها وبشير على الثاني بإلحاق الثواب العظيم لمن أتى بها
واعلم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما بعث إلا لهذين الأمرين وهو الإنذار على فعل ما لا ينبغي والبشارة على فعل ما ينبغي
المرتبة الثانية من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ
والمرتبة الثالثة قوله ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه
الوجه الأول أن معنى قوله وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة فقال ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ لأن الداعي إلى التوبة والمحرض عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة وهذا يدل على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة والأمر في الحقيقة كذلك لأن المذنب معرض عن طريق الحق والمعرض المتمادي في التباعد ما لم يرجع عن ذلك الإعراض لا يمكنه التوجه إلى المقصود بالذات فالمقصود بالذات هو التوجه إلى المطلوب إلا أن ذلك لا يمكن إلا بالإعراض عما يضاده فثبت أن الاستغفار مطلوب بالذات وأن التوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة
الوجه الثاني في فائدة هذا الترتيب أن المراد استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا إليه في المستأنف
الوجه الثالث وأن استغفروا من الشرك والمعاصي ثم توبوا من الأعمال الباطلة
الوجه الرابع الاستغفار طلب من الله لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي فقدم الاستغفار ليدل على أن المرء يجب أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه والاستعانة بفضل الله تعالى مقدمة على الاستعانة بسعي النفس(17/145)
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يترتب عليها من الآثار النافعة والنتائج المطلوبة ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة أما المنافع الدنيوية فهي المراد من قوله يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وهذا يدل على أن المقبل على عبادة الله والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أليس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) وقال أيضاً ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء تم الأمثل فالأمثل ) وقال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف 33 ) فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما
الجواب من وجوه الأول المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا الثاني أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان وإليه الإشارة بقوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ( طه 132 ) الثالث وهو الأقوى عندي أن يقال إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر كان الابتهاج والسرور أتم لأنه أمن من تغير مطلوبه وأمن من زوال محبوبه فأما من كان مشتغلاً بحب غير الله كان أبداً في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله فكان عيشه منغصاً وقلبه مضطرباً ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيّبَة ً ( النحل 97 )
السؤال الثاني هل يدل قوله إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى على أن للعبد أجلين وأنه يقع في ذلك التقديم والتأخير
والجواب لا ومعنى الآية أنه تعالى حكم بأن هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر لكنه تعالى عالم بأنه لو اشتغل بالعبادة أم لا فإن أجله ليس إلا في ذلك الوقت المعين فثبت أن لكل إنسان أجلاً واحداً فقط
السؤال الثالث لم سمى منافع الدنيا بالمتاع
الجواب لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية ثم لما بين تعالى ذلك قال وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ والمراد منه السعادات الأخروية وفيها لطائف وفوائد
الفائدة الأولى أن قوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ معناه ويؤت كل ذي فضل موجب فضله ومعلوله والأمر كذلك وذلك لأن الإنسان إذا كان في نهاية البعد عن الاشتغال بغير الله وكان في غاية الرغبة في تحصيل أسباب معرفة الله تعالى فحينئذ يصير قلبه فصاً لنقش الملكوت ومرآة يتجلى بها قدس اللاهوت إلا أن العلائق الجسدانية الظلمانية تكدر تلك الأنوار الروحانية فإذا زالت هذه العلائق أشرقت تلك الأنوار وتلألأت تلك الأضواء وتوالت موجبات السعادات فهذا هو المراد من قوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ(17/146)
الفائدة الثانية أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية فلهذا السبب قال وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ
الفائدة الثالثة أنه تعالى قال في منافع الدنيا يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا وقال في سعادات الآخرة وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وجوده وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب فأكثر الناس عقولهم ضعيفة واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة علموا أن ما سواه ممكن لذاته موجود بإيجاده فانقطع نظرهم عما سواه وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع والمعطي والمانع
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ والأمر كذلك لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى مَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( الإسراء 72 ) والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام وصار عاجزاً عن الوصول إلى محبوبه فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية ثم بين أنه لا بد من الرجوع إلى الله تعالى بقوله إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى شَى ْء قَدِيرٌ
واعلم أن قوله إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ فيه دقيقة وهي أن هذا اللفظ يفيد الحصر يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره فيدل هذا على أن لا مدبر ولا متصرف هناك إلا هو والأمر كذلك أيضاً في هذه الحياة الدنيوية إلا أن أقواماً اشتغلوا بالنظر إلى الوسائط فعجزوا عن الوصول إلى مسبب الأسباب فظنوا أنهم في دار الدنيا قادرون على شيء وأما في دار الآخرة فهذا الحال الفاسد زائل أيضاً فلهذا المعنى بين هذا الحصر بقوله إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ
ثم قال وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وأقول إن هذا تهديد عظيم من بعض الوجوه وبشارة عظيمة من سائر الوجوه أما إنه تهديد عظيم فلأن قوله تعالى إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ يدل على أنه ليس مرجعنا إلا إليه وقوله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ يدل على أنه قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته والرجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذنوب العظيمة مشكل وأما أنه بشارة عظيمة فلأن ذلك يدل على قدرة غالبة وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف تام وعجز عظيم لهذا العبد والملك القاهر العالي الغالب إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك ومنه المثل المشهور ملكت فاسجح
يقول مصنف هذا الكتاب قد أفنيت عمري في خدمة العلم والمطالعة للكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور والكريم إذا قدر غفر وأسألك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين ومجيب دعوة المضطرين أن تفيض سجال رحمتك على ولدي وفلذة كبدي وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم(17/147)
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
اعلم أنه تعالى لما قال وَإِن تَوَلَّوْاْ يعني عن عبادته وطاعته فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ بين بعده أن التولي عن ذلك باطناً كالتولي عنه ظاهراً فقال أَلاَ إِنَّهُمْ يعني الكفار من قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يثنون صدورهم ليستخفوا منه
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء الكفار شيئين الأول أنه يثنون صدورهم يقال ثنيت الشيء إذا عطفته وطويته وفي الآية وجهان
الوجه الأول روي أن طائفة من المشركين قالوا إذا أغلقنا أبوابنا وأرسلنا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا وعلى هذا التقدير كان قوله يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ كناية عن النفاق فكأنه قيل يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى ثم نبه بقوله أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ على أنهم يستخفون منه حين يستغشون ثيابهم
الوجه الثاني روي أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه والتقدير كأنه قيل إنهم يتصرفون عنه ليستخفوا منه حين يستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلام رسول الله وما يتلو من القرآن وليقولوا في أنفسهم ما يشتهون من الطعن وقوله إِلا للتنبيه فنبه أولاً على أنهم ينصرفوا عنه ليستخفوا ثم كرر كلمة إِلا للتنبيه على ذكر الاستخفاء لينبه على وقت استخفائهم وهو حين يستغشون ثيابهم كأنه قيل ألا إنهم ينصرفون عنه ليستخفوا من الله ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم ثم ذكر أنه لا فائدة لهم في استخفائهم بقوله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
وَمَا مِن دَآبَّة ٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ أردفه بما يدل على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات فثبت أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى فلو لم يكن عالماً بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج الدابة اسم لكل حيوان لأن الدابة اسم مأخوذ من الدبيب وبنيت هذه(17/148)
اللفظة على هاء التأنيث وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكراً كان أو أنثى إلا أنه بحسب عرف العرب اختص بالفرس والمراد بهذا اللفظ في هذه الآية الموضوع الأصلي اللغوي فيدخل فيه جميع الحيوانات وهذا متفق عليه بين المفسرين ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال والله يحصيها دون غيره وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها وما يوافقها وما يخالفها فالإله المدبر لإطباق السموات والأرضين وطبائع الحيوان والنبات كيف لا يكون عالماً بأحوالها روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي إليه تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة ثانية ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ورفع الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني
المسألة الثانية تعلق بعضهم بأنه يجب على الله تعالى بعض الأشياء بهذه الآية وقال إن كلمة عَلَى للوجوب وهذا يدل على أن إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله
وجوابه أنه واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان
المسألة الثالثة تعلق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أن الرزق قد يكون حراماً قالوا لأنه ثبت أن إيصال كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد وبحسب الاستحقاق والله تعالى لا يحل بالواجب ثم قد نرى إنساناً لا يأكل من الحلال طول عمره فلو لم يكن الحرام رزقاً لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه فيكون تعالى قد أخل بالواجب وذلك محال فعلمنا أن الحرام قد يكون رزقاً وأما قوله وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا فالمستقر هو مكانه من الأرض والمستودع حيث كان مودعاً قبل الاستقرار في صلب أو رحم أو بيضة وقال الفراء مستقرها حيث تأوي إليه ليلاً أو نهاراً ومستودعها موضعها الذي تموت فيه وقد مضى استقصاء تفسير المستقر والمستودع في سورة الأنعام ثم قال كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ قال الزجاج المعنى أن ذلك ثابت في علم الله تعالى ومنهم من قال في اللوح المحفوظ وقد ذكرنا ذلك في قوله وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 59 )
وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
واعلم أنه تعالى لما أثبت بالدليل المتقدم كونه عالماً بالمعلومات أثبت بهذا الدليل كونه تعالى قادراً على كل المقدورات وفي الحقيقة فكل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته(17/149)
واعلم أن قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ قد مضى تفسيره في سورة يونس على سبيل الاستقصاء بقي ههنا أن نذكر وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء قال كعب خلق الله تعالى ياقوتة خضراء ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء قال أبو بكر الأصم معنى قوله وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء كقولهم السماء على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقاً بالآخر وكيف كانت الواقعة فذلك يدل على أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض وقالت المعتزلة في الآية دلالة على وجود الملائكة قبل خلقهما لأنه لا يجوز أن يخلق ذلك ولا أحد ينتفع بالعرض والماء لأنه تعالى لما خلقهما فإما أن يكون قد خلقهما لمنفعة أو لا لمنفعة والثاني عبث فبقي الأول وهو أنه خلقهما لمنفعة وتلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله وهو محال لكونه متعالياً عن النفع والضرر أو إلى الغير فوجب أن يكون ذلك الغير حياً لأن غير الحي لا ينتفع وكل من قال بذلك قال ذلك الحي كان من جنس الملائكة وأما أبو مسلم الأصفهاني فقال معنى قوله وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء أي بناؤه السموات كان على الماء وقد مضى تفسير ذلك في سورة يونس وبين أنه تعالى إذا بنى السموات على الماء كانت أبدع وأعجب فإن البناء الضعيف إذا لم يؤسس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الأمر العظيم إذا بسط على الماء وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في ذكر أن عرشه كان على الماء قبل خلق السموات والأرض
والجواب فيه دلالة على كمال القدرة من وجوه الأول أن العرش كونه مع أعظم من السموات والأرض كان على الماء فلولا أنه تعالى قادر على إمساك الثقيل بغير عمد لما صح ذلك والثاني أنه تعالى أمسك الماء لا على قرار وإلا لزم أن يكون أقسام العالم غير متناهية وذلك يدل على ما ذكرناه والثالث أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه وذلك يدل أيضاً على ما ذكرنا
السؤال الثاني هل يصح ما يروى أنه قيل يا رسول الله أين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض فقال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء
والجواب أن هذه الرواية ضعيفة والأولى أن يكون الخبر المشهور أولى بالقبول وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) كان الله وما كان معه شيء ثم كان عرشه على الماء
السؤال الثالث اللام في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً يقتضي أنه تعالى خلق السموات والأرض لابتلاء المكلف فكيف الحال فيه والجواب ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى خلق هذا العالم الكثير لمصلحة المكلفين وقد قال بهذا القول طوائف من العقلاء ولكل طائفة فيه وجه آخر سوى الوجه الذي قال به الآخرون وشرح تلك المقالات لا يليق بهذا الكتاب والذين قالوا إن أفعاله وأحكامه غير معللة بالمصالح قالوا لام التعليل وردت على ظاهر الأمر ومعناه أنه تعالى فعل فعلاً لو كان يفعله من تجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض
السؤال الرابع الابتلاء إنما يصح على الجاهل بعواقب الأمور وذلك عليه تعالى محال فكيف يعقل حصول معنى الابتلاء في حقه(17/150)
والجواب أن هذا الكلام على سبيل الاستقصاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى في أول سورة البقرة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 21 )
واعلم أنه تعالى لما بين أنه خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم فهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر لأن الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة والثواب وتخصيص المسيء بالعقاب وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بالمعاد والقيامة فعند هذا خاطب محمداً عليه الصلاة والسلام وقال وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ومعناه أنهم ينكرون هذا الكلام ويحكمون بفساد القول بالبعث
فإن قيل الذي يمكن وصفه بأنه سحر ما يكون فعلاً مخصوصاً وكيف يمكن وصف هذا القول بأنه سحر
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول قال القفال معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازاً لهم إلى الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم الثاني أن معنى قوله إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ هو أن السحر أمر باطل قال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ( يونس 81 ) فقوله إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أي باطل مبين الثالث أن القرآن هو الحاكم بحصول البعث وطعنوا في القرآن بكونه سحراً لأن الطعن في الأصل يفيد الطعن في الفرع الرابع قرأ حمزة والكسائي إِنْ هَاذَا إِلاَّ سَاحِرٌ يريدون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والساحر كاذب
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّة ٍ مَّعْدُودَة ٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ فحكى عنهم في هذه الآية نوعاً آخر من أباطيلهم وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) به أخذوا في الاستهزاء ويقولون ما السبب الذي حبسه عنا
فأجاب الله تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزؤن به لم ينصرف ذلك العذاب عنهم وأحاط بهم ذلك العذاب بقي ههنا سؤالات
السؤال الأول المراد من هذا العذاب هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة
الجواب للمفسرين فيه وجوه الأول قال الحسن معنى حكم الله في هذه الآية أنه لا يعذب أحداً منهم بعذاب الاستئصال وأخر ذلك إلى يوم القيامة فلما أخر الله عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء ما الذي حبسه عنا والثاني أن المراد الأمر بالجهاد وما نزل بهم يوم بدر وعلى هذا الوجه تأولوا(17/151)
قوله وَحَاقَ بِهِم أي نزل بهم هذا العذاب يوم بدر
السؤال الثاني ما المراد بقوله إِلَى أُمَّة ٍ مَّعْدُودَة ٍ
الجواب من وجهين الأول أن الأصل في الأمة هم الناس والفرقة فإذا قلت جاءني أمة من الناس فالمراد طائفة مجتمعة قال تعالى وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّة ً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ( القصص 23 ) وقوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ ( يوسف 45 ) أي بعد انقضاء أمة وفنائها فكذا ههنا قوله وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّة ٍ مَّعْدُودَة ٍ أي إلى حين تنقضي أمة من الناس انقرضت بعد هذا الوعيد بالقول لقالوا ماذا يحبسه عنا وقد انقرض من الناس الذين كانوا متوعدين بهذا الوعيد وتسمية الشيء باسم ما يحصل فيه كقولك كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الحين الثاني أن اشتقاق الأمة من الأَم وهو القصد كأنه يعني الوقت المقصود بإيقاع هذا الموعود فيه
السؤال الثالث لم قال وَحَاقَ على لفظ الماضي مع أن ذلك لم يقع
والجواب قد مر في هذا الكتاب آيات كثيرة من هذا الجنس والضابط فيها أنه تعالى أخبر عن أحوال القيامة بلفظ الماضي مبالغة في التأكيد والتقرير
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن عذاب أولئك الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بد وأن يحيق بهم ذكر بعده ما يدل على كفرهم وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب فقال وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ الإِنسَانَ في هذه الآية فيه قولان
القول الأول أن المراد منه مطلق الإنسان ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى استثنى منه قوله إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فثبت أن الإنسان المذكور في هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر وذلك يدل على ما قلناه الثاني أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله تعالى وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( العصر 1 3 ) وموافقة أيضاً لقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( المعارج 19 21 ) الثالث أن مزاج الإنسان مجبول على الضعف والعجز قال ابن جريج في تفسير هذه الآية يا ابن آدم إذا نزلت لك نعمة من الله فأنت كفور فإذا نزعت منك فيؤس قنوط(17/152)
والقول الثاني أن المراد منه الكافر ويدل عليه وجوه الأول ن الأصل في المفرد المحلى بالألف واللام أن يحمل على المعهود السابق لولا المانع وههنا لا مانع فوجب حمله عليه والمعهود السابق هو الكافر المذكور في الآية المتقدمة الثاني أن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر لأنه وصفه بكونه يؤساً وذلك من صفات الكافر لقوله تعالى يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن ( يوسف 87 ) ووصفه أيضاً بكونه كفوراً وهو تصريح بالكفر ووصفه أيضاً بأنه عند وجدان الراحة يقول ذهب السيئات عني وذلك جراءة على الله تعالى ووصفه أيضاً بكونه فرحاً و اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( القصص 76 ) ووصفه أيضاً بكونه فخوراً وذلك ليس من صفات أهل الدين ثم قال الناظرون لهذا القول وجب أن يحمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع حتى لا تلزمنا هذه المحذورات
المسألة الثانية لفظ الإذاقة والذوق يفيد أقل ما يوجد به الطعم فكان المراد أن الإنسان بوجدان أقل القليل من الخيرات العاجلة يقع في التمرد والطغيان وبإدراك أقل القليل من المحنة والبلية يقع في اليأس والقنوط والكفران فالدنيا في نفسها قليلة والحاصل منها للإنسان الواحد قليل والإذاقة من ذلك المقدار خير قليل ثم إنه في سرعة الزوال يشبه أحلام النائمين وخيالات الموسوسين فهذه الإذاقة من قليل ومع ذلك فإن الإنسان لا طاقة له بتحملها ولا صبر له على الإتيان بالطريق الحسن معها وأما النعماء فقال الواحدي إنها إنعام يظهر أثره على صاحبه والضراء مضرة يظهر أثرها على صاحبها لأنها خرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حمراء وعوراء وهذا هو الفرق بين النعمة والنعماء والمضرة والضراء
المسألة الثالثة اعلم أن أحوال الدنيا غير باقية بل هي أبداً في التغير والزوال والتحول والانتقال إلا أن الضابط فيه أنه إما أن يتحول من النعمة إلى المحنة ومن اللذات إلى الآفات وإما أن يكون بالعكس من ذلك وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب ومن المحرمات إلى الطيبات
أما القسم الأول فهو المراد من قوله وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وحاصل الكلام أنه تعالى حكم على هذا الإنسان بأنه يؤس كفور وتقريره أن يقال أنه حال زوال تلك النعمة يصير يؤساً وذلك لأن الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة فيقع في اليأس وأما المسلم الذي يعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من الله تعالى وفضله وإحسانه وطوله فإنه لا يحصل له اليأس بل يقول لعله تعالى يردها إلى بعد ذلك أكمل وأحسن وأفضل مما كانت وأما حال كون تلك النعمة حاصلة فإنه يكون كفوراً لأنه لما اعتقد أن حصولها إنما كان على سبيل الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة فالحاصل أن الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يؤوساً وعند حصولها يكون كفوراً
وأما القسم الثاني وهو أن ينتقل الإنسان من المكروه إلى المحبوب ومن المحنة إلى النعمة فههنا الكافر يكون فرحاً فخوراً أما قوة الفرح فلأن منتهى طمع الكافر هو الفوز بهذه السعادات الدنيوية وهو منكر(17/153)
للسعادات الأخروية الروحانية فإذا وجد الدنيا فكأنه قد فاز بغاية السعادات فلا جرم يعظم فرحه بها وأما كونه فخوراً فلأنه لما كان الفوز بسائر المطلوب نهاية السعادة لا جرم يفتخر به فحاصل الكلام أنه تعالى بين أن الكافر عند البلاء لا يكون من الصابرين وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين ثم لما قرر ذلك قال إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والمراد منه ضد ما تقدم فقوله إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ المراد منه أن يكون عند البلاء من الصابرين وقوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ المراد منه أن يكون عند الراحة والخير من الشاكرين ثم بين حالهم فقال أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فجمع لهم بين هذين المطلوبين أحدهما زوال العقاب والخلاص منه وهو المراد من قوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ والثاني الفوز بالثواب وهو المراد من قوله وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ومن وقف على هذا التفصيل الذي ذكرناه علم أن هذا الكتاب الكريم كما أنه معجز بحسب ألفاظه فهو أيضاً معجز بحسب معانيه
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ وَكِيلٌ
اعلم أن هذا نوع آخر من كلمات الكفار والله تعالى بين أن قلب الرسول ضاق بسببه ثم إنه تعالى قواه وأيده بالإكرام والتأييد وفيه مسائل
المسألة الأولى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة قالوا يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً وقال آخرون ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك فقال لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية واختلفوا في المراد بقوله تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال المشركون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بك وقال الحسن اطلبوا منه لا يقول إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ ( طه 15 ) وقال بعضهم المراد نسبتهم إلى الجهل والتقليد والإصرار على الباطل
المسألة الثانية أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخون في الوحي والتنزيل وأن يترك بعض ما يوحى إليه لأن تجويزه يؤدي إلى الشك في كل الشرائع والتكاليف وذلك يقدح في النبوة وأيضاً فالمقصود من الرسالة تبليغ تكاليف الله تعالى وأحكامه فإذا لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها المطلوبة منها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ شيئاً آخر سوى أنه عليه السلام فعل ذلك وللناس فيه وجوه الأول لا يمتنع أن يكون في معلوم الله تعالى أنه إنما ترك التقصير في أداء الوحي والتنزيل لسبب يرد عليه من الله تعالى أمثال هذه التهيدات البليغة الثاني أنهم كانوا لا يعتقدون بالقرآن ويتهاونون به فكان يضيق صدر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه فهيجه الله تعالى لأداء الرسالة وطرح المبالاة بكلماتهم الفاسدة وترك الالتفات إلى استهزائهم والغرض منه التنبيه على أنه إن أدى ذلك الوحي وقع في سخريتهم وسفاهتهم(17/154)
وإن لم يؤد ذلك الوحي إليهم وقع في ترك وحي الله تعالى وفي إيقاع الخيانة فيه فإذا لا بد من تحمل أحد الضررين وتحمل سفاهتهم أسهل من تحمل إيقاع الخيانة في وحي الله تعالى والغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك يشتمل على ضرر عظيم ثم علم أن الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف فالمقصود من ذكر هذا الكلام ما ذكرناه
فإن قيل قوله فَلَعَلَّكَ كلمة شك فما الفائدة فيها
قلنا المراد منه الزجر والعرب تقول للرجل إذا أرادوا إبعاده عن أمر لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنه لا شك فيه ويقول لولده لو أمره لعلك تقصر فيما أمرتك به ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك
وأما قوله وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فالضائق بمعنى الضيق قال الواحدي الفرق بينهما أن الضائق يكون بضيق عارض غير لازم لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان أفسح الناس صدراً ومثله قولك زيد سيد جواد تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين فإذا أردت الحدوث قلت سائد وجائد والمعنى ضائق صدرك لأجل أن يقولوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ
فإن قيل الكنز كيف ينزل
قلنا المراد ما يكنز وجرت العادة على أنه يسمي المال الكثير بهذا الاسم فكأن القوم قالوا إن كنت صادقاً في أنك رسول الإله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وإنك عزيز عنده فهلا أنزل عليك ما تستغني به وتغني أحبابك من الكد والعناء وتستعين به على مهماتك وتعين أنصارك وإن كنت صادقاً فهلا أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك ويعينك على تحصيل مقصودك فتزول الشبهة في أمرك فلما لم يفعل إلهك ذلك فأنت غير صادق فبين تعالى أنه رسول منذر بالعقاب ومبشر بالثواب ولا قدرة له على إيجاد هذه الأشياء والذي أرسله هو القادر على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه في فعله وفي حكمه ومعنى وَكِيلٌ حفيظ أي يحفظ عليهم أعمالهم أي يجازيهم بها ونظير هذه الآية قوله تعالى تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ( الفرقان 10 ) وقوله قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 90 93 )
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن القول لما طلبوا منه المعجز قال معجزي هذا القرآن ولما حصل المعجز الواحد كان طلب(17/155)
الزيادة بغياً وجهلاً ثم قرر كونه معجزاً بأن تحداهم بالمعارضة وتقرير هذا الكلام بالاستقصاء قد تقدم في البقرة وفي سورة يونس وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله افْتَرَاهُ عائد إلى ما سبق من قوله يُوحَى إِلَيْكَ أي إن قالوا إن هذا الذي يوحى إليك مفترى فقل لهم حتى يأتوا بعشر سور مثله مفتريات وقوله مثله بمعنى أمثاله حملا على كل واحد من تلك السور ولا يبعد أيضاً أن يكون المراد هو المجموع لأن مجموع السور العشرة شيء واحد
المسألة الثانية قال ابن عباس هذه السورة التي وقع بها هذا التحدي معينة وهي سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة ويونس وهود عليهما السلام وقوله فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ إشارة إلى السور المتقدمة على هذه السورة وهذا فيه إشكال لأن هذه السورة مكية وبعض السور المتقدمة على هذه السورة مدنية فكيف يمكن أن يكون المراد من هذه العشر سور التي ما نزلت عند هذا الكلام فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور التي يظهر فيها قوة تركيب الكلام وتأليفه
واعلم أن التحدي بعشر سور لا بد وأن يكون سابقاً على التحدي بسورة واحدة وهو مثل أن يقول الرجل لغيره أكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب فإذا ظهر عجزه عنه قال قد اقتصرت منها على سطر واحد مثله
إذا عرفت هذا فنقول التحدي بالسورة الواحدة ورد في سورة البقرة وفي سورة يونس كما تقدم أما تقدم هذه السورة على سورة البقرة فظاهر لأن هذه السورة مكية وسورة البقرة مدنية وأما في سورة يونس فالإشكال زائل أيضاً لأن كل واحدة من هاتين السورتين مكية والدليل الذي ذكرناه يقتضي أن تكون سورة هود متقدمة في النزول على سورة يونس حتى يستقيم الكلام الذي ذكرناه
المسألة الثالثة اختلف الناس في الوجه الذي لأجله كان القرآن معجزاً فقال بعضهم هو الفصاحة وقال بعضهم هو الأسلوب وقال ثالث هو عدم التناقض وقال رابع هو اشتماله على العلوم الكثيرة وقال خامس هو الصرف وقال سادس هو اشتماله على الإخبار عن الغيوب والمختار عندي وعند الأكثرين أنه معجز بسبب الفصاحة واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية لأنه لو كان وجه الإعجاز هو كثرة العلوم أو الأخبار عن الغيوب أو عدم التناقض لم يكن لقوله مُفْتَرَيَاتٍ معنى أما إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الفصيح تظهر بالكلام سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً وأيضاً لو كان الوجه في كونه معجزاً هو الصرف لكان دلالة الكلام الركيك النازل في الفصاحة على هذا المطلوب أوكد من دلالة الكلام العالي في الفصاحة ثم إنه تعالى لما قرر وجه التحدي قال وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ والمراد إن كنتم صادقين في ادعاء كونه مفترى كما قال أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ
واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه لا بد في إثبات الدين من تقرير الدلائل والبراهين وذلك لأنه تعالى أورد في إثبات نبوة محمد عليه السلام هذا الدليل وهذه الحجة ولولا أن الدين لا يتم إلا بالدليل لم يكن في ذكره فائدة(17/156)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
اعلم أن الآية المتقدمة اشتملت على خطابين أحدهما خطاب الرسول وهو قوله قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ والثاني خطاب الكفار وهو قوله وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ ( يونس 38 ) فلما أتبعه بقوله فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لتعذرها عليهم واحتمل أن من يدعونه من دون الله لم يستجيبوا فلهذا السبب اختلف المفسرون على قولين فبعضهم قال هذا خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين والمراد أن الكفار إن لم يستجيبوا لكم في الإتيان بالمعارضة فاعلموا أنما أنزل بعلم الله والمعنى فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله ومعنى قوله فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ أي فهل أنتم مخلصون ومنهم من قال فيه إضمار والتقدير فقولوا أيها المسلمون للكفار اعلموا أنما أنزل بعلم الله
والقول الثاني أن هذا خطاب مع الكفار والمعنى أن الذين تدعونهم من دون الله إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة فاعلموا أيها الكفار أن هذا القرآن إنما أنزل بعلم الله فهل أنتم مسلمون بعد لزوم الحجة عليكم والقائلون بهذا القول قالوا هذا أولى من القول الأول لأنكم في القول الأول احتجتم إلى أن حملتم قوله فَاعْلَمُواْ على الأمر بالثبات أو على إضمار القول وعلى هذا الاحتمال لا حاجة فيه إلى إضمار فكان هذا أولى وأيضاً فعود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب وأقرب المذكورين في هذه الآية هو هذا الاحتمال الثاني وأيضاً أن الخطاب الأول كان مع الرسول عليه الصلاة والسلام وحده بقوله قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ ( هود 13 ) والخطاب الثاني كان مع جماعة الكفار بقوله وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ ( يونس 38 ) وقوله فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ خطاب مع الجماعة فكان حمله على هذا الذي قلناه أولى بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول ما الشيء الذي لم يستجيبوا فيه
الجواب المعنى فإن لم يستجيبوا لكم في معارضة القرآن وقال بعضهم فإن لم يستجيبوا لكم في جملة الإيمان وهو بعيد
السؤال الثاني من المشار إليه بقوله لَكُمْ
والجواب إن حملنا قوله فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ على المؤمنين فذلك ظاهر وإن حملناه على الرسول فعنه جوابان الأول المراد فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لأن الرسول عليه السلام والمؤمنين كانوا يتحدونهم وقال في موضع آخر فإن لم يستجيبوا لك فاعلم والثاني يجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
السؤال الثالث أي تعلق بين الشرط المذكور في هذه الآية وبين ما فيها من الجزاء
والجواب أن القوم ادعوا كون القرآن مفترى على الله تعالى فقال لو كان مفترى على الله لوجب أن(17/157)
يقدر الخلق على مثله ولما لم يقدروا عليه ثبت أنه من عند الله فقوله أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ كناية عن كونه من عند الله ومن قبله كما يقول الحاكم هذا الحكم جرى بعلمي
السؤال الرابع أي تعلق لقوله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ يعجزهم عن المعارضة
والجواب فيه من وجوه الأول أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يطلب من الكفار أن يستعينوا بالأصنام في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب ألبتة ومتى كان كذلك فقد بطل القول بإثبات كونهم آلهة فصار عجز القوم المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام ودليلاً على ثبوت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان قوله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ إشارة إلى ما ظهر من فساد القول بإلهية الأصنام الثاني أنه ثبت في علم الأصول أن القول بنفي الشريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباتها بقول الرسول عليه السلام وعلى هذا فكأنه قيل لما ثبت عجز الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً وثبت كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً في دعوى الرسالة ثم إنه كان يخبر عن أنه لا إله إلا الله فلما ثبت كونه محقاً في دعوى النبوة ثبت قوله أَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الثالث أن ذكر قوله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ جار مجرى التهديد كأنه قيل لما ثبت بهذا الدليل كون محمد عليه السلام صادقاً في دعوى الرسالة وعلمتم إنه لا إله إلا الله فكونوا خائفين من قهره وعذابه واتركوا الإصرار على الكفر واقبلوا الإسلام ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة عند ذكر آية التحدي فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( البقرة 24 )
وأما قوله فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
فإن قلنا إنه خطاب مع المؤمنين كان معناه الترغيب في زيادة الإخلاص وإن قلنا إنه خطاب مع الكفار كان معناه الترغيب في أصل الإسلام
مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أن الكفار كانوا ينازعون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في أكثر الأحوال فكانوا يظهرون من أنفسهم أن محمداً مبطل ونحن محقون وإنما نبالغ في منازعته لتحقيق الحق وإبطال الباطل وكانوا كاذبين فيه بل كان غرضهم محض الحسد والاستنكاف من المتابعة فأنزل الله تعالى هذه الآية لتقرير هذا المعنى ونظير هذه الآية قوله تعالى مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَة َ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ( الإسراء 18 ) وقوله مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا لَهُ فِى الاْخِرَة ِ مِن نَّصِيبٍ ( الشورى 20 ) وفيه الآية مسائل(17/158)
المسألة الأولى اعلم أن في الآية قولين
القول الأول أنها مختصة بالكفار لأن قوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا يندرج فيه المؤمن والكافر والصديق والزنديق لأن كل أحد يريد التمتع بلذات الدنيا وطيباتها والانتفاع بخيراتها وشهواتها إلا أن آخر الآية يدل على أن المراد من هذا العام الخاص وهو الكافر لأن قوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لا يليق إلا بالكفار فصار تقدير الآية من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط أي تكون إرادته مقصورة على حب الدنيا وزينتها ولم يكن طالباً لسعادات الآخرة كان حكمه كذا وكذا ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فيه فمنهم من قال المراد منهم منكرو البعث فإنهم ينكرون الآخرة ولا يرغبون إلا في سعادات الدنيا وهذا قول الأصم وكلامه ظاهر
القول الثاني أن الآية نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول عليه السلام الغنائم من دون أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها
والقول الثالث أن المراد اليهود والنصارى وهو منقول عن أنس
والقول الرابع وهو الذي اختاره القاضي أن المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها وعمل الخير قسمان العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان ويدخل في هذا القسم الثاني البر وصلة الرحم والصدقة وبناء القناظر وتسوية الطرق والسعي في دفع الشرور وإجراء الأنهار فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافر لأجل الثناء في الدنيا فإن بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين فكلها تكون من أعمال الخير فلا جرم هذه الأعمال تكون طاعات سواء صدرت من الكافر أو المسلم وأما العبادات فهي إنما تكون طاعات بنيات مخصوصة فإذا لم يؤت بتلك النية وإنما أتى فاعلها بها على طلب زينة الدنيا وتحصيل الرياء والسمعة فيها صار وجودها كعدمها فلا تكون من باب الطاعات
وإذا عرفت هذا فنقول قوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا المراد منه الطاعات التي يصح صدورها من الكافر
القول الثاني وهو أن تجري الآية على ظاهرها في العموم ونقول إنه يندرج فيه المؤمن الذي يأتي بالطاعات على سبيل الرياء والسمعة ويندرج فيه الكافر الذي هذا صفته وهذا القول مشكل لأن قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ لا يليق المؤمن إلا إذا قلنا المراد أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ فِى الاْخِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ بسبب هذه الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة المقرونة بالرياء ثم القائلون بهذ القول ذكروا أخباراً كثيرة في هذا الباب روي أن الرسول عليه السلام قال ( تعوذوا بالله من جب الحزن قيل وما جب الحزن قال عليه الصلاة والسلام ( واد في جهنم يلقى فيه القراء المراؤون ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جمع القرآن فيقال له ما عملت فيه فيقول يا رب قمت به آناء الليل والنهار فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان قارىء وقد قيل ذلك ويؤت بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك فماذا عملت فيما آتيتك فيقول وصلت الرحم وتصدقت فيقول الله(17/159)
تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك ويؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء وقد قيل ذلك ) قال أبو هريرة رضي الله عنه ثم ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركبتي وقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه ذكر هذا الحديث عند معاوية قال الراوي فبكى حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق وقال صدق الله ورسوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا
المسألة الثانية المراد من توفية أجور تلك الأعمال هو أن كل ما يستحقون بها من الثواب فإنه يصل إليهم حال كونهم في دار الدنيا فإذا خرجوا من الدنيا لم يبق معهم من تلك الأعمال أثر من آثار الخيرات بل ليس لهم منها إلا النار
واعلم أن العقل يدل عليه قطعاً وذلك لأن من أتى بالأعمال لأجل طلب الثناء في الدنيا ولأجل الرياء فذلك لأجل أنه غلب على قلبه حب الدنيا ولم يحصل في قلبه حب الآخرة إذ لو عرف حقيقة الآخرة وما فيها من السعادات لامتنع أن يأتي بالخيرات لأجل الدنيا وينسى أمر الآخرة فثبت أن الآتي بأعمال البر لأجل الدنيا لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الدنيا عديم الطلب للآخرة ومن كان كذلك فإذا مات فإنه يفوته جميع منافع الدنيا ويبقى عاجزاً عن وجدانها غير قادر على تحصيلها ومن أحب شيئاً ثم حيل بينه وبين المطلوب فإنه لا بد وأن تشتعل في قلبه نيران الحسرات فثبت بهذا البرهان العقلي أن كل من أتى بعمل من الأعمال لطلب الأحوال الدنيوية فإنه يجد تلك المنفعة الدنيوية اللائقة بذلك العمل ثم إذا مات فإنه لا يحصل له منه إلا النار ويصير ذلك العمل في الدار الآخرة محبطاً باطلاً عديم الأثر
أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَة ً أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاٌّ حْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر والتقدير أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار إلا أنه حذف الجواب لظهوره ومثله في القرآن كثير كقوله تعالى أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء ( فاطر 8 ) وقوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً ( الزمر 9 ) وقوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 )
واعلم أن أول هذه الآية مشتمل على ألفاظ أربعة كل واحد محتمل فالأول أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو والثاني أنه ما المراد بهذه البينة والثالث أن المراد بقوله يتلوه(17/160)
القرآن أو كونه حاصلاً عقيب غيره والرابع أن هذا الشاهد ما هو فهذه الألفاظ الأربعة مجملة فلهذا كثر اختلاف المفسرين في هذه الآية
أما الأول وهو أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو فقيل المراد به النبي عليه الصلاة والسلام وقيل المراد به من آمن من اليهود كعبدالله بن سلام وغيره وهو الأظهر لقوله تعالى في آخر الآية تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وهذا صيغة جمع فلا يجوز رجوعه إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد بالبينة هو البيان والبرهان الذي عرف به صحة الدين الحق والضمير في يتلوه يرجع إلى معنى البينة وهو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن ومنه أي من الله ومن قبله كتاب موسى أي ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى
واعلم أن كون كتاب موسى تابعاً للقرآن ليس في الوجود بل في دلالته على هذا المطلوب و لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً نصب على الحال فالحاصل أنه يقول اجتمع في تقرير صحة هذا الدين أمور ثلاثة أولها دلالة البينات العقلية على صحته وثانيها شهادة القرآن بصحته وثالثها شهادة التوراة بصحته فعند اجتماع هذه الثلاثة لا يبقى في صحته شك ولا ارتياب فهذا القول أحسن الأقاويل في هذه الآية وأقربها إلى مطابقة اللفظ وفيها أقوال أخر
فالقول الأول أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه هو محمد عليه السلام والبينة هو القرآن والمراد بقوله يتلوه هو التلاوة بمعنى القراءة وعلى هذا التقدير فذكروا في تفسير الشاهد وجوهاً أحدها أنه جبريل عليه السلام والمعنى أن جبريل عليه السلام يقرأ القرآن على محمد عليه السلام وثانيها أن ذلك الشاهد هو لسان محمد عليه السلام وهو قول الحسن ورواية عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنهما قال قلت لأبي أنت التالي قال وما معنى التالي قلت قوله رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولما كان الإنسان إنما يقرأ القرآن ويتلوه بلسانه لا جرم جعل اللسان تالياً على سبيل المجاز كما يقال عين باصرة وأذن سامعة ولسان ناطق وثالثها أن المراد هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه والمعنى أنه يتلو تلك البينة وقوله مِنْهُ أي هذا الشاهد من محمد وبعض منه والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنه بعض من محمد عليه السلام ورابعها أن لا يكون المراد بقوله وَيَتْلُوهُ القرآن بل حصول هذا الشاهد عقيب تلك البينة وعلى هذا الوجه قالوا إن المراد أن صورة النبي عليه السلام ووجهه ومخايله كل ذلك يشهد بصدقه لأن من نظر إليه بعقله علم أنه ليس بمجنون ولا كاهن ولا ساحر ولا كذاب والمراد بكون هذا الشاهد منه كون هذه الأحوال متعلقة بذات النبي ( صلى الله عليه وسلم )
القول الثاني أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة هم المؤمنون وهم أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد بالبينة القرآن وَيَتْلُوهُ أي ويتلو الكتاب الذي هو الحجة يعني ويعقبه شاهد من الله تعالى وعلى هذا القول اختلفوا في ذلك الشاهد فقال بعضهم إنه محمد عليه السلام وقال آخرون بل ذلك الشاهد هو كون القرآن واقعاً على وجه يعرف كل من نظر فيه أنه معجزة وذلك الوجه هو اشتماله على الفصاحة التامة والبلاغة الكاملة وكونه بحيث لا يقدر البشر على الإتيان بمثله وقوله شَاهِدٌ مّنْهُ أي من تلك البينة لأن أحوال القرآن وصفاته من القراآت متعلقة به وثالثها قال الفراء وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ يعني الإنجيل يتلو القرآن وإن(17/161)
كان قد أنزل قبله والمعنى أنه يتلوه في التصديق وتقريره أنه تعالى ذكر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الإنجيل وأمر بالإيمان به
واعلم أن هذين القولين وإن كانا محتملين إلا أن القول الأول أقوى وأتم
واعلم أنه تعالى وصف كتاب موسى عليه السلام بكونه إماماً ورحمة ومعنى كونه إماماً أنه كان مقتدى العالمين وإماماً لهم يرجعون إليه في معرفة الدين والشرائع وأما كونه رحمة فلأنه يهدي إلى الحق في الدنيا والدين وذلك سبب لحصول الرحمة والثواب فلما كان سبباً للرحمة أطلق اسم الرحمة عليه إطلاقاً لاسم المسبب على السبب
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ والمعنى أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم في صحة هذا الدين يؤمنون
واعلم أن المطالب على قسمين منها ما يعلم صحتها بالبديهة ومنها ما يحتاج في تحصيل العلم بها إلى طلب واجتهاد وهذا القسم الثاني على قسمين لأن طريق تحصيل المعارف إما الحجة والبرهان المستنبط بالعقل وإما الاستفادة من الوحي والإلهام فهذا الطريقان هما الطريقان اللذان يمكن الرجوع إليهما في تعريف المجهولات فإذا اجتمعا واعتضد كل واحد منهما بالآخر بلغا الغاية في القوة والوثوق ثم إن في أنبياء الله تعالى كثرة فإذا توافقت كلمات الأنبياء على صحته وكان البرهان اليقيني قائماً على صحته فهذه المرتبة قد بلغت في القوة إلى حيث لا يمكن الزيادة فقوله أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ المراد بالبينة الدلائل العقلية اليقينية وقوله وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ إشارة إلى الوحي الذي حصل لمحمد عليه السلام وقوله وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَة ً إشارة إلى الوحي الذي حصل لموسى عليه السلام وعند اجتماع هذه الثلاثة قد بلغ هذا اليقين في القوة والظهور والجلاء إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه
ثم قال تعالى وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاْحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ والمراد من الأحزاب أصناف الكفار فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار ) قال أبو موسى فقلت في نفسي إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن فوجدت الله تعالى يقول وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاْحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وقال بعضهم لما دلت الآية على أن من يكفر به فالنار موعده دلت على أن من لا يكفر به لم تكن النار موعده
ثم قال تعالى فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ مّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ففيه قولان الأول فلا تك في مرية من صحة هذا الدين ومن كون القرآن نازلاً من عند الله تعالى فكان متعلقاً بما تقدم من قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( السجدة 3 ) الثاني فلا تك في مرية من أن موعد الكافر النار وقرىء مِرْيَة ٍ بضم الميم
ثم قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ والتقدير لما ظهر الحق ظهوراً في الغاية فكن أنت متابعاً له ولا تبال بالجهال سواء آمنوا أو لم يؤمنوا والأقرب أن يكون المراد لا يؤمنون بما تقدم ذكره من وصف القرآن
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَائِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الاٌّ شْهَادُ هَاؤُلا ءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ(17/162)
اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة وطرق مختلفة فمنها شدة حرصهم على الدنيا ورغبتهم في تحصيلها وقد أبطل الله هذه الطريقة بقوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ( هود 15 ) إلى آخر الآية ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويقدحون في معجزاته وقد أبطل الله تعالى بقوله أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ ( محمد 14 ) ومنها أنهم كانوا يزعمون في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله وقد أبطل الله تعالى ذلك بهذه الآية وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله تعالى فلما بين وعيد المفترين على الله فقد دخل فيه هذا الكلام
واعلم أن قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنما يورد في معرض المبالغة وفيه دلالة على أن الافتراء على الله تعالى أعظم أنواع الظلم
ثم إنه تعالى بين وعيد هؤلاء بقوله أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ وما وصفهم بذلك لأنهم مختصون بذلك العرض لأن العرض عام في كل العباد كما قال وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا ( الكهف 48 ) وإنما أراد به أنهم يعرضون فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبّهِمْ فحصل لهم من الخزي والنكال مالا مزيد عليه وفيه سؤالات
السؤال الأول إذا لم يجز أن يكون الله تعالى في مكان فكيف قال يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ والجواب أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال ويجوز أيضاً أن يكون ذلك عرضاً على من شاء الله من الخلق بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين
السؤال الثاني من الأشهاد الذين أضيف إليهم هذا القول
الجواب قال مجاهد هم الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا وقال قتادة ومقاتل الاْشْهَادُ الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد يعني على رؤوس الناس وقال الآخرون هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 ) والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة
السؤال الثالث الأشهاد جمع فما واحده
والجواب يجوز أن يكون جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب وناصر وأنصار ويجوز أن يكون جمع شهيد مثل شريف وأشراف قال أبو علي الفارسي وهذا كأنه أرجح لأن ما جاء من ذلك في التنزيل جاء(17/163)
على فعيل كقوله وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) جِئْنَا بِكُمْ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) ثم لما أخبر عن حالهم في عذاب القيامة أخبر عن حالهم في الحال فقال أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وبين أنهم في الحال لملعونون من عند الله ثم ذكر من صفاتهم أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً يعني أنهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر والضلال فقد أضافوا إليه المنع من الدين الحق وإلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة لأنه لا يقال في العاصي يبغي عوجاً وإنما يقال ذلك فيمن يعرف كيفية الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشبهات وتقرير الضلالات
ثم قال وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ قال الزجاج كلمة ( هم ) كررت على جهة التوكيد لثبتهم في الكفر
أُولَائِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ هُمُ الاٌّ خْسَرُونَ
اعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم
الصفة الأولى كونهم مفترين على الله وهي قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ( الأنعام 93 )
والصفة الثانية أنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال وهي قوله أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ ( هود 18 )
والصفة الثالثة حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة وهي قوله وَيَقُولُ الاْشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبّهِمْ ( هود 18 )
والصفة الرابعة كونهم ملعونين من عند الله وهي قوله أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 )
والصفة الخامسة كونهم صادين عن سبيل الله مانعين عن متابعة الحق وهي قوله الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( الأعراف 45 )
والصفة السادسة سعيهم في إلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة وهي قوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ( الأعراف 45 )
والصفة السابعة كونهم كافرين وهي قوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ ( هود 19 )
والصفة الثامنة كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله وهي قوله أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ(17/164)
قال الواحدي معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد يقال أعجزني فلان أي منعني عن مرادي ومعنى معجزين في الأرض أي لا يمكنهم أن يهربوا من عذابنا فإن هرب العبد من عذاب الله محال لأنه سبحانه وتعالى قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالبعد والقرب والقوة والضعف
والصفة التاسعة أنهم ليس لهم أولياء يدفعون عذاب الله عنهم والمراد منه الرد عليهم في وصفهم الأصنام بأنها شفعاؤهم عند الله والمقصود أن قوله أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ دل على أنهم لا قدرة لهم على الفرار وقوله وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء هو أن أحداً لا يقدر على تخليصهم من ذلك العذاب فجمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة ثم اختلفوا فقال قوم المراد إن عدم نزول العذاب ليس لأجل أنهم قدروا على منع الله من إنزال العذاب ولا لأجل أن لهم ناصراً يمنع ذلك العذاب عنهم بل إنما حصل ذلك الإمهال لأنه تعالى أمهلهم كي يتوبوا فيزولوا عن كفرهم فإذا أبوا إلا الثبات عليه فلا بد من مضاعفة العذاب في الآخرة وقال بعضهم بل المراد أن يكونوا معجزين لله عما يريد إنزاله عليهم من العذاب في الآخرة أو في الدنيا ولا يجدون ولياً ينصرهم ويدفع ذلك عنهم
والصفة العاشرة قوله تعالى يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ قيل سبب تضعيف العذاب في حقهم أنهم كفروا بالله وبالبعث وبالنشور فكفرهم بالمبدأ والمعاد صار سبباً لتضعيف العذاب والأصوب أن يقال إنهم مع ضلالهم الشديد سعوا في الإضلال ومنع الناس عن الدين الحق فلهذا المعنى حصل هذا التضعيف عليهم
الصفة الحادية عشرة قوله مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ والمراد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلب وعمى النفس واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يخلق في المكلف ما يمنعه الإيمان روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إنه تعالى منع الكافر من الإيمان في الدنيا والآخرة أما في الدنيا ففي قوله تعالى مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ وأما في الآخرة فهو قوله يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ( القلم 42 ) وحاصل الكلام في هذا الاستدلال أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا يستطيعون السمع فإما أن يكون المراد أنهم ما كانوا يستطيعون سمع الأصوات والحروف وإما أن يكون المراد كونهم عاجزين عن الوقوف على دلائل الله تعالى والقول الأول باطل لأن البديهة دلت على أنهم كانوا يسمعون الأصوات والحروف وجب حمل اللفظ على الثاني أجاب الجبائي عنه بأن السمع إما أن يكون عبارة عن الحاسة المخصوصة أو عن معنى يخلقه الله تعالى في صماخ الأذن وكلاهما لا يقدر العبد عليه لأنه لو اجتهد في أن يفعل ذلك أو يتركه لتعذر عليه وإذا ثبت هذا كان إثبات الاستطاعة فيه محالاً وإذا كان إثباتها محالاً كان نفي الاستطاعة عنه هو الحق فثبت أن ظاهر الآية لا يقدح في قولنا ثم قال المراد بقوله مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ إهمالهم له ونفورهم عنه كما يقول القائل هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه وهذا مما يمجه سمعي وذكر غير الجبائي عذراً آخر فقال إنه تعالى نفى أن يكون لهم أولياء والمراد الأصنام ثم بين نفي كونهم أولياء بقوله مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ فكيف يصلحون للولاية(17/165)
والجواب أما حمل الآية على أنه لا قدرة لهم على خلق الحاسة وعلى خلق المعنى فيها فباطل لأن هذه الآية وردت في معرض الوعيد فلا بد وأن يكون ذلك معنى مختصاً بهم والمعنى الذي قالوه حاصل في الملائكة والأنبياء فكيف يمكن حمل اللفظ عليه وأما قوله إن ذلك محمول على أنهم كانوا يستثقلون سماع كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإبصار صورته
فالجواب أنه تعالى نفى الاستطاعة فحمله على معنى آخر خلاف الظاهر وأيضاً أن حصول ذلك الاستثقال إما أن يمنع من الفهم والوصول إلى الغرض أو لم يمنع فإن منع فهو المقصود وإن لم يمنع منه فحينئذ كان ذلك سبباً أجنبياً عن المعاني المعتبرة في الفهم والإدراك ولا تختلف أحوال القلب في العلم والمعرفة بسببه فكيف يمكن جعله ذماً لهم في هذا المعرض وأيضاً قد بينا مراراً كثيرة في هذا الكتاب أن حصول الفعل مع قيام الصارف محال فلما بين تعالى كون هذا المعنى صارفاً عن قبول الدين الحق وبين فيه أنه حصل حصولاً على سبيل اللزوم بحيث لا يزول ألبتة في ذلك الوقت كان المكلف في ذلك الوقت ممنوعاً عن الإيمان وحينئذ يحصل المطلوب وأما قوله فإنا نجعل هذه الصفة من صفة الأوثان فبعيد لأنه تعالى قال يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ثم قال مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فوجب أن يكون الضمير في هذه الآية المتأخرة عائداً إلى عين ما عاد إليه الضمير المذكور في هذه الآية الأولى وأما قوله وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ فقيل المراد منه البصيرة وقيل المراد منه أنهم عدلوا عن إبصار ما يكون حجة لهم
الصفة الثانية عشرة قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ ومعناه أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران
الصفة الثالثة عشرة قوله وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ والمعنى أنهم لما باعوا الدين بالدنيا فقد خسروا لأنهم أعطوا الشريف ورضوا بأخذ الخسيس وهذا عين الخسران في الدنيا ثم في الآخرة فهذا الخسيس يضيع ويهلك ولا يبقى منه أثر وهو المراد بقوله وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
الصفة الرابعة عشرة قوله لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الاْخْسَرُونَ وتقريره ما تقدم وهو أنه لما أعطى الشريف الرفيع ورضي بالخسيس الوضيع فقد خسر في التجارة ثم لما كان هذا الخسيس بحيث لا يبقى بل لا بد وأن يهلك ويفنى انقلبت تلك التجارة إلى النهاية في صفة الخسارة فلهذا قال لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الاْخْسَرُونَ وقوله لاَ جَرَمَ قال الفراء إنها بمنزلة قولنا لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً تقول العرب لا جرم أنك محسن على معنى حقاً إنك محسن وأما النحويون فلهم فيه وجوه الأول لا حرف نفي وجزم أي قطع فإذا قلنا لا جرم معناه أنه لا قطع قاطع عنهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون الثاني قال الزجاج إن كلمة لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم و جَرَمَ معناه كسب ذلك الفعل والمعنى لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة وذكرنا جَرَمَ بمعنى كسب في تفسير قوله تعالى لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ عَلَيْهِ قَوْمٌ ( المائدة 2 ) قال الأزهري وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب الثالث قال سيبويه والأخفش لا رد على أهل الكفر كما ذكرنا وجرم معناه حق وصحح والتأويل أنه حق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم واحتج سيبويه بقول الشاعر(17/166)
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة
جرمت فزاة بعدها أن يغضبوا
أراد حقت الطعنة فزارة أن يغضبوا
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم أتبعه بذكر أحوال المؤمنين والإخبات هو الخشوع والخضوع وهو مأخوذ من الخبت وهو الأرض المطمئنة وخبت ذكره أي خفي فقوله ( أخبت ) أي دخل في الخبت كما يقال فيمن صار إلى نجد أنجد وإلى تهامة أتهم ومنه المخبت من الناس الذي أخبت إلى ربه أي اطمأن إليه ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام فإذا قلنا أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه وإذا قلنا أخبت له فمعناه خشع له
إذا عرفت هذا فنقول قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة وقوله وَأَخْبَتُواْ إشارة إلى أن هذه الأعمال لا تنفع في الآخرة إلا مع الأحوال القلبية ثم إن فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان المراد أنهم يعبدون الله وكانت قلوبهم عند أداء العبادات مطمئنة بذكر الله فارغة عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى أو يقال إنما قلوبهم صارت مطمئنة إلى صدق الله بكل ما وعدهم من الثواب والعقاب وأما إن فسرنا الإخبات بالخشوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفين وجلين من أن يكونوا أتوا بها مع وجود الإخلال والتقصير ثم بين أن من حصل له هذه الصفات الثلاثة فهم أصحاب الجنة ويحصل لهم الخلود في الجنة
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالاٌّ عْمَى وَالاٌّ صَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
واعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين ذكر فيهما مثالاً مطابقاً ثم اختلفوا فقيل إنه راجع إلى من ذكر آخراً من المؤمنين والكافرين من قبل وقال آخرون بل رجع إلى قوله أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ ( هود 17 ) ثم ذكر من بعده الكافرين ووصفهم بأنهم لا يستطيعون السمع ولا يبصرون والسميع والبصير هم الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم
واعلم أن وجه التشبيه هو أنه سبحانه خلق الإنسان مركباً من الجسد ومن النفس وكما أن للجسد بصراً وسمعاً فكذلك حصل لجوهر الروح سمع وبصر وكما أن الجسد إذا كان أعمى أصم بقي متحيراً ل(17/167)
ا يهتدي إلى شيء من المصالح بل يكون كالتائه في حضيض الظلمات لا يبصر نوراً يهتدي به ولا يسمع صوتاً فكذلك الجاهل الضال المضل يكون أعمى وأصم القلب فيبقى في ظلمات الضلالات حائراً تائهاً
ثم قال تعالى أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ منبهاً على أنه يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصمم وإذا كان العلاج ممكناً من الضرر الحاصل بسبب حصول هذا العمى وهذا الصمم وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان
واعلم أنه قد جرت العادة بأنه تعالى إذا ورد على الكافر أنواع الدلائل أتبعها بالقصص ليصير ذكرها مؤكداً لتلك الدلائل على ما قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة وفي هذه السورة ذكر أنواعاً من القصص
القصة الأولى
قصة نوح عليه السلام
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
اعلم أنه تعالى قد بدأ بذكر هذه القصة في سورة يونس وقد أعادها في هذه السورة أيضاً لما فيها من زوائد الفوائد وبدائع الحكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي إِنّى بفتح الهمزة والمعنى أرسلنا نوحاً بأني لكم نذير مبين ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام وهو قوله إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فلما اتصل به حرف الجر وهو الباء فتح كما فتح في كان وأما سائر القراء فقرؤا إِنّى بالكسر على معنى قال إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
المسألة الثانية قال بعضهم المراد من النذير كونه مهدداً للعصاة بالعقاب ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب والأولى أن يكون المعنى أنه نذير للعصاة من العقاب وأنه مبين بمعنى أنه بين ذلك الإنذار على الطريق الأكمل والبيان الأقوى الأظهر ثم بين تعالى أن ذلك الإنذار إنما حصل في النهي عن عبادة غير الله وفي الأمر بعبادة الله لأن قوله أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ استثناء من النفي وهو يوجب نفي غير المستثنى
واعلم أن تقدير الآية كأنه تعالى قال ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بهذا الكلام وهو قوله إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
ثم قال أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ فقوله أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ بدل من قوله إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ ثم إنه أكد ذلك بقوله إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ والمعنى أنه لما حصل الألم العظيم في ذلك اليوم أسند(17/168)
ذلك الألم إلى اليوم كقولهم نهارك صائم وليلك قائم
فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوته بثلاثة أنوع من الشبهات
فالشبهة الأولى أنه بشر مثلهم والتفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة لجميع العالمين
والشبهة الثانية كونه ما أتبعه إلا أراذل من القوم كالحياكة وأهل الصنائع الخسيسة قالوا ولو كنت صادقاً لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( الشعراء 111 )
والشبهة الثالثة قوله تعالى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ والمعنى لا نرى لكم علينا من فضل لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل فإذا لم نشاهد فضلك علينا في شيء من هذه الأحوال الظاهرة فكيف نعترف بفضلك علينا في أشرف الدرجات وأعلى المقامات فهذا خلاصة الكلام في تقرير هذه الشبهات
واعلم أن الشبهة الأولى لا تليق إلا بالبراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق أما الشبهتان الباقيتان فيمكن أن يتمسك بهما من أقر بنبوة سائر الأنبياء وفي لفظ الآية مسائل
المسألة الأولى الملأ الأشراف وفي اشتقاقه وجوه الأول أنه مأخوذ من قولهم مليء بكذا إذا كان مطيقاً له وقد ملؤا بالأمر والسبب في إطلاق هذا اللفظ عليهم أنهم ملؤا بترتيب المهمات وأحسنوا في تدبيرها الثاني أنهم وصفوا بذلك لأنهم يتمالؤون أي يتظاهرون عليه الثالث وصفوا بذلك لأنهم يملؤون القلوب هيبة والمجالس أبهة الرابع وصفوا به لأنهم ملؤوا العقول الراجحة والآراء الصائبة
ثم حكى الله تعالى عنهم الشبهة الأولى وهي قولهم مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وهو مثل ما حكى الله تعالى عن بعض العرب أنهم قالوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( الأنعام 8 ) وهذا جهل لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدليل والبرهان والتثبت والحجة لا بالصورة والخلقة بل نقول إن الله تعالى لو بعث إلى البشر ملكاً لكانت الشبهة أقوى في الطعن عليه في رسالته لأنه يخطر بالبال أن هذه المعجزات التي ظهرت لعل هذا الملك هو الذي أتى بها من عند نفسه بسبب أن قوته أكمل وقدرته أقوى فلهذه الحكمة ما بعث الله إلى البشر رسولاً إلا من البشر(17/169)
ثم حكى الشبهة الثانية وهي قوله وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى والمراد منه قلة ما لهم وقلة جاههم ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أيضاً جهل لأن الرفعة في الدين لا تكون بالحسب والمال والمناصب العالية بل الفقر أهون على الدين من الغنى بل نقول الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف تجعل قلة المال في الدنيا طعناً في النبوة والرسالة
ثم حكى الله تعالى الشبهة الثالثة وهي قوله وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ وهذا أيضاً جهل لأن الفضيلة المعتبرة عند الله ليست إلا بالعلم والعمل فكيف اطلعوا على بواطن الخلق حتى عرفوا نفي هذه الفضيلة ثم قالوا بعد ذكر هذه الشبهات لنوح عليه السلام ومن اتبعه بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ وفيه وجهان الأول أن يكون هذا خطاباً مع نوح ومع قومه والمراد منه تكذيب نوح في دعوى الرسالة والثاني أن يكون هذا خطاباً مع الأراذل فنسبوهم إلى أنهم كذبوا في أن آمنوا به واتبعوه
المسألة الثانية قال الواحدي الأرذل جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته ورجل رذل الثياب والفعل والأراذل جمع الأرذل كقولهم أكابر مجرميها وقوله عليه الصلاة والسلام ( أحاسنكم أخلاقاً ) فعلى هذا الأراذل جمع الجمع وقال بعضهم الأصل فيه أن يقال هو أرذل من كذا ثم كثر حتى قالوا هو الأرذل فصارت الألف واللام عوضاً عن الإضافة وقوله بَادِى َ الرَّأْى البادي هو الظاهر من قولك بدا الشيء إذا ظهر ومنه يقال بادية لظهورها وبروزها للناظر واختلفوا في بادي الرأي وذكروا فيه وجوهاً الأول اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه والثاني يجوز أن يكون المراد اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي وما احتاطوا في ذلك الرأي وما أعطوه حقه من الفكر الصائب والتدبر الوافي الثالث أنهم لما وصفوا القوم بالرذالة قالوا كونهم كذلك بادي الرأي أمر ظاهر لكل من يراهم والرأي على هذا المعنى من رأي العين لا من رأي القلب ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه كان يقرأ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ رَأْى َ الْعَيْنِ
المسألة الثالثة قرأ أبو عمرو ونصير عن الكسائي بادىء بالهمزة والباقون بالياء غير مهموز فمن قرأ بادىء بالهمزة فالمعنى أول الرأي وابتداؤه ومن قرأ بالياء غير مهموز كان من بدا يبدو أي ظهر و أَرَاذِلُنَا بَادِى َ نصب على المصدر كقولك ضربت أول الضرب
قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّى وَءاتَانِى رَحْمَة ً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى شبهات منكري نبوة نوح عليه الصلاة والسلام حكى بعده ما يكون جواباً عن تلك الشبهات(17/170)
فالشبهة الأولى قولهم مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فقال نوح حصول المساواة في البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه فقال أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى من معرفة ذات الله وصفاته وما يجب وما يمتنع وما يجوز عليه ثم إنه تعالى أتاني رحمة من عنده والمراد بتلك الرحمة إما النبوة وإما المعجزة الدالة على النبوة فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أي صارت مظنة مشتبهة ملتبسة في عقولكم فهل أقدر على أن أجعلكم بحيث تصلون إلى معرفتها شئتم أم أبيتم والمراد أني لا أقدر على ذلك ألبتة وعن قتادة والله لو استطاع نبي الله لألزمها ولكنه لم يقدر عليه وحاصل الكلام أنهم لما قالوا وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ( هود 27 ) ذكر نوح عليه السلام أن ذلك بسبب أن الحجة عميت عليكم واشتبهت فأما لو تركتم العناد واللجاج ونظرتم في الدليل لظهر المقصود وتبين أن الله تعالى آتانا عليكم فضلاً عظيماً
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله بمعنى ألبست وشبهت والباقون بفتح العين مخففة الميم أي التبست واشتبهت
واعلم أن الشيء إذا بقي مجهولاً محضاً أشبه المعمي لأن العلم نور البصيرة الباطنة والأبصار نور البصر الظاهر فحسن جعل كل واحد منها مجازاً عن الآخر وتحقيقه أن البينة توصف بالأبصار قال تعالى فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءايَاتُنَا مُبْصِرَة ً ( النمل 13 ) وكذلك توصف بالعمى قال تعالى فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاْنبَاء ( القصص 66 ) وقال في هذه الآية فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ
المسألة الثالثة أَنُلْزِمُكُمُوهَا فيه ثلاث مضمرات ضمير المتكلم وضمير الغائب وضمير المخاطب وأجاز الفراء إسكان الميم الأولى وروي ذلك عن أبي عمرو قال وذلك أن الحركات توالت فسكنت الميم وهي أيضاً مرفوعة وقبلها كسرة والحركة التي بعدها ضمة ثقيلة قال الزجاج جميع النحوين البصريين لا يجيزون إسكان حرف الإعراب إلا في ضرورة الشعر وما يروى عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه الفراء وروي عن سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها وهذا هو الحق وإنما يجوز الإسكان في الشعر كقول امرىء القيس فاليوم أشرب غير مستحقب
وَياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَاكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنِّى إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ(17/171)
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الجواب عن الشبهة الثانية وهي قولهم لا يتبعك إلا الأراذل من الناس وتقرير هذا الجواب من وجوه
الوجه الأول أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أنا لا أطلب على تبليغ دعوة الرسالة مالاً حتى يتفاوت الحال بسبب كون المستجيب فقيراً أو غنياً وإنما أجري على هذه الطاعة الشاقة على رب العالمين ) وإذا كان الأمر كذلك فسواء كانوا فقراء أو أغنياء لم يتفاوت الحال في ذلك
الوجه الثاني كأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيراً وظننتم أني إنما اشتغلت بهذه الحرفة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم وهذا الظن منكم خطأ فإني لا أسئلكم على تبليغ الرسالة أجراً إن أجري إلا على رب العالمين فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد
والوجه الثالث في تقرير هذا الجواب أنهم قالوا مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا إلى قوله وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ( هود 27 ) فهو عليه السلام بين أنه تعالى أعطاه أنواعاً كثيرة توجب فضله عليهم ولذلك لم يسع في طلب الدنيا وإنما يسعى في طلب الدين والإعراض عن الدنيا من أمهات الفضائل باتفاق الكل فلعل المراد تقرير حصول الفضيلة من هذا الوجه
فأما قوله وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ فهذا كالدليل على أن القوم سألوه طردهم رفعاً لأنفسهم عن مشاركة أولئك الفقراء روى ابن جريج أنهم قالوا إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم فقال عليه الصلاة والسلام وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وقوله تعالى حكاية عنهم أنهم قالوا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى ( هود 27 ) كالدليل على أنهم طلبوا منه طردهم لأنه كالدليل على أنهم كانوا يقولون لو اتبعك أشراف القوم لوافقناهم ثم إنه تعالى حكى عنه أنه ما طردهم وذكر في بيان ما يوجب الامتناع من هذا الطرد أموراً الأول أنهم ملاقو ربهم وهذا الكلام يحتمل وجوهاً منها أنهم قالوا هم منافقون فيما أظهروا فلا تغتر بهم فأجاب بأن هذا الأمر ينكشف عند لقاء ربهم في الآخرة ومنها أنه جعله علة في الامتناع من الطرد وأراد أنهم ملاقوا ما وعدهم ربهم فإن طردتهم استخصموني في الآخرة ومنها أنه نبه بذلك الأمر على أنا نجتمع في الآخرة فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني ثم بين أنهم يبنون أمرهم على الجهل بالعواقب والاغترار بالظواهر فقال وَلَاكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
ثم قال بعده تَجْهَلُونَ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ والمعنى أن العقل والشرع تطابقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر التقي ومن إهانة الفاجر الكافر فلو قلبت القصة وعكست القضية وقربت الكافر الفاجر على سبيل التعظيم وطردت المؤمن التقي على سبيل الإهانة كنت على ضد(17/172)
أمر الله تعالى وعلى عكس حكمه وكنت في هذا الحكم على ضد ما أمر الله تعالى من إيصال الثواب إلى المحقين والعقاب إلى المبطلين وحينئذ أصير مستوجباً للعقاب العظيم فمن ذا الذي ينصرني من الله تعالى ومن الذي يخلصني من عذاب الله أفلا تذكرون فتعلمون أن ذلك لا يصح ثم أكد هذا البيان بوجه ثالث فقال وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ أي كما لا أسألكم فكذلك لا أدعي أني أملك مالاً ولا لي غرض في المال لا أخذاً ولا دفعاً ولا أعلم الغيب حتى أصل به إلى ما أريد لنفسي ولا أتباعي ولا أقول إني ملك حتى أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع ومن كان هذا شأنه وطريقه فإنه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين ولا يطلب مجالسة الأمراء والسلاطين وإنما شأنه طلب الدين وسيرته مخالطة الخاضعين والخاشعين فلما كانت طريقتي توجب مخالطة الفقراء فكيف جعلتم ذلك عيباً علي ثم إنه أكد هذا البيان بطريق رابع فقال وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ وهذا كالدلالة على أنهم كانوا ينسبون أتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق فقال إني لا أقول ذلك لأنه من باب الغيب والغيب لا يعلمه إلا الله فربما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله ملك الآخرة فأكون كاذباً فيما أخبرت به فإني إن فعلت ذلك كنت من الظالمين لنفسي ومن الظالمين لهم في وصفهم بأنهم لا خير لهم مع أن الله تعالى آتاهم الخير في الآخرة
المسألة الثانية احتج قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء وقالوا إن الإنسان إذا قال أنا لا أدعي كذا وكذا فهذا إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل فلما كان قائل هذا القول هو نوح عليه السلام وجب أن تكون درجة الملائكة أعلى وأشرف من درجات الأنبياء ثم قالوا وكيف لا يكون الأمر كذلك والملائكة داوموا على عبادة الله تعالى طول الدنيا مذ خلقوا إلى أن تقوم الساعة وتمام التقرير أن الفضائل الحقيقية الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء أولها الاستغناء المطلق وجرت العادة في الدنيا أن من ملك المال الكثير فإنه يوصف بكونه غنياً فقوله وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ إشارة إلى أني لا أدعي الاستغناء المطلق وثانيها العلم التام وإليه الإشارة بقوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وثالثها القدرة التامة الكاملة وقد تقرر في الخواطر أن أكمل المخلوقات في القدرة والقوة هم الملائكة وإليه الإشارة بقوله وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة بيان أن ما حصل عندي من هذه المراتب الثلاثة إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية فأما الكمال المطلق فأنا لا أدعيه وإذا كان الأمر كذلك فقد ظهر أن قوله وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ يدل على أنهم أكمل من البشر وأيضاً يمكن جعل هذا الكلام جواباً عما ذكروه من الشبهة فإنهم طعنوا في أتباعه بالفقر فقال وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ حتى أجعلهم أغنياء وطعنوا فيهم أيضاً بأنهم منافقون فقال وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حتى أعرف كيفية باطنهم وإنما أُجري الأحوال على الظواهر وطعنوا فيهم بأنهم قد يأتون بأفعال لا كما ينبغي فقال وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ حتى أكون مبرأ عن جميع الدواعي الشهوانية والبواعث النفسانية
المسألة الثالثة احتج قوم بهذه الآية على صدور الذنب من الأنبياء فقالوا إن هذه الآية دلت على أن طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي ثم إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) طرد فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله تعالى في قوله وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( الأنعام 52 )(17/173)
وذلك يدل على إقدام محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على الذنب
والجواب يحمل الطرد المذكور في هذه الآية على الطرد المطلق على سبيل التأبيد والطرد المذكور في واقعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على التقليل في أوقات معينة لرعاية المصالح
المسألة الرابعة احتج الجبائي على أنه لا تجوز الشفاعة عند الله في دفع العقاب بقول نوح عليه السلام مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ معناه إن كان هذا الطرد محرماً فمن ذا الذي ينصرني من الله أي من الذي يخلصني من عقابه ولو كانت الشفاعة جائزة لكانت في حق نوح عليه السلام أيضاً جائزة وحينئذ يبطل قوله مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ واعلم أن هذا الاستدلال يشبه استدلالهم في هذه المسألة بقوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا إلى قوله وَلاَ يُنصَرُونَ ( البقرة 48 ) والجواب المذكور هناك هو الجواب عن هذا الكلام
قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الكفار لما أوردوا تلك الشبهة
وأجاب نوح عليه السلام عنها بالجوابات الموافقة الصحيحة أورد الكفار على نوح كلامين الأول أنهم وصفوه بكثرة المجادلة فقالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدال ما كان إلا في إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وهذا يدل على أن الجدال في تقرير الدلائل وفي إزالة الشبهات حرفة الأنبياء وعلى أن التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار والثاني أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فقالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ثم إنه عليه السلام أجاب عنه بجواب صحيح فقال إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ والمعنى أن إنزال العذاب ليس إلي وإنما هو خلق الله تعالى فيفعله إن شاء كما شاء وإذا أراد إنزال العذاب فإن أحداً لا يعجزه أي لا يمنعه منه والمعجز هو الذي يفعل ما عنده لتعذر مراد الغير فيوصف بأنه أعجزه فقوله وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ أي لا سبيل لكم إلى فعل ما عنده فلا يمتنع على الله تعالى ما يشاء من العذاب إن أراد إنزاله بكم وقد قيل معناه وما أنتم بمانعين وقيل وما أنتم بمصونين وقيل وما أنتم بسابقين إلى الخلاص وهذه الأقوال متقاربة(17/174)
واعلم أن نوحاً عليه السلام لما أجاب عن شبهاتهم ختم الكلام بخاتمة قاطعة فقال وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ أي إن كان الله يريد أن يغويكم فإنه لا ينفعكم نصحي ألبتة واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يريد الكفر من العبد وأنه إذا أراد منه ذلك فإنه يمتنع صدور الإيمان منه قالوا إن نوحاً عليه السلام قال وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ والتقدير لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم ويضلكم وهذا صريح في مذهبنا أما المعتزلة فإنهم قالوا ظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إن أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول وهذا مسلم فإنا نعرف أن الله تعالى لو أراد إغواء عبد فإنه لا ينفعه نصح الناصحين لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء فإن النزاع ما وقع إلا فيه بل نقول إن نوحاً عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام ليدل على أنه تعالى ما أغواهم بل فوض الاختيار إليهم وبيانه من وجهين الأول أنه عليه السلام بين أنه تعالى لو أراد إغوائهم لما بقي في النصح فائدة فلو لم يكن فيه فائدة لما أمره بأن ينصح الكفار وأجمع المسلمون على أنه عليه السلام مأمور بدعوة الكفار ونصيحتهم فعلمنا أن هذا النصح غير خال عن الفائدة وإذا لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنه تعالى ما أغواهم فهذا صار حجة لنا من هذا الوجه الثاني أنه لو ثبت الحكم عليهم بأن الله تعالى أغواهم لصار هذا عذراً لهم في عدم إتيانهم بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم لأنهم يقولون له إنك سلمت أن الله أغوانا فإنه لا يبقى في نصحك ولا في جدنا واجتهادنا فائدة فإذا ادعيت بأن الله تعالى قد أغوانا فقد جعلتنا معذورين فلم يلزمنا قبول هذه الدعوة فثبت أن الأمر لو كان كما قاله الخصم لصار هذا حجة للكفار على نوح عليه السلام ومعلوم أن نوحاً عليه السلام لا يجوز أن يذكر كلاماً يصير بسببه مفحماً ملزماً عاجزاً عن تقرير حجة الله تعالى فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية لا تدل على قول المجبرة ثم إنهم ذكروا وجوهاً من التأويلات الأول أولئك الكفار كانوا مجبرة وكانوا يقولون إن كفرهم بإرادة الله تعالى فعند هذا قال نوح عليه السلام إن نصحه لا ينفعهم إن كان الأمر كما قالوا ومثاله أن يعاقب الرجل ولده على ذنبه فيقول الولد لا أقدر على غير ما أنا عليه فيقول الوالد فلن ينفعك إذاً نصحي ولا زجري وليس المراد أنه يصدقه على ما ذكره بل على وجه الإنكار لذلك الثاني قال الحسن معنى يُغْوِيَكُمْ أي يعذبكم والمعنى لا ينفعكم نصحي اليوم إذا نزل بكم العذاب فآمنتم في ذلك الوقت لأن الإيمان عند نزول العذاب لا يقبل وإنما ينفعكم نصحي إذا آمنتم قبل مشاهدة العذاب الثالث قال الجبائي الغواية هي الخيبة من الطلب بدليل قوله تعالى فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ( مريم 59 ) أي خيبة من خير الآخرة قال الشاعر ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
الرابع أنه إذا أصر على الكفر وتمادى فيه منعه الله تعالى الألطاف وفوضه إلى نفسه فهذا شبيه ما إذا أراد إغواءه فلهذا السبب حسن أن يقال إن الله تعالى أغواه هذا جملة كلمات المعتزلة في هذا الباب والجواب عن أمثال هذه الكلمات قد ذكرناه مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة
المسألة الثانية قوله وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ جزاء معلق على شرط بعده شرط آخر وهذا يقتضي أن يكون الشرط المؤخر في اللفظ مقدماً في الوجود وذلك(17/175)
لأن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار كان المفهوم كون ذلك الطلاق من لوازم ذلك الدخول فإذا ذكر بعده شرطاً آخر مثل أن يقول إن أكلت الخبز كان المعنى أن تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول مشروط بحصول هذا الشرط الثاني والشرط مقدم على المشروط في الوجود فعلى هذا إن حصل الشرط الثاني تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول إما إن لم يوجد الشرط المذكور ثانياً لم يتعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول هذا هو التحقيق في هذا التركيب فلهذا المعنى قال الفقهاء إن الشرط المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى والمقدم في اللفظ مؤخر في المعنى
واعلم أن نوحاً عليه السلام لما قرر هذه المعاني قال هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وهذا نهاية الوعيد أي هو إلهكم الذي خلقكم ورباكم ويملك التصرف في ذواتكم وفي صفاتكم قبل الموت وعند الموت وبعد الموت مرجعكم إليه وهذا يفيد نهاية التحذير
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَى َّ إِجْرَامِى وَأَنَاْ بَرِى ءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ
اعلم أن معنى افتراه اختلقه وافتعله وجاء به من عند نفسه والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم وقوله فَعَلَى َّ إِجْرَامِى الإجرام اقتراح المحظورات واكتسابها وهذا من باب حذف المضاف لأن المعنى فعليَّ عقاب إجرامي وفي الآية محذوف آخر وهو أن المعنى إن كنت افتريته فعليَّ عقاب جرمي وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه كقوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ ( الزمر 9 ) ولم يذكر البقية وقوله وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ أي أنا بريء من عقاب جرمكم وأكثر المفسرين على أن هذا من بقية كلام نوح عليه السلام وهذه الآية وقعت في قصة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في أثناء حكاية نوح وقولهم بعيد جداً وأيضاً قوله قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَى َّ إِجْرَامِى لا يدل على أنه كان شاكاً إلا أنه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس من القبول
وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما لما جاء هذا من عند الله تعالى دعا على قومه فقال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) وقوله فَلاَ تَبْتَئِسْ أي لا تحزن قال أبو زيد ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه وأنشد أبو عبيدة ما يقسم الله أقبل غير مبتئس
به وأقعد كريماً ناعم البال
أي غير حزين ولا كاره
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في القضاء والقدر وقالوا إنه تعالى أخبر(17/176)
عن قومه أنهم لا يؤمنون بعد ذلك فلو حصل إيمانهم لكان إما مع بقاء هذا الخبر صدقاً ومع بقاء هذا العلم علماً أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلاب هذا العلم جهلاً والأول ظاهر البطلان لأن وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدم الإيمان صدقاً ومع كون العلم بعدم الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمع بين النقيضين والثاني أيضاً باطل لأن انقلاب خبر الله كذباً وعلم الله جهلاً محال ولما كان صدور الإيمان منهم لا بد وأن يكون على هذين القسمين وثبت أن كل واحد منهما محال كان صدور الإيمان منهم محالاً مع أنهم كانوا مأمورين به وأيضاً القوم كانوا مأمورين بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومنه قوله وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ ( هود 36 ) فيلزم أن يقال إنهم كانوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة وذلك تكليف الجمع بين النقيضين وتقرير هذا الكلام قد مر في هذا الكتاب مراراً وأطواراً
المسألة الثالثة اختلف المعتزلة في أنه هل يجوز أن ينزل الله تعالى عذاب الاستئصال على قوم كان في المعلوم أن فيهم من يؤمن أو كان في أولادهم من يؤمن فقال قوم إنه لا يجوز واحتجوا بما حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( نوح 26 27 ) وهذا يدل على أنه إنما حسن منه تعالى إنزال عذاب الاستئصال عليهم لأجل أنه تعالى علم أنه ليس من يؤمن ولا في أولادهم أحد يؤمن قال القاضي وقال كثير من علمائنا إن ذلك من الله تعالى جائز وإن كان منهم من يؤمن وأما قول نوح عليه السلام رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً فذلك يدل على أنه إنما سأل ذلك من حيث إنه كان في المعلوم أنهم يضلون عباده ولايلدون إلا فاجراً كفاراً وذلك يدل على أن ذلك الحكم كان قولاً بمجموع هاتين العلتين وأيضاً فلا دليل فيه على أنهما لو لم يحصلا لما جاز إنزال الإهلاك والأقرب أن يقال إن نوحاً عليه السلام لشدة محبته لإيمانهم كان سأل ربه أن يبقيهم فأعلمه أنه لا يؤمن منهم أحد ليزول عن قلبه ما كان قد حصل فيه من تلك المحبة ولذلك قال تعالى من بعد فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ أي لا تحزن من ذلك ولا تغتم ولا تظن أن في ذلك مذلة فإن الدين عزيز وإن قل عدد من يتمسك به والباطل ذليل وإن كثر عدد من يقول به
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
بم قوله تعالى
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
واعلم أن قوله تعالى أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ يقتضي تعريف نوح عليه السلام أنه معذبهم ومهلكهم فكان يحتمل أن يعذبهم بوجوه التعذيب فعرفه الله تعالى أنه يعذبهم بهذا الجنس الذي هو الغرق ولما كان السبيل الذي به يحصل النجاة من الغرق تكوين السفينة لا جرم أمر الله تعالى بإصلاح السفينة وإعدادها فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها على مثال جوجؤ الطائر
فإن قيل قوله تعالى وَاصْنَعِ الْفُلْكَ أمر إيجاب أو أمر إباحة(17/177)
قلنا الأظهر أنه أمر إيجاب لأنه لا سبيل له إلى صون روح نفسه وأرواح غيره عن الهلاك إلا بهذا الطريق وصون النفس عن الهلاك واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويحتمل أن لا يكون ذلك الأمر أمر إيجاب بل كان أمر إباحة وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسان لنفسه داراً ليسكنها ويقيم بها
أما قوله بِأَعْيُنِنَا فهذا لا يمكن أجراؤه على ظاهره من وجوه أحدها أنه يقتضي أن يكون لله تعالى أعين كثيرة وهذا يناقض ظاهر قوله تعالى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى وثانيها أنه يقتضي أن يصنع نوح عليه السلام ذلك الفلك بتلك الأعين كما يقال قطعت بالسكين وكتبت بالقلم ومعلوم أن ذلك باطل وثالثها أنه ثبت بالدلائل القطعية العقلية كونه تعالى منزهاً عن الأعضاء والجوارح والأجزاء والأبعاض فوجب المصير فيه إلى التأويل وهو من وجوه الأول أن معنى بِأَعْيُنِنَا أي بعين الملك الذي كان يعرفه كيف يتخذ السفينة يقال فلان عين على فلان نصب عليه ليكون منفحصاً عن أحواله ولا تحول عنه عينه الثاني أن من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه فلما كان وضع العين على الشيء سبباً لمبالغة الاحتياط والعناية جعل العين كناية عن الاحتياط فلهذا قال المفسرون معناه بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك وحاصل الكلام أن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل والثاني أن يكون عالماً بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه وقوله وَوَحْيِنَا إشارة إلى أنه تعالى يوحي إليه أنه كيف ينبغي عمل السفينة حتى يحصل منه المطلوب
وأما قوله وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ ففيه وجوه الأول يعني لا تطلب مني تأخير العذاب عنهم فإني قد حكمت عليهم بهذا الحكم فلما علم نوح عليه السلام ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) الثاني وَلاَ تُخَاطِبْنِى في تعجيل ذلك العقاب على الذين ظلموا فإني لما قضيت إنزال ذلك العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً الثالث المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
أما قوله تعالى وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ قولان الأول أنه حكاية حال ماضية أي في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك الثاني التقدير وأقبل يصنع الفلك فاقتصر على قوله وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ(17/178)
المسألة الثانية ذكروا في صفة السفينة أقوالاً كثيرة فأحدها أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين وقيل في أربع سنين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاث بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وفي البطن الأعلى جلس هو ومن كان معه مع ما احتاجوا إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم عليه السلام وثانيها قال الحسن كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع
واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها ألبتة ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلاً وكان الخوض فيها من باب الفضول لا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجانب الصحيح والذي نعلمه إنه كان في السعة بحيث يتسع للمؤمنين من قومه ولما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان لأن هذا القدر مذكور في القرآن فأما غير ذلك القدر فغير مذكور
أما قوله تعالى وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ ففي تفسير الملأ وجهان قيل جماعة وقيل طبقة من أشرافهم وكبرائهم واختلفوا فيما لأجله كانوا يسخرون وفيه وجوه أحدهما أنهم كانوا يقولون يا نوح كنت تدعي رسالة الله تعالى فصرت بعد ذلك نجاراً وثانيها أنهم كانوا يقولون له لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق وثالثها أنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها وكانوا يتعجبون منه ويسخرون ورابعها أن تلك السفينة كانت كبيرة وهو كان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جداً وكانوا يقولون ليس ههنا ماء ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار فكانوا يعدون ذلك من باب السفه والجنون وخامسها أنه لما طالت مدته مع القوم وكان ينذرهم بالغرق وما شاهدوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كونه كاذباً في ذلك المقال فلما اشتغل بعمل السفينة لا جرم سخروا منه وكل هذه الوجوه محتملة
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه كان يقول إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ وفيه وجوه الأول التقدير إن تسخروا منا في هذه الساعة فإنا نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والخزي في الآخرة الثاني إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله تعالى وعذابه فأنتم أولى بالسخرية منا الثالث أن تستجهلونا فإنا نستجهلكم واستجهالكم أقبح وأشد لأنكم لا تشتجهلون إلا لأجل الجهل بحقيقة الأمر والاغترار بظاهر الحال كما هو عادة الأطفال والجهال
فإن قيل السخرية من آثار المعاصي فكيف يليق ذلك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام
قلنا إنه تعالى سمى المقابلة سخرية كما في قوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
أما قوله تعالى فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ أي فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة وفي قوله مَن يَأْتِيهِ وجهان أحدهما أن يكون استفهاماً بمعنى أي كأنه قيل فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب وعلى هذا الوجه فمحل ( من ) رفع بالابتداء والثاني أن يكون بمعنى الذي ويكون في محل النصب وقوله تعالى وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ أي يجب عليه وينزل به(17/179)
حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) حَتَّى هي التي يبتدأ بعدها الكلام أدخلت على الجملة من الشرط والجزاء ووقعت غاية لقوله وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي فكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد
المسألة الثانية الأمر في قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا يحتمل وجهين الأول أنه تعالى بين أنه لا يحدث شيء إلا بأمر الله تعالى كما قال إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) فكان المراد هذا والثاني أن يكون المراد من الأمر ههنا هو العذاب الموعد به
المسألة الثالثة في التنور قولان أحدهما أنه التنورالذي يخبز فيه والثاني أنه غيره أما الأول وهو أنه التنور الذي يخبز فيه فهو قول جماعة عظيمة من المفسرين كابن عباس والحسن ومجاهد وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال إنه تنور لنوح عليه السلام وقيل كان لآدم قال الحسن كان تنوراً من حجارة وكان لحواء حتى صار لنوح عليه السلام واختلفوا في موضعه فقا الشعبي إنه كان بناحية الكوفة وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة قال وقد صلى فيه سبعون نبياً وقيل بالشام بموضع يقال له عين وردان وهو قول مقاتل وقيل فار التنور بالهند وقيل إن امرأته كانت تخبز في ذلك التنور فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في الحال بوضع تلك الأشياء في السفينة
القول الثاني ليس المراد من التنور تنور الخبز وعلى هذا التقدير ففيه أقوال الأول أنه انفجر الماء من وجه الأرض كما قال فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ والعرب تسمي وجه الأرض تنوراً الثاني أن التنور أشرف موضع في الأرض وأعلى مكان فيها وقد أخرج إليه الماء من ذلك الموضع ليكون ذلك معجزة له وأيضاً المعنى أنه لما نبع الماء من أعالي الأرض ومن الأمكنة المرتفعة فشبهت لارتفاعها بالتنانير الثالث وَفَارَ التَّنُّورُ أي طلع الصبح وهو منقول عن علي رضي الله عنه الرابع وَفَارَ التَّنُّورُ يحتمل أن يكون معناه أشد الأمر كما يقال حمي الوطيس ومعنى الآية إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فانج(17/180)
بنفسك ومن معك إلى السفينة
فإن قيل فما الأصح من هذه اقوال
قلنا الأصل حمل الكلام على حقيقته ولفظ التنور حقيقة في الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه ولا امتناع في العقل في أن يقال إن الماء نبع أولاً من موضع معين وكان ذلك الموضع تنوراً
فإن قيل ذكر التنور بالألف واللام وهذا إنما يكون معهود سابق معين معلوم عند السامع وليس في الأرض تنور هذا شأنه فوجب أن يحمل ذلك على أن المراد إذا رأيت الماء يشتد نبوعه والأمر يقوى فانج بنفسك وبمن معك
قلنا لا يبعد أن يقال إن ذلك التنور كان لنوح عليه السلام بأن كان تنور آدم أو حواء أو كان تنوراً عينه الله تعالى لنوح عليه السلام وعرفه أنك إذا رأيت الماء يفور فاعلم أن الأمر قد وقع وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى صرف الكلام عن ظاهره
المسألة الرابعة معنى فار نبع على قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النار ولا شبهة في أن نفس التنور لا يفور فالمراد فار الماء من التنور والذي روى أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة وقد وعد الله تعالى المؤمنين النجاة فلا بد وأن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة
المسألة الخامسة قال الليث التنور لفظة عمت بكل لسان وصاحبه تنار قال الأزهري وهذا يدل على أن الاسم قد يكون أعجمياً فتعربه العرب فيصير عربياً والدليل على ذلك أن الأصل تنار ولا يعرف في كلام العرب تنور قبل هذا ونظيره ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الديباج والدينار والسندس والاستبرق فإن العرب لما تكلموا بهذه الألفاظ صارت عربية
واعلم أنه لما فار التنور فعند ذلك أمره الله تعالى بأن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء فالأول قوله التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قال الأخفش تقول الاثنان هما زوجان قال تعالى وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( الذاريات 49 ) فالسماء زوج والأرض زوج والشتاء زوج والصيف زوج والنهار زوج والليل زوج وتقول للمرأة هي زوج وهو زوجها قال تعالى وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 ) يعني المرأة وقال وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( النجم 45 ) فثبت أن الواحد قد يقال له زوج ومما يدل على ذلك قوله تعالى ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ( الأنعام 143 )
إذا عرفت هذا فنقول الزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى والتقدير كل شيئين هما كذلك فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر والآخر أنثى ولذلك قرأ حفص مِن كُلّ بالتنوين وأرادوا حمل من كل شيء زوجين اثنين الذكر زوج والأنثى زوج لا يقال عليه إن الزوجين لا يكونان إلا اثنين فما الفائدة في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لأنا نقول هذا على مثال قوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ ( النحل 51 ) وقوله نَفْخَة ٌ واحِدَة ٌ ( الحاقة 13 ) وأما على القراءة المشهورة فهذا السؤال غير وارد واختلفوا في أنه هل دخل في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ غير الحيوان أم لا فنقول أما الحيوان فداخل لأن قوله مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يدخل فيه كل الحيوانات وأما النبات فاللفظ لا يدل عليه إلا أنه بحسب قرينة الحال لا يبعد بسبب أن الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه وجاء في الروايات عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال لم يستطع نوح عليه السلام أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى وذلك أن نوحاً عليه السلام قال يا رب فمن أين أطعم الأسد إذا حملته قال تعالى ( فسوف أشغله عن الطعام ) فسلط الله تعالى عليه الحمى وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها فإن حاجة الفيل إلى الطعام أكثر وليس به حمى الثاني من الأشياء التي أمر الله نوحاً عليه السلام بحملها في السفينة(17/181)
قوله تعالى وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ قالوا كانوا سبعة نوح عليه السلام وثلاثة أبناء له وهم سام وحام ويافث ولكل واحد منهم زوجة وقيل أيضاً كانوا ثمانية هؤلاء وزوجة نوح عليه السلام
وأما قوله إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فالمراد ابنه وامرأته وكانا كافرين حكم الله تعالى عليهم بالهلاك
فإن قيل الإنسان أشرف من جميع الحيوانات فما السبب أنه وقع الابتداء بذكر الحيوانات
قلنا الإنسان عاقل وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات فلهذا السبب وقع الابتداء به
واعلم أن أصحابنا احتجوا بقوله إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب قالوا لأن قوله سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مشعر بأن كل من سبق عليه القول فإنه لا يتغير عن حاله وهو كقوله عليه الصلاة والسلام ( السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه )
النوع الثالث من تلك الأشياء قوله وَمَنْ ءامَنَ قالوا كانوا ثمانين قال مقاتل في ناحية الموصل قرية يقال لها قرية الثمانين سميت بذلك لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها فسميت بهذا الاسم وذكروا ماهو أزيد منه وما هو أنقص منه وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا أن الله تعالى وصفهم بالقلة وهو قوله تعالى وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
فإن قيل لما كان الذين آمنوا معه ودخلوا في السفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ ( الشعراء 54 )
قلنا كلا اللفظين جائز والتقدير ههنا وما آمن معه إلا نفر قليل فأما الذي يروي أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن وهو جسم ناري أو هوائي وكيف يؤثر الغرق فيه وأيضاً كتاب الله تعالى لم يدل عليه وخبر صحيح ما ورد فيه فالأولى ترك الخوض فيه
وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
أما قوله وَقَالَ يعني نوح عليه السلام لقومه ارْكَبُواْ والركوب العلو على ظهر الشيء ومنه ركوب الدابة وركوب السفينة وركوب البحر وكل شيء علا شيئاً فقد ركبه يقال ركبه الدين قال الليث وتسمي العرب من يركب السفينة راكب السفينة وأما الركبان والركب من ركبوا الدواب والإبل قال الواحدي ولفظة ( في ) في قوله ارْكَبُواْ فِيهَا لا يجوز أن تكون من صلة الركوب لأنه يقال ركبت السفينة ولا يقال ركبت في السفينة بل الوجه أن يقال مفعول اركبوا محذوف والتقدير اركبوا الماء في السفينة وأيضاً يجوز أن يكون فائدة هذه الزيادة أنه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال اركبوها لتوهموا أنه أمرهم أن يكونوا على ظهر السفينة(17/182)
أما قوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم مجريها بفتح الميم والباقون بضم الميم واتفقوا في مرساها أنه بضم الميم وقال صاحب ( الكشاف ) قرأ مجاهد مجريها ومرسيها بلفظ اسم الفاعل مجروري المحل صفتين لله تعالى قال الواحدي المجرى مصدر كالإجراء ومثله قوله رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً ( المؤمنون 29 ) أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ ( الإسراء 80 ) وأما من قرأ مجريها بفتح الميم فهو أيضاً مصدر مثل الجري واحتج صاحب هذه القراءة بقوله رَّحِيمٌ وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ ( هود 42 ) ولو كان مجراها لكان وهي تجريهم وحجة من ضم الميم أن جرت بهم وأجرتهم يتقاربان في المعنى فإذا قال تَجْرِى بِهِمْ فكأنه قال تجريهم وأما المرسي فهو أيضاً مصدر كالإرساء يقال رسا الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غيره قال تعالى وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( النازعات 32 ) قال ابن عباس يريد تجري بسم الله وقدرته وترسو بسم الله وقدرته وقيل كان إذا أراد أن تجري بهم قال بِسْمِ اللَّهِ فتجري وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله مرساها فترسو
المسألة الثانية ذكروا في عامل الإعراب في بِسْمِ اللَّهِ وجوهاً الأول اركبوا بسم الله والثاني ابدؤا بسم الله والثالث بسم الله إجراؤها وإرساؤها وقيل إنها سارت لأول يوم من رجب وقيل لعشر مضين من رجب فصارت ستة أشهر واستوت يوم العاشر من المحرم على الجودي
المسألة الثالثة في الآية احتمالان
الاحتمال الأول أن يكون مجموع قوله وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا كلاماً واحداً والتقدير وقال اركبوا فيها بسم مجريها ومرساها يعني ينبغي أن يكون الركوب مقروناً بهذا الذكر
والاحتمال الثاني أن يكونا كلامين والتقدير أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب ثم أخبرهم بأن مجريها ومرساها ليس إلا بسم الله وأمره وقدرته
فالمعنى الأول يشير إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يشرع في أمر من الأمور إلا ويكون في وقت الشروع فيه ذاكراً لاسم الله تعالى بالأذكار المقدسة حتى يكون ببركة ذلك الذكر سبباً لتمام ذلك المقصود
والمعنى الثاني يدل على أنه لما ركب السفينة أخبر القوم بأن السفينة ليست سبباً لحصول النجاة بل الواجب ربط الهمة وتعليق القلب بفضل الله تعالى وأخبرهم أنه تعالى هو المجري والمرسي للسفينة فإياكم أن تعولوا على السفينة بل يجب أن يكون تعويلكم على فضل الله فإنه هو المجري والمرسي لها فعلى التقدير الأول كان نوح عليه السلام وقت ركوب السفينة في مقام الذكر وعلى التقدير الثاني كان في مقام الفكر والبراءة عن الحول والقوة وقطع النظر عن الأسباب واستغراق القلب في نور جلال مسبب الأسباب
واعلم أن الإنسان إذا تفكر في طلب معرفة الله تعالى بالدليل والحجة فكأنه جلس في سفينة التفكر والتدبر وأمواج الظلمات والضلالات قد علت تلك الجبال وارتفعت إلى مصاعد القلال فإذا ابتدأت سفينة الفكرة والروية بالحركة وجب أن يكون هناك اعتماده على الله تعالى وتضرعه إلى الله(17/183)
تعالى وأن يكون بلسان القلب ونظر العقل يقول بسم الله مجريها ومرساها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل النجاة وتتخلص عن أمواج الضلالات
وأما قوله إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ففيه سؤال وهو أن ذلك الوقت وقت الإهلاك وإظهار القهر فكيف يليق به هذا الذكر
وجوابه لعل القوم الذين ركبوا السفينة اعتقدوا في أنفسهم أنا إنما نجونا ببركة علمنا فالله تعالى نبههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب منهم فإن الإنسان لا ينفك عن أنواع الزلات وظلمات الشهوات وفي جميع الأحوال فهو محتاج إلى إعانة الله وفضله وإحسانه وأن يكون رحيماً لعقوبته غفوراً لذنوبه
وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
واعلم أن قوله وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ مسائل
المسألة الأولى قوله وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ متعلق بمحذوف والتقدير وقال اركبوا فيها فركبوا فيها يقولون بسم الله وهي تجري بهم في موج كالجبال
المسألة الثانية الأمواج العظيمة إنما تحدث عند حصول الرياح القوية الشديدة العاصفة فهذا يدل على أنه حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة شديدة والمقصود منه بيان شدة الهول والفزع
المسألة الثالثة الجريان في الموج هو أن تجري السفينة داخل الموج وذلك يوجب الغرق فالمراد أن الأمواج لما أحاطت بالسفينة من الجوانب شبهت تلك السفينة بما إذا جرت في داخل تلك الأمواج
ثم حكى الله تعالى عنه أنه نادى ابنه وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أنه كان ابناً له وفيه أقوال
القول الأول أنه ابنه في الحقيقة والدليل عليه أنه تعالى نص عليه فقال وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ونوح أيضاً نص عليه فقال أَوْ بَنِى وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه فأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز والذين خالفوا هذا الظاهر إنما خالفوه لأنهم استبعدوا أن يكون ولد الرسول المعصوم كافراً وهذا بعيد فإنه ثبت أن والد رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) كان كافراً ووالد إبراهيم عليه السلام كان كافراً بنص القرآن فكذلك ههنا ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام لما قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) فكيف ناداه مع كفره(17/184)
فأجابوا عنه من وجوه الأول أنه كان ينافق أباه فظن نوح أنه مؤمن فلذلك ناداه ولولا ذلك لما أحب نجاته والثاني أنه عليه السلام كان يعلم أنه كافر لكنه ظن أنه لما شاهد الغرق والأهوال العظيمة فإنه يقبل الإيمان فصار قوله مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان وتأكد هذا بقوله وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ أي تابعهم في الكفر واركب معنا والثالث أن شفقة الأبوة لعلها حملته على ذلك النداء والذي تقدم من قوله إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ كان كالمجمل فلعله عليه السلام جوز أن لا يكون هو داخلاً فيه
القول الثاني أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر وقول الحسن البصري ويروى أن علياً رضي الله عنه قرأ وَنَادَى نُوحٌ والضمير لامرأته وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير نُوحٌ ابْنَهُ بفتح الهاء يريد أن ابنها إلا أنهما اكتفيا بالفتحة عن الألف وقال قتادة سألت الحسن عنه فقال والله ما كان ابنه فقلت إن الله حكى عنه أنه قال إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وأنت تقول ما كان ابناً له فقال لم يقل إنه مني ولكنه قال من أهلي وهذا يدل على قولي
القول الثالث أنه ولد على فراشه لغير رشدة والقائلون بهذا القول احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط فخانتاهما وهذا قول خبيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لا سيما وهو على خلاف نص القرآن أما قوله تعالى فَخَانَتَاهُمَا فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه قبل لابن عباس رضي الله عنهما ما كانت تلك الخيانة فقال كانت امرأة نوح تقول زوجي مجنون وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب قوله تعالى الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيّبَاتُ لِلطَّيّبِينَ وَالطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَاتِ ( النور 26 ) وأيضاً قوله تعالى الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً أَوْ مُشْرِكَة ً وَالزَّانِيَة ُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( النور 3 ) وبالجملة فقد دللنا على أن الحق هو مقول الأول
وأما قوله وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ فاعلم أن المعزل في اللغة معناه موضع منقطع عن غيره وأصله من العزل وهو التنحية والإبعاد تقول كنت بمعزل عن كذا أي بموضع قد عزل منه
واعلم أن قوله وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ لا يدل على أنه في معزل من أي شيء فلهذا السبب ذكروا وجوهاً الأول أنه كان في معزل من السفينة لأنه كان يظن أن الجبل يمنعه من الغرق الثاني أنه كان في معزل عن أبيه وإخوته وقومه الثالث أنه كان في معزل من الكفار كأنه انفرد عنهم فظن نوح عليه السلام أن ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم
أما قوله يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ فنقول قرأ حفص عن عاصم أَوْ بَنِى بفتح الياء في جميع القرآن والباقون بالكسر قال أبو علي الوجه الكسر وذلك أن اللام من ابن ياء أو واو فإذا صغرت ألحقت ياء التحقير فلزم أن ترد اللام المحذوفة وإلا لزم أن تحرك ياء التحقير بحركات الإعراب لكنها لا تحرك لأنها لو حركت لزم أن تنقلب كما تنقلب سائر حروف المد واللين إذا كانت حروف إعراب نحو عصا وقفا ولو انقلبت بطلت دلالتها على التحقير ثم أضفت إلى نفسك اجتمعت ثلاث آيات الأولى منها للتحقير والثانية لام الفعل والثالثة التي للإضافة تقول هذا بني فإذا ناديته صار فيه وجهان إثبات الياء(17/185)
وحذفها والاختيار حذف الياء التي للإضافة وإبقاء الكسرة دلالة عليه نحو يا غلام ومن قرأ أَوْ بَنِى بفتح الياء فإنه أراد الإضافة أيضاً كما أرادها من قرأ بالكسر لكنه أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف تخفيفا فصار يا بنيا كما قال يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
ثم حذف الألف للتخفيف
واعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعاه إلى أن يركب السفينة حكى عن ابنه أنه قال سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء وهذا يدل على أن الابن كان متمادياً في الكفر مصراً عليه مكذباً لأبيه فيما أخبر عنه فعند هذا قال نوح عليه السلام لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وفيه سؤال وهو أن الذي رحمه الله معصوم فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم وهو قوله لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وذكروا في الجواب طرقاً كثيرة
الوجه الأول أنه تعالى قال قبل هذه الآية وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( هود 41 ) فبين أنه تعالى رحيم وأنه برحمته يخلص هؤلاء الذين ركبوا السفينة من آفة الغرق
إذا عرفت هذا فنقول إن ابن نوح عليه السلام لما قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح عليه السلام أخطأت لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ والمعنى إلا ذلك الذي ذكرت أنه برحمته يخلص هؤلاء من الغرق فصار تقدير الآية لا عاصم اليوم من عذاب الله إلا الله الرحيم وتقديره لا فرار من الله إلا إلى الله وهو نظير قوله عليه السلام في دعائه ( وأعوذ بك منك ) وهذا تأويل في غاية الحسن
الوجه الثاني في التأويل وهو الذي ذكره صاحب ( حل العقد ) أن هذا الاستثناء وقع من مضمر هو في حكم الملفوظ لظهور دلالة اللفظ عليه والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا من رحم وهو كقولك لا نضرب اليوم إلا زيداً فإن تقديره لا تضرب أحداً إلا زيداً إلا أنه ترك التصريح به لدلالة اللفظ عليه فكذا ههنا
الوجه الثالث في التأويل أن قوله لاَ عَاصِمَ أي لاذا عصمة كما قالوا رامح ولابن ومعناه ذو رمح وذو لبن وقال تعالى مِن مَّاء دَافِقٍ ( الطارق 6 ) و عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) ومعناه ما ذكرنا فكذا ههنا وعلى هذا التقدير العاصم هو ذو العصمة فيدخل فيه المعصوم وحينئذ يصح استثناء قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ منه
الوجه الرابع قوله لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ عنى بقوله إلا من رحم نفسه لأن نوحاً وطائفته هم الذين خصهم الله تعالى برحمته والمراد لا عاصم لك إلا الله بمعنى أن بسببه تحصل رحمة الله كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام في قوله وَرَسُولاً إِلَى ( آل عمران 49 ) لأجل أن الإحياء حصل بدعائه
الوجه الخامس أن قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ استثناء منقطع والمعنى لكن من رحم الله معصوم ونظيره قوله تعالى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ ( النساء 157 ) ثم إنه تعالى بين بقوله وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(17/186)
وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِى َ الاٌّ مْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
اعلم أن المقصود من هذا الكلام وصف آخر لواقعة الطوفان فكان التقدير أنه لما انتهى أمر الطوفان قيل كذا وكذا وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ يقال بلع الماء يبلعه بلعاً إذا شربه وابتلع الطعام ابتلاعاً إذا لم يمضغه وقال أهل اللغة الفصيح بلع بكسر اللام يبلع بفتحها مَاءكِ وَياسَمَاء أَقْلِعِى يقال أقلع الرجل عن عمله إذا كف عنه وأقلعت السماء بعدما مطرت إذا أمسكت وَغِيضَ الْمَاء يقال غاض الماء يغيض غيضاً ومغاضاً إذا نقص وغضته أنا وهذا من باب فعل الشيء وفعلته أنا ومثله جبر العظم وجبرته وفغر الفم وفغرته ودلع اللسان ودلعته ونقص الشيء ونقصته فقوله وَغِيضَ الْمَاء أي نقص وما بقي منه شيء
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ كثيرة كل واحد منها دال على عظمة الله تعالى وعلو كبريائه فأولها قوله وَقِيلَ وذلك لأن هذا يدل على أنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة بحيث أنه متى قيل قيل لم ينصرف العقل إلا إليه ولم يتوجه الفكر إلا إلى أن ذلك القائل هو هو وهذا تنبيه من هذا الوجه على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والعالم السفلي إلا هو وثانيها قوله الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ وَياسَمَاء أَقْلِعِى فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام وشدتها وقوتها فإذا شعر العقل بوجود موجود قاهر لهذه الأجسام مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد صار ذلك سبباً لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلو قهره وكمال قدرته ومشيئته وثالثها أن السماء والأرض من الجمادات فقوله وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء مشعر بحسب الظاهر على أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات فعند هذا يحكم الوهم بأنه لما كان الأمر كذلك فلأن يكون أمره نافذاً على العقلاء كان أولى وليس مرادي منه أنه تعالى يأمر الجمادات فإن ذلك باطل بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم نوع عظمته وجلاله تقريراً كاملاً
وأما قوله وَقُضِى َ الاْمْرُ فالمراد أن الذي قضى به وقدره في الأزل قضاء جزماً حتماً فقد وقع تنبيهاً على أن كل ما قضى الله تعالى فهو واقع في وقته وأنه لا دافع لقضائه ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه
فإن قيل كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يغرق الأطفال بسبب جرم الكفار
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن كثيراً من المفسرين يقولون إن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ سنه إلى الأربعين
ولقائل أن يقول لو كان الأمر على ما ذكرتم لكان ذلك آية عجيبة قاهرة ويبعد مع ظهورها(17/187)
استمرارهم على الكفر وأيضاً فهب أنكم ذكرتم ما ذكرتم فما قولكم في إهلاك الطير والوحش مع أنه لا تكليف عليها ألبتة
والجواب الثاني وهو الحق أنه لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) وأما المعتزلة فهم يقولون إنه تعالى أغرق الأطفال والحيوانات وذلك يجري مجرى إذنه تعالى في ذبح هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة الشديدة
وأما قوله تعالى وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ّ فالمعنى واستوت السفينة على جبل بالجزيرة يقال له الجودي وكان ذلك الجبل جبلاً منخفضاً فكان استواء السفينة عليه دليلاً على انقطاع مادة ذلك الماء وكان ذلك الاستواء يوم عاشوراء
وأما قوله تعالى وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ففيه وجهان الأول أنه من كلام الله تعالى قال لهم ذلك على سبيل اللعن والطرد والثاني أن يكون ذلك من كلام نوح عليه السلام وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق(17/188)
بداية الجزء الثامن عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(18/2)
وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن قوله رَبّ إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى فقد ذكرنا الخلاف في أنه هل كان ابناً له أم لا فلا نعيده ثم إنه تعالى ذكر أنه قال قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ واعلم أنه لما ثبت بالدليل أنه كان ابناً له وجب حمل قوله إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ على أحد وجهين أحدهما أن يكون المراد أنه ليس من أهل دينك والثاني المراد أنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك والقولان متقاربان
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب فإن في هذه الصورة كانت قرابة النسب حاصلة من أقوى الوجوه ولكن لما انتفت قرابة الدين لا جرم نفاه الله تعالى بأبلغ الألفاظ وهو قوله إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
ثم قال تعالى إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ قرأ الكسائي عمل على صيغة الفعل الماضي وغير بالنصب والمعنى إن ابنك عمل عملاً غير صالح يعني أشرك وكذب وكلمة غَيْرِ نصب لأنها نعت لمصدر محذوف وقرأ الباقون عمل بالرفع والتنوين وفيه وجهان الأول أن الضمير في قوله إنه عائد إلى السؤال يعني أن هذا السؤال عمل وهو قوله إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ غير صالح لأن طلب نجاة الكافر بعد أن سبق الحكم الجزم بأنه لا ينجي أحداً منهم سؤال باطل الثاني أن يكون هذا الضمير عائداً إلى الابن وعلى هذا التقدير ففي وصفه بكوه عملاً غير صالح وجوه الأول أن الرجل إذا كثر عمله وإحسانه يقال له إنه علم وكرم وجود فكذا ههنا لما كثر إقدام ابن نوح على الأعمال الباطلة حكم عليه بأنه(18/3)
في نفسه عمل باطل الثاني أن يكون المراد أنه ذو عمل باطل فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه الثالث قال بعضهم معنى قوله إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ أي إنه ولد زنا وهذا القول باطل قطعاً
ثم إنه تعالى قال لنوح عليه السلام فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى احتج بهذه الآية من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام من وجوه
الوجه الأول أن قراءة عمل بالرفع والتنوين قراءة متواترة فهي محكمة وهذا يقتضي عود الضمير في قوله إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ إما إلى ابن نوح وإما إلى ذلك السؤال فالقول بأنه عائد إلى ابن نوح لا يتم إلا بإضمار وهو خلاف الظاهر ولا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة ولا ضرورة ههنا لأنا إذا حكمنا بعود الضمير إلى السؤال المتقدم فقد استغنينا عن هذا الضمير فثبت أن هذا الضمير عائد إلى هذا السؤال فكان التقدير أن هذا السؤال عمل غير صالح أي قولك إن ابني من أهلي لطلب نجاته عمل غير صالح وذلك يدل على أن هذا السؤال كان ذنباً ومعصية
الوجه الثاني أن قوله فَلاَ تَسْأَلْنى نهي له عن السؤال والمذكور السابق هو قوله إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى فدل هذا على أنه تعالى نهاه عن ذلك السؤال فكان ذلك السؤال ذنباً ومعصية
الوجه الثالث أن قوله فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يدل على أن ذلك السؤال كان قد صدر لا عن العلم والقول بغير العلم ذنب لقوله تعالى وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 169 )
الوجه الرابع أن قوله تعالى إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ يدل على أن ذلك السؤال كان محض الجهل وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر وأيضاً جعل الجهل كناية عن الذنب مشهور في القرآن قال تعالى يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ ( النساء 17 ) وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( البقرة 67 )
الوجه الخامس أن نوحاً عليه السلام اعترف بإقدامه على الذنب والمعصية في هذا المقام فإنه قال إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ واعترافه بذلك يدل على أنه كان مذنباً
الوجه السادس في التمسك بهذه الآية أن هذه الآية تدل على أن نوحاً نادى ربه لطلب تخليص ولده من الغرق والآية المتقدمة وهي قوله وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وقال مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا تدل على أنه عليه السلام طلب من ابنه الموافقة فنقول إما أن يقال إن طلب هذا المعنى من الله كان سابقاً على طلبه من الولد أو كان بالعكس والأول باطل لأن بتقدير أن يكون طلب هذا المعنى من الله تعالى سابقاً على طلبه من الابن لكان قد سمع من الله أنه تعالى لا يخلص ذلك الابن من الغرق وأنه تعالى نهاه عن ذلك الطلب وبعد هذا كيف قال له مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ وأما إن قلنا إن هذا الطلب من الابن كان متقدماً فكان قد سمع من الابن قوله سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء وظهر بذلك كفره فكيف طلب من الله تخليصه وأيضاً أنه تعالى أخبر أن نوحاً لما طلب ذلك منه(18/4)
وامتنع هو صار من المغرقين فكيف يطلب من الله تخليصه من الغرق بعد أن صار من المغرقين فهذه الآية من هذه الوجوه الستة تدل على صدور المعصية من نوح عليه السلام
واعلم أنه لما دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزيه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي وجب حمل هذه الوجوه المذكورة على ترك الأفضل والأكمل وحسنات الأبرار سيئات المقربين فلهذا السبب حصل هذا العتاب والأمر بالاستغفار ولا يدل على سابقة الذنب كما قال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ( النصر 1 3 ) ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً ليست بذنب يوجب الاستغفار وقال تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) وليس جميعهم مذنبين فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك لأفضل
المسألة الثانية قرأ نافع برواية ورش وإسمعيل بتشديد النون وإثبات الياء تَسْأَلْنى وقرأ ابن عامر ونافع برواية قالون بتشديد النون وكسرها من غير إثبات الياء وقرأ أبو عمرو بتخفيف النون وكسرها وحذف الياء تسألن أما التشديد فللتأكيد وأما إثبات الياء فعلى الأصل وأما ترك التشديد والحذف فللتخيف من غير إخلال
واعلم أنه تعالى لما نهاه عن ذلك السؤال حكى عنه أنه قال قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ والمعنى أنه تعالى لما قال له فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فقال عند ذلك قبلت يا رب هذا التكليف ولا أعود إليه إلا أني لا أقدر على الاحتراز منه إلا بإعانتك وهدايتك فلهذا بدأ أولاً بقوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ
واعلم أن قوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ إخبار عما في المستقبل أي لا أعود إلى هذا العمل ثم أشتغل بالاعتذار عما مضى فقال وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ وحقيقة التوبة تقتضي أمرين أحدهما في المستقبل وهو العزم على الترك وإليه الإشارة بقوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ والثاني في الماضي وهو الندم على ما مضى وإليه الإشارة بقوله وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ ونختم هذا الكلام بالبحث عن الزلة التي صدرت عن نوح عليه السلام في هذا المقام فنقول إن أمة نوح عليه السلام كانوا على ثلاثة أقسام كافر يظهر كفره ومؤمن يعلم إيمانه وجمع من المنافقين وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق وكان ذلك معلوماً وأما أهل النفاق فبقي حكمهم مخفياً وكان ابن نوح منهم وكان يجوز فيه كونه مؤمناً وكانت الشفقة المفرطة التي تكون من الأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافراً بل على الوجوه الصحيحة فلما رآه بمعزل عن القوم طلب منه أن يدخل السفينة فقال سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء وذلك لا يدل على كفره لجواز أن يكون قد ظن أن الصعود على الجبل يجري مجرى الركوب في السفينة في أنه يصونه عن الغرق وقول نوح لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ لا يدل إلا على أنه عليه السلام كان يقرر عند بنه أنه لا ينفعه إلا الإيمان والعمل الصالح وهذا أيضاً لا يدل على أنه علم من ابنه أنه كان كافراً فعند هذه الحالة كان قد بقي في قلبه ظن أن ذلك الابن مؤمن فطلب من الله(18/5)
تعالى تخليصه بطريق من الطرق إما بأن يمكنه من الدخول في السفينة وإما أن يحفظه على قلة جبل فعند ذلك أخبره الله تعالى بأنه منافق وأنه ليس من أهل دينه فالزلة الصادرة عن نوح عليه السلام هو أنه لم يستقص في تعريف ما يدل على نفاقه وكفره بل اجتهد في ذلك وكان يظن أنه مؤمن مع أنه أخطأ في ذلك الاجتهاد لأنه كان كافراً فلم يصدر عنه إلا الخطأ في هذا الاجتهاد كما قررنا ذلك في أن آدم عليه السلام لم تصدر عنه تلك الزلة إلا لأنه أخطأ في هذا الاجتهاد فثبت بما ذكرنا أن الصادر عن نوح عليه السلام ما كان من باب الكبائر وإنما هو من باب الخطأ في الاجتهاد والله أعلم
قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أخبر عن السفينة أنها استوت على الجودي فهناك قد خرج نوح وقومه من السفينة لا محالة ثم إنهم نزلوا من ذلك الجبل إلى الأرض فقوله اهْبِطْ يحتمل أن يكون أمراً بالخروج من السفينة إلى أرض الجبل وأن يكون أمراً بالهبوط من الجبل إلى الأرض المستوية
المسألة الثانية أنه تعالى وعده عند الخروج بالسلامة أولاً ثم بالبركة ثانياً أما الوعد بالسلامة فيحتمل وجهين الأول أنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة أن نوحاً عليه السلام تاب عن زلته وتضرع إلى الله تعالى بقوله وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ ( هود 47 ) وهذا التضرع هو عين التضرع الذي حكاه الله تعالى عن آدم عليه السلام عند توبته من زلته وهو قوله رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) فكان نوح عليه السلام محتاجاً إلى أن بشره الله تعالى بالسلامة من التهديد والوعيد فلما قيل له قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا حصل له الأمن من جمبع المكاره المتعلقة بالدين والثاني أن ذلك الغرق لما كان عاماً في جميع الأرض فعند ما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جميع الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب فلما قال الله تعالى اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا زال عنه ذلك الخوف لأن ذلك يدل على حصول السلامة من الآفات ولا يكون ذلك إلا مع الأمن وسعة الرزق ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة هي عبارة عن الدوام والبقاء والثبات ونيل الأمل ومنه بروك الإبل ومنه البركة لثبوت الماء فيها ومنه تبارك وتعالى أي ثبت تعظيمه ثم اختلف المفسرون في تفسير هذا الثبات والبقاء
فالقول الأول أنه تعالى صير نوحاً أبا البشر لأن جميع من بقي كانوا من نسله وعند هذا قال هذا القائل إنه لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من(18/6)
ذريته فالخلق كلهم من نسله وذريته وقال آخرون لم يكن في سفينة نوح عليه السلام إلا من كان من نسله وذريته وعلى التقديرين فالخلق كلهم إنما تولدوا منه ومن أولاده والدليل عليه قوله تعالى وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ( الصافات 77 ) فثبت أن نوحاً عليه السلام كان آدم الأصغر فهذا هو المراد من البركات التي وعده الله بها
والقول الثاني أنه تعالى لما وعده بالسلامة من الآفات وعده بأن موجبات السلامة والراحة والفراغة يكون في التزايد والثبات والاستقرار ثم إنه تعالى لما شرفه بالسلامة والبركة شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال وَعَلَى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ واختلفوا في المراد منه على ثلاثة أقوال منهم من حمله على أولئك الأقوام الذين نجوا معه وجعلهم أمماً وجماعات لأنه ما كان في ذلك الوقت في جميع الأرض أحد من البشر إلا هم فلهذا السبب جعلهم أمماً ومنهم من قال بل المراد ممن معك نسلاً وتولداً قالوا ودليل ذلك أنه ما كان معه إلا الذين آمنوا وقد حكم الله تعالى عليهم بالقلة في قوله تعالى وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ( هود 40 ) ومنهم من قال المراد من ذلك مجموع الحاضرين مع الذين سيولدون بعد ذلك والمختار هو القول الثاني ومن في قوله مّمَّن مَّعَكَ لابتداء الغاية والمعنى وعلى أمم ناشئة من الذين معك
واعلم أنه تعالى جعل تلك الأمم الناشئة من الذين معه على قسمين أحدهما الذين عطفهم على نوح في وصول سلام الله وبركاته إليهم وهم أهل الإيمان والثاني أمم وصفهم بأنه تعالى سيمتعهم مدة في الدنيا ثم في الآخرة يمسهم عذاب أليم فحكم تعالى بأن الأمم الناشئة من الذين كانوا مع نوح عليه السلام لا بد وأن ينقسموا إلى مؤمن وإلى كافر قال المفسرون دخل في تلك السلامة كل مؤمن وكل مؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع وفي ذلك العذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ثم قال أهل التحقيق إنه تعالى إنما عظم شأن نوح بإيصال السلامة والبركات منه إليه لأنه قال بِسَلَامٍ مّنَّا وهدا يدل على أن الصديقين لا يفرحون بالنعمة من حيث إنها نعمة ولكنهم إنما يفرحون بالنعمة من حيث إنها من الحق وفي التحقيق يكون فرحهم بالحق وطلبهم للحق وتوجههم إلى الحق وهذا مقام شريف لا يعرفه إلا خواص الله تعالى فإن الفرح بالسلامة وبالبركة من حيث هما سلامة وبركة غير والفرح بالسلامة والبركة من حيث إنهما من الحق غير والأول نصيب عامة الخلق والثاني نصيب المقربين ولهذا السبب قال بعضهم من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول وأما أهل العقاب فقد قال في شرح أحوالهم وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ فحكم بأنه تعالى يعطيهم نصيباً من متاع الدنيا فدل ذلك على خساسة الدنيا فإنه تعالى لما ذكر أحوال المؤمنين لم يذكر ألبتة أنه يعطيهم الدنيا أم لا ولما ذكر أحوال الكافرين ذكر أنه يعطيهم الدنيا وهذا تنبيه عظيم على خساسة السعادات الجسمانية والترغيب في المقامات الروحانية
تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَة َ لِلْمُتَّقِينَ(18/7)
واعلم أنه تعالى لما شرح قصة نوح عليه السلام على التفصيل قال تِلْكَ أي تلك الآيات التي ذكرناها وتلك التفاصيل التي شرحناها من أنباء الغيب أي من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق فقوله تِلْكَ في محل الرفع على الابتداء و مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ الخبر و نُوحِيهَا إِلَيْكَ خبر ثان وما بعده أيضاً خبر ثالث
ثم قال تعالى مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ والمعنى أنك ما كنت تعرف هذه القصة بل قومك ما كانوا يعرفونها أيضاً ونظيره أن تقول لإنسان لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك
فإن قيل أليس قد كانت قصة طوفان نوح عليه السلام مشهورة عند أهل العلم
قلنا تلك القصة بحسب الإجمال كانت مشهورة أما التفاصيل المذكورة فما كانت معلومة
ثم قال فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَة َ لِلْمُتَّقِينَ والمعنى يا محمد اصبر أنت وقومك على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح وقومه على أذى أولئك الكفار وفيه تنبيه على أن الصبر عاقبته النصر والظفر والفرح والسرور كما كان لنوح عليه السلام ولقومه
فإن قال قائل إنه تعالى ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم إنه أعادها ههنا مرة أخرى فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا إن القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه ففي السورة الأولى كان الكفار يستعجلون نزول العذاب فذكر تعالى قصة نوح في بيان أن قومه كانوا يكذبونه بسبب أن العذاب ما كان يظهر ثم في العاقبة ظهر فكذا في واقعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي هذه السورة ذكر هذه القصة لأجل أن الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش فذكر الله تعالى هذه القصة لبيان أن إقدام الكفار على الإيذاء والإيحاش كان حاصلاً في زمان نوح إلا أنه عليه السلام لما صبر نال الفتح والظفر فكن يا محمد كذلك لتنال المقصود ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدة
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
اعلم أن هذا هو القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة واعلم أن هذا(18/8)
معطوف على قوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا ( الحديد 26 ) والتقدير ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً وقوله هُودًا عطف بيان
واعلم أنه تعالى وصف هوداً بأنه أخوهم ومعلوم أن تلك الأخوة ما كانت في الدين وإنما كانت في النسب لأن هوداً كان رجلاً من قبيلة عاد وهذه القبيلة كانت قبيلة من العرب وكانوا بناحية اليمن ونظيره ما يقال للرجل يا أخا تميم ويا أخا سليم والمراد رجل منهم
فإن قيل إنه تعالى قال في ابن نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ( هود 46 ) فبين أن قرابة النسب لا تفيد إذا لم تحصل قرابة الدين وههنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدين فما الفرق بينهما
قلنا المراد من هذا الكلام استمالة قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن قومه كانوا يستعبدون في محمد مع أنه واحد من قبيلتهم أن يكون رسولاً إليهم من عند الله فذكر الله تعالى أن هوداً كان واحداً من عاد وأن صالحاً كان واحداً من ثمود لإزالة هذا الاستبعاد
واعلم أنه تعالى حكى عن هود عليه السلام أنه دعا قومه إلى أنواع من التكاليف
فالنوع الأول أنه دعاهم إلى التوحيد فقال ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ وفيه سؤال وهو أنه كيف دعاهم إلى عبادة الله تعالى قبل أن أقام الدلالة على ثبوت الإله تعالى
قلنا دلائل وجود الله تعالى ظاهرة وهي دلائل الآفاق والأنفس وقلما توجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله تعالى ولذلك قال تعالى في صفة الكفار وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
قال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله وختم له بالحسن دخلت بلاد الهند فرأيت أولئك الكفار مطبقين على الاعتراف بوجود الإله وأكثر بلاد الترك أيضاً كذلك وأنما الشأن في عبادة الأوثان فإنها آفة عمت أكثر أطراف الأرض وهكذا الأمر كان في الزمان القديم أعني زمان نوح وهود وصالح عليهم السلام فهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يمنعونهم من عبادة الأصنام فكان قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ معناه لا تعبدوا غير الله والدليل عليه أنه قال عقيبه مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وذلك يدل على أن المقصود من هذا الكلام منعهم عن الاشتغال بعبادة الأصنام
وأما قوله مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ فقرىء غَيْرُهُ بالرفع صفة على محل الجار والمجرور وقرىء بالجر صفة على اللفظ
ثم قال إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يعني أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام تحسن عبادتها أو في قولكم إنها تستحق العبادة وكيف لا يكون هذا كذباً وافتراء وهي جمادات لاحس لها ولا إدراك والإنسان هو الذي ركبها وصورها فكيف يليق بالإنسان الذي صنعها أن يعبدها وأن يضع الجبهة على التراب تعظيماً لها ثم إنه عليه الصلاة والسلام لما أرشدهم إلى التوحيد ومنعهم عن عبادة الأوثان قال و مُفْتَرُونَ ياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى وهو عين ما ذكره نوح عليه السلام وذلك لأن الدعوة إلى الله تعالى إذا كانت مطهرة عن دنس الطمع قوي تأثيرها في القلب(18/9)
ثم قال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يعني أفلا تعقلون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام وذلك لأن العلم بصحة هذا المنع كأنه مركوز في بدائه العقول
وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّة ً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التكاليف التي ذكرها هود عليه السلام لقومه وذلك لأنه في المقام الأول دعاهم إلى التوحيد وفي هذا المقام دعاهم إلى الاستغفار ثم إلى التوبة والفرق بينهما قد تقدم في أول هذه السورة قال أبو بكر الأصم استغفروا أي سلوه أن يغفر لكم ما تقدم من شرككم ثم توبوا من بعده بالندم على ما مضى وبالعزم على أن لا تعدوا إلى مثله ثم إنه عليه السلام قال ( إنكم متى فعلتم ذلك فالله تعالى يكثر النعم عندكم ويقويكم على الانتفاع بتلك النعم ) وهذا غاية ما يراد من السعادات فإن النعم إن لم تكن حاصلة تعذر الانتفاع وإن كانت حاصلة إلا أن الحيوان قام به المنع من الانتفاع بها لم يحصل المقصود أيضاً أما إذا كثرت النعمة وحصلت القوة الكاملة على الانتفاع بها فههنا تحصل غاية السعادة والبهجة فقوله تعالى يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً إشارة إلى تكثير النعم لأن مادة حصول النعم هي الأمطار الموافقة وقوله وَيَزِدْكُمْ قُوَّة ً إِلَى قُوَّتِكُمْ إشارة إلى كمال حال القوى التي بها يمكن الانتفاع بتلك النعمة ولا شك أن هذه الكلمة جامعة في البشارة بتحصيل السعادات وأن الزيادة عليها ممتنعة في صريح العقل ويجب على العاقل أن يتأمل في هذه اللطائف ليعرف ما في هذا الكتاب الكريم من الأسرار المخفية وأما المفسرون فإنهم قالوا القوم كانوا مخصوصين في الدنيا بنوعين من الكمال أحدهما أن بساتينهم ومزارعهم كانت في غاية الطيب والبهجة والدليل عليه قوله إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ ( الفجر 7 8 ) والثاني أنهم كانوا في غاية القوة والبطش ولذلك قالوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة ً ( فصلت 15 ) ولما كان القوم مفتخرين على سائر الخلق بهذين الأمرين وعدهم هود عليه السلام أنهم لو تركوا عبادة الأصنام واشتغلوا بالاستغفار والتوبة فإن الله تعالى يقوي حالهم في هذين المطلوبين ويزيدهم فيها درجات كثيرة ونقل أيضاً أن الله تعالى لما بعث هوداً عليه السلام إليهم وكذبوه وحبس الله عنهم المطر سنين وأعقم أرحام نسائهم فقال لهم هود إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد فذلك قوله يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً والمدرار الكثير الدر وهو من أبنية المبالغة وقوله وَيَزِدْكُمْ قُوَّة ً إِلَى قُوَّتِكُمْ ففسروا هذه القوة بالمال والولد والشدة في الأعضاء لأن كل ذلكم ما يتقوى به الإنسان
فإن قيل حاصل الكلام هو أن هوداً عليه السلام قال لو اشتغلتم بعبادة الله تعالى لانفتحت عليكم أبواب الخيرات الدنيوية وليس الأمر كذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قال ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) فكيف الجمع بينهما وأيضاً فقد جرت عادة القرآن بالترغيب في الطاعات بسبب ترتيب الخيرات الدنيوية والأخروية عليها فأما الترغيب في الطاعات لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها فذلك(18/10)
لا يليق بالقرآن بل هو طريق مذكور في التوراة
الجواب أنه لما أكثر الترغيب في السعادات الأخروية لم يبعد الترغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفاية
وأما قوله وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ فمعناه لا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه وأرغبكم فيه مجرمين أي مصرين على إجرامكم وآثامكم
قَالُواْ ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَة ٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُو ءٍ قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن هود عليه السلام ما ذكره للقوم حكى أيضاً ما ذكره القوم له وهو أشياء أولها قولهم مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَة ٍ أي بحجة والبينة سميت بينة لأنها تبين الحق من الباطل ومن المعلوم أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزات إلا أن القوم بجهلهم أنكروها وزعموا أنه ما جاء بشيء من المعجزات وثانيها قولهم وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وهذا أيضاً ركيك لأنهم كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر ومتى كان الأمر كذلك فقد ظهر في بديهة العقل أنه لا تجوز عبادتها وتركهم آلهتهم لا يكون عن مجرد قوله بل عن حكم نظر العقل وبديهة النفس وثالثها قوله وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ وهذا يدل على الإصرار والتقليد والجحود ورابعها قولهم إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء يقال اعتراه كذا إذا غشيه وأصابه والمعنى أنك شتمت آلهتنا فجعلتك مجنوناً وأفسدت عقلك ثم إنه تعالى ذكر أنهم لما قالوا ذلك قال هود عليه السلام إِنِى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ وهو ظاهر
ثم قال فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ وهذا نظير ما قاله نوح عليه السلام لقومه فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ إلى قوله وَلاَ تُنظِرُونَ ( يونس 71 )
واعلم أن هذا معجزة قاهرة وذلك أن الرجل الواحد إذا أقبل على القوم العظيم وقال لهم بالغوا في عداوتي وفي موجبات إيذائي ولا تؤجلون فإنه لا يقول هذا إلا إذا كان واثقاً من عند الله تعالى بأنه يحفظه ويصونه عن كمد الأعداء(18/11)
ثم قال مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا قال الأزهري الناصية عند العرب منبت الشعر في مقدم الرأس ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته
واعلم أن العرب إذا وصفوا إنساناً بالذلة والخضوع قالوا ما ناصية فلان إلا بيد فلان أي أنه مطيع له لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا في القرآن بما يعرفون فقوله مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أي ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته ومنقاد لقضائه وقدره
ثم قال إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وفيه وجوه الأول أنه تعالى لما قال مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أشعر ذلك بقدرة عالية وقهر عظيم فأتبعه بقوله إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ أي أنه وإن كان قادراً عليهم لكنه لا يظلمهم ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب قالت المعتزلة قوله مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا يدل على التوحيد وقوله إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ يدل على العدل فثبت أن الدين إنما يتم بالتوحيد والعدل والثاني أنه تعالى لما ذكر أن سلطانه قهر جميع الخلق أتبعه بقوله إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ يعني أنه لا يخفى عليه مستتر ولا يفوته هارب فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه كما قال إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( الفجر 14 ) الثالث أن يكون المراد إِنَّ رَبّى يدل على الصراط المستقيم أي يحث أو يحملكم بالدعاء إليه
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ حَفِيظٌ
اعلم أن قوله فَإِن تَوَلَّوْاْ يعني فإن تتولوا ثم فيه وجهان الأول تقدير الكلام فإن تتولوا لم أعاتب على تقصير في الإبلاغ وكنتم محجوبين كأنه يقول أنتم الذين أصررتم على التكذيب الثاني فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ
ثم قال وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ يعني يخلق بعدكم من هو أطوع لله منكم وهذا إشارة إلى نزول عذاب الاستئصال ولا تضرونه شيئاً يعني أن إهلاككم لا ينقص من ملكه شيئاً
ثم قال إِنَّ رَبّى عَلَى كُلّ شَى ْء حَفِيظٌ وفيه ثلاثة أوجه الأول حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم(18/12)
عليها الثاني يحفظني من شركم ومكركم الثالث حفيظ على كل شيء يحفظه من الهلاك إذا شاء ويهلكه إذا شاء
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
اعلم أن قوله وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا أي عذابنا وذلك هو ما نزل بهم من الريح العقيم عذبهم الله بها سبع ليال وثمانية أيام تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية
فإن قيل فهذه الريح كيف تؤثر في إهلاكهم
قنلا يحتمل أن يكون ذلك لشدة حرها أو لشدة بردها أو لشده قوتها فتخطف الحيوان من الأرض ثم تضربه على الأرض فكل ذلك محمل
وأما قوله نَجَّيْنَا هُودًا فاعلم أنه يجوز إتيان البلية على المؤمن وعلى الكافر معاً وحينئذ تكون تلك البلية رحمة على المؤمن وعذاباً على الكافر فأما العذاب النازل بمن يكذب الأنبياء عليهم السلام فإنه يجب في حكمة الله تعالى أن ينجي المؤمن منه ولولا ذلك لما عرف كونه عذاباً على كفرهم فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ
وأما قوله بِرَحْمَة ٍ مّنَّا ففيه وجوه الأول أراد أنه لا ينجو أحد وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلا برحمة من الله والثاني المراد من الرحمة ما هداهم إليه من الإيمان بالله والعمل الصالح الثالث أنه رحمهم في ذلك الوقت وميزهم عن الكافرين في العقاب
وأما قوله وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ فالمراد من النجاة الأولى هي النجاة من عذاب الدنيا والنجاة الثانية من عذاب القيامة وإنما وصفه بكونه غليظاً تنبيهاً على أن العذاب الذي حصل لهم بعد موتهم بالنسبة إلى العذاب الذي وقعوا فيه كان عذاباً غليظاً والمراد من قوله تعالى وَنَجَّيْنَاهُمْ أي حكمنا بأنهم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ ولا يقعون فيه
واعلم أنه تعالى لما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عَادٌ جَحَدُواْ فهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه تعالى قال سيروا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا ثم إنه تعالى جمع أوصافهم ثم ذكر عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة فأما أوصافهم فهي ثلاثة
الصفة الأولى قوله جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ والمراد جحدوا دلالة المعجزات على الصدق أو الجحد ودلالة المحدثات على وجود الصانع الحكيم إن ثبت أنهم كانوا زنادقة
الصفة الثانية قوله وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ والسبب فيه أنهم إذا عصوا رسولاً واحداً فقد عصوا جميع الرسل لقوله تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( البقرة 285 ) وقيل لم يرسل إليهم إلا هود عليه السلام
الصفة الثالثة قوله وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ والمعنى أن السفلة كانوا يقلدون الرؤساء في قولهم(18/13)
مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( المؤمنون 24 ) والمراد من الجبار المرتفع المتمرد العنيد العنود والمعاند وهو المنازع المعارض
واعلم أنه تعالى لما ذكر أوصافهم ذكر بعد ذلك أحوالهم فقال وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ أي جعل اللعن رديفاً لهم ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا وفي الآخرة ومعنى اللعنة الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير
ثم إنه تعالى بين السبب الأصلي في نزول هذه الأحوال المكروهة بهم فقال أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ قيل أراد كفروا بربهم فحذف الباء وقيل الكفر هو الجحد فالتقدير ألا إن عاداً جحدوا ربهم وقيل هو من باب حذف المضاف أي كفروا نعمة ربهم
ثم قال أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ وفيه سؤالان
السؤال الأول اللعن هو البعد فلما قال وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ فما الفائدة في قوله أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ
والجواب التكرير بعبارتين مختلفتين يدل على غاية التأكيد
السؤال الثاني ما الفائدة في قوله لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
الجواب كان عاد عادين فالأولى القديمة هم قوم هود والثانية هم إرم ذات العماد فذكر ذلك لإزالة الاشتباه والثاني أن المبالغة في التنصيص تدل على مزيد التأكيد
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَاذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة وهي قصة صالح مع ثمود ونظمها مثل النظم المذكور في قصة هود إلا أن ههنا لما أمرهم بالتوحيد ذكر في تقريره دليلين
الدليل الأول قوله هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وفيه وجهان
الوجه الأول أن الكل مخلوقون من صلب آدم وهو كان مخلوقاً من الأرض وأقول هذا صحيح لكن فيه وجه آخر وهو أقرب منه وذلك لأن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث والمني إنما تولد(18/14)
من الدم فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما تولد من الأغذية وهذه الأغذية إما حيوانية وإما نباتية والحيوانات حالها كحال الإنسان فوجب انتهاء الكل إلى النبات وظاهر أن تولد النبات من الأرض فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض
والوجه الثاني أن تكون كلمة مِنْ معناها في التقدير أنشأكم في الأرض وهذا ضعيف لأنه متى أمكن حمل الكلام على ظاهره فلا حاجة إلى صرفه عنه وأما تقرير أن تولد الإنسان من الأرض كيف يدل على وجود الصانع فقد شرحناه مراراً كثيرة
الدليل الثاني قوله وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا وفيه ثلاثة أوجه الأول جعلكم عمارها قالوا كان ملوك فارس قد أكثروا في حفر الأنهار وغرس الأشجار لا جرم حصلت لهم الأعمار الطويلة فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه ما سبب تلك الأعمار فأوحى الله تعالى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وأخذ معاوية في إحياء أرض في آخر عمره فقيل له ما حملك عليه فقال ما حملني عليه إلا قول القائل ليس الفتى بفتى لا يستضاء به
ولا يكون له في الأرض آثار
الثاني أنه تعالى أطال أعماركم فيها واشتقاق وَاسْتَعْمَرَكُمْ من العمر مثل استبقاكم من البقاء والثالث أنه مأخوذ من العمرى أي جعلها لكم طول أعماركم فإذا متم انتقلت إلى غيركم
واعلم أن في كون الأرض قابلة للعمارات النافعة للإنسان وكون الإنسان قادراً عليها دلالة عظيمة على وجود الصانع ويرجع حاصله إلى ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهي قوله وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ( الأعلى 3 ) وذلك لأن حدوث الإنسان مع أنه حصل في ذاته العقل الهادي والقدرة على التصرفات الموافقة يدل على وجود الصانع الحكيم وكون الأرض موصوفة بصفات مطابقة للمصالح موافقة للمنافع يدل أيضاً على وجود الصانع الحكيم
أما قوله فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ فقد تقدم تفسيره
وأما قوله إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ يعني أنه قريب بالعلم والسمع مُّجِيبٌ دعاء المحتاجين بفضله ورحمته ثم بين تعالى أن صالحاً عليه السلام لما قرر هذه الدلائل قَالُواْ يأَبَانَا صَالِحٌ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هَاذَا وفيه وجوه الأول أنه لما كان رجلاً قوي العقل قوي الخاطر وكان من قبيلتهم قوي رجاؤهم في أن ينصر دينهم ويقوي مذهبهم ويقرر طريقتهم لأنه متى حدث رجل فاضل في قوم طمعوا فيه من هذا الوجه الثاني قال بعضهم المراد أنك كنت تعطف على فقرائنا وتعين ضعفاءنا وتعود مرضانا فقوي رجاؤنا فيك أنك من الأنصار والأحباب فكيف أظهرت العداوة والبغضة ثم إنهم أضافوا إلى هذا الكلام التعجب الشديد من قوله فَقَالُواْ قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد ووجوب متابعة الآباء والأسلاف ونظير هذا التعجب ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) ثم قالوا وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ والشك هو أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النفي والإثبات والمريب هو الذي يظن به السوء فقوله وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ يعني به أنه لم يترجح في اعتقادهم صحة قوله وقوله مُرِيبٍ يعني أنه ترجح في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغة في تزييف كلامه(18/15)
قَالَ ياقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة ً مِّن رَّبِّى وَءَاتَانِى مِنْهُ رَحْمَة ً فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ
اعلم أن قوله إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى ورد بحرف الشك وكان على يقين تام في أمره إلا أن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول فكأنه قال قدروا أني على بينة من ربي وأني نبي على الحقيقة وانظروا أني إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره فمن يمنعني من عذاب الله فما تزيدونني على هذاالتقدير غير تخسير وفي تفسير هذه الكلمة وجهان الأول أن على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها الثاني أن يكون التقدير فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملوني عليه غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم خاسرون والقول الأول أقرب لأن قوله فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ( هود 63 ) كالدلالة على أنه أراد إن أتبعكم فيما أنتم عليه من الكفر الذي دعوتموني إليه لم أزدد إلا خسراناً في الدين فأصير من الهالكين الخاسرين
وَياقَوْمِ هَاذِهِ نَاقَة ُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَة ً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُو ءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
اعلم أن العادة فيمن يدعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام أن يبتدىء بالدعوة إلى عبادة الله ثم يتبعه بدعوى النبوة لا بد وأن يطلبوا منه المعجزة وأمر صالح عليه السلام هكذا كان يروى أن قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة فدعا صالح ربه فخرجت الناقة كما سألوا
واعلم أن تلك الناقة كانت معجزة من وجوه الأول أنه تعالى خلقها من الصخرة وثانيها أنه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل وثالثها أنه تعالى خلقها حاملاً من غير ذكر ورابعها أنه خلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة وخامسها ما روي أنه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر وسادسها أنه كان يحصل منها لبن كثير يكفي الخلق العظيم وكل من هذه الوجوه معجز قوي وليس في القرآن إلا أن تلك الناقة كانت آية ومعجزة فأما بيان أنها كانت معجزة من أي الوجوه فليس فيه بيانه(18/16)
ثم قال فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ والمراد أنه عليه السلام رفع عن القوم مؤنتها فصارت مع كونها آية لهم تنفعهم ولا تضرهم لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها على ما روي أنه عليه السلام خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر فإن الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه بل يسعى في إخفاءها وإبطالها بأقصى الإمكان فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها فلهذا احتاط وقال وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء وتوعدهم إن مسوها بسوء بعذاب قريب وذلك تحذير شديد لهم من الإقدام على قتلها ثم بين الله تعالى أنهم مع ذلك عقروها وذبحوها ويحتمل أنهم عقروها لإبطال تلك الحجة وأن يكون لأنها ضيقت الشرب على القوم وأن يكون لأنهم رغبوا في شحمها ولحمها وقوله فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ يريد اليوم الثالث وهو قوله تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثم بين تعالى أن القوم عقروها فعند ذلك قال لهم صالح عليه السلام تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ ومعنى التمتع التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس ولما كان التمتع لا يحصل إلا للحي عبر به عن الحياة وقوله فِى دَارِكُمْ فيه وجهان الأول أن المراد من الدار البلد وتسمى البلاد بالديار لأنه يدار فيها أي يتصرف يقال ديار بكر أي بلادهم الثاني أن المراد بالديار الدنيا وقوله ذالِكَ وَعْدٌ مَكْذُوبٍ أي غير مكذب والمصدر قد يرد بلفظ المفعول كالمجلود والمعقول وبأيكم المفتون وقيل غير مكذوب فيه قال ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى لما أمهلهم تلك الأيام الثلاثة فقد رغبهم في الإيمان وذلك لأنهم لما عقروا الناقة أنذرهم صالح عليه السلام بنزول العذاب فقالوا وما علامة ذلك فقال تصير وجوهكم في اليوم الأول مصفرة وفي الثاني محمرة وفي الثالث مسودة ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع فلما رأوا وجوههم قد اسودت أيقنوا بالعذاب فاحتاطوا واستعدوا للعذاب فصبحهم اليوم الرابع وهي الصيحة والصاعقة والعذاب
فإن قيل كيف يعقل أن تظهر فيهم هذه العلامات مطابقة لقول صالح عليه السلام ثم يبقون مصرين على الكفر
قلنا ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حد الجزم واليقين لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينية قطعية فقد انتهى الأمر إلى حد الإلجاء والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول
فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْى ِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ
اعلم أن مثل هذه الآية قد مضى في قصة عاد وقوله وَمِنْ خِزْى ِ يَوْمِئِذٍ فيه مسائل(18/17)
المسألة الأولى الواو في قوله وَمِنْ خِزْى ِ واو العطف وفيه وجهان الأول أن يكون التقدير نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم وبقي العار فيه مأثوراً عنهم ومنسوباً إليهم لأن معنى الخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيا من مثله فحذف ما حذف اعتماداً على دلالة ما بقي عليه الثاني أن يكون التقدير نجينا صالحاً برحمة منا ونجيناهم من خزي يومئذ
المسألة الثانية قرأ الكسائي ونافع في رواية ورش وقالون وإحدى الروايات عن الأعشى يَوْمَئِذٍ بفتح الميم وفي المعارج عَذَابِ يَوْمِئِذٍ ( المعارج 11 ) والباقون بكسرالميم فيهما فمن قرأ بالفتح فعلى أن يوم مضاف إلى إذ وأن إذ مبني والمضاف إلى المبني يجوز جعله مبنياً ألا ترى أن المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف والتنكير فكذا ههنا وأما الكسر في إذ فالسبب أنه يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر تقول جئتك إذ الشمس طالعة فلما قطع عن المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثم كسرت الذال لسكونها وسكون التنوين وأما القراءة بالكسر فعلى إضافة الخزي إلى اليوم ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنياً لأن هذه الإضافة غير لازمة
المسألة الثالثة الخزي الذل العظيم حتى يبلغ حد الفضيحة ولذلك قال تعالى في المحاربين ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا ( المائدة 33 ) وإنما سمى الله تعالى ذلك العذاب خزياً لأنه فضيحة باقية يعتبر بها أمثالهم ثم قال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ وإنما حسن ذلك لأنه تعالى بين أنه أوصل ذلك العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه وهذا التمييز لا يصح إلا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء فيجعل الشيء الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً ثم إنه تعالى بين ذلك الأمر فقال وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال أَخَذَ ولم يقل أخذت لأن الصيحة محمولة على الصياح وأيضاً فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث وقد سبق لها نظائر
المسألة الثانية ذكروا في الصيحة وجهين قال ابن عباس رضي الله عنهما المراد الصاعقة الثاني الصيحة صيحة عظيمة هائلة سمعوها فماتوا أجمع منها فأصبحوا وهم موتى جاثمين في دورهم ومساكنهم وجثومهم سقوطهم على وجوههم يقال إنه تعالى أمر جبريل عليه السلام أن يصيح بهم تلك الصيحة التي ماتوا بها ويجوز أن يكون الله تعالى خلقها والصياح لا يكون إلا الصوت الحادث في حلق وفم وكذلك الصراخ فإن كان من فعل الله تعالى فقد خلقه في حلق حيوان وإن كان فعل جبريل عليه السلام فقد حصل في فمه وحلقه والدليل عليه أن صوت الرعد أعظم من كل صيحة ولا يسمى بذلك ولا بأنه صراخ
فإن قيل فما السبب في كون الصيحة موجبة للموت
قلنا فيه وجوه أحدها أن الصيحة العظيمة إنما تحدث عند سبب قوي يوجب تموج الهواء وذلك التموج الشديد ربما يتعدى إلى صماخ الإنسان فيمزق غشاء الدماغ فيورث الموت والثاني أنها شيء مهيب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النفسانية إذا قويت أوجبت الموت الثالث أن الصيحة(18/18)
العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برق شديد محرق وذلك هو الصاعقة التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما
ثم قال تعالى فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ والجثوم هو السكون يقال للطير إذا باتت في أوكارها أنها جثمت ثم إن العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموت فوصف الله تعالى هؤلاء المهلكين بأنهم سكنوا عند الهلاك حتى كأنهم ما كانوا أحياء وقوله كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أي كأنهم لم يوجدوا والمغنى المقام الذي يقيم الحي به يقال غني الرجل بمكان كذا إذا أقام به
ثم قال تعالى أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ قرأ حمزة وحفص عن عاصم أَلا إِنَّ ثَمُودَ غير منون في كل القرآن وقرأ الباقون ثموداً بالتنوين ولثمود كلاهما بالصرف والصرف للذهاب إلى الحي أو إلى الأب الأكبر ومنعه للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة
وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة ً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَة ٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وههنا مسائل
المسألة الأولى قال النحويون دخلت كلمة ( قد ) ههنا لأن السامع لقصص الأنبياء عليهم السلام يتوقع قصة بعد قصة وقد للتوقع ودخت اللام في ( لقد ) لتأكيد الخبر ولفظ جَاءتْ رُسُلُنَا جمع وأقله ثلاثة فهذا يفيد القطع بحصول ثلاثة وأما الزائد على هذا العدد فلا سبيل إلى إثباته إلا بدليل آخر وأجمعوا على أن الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام ثم اختلفت الروايات فقيل أتاه جبريل عليه السلام ومعه اثنا عشر ملكاً على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن وقال الضحاك كانوا تسعة وقال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام وهم الذين ذكرهم الله في سورة والذاريات في قوله هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ( الذاريات 24 ) وفي الحجر وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( الحجر 51 )
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بالبشرى على وجهين الأول أن المراد ما بشره الله بعد ذلك بقوله فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ الثاني أن المراد منه أنه بشر إبراهيم عليه السلام بسلامة لوط وبإهلاك قومه(18/19)
وأما قوله قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكساني قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ بكسر السين وسكون اللام بغير ألف وفي والذاريات مثله قال الفراء لا فرق بين القراءتين كما قالوا حل وحلال وحرم وحرام لأن في التفسير أنهم لما جاؤا سلموا عليه قال أبو علي الفارسي ويحتمل أن يكون سلم خلاف العدو والحرب كأنهم لما امتنعوا من تناول ما قدمه إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة قال إنا سلم ولست بحرب ولا عدو فلا تمتنعوا من تناول طعامي كما يمتنع من تناول طعام العدو وهذا الوجه عندي بعيد لأن على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلم إبراهيم عليه السلام بهذا اللفظ بعد إحضار الطعام إلا أن القرآن يدل على أن هذا الكلام إنما وجد قبل إحضار الطعام لأنه تعالى قال قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ( هود 69 ) والفاء للتعقيب فدل ذلك على أن مجيئه بذلك العجل الحنيذ كان بعد ذكر السلام
المسألة الثانية قالوا سلاماً تقديره سلمنا عليك سلاماً قال سلام تقديره أمري سلام أي لست مريداً غير السلامة والصلح قال الواحدي ويحتمل أن يكون المراد سلام عليكم فجاء به مرفوعاً حكاية لقوله كما قال وحذف عنه الخبر كما حذف من قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ( يوسف 18 ) وإنما يحسن هذا الحذف إذا كان المقصود معلوماً بعد الحذف وههنا المقصود معلوم فلا جرم حسن الحذف ونظيره قوله تعالى فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ( الزخرف 89 ) على حذف الخبر
واعلم أنه إنما سلم بعضهم على بعض رعاية للإذن المذكور في قوله تعالى لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا
المسألة الثالثة أكثر ما يستعمل سَلَامٌ عَلَيْكُمُ بغير ألف ولام وذلك لأنه في معنى الدعاء فهو مثل قولهم خير بين يديك
فإن قيل كيف جاز جعل النكرة مبتدأ
قلنا النكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدأ فإذا قلت سلام عليكم فالتنكير في هذا الموضع يدل على التمام والكمال فكأنه قيل سلام كامل تام عليكم ونظيره قولنا سلام عليك وقوله تعالى قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ ( الصافات 79 ) الْمَلَائِكَة َ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) فأما قوله تعالى وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) فهذا أيضاً جائز والمراد منه الماهية والحقيقة وأقول قوله سَلَامٌ عَلَيْكُمُ أكمل من قوله السلام عليكم لأن التنكير في قوله سَلَامٌ عَلَيْكُمُ يفيد الكمال والمبالغة والتمام وأما لفظ السلام فإنه لا يفيد إلا الماهية قال الأخفش من العرب من يقول سلام عليكم فيعرى قوله سلام عن الألف واللام والتنوين والسبب في ذلك كثرة الاستعمال أباح هذا التخفيف والله أعلم
ثم قال تعالى فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قالوا مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك ثم جاءه الملائكة فرأى أضيافاً لم ير مثلهم فعجل وجاء بعجل حنيذ فقوله فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ معناه فما لبت في المجيء به بل عجل فيه أو التقدير فما لبث مجيئه والعجل ولد البقرة(18/20)
أما الحنيذ فهو الذي يشوى في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة وهو من فعل أهل البادية معروف وهو محنوذ في الأصل كما قيل طبيخ ومطبوخ وقيل الحنيذ الذي يقطر دسمه يقال حنذت الفرس إذا ألقيت عليه الجل حتى تقطر عرقاً
ثم قال تعالى فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ أي إلى العجل وقال الفراء إلى الطعام وهو ذلك العجل نَكِرَهُمْ أي أنكرهم يقال نكره وأنكره واستنكره
واعلم أن الأضياف إنما امتنعوا من الطعام لأنهم ملائكة والملائكة لا يأكلون ولا يشربون وإنما أتوه في صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها وهو كان مشغوفاً بالضيافة وأما إبراهيم عليه السلام فنقول إما أن يقال إنه عليه السلام ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقد فيهم أنهم من البشر أو يقال إنه كان عالماً بأنهم من الملائكة أما على الاحتمال الأول فسبب خوفه أمران أحدهما أنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به مكروهاً وثانيها أن من لا يعرف إذا حضر وقدم إليه طعام فإن أكل حصل الأمن وإن لم يأكل حصل الخوف وأما الاحتمال الثاني وهو أنه عرف أنهم ملائكة الله تعالى فسبب خوفه على هذا التقدير أيضاً أمران أحدها أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه والثاني أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه
فإن قيل فأي هذين الاحتمالين أقرب وأظهر
قلنا أما الذي يقول إنه ما عرف أنهم ملائكة الله تعالى فله أن يحتج بأمور أحدها أنه تسارع إلى إحضار الطعام ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك وثانيها أنه لما رآهم ممتنعين من الأكل خافهم ولو عرف كونهم من الملائكة لما استدل بترك الأكل على حصول الشر وثالثها أنه رآهم في أول الأمر في صورة البشر وذلك لا يدل على كونهم من الملائكة وأما الذي يقول إنه عرف ذلك احتج بقوله لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف بأي سبب أرسلوا ثم بين تعالى أن الملائكة أزالوا ذلك الخوف عنه فقالوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ومعناه أرسلنا بالعذاب إلى قوم لوط لأنه أضمر لقيام الدليل عليه في سورة أخرى وهو قوله إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً ( الذاريات 33 )
ثم قال تعالى وَامْرَأَتُهُ قَائِمَة ٌ يعني سارة بنت آزر بن باحورا بنت عم إبراهيم عليه السلام وقوله قَائِمَة ً قيل كانت قائمة من وراء الستر تستمع إلى الرسل لأنها ربما خافت أيضاً وقيل كانت قائمة تخدم الأضياف وإبراهيم عليه السلام جالس معهم ويأكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود وَامْرَأَتُهُ قَائِمَة ٌ وهو قاعد
ثم قال تعالى فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ واختلفوا في الضحك على قولين منهم من حمله على نفس الضحك ومنهم من حمل هذا اللفظ على معنى آخر سوى الضحك أما الذين حملوه على نفس الضحك فاختلفوا في أنها لم ضحكت وذكروا وجوهاً الأول قال القاضي إن ذلك السبب لا بد وأن يكون سبباً جرى ذكره في هذه الآية وما ذاك إلا أنها فرحت بزوال ذلك الخوف عن إبراهيم عليه السلام حيث قالت الملائكة لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وعظم سرورها بسبب سروره بزوال خوفه وفي مثل هذه(18/21)
الحالة قد يضحك الإنسان وبالجملة فقد كان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام لاَ تَخَفْ فكان كالبشارة فقيل لها نجعل هذه البشارة بشارتين فكما حصلت البشارة بزوال الخوف فقد حصلت البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أول العمر إلى هذا الوقت وهذا تأويل في غاية الحسن الثاني يحتمل أنها كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لما كانوا عليه من الكفر والعمل الخبيث فلما أظهروا أنهم جاؤا لإهلاكهم لحقها السرور فضحكت الثالث قال السدي قال إبراهيم عليه السلام لهم أَلا تَأْكُلُونَ قالوا لا نأكل طعاماً إلا بالثمن فقال ثمنه أن تذكروا اسم الله تعالى على أوله وتحمدوه على آخره فقال جبريل لميكائيل عليهما السلام ( حق لمثل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلاً ) فضحكت امرأته فرحاً منها بهذا الكلام الرابع أن سارة قالت لإبراهيم عليه السلام أرسل إلى ابن أخيك وضمه إلى نفسك فإن الله تعالى لا يترك قومه حتى يعذبهم فعند تمام هذا الكلام دخل الملائكة على إبراهيم عليه السلام فلما أخبروه بأنهم إنما جاؤا لإهلاك قوم لوط صار قولهم موافقاً لقولها فضحكت لشدة سرورها بحصول الموافقة بين كلامها وبين كلام الملائكة الخامس أن الملائكة لما أخبروا إبراهيم عليه السلام أنهم من الملائكة لا من البشر وأنهم إنما جاؤا لإهلاك قوم لوط طلب إبراهيم عليه السلام منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي من الموضع الذي كان موضوعاً فيه إلى مرعاه وكانت امرأة إبراهيم عليه السلام قائمة فضحكت لما رأت ذلك العجل المشوي قد طفر من موضعه السادس أنها ضحكت تعجباً من أن قوماً أتاهم العذاب وهم في غفلة السابع لا يبعد أن يقال إنهم بشروها بحصول مطلق الولد فضحكت إما على سبيل التعجب فإنه يقال إنها كانت في ذلك الوقت بنت بضع وتسعين سنة وإبراهيم عليه السلام ابن مائة سنة وإما على سبيل السرور ثم لما ضحكت بشرها الله تعالى بأن ذلك الولد هو إسحق ومن وراء إسحق يعقوب الثامن أنها ضحكت بسبب أنها تعجبت من خوف إبراهيم عليه السلام من ثلاث أنفس حال ما كان معه حشمه وخدمه التاسع أن هذا على التقديم والتأخير والتقدير وامرأته قائمة فبشرناها بإسحق فضحكت سروراً بسبب تلك البشارة فقدم الضحك ومعناه التأخير الثاني هو أن يكون معنى فضحكت حاضت وهو منقول عن مجاهد وعكرمة قالا ضحكت أي حاضت عند فرحها بالسلامة من الخوف فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد وأنكر الفراء وأبو عبيدة أن يكون ضحكت بمعنى حاضت قال أبو بكر الأنباري هذه اللغة إن لم يعرفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم حكى الليث في هذه الآية فَضَحِكَتْ طمثت وحكى الأزهري عن بعضهم أن أصله من ضحاك الطلعة يقال ضحكت الطلعة إذا انشقت
واعلم أن هذه الوجوه كلها زوائد وإنما الوجه الصحيح هو الأول
ثم قال تعالى وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب بالنصب والباقون بالرفع أما وجه النصب فهو أن يكون التقدير بشرناها بإسحق ومن وراء إسحق وهبنا لها يعقوب وأما وجه الرفع فهو أن يكون التقدير ومن وراء إسحق يعقوب مولود أو موجود
المسألة الثانية في لفظ وراء قولان الأول وهو قول الأكثرين أن معناه بعد أي بعد إسحق يعقوب(18/22)
وهذا هو الوجه الظاهر والثاني أن الوراء ولد الولد عن الشعبي أنه قيل له هذا ابنك فقال نعم من الوراء وكان ولد ولده وهذا الوجه عندي شديد التعسف واللفظ كأنه ينبو عنه
قَالَتْ ياوَيْلَتَا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَاذَا لَشَى ْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الفراء أصل الويل وي وهو الخزي ويقال وي لفلان أي خزي له فقوله ويلك أي خزي لك وقال سيبويه ويح زجر لمن أشرف على الهلاك وويل لمن وقع فيه قال الخليل ولم أسمع على بنائه إلا ويح وويس وويك وويه وهذه الكلمات متقاربة في المعنى وأما قوله يا ويلتا فمنهم من قال هذه الألف ألف الندبة وقال صاحب ( الكشاف ) الألف في ويلتا مبدلة من ياء الإضافة في يا ويلتى وكذلك في يا لهفا ويا عجبا ثم أبدل من الياء والكسرة الألف والفتحة لأن الفتح والألف أخف من الياء والكسرة
أما قوله ياوَيْلَتَا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو آلد بهمزة ومدة والباقون بهمزتين بلا مد
المسألة الثانية لقائل أن يقول إنها تعجبت من قدرة الله تعالى والتعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر بيان المقدمة الأولى من ثلاثة أوجه أولها قوله تعالى حكاية عنها في معرض التعجب وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا وثانيها قوله إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عَجِيبٌ وثالثها قول الملائكة لها أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وأما بيان أن التعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر فلأن هذا التعجيب يدل على جهلها بقدرة الله تعالى وذلك يوجب الكفر
والجواب أنها إنما تعجبت بحسب العرف والعادة لا بحسب القدرة فإن الرجل المسلم لو أخبره مخبر صادق بأن الله تعالى يقلب هذا الجبل ذهباً إبريزاً فلا شك أنه يتعجب نظراً إلى أحوال العادة لا لأجل أنه استنكر قدرة الله تعالى على ذلك
المسألة الثالثة قوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا فاعلم أن شيخاً منصوب على الحال قال الواحدي رحمه الله وهذا من لطائف النحو وغامضه فإن كلمة هذا للإشارة فكان قوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا قائم مقام أن يقال أشير إلى بعلي حال كونه شيخاً والمقصود تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشيخوخة
المسألة الرابعة قرأ بعضهم وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا بعلي وهو شيخ أو بعلي بدل من المبتدأ وشيخ خبر أو يكونان معاً خبرين ثم حكى تعالى أن الملائكة قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ(18/23)
والمعنى أنهم تعجبوا من تعجبها ثم قالوا قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ والمقصود من هذا الكلام ذكر ما يزيل ذلك التعجب وتقديره إن رحمة الله عليكم متكاثرة وبركاته لديكم متوالية متعاقبة وهي النبوة والمعجزات القاهرة والتوفيق للخيرات العظيمة فإذا رأيت أن الله خرق العادات في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية الرفيعة وفي إظهار خوارق العادات وإحداث البينات والمعجزات فكيف يليق به التعجب
وأما قوله أَهْلَ الْبَيْتِ فإنه مدح لهم فهو نصب على النداء أو على الاختصاص ثم أكدوا ذلك بقولهم إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ والحميد هو المحمود وهو الذي تحمد أفعاله والمجيد الماجد وهو ذو الشرف والكرم ومن محامد الأفعال إيصال العبد المطيع إلى مراده ومطلوبه ومن أنواع الفضل والكرم أن لا يمنع الطالب عن مطلوبه فإذا كان من المعلوم أنه تعالى قادر على الكل وأنه حميد مجيد فكيف يبقى هذا التعجب في نفس الأمر فثبت أن المقصود من ذكر هذه الكلمات إزالة التعجب
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة وهي قصة لوط عليه السلام واعلم أن الروع هو الخوف وهو ما أوجس من الخيفة حين أنكر أضيافه والمعنى أنه لما زال الخوف وحصل السرور بسبب مجيء البشرى بحصول الولد أخذ يجادلنا في قوم لوط وجواب لما هو قوله أَخَذَ إلا أنه حذف في اللفظ لدلالة الكلام عليه وقيل تقديره لما ذهب عن إبراهيم الروع جادلنا
واعلم أن قوله يُجَادِلُنَا أي يجادل رسلنا
فإن قيل هذه المجادلة إن كانت مع الله تعالى فهي جراءة على الله والجراءة على الله تعالى من أعظم الذنوب ولأن المقصود من هذه المجادلة إزالة ذلك الحكم وذلك يدل على أنه ما كان راضياً بقضاء الله تعالى وأنه كفر وإن كانت هذه المجادلة مع الملائكة فهي أيضاً عجيبة لأن المقصود من هذه المجادلة أن يتركوا إهلاك قوم لوط فإن كان قد اعتقد فيهم أنهم من تلقاء أنفسهم يجادلون في هذا الإهلاك فهذا سوء ظن بهم وإن اعتقد فيهم أنهم بأمر الله جاؤا فهذه المجادلة تقتضي أنه كان يطلب منهم مخالفة أمر الله تعالى وهذا منكر
والجواب من وجهين
الوجه الأول وهو الجواب الإجمالي أنه تعالى مدحه عقيب هذه الآية فقال إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ولو كان هذا الجدل من الذنوب لما ذكر عقيبه ما يدل على المدح العظيم(18/24)
والوجه الثاني وهو الجواب التفصيلي أن المراد من هذه المجادلة سعي إبراهيم في تأخير العذاب عنهم وتقريره من وجوه
الوجه الأول أن الملائكة قالوا أَنَاْ مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ فقال إبراهيم أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا حتى بلغ العشرة قالوا لا قال أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها قالوا لا فعند ذلك قال إن فيها لوطاً وقد ذكر الله تعالى هذا في سورة العنكبوت فقال وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( العنكبوت 31 32 )
ثم قال وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ فبان بهذا أن مجادلة إبراهيم عليه السلام إنما كانت في قوم لوط بسبب مقام لوط فيما بينهم
الوجه الثاني يحتمل أن يقال إنه عليه السلام كان يميل إلى أن تلحقهم رحمة الله بتأخير العذاب عنهم رجاء أنهم أقدموا على الإيمان والتوبة عن المعاصي وربما وقعت تلك المجادلات بسبب أن إبراهيم كان يقول إن أمر الله ورد بإيصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور بل يقبل التراخي فاصبروا مدة أخرى والملائكة كانوا يقولون إن مطلق الأمر يقبل الفور وقد حصلت هناك قرائن دالة على الفور ثم أخذ كل واحد منهم يقرر مذهبه بالوجوه المعلومة فحصلت المجادلة بهذا السبب وهذا الوجه عندي هو المعتمد
الوجه الثالث في الجواب لعل إبراهيم عليه السلام سأل عن لفظ ذلك الأمر وكان ذلك الأمر مشروطاً بشرط فاختلفوا في أن ذلك الشرط هل حصل في ذلك القوم أم لا فحصلت المجادلة بسببه وبالجملة نرى العلماء في زماننا يجادل بعضهم بعضاً عند التمسك بالنصوص وذلك لا يوجب القدح في واحد منها فكذا ههنا
ثم قال تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ وهذا مدح عظيم من الله تعالى لإبراهيم أما الحليم فهو الذي لا يتعجل بمكافأة غيره بل يتأنى فيه فيؤخر ويعفو ومن هذا حاله فإنه يحب من غيره هذه الطريقة وهذا كالدلالة على أن جداله كان في أمر متعلق بالحلم وتأخير العقاب ثم ضم إلى ذلك ماله تعلق بالحلم وهو قوله أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ لأن من يستعمل الحلم في غيره فإنه يتأوه إذا شاهد وصول الشدائد إلى الغير فلما رأى مجيء الملائكة لأجل إهلاك قوم لوط عظم حزنه بسبب ذلك وأخذ يتأوه عليه فلذلك وصفه الله تعالى بهذه الصفة ووصفه أيضاً بأنه منيب لأن من ظهرت فيه هذه الشفقة العظيمة على الغير فإنه ينيب ويتوب ويرجع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم أو يقال إن من كان لا يرضى بوقوع غيره في الشدائد فأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها كان أولى ولا طريق إلى صون النفس عن الوقوع في عذاب الله إلا بالتوبة والإنابة فوجب فيمن هذا شأنه يكون منيباً(18/25)
يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
اعلم أن قوله مُّنِيبٌ يإِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا معناه أن الملائكة قالوا له اترك هذه المجادلة لأنه قد جاء أمر ربك بإيصال هذا العذاب إليهم وإذا لاح وجه دلالة النص على هذا الحكم فلا سبيل إلى دفعه فلذلك أمروه بترك المجادلة ولما ذكروا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ ولم يكن في هذا اللفظ دلالة على أن هذا الأمر بماذا جاء لا جرم بين الله تعالى أنهم آتيهم عذاب غير مردود أي عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده
ثم قال وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وهؤلاء الرسل هم الرسل الذين بشروا إبراهيم بالولد عليهم السلام قال ابن عباس رضي الله عنهما انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربع فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم وكانوا في غاية الحسن ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله وذكروا فيه ستة أوجه الأول أنه ظن أنهم من الإنس فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجزوا عن مقاومتهم الثاني ساءه مجيئهم لأنه ما كان يجد ما ينفقه عليهم وما كان قادراً على القيام بحق ضيافتهم والثالث ساءه ذلك لأن قومه منعوه من إدخال الضيف داره الرابع ساءه مجيئهم لأنه عرف بالحذر أنهم ملائكة وأنهم إنما جاؤا لإهلاك قومه والوجه الأول هو الأصح لدلالة قوله تعالى وَجَاء قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ( هود 78 ) وبقي في الآية ألفاظ ثلاثة لا بد من تفسيرها
اللفظ الأول قوله سِىء بِهِمْ ومعناه ساء مجيئهم وساء يسوء فعل لازم مجاوز يقال سؤته فسيء مثل شغلته فشغل وسررته فسر قال الزجاج أصله سوىء بهم إلا أن الواو سكنت ونقلت كسرتها إلى السين
اللفظ الثاني قوله وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا قال الأزهري الذرع يوضع موضع الطاقة والأصل فيه البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوته فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فضعف ومد عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن قدر الوسع والطاقة فيقال مالي به ذرع ولا ذراع أي مالي به طاقة والدليل على صحة ما قلناه أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع فيقولون ضقت بالأمر ذراعاً
واللفظ الثالث قوله هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي يوم شديد وإنما قيل للشديد عصيب لأنه يعصب الإنسان بالشر
وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ ياقَوْمِ هَاؤُلا ءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ(18/26)
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه لما دخلت الملائكة دار لوط عليه السلام مضت امرأته عجوز السوء فقالت لقومه دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن وجوهاً ولا أنظف ثياباً ولا أطيب رائحة منهم وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أي يسرعون وبين تعالى أن إسراعهم ربما كان لطلب العمل الخبيث بقوله وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ نقل أن القوم دخلوا دار لوط وأرادوا أن يدخلوا البيت الذي كان فيه جبريل عليه السلام فوضع جبريل عليه السلام يده على الباب فلم يطيقوا فتحه حتى كسروه فمسح أعينهم بيده فعموا فقالوا يا لوط قد أدخلت علينا السحرة وأظهرت الفتنة ولأهل اللغة في يُهْرَعُونَ قولان
القول الأول أن هذا من باب ما جاءت صيغة الفاعل فيه على لفظ المفعول ولا يعرف له فاعل نحو أولع فلان في الأمر وأرعد زيد وزهى عمرو من الزهو
والقول الثاني أنه لا يجوز ورود الفاعل على لفظ المفعول وهذه الأفعال حذف فاعلوها فتأويل أولع زيد أنه أولعه طبعه وأرعد الرجل أرعده غضبه وزهى عمرو معناه جعله ماله زاهياً وأهرع معناه أهرعه خوفه أو حرصه واختلفوا أيضاً فقال بعضهم الإهراع هو الإسراع مع الرعدة وقال آخرون هو العدو الشديد
أما قوله تعالى قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ففيه قولان قال قتادة المراد بناته لصلبه وقال مجاهد وسعيد بن جبير المراد نساء أمته لأنهن في أنفسهن بنات ولهن إضافة إليه بالمتابعة وقبول الدعوة قال أهل النحو يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب لأنه كان نبياً لهم فكان كالأب لهم قال تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 ) وهو أب لهم وهذا القول عندي هو المختار ويدل عليه وجوه الأول أن إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفجار أمر متبعد لا يليق بأهل المروءة فكيف بأكابر الأنبياء الثاني وهو أنه قال هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فبناته اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل الثالث أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما زنتا وزعوراً وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة فأما القائلون بالقول الأول فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما دعا القوم إلى لزنا بالنسوان بل المراد أنه دعاهم إلى التزوج بهن وفيه قولان أحدهما أنه دعاهم إلى التزوج بهن بشرط أن يقدموا الإيمان والثاني أنه كان يجوز تزويج المؤمنة من الكافر في شريعته وهكذا كان في أول الإسلام بدليل أنه عليه السلام زوج ابنته زينب من أبي العاص بن الربيع وكان مشركاً وزوج ابنته من عتبة بن أبي لهب ثم نسخ ذلك بقوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) وبقوله وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ( البقرة 221 ) واختلفوا أيضاً فقال الأكثرون كان له بنتان وعلى هذا التقدير ذكر الاثنتين بلفظ الجمع كما في قوله فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ ( النساء 21 ) فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) وقيل إنهن كن أكثر من اثنتين
أما قوله تعالى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ففيه مسألتان(18/27)
المسألة الأولى ظاهر قوله هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ يقتضي كون العمل الذي يطلبونه طاهراً ومعلوم أنه فاسد ولأنه لا طهارة في نكاح الرجل بل هذا جار مجرى قولنا الله أكبر والمراد أنه كبير ولقوله تعالى أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَة ُ الزَّقُّومِ ( الصافات 62 ) ولاخير فيها ولما قال أبو سفيان اعل أحداً واعل هبل قال النبي ( الله أعلى وأجل ) ولامقاربة بين الله وبين الصنم
المسألة الثانية روي عن عبد الملك بن مروان والحسن وعيسى بن عمر أنهم قرؤا هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ بالنصب على الحال كما ذكرنا في قوله تعالى وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا ( هود 72 ) إلا أن أكثر النحويين اتفقوا على أنه خطأ قالوا لو قرىء هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ كان هذا نظير قوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إلا أن كلمة ( هن ) قد وقعت في البين وذلك يمنع من جعل أطهر حالاً وطولوا فيه ثم قال فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو ونافع ولا تخزوني بإثبات الياء على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليه
المسألة الثانية في لفظ لا وجهان الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تفضحوني في أضيافي يريد أنهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة والثاني لا تخزوني في ضيفي أي لا تخجلوني فيهم لأن مضيف الضيف يلزمه الخجالة من كل فعل قبيح يوصل إلى الضيف يقال خزي الرجل إذا استحيا
المسألة الثالثة الضيف ههنا قائم مقام الأضياف كما قام الطفل مقام الأطفال في قوله تعالى الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ ( النور 31 ) ويجوز أن يكون الضيف مصدراً فيستغنى عن جمعه كما يقال رجال صوم ثم قال أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ وفيه قولان الأول رَّشِيدٌ بمعنى مرشد أي يقول الحق ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي والثاني رشيد بمعنى مرشد والمعنى أليس فيكم رجل أرشده الله تعالى إلى الصلاح وأسعده بالسداد والرشاد حتى يمنع عن هذا العمل القبيح والأول أولى
ثم قال تعالى قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وفيه وجوه الأول مالنا في بناتك من حاجة ولا شهوة والتقدير أن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق فلهذا السبب جعل نفي الحق كناية عن نفي الحاجة الثاني أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول معناه إنهن لسن لنا بأزواج ولا حق لنا فيهن ألبتة ولا يميل أيضاً طبعنا إليهن فكيف قيامهن مقام العمل الذي نريده وهو إشارة إلى العمل الخبيث الثالث مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نجيبك إلى ذلك فلا يكون لنا فيهن حق ثم إنه تعالى حكى عن لوط أنه عند سماع هذا الكلام قال لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى جواب ( لو ) محذوف لدلالة الكلام عليه والتقدير لمنعتكم ولبالغت في دفعكم ونظيره قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) وقوله وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ( الأنعام 27 ) قال الواحدي وحذف الجواب ههنا لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من المنع والدفع(18/28)
المسألة الثانية لَوْ أَنَّ بِكُمْ قُوَّة ً أي لو أن لي ما أتقوى به عليكم وتسمية موجب القوة بالقوة جائز قال الله تعالى وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّة ٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ ( الأنفال 60 ) والمراد السلاح وقال آخرون القدرة على دفعهم وقوله أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ المراد منه الموضع الحصين المنيع تشبيهاً له بالركن الشديد من الجبل
فإن قيل ما الوجه ههنا في عطف الفعل على الاسم
قلنا قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أَوْ اوِى بالنصب بإضمار أن كأنه قيل لو أن لي بكم قوة أو آوياً
واعلم أن قوله لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ لا بد من حمل كل واحد من هذين الكلامين على فائدة مستقلة وفيه وجوه الأول المراد بقوله لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً كونه بنفسه قادراً على الدفع وكونه متمكناً إما بنفسه وإما بمعاونة غيره على قهرهم وتأديبهم والمراد بقوله أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ هو أن لا يكون له قدرة على الدفع لكنه يقدر على التحصن بحصن ليأمن من شرهم بواسطته الثالث أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمنى حصول قوة قوية على الدفع ثم استدرك على نفسه وقال بلى الأولى أن آوى إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله تعالى وعلى هذا التقدير فقوله أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ كلام منفصل عما قبله ولا تعلق له به وبهذا الطريق لا يلزم عطف الفعل على الاسم ولذلك قال النبي عليه السلام ( رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد )
قَالُواْ يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
اعلم أن قوله تعالى مخبراً عن لوط عليه السلام أنه قال لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ( هود 80 ) يدل على أنه كان في غاية القلق والحزن بسبب إقدام أولئك الأوباش على ما يوجب الفضيحة في حق أضيافه فلما رأت الملائكة تلك الحالة بشروه بأنواع من البشارات أحدها أنهم رسل الله وثانيها أن الكفار لا يصلون إلى ما هموا به وثالثها أنه تعالى يهلكهم ورابعها أنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب وخامسها إن ركنك شديد وإن ناصرك هو الله تعالى فحصل له هذه البشارات وروي أن جبريل عليه السلام قال له إن قومك لن يصلوا إليك فافتح الباب فدخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم وذلك قوله تعالى وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ( القمر 37 ) ومعنى قوله لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ أي بسوء ومكروه فإنا نحول بينهم وبين ذلك ثم قال فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ قرأ نافع وابن كثير فَأَسْرِ موصولة والباقون بقطع الألف وهما لغتان يقال سريت بالليل وأسريت وأنشد حسان(18/29)
أسرت إليك ولم تكن تسري
فجاء باللغتين فمن قرأ بقطع الألف فحجته قوله سبحانه وتعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( الإسراء 1 ) ومن وصل فحجته قوله وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( الفجر 4 ) والسرى السير في الليل يقال سرى يسري إذا سار بالليل وأسرى بفلان إذا سير به بالليل والقطع من الليل بعضه وهو مثل القطعة يريد اخرجوا ليلاً لتسبقوا نزول العذاب الذي موعده الصبح قال نافع بن الأزرق لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما أخبرني عن قول الله بِقِطْعٍ مّنَ الَّيْلِ قال هو آخر الليل سحر وقال قتادة بعد طائفة من الليل وقال آخرون هو نصف الليل فإنه في ذلك الوقت قطع بنصفين
ثم قال وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ نهى من معه عن الالتفات والالتفات نظر الإنسان إلى ما وراءه والظاهر أن المراد أنه كان لهم في البلدة أموال وأقمشة وأصدقاء فالملائكة أمروهم بأن يخرجوا ويتركوا تلك الأشياء ولا يلتفتوا إليها ألبتة وكان المراد منه قطع القلب عن تلك الأشياء وقد يراد منه الانصراف أيضاً كقوله تعالى قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ( يونس 78 ) أي لتصرفنا وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ النهي عن التخلف
ثم قال إِلاَّ امْرَأَتَكَ قرأ ابن كثير وأبو عمر إِلاَّ امْرَأَتَكَ بالرفع والباقون بالنصب قال الواحدي من نصب وهو الاختيار فقد جعلها مستثناة من الأهل على معنى فأسر بأهلك إلا امرأتك والذي يشهد بصحة هذه القراءة أن في قراءة عبدالله فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ فأسقط قوله وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ من هذا الموضع وأما الذين رفعوا فالتقدير وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ
فإن قيل فهذه القراءة توجب أنها أمرت بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم أحد إلا زيد كان ذلك أمراً لزيد بالقيام
وأجاب أبو بكر الأنباري عنه فقال معنى إِلا ههنا الاستثناء المنقطع على معنى لا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم وإذا ان هذا الاستثناء منقطعاً كان التفاتها معصية ويتأكد ما ذكرنا بما روي عن قتادة أنه قال إنها كانت مع لوط حين خرج من القرية فلما سمعت هذا العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأصابها حجر فأهلكها
واعلم أن القراءة بالرفع أقوى لأن القراءة بالنصب تمنع من خروجها مع أهله لكن على هذا التقدير الاستثناء يكون من الأهل كأنه أمر لوطاً بأن يخرج بأهله ويترك هذه المرأة فإنها هالكة مع الهالكين وأما القراءة بالنصب فإنها أقوى من وجه آخر وذلك لأن مع القراءة بالنصب يبقى الاستثناء متصلاً ومع القراءة بالرفع يصير الاستثناء منقطعاً ثم بين الله تعالى أنهم قالوا إنه مصيبها ما أصابهم والمراد أنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم ثم قالوا إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ روى أنهم لما قالوا لوط عليه السلام إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ قال أريد أعجل من ذلك بل الساعة فقالوا أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قال المفسرون إن لوطاً عليه السلام لما سمع هذا الكلام خرج بأهله في الليل(18/30)
فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَة ً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَة ً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في الأمر وجهان الأول أن المراد من هذا الأمر ما هو ضد النهي ويدل عليه وجوه الأول أن لفظ الأمر حقيقة في هذا المعنى مجاز في غيره دفعاً للاشتراك الثاني أن الأمر لا يمكن حمله ههنا على العذاب وذلك لأنه تعالى قال فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وهذا الجعل هو العذاب فدلت هذه الآية على أن هذا الأمر شرط والعذاب جزاء والشرط غير الجزاء فهذا الأمر غير العذاب وكل من قال بذلك قال إنه هو الأمر الذي هو ضد النهي والثالث أنه تعالى قال قبل هذه الآية إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ( هود 70 ) فدل هذا على أنهم كانوا مأمورين من عند الله تعالى بالذهاب إلى قوم لوط وبإيصال هذا العذاب إليهم
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أمر جمعاً من الملائكة بأن يخربوا تلك المدائن في وقت معين فلما جاء ذلك الوقت أقدموا على ذلك العمل فكان قوله فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا إشارة إلى ذلك التكليف
فإن قيل لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال فلما جاء أمرنا جعلوا عاليها سافلها لأن الفعل صدر عن ذلك المأمور
قلنا هذا لا يلزم على مذهبنا لأن فعل العبد فعل الله تعالى عندنا وأيضاً أن الذي وقع منهم إنما وقع بأمر الله تعالى وبقدرته فلم يبعد إضافته إلى الله عز وجل لأن الفعل كما تحسن إضافته إلى المباشر فقد تحسن أيضاً إضافته إلى السبب
القول الثاني أن يكون المراد من الأمر ههنا قوله تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وقد تقدم تفسير ذلك الأمر
القول الثالث أن يكون المراد من الأمر العذاب وعلى هذا التقدير فيحتاج إلى الإضمار والمعنى ولما جاء وقت عذابنا جعلنا عاليها سافلها
المسألة الثانية اعلم أن ذلك العذاب قد وصفه الله تعالى في هذه الآية بنوعين من الوصف فالأول قوله جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا روي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك ولم تنكفىء لهم جرة ولم ينكب لهم إناء ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض
واعلم أن هذا العمل كان معجزة قاهرة من وجهين أحدهما أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب من(18/31)
السماء فعل خارق للعادات والثاني أن ضربها من ذلك البعد البعيد على الأرض بحيث لم تتحرك سائر القرى المحيطة بها ألبتة ولم تصل الآفة إلى لوط عليه السلام وأهله مع قرب مكانهم من ذلك الموضع معجزة قاهرة أيضاً الثاني قوله وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَة ً مّن سِجّيلٍ واختلفوا في السجيل على وجوه الأول أنه فارسي معرب وأصله سنككل وأنه شيء مركب من الحجر والطين بشرط أن يكون في غاية الصلابة قال الأزهري لماعربته العرب صار عربياً وقد عربت حروفاً كثيرة كالديباج والديوان والاستبرق والثاني سجيل أي مثل السجل وهو الدلو العظيم والثالث سجيل أي شديد من الحجارة الرابع مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته وهو فعيل منه الخامس من أسجلته أي أعطيته تقديره مثل العطية في الإدرار وقيل كان كتب عليها أسامي المعذبين السادس وهو من السجل وهو الكتاب تقديره من مكتوب في الأزل أي كتب الله أن يعذبهم بها والسجيل أخذ من السجل وهو الدلو العظيمة لأنه يتضمن أحكاماً كثيرة وقيل مأخوذ من المساجلة وهي المفاخرة والسابع من سجيل أي من جهنم أبدلت النون لاماً والثامن من السماء الدنيا وتسمى سجيلاً عن أبي زيد والتاسع السجيل الطين لقوله تعالى حِجَارَة ً مّن طِينٍ ( الذاريات 33 ) وهو قول عكرمة وقتادة قال الحسن كان أصل الحجر هو من الطين إلا أنه صلب بمرور الزمان والعاشر سجيل موضع الحجارة وهي جبال مخصوصة ومنه قوله تعالى مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ( النور 43 )
واعلم أنه تعالى وصف تلك الحجارة بصفات
فالصفة الأولى كونها من سجيل وقد سبق ذكره
الصفة الثانية قوله تعالى مَّنْضُودٍ قال الواحدي هو مفعول من النضد وهو موضع الشيء بعضه على بعض وفيه وجوه الأول أن تلك الحجارة كان بعضها فوق بعض في النزول فأتى به على سبيل المبالغة والثاني أن كل حجر فإن ما فيه من الأجزاء منضود بعضها ببعض وملتصق بعضها ببعض والثالث أنه تعالى كان قد خلقها في معادنها ونضد بعضها فوق بعض وأعدها لإهلاك الظلمة
واعلم أن قوله مَّنْضُودٍ صفة للسجيل
الصفة الثالثة مسومة وهذه الصفة صفة للأحجار ومعناها المعلمة وقد مضى الكلام فيه في تفسير قوله وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 ) واختلفوا في كيفية تلك العلامة على وجوه الأول قال الحسن والسدي كان عليها أمثال الخواتيم الثاني قال ابن صالح رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع الثالث قال ابن جريج كان عليها سيما لا تشارك حجارة الأرض وتدل على أنه تعالى إنما خلقها للعذاب الرابع قال الربيع مكتوب على كل حجر اسم من رمى به
ثم قال تعالى عِندَ رَبّكَ أي في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا هو
ثم قال وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ يعني به كفار مكة والمقصود أنه تعالى يرميهم بها عن أنس أنه قال سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جبريل عليه السلام عن هذا فقال يعني عن ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة وقيل الضمير في قوله وَمَا هِى َ للقرى أي وما تلك(18/32)
القرى التي وقعت فيها هذه الواقعة من كفار مكة ببعيد وذلك لأن القرى كانت في الشأم وهي قريب من مكة
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة واعلم أن مدين اسم ابن لإبراهيم عليه السلام ثم صار اسماً للقبيلة وكثير من المفسرين يذهب إلى أن مدين اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم عليه السلام والمعنى على هذا التقدير وأرسلنا إلى أهل مدين فحذف الأهل
واعلم أنا بينا أن الأنبياء عليهم السلام يشرعون في أول الأمر بالدعوة إلى التوحيد فلهذا قال شعيب عليه السلام مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ثم إنهم بعد الدعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ثم الأهم ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في المكيال والميزان دعاهم إلى ترك هذه العادة فقال وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ والنقص فيه على وجهين أحدهما أن يكون الإيفاء من قبلهم فينقصون من قدره والآخر أن يكون لهم الاستيفاء فيأخذون أزيد من الواجب وذلك يوجب نقصان حق الغير وفي القسمين حصل النقصان في حق الغير ثم قال إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وفيه وجهان الأول أنه حذرهم من غلاء السعر وزوال النعمة إن لم يتوبوا فكأنه قال اتركوا هذا التطفيف وإلا أزال الله عنكم ما حصل عندكم من الخير والراحة والثاني أن يكون التقدير أنه تعالى أتاكم بالخير الكثير والمال والرخص والسعة فلا حاجة بكم إلى هذا التطفيف ثم قال وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وفيه أبحاث
البحث الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما أخاف أي أعلم حصول عذاب يوم محيط وقال آخرون بل المراد هو الخوف لأنه يجوز أن يتركوا ذلك العمل خشية أن يحصل لهم العذاب ولما كان هذا التخويف قائماً فالحاصل هو الظن لاالعلم
البحث الثاني أنه تعالى توعدهم بعذاب يحيط بهم بحيث لا يخرج منه أحد والمحيط من صفة اليوم في الظاهر وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور كقوله هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ( هود 77 )(18/33)
البحث الثالث اختلفوا في المراد بهذا العذاب فقال بعضهم هو عذاب يوم القيامة لأنه اليوم الذي نصب لإحاطة العذاب بالمعذبين وقال بعضهم بل يدخل فيه عذاب الدنيا والآخرة وقال بعضهم بل المراد منه عذاب الاستئصال في الدنيا كما في حق سائر الأنبياء والأقرب دخول كل عذاب فيه وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدائرة بما في داخلها فينالهم من كل وجه وذلك مبالغة في الوعد كقوله وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ( الكهف 42 ) ثم قال مُّحِيطٍ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ
فإن قيل وقع التكرير في هذه الآية من ثلاثة أوجه لأنه قال أولاً وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ثم قال أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وهذا عين الأول ثم قال وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا إن فيه وجوهاً
الوجه الأول أن القوم كانوا مصرين على ذلك العمل فاحتج في المنع منه إلى المبالغة والتأكيد والتكرير يفيد التأكيد وشدة العناية والاهتمام
والوجه الثاني أن قوله وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ نهي عن التنقيص وقوله أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ أمر بإيفاء العدل والنهي عن ضد الشيء مغاير للأمر به وليس لقائل أن يقول النهي عن ضد الشيء أمر به فكان التكرير لازماً من هذا الوجه لأنا نقول الجواب من وجهين الأول أنه تعالى جمع بين الأمر والشيء وبين النهي عن ضده للمبالغة كما تقول صل قرابتك ولا تقطعهم فيدل هذا الجمع على غاية التأكيد الثاني أن نقول لا نسلم أن الأمر كما ذكرتم لأنه يجوز أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصل المعاملة فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحق ليدل ذلك على أنه تعالى لم يمنع عن المعاملات ولم ينه عن المبايعات وإنما منع من التطفيف وذلك لأن طائفة من الناس يقولون إن المبايعات لا تنفك عن التطفيف ومنع الحقوق فكانت المبايعات محرمة بالكلية فلأجل إبطال هذا الخيال منع تعالى في الآية الأولى من التطفيف وفي الآية الأخرى أمر بالإيفاء وأما قوله ثالثاً وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ فليس بتكرير لأنه تعالى خص المنع في الآية السابقة بالنقصان في المكيال والميزان ثم إنه تعالى عم الحكم في جميع الأشياء فظهر بهذا البيان أنها غير مكررة بل في كل واحد منها فائدة زائدة
والوجه الثالث أنه تعالى قال في الآية الأولى وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وفي الثانية قال أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ والإيفاء عبارة عن الإتيان به على سبيل الكمال والتمام لا يحصل ذلك إلا إذا أعطى قدراً زائداً على الحق ولهذا المعنى قال الفقهاء إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من أجزاء الرأس فالحاصل أنه تعالى في الآية الأولى نهى عن النقصان وفي الآية الثانية أمر بإعطاء قدر من الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة فكأنه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً لتحصل له تلك الزيادة وفي الثاني أمر بالسعي في تنقيص مال نفسه ليخرج باليقين عن العهدة وقوله بِالْقِسْطِ يعني بالعدل ومعناه الأمر بإيفاء الحق بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة فالأمر بإيتاء الزيادة على ذلك غير حاصل ثم قال وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ والبخس هو النقص في كل الأشياء وقد ذكرنا أن الآية الأولى دلت على المنع من النقص(18/34)
في المكيال والميزان وهذه الآية دلت على المنع من النقص في كل الاْشياء ثم قال وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ
فإن قيل العثو الفساد التام فقوله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ جار مجرى أن يقال ولا تفسدوا في الأرض مفسدين
قلنا فيه وجوه الأول أن من سعى في إيصال الضرر إلى الغير فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ معناه ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم والثاني أن يكون المراد من قوله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ مصالح دنياكم وآخرتكم والثالث ولا تعثوا في الأرض مفسدين مصالح الأديان ثم قال بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ قرىء تقية الله وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي ثم نقول المعنى ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف يعني المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق البخس والتطفيف وقال الحسن بقية الله أي طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل لأن ثواب الطاعة يبقى أبداً وقال قتادة حظكم من ربكم خير لكم وأقول المراد من هذه البقية إما المال الذي يبقى عليه في الدنيا وإما ثواب الله وأما كونه تعالى راضياً عنه والكل خير من قدر التطفيف أما المال الباقي فلأن الناس إذا عرفوا إنساناً بالصدق والأمانة والبعد عن الخيانة اعتمدوا عليه ورجعوا في كل المعاملات إليه فيفتح عليه باب الرزق وإذا عرفوه بالخيانة والمكر انصرفوا عنه ولم يخالطوه ألبتة فتضيق أبواب الرزق عليه وأما إن حملنا هذه البقية على الثواب فالأمر ظاهر لأن كل الدنيا تفنى وتنقرض وثواب الله باق وأما إن حملناه على حصول رضا الله تعالى فالأمر فيه ظاهر فثبت بهذا البرهان أن بقية الله خير ثم قال إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وإنما شرط الإيمان في كونه خيراً لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب عرفوا أن السعي في تحصيل الثواب وفي الحذر من العقاب خير لهم من السعي في تحصيل ذلك القليل
واعلم أن المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فهذه الآية تدل بظاهرها على أن من لم يحترز عن هذا التطفيف فإنه لا يكون مؤمناً
ثم قال تعالى وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وفيه وجهان الأول أن يكون المعنى إني نصحتكم وأرشدتكم إلى الخير وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي لا قدرة لي على منعكم عن هذا العمل القبيح الثاني أنه قد أشار فيما تقدم إلى أن الاشتغال بالبخس والتطفيف يوجب زوال نعمة الله تعالى فقال وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يعني لو لم تتركوا هذا العمل القبيح لزالت نعم الله عنكم وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة
قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاّنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ(18/35)
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم أصلاتك بغير واو والباقون ياشُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ على الجمع
المسألة الثانية اعلم أن شعيباً عليه السلام أمرهم بشيئين بالتوحيد وترك البخس فالقوم أنكروا عليه أمره بهذين النوعين من الطاعة فقوله أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد وقوله قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس أما الأول فقد أشاروا فيه إلى التمسك بطريقة التقليد لأنهم استبعدوا منه أن يأمرهم بترك عبادة ما كان يعبد آباؤهم يعني الطريقة التي أخذناها من آبائنا وأسلافنا كيف نتركها وذلك تمسك بمحض التقليد
المسألة الثالثة في لفظ الصلاة وههنا قولان الأول المراد منه الدين والإيمان لأن الصلاة أظهر شعار الدين فجعلوا ذكر الصلاة كناية عن الدين أو نقول الصلاة أصلها من الإتباع ومنه أخذ المصلي من الخيل الذي يتلو السابق لأن رأسه يكون على صلوى السابق وهما ناحيتا الفخذين والمراد دينك يأمرك بذلك والثاني أن المراد منه هذه الأعمال المخصوصة روي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا فقصدوا بقولهم أصلاتك تأمرك السخرية والهزؤ وكما أنك إذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فيقال له هذا من مطالعة تلك الكتب على سبيل الهزؤ والسخرية فكذا ههنا
فإن قيل تقدير الآية أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وهم إنما ذكروا هذا الكلام على سبيل الإنكار وهم ما كانوا ينكرون كونهم فاعلين في أموالهم ما يشاؤن فكيف وجه التأويل
قلنا فيه وجهان الأول التقدير أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نترك فعل ما نشاء وعلى هذا فقوله أَوْ أَن نَّفْعَلَ معطوف على ما في قوله مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا والثاني أن تجعل الصلاة آمرة وناهية والتقدير أصلواتك تأمرك بأن نترك عبادة الأوثان وتنهاك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وقرأ ابن أبي عبلة أَوْ أَن تَفْعَلْ فِى أَمْوَالِنَا مَا تَشَاء بتاء الخطاب فيهما وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس والاقتناع بالحلال القليل وأنه خير من الحرام الكثير
ثم قال تعالى حكاية عنهم إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ وفيه وجوه
الوجه الأول أن يكون المعنى إنك لأنت السفيه الجاهل إلا أنهم عكسوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية به كما يقال للبخيل الخسيس لو رآك حاتم لسجد لك
والوجه الثاني أن يكون المراد إنك موصوف عند نفسك وعند قومك بالحلم والرشد
والوجه الثالث أنه عليه السلام كان مشهوراً عندهم بأنه حليم رشيد فلما أمرهم بمفارقة طريقتهم قالوا له إنك لأنت الحليم الرشيد المعروف الطريقة في هذا الباب فكيف تنهانا عن دين ألفيناه من آبائنا وأسلافنا والمقصود استبعاد مثل هذا العمل ممن كان موصوفاً بالحلم والرشد وهذا الوجه أصوب الوجوه(18/36)
قَالَ ياقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى حكى عن شعيب عليه السلام ما ذكره في الجواب عن كلماتهم فالأول قوله قَالَ ياقَوْمِ أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ وفيه وجوه الأول أن قوله إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى إشارة إلى ما آتاه الله تعالى من العلم والهداية والدين والنبوة وقوله وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال فإنه يروى أن شعيباً عليه السلام كان كثير المال
واعلم أن جواب إن الشرطية محذوف والتقدير أنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية وهي البينة والسعادات الجسمانية وهي المال والرزق الحسن فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه وأن أخالفه في أمره ونهيه وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم وذلك لأنهم قالوا له إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فكيف يليق بك مع حلمك ورشدك أن تنهانا عن دين آبائنا فكأنه قال إنما أقدمت على هذا العمل لأن نعم الله تعالى عندي كثيرة وهو أمرني بهذا التبليغ والرسالة فكيف يليق بي مع كثرة نعم الله تعالى على أن أخالف أمره وتكليفه الثاني أن يكون التقدير كأنه يقول لما ثبت عندي أن الاشتغال بعبادة غير الله والاشتغال بالبخس والتطفيف عمل منكر ثم أنا رجل أريد إصلاح أحوالكم ولا أحتاج إلى أموالكم لأجل أن الله تعالى آتاني رزقاً حسناً فهل يسعني مع هذه الأحوال أن أخون في وحي الله تعالى وفي حكمه الثالث قوله إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى أي ما حصل عنده من المعجزة وقوله وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا المراد أنه لا يسألهم أجراً ولا جعلاً وهو الذي ذكره سائر الأنبياء من قولهم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ
المسألة الثانية قوله وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا يدل على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته وأنه لا مدخل للكسب فيه وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى والإذلال من الله تعالى وإذا كان الكل من الله تعالى فأنا لا أبالي بمخالفتكم ولا أفرح بموافقتكم وإنما أكون على تقرير دين الله تعالى(18/37)
وإيضاح شرائع الله تعالى
وأما الوجه الثاني من الأجوبة التي ذكرها شعيب عليه السلام فقوله وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ قال صاحب ( الكشاف ) يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى الماء يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذهب عنه صادراً ومنه قوله وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم فهذا بيان اللغة وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا بأنه حليم رشيد وذلك يدل على كمال العقل وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعلموا أن الذي اختاره عقلي لنفسي لا بد وأن يكون أصوب الطرق وأصلحها والدعوة إلى توحيد الله تعالى وترك البخس والنقصان يرجع حاصلهما إلى جزأين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى وأنا مواظب عليهما غير تارك لهما في شيء من الأحوال ألبتة فلما اعترفتم لي بالحلم والرشد وترون أني لا أترك هذه الطريقة فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق وأشرف الأديان والشرائع
وأما الوجه الثالث من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ والمعنى ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وقوله مَا اسْتَطَعْتُ فيه وجوه الأول أنه ظرف والتقدير مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكناً منه لا آلو فيه جهداً والثاني أنه بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعت منه والثالث أن يكون مفعولاً له أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أن القوم كانوا قد أقروا بأنه حليم رشيد وإما أقروا له بذلك لأنه كان مشهوراً فيما بين الخلق بهذه الصفة فكأنه عليه السلام قال لهم إنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الفساد والخصومة فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة وإثارة الفتنة فإنكم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ولا أدور إلا على ما يوجب الصلح والصلاح بقدر طاقتي وذلك هو الإبلاغ والإنذار وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وبين بهذا أن توكله واعتماده في تنفيذ كل الأعمال الصالحة على توفيق الله تعالى وهدايته
واعلم أن قوله عليه السلام توكلت إشارة إلى محض التوحيد لأن قوله عليه السلام توكلت يفيد الحصر وهو أنه لا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى وكيف وكل ما سوى الحق سبحانه ممكن لذاته فإن بذاته ولا يحصل إلا بإيجاده وتكوينه وإذا كان كذلك لم يجز التوكل إلا على الله تعالى وأعظم مراتب معرفة المبدأ هو الذي ذكرناه وأما قوله وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فهو إشارة إلى معرفة المعاد وهو أيضاً يفيد الحصر لأن قوله وَإِلَيْهِ أُنِيبُ يدل على أنه لا مرجع للخلق إلا إلى الله تعالى وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا ذكر شعيب عليه السلام قال ( ذاك خطيب الأنبياء ) لحسن مراجعته في كلامه بين قومه
وأما الوجه الرابع من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله أُنِيبُ وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم(18/38)
قال صاحب ( الكشاف ) جرم مثل كسب في تعديته تارة إلى مفعول واحد وأخرى إلى مفعولين يقال جرم ذنباً وكسبه وجرمه ذنباً وكسبه إياه ومنه قوله تعالى لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب وقرأ ابن كثير يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء من أجرمته ذنباً إذا جعلته جارماً له أي كاسباً له وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد وعلى هذا فلا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما إلا أن المشهورة أفصح لفظاً كما أن كسبه مالاً أفصح من أكسبه
إذا عرفت هذا فنقول المراد من الآية لا تكسبنكم معاداتكم إياي أي يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا مثل ما حصل لقوم نوح عليه السلام من الغرق ولقوم عود من الريح العقيم ولقوم صالح من الرجفة ولقوم لوط من الخسف
وأما قوله وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ ففيه وجهان الأول أن المراد نفي البعد في المكان لأن بلاد قوم لوط عليه السلام قريبة من مدين والثاني أن المراد نفي البعد في الزمان لأن إهلاك قوم لوط عليه السلام أقرب الإهلاكات التي عرفها الناس في زمان شعيب عليه السلام وعلى هذين التقديرين فإن القرب في المكان وفي الزمان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال فكأنه يقول اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله تعالى ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب
فإن قيل لم قال وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ وكان الواجب أن يقال ببعيدين
أجاب عنه صاحب ( الكشاف ) من وجهين الأول أن يكون التقدير ما إهلاكهم شيء بعيد الثاني أنه يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وكثير وقليل بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما
وأما الوجه الخامس من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله واستغفروا ربكم من عبادة الأوثان ثم توبوا إليه عن البخس والنقصان إن ربي رحيم بأوليائه ودود قال أبو بكر الأنباري الودود في أسماء الله تعالى المحب لعباده من قولهم وددت الرجل أوده وقال الأزهري في ( كتاب شرح أسماء الله تعالى ) ويجوز أن يكون ودود فعولاً بمعنى مفعول كركوب وحلوب ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق
واعلم أن هذا الترتيب الذي راعاه شعيب عليه السلام في ذكر هذه الوجوه الخمسة ترتيب لطيف وذلك لأنه بين أولاً أن ظهور البينة له وكثرة إنعام الله تعالى عليه في الظاهر والباطن يمنعه عن الخيانة في وحي الله تعالى ويصده عن التهاون في تكاليفه ثم بين ثانياً أنه مواظب على العمل بهذه الدعوة ولو كانت باطلة لما اشتغل هو بها مع اعترافكم بكونه حليماً رشيداً ثم بين صحته بطريق آخر وهو أنه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلاح وإخفاء موجبات الفتن فلو كانت هذه الدعوة باطلة لمااشتغل بها ثم لما بين صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال لا ينبغي أن تحملكم عداوتي على مذهب ودين تقعون بسببه في العذاب الشديد من الله تعالى كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين ثم إنه لما صحح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ثم بين لهم أن سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطاعة لأنه تعالى رحيم ودود يقبل الإيمان والتوبة من الكافر والفاسق لأن رحمته وحبه لهم يوجب ذلك وهذا التقرير في غاية الكمال(18/39)
قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ
اعلم أنه عليه السلام لما بالغ في التقرير والبيان أجابوه بكلمات فاسدة فالأول قولهم قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول أنه عليه السلام كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا مَا نَفْقَهُ والعلماء ذكروا عنه أنواعاً من الجوابات فالأول أن المراد ما نفهم كثيراً مما تقول لأنهم كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدة نفرتهم عن كلامه وهو كقوله وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ ( الأنعام 25 ) الثاني أنهم فهموه بقلوبهم ولكنهم ما أقاموا له وزناً فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذ لم يعبأ بحديثه ما أدري ما تقول الثالث أن هذه الدلائل التي ذكرها ما أقنعتهم في صحة التوحيد والنبوة والبعث وما يجب من ترك الظلم والسرقة فقولهم مَا نَفْقَهُ أي لم نعرف صحة الدلائل التي ذكرتها على صحة هذه المطالب
المسألة الثانية من الناس من قال الفقه اسم لعلم مخصوص وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه واحتجوا بهذه الآية وهي قوله مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ فأضاف الفقه إلى القول ثم صار اسماً لنوع معين من علوم الدين ومنهم من قال إنه اسم لمطلق الفهم يقال أوتي فلان فقهاً في الدين أي فهماً وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) أي يفهمه تأويله
والنوع الثاني من الأشياء التي ذكروها قولهم وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وفيه وجهان الأول أنه الضعيف الذي يتعذر عليه منع القوم عن نفسه والثاني أن الضعيف هو الأعمى بلغة حمير واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه الأول أنه ترك للظاهر من غير دليل والثاني أن قوله فِينَا يبطل هذا الوجه ألا ترى أنه لو قال إنا لنراك أعمى فينا كان فاسداً لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم الثالث أنهم قالوا بعد ذلك وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ فنفوا عنه القوة التي أثبتوها في رهطه ولما كان المراد بالقوة التي أثبتوها للرهط هي النصرة وجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النصرة والذين حملوا اللفظ على ضعف البصر لعلهم إنما حملوه عليه لأنه سبب للضعف
واعلم أن أصحابنا يحوزون العمى على الأنبياء إلا أن هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى لما بيناه وأما المعتزلة فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال إنه لا يجوز لكونه متعبداً فإنه لا يمكنه الاحتراز عن النجاسات ولأنه ينحل بجواز كونه حاكماً وشاهداً فلأن يمنع من النبوة كان أولى والكلام فيه لا يليق بهذه الآية لأنا بينا أن الآية لا دلالة فيها على هذا المعنى
والنوع الثالث من الأشياء التي ذكروها قولهم وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وفيه مسألتان(18/40)
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى السبعة وقد كان رهطه على ملتهم قالوا لولا حرمة رهطك عندنا بسبب كونهم على ملتنا لرجمناك والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا أنه لا حرمة له عندهم ولا وقع له في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترامهم رهطه
المسألة الثانية الرجم في اللغة عبارة عن الرمي وذلك قد يكون بالحجارة عند قصد القتل ولما كان هذا الرجم سبباً للقتل لا جرم سموا القتل رجماً وقد يكون بالقول الذي هو القذف كقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ ( الكهف 22 ) وقوله وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ( سبأ 53 ) وقد يكون بالشتم واللعن ومنه قوله الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( النحل 98 ) وقد يكون بالطرد كقوله رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 )
إذا عرفت هذا ففي الآية وجهان الأول لَرَجَمْنَاكَ لقتلناك الثاني لشتمناك وطردناك
النوع الرابع من الأشياء التي ذكروها قولهم وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ومعناه أنك لما لم تكن علينا عزيزاً سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك
واعلم أن كل هذه الوجوه التي ذكروها ليست دافعاً لما قرره شعيب عليه السلام من الدلائل والبينات بل هي جارية مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة
قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ
اعلم أن الكفار لما خوفوا شعيباً عليه السلام بالقتل والإيذاء حكى الله تعالى عنه ما ذكره في هذا المقام وهو نوعان من الكلام
النوع الأول قوله قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ والمعنى أن القوم زعموا أنهم تركوا إيذاءه رعاية لجانب قومه فقال أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراماً لرهطي والله تعالى أولى أن يتبع أمره فكأنه يقول حفظتكم إياي رعاية لأمر الله تعالى أولى من حفظكم إياي رعاية لحق رهطي
وأما قوله وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً فالمعنى أنكم نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به قال صاحب ( الكشاف ) والظهري منسوب إلى الظهر والكسر من تغيرات النسب ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس إمسي بكسر الهمزة وقوله إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ يعني أنه عالم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها(18/41)
والنوع الثاني قوله قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ والمكانة الحالة يتمكن بها صاحبها من عمله والمعنى اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إلي فإني أيضاً عامل بقدر ما آتاني الله تعالى من القدرة
ثم قال سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى لقائل أن يقول لم لم يقل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ والجواب إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وإما بحذف الفاء فإنه يجعله جواباً عن سؤال مقدر والتدير أنه لما قال قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ فكأنهم قالوا فماذا يكون بعد ذلك فقال سَوْفَ تَعْلَمُونَ فظهر أن حذف حرف الفاء ههنا أكمل في باب الفظاعة والتهويل ثم قال وَارْتَقِبُواْ إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ والمعنى فانتظروا العاقبة إني معكم رقيب أي منتظر والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ
روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم وقوله وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا يحتمل أن يكون المراد منه ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصيحة ويحتمل أن يكون المراد من الأمر العقاب وعلى التقديرين فأخبر الله أنه نجى شعيباً ومن معه من المؤمنين برحمة منه وفيه وجهان الأول أنه تعالى إنما خلصه من ذلك العذاب لمحض رحمته تنبيهاً على أن كل ما يصل إلى العبد فليس إلا بفضل الله ورحمته والثاني أن يكون المراد من الرحمة الإيمان والطاعة وسائر الأعمال الصالحة وهي أيضاً ما حصلت إلا بتوفيق الله تعالى ثم وصف كيفية ذلك العذاب فقال وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ وإنما ذكر الصيحة بالألف واللام إشارة إلى المعهود السابق وهي صيحة جبريل عليه السلام فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ والجاثم الملازم لمكانه الذي لا يتحول عنه يعني أن جبريل عليه السلام لما صاح بهم تلك الصيحة زهق روح كل واحد منهم بحيث يقع في مكانه ميتاً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أي كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين
ثم قال تعالى أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ وقد تقدم تفسير هذه اللفظة وإنما قاس حالهم على ثمود لما ذكرنا أنه تعالى عذبهم مثل عذاب ثمود(18/42)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ
واعلم أن هذه هي القصة السابعة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر القصص من هذه السورة أما قوله بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ففيه وجوه الأول أن المراد من الآيات التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام ومن السلطان المبين المعجزات القاهرة الباهرة والتقدير ولقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف وأيدناه بمعجزات قاهرة وبينات باهرة الثاني أن الآيات هي المعجزات والبينات وهو كقوله إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بِهَاذَا ( يونس 68 ) وقوله مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ( النجم 23 ) وعلى هذا التقدير ففي الآية وجهان الأول أن هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته الثاني أن يراد السلطان المبين العصا لأنه أشهرها وذلك لأنه تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الثمرات والأنفس ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبل وفلق البحر واختلفوا في أن الحجة لم سميت بالسلطان فقال بعض المحققين لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة معه عند النظر كما يقهر السلطان غيره فلهذا توصف الحجة بأنها سلطان وقال الزجاج السلطان هو الحجة والسلطان سمي سلطاناً لأنه حجة الله في أرضه واشتقاقه من السليط والسليط ما يضاء به ومن هذا قيل للزيت السليط وفيه قول ثالث وهو أن السلطان مشتق من التسليط والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوة العلمية والملوك سلاطين بسبب ما معهم من القدرة والمكنة إلا أن سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك لأن سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما ولأن سلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة
فإن قيل إذا حملتم الآيات المذكورة في قوله بِئَايَاتِنَا على المعجزات والسلطان أيضاً على الدلائل والمبين أيضاً معناه كونه سبباً للظهور فما الفرق بين هذه المراتب الثلاثة
قلنا الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظن وبين الدلائل التي تفيد اليقين وأما السلطان فهو اسم لما يفيد القطع واليقين إلا أنه اسم للقدر المشترك بين الدلائل التي تؤكد بالحس وبين الدلائل التي لم تتأكد بالحس وأما الدليل القاطع الذي تأكد بالحس فهو السلطان المبين ولما كانت(18/43)
معجزات موسى عليه السلام هكذا لا جرم وصفها الله بأنها سلطان مبين ثم قال إِلَى فِرْعَوْنَ يعني وأرسلنا موسى بآياتنا بمثل هذه الآيات إلى فرعون وملائه أي جماعته ثم قال وَمَلإِيْهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ ويحتمل أن يكون المراد أمره إياهم بالكفر بموسى ومعجزاته ويحتمل أن يكون المراد من الأمر الطريق والشأن
ثم قال تعالى وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي بمرشد إلى خير وقيل رشيد أي ذي رشد
واعلم أن بعد طريق فرعون من الرشد كان ظاهراً لأنه كان دهرياً نافياً للصانع والمعاد وكان يقول لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية لمصلحة العالم وأنكر أن يكون الرشد في عبادة الله ومعرفته فلما كان هو نافياً لهذين الأمرين كان خالياً عن الرشد بالكلية ثم إنه تعالى ذكر صفته وصفة قومه فقال يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وفيه بحثان
البحث الأول من حيث اللغة يقال قدم فلان فلاناً بمعنى تقدمه ومنه قادمة الرجل كما يقال قدمه بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش
والبحث الثاني من حيث المعنى وهو أن فرعون كان قدوة لقومه في الضلال حال ما كانوا في الدنيا وكذلك مقدمهم إلى النار وهم يتبعونه أو يقال كما تقدم قومه في الدنيا فأدخلهم في البحر وأغرقهم فكذلك يتقدمهم يوم القيامة فيدخلهم النار ويحرقهم ويجوز أيضاً أن يريد بقوله وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي وما أمره بصالح حميد العاقبة ويكون قوله يَقْدُمُ قَوْمَهُ تفسيراً لذلك وأيضاحاً له أي كيف يكون أمره رشيداً مع أن عاقبته هكذا
فإن قيل لم لم يقل يقدم قومه فيوردهم النار بل قال يقدم قومه فأوردهم النار بلفظ الماضي
قلنا لأن الماضي قد وقع ودخل في الوجود فلا سبيل ألبتة إلى دفعه فإذا عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل على غاية المبالغة ثم قال وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وفيه بحثان
البحث الأول لفظ ( النار ) مؤنث فكان ينبغي أن يقال وبئست الورد المورود إلا أن لفظ ( الورد ) مذكر فكان التذكير والتأنيث جائزين كما تقول نعم المنزل دارك ونعمت المنزل دارك فمن ذكر غلب المنزل ومن أنث بنى على تأنيث الدار هكذا قاله الواحدي
البحث الثاني الورد قد يكون بمعنى الورود فيكون مصدراً وقد يكون بمعنى الوارد قال تعالى وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ( مريم 86 ) وقد يكون بمعنى المورود عليه كالماء الذي يورد عليه قال صاحب ( الكشاف ) الورد المورود الذي حصل وروده فشبه الله تعالى فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء وشبه أتباعه بالواردين إلى الماء ثم قال بئس الورد الذي يوردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده
ثم قال وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ والمعنى أنهم أتبعوا في هذه الدنيا لعنة وفي يوم القيامة أيضاً ومعناه أن اللعن من الله ومن الملائكة والأنبياء ملتصق بهم في الدنيا وفي الآخرة لا يزول عنهم ونظيره قوله في سورة القصص وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ القِيَامَة ِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ ( القصص 42 )
ثم قال بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ والرفد هو العطية وأصله الذي يعين على المطلوب سأل نافع بن(18/44)
الأزرق ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ قال هو اللعنة بعد اللعنة قال قتادة ترادفت عليهم لعنتان من الله تعالى لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة وكل شيء جعلته عوناً لشيء فقد رفدته به
ذَالِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر قصص الأولين قال ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ والفائدة في ذكرها أمور أولها أن الانتفاع بالدليل العقلي المحض إنما يحصل للإنسان الكامل وذلك إنما يكون في غاية الندرة فأما إذا ذكرت الدلائل ثم أكدت بأقاصيص الأولين صار ذكر هذه الأقاصيص كالموصل لتلك الدلائل العقلية إلى العقول
الوجه الثاني أنه تعالى خلط بهذه الأقاصيص أنواع الدلائل التي كان الأنبياء عليهم السلام يتمسكون بها ويذكر مدافعات الكفار لتلك الدلائل وشبهاتهم في دفعها ثم يذكر عقيبهما أجوبة الأنبياء عنها ثم يذكر عقيبها أنهم لما أصروا واستكبروا وقعوا في عذاب الدنيا وبقي عليهم اللعن والعقاب في الدنيا وفي الآخرة فكان ذكر هذه القصص سبباً لإيصال الدلائل والجوابات عن الشبهات إلى قلوب المنكرين وسبباً لإزالة القسوة والغلظة عن قلوبهم فثبت أن أحسن الطرق في الدعوة إلى الله تعالى ما ذكرناه
الفائدة الثالثة أنه عليه السلام كان يذكر هذه القصص من غير مطالعة كتب ولا تلمذ لأحد وذلك معجزة عظيمة تدل على النبوة كما قررناه
الفائدة الرابعة إن الذين يسمعون هذه القصص يتقرر عندهم أن عاقبة الصديق والزنديق والموافق والمنافق إلى ترك الدنيا والخروج عنها إلا أن المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة والكافر يخرج من الدنيا مع اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة فإذا تكررت هذه الأقاصيص على السمع فلا بد وأن يلين القلب وتخضع النفس وتزول العداوة ويحصل في القلب خوف يحمله على النظر والاستدلال فهذا كلام جليل في فوائد ذكر هذه القصص
أما قوله ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى ففيه أبحاث
البحث الأول أو قوله ذالِكَ إشارة إلى الغائب والمراد منه ههنا الإشارة إلى هذه القصص التي تقدمت وهي حاضرة إلا أن الجواب عنه ما تقدم في قوله ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( البقرة 2 )
البحث الثاني أن لفظ ( ذلك ) يشار به إلى الواحد والاثنين والجماعة لقوله تعالى لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ ( البقرة 68 )(18/45)
وأيضاً يحتمل أن يكون المراد ذلك الذي ذكرناه هو كذا وكذا
البحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) ( ذلك ) مبتدأ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى خبر نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر أي ذلك المذكور بعض أنبار القرى مقصوص عليك ثم قال مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ والضمير في قوله مِنْهَا يعود إلى القرى شبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه وما عفا منها وبطر بالحصيد والمعنى أن تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر ألبتة
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وفيه وجوه الأول وما ظلمناهم بالعذاب والإهلاك ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية الثاني أن الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله بل هو عدل وحكمة لأجل أن القوم أولاً ظلموا أنفسهم بسبب إقدامهم على الكفر والمعاصي فاستوجبوا لأجل تلك الأعمال من الله ذلك العذاب الثالث قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد وما نقصناهم من النعيم في الدنيا والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله تعالى
ثم قال فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَى ْء أي ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء ألبتة
ثم قال وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ قال ابن عباس رضي الله عنهما غير تخسير يقال تب إذا خسر وتببه غيره إذا أوقعه في الخسران والمعنى أن الكفار كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين على تحصيل المنافع ودفع المضار ثم إنه تعالى أخبر أنهم عند مساس الحاجة إلى المعين ما وجدوا منها شيئاً لا جلب نفع ولا دفع ضر ثم كما لم يجدوا ذلك فقد وجدوا ضده وهو أن ذلك الاعتقاد زال عنهم به منافع الدنيا والآخرة وجلب إليهم مضار الدنيا والآخرة فكان ذلك من أعظم موجبات الخسران
وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِى َ ظَالِمَة ٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاٌّ خِرَة ِ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لاًّجَلٍ مَّعْدُودٍ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم والجحدري إِذْ أَخَذَ الْقُرَى بألف واحدة وقرأ الباقون بألفين
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما أخبر الرسول عليه السلام في كتابه بما فعل بأمم من تقدم من الأنبياء لما خالفوا الرسل وردوا عليهم من عذاب الاستئصال وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا قال بعده وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فبين أن عذابه ليس بمقتصر على من تقدم بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك وقوله وَهِى َ ظَالِمَة ٌ الضمير فيه عائد إلى القرى وهو في(18/46)
الحقيقة عائد إلى أهلها ونظيره قوله وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَة ٍ كَانَتْ ظَالِمَة ً ( الأنبياء 11 ) وقوله وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ( القصص 58 )
واعلم أنه تعالى لما بين كيفية أخذ الأمم المتقدمة ثم بين أنه إنما يأخذ جميع الظالمين على ذلك الوجه أتبعه بما يزيده تأكيداً وتقوية فقال إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فوصف ذلك العذاب بالإيلام وبالشدة ولا منغصة في الدنيا إلا الألم ولا تشديد في الدنيا وفي الآخرة وفي الوهم والعقل إلا تشديد الألم
واعلم أن هذه الآية تدل على أن من أقدم على ظلم فإنه يجب عليه أن يتدارك ذلك بالتوبة والإنابة لئلا يقع في الأخذ الذي وصفه الله تعالى بأنه أليم شديد ولا ينبغي أن يظن أن هذه الأحكام مختصة بأولئك المتقدمين لأنه تعالى لما حكى أحوال المتقدمين قال وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فبين أن كل من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي فلا بد وأن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاْخِرَة ِ قال القفال تقرير هذا الكلام أن يقال إن هؤلاء إنما عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياء وإشراكهم بالله فإذا عذبوا في الدنيا على ذلك وهي دار العمل فلأن يعذبوا عليه في الآخرة التي هي دار الجزاء كان أولى
واعلم أن كثيراً ممن تنبه لهذا البحث من المفسرين عولوا على هذا الوجه بل هو ضعيف وذلك لأن على هذا الوجه الذي ذكره القفال يكون ظهور عذاب الاستئصال في الدنيا دليلاً على أن القول بالقيامة والبعث والنشر حق وصدق وظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال لأن القفال يجعل العلم بعذاب الاستئصال أصلاً للعلم بأن القيامة حق فبطل ما ذكره القفال والأصوب عندي أن يقال العلم بأن القيامة حق موقوف على العلم بأن المدبر لوجود هذه السموات والأرضين فاعل مختار لا موجب بالذات وما لم يعرف الإنسان أن إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكنات وأن جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرضين لا تحصل إلا بتكوينه وقضائه لا يمكنه أن يعتبر بعذاب الاستئصال وذلك لأن الذين يزعمون أن المؤثر في وجود هذا العالم موجب بالذات لا فاعل مختار يزعمون أن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء مثل الغرق والحرق والخسف والمسخ والصيحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب واتصال بعضها ببعض وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ لا يكون حصولها دليلاً على صدق الأنبياء فأما الذي يؤمن بالقيامة فلا يتم ذلك الإيمان إلا إذا اعتقد أنه إله العالم فاعل مختار وأنه عالم بجميع الجزئيات وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بأن حدوث هذه الحوادث الهائلة والوقائع العظيمة إنما كان بسبب أن إله العالم خلقها وأوجدها وأنها ليست بسبب طوالع الكواكب وقراناتها وحينئذ ينتفع بسماع هذه القصص ويستدل بها على صدق الأنبياء فثبت بهذا صحة قوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاْخِرَة ِ
ثم قال تعالى ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ
واعلم أنه تعالى لما ذكر الآخرة وصف ذلك اليوم بوصفين أحدهما أنه يوم مجموع له الناس والمعنى أن خلق الأولين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون والثاني أنه يوم مشهود قال(18/47)
ابن عباس رضي الله عنهما يشهده البر والفاجر وقال آخرون يشهده أهل السماء وأهل الأرض والمراد من الشهود الحضور والمقصود من ذكره أنه ربما وقع في قلب إنسان أنهم لما جمعوا في ذلك الوقت لم يعرف كل أحد إلا واقعة نفسه فبين تعالى أن تلك الوقائع تصير معلومة للكل بسبب المحاسبة والمساءلة
ثم قال تعالى وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ والمعنى أن تأخير الآخرة وإفناء الدنيا موقوف على أجل معدود وكل ماله عدد فهو متناه وكل ما كان متناهياً فإنه لا بد وأن يفنى فيلزم أن يقال إن تأخير الآخرة سينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم الله القيامة فيه وأن تخرب الدنيا فيه وكل ما هو آت قريب
يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة يَأْتِ بحذف الياء والباقون بإثبات الياء قال صاحب ( الكشاف ) وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل ونحوه قولهم لا أدر حكاه الخليل وسيبويه
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) فاعل يأتي هو الله تعالى كقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ( البقرة 210 ) وقوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ ( الأنعام 158 ) ويعضده قراءة من قرأ وَمَا بالياء أقول لا يعجبني هذا التأويل لأن قوله حَكِيمٌ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ حكاه الله تعالى عن أقوام والظاهر أنهم هم اليهود وذلك ليس فيه حجة وكذا قوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ أما ههنا فهو صريح كلام الله تعالى وإسناد فعل الإتيان إليه مشكل
فإن قالوا فما قولك في قوله تعالى وَجَاء رَبُّكَ
قلنا هناك تأويلات وأيضاً فهو صريح فلا يمكن دفعه فوجب الامتناع منه بل الواجب أن يقال المراد منه يوم يأتي الشيء المهيب الهائل المستعظم فحذف الله تعالى ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) العامل في انتصاب الظرف هو قوله لاَ تَكَلَّمُ أو إضمار اذكر(18/48)
أما قوله لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ففيه حذف والتقدير لا تكلم نفس فيه إلا بإذن الله تعالى
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين سائر الآيات التي توهم كونها مناقضة لهذه الآية منها قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ( النحل 111 ) ومنها أنهم يكذبون ويحلفون بالله عليه وهو قولهم وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) ومنها قوله تعالى وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( الصافات 24 ) ومنها قوله هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذُونَ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( المرسلات 35 )
والجواب من وجهين الأول أنه حيث ورد المنع من الكلام فهو محمول على الجوابات الحقية الصحيحة الثاني أن ذلك اليوم يوم طويل وله مواقف ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم وفي بعضها يكفون عن الكلام وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم
أما قوله فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الضمير في قوله فَمِنْهُمْ لأهل الموقف ولم يذكر لأنه معلوم ولأن قوله لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يدل عليه لأنه قد مر ذكر الناس في قوله مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ ( هود 103 )
المسألة الثانية قوله فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ يدل ظاهره على أن أهل الموقف لا يخرجون عن هذين القسمين
فإن قيل أليس في الناس مجانين وأطفال وهم خارجون عن هذين القسمين
قلنا المراد من يحشر ممن أطلق للحساب وهم لا يخرجون عن هذين القسمين
فإن قيل قد احتج القاضي بهذه الآية على فساد ما يقال إن أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النار فما قولكم فيه
قلنا لما سلم أن الأطفال والمجانين خارجون عن هذين القسمين لأنهم لا يحاسبون فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إن أصحاب الأعراف خارجون عنه لأنهم أيضاً لا يحاسبون لأن الله تعالى علم من حالهم أن ثوابهم يساوي عذابهم فلا فائدة في حسابهم
فإن قيل القاضي استدل بهذه الآية أيضاً على أن كل من حضر عرصة القيامة فإنه لا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو يكون عقابه زائداً فأما من كان ثوابه مساوياً لعقابه فإنه وإن كان جائزاً في العقل إلا أن هذا النص دل على أنه غير موجود
قلنا الكلام فيه ما سبق من أن السعيد هو الذي يكون من أهل الثواب والشقي هو الذي يكون من أهل العقاب وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث والدليل على ذلك أن أكثر الآيات مشتملة على ذكر المؤمن والكافر فقط وليس فيه ذكر ثالث لا يكون لا مؤمناً ولا كافراً مع أن القاضي أثبته فإذا لم يلزم من عدم ذكر ذلك الثالث عدمه فكذلك لا يلزم من ذكر هذا الثالث عدمه(18/49)
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بأنه شقي ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذباً وعلمه جاهلاً وذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقياً وأن الشقي لا ينقلب سعيداً وتقرير هذا الدليل مر في هذا الكتاب مراراً لا تحصى وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لما نزل قوله تعالى فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ قلت يا رسول الله فعلى ماذا نعمل على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه فقال ( على شيء قد فرغ منه يا عمر وجفت به الأقلام وجرت به الأقدار ولكن كل ميسر لما خلق له ) وقالت المعتزلة نقل عن الحسن أنه قال فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله
قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات وأيضاً فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلاً بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقياً
واعلم أنه تعالى لما قسم أهل القيامة إلى هذين القسمين شرح حال كل واحد منهما فقال فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في الفرق بين الزفير والشهيق وجوهاً
الوجه الأول قال الليث الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ولم يخرجه والشهيق أن يخرج ذلك النفس وقال الفراء يقال للفرس إنه عظيم الزفرة أي عظيم البطن وأقول إن الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلب فإذا انحصر الروح قويت الحرارة وعظمت وعند ذلك يحتاج الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء كثيراً بارداً حتى يقوى على ترويح تلك الحرارة فلهذا السبب يعظم في ذلك الوقت استدخال الهواء في داخل البدن وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه ولما كانت الحرارة الغريزية والروح الحيواني محصوراً داخل القلب استولت البرودة على الأعضاء الخارجة فربما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهواء الكثير المستنشق فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر ويقرب من أن يختنق الإنسان منه وحينئذ تجتهد الطبيعة في إخراج ذلك الهواء فعلى قياس قول الأطباء الزفير هو استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه والشهيق هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطبيعة في إخراجه وكل واحدة من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم
الوجه الثاني في الفرق بين الزفير والشهيق قال بعضهم الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار بالنهيق وأما الشهيق فهو بمنزلة آخر صوت الحمار
الوجه الثالث قال الحسن قد ذكرنا أن الزفير عبارة عن الارتفاع فنقول الزفير لهيب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى درجات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من جهنم وذلك قوله تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا فارتفاعهم في النار هو الزفير وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق
الوجه الرابع قال أبو مسلم الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس(18/50)
والشهيق هوا لذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن وربما تبعهما الغشية وربما حصل عقيبه الموت
الوجه الخامس قال أبو العالية الزفير في الحلق والشهيق في الصدر
الوجه السادس قال قوم الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف
الوجه السابع قال ابن عباس رضي الله عنهما لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ يريد ندامة ونفساً عالية وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع
الوجه الثامن الزفير مشعر بالقوة والشهيق بالضعف على ما قررناه بحسب اللغة
إذا عرفت هذا فنقول لم يبعد أن يكون المراد من الزفير قوة ميلهم إلى عالم الدنيا وإلى اللذات الجسدانية والمراد من الشهيق ضعفهم عن الاستسعاد بعالم الروحانيات والاستكمال بالأنوار الإلهية والمعارج القدسية
ثم قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلا إِنَّ رَبَّكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نهاية واحتجوا بالقرآن والمعقول أما القرآن فآيات منها هذه الآية والاستدلال بها من وجهين الأول أنه تعالى قال مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ دل هذا النص على أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض ثم توافقنا على أن مدة بقاء السموات والأرض متناهية فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة الثاني أن قوله إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ استثناء من مدة عقابهم وذلك يدل على زوال ذلك العذاب في وقت هذا الاستثناء ومما تمسكوا به أيضاً قوله تعالى في سورة عم يتساءلون لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ( النبأ 23 ) بين تعالى أن لبثهم في ذلك العذاب لا يكون إلا أحقاباً معدودة
وأما العقل فوجهان الأول أن معصية الكافر متناهية ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم وأنه لا يجوز الثاني أن ذلك العقاب ضرر خال عن النفع فيكون قبيحاً بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يرجع إلى الله تعالى لكونه متعالياً عن النفع والضرر ولا إلى ذلك المعاقب لأنه في حقه ضرر محض ولا إلى غيره لأن أهل الجنة مشغولون بلذاتهم فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعذاب الدائم في حق غيرهم فثبت أن ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النفع فوجب أن لا يجوز وأما الجمهور الأعظم من الأمة فقد اتفقوا على أن عذاب الكافر دائم وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسك بهذه الآية أما قوله خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فذكروا عنه جوابين الأول قالوا المراد سموات الآخرة وأرضها قالوا والدليل على أن في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وقوله وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّة ِ حَيْثُ نَشَاء ( الزمر 74 ) وأيضاً لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم وذلك هو الأرض والسموات
ولقائل أن يقول التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوماً مقرراً فيشبه به غيره تأكيداً لثبوت الحكم في المشبه ووجود السموات والأرض في الآخرة غير معلوم وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلا أن بقاءها على وجه لا يفنى ألبتة غير معلوم فإذا كان أصل وجودهما مجهولاً لأكثر الخلق ودوامهما أيضاً(18/51)
مجهولاً للأكثر كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلاماً عديم الفائدة أقصى ما في الباب أن يقال لما ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة وثبت دوامهما وجب الاعتراف به وحينئذ يحسن التشبيه إلا أنا نقول لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ودوام أرضهم هو السمع ثم السمع دل على دوام عقاب الكافر فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع والتشبيه باطل فكذا ههنا
والوجه الثاني في الجواب قالوا إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم ما دامت السموات والأرض ونظيره أيضاً قولهم ما اختلف الليل والنهار وما طما البحر وما أقام الجبل وأنه تعالى خاطب العرب على عرفهم في كلامهم فلما ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنها باقية أبد الآباد علمنا أن هذه الألفاظ بحسب عرفهم تفيد الأبد والدوام الخالي عن الانقطاع
ولقائل أن يقول هل تسلمون أن قول القائل خالدين فيها ما دامت السموات والأرض يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات أو تقولون إنه لا يدل على هذا المعنى فإن كان الأول فالإشكال لازم لأن النص لما دل على أنه يجب أن تكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السموات ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السموات ثم ثبت أنه لا بد من فناء السموات فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب وأما إن قلتم هذا الكلام لا يمنع بقاء كونهم في النار بعد فناء السموات والأرض فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتة فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع
واعلم أن الجواب الحق عندي في هذا الباب شيء آخر وهو أن المعهود من الآية أنه متى كانت السموات والأرض دائمتين كان كونهم في النار باقياً فهذا يقتضي أن كلما حصل الشرط حصل المشروط ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط ألا ترى أنا نقول إن كان هذا إنساناً فهو حيوان
فإن قلنا لكنه إنسان فإنه ينتج أنه حيوان أما إذا قلنا لكنه ليس بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئاً فكذا ههنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم فإذا قلنا لكن السموات دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً أما إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لم يلزم عدم دوام عقابهم
فإن قالوا فإذا كان العقاب حاصلاً سواء بقيت السموات أو لم تبق لم يبق لهذا التشبيه فائدة
قلنا بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه يدل على نفاذ ذلك العذاب دهراً دهراً وزماناً لا يحيط العقل بطوله وامتداده فأما أنه هل يحصل له آخر أم لا فذلك يستفاد من دلائل أخر وهذا الجواب الذي قررته جواب حق ولكنه إنما يفهمه إنسان ألف شيئاً من المعقولات
وأما الشبهة الثانية وهي التمسك بقوله تعالى إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ فقد ذكروا فيه أنواعاً من الأجوبة
الوجه الأول في الجواب وهو الذي ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء قالوا هذا استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله ألبتة كقولك والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك تكون على ضربه فكذا ههنا وطولوا في تقرير هذا الجواب وفي ضرب الأمثلة فيه وحاصله ما ذكرناه(18/52)
ولقائل أن يقول هذا ضعيف لأنه إذا قال لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك معناه لأضربنك إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب وهذا لا يدل ألبتة على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا بخلاف قوله خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء ربك فههنا اللفظ يدل على أن هذه المشيئة قد حصلت جزماً فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام
الوجه الثاني في الجواب أن يقال إن كلمة إِلا ههنا وردت بمعنى سوى والمعنى أنه تعالى لما قال خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فهم منه أنهم يكونون في النار في جميع مدة بقاء السموات والأرض في الدنيا ثم قال سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم فذكر أولاً في خلودهم ماليس عند العرب أطول منه ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له بقوله إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ المعنى إلا ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها
الوجه الثالث في الجواب وهو أن المراد من هذا الاستثناء زمان وقوفهم في الموقف فكأنه تعالى قال فأما الذين شقوا ففي النار إلا وقت وقوفهم للمحاسبة فإنهم في ذلك الوقت لا يكونون في النار وقال أبو بكر الأصم المراد إلا ما شاء ربك وهو حال كونهم في القبر أو المراد إلا ما شاء ربك حال عمرهم في الدنيا وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة والمعنى خالدين فيها بمقدار مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو مقدار وقوفهم للحساب ثم يصيرون إلى النار
الوجه الرابع في الجواب قالوا الاستثناء يرجع إلى قوله لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ( هود 106 ) وتقريره أن نقول قوله لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا يفيد حصول الزفير والشهيق مع الخلود فإذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل وقت لا يحصل فيه هذا المجموع لكنه ثبت في المعقولات أنه كما ينتفي المجموع بانتفاء جميع أجزائه فكذلك ينتفي بانتفاء فرد واحد من أجزائه فإذا انتهوا آخر الأمر إلى أن يصيروا ساكنين هامدين خامدين فحينئذ لم يبق لهم زفير وشهيق فانتفى أحد أجزاء ذلك المجموع فحينئذ يصح ذلك الاستثناء من غير حاجة إلى الحكم بانقطاع كونهم في النار
الوجه الخامس في الجواب أن يحمل هذا الاستثناء على أن أهل العذاب لا يكونون أبداً في النار بل قد ينقلون إلى البرد والزمهرير وسائر أنواع العذاب وذلك يكفي في صحة هذا الاستثناء
الوجه السادس في الجواب قال قوم هذا الاستثناء يفيد إخراج أهل التوحيد من النار لأن قوله فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ يفيد أن جملة الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم ثم قوله إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ يوجب أن لا يبقى ذلك الحكم على ذلك المجموع ويكفي في زوال حكم الخلود عن المجموع زواله عن بعضهم فوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء ولما ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة وهذا كلام قوي في هذا الباب
فإن قيل فهذا الوجه إنما يتعين إذا فسدت سائر الوجوه التي ذكرتموها فما الدليل على فسادها وأيضاً فمثل هذا الاستثناء مذكور في جانب السعداء فإنه تعالى قال وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ(18/53)
قلنا إنا بهذا الوجه بينا أن هذه الآية لا تدل على انقطاع وعيد الكفار ثم إذا أردنا الاستدلال بهذه الآية على صحة قولنا في أنه تعالى يخرج الفساق من أهل الصلاة من النار
قلنا أما حمل كلمة ( إلا ) على سوى فهو عدول عن الظاهر وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد أيضاً لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار ومن المعلوم أن الخلود في النار كيفية من كيفيات الحصول في النار فقبل الحصول في النار امتنع حصول الخلود في النار وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه وامتنع حصول الاستثناء وأما قوله الاستثناء عائد إلى الزفير والشهيق فهذا أيضاً ترك للظاهر فلم يبق للآية محمل صحيح إلا هذا الذي ذكرناه وأما قوله المراد من الاستثناء نقله من النار إلى الزمهرير فنقول لو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض والأخبار الصحيحة دلت على أن النقل من النار إلى الزمهرير وبالعكس يحصل في كل يوم مراراً فبطل هذا الوجه وأما قوله إن مثل هذا الاستثناء حاصل في جانب السعداء فنقول أجمعت الأمة على أنه يمتنع أن يقال إن أحداً يدخل الجنة ثم يخرج منها إلى النار فلأجل هذا الإجماع افتقرنا فيه إلى حمل ذلك الاستثناء على أحد تلك التأويلات أما في هذه الآية لم يحصل هذا الإجماع فوجب إجراؤها على ظاهرها فهذا تمام الكلام في هذه الآية
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء قال إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ وهذا يحسن انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفساق من النار كأنه تعالى يقول أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد وليس لأحد عليَّ حكم ألبتة
ثم قال وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم سُعِدُواْ بضم السين والباقون بفتحها وإنما جاز ضم السين لأنه على حذف الزيادة من أسعد ولأن سعد لا يتعدى وأسعد يتعدى وسعد وأسعد بمعنى ومنه المسعود من أسماء الرجال
المسألة الثانية الاستثناء في باب السعداء يجب حمله على أحد الوجوه المذكورة فيما تقدم وههنا وجه آخر وهو أنه ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنة إلى العرش وإلى المنازل الرفيعة التي لا يعلمها إلا الله تعالى قال الله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ ( التوبة 72 ) وقوله عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ فيه مسألتان
المسألة الأولى جذه يجذه جذاً إذا قطعه وجذ الله دابرهم فقوله غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع ونظيره قوله تعالى في صفة نعيم الجنة لاَّ مَقْطُوعَة ٍ وَلاَ مَمْنُوعَة ٍ ( الواقعة 33 )
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما صرح في هذه الآية أنه ليس المراد من هذا الاستثناء كون هذه الحالة منقطعة فلما خص هذا الموضع بهذا البيان ولم يذكر ذلك في جانب الأشقياء دل ذلك على أن المراد من ذلك الاستثناء هو الانقطاع فهذا تمام الكلام في هذه الآية(18/54)
فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَاؤُلا ءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءَابَاؤهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ
اعلم أنه تعالى لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول عليه الصلاة والسلام أحوال الكفار من قومه فقال فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ والمعنى فلا تكن إلا أنه حذف النون لكثرة الاستعمال ولأن النون إذا وقع على طرف الكلام لم يبق عند التلفظ به إلا مجرد الغنة فلا جرم أسقطوه والمعنى فلا تك في شك من حال ما يعبدون في أنها لا تضر ولا تنفع
ثم قال تعالى مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ والمراد أنهم أشبهوا آباءهم في لزوم الجهل والتقليد
ثم قال وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ فيحتمل أن يكون المراد إنا موفوهم نصيبهم أي ما يخصهم من العذاب ويحتمل أن يكون المراد أنهم وإن كفروا وأعرضوا عن الحق فإنا موفوهم نصيبهم من الرزق والخيرات الدنيوية ويحتمل أيضاً أن يكون المراد إنا موفوهم نصيبهم من إزالة العذر وإزاحة العلل وإظهار الدلائل وإرسال الرسل وإنزال الكتب ويحتمل أيضاً أن يكون الكل مراداً
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِى َ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد بين أيضاً إصرارهم على إنكار نبوته عليه السلام وتكذيبهم بكتابه وبين تعالى أن هؤلاء الكفار كانوا على هذه السيرة الفاسدة مع كل الأنبياء عليهم السلام وضرب لذلك مثلاً وهو أنه لما أنزل التوراة على موسى عليه السلام اختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره آخرون وذلك يدل على أن عادة الخلق هكذا
ثم قال تعالى وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وفيه وجوه الأول أن المراد ولولا ما تقدم من حكم الله تعالى بتأخير عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لكان الذي يستحقه هؤلاء الكفار عند عظيم كفرهم إنزال عذاب الاستئصال عليهم لكن المتقدم من قضائه أخر ذلك عنهم في دنياهم الثاني لولا كلمة سبقت من ربك وهي أن الله تعالى إنما يحكم بين المختلفين يوم القيامة وإلا لكان من الواجب تمييز المحق عن المبطل في دار الدنيا الثالث وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ وهي أن رحمته سبقت غضبه وأن إحسانه راجح على قهره وإلا لقضى بينهم ولما قرر تعالى هذا المعنى قال وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ يعني أن كفار قومك لفي شك من هذا القرآن مريب(18/55)
ثم قال تعالى وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أن من عجلت عقوبته ومن أخرت ومن صدق الرسل ومن كذب فحالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة فجمعت الآية الوعد والوعيد فإن توفية جزاء الطاعات وعد عظيم وتوفية جزاء المعاصي وعيد عظيم وقوله تعالى إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ توكيد الوعد والوعيد فإنه لما كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطاعات والمعاصي فكان عالماً بالقدر اللائق بكل عمل من الجزاء فحينئذ لا يضيع شيء من الحقوق والأجزية وذلك نهاية البيان
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو والكسائي وإن مشددة النون لَّمّاً خفيفة قال أبو علي اللام في لَّمّاً هي التي تقتضيه إن وذلك لأن حرف إن يقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقوله إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( النحل 18 ) وقوله إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً ( الحجر 77 ) واللام الثانية هي التي تجيء بعد القسم كقولك والله لتفعلن ولما اجتمع لامان دخلت ما لتفصل بينهما فكلمة ما على هذا التقدير زائدة وقال الفراء ما موصولة بمعنى من وبقية التقرير كما تقدم ومثله وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ ( النساء 72 )
والقراءة الثانية في هذه الآية قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا مخففتان والسبب فيه أنهم أعملوا إن مخففة كما تعمل مشددة لأن كلمة إن تشبه الفعل فكما يجوز أعمال الفعل تاماً ومحذوفاً في قولك لم يكن زيد قائماً ولم يك زيد قائماً فكذلك أن وإن
والقراءة الثالثة قرأ حمزة وابن عامر وحفص وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا ( الفجر 19 ) مشددتان قالوا وأحسن ما قيل فيه إن أصل لما بالتنوين كقوله أَكْلاً لَّمّاً والمعنى أن كلاً ملمومين أي مجموعين كأنه قيل وإن كلاً جميعاً
المسألة الثالثة سمعت بعض الأفاضل قال إنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات أولها كلمة ءانٍ وهي للتأكيد وثانيها كلمة ( كل ) وهي أيضاً للتأكيد وثالثها اللام الداخلة على خبر ءانٍ وهي تفيد التأكيد أيضاً ورابعها حرف مَا إذا جعلناه على قول الفراء موصولاً وخامسها القسم المضمر فإن تقدير الكلام وإن جميعهم والله ليوفينهم وسادسها اللام الثانية الداخلة على جواب القسم وسابعها النون المؤكدة في قوله لَيُوَفّيَنَّهُمْ فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر ثم أردفه بقوله إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وهو من أعظم المؤكدات
فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعلى لما أطنب في شرح الوعد والوعيد قال لرسوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ(18/56)
وهذ الكلمة كلمة جامعة في كل ما يتعلق بالعقائد والأعمال سواء كان مختصاً به أو كان متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشرائع ولا شك أن البقاء على الاستقامة الحقيقية مشكل جداً وأنا أضرب لذلك مثالاً يقرب صعوبة هذا المعنى إلى العقل السليم وهو أن الخط المستقيم الذي يفصل بين الظل وبين الضوء جزء واحد لا يقبل القسمة في العرض إلا أن عين ذلك الخط مما لا يتميز في الحس عن طرفيه فإنه إذا قرب طرف الظل من طرف الضوء اشتبه البعض بالبعض في الحس فلم يقع الحس على إدراك ذلك الخط بعينه بحيث يتميز عن كل ما سواه
إذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية فأولها معرفة الله تعالى وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العبد مصوناً في طرف الإثبات عن التشبيه وفي طرف النفي عن التعطيل في غاية الصعوبة واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك وأيضاً فالقوة الغضبية والقوة الشهوانية حصل لكل واحدة منهما طرفا إفراط وتفريط وهما مذمومان والفاصل هو المتوسط بينهما بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين والوقوف عليه صعب ثم العمل به أصعب فثبت أن معرفة الصراط المستقيم في غاية الصعوبة بتقدير معرفته فالبقاء عليه والعمل به أصعب ولما كان هذا المقام في غاية الصعوبة لا جرم قال ابن عباس ما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( شيبتني هود وأخواتها وعن بعضهم قال رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في النوم فقلت له روي عنك أنك قلت شيبتني هود وأخواتها فقال ( نعم ) فقلت وبأي آية فقال بقوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة وذلك لأن القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به وعندي أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دل عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ والعمل بالقياس انحراف عنه ثم قال وَمَن تَابَ مَعَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي من في محل الرفع من وجوه الأول أن يكون عطفاً على الضمير المستتر في قوله فَاسْتَقِمْ وأغنى الوصل بالجار عن تأكيده بضمير المتصل في صحة العطف أي فاستقم أنت وهم والثاني أن يكون عطفاً على الضمير فى أمرت والثالث أن يكون ابتداء على تقدير ومن تاب معك فليستقم
المسألة الثانية أن الكافر والفاسق يجب عليهما الرجوع عن الكفر والفسق ففي تلك الحالة لا يصح اشتغالهما بالاستقامة وأما التائب عن الكفر والفسق فإنه يصح منه الاشتغال بالاستقامة على مناهج دين الله تعالى والبقاء على طريق عبودية الله تعالى ثم قال وَلاَ تَطْغَوْاْ ومعنى الطغيان أن يجاوز المقدار قال ابن عباس يريد تواضعوا لله تعالى ولا تتكبروا على أحد وقيل ولا تطغوا في القرآن فتحلوا حرامه وتحرموا حلاله وقيل لا تتجاوزوا ما أمرتم به وحد لكم وقيل ولا تعدلوا عن طريق شكره والتواضع له عند عظم نعمه عليكم والأولى دخول الكل فيه ثم قال وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ والركون هو السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة ونقيضه النفور عنه وقرأ العامة بفتح التاء والكاف والماضي من هذا ركن كعلم(18/57)
وفيه لغة أخرى ركن يركن قال الأزهري وليست بفصيحة قال المحققون الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون ومعنى قوله فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ أي أنكم إن ركنتم إليهم فهذه عاقبة الركون ثم قال لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء أي ليس لكم أولياء يخلصونكم من عذاب الله
ثم قال ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ والمراد لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة
واعلم أن الله تعالى حكم بأن من ركن إلى الظلمة لا بد وأن تمسه النار وإذا كان كذلك فكيف يكون حال الظالم في نفسه
وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما أمره بالاستقامة أردفه بالأمر بالصلاة وذلك يدل على أن أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى رأيت في بعض ( كتب القاضي أبي بكر الباقلاني ) أن الخوارج تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الواجب ليس إلا الفجر والعشاء من وجهين
الوجه الأول أنهما واقعان على طرفي النهار والله تعالى أوجب إقامة الصلاة طرفي النهار فوجب أن يكون هذا القدر كافياً
فإن قيل قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ يوجب صلوات أخرى
قلنا لا نسلم فإن طرفي النهار موصوفان بكونهما زلفاً من الليل فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف إلا أن ذلك كثير في القرآن والشعر
الوجه الثاني أنه تعالى قال إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ وهذا يشعر بأن من صلى طرفي النهار كان إقامتهما كفارة لكل ذنب سواهما فبتقدير أن يقال إن سائر الصلوات واجبة إلا أن إقامتهما يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات واعلم أن هذا القول باطل بإجماع الأمة فلا يلتفت إليه
المسألة الثانية كثرت المذاهب في تفسير طرفي النهار والأقرب أن الصلاة التي تقام في طرفي النهار وهي الفجر والعصر وذلك لأن أحد طرفي النهار طلوع الشمس والطرف الثاني منه غروب الشمس فالطرف الأول هو صلاة الفجر والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر(18/58)
إذا عرفت هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة رحمه الله في أن التنوير بالفجر أفضل وفي أن تأخير العصر أفضل وذلك لأن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب إقامة الصلاة في طرفي النهار وبينا أن طرفي النهار هما الزمان الأول لطلوع الشمس والزمان الثاني لغروبها وأجمعت الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة فقد تعذر العمل بظاهر هذه الآية فوجب حمله على المجاز وهو أن يكون المراد أقم الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار لأن ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه وإذا كان كذلك فكل وقت كان أقرب إلى طلوع الشمس وإلى غروبها كان أقرب إلى ظاهر اللفظ وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطلوع من إقامتها عند التغليس وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظل كل شيء مثله والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى فثبت أن ظاهر هذه الآية يقوي قول أبي حنيفة في هاتين المسألتين
وأما قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ فهو يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلف من الليل لأن أقل الجمع ثلاثة وللمغرب والعشاء وقتان فيجب الحكم بوجوب الوتر حتى يحصل زلف ثلاثة يجب إيقاع الصلاة فيها وإذا ثبت وجوب الوتر في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجب في حق غيره لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ ( سبأ 20 ) ونظير هذه الآية بعينها قوله سبحانه وتعالى وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ( طه 30 ) فالذي هو قبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر والذي هو قبل غروبها هو صلاة العصر
ثم قال تعالى وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ وهو نطير قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ
المسألة الثالثة قال المفسرون نزلت هذه الآية في رجل أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ما تقولون في رجل أصاب من امرأة محرمة كلما يصيبه الرجل من امرأته غير الجماع فقال عليه الصلاة والسلام ( ليتوضأ وضوءاً حسناً ثم ليقم وليصل ) فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل للنبي عليه الصلاة والسلام هذا له خاصة فقال ( بل هو للناس عامة ) وقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ قال الليث زلفة من أول الليل طائفة والجمع الزلف قال الواحدي وأصل الكلمة من الزلفى والزلفى هي القربى يقال أزلفته فازدلف أي قربته فاقترب
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء زلفاً بضمتين و زلفاً بإسكان اللام وزلفى بوزن قربى فالزلف جمع زلفة كظلم جمع ظلمة والزلف بالسكون نحو بسرة وبسر والزلف بضمتين نحو يسر في يسر والزلفى بمعنى الزلفة كما أن القربى بمعنى القربة وهو ما يقرب من آخر النهار من نحو يسر في يسر والزلفى بمعنى الزلفة كما أن القربى بمعنى القربة وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل وقيل في تفسير قوله النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ وقرباً من الليل ثم قال إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الحسنات قولان الأول قال ابن عباس المعنى أن الصلوات الخمس كفارات لسائر الذنوب بشرط الاجتناب عن الكبائر والثاني روي عن مجاهد أن الحسنات هي قول العبد سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
المسألة الثانية احتج من قال إن المعصية لا تضر مع الإيمان بهذه الآية وذلك لأن الإيمان أشرف الحسنات وأجلها وأفضلها ودلت الآية على أن الحسنات يذهبن السيئات فالإيمان الذي هو أعلى الحسنات درجة يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان فلأن يقوى على المعصية التي هي أقل(18/59)
السيئات درجة كان أولى فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقل من أن يفيد إزالة العذاب الدائم المؤبد
ثم قال تعالى ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ فقوله ذالِكَ إشارة إلى قوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ إلى آخرها ذِكْرَى لِلذكِرِينَ عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشدين
ثم قال وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قيل على الصلاة وهو كقوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ( طه 132 )
فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّة ٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الأمم المتقدمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أن السبب فيه أمران
السبب الأول أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض فقال تعالى فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ والمعنى فهلا كان وحكي عن الخليل أنه قال كل ما كان في القرآن من كلمة لولا فمعناه هلا إلا التي في الصافات قال صاحب ( الكشاف ) وما صحت هذه الرواية عنه بدليل قوله تعالى في غير الصافات لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَة ٌ ن رَّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء ( القلم 49 ) لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ ( الفتح 25 ) لَّوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( الإسراء 74 ) وقوله أُوْلُواْ بَقِيَّة ٍ فالمعنى أولو فضل وخير وسمي الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار هذا اللفظ مثلاً في الجودة يقال فلان من بقية القيوم أي من خيارهم ومنه قولهم في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى وقرىء أُوْلُواْ بَقِيَّة ٍ بوزن لقية من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره والبقية المرة من مصدره والمعنى فلولا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله تعالى ثم قال إِلاَّ قَلِيلاً ولا يمكن جعله استثناء متصلاً لأنه على هذا التقدير يكون ذلك ترغيباً لأولي البقية في النهي عن الفساد إلا القليل من الناجين منهم كما تقول هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم تريد استثناء الصلحاء من المرغبين في قراءة القرآن وإذا ثبت هذا قلنا إنه استثناء منقطع والتقدير لكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهواعن الفساد وسائرهم تاركون للنهي
والسبب الثاني لنزول عذاب الاستئصال قوله وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ والترفه النعمة وصبي مترف إذا كان منعم البدن والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة المعيشة وأراد بالذين ظلموا تاركي النهي عن المنكرات أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتبعوا طلب الشهوات واللذات واشتغلوا بتحصيل الرياسات وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ أي واتبعوا حراماً أترفوا فيه ثم قال وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ومعناه ظاهر(18/60)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
اعلم أنه تعالى بين أنه ما أهلك أهل القرى إلا بظلم وفيه وجوه
الوجه الأول أن المراد من الظلم ههنا الشرك قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) والمعنى أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم والحاصل أن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم ولهذا قال الفقهاء إن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح ويقال في الأثر الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم فمعنى الآية وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ أي لا يهلكهم بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعامل بعضهم بعضاً على الصلاح والسداد وهذا تأويل أهل السنة لهذه الآية قالوا والدليل عليه أن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب إنما نزل عليهم عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق
والوجه الثاني في التأويل وهو الذي تختاره المعتزلة هو أنه تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لما كان متعالياً عن الظلم فلا جرم لا يفعل ذلك بل إنما يهلكهم لأجل سوء أفعالهم
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة ً وَاحِدَة ً والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار وقد سبق الكلام عليه
ثم قال تعالى وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ والمراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال
واعلم أنه لا سبيل إلى استقصاء مذاهب العالم في هذا الموضع ومن أراد ذلك فليطالع كتابنا الذي سميناه ( بالرياض المونقة ) إلا أنا نذكر ههنا تقسيماً جامعاً للمذاهب فنقول الناس فريقان منهم من أقر بالعلوم الحسية كعلمنا بأن النار حارة والشمس مضيئة والعلوم البديهية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ومنهم من أنكرهما والمنكرون هم السفسطائية والمقرون هم الجمهور الأعظم من أهل(18/61)
العالم وهم فريقان منهم من سلم أنه يمكن تركيب تلك العلوم البديهية بحيث يستنتج منها نتائج علمية نظرية ومنهم من أنكره وهم الذين ينكرون أيضاً النظر إلى العلوم وهم قليلون والأولون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم وهم فريقان منهم من لا يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلاً وهم الأقلون ومنهم من يثبت له مبدأ وهؤلاء فريقان منهم من يقول ذلك المبدأ موجب بالذات وهم جمهور الفلاسفة في هذا الزمان ومنهم من يقول إنه فاعل مختار وهم أكثر أهل العالم ثم هؤلاء فريقان منهم من يقول إنه ما أرسل رسولاً إلى العباد ومنهم من يقول إنه أرسل الرسول فالأولون هم البراهمة
والقسم الثاني أرباب الشرائع والأديان وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا حدَّ لها ولا حصر والعقول مضطربة والمطالب غامضة ومنازعات الوهم والخيال غير منقطعة ولما حسن من بقراط أن يقول في صناعة الطب العمر قصير والصناعة طويلة والقضاء عسر والتجربة خطر فلأن يحسن ذكره في هذه المطالب العالية والمباحث الغامضة كان ذلك أولى
فإن قيل إنكم حملتم قوله تعالى وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ على الاختلاف في الأديان فما الدليل عليه ولم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال
قلنا الدليل عليه أن ما قبل هذه الآية هو قوله وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فيجب حمل هذا الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمة واحدة وما بعد هذه الآية هو قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ فيجب حمل هذا الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وذلك ليس إلا ما قلنا
ثم قال تعالى إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى وذلك لأن هذه الآية تدل على أن زوال الاختلاف في الدين لا يحصل إلا لمن خصه الله برحمته وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العذر فإن كل ذلك حاصل في حق الكفار فلم يبق إلا أن يقال تلك الرحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة قال القاضي معناه إلا من رحم ربك بأن يصير من أهل الجنة والثواب فيرحمه الله بالثواب ويحتمل إلا من رحمة الله بألطافه فصار مؤمناً بألطافه وتسهيله وهذان الجوابان في غاية الضعف
أما الأول فلأن قوله وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ يفيد أن ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة فوجب أن تكون هذه الرحمة جارية مجرى السبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف والثواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف فالاختلاف جار مجرى المسبب له ومجرى المعلول فحمل هذه الرحمة على الثواب بعيد
وأما الثاني وهو حمل هذه الرحمة على الألطاف فنقول جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضاً في حق الكافر وهذه الرحمة أمر مختص به المؤمن فوجب أن يكون شيئاً زائداً على تلك الألطاف وأيضاً فحصول تلك الألطاف هل يوجب رجحان وجود الإيمان على عدمه أو لا يوجبه فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان فلم يك لطفاً فيه وإن أوجب الرجحان فقد بينا في ( الكتب العقلية ) أنه متى حصل الرجحان فقد وجب وحينئذ يكون حصول الإيمان(18/62)
من الله ومما يدل على أن حصول الإيمان لا يكون إلا بخلق الله أنه ما لم يتميز الإيمان عن الكفر والعلم عن الجهل امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم وإنما يحصل هذا الامتياز إذا علم كون أحد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد وكون الآخر ليس كذلك وإنما يصح حصول هذا العلم أن لو عرف أن ذلك المعتقد في نفسه كيف يكون وهذا يوجب أنه لا يصح من العبد القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محال فثبت أن زوال الاختلاف في الدين وحصول العلم والهداية لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وهو المطلوب
ثم قال تعالى وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وفيه ثلاثة أقوال
القول الأول قال ابن عباس وللرحمة خلقهم وهذا اختيار جمهور المعتزلة قالوا ولا يجوز أن يقال وللاختلاف خلقهم ويدل عليه وجوه الأول أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما وأقرب المذكورين ههنا هو الرحمة والاختلاف أبعدهما والثاني أنه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف الثالث إذا فسرنا الآية بهذا المعنى كان مطابقاً لقوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 )
فإن قيل لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال ولتلك خلقهم ولم يقل ولذلك خلقهم
قلنا إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثاً حقيقياً فكان محمولاً على الفضل والغفران كقوله هَاذَا رَحْمَة ٌ مّن رَّبّى ( الكهف 98 ) وقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ( الأعراف 56 )
والقول الثاني أن المراد وللاختلاف خلقهم
والقول الثالث وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا وأهل العذاب لأن يختلفوا وخلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلق النار وخلق لها أهلاً والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه الأول الدلائل القاطعة الدالة على أن العلم والجهل لا يمكن حصولهما في العبد إلا بتخليق الله تعالى الثاني أن يقال إنه تعالى لما حكم على البعض بكونهم مختلفين وعلى الآخرين بأنهم من أهل الرحمة وعلم ذلك امتنع انقلاب ذلك وإلا لزم انقلاب العلم جهلاً وهو محال الثالث أنه تعالى قال بعده وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وهذا تصريح بأنه تعالى خلق أقواماً للهداية والجنة وأقواماً آخرين للضلالة والنار وذلك يقوي هذا التأويل
وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَة ٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(18/63)
اعلم أنه تعالى لما ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة
الفائدة الأولى تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى وذلك لأن الإنسان إذا ابتلى بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه كما يقال المصيبة إذا عمت خفت فإذا سمع الرسول هذه القصص وعلم أن حال جميع الأنبياء صلوات الله عليهم مع أتباعهم هكذا سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه
والفائدة الثانية قوله وَجَاءكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَة ٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وفي قوله فِى هَاذِهِ وجوه أحدها في هذه السورة وثانيها في هذه الآية وثالثها في هذه الدنيا وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع
واعلم أنه لا يلزم من تخصيص هذ السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حال سائر السور بخلاف ذلك لاحتمال أن يكون الحق المذكور في هذه السورة أكمل حالاً مما ذكر في سائر السور ولو لم يكن فيها إلا قوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ( هود 112 ) لكان الأمر كما ذكرنا ثم إنه تعالى بين أنه جاء في هذه السورة أمور ثلاثة الحق والموعظة والذكرى
أما الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة
وأما الذكرى فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال الباقية الصالحة
وأما الموعظة فهي إشارة إلى التنفير من الدنيا وتقبيح أحوالها في الدار الآخرة والمذكرة لما هنالك من السعادة والشقاوة وذلك لأن الروح إنما جاء من ذلك العالم إلا أنه لاستغراقه في محبة الجسد في هذا العالم نسي أحوال ذلك العالم فالكلام الإلهي يذكره أحوال ذلك العالم فلهذا السبب صح إطلاق لفظ الذكر عليه
ثم ههنا دقيقة أخرى عجيبة وهي أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل ومن موجب وقابلها هو القلب والقلب ما لم يكن كامل الاستعداد لقبول تلك المعارف الإلهية والتجليات القدسية لم يحصل الانتفاع بسماع الدلائل فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر إصلاح القلب وهو تثبيت الفؤاد ثم لما ذكر صلاح حال القابل أردفه بذكر الموجب وهو مجيء هذه السورة المشتملة على الحق والموعظة والذكرى وهذا الترتيب في غاية الشرف والجلالة
وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاٌّ مْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(18/64)
اعلم أنه تعالى لما بلغ الغاية في الأعذار والإنذار والترغيب والترهيب أتبع ذلك بأن قال للرسول وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وهذا عين ما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه والمعنى افعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشر فنحن أيضاً عاملون وقوله اعْمَلُواْ وإن كانت صيغته صيغة الأمر إلا أن المراد منها التهديد كقوله تعالى لإبليس وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ( الإسراء 64 ) وكقوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) وانتظروا ما يعدكم الشيطان من الخذلان فإنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان قال ابن عباس رضي الله عنهما وَانْتَظِرُواْ الهلاك فإنا منتظرون لكم العذاب ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدسة فقال وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
واعلم أن مجموع مايحتاج الإنسان إلى معرفته أمور ثلاثة وهي الماضي والحاضر والمستقبل أما الماضي فهو أن يعرف الموجود الذي كان موجوداً قبله وذلك الموجود المتقدم عليه هو الذي نقله من العدم إلى الوجود وذلك هو الإله تعالى وتقدس
واعلم أن حقيقة ذات الإله وكنه هويته غير معلومة للبشر ألبتة وإنما المعلوم للبشر صفاته ثم إن صفاته قسمان صفات الجلال وصفات الإكرام أما صفات الجلال فهي سلوب كقولنا إنه ليس بجوهر ولا جسم ولا كذا ولا كذا وهذه السلوب في الحقيقة ليست صفات الكمال لأن السلوب عدم والعدم المحض والنفي الصرف لا كمال فيه فقولنا لا تأخذه سنة ولا نوم إنما أفاد الكلام لدلالته على العلم المحيط الدائم المبرأ عن التغير ولولا ذلك كان عدم النوم ليس يدل على كمال أصلاً ألا ترى أن الميت والجماد لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( الأنعام 14 ) إنما أفاد الجلال والكمال والكبرياء لأن قوله وَلاَ يُطْعَمُ يفيد كونه واجب الوجود لذاته غنياً عن الطعام والشراب بل عن كل ما سواه فثبت أن صفات الكمال والعز والعلو هي الصفات الثبوتية وأشرف الصفات الثبوتية الدالة على الكمال والجلال صفتان العلم والقدرة فلهذا السبب وصف الله تعالى ذاته في هذه الآية بهما في معرض التعظيم والثناء والمدح أما صفة العلم فقوله وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمراد أن علمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات والمعدومات والموجودات والحاضرات والغائبات وتمام البيان والشرح في دلالة هذا اللفظ على نهاية الكمال ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه وتعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وأما صفة القدرة فقوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ والمراد أن مرجع الكل إليه وإنما يكون كذلك لو كان مصدر الكل ومبدأ الكل هو هو والذي يكون مبدأ لجميع الممكنات وإليه يكون مرجع كل المحدثات والكائنات كان عظيم القدرة نافذ المشيئة قهاراً للعدم بالوجود والتحصيل جباراً له بالقوة والفعل والتكميل فهذان الوصفان هما المذكوران في شرح جلال المبدأ ونعت كبريائه
والمرتبة الثانية من المراتب التي يجب على الإنسان كونه عالماً بها أن يعرف ما هو مهم له في زمان حياته في الدنيا وما ذلك إلا تكميل النفس بالمعارف الروحانية والجلايا القدسية وهذه المرتبة لها بداية ونهاية أما بدايتها فالاشتغال بالعبادات الجسدانية والروحانية أما العبادات الجسدانية فأفضل الحركات(18/65)
الصلاة وأكمل السكنات الصيام وأنفع البر الصدقة
وأما العبادة الروحانية فهي الفكر والتأمل في عجائب صنع الله تعالى في ملكوت السموات والأرض كما قال تعالى وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 191 ) وأما نهاية هذه المرتبة فالانتهاء من الأسباب إلى مسببها وقطع النظر عن كل الممكنات والمبدعات وتوجيه حدقة العقل إلى نور عالم الجلال واستغراق الروح في أضواء عالم الكبرياء ومن وصل إلى هذه الدرجة رأى كل ما سواه مهرولاً تائهاً في ساحة كبريائه هالكاً فانياً في فناء سناء أسمائه وحاصل الكلام أن أول درجات السير إلى الله تعالى هو عبودية الله وآخرها التوكل على الله فلهذا السبب قال فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
والمرتبة الثالثة من المراتب المهمة لكل عامل معرفة المستقبل وهو أنه يعرف كيف يصير حاله بعد انقضاء هذه الحياة الجسمانية وهل لأعماله أثر في السعادة والشقاوة وإليه الإشارة بقوله تعالى وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ والمقصود أنه لا يضيع طاعات المطيعين ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقطمير ويعاتبوا في الصغير والكبير ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير فظهر أن هذه الآية وافية بالإشارة إلى جميع المطالب العلوية والمقاصد القدسية وأنه ليس وراءها للعقول مرتقى ولا للخواطر منتهى والله الهادي للصواب تمت السورة بحمد الله وعونه وقد وجد بخط المصنف رضي الله عنه في النسخة المنتقل منها ثم تفسير هذه السورة قبل طلوع الصبح ليلة الاثنين من شهر رجب ختمه الله بالخير والبركة سنة إحدى وستمائة وقد كان لي ولد صالح حسن السيرة فتوفى في الغربة في عنفوان شبابه وكان قلبي كالمحترق لذلك السبب فأنا أنشد الله إخواني في الدين وشركائي في طلب اليقين وكل من نظر في هذا الكتاب وانتفع به أن يذكر ذلك الشاب بالرحمة والمغفرة وأن يذكر هذا المسكين بالدعاء وهو يقول رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ( آل عمران 8 ) وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم(18/66)
سورة يوسف
مكية إلا الآيات 1 و 2 و 3 و 7 فمدنية
وآياتها 111 نزلت بعد سورة هود
ال ر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
وقد ذكرنا في أول سورة يونس تفسير الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( يونس 1 ) فقوله تِلْكَ إشارة إلى آيات هذه السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة الر هي الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا وهو القرآن وإنما وصف القررن بكونه مبيناً لوجوه الأول أن القرآن معجزة قاهرة وآية بينة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أنه بين فيه الهدى والرشد والحلال والحرام ولما بينت هذه الأشياء فيه كان الكتاب مبيناً لهذه الأشياء الثالث أنه بينت فيه قصص الأولين وشرحت فيه أحوال المتقدمين
ثم قال إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وفيه مسائل
المسألة الأولى روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن كيفية قصة يوسف فأنزل الله تعالى هذه الآية وذكر فيها أنه تعالى عبر عن هذه القصة بألفاظ عربية ليتمكنوا من فهمها ويقدروا على تحصيل المعرفة بها والتقدير إنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه قرآناً عربياً وسمى بعض القرآن قرآناً لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض
المسألة الثانية احتج الجبائي بهذه الآية على كون القرآن مخلوقاً من ثلاثة أوجه الأول أن قوله إنا أنزلناه يدل عليه فإن القديم لا يجوز تنزيله وإنزاله وتحويله من حال إلى حال الثاني أنه تعالى وصفه بكونه عربياً والقديم لا يكون عربياً ولا فارسياً الثالث أنه لما قال إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا دل على أنه تعالى كان قادراً على أن ينزله لا عربياً وذلك يدل على حدوثه الرابع أن قوله تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ يدل(18/67)
على أنه مركب من الآيات والكلمات وكل ما كان مركباً كان محدثاً
والجواب عن هذه الوجوه بأسرها أن نقول إنها تدل على أن المركب من الحروف والكلمات والألفاظ والعبارات محدث وذلك لا نزاع فيه إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر فسقط هذا الاستدلال
المسأل الثالثة احتج الجبائي بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فقال كلمة ( لعل ) يجب حملها على الجزم والتقدير إنا أنزلناه قرآناً عربياً لتعقلوا معانيه في أمر الدين إذ لا يجوز أن يراد بلعلكم تعقلون الشك لأنه على الله محال فثبت أن المراد أنه أنزله لإرادة أن يعرفوا دلائله وذلك يدل على أنه تعالى أراد من كل العباد أن يعقلوا توحيده وأمر دينه من عرف منهم ومن لم يعرف بخلاف قول المجبرة
والجواب هب أن الأمر ما ذكرتم إلا أنه يدل على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة ولكن لم قلتم إنها تدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى روى سعيد بن جبير أنه تعالى لما أنزل القرآن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان يتلوه على قومه فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت هذه السورة فتلاها عليهم فقالوا لو حدثتنا فنزل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً ( الزمر 23 ) فقالوا لو ذكرتنا فنزل أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ( الحديد 16 )
المسألة الثانية القصص اتباع الخبر بعضه بعضاً وأصله في اللغة المتابعة قال تعالى وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ ( القصص 11 ) أي اتبعي أثره وقال تعالى فَارْتَدَّا عَلَى ءاثَارِهِمَا قَصَصًا ( الكهف 64 ) أي اتباعاً وإنما سميت الحكاية قصصاً لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً كما يقال تلا القرآن إذا قرأه لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية والقصص في هذه الآية يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص يقال قص الحديث يقصه قصاً وقصصاً إذا طرده وساقه كما يقال أرسله يرسله إرسالاً ويجوز أن يكون من باب تسمية المفعول بالمصدر كقولك هذا قدرة الله تعالى أي مقدوره وهذا الكتاب علم فلان أي معلومه وهذا رجاؤنا أي مرجونا فإن حملناه على المصدر كان المعنى نقص عليك أحسن الاقتصاص وعلى هذا التقدير فالحسن يعود إلى حسن البيان لا إلى القصة والمراد من هذا الحسن كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حد الإعجاز ألا ترى أن هذه القصة مذكورة في كتب التواريخ مع أن شيئاً منها لا يشابه هذه السورة في الفصاحة والبلاغة وإن حملناه على المفعول كان معنى كونه أحسن القصص لما فيه من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها فإن إحدى الفوائد التي في هذه القصة أنه لا دافع لقضاء(18/68)
الله تعالى ولا مانع من قدر الله تعالى وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا عليه لم يقدروا على دفعه
والفائدة الثانية دلالتها على أن الحسد سبب للخذلان والنقصان
والفائدة الثالثة أن الصبر مفتاح الفرج كما في حق يعقوب عليه السلام فإنه لما صبر فاز بمقصوده وكذلك في حق يوسف عليه السلام
فأما قوله بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءانَ فالمعنى بوحينا إليك هذا القرآن وهذا التقدير إن جعلنا ( ما ) مع الفعل بمنزلة المصدر
ثم قال وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ يريد من قبل أن نوحي إليك لَمِنَ الْغَافِلِينَ عن قصة يوسف وإخوته لأنه عليه السلام إنما علم ذلك بالوحي ومنهم من قال المراد أنه كان من الغافلين عن الدين والشريعة قبل ذلك كما قال تعالى مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 )
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاًّبِيهِ ياأَبتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى تقدير الآية اذكر إِذْ قَالَ يُوسُفُ قال صاحب ( الكشاف ) الصحيح أنه اسم عبراني لأنه لو كان عربياً لانصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف وقرأ بعضهم يُوسُفَ بكسر السين وَيُوسُفَ بفتحها وأيضاً روى في يونس هذه اللغات الثلاث وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا قيل من الكريم فقولوا الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام )
المسألة الثانية قرأ ابن عامر يا أبت بفتح التاء في جميع القرآن والباقون بكسر التاء أما الفتح فوجهه أنه كان في الأصل يا أبتاه على سبيل الندبة فحذفت الألف والهاء وأما الكسر فأصله يا أبي فحذفت الياء واكتفى بالكسرة عنها ثم أدخل هاء الوقف فقال يا أبت ثم كثر استعماله حتى صار كأنه من نفس الكلمة فأدخلوا عليه الإضافة وهذا قول ثعلب وابن الأنباري
واعلم أن النحويين طولوا في هذه المسألة ومن أراد كلامهم فليطالع ( كتبهم )
المسألة الثالثة أن يوسف عليه السلام رأى في المنام أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر سجدت له وكان له أحد عشر نفراً من الأخوة ففسر الكواكب بالأخوة والشمس والقمر بالأب والأم والسجود بتواضعهم له ودخولهم تحت أمره وإنما حملنا قوله لاِبِيهِ ياأَبتِ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا على الرؤيا لوجهين الأول أن الكواكب لا تسجد في الحقيقة فوجب حمل هذا الكلام على الرؤيا والثاني قول يعقوب عليه السلام لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ( يوسف 5 ) وفي الآية سؤالات(18/69)
السؤال الأول قوله رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ فقوله سَاجِدِينَ لا يليق إلا بالعقلاء والكواكب جمادات فكيف جازت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات
قلنا إن جماعة من الفلاسفة الذين يزعمون أن الكواكب أحياء ناطقة احتجوا بهذه الآية وكذلك احتجوا بقوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) والجمع بالواو والنون مختص بالعقلاء وقال الواحدي إنه تعالى لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( الأعراف 198 ) وكما في قوله نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 )
السؤال الثاني قال إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثم أعاد لفظ الرؤيا مرة ثانية وقال رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ فما الفائدة في هذا التكرير
الجواب قال القفال رحمه الله ذكر الرؤية الأولى لتدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر والثانية لتدل على مشاهدة كونها ساجدة له وقال بعضهم إنه لما قال إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فكأنه قيل له كيف رأيت فقال رأيتهم لي ساجدين وقال آخرون يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤية وهذا القائل لم يبين أن أيهما يحمل على الرؤيا وأيهما الرؤيا فذكر قولاً مجملاً غير مبين
السؤال الثالث لم أخر الشمس والقمر
قلنا أخرهما لفضلهما على الكواكب لأن التخصيص بالذكر يدل على مزيد الشرف كما في قوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
السؤال الرابع المراد بالسجود نفس السجود أو التواضع كما في قوله
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر
قلنا كلاهما محتمل والأصل في الكلام حمله على حقيقته ولا مانع أن يرى في المنام أن الشمس والقمر والكواكب سجدت له
السؤال الخامس متى رأى يوسف عليه السلام هذه الرؤيا
قلنا لا شك أنه رآها حال الصغر فأما ذلك الزمان بعينه فلا يعلم إلا بالأخبار قال وهب رأى يوسف عليه السلام وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى ابتلعتها فذكر ذلك لأبيه فقال إياك أن تذكر هذا لأخوتك ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال لا تذكرها لهم فيكيدوا لك كيداً وقيل كان بين رؤيا يوسف ومصير أخوته إليه أربعون سنة وقيل ثمانون سنة
واعلم أن الحكماء يقولون إن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين قالوا والسبب في ذلك أن رحمة الله تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل وأما الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدماً على ظهوره بزمان طويل حتى(18/70)
تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذلك الخير أكثر وأتم
السؤال السادس قال بعضهم المراد من الشمس والقمر أبوه وخالته فما السبب فيه
قلنا إنما قالوا ذلك من حيث ورد في الخبر أن والدته توفيت وما دخلت عليه حال ما كان بمصر قالوا ولو كان المراد من الشمس والقمر أباه وأمه لما ماتت لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام لا بد وأن تكون وحياً وهذه الحجة غير قوية لأن يوسف عليه السلام ما كان في ذلك الوقت من الأنبياء
السؤال السابع وما تلك الكواكب
قلنا روى صاحب ( الكشاف ) أن يهودياً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام لليهودي ( إن أخبرتك هل تسلم ) قال نعم قال ( جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلت من السماء وسجدت له ) فقال اليهودي أي والله إنها لأسماؤها
واعلم أن كثيراً من هذه الأسماء غير مذكور في الكتب المصنفة في صورة الكواكب والله أعلم بحقيقة الحال
قَالَ يابُنَى َّ لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حفص أَوْ بَنِى بفتح الياء والباقون بالكسر
المسألة الثانية أن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف وأخيه فحسده إخوته لهذا السبب وظهر ذلك المعنى ليعقوب عليه السلام بالأمارات الكثيرة فلما ذكر يوسف عليه السلام هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فقال لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها فيكيدوا لك كيداً
المسألة الثالثة قال الواحدي الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا والشورى إلا أنه لما صار اسماً لهذا المتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء قال صاحب ( الكشاف ) الرؤيا بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة(18/71)
بما كان منها في المنام دون اليقطة فلا جرم فرق بينهما بحرفي التأنيث كما قيل القربة والقربى وقرىء روياك بقلب الهمزة واواً وسمع الكسائي يقرأ رياك ورياك بالإدغام وضم الراء وكسرها وهي ضعيفة
ثم قال تعالى فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا وهو منصوب بإضمار أن والمعنى إن قصصتها عليهم كادوك
فإن قيل فلم لم يقل فيكيدوك كما قال فَكِيدُونِى ( هود 55 )
قلنا هذه اللام تأكيد للصلة كقوله لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ وكقولك نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك وقيل هي من صلة الكيد على معنى فيكيدوا كيداً لك قال أهل التحقيق وهذا يدل على أنه قد كان لهم علم بتعبير الرؤيا وإلا لم يعلموا من هذه الرؤيا ما يوجب حقداً وغضباً
ثم قال إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ والسبب في هذا الكلام أنهم لو أقدموا على الكيد لكان ذلك مضافاً إلى الشيطان ونظيره قول موسى عليه السلام هذا من عمل الشيطان ثم إن يعقوب عليه السلام قصد بهذه النصيحة تعبير تلك الرؤيا وذكروا أموراً أولها قوله وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ يعني وكما اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبر شأن كذلك يجتبيك لأمور عظام قال الزجاج الاجتباء مشتق من جبيت الشيء إذا خلصته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء فقال الحسن يجتبيك ربك بالنبوة وقال آخرون المراد منه إعلاء الدرجة وتعظيم المرتبة فأما تعيين النبوة فلا دلالة في اللفظ عليه وثانيها قوله وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ وفيه وجوه الأول المراد منه تعبير الرؤيا سماه تأويلاً لأنه يؤل أمره إلى ما رآه في المنام يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم قالوا إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية والثاني تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله وتأويل الأحاديث المروية عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والثالث الأحاديث جمع حديث والحديث هو الحادث وتأويلها مآلها ومآل الحوادث إلى قدرة الله تعالى وتكوينه وحكمته والمراد من تأويل الأحاديث كيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات الروحانية والجسمانية على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته وثالثها قوله وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءالِ يَعْقُوبَ
واعلم أن من فسر الاجتباء بالنبوة لا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة ههنا بالنبوة أيضاً وإلا لزم التكرار بل يفسر إتمام النعمة ههنا بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة أما سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم وإجلاله في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد وأما سعادات الآخرة فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى وأما من فسر الاجتباء بنيل الدرجات العالية فههنا يفسر إتمام النعمة بالنبوة ويتأكيد هذا بأمور الأول أن إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان وما ذاك في حق البشر إلا بالنبوة فإن جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة ناقص بالنسبة إلى كمال النبوة فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوة والثاني قوله كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ ومعلوم أن النعمة التامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحق عن سائر البشر ليس إلا النبوة فوجب أن يكون المراد بإتمام النعمة هو النبوة(18/72)
واعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء وذلك لأنه قال وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءالِ يَعْقُوبَ وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب فلما كان المراد من إتمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حق من عدا أبناءه فوجب أن لا يبقى معمولاً به في حق أولاده وأيضاً أن يوسف عليه السلام قال إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وكان تأويله أحد عشر نفساً لهم فضل وكمال ويستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى وذلك يقتضي أن يكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلاً
فإن قيل كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام
قلنا ذاك وقع قبل النبوة وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها
القول الثاني أن المراد من قوله وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ خلاصه من المحن ويكون وجه التشبيه في ذلك بإبراهيم وإسحق عليهما السلام هو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النار وعلى ابنه إسحق بتخليصه من الذبح
والقول الثالث أن إتمام النعمة هو وصل نعمة الله عليه في الدنيا بنعم الآخرة بأن جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكاً ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة
واعلم أن القول الصحيح هو الأول لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها ثم إنه عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فقوله عَلِيمٌ إشارة إلى قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وقوله حَكِيمٌ إشارة إلى أن الله تعالى مقدس عن السفه والعبث لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وجوهرة مشرقة علوية
فإن قيل هذه البشارات التي ذكرها يعقوب عليه السلام هل كان قاطعاً بصحتها أم لا فإن كان قاطعاً بصحتها فكيف حزن على يوسف عليه السلام وكيف جاز أن يشتبه عليه أن الذئب أكله وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه وكيف قال لإخوته وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون مع علمه بأن الله سبحانه سيجتبيه ويجعله رسولاً فأما إذا قلنا إنه عليه السلام ما كان عالماً بصحة هذه الأحوال فكيف قطع بها وكيف حكم بوقوعها حكماً جازماً من غير تردد
قلنا لا يبعد أن يكون قوله وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ مشروطاً بأن لا يكيدوه لأن ذكر ذلك قد تقدم وأيضاً فبتقدير أن يقال إنه عليه السلام كان قاطعاً بأن يوسف عليه السلام سيصل إلى هذه المناصب إلا أنه لا يمتنع أن يقع في المضايق الشديدة ثم يتخلص منها ويصل إلى تلك المناصب فكان خوفه لهذا السبب ويكون معنى قوله وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذّئْبُ ( يوسف 13 ) الزجر عن التهاون في حفظه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه
لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لِّلسَّآئِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ(18/73)
في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر صاحب ( الكشاف ) أسماء إخوة يوسف يهودا روبيل شمعون لاوي ربالون يشجر دينة دان نفتالي جاد آشر ثم قال السبعة الأولون من ليا بنت خالة يعقوب والأربعة الآخرون من سريتين زلفة وبلهة فلما توفيت ليا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف
المسألة الثانية قوله لّلسَّائِلِينَ إِذْ قرأ ابن كثير آية بغير ألف حمله على شأن يوسف والباقون ءايَاتُ على الجمع لأن أمور يوسف كانت كثيرة وكل واحد منها آية بنفسه
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير قوله تعالى لّلسَّائِلِينَ إِذْ وجوهاً الأول قال ابن عباس دخل حبر من اليهود على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسمع منه قراءة يوسف فعاد إلى اليهود فأعلمهم أنه سمعها منه كما هي في التوراة فانطلق نفر منهم فسمعوا كما سمع فقالوا له من علمك هذه القصة فقال الله علمني فنزل لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لّلسَّائِلِينَ وهذا الوجه عندي بعيد لأن المفهوم من الآية أن في واقعة يوسف آيات للسائلين وعلى هذا الوجه الذي نقلناه ما كانت الآيات في قصة يوسف بل كانت الآيات في أخبار محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عنها من غير سبق تعلم ولا مطالعة وبين الكلامين فرق ظاهر والثاني أن أهل مكة أكثرهم كانوا أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام وكانوا ينكرون نبوته ويظهرون العداوة الشديدة معه بسبب الحسد فذكر الله تعالى هذه القصة وبين أن إخوة يوسف بالغوا في إيذائه لأجل الحسد وبالآخرة فإن الله تعالى نصره وقواه وجعلهم تحت يده ورايته ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل كانت زجراً له عن الإقدام على الحسد والثالث أن يعقوب لما عبر رؤيا يوسف وقع ذلك التعبير ودخل في الوجود بعد ثمانين سنة فكذلك أن الله تعالى لما وعد محمداً عليه الصلاة والسلام بالنصر والظفر على الأعداء فإذا تأخر ذلك الموعود مدة من الزمان لم يدل ذلك على كون محمد عليه الصلاة والسلام كاذباً فيه فذكر هذه القصة نافع من هذا الوجه الرابع أن إخوة يوسف بالغوا في إبطال أمره ولكن الله تعالى لما وعده بالنصر والظفر كان الأمر كما قدره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء فكذلك واقعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن الله لما ضمن له إعلاء الدرجة لم يضره سعي الكفار في إبطال أمره وأما قوله لّلسَّائِلِينَ فاعلم أن هذه القصة فيها آيات كثيرة لمن سأل عنها وهو كقوله تعالى فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ( فصلت 10 )
ثم قال تعالى إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله لِيُوسُفَ اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر لا شبهة فيه وأخوه هو بنيامين وإنما قالوا أخوه وهم جميعاً إخوة لأن أمهما كانت واحدة والعصبة والعصابة العشرة فصاعداً وقيل إلى الأربعين سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ونقل عن علي عليه السلام أنه قرأ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ بالنصب قيل معناه ونحن نجتمع عصبة
المسألة الثانية المراد منه بيان السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف وذلك أن يعقوب كان يفضل(18/74)
يوسف وأخاه على سائر الأولاد في الحب وأنهم تأذوا منه لوجوه الأول أنهم كانوا أكبر سناً منهما وثانيها أنهم كانوا أكثر قوة وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما وثالثها أنهم قالوا إنا نحن القائمون بدفع المفاسد والآفات والمشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات إذا ثبت ما ذكرناه من كونهم متقدمين على يوسف وأخيه في هذه الفضائل ثم إنه عليه السلام كان يفضل يوسف وأخاه عليهم لا جرم قالوا إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ يعني هذا حيف ظاهر وضلال بين وههنا سؤالات
السؤال الأول إن من الأمور المعلومة أن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد ويورث الآفات فلما كان يعقوب عليه السلام عالماً بذلك فلم أقدم على هذا التفضيل وأيضاً الأسن والأعلم والأنفع أفضل فلم قلب هذه القضية
والجواب أنه عليه السلام ما فضلهما على سائر الأولاد إلا في المحبة والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذوراً فيه ولا يلحقه بسبب ذلك لوم
السؤال الثاني أن أولاد يعقوب عليه السلام إن كانوا قد آمنوا بكونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى فكيف اعترضوا عليه وكيف زيفوا طريقته وطعنوا في فعله وإن كانوا مكذبين لنبوته فهذا يوجب كفرهم
والجواب أنهم كانوا مؤمنين بنبوة أبيهم مقرين بكونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى إلا أنهم لعلهم جوزوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد الاجتهاد ثم إن اجتهادهم أدى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد وذلك لأنهم كانوا يقولون هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ونحن متقدمون عليهما في السن والعقل والكفاية والمنفعة وكثرة الخدمة والقيام بالمهمات وإصراره على تقديم يوسف علينا يخالف هذا الدليل وأما يعقوب عليه السلام فلعله كان يقول زيادة المحبة ليست في الوسع والطاقة فليس لله علي فيه تكليف وأما تخصيصهما بمزيد البر فيحتمل أنه كان لوجوه أحدها أن أمهما ماتت وهما صغار وثانيها لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد وثالثها لعله عليه السلام وإن كان صغيراً إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدم أشرف وأعلى بما كان يصدر عن سائر الأولاد والحاصل أن هذه المسألة كانت اجتهادية وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر أو في عرضه
السؤال الثالث أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال المبين وذلك مبالغة في الذم والطعن ومن بالغ في الطعن في الرسول كفر لا سيما إذا كان الطاعن ولداً فإن حق الأبوة يوجب مزيد التعظيم
والجواب المراد منه الضلال عن رعاية المصالح في الدنيا لا البعد عن طريق الرشد والصواب
السؤال الرابع أن قولهم لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا محض الحسد والحسد من أمهات الكبائر لا سيما وقد أقدموا على الكذب بسبب ذلك الحسد وعلى تضييع ذلك الأخ الصالح وإلقائه في ذل العبودية وتبعيده عن الأب المشفق وألقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم وأقدموا على الكذب فما بقيت خصلة مذمومة ولا طريقة في الشر والفساد إلا وقد أتوا بها وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوة
والجواب الأمر كما ذكرتم إلا أن المعتبر عندنا عصمة الأنبياء عليهم السلام في وقت حصول النبوة وأما قبلها فذلك غير واجب والله أعلم(18/75)
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَة ِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
واعلم أنه لما قوي الحسد وبلغ النهاية قالوا لا بد من تبعيد يوسف عن أبيه وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه ولا وجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك ثم ذكروا العلة فيه وهي قولهم يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ والمعنى أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ وفيه وجوه الأول أنهم علموا أن ذلك الذي عزموا عليه من الكبائر فقالوا إذا فعلنا ذلك تبنا إلى الله ونصير من القوم الصالحين والثاني أنه ليس المقصود ههنا صلاح الدين بل المعنى يصلح شأنكم عند أبيكم ويصير أبوكم محباً لكم مشتغلاً بشأنكم الثالث المراد أنكم بسبب هذه الوحشة صرتم مشوشين لا تتفرغون لإصلاح مهم فإذا زالت هذه الوحشة تفرغتم لإصلاح مهماتكم واختلفوا في أن هذا القائل الذي أمر بالقتل من كان على قولين أحدهما أن بعض إخوته قال هذا والثاني أنهم شاوروا أجنبياً فأشار عليهم بقتله ولم يقل ذلك أحد من إخوته فأما من قال بالأول فقد اختلفوا فقال وهب إنه شمعون وقال مقاتل روبيل
فإن قيل كيف يليق هذا بهم وهم أنبياء
قلنا من الناس من أجاب عنه بأنهم كانوا في هذا الوقت مراهقين وما كانوا بالغين وهذا ضعيف لأنه يبعد من مثل نبي الله تعالى يعقوب عليه السلام أن يبعث جماعة من الصبيان من غير أن يكون معهم إنسان عاقل يمنعهم من القبائح وأيضاً أنهم قالوا وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ وهدا يدل على أنهم قبل التوبة لا يكونون صالحين وذلك ينافي كونهم من الصبيان ومنهم من أجاب بأن هذا من باب الصغائر وهذا أيضاً بعيد لأن إيذاء الأب الذي هو نبي معصوم والكذب معه والسعي في إهلاك الأخ الصغير كل واحد من ذلك من أمهات الكبائر بل الجواب الصحيح أن يقال إنهم ما كانوا أنبياء وإن كانوا أنبياء إلا أن هذه الواقعة إنما أقدموا عليها قبل النبوة
ثم إنه تعالى حكى أن قائلاً قال لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ قيل إنه كان روبيل وكان ابن خالة يوسف وكان أحسنهم رأياً فيه فمنعهم عن القتل وقيل يهودا وكان أقدمهم في الرأي والفضل والسن
ثم قال وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ على الجمع في الحرفين هذا والذي بعده والباقون غَيَابَة ِ على الواحد في الحرفين أما وجه الغيابات فهو أن للجب أقطاراً ونواحي فيكون فيها غيابات ومن وحد قال المقصود موضوع واحد من الجب يغيب فيه يوسف فالتوحيد أخص وأدل على المعنى(18/76)
المطلوب وقرأ الجحدري فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ
المسألة الثانية قال أهل اللغة الغيابة كل ما غيب شيئاً وستره فغيابة الجب غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله والجب البئر التي ليست بمطوية سميت جباً لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها غير القطع من طي أو ما أشبه ذلك وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين
المسألة الثالثة الألف واللام في الجب تقتضي المعهود السابق اختلفوا في ذلك الجب فقال قتادة هو بئر ببيت المقدس وقال وهب هو بأرض الأردن وقال مقاتل هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَة ِ وذلك لأن تلك البئر كانت معروفة وكانوا يردون عليها كثيراً وكان يعلم أنه إذا طرح فيها يكون إلى السلامة أقرب لأن السيارة إذا جازوا وردوها وإذا وردوها شاهدوا ذلك الإنسان فيها وإذا شاهدوه أخرجوه وذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك
المسألة الرابعة الالتقاط تناول الشيء من الطريق ومنه اللقطة واللقيط وقرأ الحسن تلتقطه بالتاء على المعنى لأن بعض السيارة أيضاً سيارة والسيارة الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر قال ابن عباس يريد المارة وقوله السَّيَّارَة ِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ فيه إشارة إلى أن الأولى أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك وأما إن كان ولا بد فاقتصروا على هذا القدر ونظيره قوله تعالى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ( النحل 126 ) يعني الأولى أن لا تفعلوا ذلك
قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
اعلم أن هذا الكلام يدل على أن يعقوب عليه السلام كان يخافهم على يوسف ولولا ذلك وإلا لما قالوا هذا القول
واعلم أنهم لما أحكموا العزم ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه وكانت عادتهم أن يغيبوا عنه مدة إلى الرعي فسألوه أن يرسله معهم وقد كان عليه السلام يحب تطييب قلب يوسف فاغتر بقولهم وأرسله معهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) لاَ تَأْمَنَّا قرىء بإظهار النونين وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام والمعنى لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به(18/77)
المسألة الثانية في يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ خمس قراآت
القراءة الأولى قرأ ابن كثير بالنون وبكسر عين نرتع من الارتعاء ويلعب بالياء والارتعاء افتعال من رعيت يقال رعت الماشية الكلأ ترعاه رعياً إذا أكلته وقوله نرتع الارتعاء للإبل والمواشي وقد أضافوه إلى أنفسهم لأن المعنى نرتع إبلنا ثم نسبوه إلى أنفسهم لأنهم هم السبب في ذلك الرعي والحاصل أنهم أضافوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم لأنهم بالغون كاملون وأضافوا اللعب إلى يوسف لصغره
القراءة الثانية قرأ نافع كلاهما بالياء وكسر العين من يرتع أضاف الارتعاء إلى يوسف بمعنى أنه يباشر رعي الإبل ليتدرب بذلك فمرة يرتع ومرة يلعب كفعل الصبيان
القراءة الثالثة قرأ أبو عمرو وابن عامر نرتع بالنون وجزم العين ومثله نلعب قال ابن الأعرابي الرتع الأكل بشره وقيل إنه الخصب وقيل المراد من اللعب الإقدام على المباحات وهذا يوصف به الإنسان وأما نلعب فروي أنه قيل لأبي عمرو كيف يقولون نلعب وهم أنبياء فقال لم يكونوا يومئذ أنبياء وأيضاً جاز أن يكون المراد من اللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لجابر ( فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ) وأيضاً كان لعبهم الاستباق والغرض منه تعلم المحاربة والمقاتلة مع الكفار والدليل عليه قولهم إنا ذهبنا نستبق وإنما سموه لعباً لأنه في صورته
القراءة الرابعة قرأ أهل الكوفة كليهما بالياء وسكون العين ومعناه إسناد الرتع واللعب إلى يوسف عليه السلام
القراءة الخامسة غَداً يَرْتَعْ بالياء وَنَلْعَبُ بالنون وهذا بعيد لأنهم إنما سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا باللعب والله أعلم
قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّآ إِذَا لَّخَاسِرُونَ
اعلم أنهم لما طلبوا منه أن يرسل يوسف معهم اعتذر إليهم بشيئين أحدهما أن ذهابهم به ومفارقتهم إياه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة والثاني خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم أو لعبهم لقلة اهتمامهم به قيل إنه رأى في النوم أن الذئب شد على يوسف فكان يحذره فمن هذا ذكر ذلك وكأنه لقنهم الحجة وفي أمثالهم البلاء موكل بالمنطق وقيل الذئاب كانت في أراضيهم كثيرة وقرىء الذّئْبُ بالهمز على الأصل وبالتفخيف وقيل اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة فلما ذكر يعقوب عليه السلام هذا الكلام أجابوا بقولهم لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّا إِذَا لَّخَاسِرُونَ وفيه سؤالات
السؤال الأول ما فائدة اللام في قوله لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ(18/78)
والجواب من وجهين الأول أن كلمة إن تفيد كون الشرط مستلزماً للجزاء أي إن وقعت هذه الواقعة فنحن خاسرون فهذه اللام دخلت لتأكيد هذا الاستلزام الثاني قال صاحب ( الكشاف ) هذه اللام تدل على إضمار القسم تقديره والله لئن أكله الذئب لكنا خاسرين
السؤال الثاني ما فائدة الواو في قوله وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ
الجواب أنها واو الحال حلفوا لئن حصل ما خافه من خطف الذئب أخاهم من بينهم وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب إنهم إذاً لقوم خاسرون
السؤال الثالث ما المراد من قولهم إِنَّا إِذَا لَّخَاسِرُونَ
الجواب فيه وجوه الأول خاسرون أي هالكون ضعفاً وعجزاً ونظيره قوله تعالى لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ( المؤمنون 34 ) أي لعاجزون الثاني أنهم يكونون مستحقين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار وأن يقال خسرهم الله تعالى ودمرهم حين أكل الذئب أخاهم وهم حاضرون الثالث المعنى أنا إن لم نقدر على حفظ أخينا فقد هلكت مواشينا وخسرناها الرابع أنهم كانوا قد أتعبوا أنفسهم في خدمة أبيهم واجتهدوا في القيام بمهماته وإنما تحملوا تلك المتاعب ليفوزوا منه بالدعاء والثناء فقالوا لو قصرنا في هذه الخدمة فقد أحبطنا كل تلك الأعمال وخسرنا كل ما صدر منا من أنواع الخدمة
السؤال الرابع أن يعقوب عليه السلام اعتذر بعذرين فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر
والجواب أن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأول وهو شدة حبه له فلما سمعوا ذكر ذلك المعنى تغافلوا عنه
فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أنه لا بد من الإضمار في هذه الآية في موضعين الأول أن تقدير الآية قالوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّا إِذَا لَّخَاسِرُونَ فأذن له وأرسله معهم ثم يتصل به قوله فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ والثاني أنه لا بد لقوله فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ من جواب إذ جواب لما غير مذكور وتقديره فجعلوه فيها وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلاً عليه وههنا كذلك قال السدي إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة الشديدة وجعل هذا الأخ يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه ولا يرى فيهم رحيماً فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يقول يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك فقال يهودا أليس قد أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه فانطلقوا به إلى الجب يدلونه فيه وهو متعلق بشفير البئر فنزعوا قميصه وكان غرضهم أن يلطخوه بالدم ويعرضوه على يعقوب فقال لهم ردوا علي قميصي لأتوارى به فقالوا ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً لتؤنسك ثم دلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ليموت(18/79)
وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة فقام بها وهو يبكي فنادوه فظن أنه رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فقام يهودا فمنعهم وكان يهودا يأتيه بالطعام وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال يا شاهداً غير غائب ويا قريباً غير بعيد ويا غالباً غير مغلوب اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً وروي أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار جرد عن ثيابه فجاءه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف عليه السلام فجاء جبريل عليه السلام فأخرجه وألبسه إياه
ثم قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ قولان أحدهما أن المراد منه الوحي والنبوة والرسالة وهذا قول طائفة عظيمة من المحققين ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صبياً قال بعضهم إنه كان في ذلك الوقت بالغاً وكان سنه سبع عشرة سنة وقال آخرون إنه كان صغيراً إلا أن الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عليه السلام
والقول الثاني إن المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى ( القصص 7 ) وقوله وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) والأول لأن الظاهر من الوحي ذلك
فإن قيل كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة
قلنا لا يمتنع أن يشرفه بالوحي والتنزيل ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وتسكين نفسه وإزالة الغم والوحشة عن قلبه
المسألة الثانية في قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ قولان الأول المراد أن الله تعالى أوحى إلى يوسف إنك لتخبرن إخوتك بصنيعهم بعد هذا اليوم وهم لا يشعرون في ذلك الوقت إنك يوسف والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصير مستولياً عليهم ويصيرون تحت قهره وقدرته وروي أنهم حين دخلوا عليه لطلب الحنطة وعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فظن فقال إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه في البئر وقلتم لأبيكم أكله الذئب والثاني أن المراد إنا أوحينا إلى يوسف عليه السلام في البئر بأنك تنبىء إخوتك بهذه الأعمال وهم ما كانوا يشعرون بنزول الوحي عليه والفائدة في إخفاء نزول ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله
المسألة الثالثة إذا حملنا قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ على التفسير الأول كان هذا أمراً من الله تعالى نحو يوسف في أن يستر نفسه عن أبيه وأن لا يخبره بأحوال نفسه فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه به خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى وصبر على تجرع تلك المرارة فكان الله سبحانه وتعالى قد قضى على يعقوب عليه السلام أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى الله تعالى وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة والله أعلم(18/80)
وَجَآءُو ا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ قَالُواْ يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
اعلم أنهم لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء باكين ورواه ابن جني عشا بضم العين والقصر وقال عشوا من البكاء فعند ذلك فزع يعقوب وقال هل أصابكم في غنمكم شيء قالوا لا قال فما فعل يوسف قالوا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ فبكى وصاح وقال أين القميص فطرحه على وجهه حتى تخضب وجهه من دم القميص وروي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي يا أبا أمية ما تراها تبكي قال قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق واختلفوا في معنى الاستباق قال الزجاج يسابق بعضهم بعضاً في الرمي ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر ) يعني بالنصل الرمي وأصل السبق في الرمي بالسهم هو أن يرمي اثنان ليتبين أيهما يكون أسبق سهماً وأبعد غلوة ثم يوصف المتراميان بذلك فيقال استبقا وتسابقا إذا فعلا ذلك ليتبين أيهما أسبق سهماً ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن في قراءة عبدالله إِنَّا ذَهَبْنَا
والقول الثاني في تفسير الاستباق ما قاله السدي ومقاتل ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ نشتد ونعدو ليتبين أينا أسرع عدواً
فإن قيل كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون وهذا من فعل الصبيان
قلنا الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ولأنه كالآلة لهم في محاربة العدو ومدافعة الذئب إذا اختلس الشاة وقوله فَأَكَلَهُ الذّئْبُ قيل أكل الذئب يوسف وقيل عرَّضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع والوجه هو الأول
ثم قالوا وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى ليس المعنى أن يعقوب عليه السلام لا يصدق من يعلم أنه صادق بل المعنى لو كنا عندك من أهل الثقة والصدق لاتهمتنا في يوسف لشدة محبتك إياه ولظننت أنا قد كذبنا والحاصل أنا وإن كنا صادقين لكنك لا تصدقنا لأنك تتهمنا وقيل المعنى إنا وإن كنا صادقين فإنك لا تصدقنا لأنه لم تظهر عندك أمارة تدل على صدقنا(18/81)
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان في أصل اللغة عبارة عن التصديق لأن المراد من قوله وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا أي بمصدق وإذا ثبت أن الأمر كذلك في أصل اللغة وجب أن يبقى في عرف الشرع كذلك وقد سبق الاستقصاء فيه في أول سورة البقرة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 )
ثم قال تعالى وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما جاؤا بهذا القميص الملطخ بالدم ليوهم كونهم صادقين في مقالتهم قيل ذبحوا جدياً ولطخوا ذلك القميص بدمه قال القاضي ولعل غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيداً لصدقهم لأنه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الإيهام أقوى فلما شاهد يعقوب القميص صحيحاً علم كذبهم
المسألة الثانية قوله وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ أي وجاؤا فوق قميصه بدم كما يقال جاؤا على جمالهم بأحمال
المسألة الثالثة قال أصحاب العربية وهم الفراء والمبرد والزجاج وابن الأنباري بِدَمٍ كَذِبٍ أي مكذوب فيه إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير دم ذي كذب ولكنه جعل نفسه كذباً للمبالغة قالوا والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال ماء سكب أي مسكوب ودرهم ضرب الأمير وثوب نسج اليمن والفاعل كقوله إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً ( الملك 30 ) ورجل عدل وصوم ونساء نوح ولما سميا بالمصدر سمي المصدر أيضاً بهما فقالوا للعقل المعقول وللجلد المجلود ومنه قوله تعالى بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( القلم 6 ) وقوله إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ( سبأ 7 ) قال الشعبي قصة يوسف كلها في قميصه وذلك لأنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه ولما شهد الشاهد قال إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ( يوسف 26 ) ولما أتي بقميصه إلى يعقوب عليه السلام فألقى على وجهه ارتد بصيراً ثم ذكر تعالى أن أخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم قال يعقوب عليه السلام بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا
قال ابن عباس معناه بل زينت لكم أنفسكم أمراً والتسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز وقال صاحب ( الكشاف ) سَوَّلَتْ سهلت من السول وهو الاسترخاء
إذا عرفت هذا فنقول قوله بَلِ رد لقولهم أَكَلَهُ الذّئْبُ كأنه قال ليس كما تقولون بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ في شأنه أمْراً أي زينت لكم أنفسكم أمراً غير ما تصفون واختلفوا في السبب الذي به عرف كونهم كاذبين على وجوه لأول أنه عرف ذلك بسبب أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم والثاني أنه كان عالماً بأنه حي لأنه عليه الصلاة والسلام قال ليوسف وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ( يوسف 6 )(18/82)
وذلك دليل قاطع على أنهم كاذبون في ذلك
القول الثالث قال سعيد بن جبير لما جاؤا على قميصه بدم كذب وما كان متخرقاً قال كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه وعن السدي أنه قال إن يعقوب عليه السلام قال إن هذا الذئب كان رحيماً فكيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه وقيل إنه عليه السلام لما قال ذلك قال بعضهم بل قتله اللصوص فقال كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم ثم قال يعقوب عليه السلام فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى منهم من قال إنه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف والتقدير فصبر جميل أولى من الجزع ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل الذي أفعله صبر جميل وقال قطرب معناه فصبري صبر جميل وقال الفراء فهو صبر جميل
المسألة الثانية كان يعقوب عليه السلام قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له ما هذا فقال طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي وروي عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك أنها قالت والله لئن حلفت لا تصدقوني وإن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ فأنزل الله عز وجل في عذرها ما أنزل
المسألة الثالثة عن الحسن أنه سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فقال ( صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر ) ويدل عليه من القرآن قوله تعالى إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ( يوسف 86 ) وقال مجاهد فصبر جميل أي من غير جزع وقال الثوري من الصبر أن لا تحدث بوجعك ولا بمصيبتك ولا تزكي نفسك وههنا بحث وهو أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب فأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير وههنا أن إخوة يوسف لما ظهر كذبهم وخيانتهم فلم صبر يعقوب على ذلك ولم لم يبالغ في التفتيش والبحث سعياً منه في تخليص يوسف عليه السلام عن البلية والشدة إن كان في الأحياء وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه فثبت أن الصبر في المقام مذموم
ومما يقوي هذا السؤال أنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بأنه حي سليم لأنه قال له وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ ( يوسف 6 ) والظاهر أنه إنما قال هذا الكلام من الوحي وإذا كان عالماً بأنه حي سليم فكان من الواجب أن يسعى في طلبه وأيضاً إن يعقوب عليه السلام كان رجلاً عظيم القدر في نفسه وكان من بيت عظيم شريف وأهل العلم كانوا يعرفونه ويعتقدون فيه ويعظمونه فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في أنه عليه السلام مع شدة رغبته في حضور يوسف عليه السلام ونهاية حبه له لم يطلبه مع أن طلبه كان من الواجبات فثبت أن هذا الصبر في هذا المقام مذموم عقلاً وشرعاً(18/83)
والجواب عنه أن نقول لا جواب عنه إلا أن يقال إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديداً للمحنة عليه وتغليظاً للأمر عليه وأيضاً لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه وقتله وأيضاً لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك أستار سرائر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم فإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقم منه فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر إلى الله تعالى بالكلية
المسألة الرابعة قوله تعالى فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يدل على أن الصبر على قسمين منه ما قد يكون جميلاً وما قد يكون غير جميل فالصبر الجميل هو أن يعرف أن منزل ذلك البلاء هو الله تعالى ثم يعلم أن الله سبحانه مالك الملك ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً له من إظهار الشكاية
والوجه الثاني أنه يعلم أن منزل هذا البلاء حكيم لا يجهل وعالم لا يغفل عليم لا ينسى رحيم لا يطغى وإذا كان كذلك فكان كل ما صدر عنه حكمة وصواباً فعند ذلك يسكت ولا يعترض
والوجه الثالث أنه ينكشف له أن هذا البلاء من الحق فاستغراقه في شهود نور المبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء ولذلك قيل المحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والحظ وموصل النصيب لا يكون محبوباً بالذات بل بالعرض فهذا هو الصبر الجميل أما إذا كان الصبر لا لأجل الرضا بقضاء الحق سبحانه بل كان لسائر الأغراض فذلك الصبر لا يكون جميلاً والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات أن كل ما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا وههنا يظهر صدق ما روي في الأثر ( استفت قلبك ولو أفتاك المفتون ) فليتأمل الرجل تأملاً شافياً أن الذي أتى به هل الحاصل والباعث عليه طلب العبودية أم لا فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع ألبتة ولما ذكر يعقوب قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ والمعنى أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا فكأنه وقعت المحاربة بين الصنفين فما لم تحصر إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة فقوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( الفاتحة 5 ) وقوله وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ يجري مجرى قوله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( الفاتحة 5 )
وَجَاءَتْ سَيَّارَة ٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَة ً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَة ٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَاهِدِينَ(18/84)
اعلم أنه تعالى بين كيف سهل السبيل في خلاص يوسف من تلك المحنة فقال وَجَاءتْ سَيَّارَة ٌ يعني رفقة تسير للسفر قال ابن عباس جاءت سيارة أي قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطؤا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق فهبطوا على أرض فيها جب يوسف عليه السلام وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة وقيل كان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقي فيه يوسف عليه السلام فأرسلوا رجلاً يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء والوارد الذي يرد الماء ليستقي القوم فَأَدْلَى دَلْوَهُ ونقل الواحدي عن عامة أهل اللغة أنه يقال أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر ودلاها إذا نزعها من البئر يقال أدلى يدلي إدلاء إذا أرسل ودلا يدلو دلواً إذا جذب وأخرج والدلو معروف والجمع دلاء قَالَ يَاءادَمُ بُشْرى ً هَاذَا غُلاَمٌ وههنا محذوف والتقدير فظهر يوسف قال المفسرون لما أدلى الوارد دلوه وكان يوسف في ناحية من قعر البئر تعلق بالحبل فنظر الوارد إليه ورأى حسنه نادى فقال يا بشرى وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي بُشْرى ً بغير الألف وبسكون الياء والباقون يا بشراي بالألف وفتح الياء على الإضافة
المسألة الثانية في قوله الرّيَاحَ بُشْرى ً قولان
القول الأول أنها كلمة تذكر عند البشارة ونظيره قولهم يا عجباً من كذا وقوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ وعلى هذا القول ففي تفسير النداء وجهان الأول قال الزجاج معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب تنبيه المخاطبين وتوكيد القصة فإذا قلت يا عجباه فكأنك قلت اعجبوا الثاني قال أبو علي كأنه يقول يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن ولأمرت بالحضور
واعلم أن سبب البشارة هو أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن وقالوا نبيعه بثمن عظيم ويصير ذلك سبباً لحصول الغنى
والقول الثاني وهو الذي ذكره السدي أن الذي نادى صاحبه وكان اسمه فقال يا بشرى كما تقول يا زيد وعن الأعمش أنه قال دعا امرأة اسمها بشرى الرّيَاحَ بُشْرى ً قال أبو علي الفارسي إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة وهو الوجه جاز أن يكون في محل الرفع كما قيل يا رجل لاختصاصه بالنداء وجاز أن يكون في موضع النصب على تقدير أنه جعل ذلك النداء شائعاً في جنس البشرى ولم يخص كما تقول يا رجلاً خَامِدُونَ ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ ( يس 30 )
وأما قوله تعالى وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَة ً ففيه مسألتان
المسألة الأولى الضمير في وَأَسَرُّوهُ إلى من يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه في الجب وذلك لأنهم قالوا إن قلنا للسيارة التقطناه شاركونا فيه وإن قلنا اشتريناه سألونا الشركة فالأصوب أن نقول إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر والثاني نقل عن ابن عباس أنه قال وَأَسَرُّوهُ يعني إخوة يوسف أسروا شأنه والمعنى أنهم أخفوا كونه(18/85)
أخاً لهم بل قالوا إنه عبد لنا أبق منا وتابعهم على ذلك يوسف لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية والأول أولى لأن قوله وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَة ً يدل على أن المراد أسروه حال ما حكموا بأنه بضاعة وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف
المسألة الثانية البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت اللحم إذا قطعته قال الزجاج وبضاعة منصوبة على الحال كأنه قال وأسروه حال ما جعلوه بضاعة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ والمراد منه أن يوسف عليه السلام لما رأى الكواكب والشمس والقمر في النوم سجدت له وذكر ذلك حسده إخوته عليه واحتالوا في إبطال ذلك الأمر عليه فأوقعوه في البلاء الشديد حتى لا يتيسر له ذلك المقصود وأنه تعالى جعل وقوعه في ذلك البلاء سبباً إلى وصوله إلى مصر ثم تمادت وقائعه وتتابع الأمر إلى أن صار ملك مصر وحصل ذلك الذي رآه في النوم فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيره الله تعالى سبباً لحصول ذلك المطلوب فلهذا المعنى قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
ثم قال تعالى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَة ٍ أما قوله وَشَرَوْهُ ففيه قولان
القول الأول المراد من الشراء هو البيع وعلى هذا التقدير ففي ذلك البائع قولان
القول الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إن إخوة يوسف لما طرحوا يوسف في الجب ورجعوا عادوا بعد ثلاث يتعرفون خبره فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا هذا عبدنا أبق منا فقالوا لهم فبيعوه منا فباعوه منهم والمراد من قوله وَشَرَوْهُ أي باعوه يقال شريت الشيء إذا بعته وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع لأن الضمير في قوله وَشَرَوْهُ وفي قوله وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ عائد إلى شيء واحد لكن الضمير في قوله وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ عائد إلى الإخوة فكذا في قوله وَشَرَوْهُ يجب أن يكون عائداً إلى الإخوة وإذا كان كذلك فهم باعوه فوجب حمل هذا الشراء على البيع
والقول الثاني أن بائع يوسف هم الذين استخرجوه من البئر وقال محمد بن إسحق ربك أعلم أإخوته باعوه أم السيارة وههنا قول آخر وهو أنه يحتمل أن يقال المراد من الشراء نفس الشراء والمعنى أن القوم اشتروه وكانوا فيه من الزاهدين لأنهم علموا بقائن الحال أن إخوة يوسف كذابون في قولهم إنه عبدنا وربما عرفوا أيضاً أنه ولد يعقوب فكرهوا شراءه خوفاً من الله تعالى ومن ظهور تلك الواقعة إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة لأنهم اشتروه بثمن قليل مع أنهم أظهروا من أنفسهم كونهم فيه من الزاهدين وغرضهم أن يتوصلوا بذلك إلى تقليل الثمن ويحتمل أيضاً أن يقال إن الأخوة لما قالوا إنه عبدنا أبق صار المشتري عديم الرغبة فيه قال مجاهد وكانوا يقولون استوثقوا منه لئلا يأبق
ثم اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث
الصفة الأولى كونه بخساً قال ابن عباس يريد حراماً لأن ثمن الحر حرام وقال كل بخس في كتاب الله نقصان إلا هذا فإنه حرام قال الواحدي سموا الحرام بخساً لأنه ناقص البركة وقال قتادة بخس(18/86)
ظلم والظلم نقصان يقال ظلمه أي نقصه وقال عكرمة والشعبي قليل وقيل ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل كانت الدراهم زيوفاً ناقصة العيار قال الواحدي رحمه الله تعالى وعلى الأقوال كلها فالبخس مصدر وضع موضع الاسم والمعنى بثمن مبخوس
الصفة الثانية قوله دَراهِمَ مَعْدُودَة ٍ قيل تعد عداً ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا إذا بلغ أوقية وهي الأربعون ويعدون ما دونها فقيل للقليل معدود لأن الكثيرة يمتنع من عدها لكثرتها وعن ابن عباس كانت عشرين درهماً وعن السدي اثنين وعشرين درهماً قالوا والإخوة كانوا أحد عشر فكل واحد منهم أخذ درهمين إلا يهوذا لم يأخذ شيئاً
الصفة الثالثة قوله وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه وأصله القلة يقال رجل زهيد إذا كان قليل الطمع وفيه وجوه أحدها أن إخوة يوسف باعوه لأنهم كانوا فيه من الزاهدين والثاني أن السيارة الذين باعوه كانوا فيه من الزاهدين لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بأي شيء يبيعه أو لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم فلا جرم باعوه بأوكس الأثمان والثالث أن الذين اشتروه كانوا فيه من الزاهدين وقد سبق توجيه هذه الأقوال فيما تقدم والضمير في قوله فِيهِ يحتمل أن يكون عائد إلى يوسف عليه السلام ويحتمل أن يكون عائداً إلى الثمن البخس والله أعلم
وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه هناك وقيل إن الذي اشتراه قطفير أو إطفير وهو العزيز الذي كان يلي خزائن مصر والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف عليه السلام فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الملك والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة وقيل كان الملك في أيامه فرعوه موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ ( غافر 34 ) وقيل فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف وقيل اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وفيل أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه ما يساويه في الوزن من المسك والورق والحرير فابتاعه قطفير بذلك الثمن وقالوا اسم تلك المرأة زليخا وقيل راعيل(18/87)
واعلم أن شيئاً من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن ولم يثبت أيضاً في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها
المسألة الثانية قوله أَكْرِمِى مَثْوَاهُ ( يوسف 23 ) أي منزله ومقامه عندك من قولك ثويت بالمكان إذا أقمت به ومصدره الثواء والمعنى اجعلي منزله عندك كريماً حسناً مرضياً بدليل قوله إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ وقال المحققون أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال سلام الله على المجلس العالي ولما أمرها بإكرام مثواه علل ذلك بأن قال عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا أي يقوم بإصلاح مهماتنا أو نتخذه ولداً لأنه كان لا يولد له ولد وكان حصوراً
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجب مكناه بأن عطفنا عليه قلب العزيز حتى توصل بذلك إلى أن صار متمكناً من الأمر والنهي في أرض مصر
واعلم أن الكمالات الحقيقية ليست إلا القدرة والعلم وأنه سبحانه لما حاول إعلاء شأن يوسف ذكره بهذين الوصفين أما تكميله في صفة القدرة والمكنة فإليه الإشارة بقوله مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ وأما تكميله في صفة العلم فإليه الإشارة بقوله وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ وقد تقدم تفسير هذه الكلمة
واعلم أنا ذكرنا أنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا ( يوسف 15 ) وذلك يدل ظاهراً على أنه تعالى أوحى إليه في ذلك الوقت وعندنا الإرهاص جائز فلا يبعد أن يقال إن ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت ما كان لأجل بعثته إلى الخلق بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام ثم إنه تعالى قال ههنا وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ والمراد منه إرساله إلى الخلق بتبليغ التكاليف ودعوة الخلق إلى الدين الحق ويحتمل أيضاً أن يقال إن ذلك الوحي الأول كان لأجل الرسالة والنبوة ويحمل قوله وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ على أنه تعالى أوحى إليه بزيادات ودرجات يصير بها كل يوم أعلى حالاً مما كان قبله وقال ابن مسعود أشد النار فراسة ثلاثة العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا والمرأة لما رأت موسى فقالت إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ ( القصص 26 ) وأبو بكر حين استخلف عمر
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وفيه وجهان الأول غالب على أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه والثاني والله غالب على أمر يوسف يعني أن انتظام أموره كان إلهياً وما كان بسعيه وإخوته أرادوا به كل سوء ومكروه والله أراد به الخير فكان كما أراد الله تعالى ودبر ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله واعلم أن من تأمل في أحوال الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أن الأمر كله لله وأن قضاء الله غالب
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ(18/88)
في الآية مسائل
المسألة الأولى وجه النظم أن يقال بين تعالى أن إخوته لما أساؤا إليه ثم إنه صبر على تلك الشدائد والمحن مكنه الله تعالى في الاْرض ثم لما بلغ أشده آتاه الله الحكم والعلم والمقصود بيان أن جميع ما فاز به من النعم كان كالجزاء على صبره على تلك المحن ومن الناس من قال إن النبوة جزاء على الأعمال الحسنة ومنهم من قال إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى وشكر نعماء الله تعالى وجد منصب الرسالة واحتجوا على صحة قولهم بأنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة
ثم قال تعالى وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وهذا يدل على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف فإن الله يعطيه تلك المناصب وهذا بعيد لاتفاق العلماء على أن النبوة غير مكتسبة
واعلم أن من قال إن يوسف ما كان رسولاً ولا نبياً ألبتة وإنما كان عبداً أطاع الله تعالى فأحسن الله إليه وهذا القول باطل بالإجماع وقال الحسن إنه كان نبياً من الوقت الذي قال الله تعالى في حقه وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا ( يوسف 15 ) وما كان رسولاً ثم إنه صار رسولاً من هذا الوقت أعني قوله وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ( يوسف 22 ) ومنهم من قال إنه كان رسولاً من الوقت الذي ألقى في غيابة الجب
المسألة الثانية قال أبو عبيدة تقول العرب بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان وهذا اللفظ يستعمل في الواحد والجمع يقال بلغ أشده وبلغوا أشدهم وقد ذكرنا تفسير الأشد في سورة الأنعام عند قوله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ( الأنعام 152 ) وأما التفسير فروى ابن جرير عن مجاهد عن ابن عباس ولما بلغ أشده قال ثلاثاً وثلاثين سنة وأقول هذه الرواية شديدة الانطباق على القوانين الطبية وذلك لأن الأطباء قالوا إن الإنسان يحدث في أول الأمر ويتزايد كل يوم شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال ثم يأخذ في التراجع والانتقاص إلى أن لا يبقى منه شيء فكانت حالته شبيهة بحال القمر فإنه يظهر هلالاً ضعيفاً ثم لا يزال يزداد إلى أن يصير بدراً تاماً ثم يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق
إذا عرفت هذا فنقول مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوماً وكسر فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة أيام فلا جرم رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتم له سبع سنين ثم إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوة ثم لا يزال في الترقي إلى أن يتم له أربع عشرة سنة فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثالث وهناك يكمل العقل ويبلغ إلى حد التكليف وتتحرك فيه الشهوة ثم لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتم السنة الحادية والعشرين وهناك يتم الأسبوع الثالث ويدخل في السنة الثانية والعشرين وهذا الأسبوع آخر أسابيع النشوء والنماء فإذا تمت السنة الثامنة والعشرون فقد تمت مدة النشوء والنماء وينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف وهو الزمان الذي يبلغ الإنسان فيه أشده وبتمام هذا الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمسة وثلاثون سنة ثم إن هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان فهذا الأسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدة والكمال يبتدأ من السنة التاسعة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين وقد يمتد إلى الخامسة والثلاثين فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب والله أعلم بحقائق الأشياء
المسألة الثالثة في تفسير الحكم والعلم وفيه أقوال(18/89)
القول الأول أن الحكم والحكمة أصلهما حبس النفس عن هواها ومنعها مما يشينها فالمراد من الحكم الحكمة العملية والمراد من العلم الحكمة النظرية وإنما قدم الحكمة العملية هنا على العملية لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية وأما أصحاب الأفكار العقلية والأنظار الروحانية فإنهم يصلون إلى الحكمة النظرية أولاً ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية وطريقة يوسف عليه السلام هو الأول لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله عليه أبواب المكاشفات فلهذا السبب قال اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا
القول الثاني الحكم هو النبوة لأن النبي يكون حاكماً على الخلق والعلم علم الدين
والقول الثالث يحتمل أن يكون المراد من الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على نفسه الأمارة بالسوء مستعلية عليها قاهرة لها ومتى صارت القوة الشهوانية والغضبية مقهورة ضعيفة فاضت الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس وتحقيق القول في هذا الباب أن جوهر النفس الناطقة خلقت قابلة للمعارف الكلية والأنوار العقلية إلا أنه قد ثبت عندنا بحسب البراهين العقلية وبحسب المكاشفات العلوية أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة بالماهيات فمنها ذكية وبليدة ومنها حرة ونذلة ومنها شريفة وخسيسة ومنها عظيمة الميل إلى عالم الروحانيات وعظيمة الرغبة في الجسمانيات فهذه الأقسام كثيرة وكل واحد من هذه المقامات قابل للأشد والأضعف والأكمل والأنقص فإذا اتفق أن كان جوهر النفس الناطقة جوهراً مشرقاً شريفاً شديد الاستعداد لقبول الأضواء العقلية واللوائح الإلهية فهذه النفس في حال الصغر لا يظهر منها هذه الأحوال لأن النفس الناطقة إنما تقوى على أفعالها بواسطة استعمال الآلات الجسدانية وهذه الآلات في حال الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت فصارت تلك الآلات البدنية صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية وإذا كانت النفس في أصل جوهرها شريفة فعند كمال الآلات البدنية تكمل معارفها وتقوى أنوارها ويعظم لمعان الأضواء فيها فقوله وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية وقوله اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية والله أعلم
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاٌّ بْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن يوسف عليه السلام كان في غاية الجمال والحسن فلما رأته المرأة طمعت فيه ويقال أيضاً إن زوجها كان عاجزاً يقال راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل واحد منها الوطء والجماع وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ والسبب أن ذلك العمل لا يؤتى به إلا في المواضع المستورة لا سيما إذا كان حراماً ومع قيام الخوف الشديد وقوله وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ أي أغلقتها قال الواحدي وأصل هذا من قولهم في كل شيء تشبث في شيء فلزمه قد غلق يقال غلق في الباطل وغلق في غضبه ومنه غلق الرهن(18/90)
ثم يعدى بالألف فيقال أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه قال المفسرون وإنما جاء غلقت على التكثير لأنها غلقت سبعة أبواب ثم دعته إلى نفسها ثم قال تعالى وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي هيت لك اسم للفعل نحو رويداً وصه ومه ومعناه هلم في قول جميع أهل اللغة وقال الأخفش هَيْتَ لَكَ مفتوحة الهاء والتاء ويجوز أيضاً كسر التاء ورفعها قال الواحدي قال أبو الفضل المنذري أفادني ابن التبريزي عن أبي زيد قال هيت لك بالعبرانية هيالح أي تعال عربه القرآن وقال الفراء إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى بكة فتكلموا بها قال ابن الأنباري وهذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في ( القسطاس ) ولغة العرب والفرس في السجيل ولغة العرب والترك في ( الغساق ) ولغة العرب والحبشة في ( ناشئة الليل )
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان هَيْتَ بكسر الهاء وفتح التاء وقرأ ابن كثير هَيْتَ لَكَ مثل حيث وقرأ هشام بن عمار عن أبي عامر أَحْلَلْنَا لَكَ بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء مثل جئت من تهيأت لك والباقون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء ثم إنه تعالى قال إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام قال يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ فقوله مَعَاذَ اللَّهِ أي أعوذ بالله معاذاً والضمير في قوله أَنَّهُ للشأن والحديث رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ أي ربي وسيدي ومالكي أحسن مثواي حين قال لك أكرمي مثواه فلا يليق بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يجازون الإحسان بالإساءة وقيل أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم أو لأن عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه وههنا سؤالات
السؤال الأول أن يوسف عليه السلام كان حراً وما كان عبداً لأحد فقوله إِنَّهُ رَبّى يكون كذباً وذلك ذنب وكبيرة
والجواب أنه عليه السلام أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر وعلى وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً له وأيضاً أنه رباه وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة فعنى بكونه رباً له كونه مربياً له وهذا من باب المعاريض الحسنة فإن أهل الظاهر يحملونه على كونه رباً له وهو كان يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه
السؤال الثاني هل يدل قول يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ على صحة مذهبنا في القضاء والقدر
والجواب أنه يدل عليه دلالة ظاهرة لأن قوله عليه السلام أعوذ بالله معاذاً طلب من الله أن يعيذه من ذلك العمل وتلك الإعاذة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل والآلة وإزاحة الأعذار وإزالة الموانع وفعل الألطاف لأن كل ما كان في مقدور الله تعالى من هذا الباب فقد فعله فيكون ذلك إما طلباً لتحصيل الحاصل أو طلباً لتحصيل الممتنع وأنه محال فعلمنا أن تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة وأن يزيل عن قلبه داعية المعصية وذلك هو المطلوب والدليل على أن المراد ما ذكرناه ما نقل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما وقع بصره على زينب قال ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) وكان المراد منه تقوية داعية الطاعة وإزالة داعية المعصية فكذا ههنا وكذا(18/91)
قوله عليه السلام ( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ) فالمراد من الأصبعين داعية الفعل وداعية الترك وهاتان الداعيتان لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى وإلا لافتقرت إلى داعية أخرى ولزم التسلسل فثبت أن قول يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ من أدل الدلائل على قولنا والله أعلم
السؤال الثالث ذكر يوسف عليه السلام في الجواب عن كلامها ثلاثة أشياء أحدها قوله مَعَاذَ اللَّهِ والثاني قوله تعالى عنه إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ والثالث قوله إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فما وجه تعلق بعض هذا الجواب ببعض
والجواب هذا الترتيب في غاية الحسن وذلك لأن الانقياد لأمر الله تعالى وتكليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه وألطافه في حق العبد فقوله مَعَاذَ اللَّهِ إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل وأيضاً حقوق الخلق واجبة الرعاية فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقي يقبح مقابلة إنعامه وإحسانه بالإساءة وأيضاً صون النفس عن الضرر واجب وهذه اللذة لذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة واللذة القليلة إذا لزمها ضرر شديد فالعقل يقتضي تركها والاحتزاز عنها فقوله إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ إشارة إليه فثبت أن هذه الجوابات الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه الترتيب
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّو ءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى في أنه عليه السلام هل صدر عنه ذنب أم لا وفي هذه المسألة قولان الأول أن يوسف عليه السلام هم بالفاحشة قال الواحدي في كتاب ( البسيط ) قال المفسرون الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضاً بهذه المرأة هما صحيحاً وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه قال جعفر الصادق رضي الله عنه بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال طمعت فيه وطمع فيها فكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن وعنه أيضاً أنها استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب وما ذكر آية يحتج بها ولا حديثاً صحيحاً يعول عليه في تصحيح هذه المقالة وما أمعن النظر في تلك الكلمات العارية عن الفائدة روي أن يوسف عليه السلام لما قال ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف 52 ) قال له جبريل عليه السلام ولا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى ( يوسف 53 ) ثم قال والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء عليهم السلام وارتفاع منازلهم عند الله تعالى من الذين نفوا لهم عنه فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب(18/92)
والقول الثاني أن يوسف عليه السلام كان بريئاً عن العمل الباطل والهم المحرم وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين وبه نقول وعنه نذب
واعلم أن الدلائل الدالة على وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام كثيرة ولقد استقصيناها في سورة البقرة في قصة آدم عليه السلام فلا نعيدها إلا أنا نزيد ههنا وجوهاً
فالحجة الأولى أن الزنا من منكرات الكبائر والخيانة في معرض الأمانة أيضاً من منكرات الذنوب وأيضاً مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضاً من منكرات الذنوب وأيضاً الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكما قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال
إذا ثبت هذا فنقول إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلاما المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة ثم إنه تعالى قال في غير هذه الواقعة كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء ( يوسف 24 ) وذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عنه ولا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع وأفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئاً من السوء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء والفحشاء وأيضاً فالآية تدل على قولنا من وجه آخر وذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم والثناء البالغ فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم الدمائح والأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك الذنب العظيم فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب وأفحش الأعمال ثم إنه يذكره بالمدح العظيم والثناء البالغ عقيبه فإن ذلك يستنكر جداً فكذا ههنا والله أعلم الثالث أن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع ولو كان يوسف عليه السلام أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية الرابع أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام من المعصية
واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف عليه السلام وتلك المرأة وزوجها والنسوة والشهود ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب وإبليس أقر ببراءته أيضاً عن المعصية وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى ( يوسف 26 ) وقوله عليه السلام رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ ( يوسف 33 ) وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ( يوسف 32 ) وأيضاً قالت قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ ( يوسف 51 ) وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك فهو قوله إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ ( يوسف 28 29 )(18/93)
وأما الشهود فقوله تعالى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ( يوسف 26 ) وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( يوسف 24 ) فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات أولها قوله لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء واللام للتأكيد والمبالغة والثاني قوله وَالْفَحْشَاء أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء والثالث قوله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا مع أنه تعالى قال وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) والرابع قوله الْمُخْلَصِينَ وفيه قراءتان تارة باسم الفاعل وأخرى باسم المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الأخلاص ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته فلأنه قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ( ص 82 83 ) فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى ( ص 82 83 ) فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ فكان هذا إقراراً من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى وعند هذا نقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة كما قال الخوارزمي فوكنت امرأ من جند إبليس فارتقى
بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده
طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فثبت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام برىء عما يقوله هؤلاء الجهال
وإذا عرفت هذا فنقول الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين
المقام الأول أن نقول لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم بها والدليل عليه أنه تعالى قال وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ وجواب لَوْلاَ ههنا مقدم وهو كما يقال قد كنت من الهالكين لولا أن فلاناً خلصك وطعن الزجاج في هذا الجواب من وجهين الأول أن تقديم جواب لَوْلاَ شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح الثاني أن لَوْلاَ يجاب جوابها باللام فلو كان الأمر على ما ذكرتم لقال ولقد همت ولهم بها لولا وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً وهو أنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ فائدة
واعلم أن ما ذكره الزجاج بعيد لأنا نسلم أن تأخير جواب لَوْلاَ حسن جائز إلا أن جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب وكيف ونقل عن سيبويه أنه قال إنهم يقدمون الأهم فالأهم والذي هم بشأنه أعنى فكان الأمر في جواز التقديم والتأخير مربوطاً بشدة الاهتمام وأما تعيين بعض الألفاظ بالمنع فذلك مما لا يليق بالحكمة وأيضاً ذكر جواب لَوْلاَ باللام جائز أما هذا لا يدل على أن ذكره بغير اللام لا يجوز ثم إنا نذكر آية أخرى تدل على فساد قول الزجاج في هذين السؤالين وهو قوله تعالى إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ( القصص 10 )(18/94)
وأما السؤال الثالث وهو أنه لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ فائدة فنقول بل فيه أعظم الفوائد وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعدم قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ثم نقول إن الذي يدل على أن جواب لَوْلاَ ما ذكرناه أن لَوْلاَ تستدعي جواباً وهذا المذكور يصلح جواباً له فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال إنا نضمر له جواباً وترك الجواب كثير في القرآن لأنا نقول لا نزاع أنه كثير في القرآن إلا أن الأصل أن لا يكون محذوفاً وأيضاً فالجواب إنما يحسن تركه وحذفه إذا حصل في اللفظ ما يدل على تعينه وههنا بتقدير أن يكون الجواب محذوفاً فليس في اللفظ ما يدل على تعين ذلك الجواب فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات يحسن إضمار كل واحد منها وليس إضمار بعضها أولى من إضمار الباقي فظهر الفرق والله أعلم
المقام الثاني في الكلام على هذه الآية أن نقول سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول إن قوله وَهَمَّ بِهَا لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال لأن الهم من جنس القصد والقصد لا يتعلق بالذوات الباقية فثبت أنه لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم وذلك الفعل غير مذكور فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وبيانه من وجوه الأول المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأن الهم هو القصد فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتنعيم والتمتع واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته وإلى الأمر بالمعروف النهي عن المنكر يقال هممت بفلان أي بضربه ودفعه
فإن قالوا فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ فائدة
قلنا بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صوناً للنفس عن الهلاك والثاني أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن ولو كان ثوبه ممزقاً من خلف لكانت المرأة هي الخائنة فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هارباً عنها حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية
الوجه الثاني في الجواب أن يفسر الهم بالشهوة وهذا مستعمل في اللغة الشائعة يقول القائل فيما لا يشتهيه مايهمني هذا وفيما يشتهيه هذا أهم الأشياء إلي فسمى الله تعالى شهوة يوسف عليه السلام هماً فمعنى الآية ولقد اشتهته واشتهاها لولا أن رأى برهان ربه لدخل ذلك العمل في الوجود الثالث أن يفسر الهم بحديث النفس وذلك لأن المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلا بد وأن يقع هناك بين الحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات فتارة تقوى داعية الطبيعة والشهوة وتارة تقوى داعية العقل والحكمة فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية ومثال ذلك أن الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف إذا رأى الجلاب المبرد بالثلج فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أن دينه وهداه يمنعه منه فهذا لا يدل على حصول(18/95)
الذنب بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل فقد ظهر بحمد الله تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين
واعلم أن بعض الحشوية روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ) فقلت الأولى أن لا نقبل مثل هذه الأخبار فقار على طريق الاستنكار فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت له يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عليه السلام عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب
إذا عرفت هذا الأصل فنقول للواحدي ومن الذي يضمن لنا أن الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين والله أعلم
المسألة الثانية في أن المراد بذلك البرهان ما هو أما المحققون المثبون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان بوجوه الأول أنه حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب والثاني أن الله تعالى طهر نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة بل نقول إنه تعالى طهر نفوس المتصلين به عنها كما قال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) فالمراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات والثالث أنه رأى مكتوباً في سقف البيت وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَسَاء سَبِيلاً ( الإسراء 32 ) والرابع أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش والدليل عليه أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا لمنع الخلق عن القبائح والفضائح فلو أنهم منعوا الناس عنها ثم أقدموا على أقبح أنواعها وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى الْحَكِيمُ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 3 ) وأيضاً أن الله تعالى عير اليهود بقوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 44 ) وما يكون عيباً في حق اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد بالمعجزات
وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه السلام فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أموراً الأول قالوا إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف لم فعلت ذلك قالت أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصية فقال يوسف أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فوالله لا أفعل ذلك أبداً قالوا فهذا هو البرهان الثاني نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تمثل له يعقوب فرآه عاضاً على أصابعه ويقول له أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء فاستحى منه قال وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين قال سعيد بن جبير تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله والثالث قالوا إنه سمع في الهواء قائلاً يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنا ذهب ريشه والرابع نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لم ينزجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل عليه السلام فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج ولما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف وقال هذا الذي ذكرناه قول أئمة التفسير الذين أخذوا التأويل عمن شاهد(18/96)
التنزيل فيقال له إنك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها فأين هذا من الحجة والدليل وأيضاً فإن ترادف الدلائل على الشيء الواحد جائز وأنه عليه الصلاة والسلام كان ممتنعاً عن الزنا بحسب الدلائل الأصلية فلما انضاف إليها هذه الزواجر قوي الانزجار وكمل الاحتراز والعجب أنهم نقلوا أن جرواً دخل حجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبقي هناك بغير عمله قالوا فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول عليه أربعين يوماً وههنا زعموا أن يوسف عليه السلام حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل عليه السلام والعجب أنهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام ولو أن أفسق الخلق وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة فإذا دخل عليه رجل على زي الصالحين استحيا منه وفر وترك ذلك العمل وههنا أنه رأى يعقوب عليه السلام عض على أنامله فلم يلتفت إليه ثم إن جبريل عليه السلام على جلالة قدره دخل عليه فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بسبب حضوره حتى احتاج جبريل عليه السلام إلى أن يركضه على ظهره فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين والخذلان في طلب اليقين فهذا هو الكلام المخلص في هذه المسألة والله أعلم
المسألة الثالثة في الفرق بين السوء والفحشاء وفيه وجوه الأول أن السوء جناية اليد والفحشاء هو الزنا الثاني السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة والفحشاء هو الزنا أما قوله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى ومن فتح اللام أراد الذين خلصهم الله من الأسواء ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذي قال الله فيهم إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَة ٍ ( ص 46 )
المسألة الرابعة قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو الْمُخْلَصِينَ بكسر اللام في جميع القرآن والباقون بفتح اللام
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُو ءًا إِلاَ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنها أنها هَمَّتْ أتبعه بكيفية طلبها وهربه فقال وَاسُتَبَقَا الْبَابَ والمراد أنه(18/97)
هرب منها وحاول الخروج من الباب وعدت المرأة خلفه لتجذبه إلى نفسها والاستباق طلب السبق إلى الشيء ومعناه تبادر إلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه فإن سبق يوسف فتح الباب وخرج وإن سبقت المرأة أمسكت الباب لئلا يخرج وقوله وَاسُتَبَقَا الْبَابَ أي استبقا إلى الباب كقوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ( الأعراف 155 ) أي من قومه
واعلم أن يوسف عليه السلام سبقها إلى الباب وأراد الخروج والمرأة تعدو خلقه فلم تصل إلا إلى دبر القميص فقدته أي قطعته طولاً وفي ذلك الوقت حضر زوجها وهو المراد من قوله وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ أي صادفا بعلها تقول المرأة لبعلها سيدي وإنما لم يقل سيدهما لأن يوسف عليه السلام ما كان مملوكاً لذلك الرجل في الحقيقة فعند ذلك خافت المرأة من التهمة فبادرت إلى أن رمت يوسف بالفعل القبيح وقالت مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ والمعنى ظاهر وفي الآية لطائف إحداها أن ( ما ) يحتمل أن تكون نافية أي ليس جزاؤه إلا السجن ويجوز أيضاً أن تكون استفهامية يعني أي شيء جزاؤه إلا أن يسجن كما تقول من في الدار إلا زيد وثانيها أن حبها الشديد ليوسف حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن وأخرت ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب وأيضاً أنها لم تذكر أن يوسف يجب أن يعامل بأحد هذين الأمرين بل ذكرت ذلك ذكراً كلياً صوناً للمحبوب عن الذكر بالسوء والألم وأيضاً قالت إِلا أَن يُسْجَنَ والمراد أن يسجن يوماً أو أقل على سبيل التخفيف
فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر بهذه العبارة بل يقال يجب أن يجعل من المسجونين ألا ترى أن فرعون هكذا قال حين تهدد موسى عليه السلام في قوله لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( الشعراء 29 ) وثالثها أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها أنه كان في عنفوان العمر وكمال القوة ونهاية الشهوة عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول إن يوسف عليه السلام قصدني بالسوء وما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض فانظر إلى تلك المرأة ما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب وأن هؤلاء الحشوية يرمونه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بهذا الذنب القبيح ورابعها أن يوسف عليه السلام أراد يضربها ويدفعها عن نفسه وكان ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السوء فقولها مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ جارياً مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي
واعلم أن المرأة لما ذكرت هذا الكلام ولطخت عرض يوسف عليه السلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال هي راودتني عن نفسي وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر
واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق فالأول أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه والثالث أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه وأما يوسف عليه السلام فما كان(18/98)
عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى الرابع أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك أيضاً مما يقوي الظن الخامس أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف السادس قيل إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله هي راودتني عن نفسي وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر
واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق فالأول أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه والثالث أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى الرابع أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك أيضاً مما يقوي الظن الخامس أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف السادس قيل إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر
واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق فالأول أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه والثالث أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى الرابع أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك أيضاً مما يقوي الظن الخامس أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف السادس قيل إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا وفي هذا الشاهد ثلاثة أقوال الأول أنه كان لها ابن عم وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت أنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه قال ابن عمها إِنَّهُ مِنَ كَيْدَكُمْ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ أي من عملكن ثم قال ليوسف أعرض عن هذا واكتمه وقال لها استغفري لذنبك وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين والثاني وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك إن ذلك الشاهد كان صبياً أنطقه الله تعالى في المهد فقال ابن عباس تكلم في المهد أربعة صغار شاهد يوسف وابن ماشطة بنت فرعون وعيسى بن مريم وصاحب جريج الراهب قال الجبائي والقول الأول أولى لوجوه الأول أنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافياً وبرهاناً قاطعاً لأنه من البراهين القاطعة القاهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز الثاني أنه تعالى قال وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا وإنما قال من أهلها ليكون أولى بالقبول في حق المرأة لأن الظاهر من حال من يكون من أقرباء المرأة ومن أهلها أن لا يقصدها بالسوء والإضرار فالمقصود بذكر كون ذلك الرجل من أهلها تقوية قول ذلك الرجل وهذه الترجيحات إنما يصار إليها عند كون الدلالة ظنية ولو كان هذا القول صادراً عن الصبي الذي في المهد لكان قوله حجة قاطعة ولا يتفاوت الحال بين أن يكون من أهلها وبين أن لا يكون من أهلها وحينئذ لا يبقى لهذا القيد أثر والثالث أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا على من تقدمت له معرفة بالواقعة وإحاطة بها
والقول الثالث أن ذلك الشاهد هو القميص قال مجاهد الشاهد كون قميصه مشقوقاً من دبر وهذا في غاية الضعف لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل واعلم أن القول الأول عليه أيضاً إشكال وذلك لأن العلامة المذكورة لا تدل قطعاً على براءة يوسف عليه السلام عن المعصية لأن من المحتمل أن الرجل قصد المرأة لطلب الزنا فالمرأة غضبت عليه فهرب الرجل فعدت المرأة خلف الرجل وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً فعلى هذا الوجه يكون القميص متخرقاً من دبر مع أن المرأة تكون برية عن الذنب والرجل يكون مذنباً(18/99)
وجوابه أنا بينا أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعولوا في الحكم عليها بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقويات والمرجحات
ثم إنه تعالى أخبر وقال فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ وذلك يحتمل السيد الذي هو زوجها ويحتمل الشاهد فلذلك اختلفوا فيه قال إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ أي أن قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً من كيدكن إن كيدكن عظيم
فإن قيل إنه تعالى لما خلق الإنسان ضعيفاً فكيف وصف كيد المرأة بالعظم وأيضاً فكيد الرجال قد يزيد على كيد النساء
والجواب عن الأول أن خلقة الإنسان بالنسبة إلى خلقة الملائكة والسموات والكواكب خلقة ضعيفة وكيد النسوات بالنسبة إلى كيد البشر عظيم ولا منافاة بين القولين وأيضاً فالنساء لهن في هذا الباب من المكر والحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال
واعلم أنه لما ظهر للقوم براءة يوسف عليه السلام عن ذلك الفعل المنكر حكى تعالى عنه أنه قال يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا فقيل إن هذا من قول العزيز وقيل إنه من قول الشاهد ومعناه أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها وكما أمر يوسف بكتمان هذه الواقعة أمر المرأة بالاستغفار فقال وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ وظاهر ذلك طلب المغفرة ويحتمل أن يكون المراد من الزوج ويكون معنى المغفرة العفو والصفح وعلى هذا التقدير فالأقرب أن قائل هذا القول هو الشاهد ويحتمل أن يكون المراد بالاستغفار من الله لأن أولئك الأقوام كانوا يثبتون الصانع إلا أنهم مع ذلك كانوا يعبدون الأوثان بدليل أن يوسف عليه السلام قال مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا ( يوسف 29 ) وعلى هذا التقدير فيجوز أن يكون القائل هو الزوج وقوله إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ نسبة لها إلى أنها كانت كثيرة الخطأ فيما تقدم وهذا أحد ما يدل على أن الزوج عرف في أول الأمر أن الذنب للمرأة لا ليوسف لأنه كان يعرف عنها إقدامها على ما لا ينبغي وقال أبو بكر الأصم إن ذلك لزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار قال صاحب ( الكشاف ) وإنما قال من الخاطئين بلفظ التذكير تغليباً للذكور على الإناث ويحتمل أن يقال المراد إنك من نسل الخاطئين فمن ذلك النسل سرى هذا العرق الخبيث فيك والله أعلم
وَقَالَ نِسْوَة ٌ فِى الْمَدِينَة ِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَة ٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ(18/100)
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لم لم يقل وَقَالَتِ نِسْوَة ٌ قلنا لوجهين الأول أن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث الثاني قال الواحدي تقديم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع
المسألة الثانية قال الكلبي هن أربع امرأة ساقي العزيز وامرأة خبازه وامرأة صاحب سجنه وامرأة صاحب دوابه وزاد مقاتل وامرأة الحاجب والأشبه أن تلك الواقعة شاعت في البلد واشتهرت وتحدث بها النساء وامرأة العزيز هي هذه المرأة المعلومة تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ الفتى الحدث الشاب والفتاة الجارية الشابة قَدْ شَغَفَهَا حُبّا وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن الشغاف فيه وجوه الأول أن الشغاف جلدة محيطة بالقلب يقال لها غلاف القلب يقال شغفت فلاناً إذا أصبت شغافه كما تقول كبدته أي أصبت كبده فقوله شَغَفَهَا حُبّا أي دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب والثاني أن حبه أحاط بقلبها مثل إحاطة الشغاف بالقلب ومعنى إحاطة ذلك الحب بقلبها هو أن اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا تعقل سواه ولا يخطر ببالها إلا إياه والثالث قال الزجاج الشغاف حبة القلب وسويداء القلب والمعنى أنه وصل حبه إلى سويداء قلبها وبالجملة فهذا كناية عن الحب الشديد والعشق العظيم
المسألة الثانية قرأ جماعة من الصحابة والتابعين شعفها بالعين قال ابن السكيت يقال شعفه الهوى إذا بلغ إلى حد الاحتراق وشعف الهناء البعير إذا بلغ منه الألم إلى حد الاحتراق وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى فقال الشعف بالعين إحراق الحب القلب مع لذة يجدها كما أن البعير إذا هنىء بالقطران يبلغ منه مثل ذلك ثم يستروح إليه وقال ابن الأنباري الشعف رؤوس الجبال ومعنى شعف بفلان إذا ارتفع حبه إلى أعلى المواضع من قلبه
المسألة الثالثة قوله حبها نصب على التمييز
ثم قال حُبّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ أي في ضلال عن طريق الرشد بسبب حبها إياه كقوله إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ ( يوسف 8 )
ثم قال تعالى فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المراد من قوله فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أنها سمعت قولهن وإنما سمي قولهن مكراً لوجوه الأول أن النسوة إنما ذكرت ذلك الكلام استدعاء لرؤية يوسف عليه السلام والنظر إلى وجهه لأنهن عرفن أنهن إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهن ليتمهد عذرها عندهن الثاني أن امرأة العزيز أسرت إليهن حبها ليوسف وطلبت منهن كتمان هذا السر فلما أظهرن السر كان ذلك غدراً ومكراً الثالث أنهن وقعن في غيبتها والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر
المسألة الثانية أنها لما سمعت أنهن يلمنها على تلك المحبة المفرطة أرادت إبداء عذرها فاتخذت(18/101)
مائدة ودعت جماعة من أكابرهن وأعتدت لهن متكأ وفي تفسيره وجوه الأول المتكأ النمرق الذي يتكأ عليه الثاني أن المتكأ هو الطعام قال العتبي والأصل فيه أن من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له وسادة تسمى الطعام متكأ على الاستعارة والثالث متكأ أترجاً وهو قول وهب وأنكر أبو عبيد ذلك ولكنه محمول على أنها وضعت عندهن أنواع الفاكهة في ذلك المجلس والرابع متكأ طعاماً يحتاج إلى أن يقطع بالسكين لأن الطعام متى كان كذلك احتاج الإنسان إلى أن يتكأ عليه عند القطع ثم نقول حاصل ذلك أنها دعت أولئك النسوة وأعدت لكل واحدة منهن مجلساً معيناً وآتت كل واحدة منهن سكيناً أي لأجل أكل الفاكهة أو لأجل قطع اللحم ثم إنها أمرت يوسف عليه السلام بأن يخرج إليهن ويعبر عليهن وأنه عليه السلام ما قدر على مخالتها خوفاً منها فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وههنا مسائل
المسألة الأولى في أَكْبَرْنَهُ قولان الأول أعظمنه والثاني أكبرن بمعنى حضن قال الأزهري والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا حاضت وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر وفيه وجه آخر وهو أن المرأة إذا خافت وفزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت فإن صح تفسير الإكبار بالحيض فالسبب فيه ما ذكرناه وقوله قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ كناية عن دهشتهن وحيرتهن والسبب في حسن هذه الكناية أنها لما دهشت فكانت تظن أنها تقطع الفاكهة وكانت تقطع يد نفسها أو يقال إنها لما دهشت صارت بحيث لا تميز نصابها من حديدها وكانت تأخذ الجانب الحاد من ذلك السكين بكفها فكان يحصل الجراحة في كفها
المسألة الثالثة اتفق الأكثرون على أنهن إنما أكبرنه بحسب الجمال الفائق والحسن الكامل قيل كان فضل يوسف على الناس في الفضل والحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مررت بيوسف عليه السلام ليلة عرج بي إلى السماء فقلت لجبريل عليه السلام من هذا فقال هذا يوسف فقيل يا رسول الله كيف رأيته قال كالقمر ليلة البدر ) وقيل كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من السماء عليها وقيل كان يشبه آدم يوم خلقه ربه وهذا القول هو الذي اتفقوا عليه وعندي أنه يحتمل وجهاً آخر وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة وآثار الخضوع والاحتشام وشاهدن منها مهابة النبوة وهيئة الملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهن وكان الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة والهيئة فتعجبن من تلك الحالة فلا جرم أكبرنه وعظمنه ووقع الرعب والمهابة منه في قلوبهن وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه أولى
فإن قيل فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينطبق على هذا التأويل قولها فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوة العشق وإفراط المحبة
قلنا قد تقرر أن الممنوع متبوع فكأنها قالت لهن مع هذا الخلق العجيب وهذه السيرة الملكية الطاهرة المطهرة فحسنه يوجب الحب الشديد وسيرته الملكية توجب اليأس عن الوصول إليه فلهذا السبب وقعت في المحبة والحسرة والأرق والقلق وهذا الوجه في تأويل الآية أحسن والله أعلم
المسألة الثالثة قرأ أبو عمرو وَقُلْنَ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ بإثبات الألف بعد الشين وهي رواية الأصمعي عن نافع(18/102)
وهي الأصل لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد والباقون بحذف الألف للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعاً للمصحف ( وحاشا ) كلمة يفيد معنى التنزيه والمعنى ههنا تنزيه الله تعالى من المعجز حيث قدر على خلق جميل مثله أما قوله حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله
المسألة الرابعة قوله مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ فيه وجهان
الوجه الأول وهو المشهور أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له قالوا لأنه تعالى ركز في الطباع أن لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان ولذلك قال تعالى في صفة جهنم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطِينِ ( الصافات 65 ) وذلك لما ذكرنا أنه تقرر في الطباع أن أقبح الأشياء هو الشيطان فكذا ههنا تقرر في الطباع أن أحسن الأحياء هو الملك فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف عليه السلام بالحسن لا جرم شبهنه بالملك
والوجه الثاني وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة وجواذب الغضب ونوازع الوهم والخيال فطعامهم توحيد الله تعالى وشرابهم الثناء على الله تعالى ثم إن النسوة لما رأين يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن ألبتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثراً من أثر الشهوة ولا شيئاً من البشرية ولا صفة من الإنسانية فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية
فإن قالوا فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة فالجواب قد سبق والله أعلم
المسألة الخامسة القائلون بأن الملك أفضل من البشر احتجوا بهذه الآية فقالوا لا شك إنهن إنما ذكرت هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف عليه السلام فوجب أن يكون إخراجه من البشرية وإدخاله في الملكية سبباً لتعظيم شأنه وإعلاء مرتبته وإنما يكون الأمر كذلك لو كان الملك أعلى حالاً من البشر ثم نقول لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الظاهر أو كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الباطن والأول باطل لوجهين الأول أنهم وصفوه بكونه كريماً وإنما يكون كريماً بسبب الأخلاق الباطنة لا بسبب الخلقة الظاهرة والثاني أنا نعلم بالضرورة أن وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة ألبتة أما كونه بعيداً عن الشهوة والغضب معرضاً عن اللذات الجسمانية متوجهاً إلى عبودية الله تعالى مستغرق القلب والروح فيه فهو أمر مشترك فيه بين الإنسان الكامل وبين الملائكة
وإذا ثبت هذا فنقول تشبيه الإنسان بالملك في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل المشابهة فيه ألبتة فثبت أن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في هذه الآية إنما وقع في الخلق الباطن لا في الصورة الظاهرة وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان من هذه الفضائل فثبت أن الملك أفضل من البشر والله أعلم
المسألة السادسة لغة أهل الحجاز إعمال ( ما ) عمل ليس وبها ورد قوله مَا هَاذَا بَشَرًا ومنها قوله مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ( المجادلة 2 )(18/103)
ومن قرأ على لغة بني تميم قرأ مَا هَاذَا بَشَرًا وهي قراءة ابن مسعود وقرىء مَا هَاذَا بَشَرًا أي ما هو بعبد مملوك للبشر إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ثم نقول ما هذا بشراً أي حاصل بشراً بمعنى هذا مشترى وتقول هذا لك بشراً أم بكراً والقراءة المعتبرة هي الأولى لموافقتها المصحف ولمقابلة البشر للملك
قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ
اعلم أن النسوة لما قلن في امرأة العزيز قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين عظم ذلك عليها فجمعتهن فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فعند ذلك ذكرت أنهن باللوم أحق لأنهن بنظرة واحدة لحقهن أعظم مما نالها مع أنه طال مكثه عندها
فإن قيل فلم قالت فَذالِكُنَّ مع أن يوسف عليه السلام كان حاضراً
والجواب عنه من وجوه الأول قال ابن الأنباري أشارت بصيغة ذلكن إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس والثاني وهو الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أحسن ما قيل إن النسوة كن يقلن إنها عشقت عبدها الكنعاني فلما رأينه ووقعن في تلك الدهشة قالت هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني فيه يعني أنكن لم تتصورنه حق تصوره ولو حصلت في خيالكن صورته لتركتن هذه الملامة
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ
واعلم أن هذا تصريح بأنه عليه السلام كان بريئاً عن تلك التهمة وعن السدي أنه قال فَاسَتَعْصَمَ بعد حل السراويل وما الذي يحمله على إلحاق هذه الزيادة الفاسدة الباطلة بنص الكتاب
ثم قال وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصَّاغِرِينَ والمراد أن يوسف عليه السلام إن لم يوافقها على مرادها يوقع في السجن وفي الصغار ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس عظيم الخطر مثل يوسف عليه السلام وقوله وَلَيَكُونًا كان حمزة والكسائي يقفان على وَلَيَكُونًا بالألف وكذلك قوله لَنَسْفَعاً ( العلق 15 ) والله أعلم
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(18/104)
واعلم أن المرأة لما قالت وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصَّاغِرِينَ ( يوسف 32 ) وسائر النسوة سمعن هذا التهديد فالظاهر أنهن اجتمعن على يوسف عليه السلام وقلن لا مصلحة لك في مخالفة أمرها وإلا وقعت في السجن وفي الصغار فعند ذلك اجتمع في حق يوسف عليه السلام أنواع من الوسوسة أحدها أن زليخا كانت في غاية الحسن والثاني أنها كانت ذات مال وثروة وكانت على عزم أن تبذل الكل ليوسف بتقدير أن يساعدها على مطلوبها والثالث أن النسوة اجتمعن عليه وكل واحدة منهن كانت ترغبه وتخوفه بطريق آخر ومكر النساء في هذا الباب شديد والرابع أنه عليه السلام كان خائفاً من شرها وإقدامها على قتله وإهلاكه فاجتمع في حق يوسف جميع جهات الترغيب على موافقتها وجميع جهات التخويف على مخالفتها فخاف عليه السلام أن تؤثر هذه الأسباب القوية الكثيرة فيه
واعلم أن القوة البشرية والطاقة الإنسانية لا تفي بحصول هذه العصمة القوية فعند هذا التجأ إلى الله تعالى وقال رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وقرىء السّجْنِ بالفتح على المصدر وفيه سؤالان
السؤال الأول السجن في غاية المكروهية وما دعونه إليه في غاية المطلوبية فكيف قال المشقة أحب إلي من اللذة
والجواب أن تلك اللذة كانت تستعقب آلاماً عظيمة وهي الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة وذلك المكروه وهو اختيار السجن كان يستعقب سعادات عظيمة وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة فلهذا السبب قال السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ
السؤال الثاني أن حبسهم له معصية كما أن الزنا معصية فكيف يجوز أن يحب السجن مع أنه معصية
والجواب تقدير الكلام أنه إذا كان لا بد من التزام أحد الأمرين أعني الزنا والسجن فهذا أولى لأنه متى وجب التزام أحد شيئين كل واحد منهما شر فأخفهما أولاهما بالتحمل
ثم قال وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ أصب إليهن أمل إليهن يقال صبا إلى اللهو يصبو صبواً إذا مال واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإنسان لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى عنها قالوا لأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إن لم يصرفه عن ذلك القبيح وقع فيه وتقريره أن القدرة والداعي إلى الفعل والترك إن استويا امتنع الفعل لأن الفعل رجحان لأحد الطرفين ومرجوحية للطرف الآخر وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين وهو محال وإن حصل الرجحان في أحد الطرفين فذلك الرجحان ليس من العبد وإلا لذهبت المراتب إلى غير النهاية بل هو من الله تعالى فالصرف عبارة عن جعله مرجوحاً لأنه متى صار مرجوحاً صار ممتنع الوقوع لأن الوقوع رجحان فلو وقع حال المرجوحية لحصل الرجحان حال حصول المرجوحية وهو يقتضي حصول الجمع بين النقيضين وهو محال(18/105)
فثبت بهذا أن انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من الله تعالى ويمكن تقرير هذا الكلام من وجه آخر وهو أنه كان قد حصل في حق يوسف عليه السلام جميع الأسباب المرغبة في تلك المعصية وهو الانتفاع بالمال والجاه والتمتع بالمنكوح والمطعوم وحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفرة ومتى كان الأمر كذلك فقد قويت الدواعي في الفعل وضعفت الدواعي في الترك فطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحدث في قلبه أنواعاً من الدواعي المعارضة النافية لدواعي المعصية إذ لو لم يحصل هذا المعارض لحصل المرجح للوقوع في المعصية خالياً عما يعارضه وذلك يوجب وقوع الفعل وهو المراد بقوله أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن زوج المرأة لما ظهر له براءة ساحة يوسف عليه السلام فلا جرم لم يتعرض له فاحتالت المرأة بعد ذلك بجميع الحيل حتى تحمل يوسف عليه السلام على موافقتها على مرادها فلم يلتفت يوسف إليها فلما أيست منه احتالت في طريق آخر وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فهذا هو المراد من قوله ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ لأن البداء عبارة عن تغير الرأي عما كان عليه في الأول والمراد من الآيات براءته بقد القميص من دبر وخمش الوجه وإلزام الحكم أياها بقوله إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( يوسف 28 ) وذكرنا أنه ظهرت هناك أنواع أخر من الآيات بلغت مبلغ القطع ولكن القوم سكتوا عنها سعياً في إخفاء الفضيحة
المسألة الثالثة قوله بدالهم فعل وفاعله في هذا الموضع قوله الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ وظاهر هذا الكلام يقتضي إسناد الفعل إلى فعل آخر إلا أن النحويين اتفقوا على أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يجوز فإذا قلت خرج ضرب لم يفد ألبتة فعند هذا قالوا تقدير الكلام ثم بدا لهم سجنه إلا أنه أقيم هذا الفعل مقام ذلك الاسم وأقول الذوق يشهد بأن جعل الفعل مخبر عنه لا يجوز وليس لأحد أن يقول الفعل خبراً فجعل الخبر مخبراً عنه لا يجوز لأنا نقول الاسم قد يكون خبراً كقولك زيد قائم فقائم اسم وخبر فعلمنا أن كون الشيء خبراً لا ينافي كونه مخبراً عنه بل نقول في هذا المقام شكوك أحدها أنا إذا قلنا ضرب فعل(18/106)
فالمخبر عنه بأنه فعل هو ضرب فالفعل صار مخبراً عنه
فإن قالوا المخبر عنه هو هذه الصيغة وهي اسم فنقول فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل اسم لا فعل وذلك كذب وباطل بل نقول المخبر عنه بأنه فعل إن كان فعلاً فقد ثبت أن الفعل يصح الإخبار عنه وإن كان اسماً كان معناه أنا أخبرنا عن الاسم بأنه فعل ومعلوم أنه باطل وفي هذا الباب مباحث عميقة ذكرناها في ( كتب المعقولات )
المسألة الثالثة قال أهل اللغة الحين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه وعلى الطويل وقال ابن عباس يريد إلى انقطاع المقالة وما شاع في المدينة من الفاحشة ثم قيل الحين ههنا خمس سنين وقيل بل سبع سنين وقال مقاتل بن سليمان حبس يوسف اثنتي عشر سنة والصحيح أن هذه المقادير غير معلومة وإنما القدر المعلوم أنه بقي محبوساً مدة طويلة لقوله تعالى وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ ( يوسف 45 )
أما قوله تعالى وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ فههنا محذوف والتقدير لما أرادوا حبسه حبسوه وحذف ذلك لدلالة قوله وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ عليه قيل هما غلامان كانا للملك الأكبر بمصر أحدهما صاحب طعامه والآخر صاحب شرابه رفع إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه وظن أن الآخر يساعده عليه فأمر بحبسهما بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول كيف عرفا أنه عليه السلام عالم بالتعبير
والجواب لعله عليه السلام سألهما عن حزنهما وغمهما فذكرا إنا رأينا في المنام هذه الرؤيا ويحتمل أنهما رأياه وقد أظهر معرفته بأمور منها تعبير الرؤيا فعندها ذكرا له ذلك
السؤال الثاني كيف عرف أنهما كانا عبدين للملك
الجواب لقوله فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا ( يوسف 41 ) أي مولاه ولقوله اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ( يوسف 42 )
السؤال الثالث كيف عرف أن أحدهما صاحب شراب الملك والآخر صاحب طعامه
والجواب رؤيا كل واحد منهما تناسب حرفته لأن أحدهما رأى أنه يعصر الخمر والآخر كأنه يحمل فوق رأسه خبزاً
السؤال الرابع كيف وقعت رؤية المنام
والجواب فيه قولان
القول الأول أن يوسف عليه السلام لما دخل السجن قال لأهله إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتيين هلم فلنخبر هذا العبد العبراني برؤيا نخترعها له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئاً قال ابن مسعود ما كانا رأيا شيئاً وإنما تحالما ليختبرا علمه
والقول الثاني قال مجاهد كانا قد رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف عليه السلام فسألاه عنها(18/107)
فقال الساقي أيها العالم إني رأيت كأني في بستان فإذا بأصل عنبة حسنة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكأن كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيتها الملك فشربه فذلك قوله إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وقال صاحب الطعام إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها خبز وألوان وأطعمه وإذا سباع الطير تنهش منه فذلك قوله تعالى وَقَالَ الآخَرُ إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ
السؤال الخامس كيف عرف يوسف عليه السلام أن المراد من قوله إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا رؤيا المنام
الجواب لوجوه الأول أنه لو لم يقصد النوم كان ذكر قوله أَعْصِرُ يغنيه عن ذكر قوله أَرَانِى والثاني دل عليه قوله نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ( يوسف 36 )
السؤال السادس كيف يعقل عصر الخمر
الجواب فيه ثلاثة أقوال أحدها أن يكون المعنى أعصر عنب خمر أي العنب الذي يكون عصيره خمراً فحذف المضاف الثاني أن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤل إليه إذا انكشف المعنى ولم يلتبس يقولون فلان يطبخ دبساً وهو يطبخ عصيراً والثالث قال أبو صالح أهل عمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها قال الضحاك نزل القرآن بألسنة جميع العرب
السؤال السابع ما معنى التأويل في قوله نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ
الجواب تأويل الشيء ما يرجع إليه وهو الذي يؤل إليه آخر ذلك الأمر
السؤال الثامن ما المراد من قوله إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
الجواب من وجوه الأول معناه إنا نراك تؤثر الإحسان وتأتي بمكارم الأخلاق وجميع الأفعال الحميدة قيل إنه كان يعود مرضاهم ويؤنس حزينهم فقالوا إنك من المحسنين أي في حق الشركاء والأصحاب وقيل إنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة فقالوا إنك من المحسنين في أمر الدين ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا وفي سائر الأمور وقيل المراد إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في علم التعبير وذلك لأنه متى عبر لم يخط كما قال وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ ( يوسف 101 )
السؤال التاسع ما حقيقة علم التعبير
الجواب القرآن والبرهان يدلان على صحته أما القرآن فهو هذه الآية وأما البرهان فهو أنه قد ثبت أنه سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ والمانع لها من ذلك اشتغالها بتدبير البدن وفي وقت النوم يقل هذا التشاغل فتقوى على هذه المطالعة فإذا وقعت الروح على حالة من الأحوال تركت آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فالمعبر يستدل بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات العقلية فهذا كلام مجمل وتفصيله مذكور في ( الكتب العقلية ) والشريعة مؤكدة له روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الرؤيا ثلاثة رؤيا ما يحدث به الرجل(18/108)
نفسه ورؤيا تحدث من الشيطان ورؤيا التي هي الرؤيا الصادقة حقة ) وهذا تقسيم صحيح في العلوم العقلية وقال عليه السلام ( رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة )
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءَابَآءِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْءٍ ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المذكور في هذه الآية ليس بجواب لما سألا عنه فلا بد ههنا من بيان الوجه الذي لأجله عدل عن ذكر الجواب إلى هذا الكلام والعلماء ذكروا فيه وجوهاً الأول أنه لما كان جواب أحد السائلين أنه يصلب ولا شك أنه متى سمع ذلك عظم حزنه وتشتد نفرته عن سماع هذا الكلام فرأى أن الصلاح أن يقدم قبل ذلك ما يؤثر معه بعلمه وكلامه حتى إذا جاء بها من بعد ذلك خرج جوابه عن أن يكون بسبب تهمة وعداوة الثاني لعله عليه السلام أراد أن يبين أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدوا فيه وذلك لأنهم طلبوا منه علم التعبير ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين فبين لهما أنه لا يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين مع عجز كل الخلق عنه وإذا كان الأمر كذلك فبأن يكون فائقاً على كل الناس في علم التعبير كان أولى فكان المقصود من ذكر تلك المقدمة تقرير كونه فائقاً في علم التعبير واصلاً فيه إلى ما لم يصل غيره والثالث قال السدي لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ في النوم بين ذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس بمقصور على شيء دون غيره ولذلك قال إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ الرابع لعله عليه السلام لما علم أنهما اعتقدا فيه وقبلا قوله فأورد عليهما ما دل على كونه رسولاً من عند الله تعالى فإن الاشتغال بإصلاح مهمات الدين أولى من الاشتغال بمهمات الدنيا والخامس لعله عليه السلام لما علم أن ذلك الرجل سيصلب اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتى لا يموت على الكفر ولا يستوجب العقاب الشديد لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ وَيَحْيَى مَنْ حَى َّ عَن بَيّنَة ٍ ( الأنفال 42 ) والسادس قوله لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ محمول على اليقظة والمعنى أنه لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما أي طعام هو وأي لون هو وكم هو وكيف يكون عاقبته أي إذا أكله الإنسان فهو يفيد الصحة أو السقم وفيه وجه آخر قيل كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً فأرسله إليه فقال يوسف لا يأتيكما طعام ألا أخبرتكما أن فيه سماً أم لا هذا هو المراد من قوله لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ وحاصله راجع إلى أنه ادعى الإخبار عن الغيب وهو يجري مجرى قوله عيسى عليه السلام(18/109)
أُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ( آل عمران 49 ) فالوجوه الثلاثة الأول لتقرير كونه فائقاً في علم التعبير والوجوه الثلاثة الأخر لتقرير كونه نبياً صادقاً من عند الله تعالى
فإن قيل كيف يجوز حمل الآية على ادعاء المعجزة مع أنه لم يتقدم ادعاء للنبوة
قلنا إنه وإن لم يذكر ذلك لكن يعلم أنه لا بد وأن يقال إنه كان قد ذكره وأيضاً ففي قوله ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى وفي قوله وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءابَاءي ما يدل على ذلك
ثم قال تعالى ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم وإنما أخبرتكما بوحي من الله وعلم حصل بتعليم الله
ثم قال إِنّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول في قوله إِنّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة فنقول جوابه من وجوه الأول أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضاً فيه والثاني وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبداً لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفاً منهم على سبيل التقية ثم إنه أظهره في هذا الوقت فكان هذا جارياً مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر
المسألة الثانية تكرير لفظ هُمْ في قوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ لبيان اختصاصهم بالكفر ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد
واعلم أن قوله إِنّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إشارة إلى علم المبدأ وقوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ إشارة إلى علم المعاد ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد وإن ما وراء ذلك عبث
ثم قال تعالى وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءابَاءي إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وفيه سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في ذكر هذا الكلام
الجواب أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء الله ورسله فإن الإنسان متى ادعى حرفة أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه وأيضاً فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمراً مشهوراً في الدنيا فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال فكان انقيادهم له أتم وأثر قلوبهم بكلامه أكمل
السؤال الثاني لما كان نبياً فكيف قال إني اتبعت ملة آبائي والنبي لا بد وأن يكون مختصاً بشريعة نفسه
قلنا لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير وأيضاً لعله كان رسولاً من عند الله إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام
السؤال الثالث لم قال مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْء وحال كل المكلفين كذلك(18/110)
والجواب ليس المراد بقوله مَا كَانَ لَنَا أنه حرم ذلك عليهم بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر ونظيره قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 )
السؤال الرابع ما الفائدة في قوله مِن شَى ْء
الجواب أن أصناف الشرك كثيرة فمنهم من يعبد الأصنام ومنهم من يعبد النار ومنهم من يعبد الكواكب ومنهم من يعبد العقل والنفس والطبيعة فقوله مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْء رد على كل هؤلاء الطوائف والفرق وإرشاد إلى الدين الحق وهو أنه لا موجد إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله
ثم قال ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وفيه مسألة وهي أنه قال مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْء
ثم قال ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ فقوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم من عدم الإشراك فهذا يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله ثم بين أن الأمر كذلك في حقه بعينه وفي حق الناس ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون ويجب أن يكون المراد أنهم لا يشكرون الله على نعمة الإيمان حكي أن واحداً من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر وقال هل تشكر الله على الإيمان أم لا فإن قلت لا فقد خالفت الإجماع وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلاً له فقال له بشر إنا نشكره على أنه تعالى أعطانا القدرة والعقل والآلة فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة فأما أن نشكره على الإيمان مع أن الإيمان ليس فعلاً له فذلك باطل وصعب الكلام على بشر فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس وقال إنا لا نشكر الله على الإيمان بل الله يشكرنا عليه كما قال أُولائِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) فقال بشر لما صعب الكلام سهل
واعلم أن الذين ألزمه ثمامة باطل بنص هذه الآية وذلك لأنه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة وإنما ذكره على سبيل الذم فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله تعالى على نعمة الإيمان وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة قال القاضي قوله ذالِكَ إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بألطافه وتسهيله ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة
والجواب أن ذلك إشارة إلى المذكور السابق وذاك هو ترك الإشراك فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى والقاضي يصرفه إلى الألطاف والتسهيل فكان هذا تركاً للظاهر وأما صرفه إلى النبوة فبعيد لأن اللفظ الدال على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات وهو ههنا عدم الإشراك
ياصَاحِبَى ِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(18/111)
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله يَشْكُرُونَ ياصَاحِبَى ِ السّجْنِ يريد صاحبي في السجن ويحتمل أيضاً أنه لما حصلت مرافقتهما في السجن مدة قليلة أضيفا إليه وإذا كانت المرافقة القليلة كافية في كونه صاحباً فمن عرف الله وأحبه طول عمره أولى بأن يبقى عليه اسم المؤمن العارف المحب
المسألة الثانية اعلم أنه عليه السلام لما ادعى النبوة في الآية الأولى وكان إثبات النبوة مبنياً على إثبات الإلهيات لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات ولما كان أكثر الخلق مقرين بوجود الإله العالم القادر وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصناماً على صورة الأرواح الفلكية ويعبدونها ويتوقعون حصول النفع والضر منها لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء في المنع من عبادة الأوثان فكان الأمر على هذا القانون في زمان يوسف عليه السلام فلهذا السبب شرع ههنا في ذكر ما يدل على فساد القول بعبادة الأصنام وذكر أنواعاً من الدلائل والحجج
الحجة الأولى قوله مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا وتقرير هذه الحجة أن نقول إن الله تعالى بين أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم وهو قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل وكون الإله واحداً يقتضي حصول النظام وحسن الترتيب فلما قرر هذا المعنى في سائر الآيات قال ههنا مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار
والحجة الثانية أن هذه الأصنام معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة فإن الإنسان إذا أراد كسرها وإبطالها قدر عليها فهي مقهورة لا تأثير لها ولا يتوقع حصول منفعة ولا مضرة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر يقدر على إيصال الخيرات ودفع الشرور والآفات فكان المراد أن عبادة الآلهة المقهورة الذليلة خير أم عبادة الله الواحد القهار فقوله ءأَرْبَابٌ إشارة إلى الكثرة فجعل في مقابلته كونه تعالى واحداً وقوله مُّتَّفَرّقُونَ إشارة إلى كونها مختلفة في الكبر والصغر واللون والشكل وكل ذلك إنما حصل بسبب أن الناحت والصانع يجعله على تلك الصورة فقوله مُّتَّفَرّقُونَ إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وجعل في مقابلته كونه تعالى قهاراً فبهذا الطريق الذي شرحناه اشتملت هذه الآية على هذين النوعين الظاهرين
والحجة الثالثة أن كونه تعالى واحداً يوجب عبادته لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك وفيه إشارة إلى ما يدل على فساد القول بعبادة الأوثان وذلك لأن بتقدير أن تحصل المساعدة على كونها نافعة ضارة إلا أنها كثيرة فحينئذ لا نعلم أن نفعنا ودفع الضرر عنا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الآخر أو حصل بمشاركتهما ومعاونتهما وحينئذ يقع الشك في أن المستحق للعبادة هو هذا أم ذاك أما إذا كان المعبود واحداً ارتفع هذا الشك وحصل اليقين في(18/112)
أنه لا يستحق للعبادة إلا هو ولا معبود للمخلوقات والكائنات إلا هو فهذا أيضاً وجه لطيف مستنبط من هذه الآية
الحجة الرابعة أن بتقدير أن يساعد على أن هذه الأصنام تنفع وتضر على ما يقوله أصحاب الطلسمات إلا أنه لا نزاع في أنها تنفع في أوقات مخصوصة وبحسب آثار مخصوصة والإله تعالى قادر على جميع المقدورات فهو قهار على الإطلاق نافذ المشيئة والقدرة في كل الممكنات على الإطلاق فكان الاشتغال بعبادته أولى
الحجة الخامسة وهي شريفة عالية وذلك لأن شرط القهار أن لا يقهره أحد سواه وأن يكون هو قهاراً لكل ما سواه وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكناً لكان مقهوراً لا قاهراً ويجب أن يكون واحداً إذ لو حصل في الوجود واجبان لما كان قاهراً لكل ما سواه فالإله لا يكون قهاراً إلا إذا كان واجباً لذاته وكان واحداً وإذا كان المعبود يجب أن يكون كذلك فهذا يقتضي أن يكون الإله شيئاً غير الفلك وغير الكواكب وغير النور والظلمة وغير العقل والنفس فأما من تمسك بالكواكب فهي أرباب متفرقون وهي ليست موصوفة بأنها قهارة وكذا القول في الطبائع والأرواح والعقول والنفوس فهذا الحرف الواحد كاف في إثبات هذا التوحيد المطلق وأنه مقام عال فهذا مجموع الدلائل المستنبطة من هذه الآية بقي فيها سؤالان
السؤال الأول لم سماها أرباباً وليست كذلك
والجواب لاعتقادهم فيها أنها كذلك وأيضاً الكلام خرج على سبيل الفرض والتقدير والمعنى أنها إن كانت أرباباً فهي خير أم الله الواحد القهار
السؤال الثاني هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال إنها خير أم الله الواحد القهار
الجواب أنه خرج على سبيل الفرض والمعنى لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار
ثم قال مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ وفيه سؤال وهو أنه تعالى قال فيما قبل هذه الآية مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا وذلك يدل على وجود هذه المسميات ثم قال عقيب تلك الآية مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا وهذا يدل على أن المسمى غير حاصل وبينهما تناقض
الجواب أن الذات موجودة حاصلة إلا أن المسمى بالإله غير حاصل وبيانه من وجهين الأول أن ذوات الأصنام وإن كانت موجودة إلا أنها غير موصوفة بصفات الإلهية وإذا كان كذلك كان الشيء الذي هو مسمى بالإله في الحقيقة غير موجود ولا حاصل الثاني يروى أن عبدة الأوثان مشبهة فاعتقدوا أن الإله هو النور الأعظم وأن الملائكة أنوار صغيرة ووضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأثان ومعبودهم في الحقيقة هو تلك الأنوار السماوية وهذا قول المشبهة فإنهم تصوروا جسماً كبيراً مستقراً على العرش ويعبدونه وهذا المتخيل غير موجود ألبتة فصح أنهم لا يعبدون إلا مجرد الأسماء(18/113)
واعلم أن جماعة ممن يعبدون الأصنام قالوا نحن لا نقول إن هذه الأصنام آلهة للعالم بمعنى أنها هي التي خلقت العالم إلا أنا نطلق عليها اسم الإله ونعبدها ونعظمها لاعتقادنا أن الله أمرنا بذلك فأجاب الله تعالى عنه فقال أما تسميتها بالآلهة فما أمر الله تعالى بذلك وما أنزل في حصول هذه التسمية حجة ولا برهاناً ولا دليلاً ولا سلطاناً وليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام بل الحكم والأمر والتكليف ليس إلا له ثم إنه أمر أن ألا تعبدوا إلا أياه وذلك لأن العبادة نهاية التعظيم والإجلال فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والعقل والرزق والهداية ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية ثم إنه تعالى لما بين هذه الأشياء قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وتفسيره أن أكثر الخلق يسندون حدوث الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية لأجل أنه تقرر في العقول أن الحادث لا بد له من سبب فإذا رأوا أن تغير أحوال هذا العالم في الحر والبرد والفصول الأربعة إنما يحصل عند تغير أحوال الشمس في أرباع الفلك ربطوا الفصول الأربعة بحركة الشمس ثم لما شاهدوا أن أحوال النبات والحيوان مختلفة بحسب اختلاف الفصول الأربعة ربطوا حدوث النبات وتغير أحوال الحيوان باختلاف الفصول الأربعة فبهذا الطريق غلب على طباع أكثر الخلق أن المدبر لحدوث الحوادث في هذا العالم هو الشمس والقمر وسائر الكواكب ثم إنه تعالى إذا وفق إنساناً حتى ترقى من هذه الدرجة وعرف أنها في ذواتها وصفاتها مفتقرة إلى موجد ومبدع قاهر قادر عليم حكيم فذلك الشخص يكون في غاية الندرة فلهذا قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
ياصَاحِبَى ِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الاٌّ خَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِى َ الاٌّ مْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
اعلم أنه عليه السلام لما قرر أمر التوحيد والنبوة عاد إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه والمعنى ظاهر وذلك لأن الساقي لما قص رؤياه على يوسف وقد ذكرنا كيف قص عليه قال له يوسف ما أحسن ما رأيت أما حسن العنبة فهو حسن حالك وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيردك إلى عملك فتصير كما كنت بل أحسن وقال للخباز لما قص عليه بئسما رأيت السلال الثلاث ثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيصلبك وتأكل الطير من رأسك ثم نقل في التفسير أنهما قالا ما رأينا شيئاً فقال قُضِى َ الاْمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ واختلف فيما لأجله قالا ما رأينا شيئاً فقيل إنهما وضعا هذا الكلام ليختبرا علمه بالتعبير مع أنهما ما رأيا شيئاً وقيل إنهما لما كرها ذلك الجواب قالا ما رأينا شيئاً
فإن قيل هذا الجواب الذي ذكره يوسف عليه السلام ذكره بناء على الوحي من قبل الله تعالى أو بناء على علم التعبير والأول باطل لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نقل أنه إنما ذكره على سبيل التعبير وأيضاً قال تعالى وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا ( يوسف 42 ) ولو كان ذلك التعبير مبنياً على الوحي لكان الحاصل منه(18/114)
القطع واليقين لا الظن والتخمين والثاني أيضاً باطل لأن علم التعبير مبني على الظن والحسبان
الجواب لا يبعد أن يقال إنهما لما سألاه عن ذلك المنام صدقا فيه أو كذبا فإن الله تعالى أوحى إليه أن عاقبة كل واحد منهما تكون على الوجه المخصوص فلما نزل الوحي بذلك الغيب عند ذلك السؤال وقع في الظن أنه ذكره على سبيل التعبير ولا يبعد أيضاً أن يقال إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير وقوله قُضِى َ الاْمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ما عنى به أن الذي ذكره واقع لا محالة بل عنى به أنه حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره
وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الموصوف بالظن هو يوسف عليه السلام أو الناجي فعلى الأول كان المعنى وقال الرجل الذي ظن يوسف عليه السلام كونه ناجياً وعلى هذا القول وجهان الأول أن تحمل هذا الظن على العلم واليقين وهذا إذا قلنا بأنه عليه السلام إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الوحي قال هذا القائل وورود لفظ الظن بمعنى اليقين كثير في القرآن قال تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ رَّبُّهُمْ ( البقرة 46 ) وقال إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ( الحاقة 20 ) والثاني أن تحمل هذا الظن على حقيقة الظن وهذا إذا قلنا إنه عليه السلام ذكر ذلك التعبير لا بناء على الوحي بل على الأصول المذكورة في ذلك العلم وهي لا تفيد إلا الظن والحسبان
والقول الثاني أن هذا الظن صفة الناجي فإن الرجلين السائلين ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف ورسالته ولكنهما كانا حسني الاعتقاد فيه فكان قوله لا يفيد في حقهما إلا مجرد الظن
المسألة الثانية قال يوسف عليه السلام لذلك الرجل الذي حكم بأنه يخرج من الحبس ويرجع إلى خدمة الملك اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ أي عند الملك والمعنى اذكر عنده أنه مظلوم من جهة إخوته لما أخرجوه وباعوه ثم إنه مظلوم في هذه الواقعة التي لأجلها حبس فهذا هو المراد من الذكر
ثم قال تعالى فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ وفيه قولان الأول أنه راجع إلى يوسف والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه وعلى هذا القول ففيه وجهان أحدهما أن تمسكه بغير الله كان مستدركاً عليه وتقريره من وجوه الأول أن مصلحته كانت في أن لا يرجع في تلك الواقعة إلى أحد من المخلوقين وأن لا يعرض حاجته على أحد سوى الله وأن يقتدي بجده إبراهيم عليه السلام فإنه حين وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار جاءه جبريل عليه السلام وقال هل من حاجة فقال أما إليك فلا فلما رجع يوسف إلى المخلوق لا جرم وصف الله ذلك بأن الشيطان أنساه ذلك التفويض وذلك التوحيد ودعاه إلى(18/115)
عرض الحاجة إلى المخلوقين ثم لما وصفه بذلك ذكر أنه بقي لذلك السبب في السجن بضع سنين والمعنى أنه لما عدل عن الانقطاع إلى ربه إلى هذا المخلوق عوقب بأن لبث في السجن بضع سنين وحاصل الأمر أن رجوع يوسف إلى المخلوق صار سبباً لأمرين أحدهما أنه صار سبباً لاستيلاء الشيطان عليه حتى أنساه ذكر ربه الثاني أنه صار سبباً لبقاء المحنة عليه مدة طويلة
الوجه الثاني أن يوسف عليه السلام قال في إبطال عبادة الأوثان مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا ثم إنه ههنا أثبت رباً غيره حيث قال اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ومعاذ الله أن يقال إنه حكم عليه بكونه رباً بمعنى كونه إلهاً بل حكم عليه بالربوبية كما يقال رب الدار ورب الثوب على أن إطلاق لفظ الرب عليه بحسب الظاهر يناقض نفي الأرباب
الوجه الثالث أنه قال في تلك الآية ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء وذلك نفي للشرك على الإطلاق وتفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى فههنا الرجوع إلى غير الله تعالى كالمناقض لذلك التوحيد
واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فهذا وإن كان جائزاً لعامة الخلق إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب
الوجه الثاني في تأويل الآية أن يقال هب أنه تمسك بغير الله وطلب من ذلك الساقي أن يشرح حاله عند ذلك الملك إلا أنه كان من الواجب عليه أن لا يخلي ذلك الكلام من ذكر الله مثل أن يقول إن شاء الله أو قدر الله فلما أخلاه عن هذا الذكر وقع هذا الاستدراك
القول الثاني أن يقال إن قوله فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ راجع إلى الناجي والمعنى أن الشيطان أنسى ذلك الفتى أن يذكر يوسف للملك حتى طال الأمر فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ بهذا السبب ومن الناس من قال القول الأول أولى لما روي عنه عليه السلام قال ( رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ) وعن قتادة أن يوسف عليه السلام عوقب بسبب رجوعه إلى غير الله وعن إبراهيم التيمي أنه لما انتهى إلى باب السجن قال له صاحبه ما حاجتك قال أن تذكرني عند رب سوى الرب الذي قال يوسف وعن مالك لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قيل يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال طول البلاء أنساني ذكر المولى فقلت هذه الكلمة فويل لإخوتي
قال مصنف الكتاب فخر الدين الرازي رحمه الله والذي جربته من أول عمري إلى آخره أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله صار ذلك سبباً إلى البلاء والمحنة والشدة والرزية وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق ذلك المطلوب على أحسن الوجوه فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه ومن الناس من رجح القول الثاني لأن صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل أولى من صرفها إلى يوسف الصديق ولأن الاستعانة بالعباد في التخلص من الظلم جائزة
واعلم أن الحق هو القول الأول وما ذكره هذا القائل الثاني تمسك بظاهر الشريعة وما قرره القائل(18/116)
الأول تمسك بأسرار الحقيقة ومكارم الشريعة ومن كان له ذوق في مقام العبودية وشرب من مشرب التوحيد عرف أن الأمر كما ذكرناه وأيضاً ففي لفظ الآية ما يدل على أن هذا القول ضعيف لأنه لو كان المراد ذلك لقال فأنساه الشيطان ذكره لربه
المسألة الثالثة الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة في الشريعة لا إنكار عليه إلا أنه لما كان ذلك مستدركاً من المحققين المتوغلين في بحار العبودية لا جرم صار يوسف عليه السلام مؤاخذاً به وعند هذا نقول الذي يصير مؤاخذاً بهذا القدر لأن يصير مؤاخذاً بالإقدام على طلب الزنا ومكافأة الإحسان بالإساءة كان أولى فلما رأينا الله تعالى آخذه بهذا القدر ولم يؤاخذه في تلك القضية ألبتة وما عابه بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء علمنا أنه عليه السلام كان مبرأ مما نسبه الجهال والحشوية إليه
المسألة الرابعة الشيطان يمكنه إلقاء الوسوسة وأما النسيان فلا لأنه عبارة عن إزالة العلم عن القلب والشيطان لا قدرة له عليه وإلا لكان قد أزال معرفة الله تعالى عن قلوب بني آدم
وجوابه أنه يمكنه من حيث إنه بوسوسته يدعو إلى سائر الأعمال واشتغال الإنسان بسائر الأعمال يمنعه عن استحضار ذلك العلم وتلك المعرفة
المسألة الخامسة قوله فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ فيه بحثان
البحث الأول بحسب اللغة قال الزجاج اشتقاقه من بضعت بمعنى قطعت ومعناه القطعة من العدد قال الفراء ولا يذكر البضع إلا مع عشرة أو عشرين إلى التسعين وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعة وقال هكذا رأيت العرب يقولون وما رأيتهم يقولون بضع ومائة وروى الشعبي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه ( كم البضع ) قالوا الله ورسوله أعلم قال ( ما دون العشرة ) واتفق الأكثرون على أن المراد ههنا ببضع سنين سبع سنين قالوا إن يوسف عليه السلام حين قال لذلك الرجل اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ كان قد بقي في السجن خمس سنين ثم بقي بعد ذلك سبع سنين قال ابن عباس رضي الله عنهما لما تضرع يوسف عليه السلام إلى ذلك الرجل كان قد اقترب وقت خروجه فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنين وروي أن الحسن روى قوله صلوات الله عليه وسلامه ( رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها لما لبث في السجن هذه المدة الطويلة ) ثم بكى الحسن وقال نحن إذا نزل بنا أمر تضرعنا إلى الناس
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاى َ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاٌّ حْلَامِ بِعَالِمِينَ(18/117)
اعلم أنه تعالى إذا أراد شيئاً هيأ له أسباباً ولما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر في النوم سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعاً أخر يابسات فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكمنة وذكرها لهم وهو المراد من قوله يَابِسَاتٍ يأَيُّهَا الْمَلا أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاى َ فقال القوم هذه الرؤيا مختلطة فلا تقدر على تأويلها وتعبيرها فهذا ظاهر الكلام وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الليث العجف ذهاب السمن والفعل عجف يعجف والذكر أعجف والأنثى عجفاء والجمع عجاف في الذكران والإناث وليس في كلام العرب أفعل وفعلاء جمعاً على فعال غير أعجف وعجاف وهي شاذة حملوها على لفظ سمان فقالوا سمان وعجاف لأنهما نقيضان ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض واللام في قوله لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ على قول البعض زائدة لتقدم المفعول على الفعل وقال صاحب ( الكشاف ) يجوز أن تكون الرؤيا خبر كان كما تقول كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه وتعبرون خبراً آخر أو حالاً ويقال عبرت الرؤيا أعبرها وعبرتها تعبيراً إذا فسرتها وحكى الأزهري أن هذا مأخوذ من العبر وهو جانب النهر ومعنى عبرت النهر والطريق قطعته إلى الجانب الآخر فقيل لعابر الرؤيا عابر لأنه يتأمل جانبي الرؤيا فيتفكر في أطرافها وينتقل من أحد الطرفين إلى الآخر والأضغاث جمع الضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش بشرط أن يكون مما قام على ساق واستطال قال تعالى وَخُذْ بِيَدِكَ ( ص 44 )
إذا عرفت هذا فنقول الرؤيا إن كانت مخلوطة من أشياء غير متناسبة كانت شبيهة بالضغث
المسألة الثانية أنه تعالى جعل تلك الرؤيا سبباً لخلاص يوسف عليه السلام من السجن وذلك لأن الملك لما قلق واضطرب بسببه لأنه شاهد أن الناقص الضعيف استولى على الكامل القوي فشهدت فطرته بأن هذا ليس بجيد وأنه منذر بنوع من أنواع الشر إلا أنه ما عرف كيفية الحال فيه والشيء إذا صار معلوماً من وجه وبقي مجهولاً من وجه آخر عظم تشوف الناس إلى تكميل تلك المعرفة وقويت الرغبة في إتمام الناقص لا سيما إذا كان الإنسان عظيم الشأن واسع المملكة وكان ذلك الشيء دالاً على الشر من بعض الوجوه فبهذا الطريق قوى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم بتعبير هذه الرؤيا ثم إنه تعالى أعجز المعبرين اللذين حضروا عند ذلك الملك عن جواب هذه المسألة وعماه عليهم ليصير ذلك سبباً لخلاص يوسف من تلك المحنة
واعلم أن القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير بل قالوا إن علم التعبير على قسمين منه ما تكون الرؤيا فيه منتسقة منتظمة فيسهل الانتقال من الأمور المتخيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية ومنه ما تكون فيه مختلطة مضطربة ولا يكون فيها ترتيب معلوم وهو المسمى بالأضغاث والقوم قالوا إن رؤيا الملك من قسم الأضغاث ثم أخبروا أنهم غير عالمين بتعبير هذا القسم وكأنهم قالوا هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة وما كان كذلك فنحن لا نهتدي إليها ولا يحيط عقلنا بها وفيها إيهام أن الكامل في هذا العلم والمتبحر فيه قد يهتدي إليها فعند هذه المقالة تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف فإنه كان يعتقد فيه كونه متبحراً في هذا العلم(18/118)
وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ
اعلم أن الملك لما سأل الملأ عن الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب قال الشرابي إن في الحبس رجلاً فاضلاً صالحاً كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في الكل وما أخطأ في حرف فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب فهذا هو قوله بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا
وأما قوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ فنقول سيجيء اذكر في تفسير قوله تعالى مِن مُّدَّكِرٍ ( القمر 51 ) في سورة القمر قال صاحب ( الكشاف ) وَادَّكَرَ بالدال هو الفصيح عن الحسن وَاذْكُرْ بالذال أي تذكر وأما الأمة ففيه وجوه الأول بَعْدَ أُمَّة ٍ أي بعد حين وذلك لأن الحين إنما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم فالحين كان أمة من الأيام والساعات والثاني قرأ الأشهب العقيلي بَعْدَ أُمَّة ٍ بكسر الهمزة والإمة النعمة قال عدي
ثم بعد الفلاح والملك والإمة وارتهم هناك القبور
والمعنى بعدما أنعم عليه بالنجاة الثالث قرىء بَعْدَ أُمُّهُ أي بعد نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي والصحيح أنها بفتح الميم وذكره أبو عبيدة بسكون الميم وحاصل الكلام أنه إما أن يكون المراد وادكر بعد مضي الأوقات الكثيرة من الوقت الذي أوصاه يوسف عليه السلام بذكره عند الملك والمراد وادكر بعد وجدان النعمة عند ذلك الملك أو المراد وادكر بعد النسيان
فإن قيل قوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ يدل على أن الناسي هو الشرابي وأنتم تقولون الناسي هو يوسف عليه السلام
قلنا قال ابن الأنباري اذكر بمعنى ذكر وأخبر وهذا لا يدل على سبق النسيان فلعل الساقي إنما لم يذكره للملك خوفاً من أن يكون ذلك اذكاراً لذنبه الذي من أجله حبسه فيزداد الشر ويحتمل أيضاً أن يقال حصل النسيان ليوسف عليه السلام وحصل أيضاً لذلك الشرابي وأما قوله فَأَرْسِلُونِ خطاب إما للملك والجمع أو للملك وحده على سبيل التعظيم أما قوله يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ ففيه محذوف والتقدير فأرسل وأتاه وقال أيها الصديق والصديق هو البالغ في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه لم يجرب عليه كذباً وقيل لأنه صدق في تعبير رؤياه وهذا يدل على أن من أراد أن يتعلم من رجل شيئاً فإنه يجب عليه أن يعظمه وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال ثم إنه أعاد السؤال بعين اللفظ الذي ذكره الملك ونعم ما فعل فإن تعبير الرؤيا قد يختلف بسبب اختلاف اللفظ كما هو مذكور في ذلك العلم(18/119)
أما قوله تعالى لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فالمراد لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لعلهم يعلمون فضلك وعلمك وإنما قال لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لأنه رأى عجز سائر المعبرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز هو أيضاً عنها فلهذا السبب قال لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ
اعلم أنه عليه السلام ذكر تعبير تلك الرؤيا فقال تَزْرَعُونَ وهو خبر بمعنى الأمر كقوله وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ( البقرة 228 ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ ( البقرة 233 ) وإنما يخرج الخبر بمعنى الأمر ويخرج الأمر في صورة الخير للمبالغة في الإيجاب فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه والدليل على كونه في معنى الأمر قوله فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ وقوله دَأَبًا قال أهل اللغة الدأب استمرار الشيء على حالة واحدة وهو دائب بفعل كذا إذا استمر في فعله وقد دأب يدأب دأباً ودأباً أي زراعة متوالية في هذه السنين قال أبو علي الفارسي الأكثرون في دأب الإسكان ولعل الفتحة لغة فيكون كشمع وشمع ونهر ونهر قال الزجاج وانتصب دأباً على معنى تدأبون دأباً وقيل إنه مصدر وضع في موضع الحال وتقديره تزرعون دائبين فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون كل ما أردتم أكله فدوسوه ودعوا الباقي في سنبله حتى لا يفسد ولا يقع السوس فيه لأن إبقاء الحبة في سنبله يوجب بقاءها على الصلاح ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ أي سبع سنين مجدبات والشداد الصعاب التي تشتد على الناس وقوله يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ هذا مجاز فإن السنة لا تأكل فيجعل أكل أهل تلك السنين مسنداً إلى السنين وقوله إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ الإحصان الإحراز وهو إلقاء الشيء في الحصن يقال أحصنه إحصاناً إذا جعله في حرز والمراد إلا قليلاً مما تحرزون أي تدخرون وكلها ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما وقوله ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ قال المفسرون السبعة المتقدمة سنو الخصب وكثرة النعم والسبعة الثانية سنو القحط والقلة وهي معلومة من الرؤيا وأما حال هذه السنة فما حصل في ذلك المنام شيء يدل عليه بل حصل ذلك من الوحي فكأنه عليه السلام ذكر أنه يحصل بعد السبعة المخصبة والسبعة المجدبة سنة مباركة كثيرة الخير والنعم وعن قتادة زاده الله علم سنة
فإن قيل لما كانت العجاف سبعاً دل ذلك على أن السنين المجدبة لا تزيد على هذا العدد ومن المعلوم أن الحاصل بعد انقضاء القحط هو الخصب وكان هذا أيضاً من مدلولات المنام فلم قلتم إنه حصل بالوحي والإلهام
قلنا هب أن تبدل القحط بالخصب معلوم من المنام أما تفصيل الحال فيه وهو قوله فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ(18/120)
لا يعلم إلا بالوحي قال ابن السكيت يقال غاث الله البلاد يغيثها غيثاً إذا أنزل فيها الغيث وقد غيثت الأرض تغاث وقوله يُغَاثُ النَّاسُ معناه يمطرون ويجوز أن يكون من قولهم أغاثه الله إذا أنقذه من كرب أو غم ومعناه ينقذ الناس فيه من كرب الجدب وقوله وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أي يعصرون السمسم دهناً والعنب خمراً والزيتون زيتاً وهذا يدل على ذهاب الجدب وحصول الخصب والخير وقيل يحلبون الضروع وقرىء يَعْصِرُونَ من عصره إذا نجاه وقيل معناه يمطرون من أعصرت السحابة إذا عصرت بالمطر ومنه قوله وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً ( النبأ 14 )
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُو ءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ اأنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ
اعلم أنه لما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه الملك فقال ائتوني به وهذا يدل على فضيلة العلم فإنه سبحانه جعل علمه سبباً لخلاصه من المحنة الدنيوية فكيف لا يكون العلم سبباً للخلاص من المحن الأخروية فعاد الشرابي إلى يوسف عليه السلام قال أجب الملك فأبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا بعد أن ينكشف أمره وتزول التهمة بالكلية عنه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوا لي ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة وبادرتهم إلى الباب ولما ابتغيت العذر أنه كان حليماً ذا أناة )
واعلم أن الذي فعله يوسف من الصبر والتوقف إلى أن تفحص الملك عن حاله هو اللائق بالحزم والعقل وبيانه من وجوه الأول أنه لو خرج في الحال فربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثرها فلما التمس من الملك أن يتفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوسل بها إلى الطعن فيه الثاني أن الإنسان الذي بقي في السجن اثنتي عشرة سنة إذا طلبه الملك وأمر بإخراجه الظاهر أنه يبادر بالخروج فحيث لم يخرج عرف منه كونه في نهاية العقل والصبر والثبات وذلك يصير سبباً لأن يعتقد فيه بالبراءة عن جميع أنواع التهم ولأن يحكم بأن كل ما قيل فيه كان كذباً وبهتاناً الثالث أن التماسه من الملك أن يتفحص عن حاله من تلك(18/121)
النسوة يدل أيضاً على شدة طهارته إذ لو كان ملوثاً بوجه ما لكان خائفاً أن يذكر ما سبق الرابع أنه حين قال للشرابي اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن بضع سنين وههنا طلبه الملك فلم يلتفت إليه ولم يقم لطلبه وزناً واشتغل بإظهار براءته عن التهمة ولعله كان غرضه عليه السلام من ذلك أن لا يبقى في قلبه التفات إلى رد الملك وقبوله وكان هذا العمل جارياً مجرى التلافي لما صدر من التوسل إليه في قوله اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ليظهر أيضاً هذا المعنى لذلك الشرابي فإنه هو الذي كان واسطة في الحالتين معاً
أما قوله وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير والكسائي فسله بغير همز والباقون رَبّكَ فَاسْأَلْهُ بالهمز وقرأ عاصم برواية أبي بكر عنه النّسْوَة ِ بضم النون والباقون بكسر النون وهما لغتان
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية فيها أنواع من اللطائف أولها أن معنى الآية فسل الملك يأن يسأل ما شأن تلك النسوة وما حالهن ليعلم براتي عن تلك التهمة إلا أنه اقتصر على أن يسأل الملك عن تلك الواقعة لئلا يشتمل اللفظ على ما يجري مجرى أمر الملك بعمل أو فعل وثانيها أنه لم يذكر سيدته مع أنها هي التي سعت في إلقائه في السجن الطويل بل اقتصر على ذكر سائر النسوة وثالثها أن الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عمل قبيح وفعل شنيع عند الملك فاقتصر يوسف عليه السلام على مجرد قوله مَا بَالُ النّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وما شكا منهن على سبيل التعيين والتفصيل ثم قال يوسف بعد ذلك إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ وفي المراد من قوله إِنَّ رَبّى وجهان الأول أنه هو الله تعالى لأنه تعالى هو العالم بخفيات الأمور والثاني أن المراد الملك وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً وله وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالماً بكيدهن ومكرهن
واعلم أن كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً أحدها أن كل واحدة منهن ربما طمعت فيه فلما لم تجد المطلوب أخذت تطعن فيه وتنسبه إلى القبيح وثانيها لعل كل واحدة منهن بالغت في ترغيب يوسف في موافقة سيدته على مرادها ويوسف علم أن مثل هذه الخيانة في حق السيد المنعم لا تجوز فأشار بقوله إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ إلى مبالغتهن في الترغيب في تلك الخيانة وثالثها أنه استخرج منهن وجوهاً من المكر والحيل في تقبيح صورة يوسف عليه السلام عند الملك فكان المراد من هذا اللفظ ذاك ثم إنه تعالى حكى عن يوسف عليه السلام أنه لما التمس ذلك أمر الملك بإحضارهن وقال لهن مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ وفيه وجهان الأول أن قوله إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ وإن كانت صيغة الجمع فالمراد منها الواحدة كقوله تعالى الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ( آل عمران 173 ) والثاني أن المراد منه خطاب الجماعة ثم ههنا وجهان الأول أن كل واحدة منهن راودت يوسف عن نفسها والثاني أن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه وعند هذا السؤال قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء وهذا كالتأكيد لما ذكرن في أول الأمر في حقه وهو قولهن مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
واعلم أن امرأة العزيز كانت حاضرة وكانت تعلم أن هذه المناظرات والتفحصات إنما وقعت بسببها ولأجلها فكشفت عن الغطاء وصرحت بالقول الحق وقالت الآن حصص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين(18/122)
وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه شهادة جازمة من تلك المرأة بأن بوسف صلوات الله عليه كان مبرأ عن كل الذنوب مطهراً عن جميع العيوب وههنا دقيقة وهي أن يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال مَا بَالُ النّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فذكرهن ولم يذكر تلك المرأة ألبتة فعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيماً لجانبها وإخفاء للأمر عليها فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء واعترفت بأن الذنب كله كان من جانبها وأن يوسف عليه السلام كان مبرأ عن الكل ورأيت في بعض الكتب أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى تتمكن الشهود من إقامة الشهادة فقال الزوج لا حاجة إلى ذلك فإني مقر بصدقها في دعواها فقالت المرأة لما أكرمتني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمتك من كل حق لي عليك
المسألة الثانية قال أهل اللغة حَصْحَصَ الْحَقُّ معناه وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس من قولهم حصحص البعير في بروكه إذا تمكن واستقر في الأرض قال الزجاج اشتقاقه في اللغة من الحصة أي بانت حصة الحق من حصة الباطل
المسألة الثالثة اختلفوا في أن قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كلام من وفيه أقوال
القول الأول وهو قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام قال الفراء ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَة ً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّة َ أَهْلِهَا أَذِلَّة ً ( النمل 34 ) وهذا كلام بلقيس ثم إنه تعالى قال وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وأيضاً قوله تعالى رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( آل عمران 9 ) كلام الداعي
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ بقي على هذا القول سؤالات
السؤال الأول قوله ذالِكَ إشارة إلى الغائب والمراد ههنا الإشارة إلى تلك الحادثة الحاضرة
والجواب أجبنا عنه في قوله ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 2 ) وقيل ذلك إشارة إلى ما فعله من رد الرسول كأنه يقول ذلك الذي فعلت من ردي الرسول إنما كان ليعلم الملك أني لم أخنه بالغيب
السؤال الثاني متى قال يوسف عليه السلام هذا القول
الجواب روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال ذلك ليعلم وإنما ذكره على لفظ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب والأولى أنه عليه السلام إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه لأن ذكر هذا الكلام في حضرة الملك سوء أدب
السؤال الثالث هذه الخيانة وقعت في حق العزيز فكيف يقول ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
والجواب قيل المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بالغيبة وقيل إنه إذا خان وزيره فقد خانه من بعض الوجوه وقيل إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن قال ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ثم ختم الكلام بقوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى يُحِبُّ الخَائِنِينَ ولعل المراد منه أني لو كنت خائناً لما خلصني الله تعالى من هذه الورطة وحيث خلصني منها ظهر أني كنت مبرأ عما نسبوني إليه
والقول الثاني أن قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كلام امرأة العزيز والمعنى أني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه عند غيبته أي لم أقل فيه وهو في السجن خلاف(18/123)
الحق ثم إنها بالغت في تأكيد الحق بهذا القول وقالت وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ يعني أني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت وأنه لما كان بريئاً عن الذنب لا جرم طهره الله تعالى عنه قال صاحب هذا القول والذي يدل على صحته أن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس حتى يقال لما ذكرت المرأة قولها قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ ففي تلك الحالة يقول يوسف ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول من ذلك المجلس إلى السجن ويذكر له تلك الحكاية ثم إن يوسف يقول ابتداء ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ومثل هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة
المسألة الرابعة هذه الآية دالة على طهارة يوسف عليه السلام من الذنب من وجوه كثيرة الأول أن الملك لما أرسل إلى يوسف عليه السلام وطلبه فلو كان يوسف متهماً بفعل قبيح وقد كان صدر منه ذنب وفحش لاستحال بحسب العرف والعادة أن يطلب من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة لأنه لو كان قد أقدم على الذنب ثم إنه يطلبه من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة كان ذلك سعياً منه في فضيحة نفسه وفي تجديد العيوب التي صارت مندرسة مخفية والعاقل لا يفعل ذلك وهب أنه وقع الشك لبعضهم في عصمته أو في نبوته إلا أنه لا شك أنه كان عاقلاً والعاقل يمتنع أن يسعى في فضيحة نفسه وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه والثاني أن النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ونزاهته حيث قلن حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( يوسف 31 ) وفي المرة الثانية حيث قلن حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء والثالث أن امرأة العزيز أقرت في المرة الأولى بطهارته حيث قالت وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ( يوسف 32 ) وفي المرة الثانية في هذه الآية
واعلم أن هذه الآية دالة على طهارته من وجوه أولها قول المرأة أَنَاْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ وثانيها قولها وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى ( يوسف 26 ) وثالثها قول يوسف عليه السلام ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال جبريل عليه السلام ولا حين هممت وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريف ظاهر القرآن ورابعها قوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ يعني أن صاحب الخيانة لا بد وأن يفتضح فلو كنت خائناً لوجب أن افتضح وحيث لم افتضح وخلصني الله تعالى من هذه الورطة فكل ذلك يدل على أني ما كنت من الخائنين وههنا وجه آخر وهو أقوى من الكل وهو أن في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسة وتلك المحنة صارت منتهية فإقدامه على قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً لا يليق بأحد من العقلاء فكيف يليق إسناده إلى سيد العقلاء وقدوة الأصفياء فثبت أن هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقوله الجهال والحشوية
وَمَآ أُبَرِّى ءُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَة ٌ بِالسُّو ءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ(18/124)
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن تفسير هذه الآية يختلف بحسب اختلاف ما قبلها لأنا إن قلنا إن قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف 52 ) كلام يوسف كان هذا أيضاً من كلام يوسف وإن قلنا إن ذلك من تمام كلام المرأة كان هذا أيضاً كذلك ونحن نفسر هذه الآية على كلا التقديرين أما إذا قلنا إن هذا كلام يوسف عليه السلام فالحشوية تمسكوا به وقالوا إنه عليه السلام لما قال ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال جبريل عليه السلام ولا حين هممت بفك سراويلك فعند ذلك قال يوسف وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة ٌ بِالسُّوء أي بالزنا إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى أي عصم ربي إِنَّ رَبّى غَفُورٌ للهم الذي هممت به رَّحِيمٌ أي لو فعلته لتاب علي
واعلم أن هذا الكلام ضعيف فإنا بينا أن الآية المتقدمة برهان قاطع على براءته عن الذنب بقي أن يقال فما جوابكم عن هذه الآية فنقول فيه وجهان
الوجه الأول أنه عليه السلام لما قال ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كان ذلك جارياً مجرى مدح النفس وتزكيتها وقال تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) فاستدرك ذلك على نفسه بقوله وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى والمعنى وما أزكي نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية
والوجه الثاني في الجواب أن الآية لا تدل ألبتة على شيء مما ذكروه وذلك لأن يوسف عليه السلام لما قال أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بين أن ترك الخيانة ما كان لعدم الرغبة ولعدم ميل النفس والطبيعة لأن النفس أمارة بالسوء والطبيعة تواقة إلى الذات فبين بهذا الكلام أن الترك ما كان لعدم الرغبة بل لقيام الخوف من الله تعالى أما إذا قلنا إن هذا الكلام من بقية كلام المرأة ففيه وجهان الأول وما أبرىء نفسي عن مراودته ومقصودها تصديق يوسف عليه السلام في قوله هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى الثاني أنها لما قالت ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف 52 ) قالت وما أبرىء نفسي عن الخيانة مطلقاً فإني قد خنته حين قد أحلت الذنب عليه وقلت مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( يوسف 25 ) وأودعته السجن كأنها أرادت الاعتذار مما كان
فإن قيل جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف أولى أم جعله كلاماً للمرأة
قلنا جعله كلاماً ليوسف مشكل لأن قوله قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الئَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ( يوسف 51 ) كلام موصول بعضه ببعض إلى آخره فالقول بأن بعضه كلام المرأة والبعض كلام يوسف مع تخلل الفواصل الكثيرة بين القولين وبين المجلسين بعيد وأيضاً جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً لأن قوله وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة ٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى كلام لا يحسن صدوره إلا ممن احترز عن المعاصي ثم يذكر هذا الكلام على سبيل كسر النفس وذلك لا يليق بالمرأة التي استفرغت جهدها في المعصية
المسألة الثانية قالوا مَا في قوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى بمعنى ( من ) والتقدير إلا من رحم ربي وما ومن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر كقوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وقال(18/125)
وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ ( النور 45 ) وقوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى استثناء متصل أو منقطع فيه وجهان الأول أنه متصل وفي تقريره وجهان الأول أن يكون قوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى أي إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة الثاني إلا ما رحم ربي أي إلا وقت رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت العصمة
والقول الثاني أنه استثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة كقوله وَلَّاهُمْ يُنصَرُونَ ( البقرة 48 ) إِلاَّ رَحْمَة ً مّنَّا ( يس 44 )
المسألة الثالثة اختلف الحكماء في أن النفس الإمارة بالسوء ما هي والمحققون قالوا إن النفس الإنسانية شيء واحد ولها صفات كثيرة فإذا مالت إلى العالم الإلهي كانت نفساً مطمئنة وإذا مالت إلى الشهوة والغضب كانت أمارة بالسوء وكونها أمارة بالسوء يفيد المبالغة والسبب فيه أن النفس من أول حدوثها قد ألفت المحسوسات والتذت بها وعشقتها فأما شعورها بعالم المجردات وميلها إليه فذلك لا يحصل إلا نادراً في حق الواحد فالواحد وذلك الواحد فإنما يحصل له ذلك التجرد والانكشاف طول عمره في الأوقات النادرة فلما كان الغالب هو انجذابها إلى العالم الجسداني وكان ميلها إلى الصعود إلى العالم الأعلى نادراً لا جرم حكم عليها بكونها أمارة بالسوء ومن الناس من زعم أن النفس المطمئنة هي النفس العقلية النطقية وأما النفس الشهوانية والغضبية فهما مغايرتان للنفس العقلية والكلام في تحقيق الحق في هذا الباب مذكور في المعقولات
المسألة الرابعة تمسك أصحابنا في أن الطاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله بقوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى قالوا دلت الآية على أن انصراف النفس من الشر لا يكون إلا برحمته ولفظ الآية مشعر بأنه متى حصلت تلك الرحمة حصل ذلك الانصراف فنقول لا يمكن تفسير هذه الرحمة بإعطاء العقل والقدرة والألطاف كما قاله القاضي لأن كل ذلك مشترك بين الكافر والمؤمن فوجب تفسيرها بشيء آخر وهو ترجيح داعية الطاعة على داعية المعصية وقد أثبتنا ذلك أيضاً بالبرهان القاطع وحينئذ يحصل منه المطلوب
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأرض إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال هو العزيز ومنهم من قال بل هو الريان الذي هو الملك الأكبر وهذا هو الأظهر لوجهين الأول أن قول يوسف اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ يدل عليه الثاني أن قوله أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً له وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصاً للعزيز فدل هذا على أن هذا الملك هو الملك الأكبر(18/126)
المسألة الثانية ذكروا أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام وهو في الحبس وقال ( قل اللهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث لا أحتسب ) فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن وتقرير الكلام أن الملك عظم اعتقاده في يوسف لوجوه أحدها أنه عظم اعتقاده في علمه وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه وثانيها أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج بل صبر وتوقف وطلب أولاً ما يدل على براءة حاله عن جميع لتهم وثالثها أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه وذلك لأنه اقتصر على قوله مَا بَالُ النّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ( يوسف 50 ) وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء وهذا من الأدب العجيب ورابعها براءة حاله عن جميع أنواع التهم فإن الخصم أقر له بالطهارة والنزاهة والبراءة عن الجرم وخامسها أن الشرابي وصف له جده في الطاعات واجتهاده في الإحسان إلى الذين كانوافي السجن وسادسها أنه بقي في السجن بضع سنين وهذه الأمور كل واحد منها يوجب حسن الاعتقاد في الإنسان فكيف مجموعها فلهذا السبب حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله شيئاً جمع أسبابه وقواها
إذا عرفت هذا فنقول لما ظهر للملك هذه الأحوال من يوسف عليه السلام رغب أن يتخذه لنفسه فقال ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام ثم إلى الملك متنظفاً من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ولما دخل عليه قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم دخل عليه وسلم ودعا له بالعبرانية والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك وهذا الملك طلب أن يكون يوسف له وحده وأنه لا يشاركه فيه غيره لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة الرفيعة فلما علم الملك أنه وحيد زمانه وفريد أقرانه أراد أن ينفرد به
روي أن الملك قال ليوسف عليه السلام ما من شيء إلا وأحب أن تشركني فيه إلا في أهلي وفي أن لا تأكل معي فقال يوسف عليه السلام أما ترى أن آكل معك وأنا يوسف بن يعقوب بن إسحق الذبيح بن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم قال فَلَمَّا كَلَّمَهُ وفيه قولان أحدهما أن المراد فلما كلم الملك يوسف عليه السلام قالوا لأن في مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبتدىء بالكلام وإنما الذي يبتدىء به هو الملك والثاني أن المراد فلما كلم يوسف الملك قيل لما صار يوسف إلى الملك وكان ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة فلما رآه الملك حدثاً شاباً قال للشرابي هذا هو الذي علم تأويل رؤياي مع أن السحرة والكهنة ماعلموها قال نعم فأقبل على يوسف وقال إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاهاً فأجاب بذلك الجواب شفاهاً وشهد قلبه بصحته فعند ذلك قال له إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ يقال فلان مكين عند فلان بين المكانة أي المنزلة وهي حالة يتمكن بها صاحبها مما يريد وقوله أَمِينٌ أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما نسبت إليه
واعلم أن قوله مِكِينٌ أَمِينٌ كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب وذلك لأنه لا بد(18/127)
في كونه مكيناً من القدرة والعلم أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة وأما العلم فلأن كونه متمكناً من أفعال الخير لا يحصل إلا به إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي وبما لا ينبغي لا يمكنه تخصيص ما ينبغي بالفعل وتخصيص ما لا ينبغي بالترك فثبت أن كونه مكيناً لا يحصل إلا بالقدرة والعلم أما كونه أميناً فهو عبارة عن كونه حكيماً لا يفعل الفعل لداعي الشهوة بل إنما يفعله لداعي الحكمة فثبت أن كونه مكيناً أميناً يدل على كونه قادراً وعلى كونه عالماً بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد وعلى كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لا لداعية الشهوة وكل من كان كذلك فإنه لا يصدر عنه فعل الشر والسفه فلهذا المعنى لما حاولت المعتزلة إثبات أنه تعالى لا يفعل القبيح قالوا إنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه تعالى عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح قالوا وإنما يكون غنياً عن القبيح إذا كان قادراً وإذا كان منزهاً عن داعية السفه فثبت أن وصفه بكونه مكيناً أميناً نهاية ما يمكن ذكره في هذا الباب ثم حكى تعالى أن يوسف عليه السلام قال في هذا المقام اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون لما عبر يوسف عليه السلام رؤيا الملك بين يديه قال له الملك فما ترى أيها الصديق قال أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ أي على خزائن أرض مصر وأدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية أنه قال ( رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لأستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره عنه سنة ) وأقول هذا من العجائب لأنه لما تأبى عن الخروج من السجن سهل الله عليه ذلك على أحسن الوجوه ولما تسارع في ذكر الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه وهذا يدل على أن ترك التصرف والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى
المسألة الثانية لقائل أن يقول لم طلب يوسف الإمارة والنبي عليه الصلاة والسلام قال لعبد الرحمن بن سمرة ( لا تسأل الإمارة ) وأيضاً فكيف طلب الإمارة من سلطان كافر وأيضاً لم لم يصبر مدة ولم أظهر الرغبة في طلب الأمارة في الحالة وأيضاً لم طلب أمر الخزائن في أول الأمر مع أن هذا يورث نوع تهمة وأيضاً كيف جوز من نفسه مدح نفسه بقوله إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ مع أنه تعالى يقول فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) وأيضاً فما الفائدة في قوله إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وأيضاً لم ترك الاستثناء في هذا فإن الأحسن أن يقول إني حفيظ عليم إن شاء الله بدليل قوله تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 24 ) فهذه أسئلة سبعة لا بد من جوابها فنقول الأصل في جواب هذه المسائل أن التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان إنما قلنا إن ذلك التصرف كان واجباً عليه لوجوه الأول أنه كان رسولاً حقاً من الله تعالى إلى الخلق والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان والثاني وهو أنه عليه السلام علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاك الخلق العظيم فلعله تعالى أمره بأن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق والثالث أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول(18/128)
وإذا ثبت هذا فنقول إنه عليه السلام كان مكلفاً برعاية مصالح الخلق من هذه الوجوه وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فكان هذا الطريق واجباً عليه ولما كان واجباً سقطت الأسئلة بالكلية وأما ترك الاستثناء فقال الواحدي كان ذلك من خطيئة أوجبت عقوبة وهي أنه تعالى أخر عنه حصول ذلك المقصود سنة وأقول لعل السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء لاعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء وأما قوله لم مدح نفسه فجوابه من وجوه الأول لا نسلم أنه مدح نفسه لكنه بين كونه موصوفاً بهاتين الصفتين النافعتين في حصول هذا المطلوب وبين البابين فرق وكأنه قد غلب على ظنه أنه يحتاج إلى ذكر هذا الوصف لأن الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكنه ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر ثم نقول هب أنه مدح نفسه إلا أن مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم فقوله تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) المراد منه تزكية النفس حال مايعلم كونها غير متزكية والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى أما إذا كان الإنسان عالماً بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه والله أعلم
قوله ما الفائدة في وصفه نفسه بأنه حفيظ عليم
قلنا إنه جار مجرى أن يقول حفيظ بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال عليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها ويقال حفيظ بجميع مصالح الناس عليم بجهات حاجاتهم أو يقال حفيظ لوجوه أياديك وكرمك عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والخضوع وهذا باب واسع يمكن تكثيره لمن أراده
وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاّجْرُ الاٌّ خِرَة ِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك الله عن الملك أنه قال قد فعلت بل الله سبحانه قال وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره قال الملك قد فعلت إلا أن تمكين الله له في الأرض يدل على أن الملك الملك قد أجابه إلى ما سأل وأقول ما قالوه حسن إلا أن ههنا ما هو أحسن منه وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر وأما المؤثر الحقيقي فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض وذلك لأن ذلك الملك كان متمكناً من القبول ومن الرد فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي وما دام يبقى هذ التساوي امتنع حصول القبول فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك وذلك الترجح لا يكون إلا(18/129)
بمرجح يخلقه الله تعالى إذا خلق الله تعالى ذلك المرجح حصل القبول لا محالة فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق الله تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب الأثر فلهذا السبب ترك الله تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو
المسألة الثانية روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلد بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقال يوسف عليه السلام أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي وجلس على السرير ودانت له القوم وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ومات بعد ذلك وزوجه الملك امرأته فلما دخل عليها قال أليس هذا خيراً مما طلبت فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفرايم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم سنين فقالوا والله ما رأينا ملكاً أعظم شأناً من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيداً له فلما سمع ذلك قال إني أشهد الله أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين هكذا رواه صاحب ( الكشاف ) والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَكَذالِكَ الكاف منصوبة بالتمكين وذلك إشارة إلى ما تقدم يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس وقوله مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع وقوله يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره مكناه متبوأ وقرأ ابن كثير نَشَاء بالنون مضافاً إلى الله تعالى والباقون بالياء مضافاً إلى يوسف
واعلم أن قوله يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد ولا ينازعه منازع بل صار مستقلاً بكل ما شاء وأراد ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله فقال نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً أن ذلك التمكين كان من الله لا من أحد سواه وهو قوله كَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ ثم أكد ذلك ثانياً بقوله نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وفيه فائدتان
الفائدة الأولى أن هذا يدل على أن الكل من الله تعالى قال القاضي تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فعلها الله تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى
وجوابه أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل الله تعالى لأن لفظ القرآن يدل على قولنا والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه
الفائدة الثانية أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة قال القاضي هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح(18/130)
قلنا الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأمارعاية قيد الصلاح فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه
ثم قال تعالى وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى فكانت الإضاعة ممتنعة
واعلم أن هذا شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال إنه كان من المحسنين فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق
ثم قال تعالى وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ وفيه مسائل
المسألة الأول في تفسير هذه الآية قولان
القول الأول المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعاً خالصاً دائماً مقروناً بالتعظيم وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا
القول الثاني أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال الثريد خير من الله يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله
إذا ثبت هذا فقوله وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضاً خيرات بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير وأما ما سواه فعبث
المسألة الثانية لا شك أن المراد من قوله وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون وهذا تنصيص من الله عز وجل على أنه كان في الزمان السابق من المتقين وليس ههنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ( يوسف 24 ) فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين وأيضاً قوله وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين وقوله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين والجاهل الحشوي يقول إنه كان من الأخسرين المذنبين ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ يدل على بطلان قول المرجئة الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر(18/131)
قلنا هذا ضعيف لأنا إن حملنا لفظ خير على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلاً وإن حملناه على أصل معنى الخيرية فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير
وَجَآءَ إِخْوَة ُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ
اعلم أنه لما عم القحط في البلاد ووصل أيضاً إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه إن بمصر رجلاً صالحاً يمير الناس فاذهبوا إليه بدراهمكم وخذوا الطعام فخرجوا إليه وهم عشرة ودخلوا على يوسف عليه السلام وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف عليه السلام مع إخوته وظهور صدق ما أخبر الله تعالى عنه في قوله ليوسف عليه السلام حال ما ألقوه في الجب لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( يوسف 15 ) وأخبر تعالى أن يوسف عرفهم وهم ما عرفوه ألبتة أما أنه عرفهم فلأنه تعالى كان قد أخبره في قوله لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ بأنهم يصلون إليه ويدخلون عليه وأيضاً الرؤيا التي رآها كانت دليلاً على أنهم يصلون إليه فلهذا السبب كان يوسف عليه السلام مترصداً لذلك الأمر وكان كل من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحص عنهم ويتعرف أحوالهم ليعرف أن هؤلاء الواصلين هل هم إخوته أم لا فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم تفحصاً ظهر له أنهم إخوته وأما أنهم ما عرفوه فلوجوه الأول أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بالواسطة ومتى كان الأمر كذلك لا جرم أنهم لم يعرفوه لا سيما مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف وكل ذلك مما يمنع من التأمل التام الذي عنده يحصل العرفان والثاني هو أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيراً ثم إنهم رأوه بعد وفور اللحية وتغير الزي والهيئة فإنهم رأوه جالساً على سريره وعليه ثياب الحرير وفي عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج من ذهب والقوم أيضاً نسوا واقعة يوسف عليه السلام لطول المدة فيقال إن من وقت ما ألقوه في الجب إلى هذا الوقت كان قد مضى أربعون سنة وكل واحد من هذه الأسباب يمنع من حصول المعرفة لا سيما عند اجتماعها والثالث أن حصول العرفان والتذكير بخلق الله تعالى فلعله تعالى ما خلق ذلك العرفان والتذكير في قلوبهم تحقيقاً لما أخبره عنه بقوله لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وكان ذلك من معجزات يوسف عليه السلام
ثم قال تعالى وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قال الليث جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازهم(18/132)
للسفر وكذلك جهاز العروس والميت وهو ما يحتاج إليه في وجهه قال وسمعت أهل البصرة يقولون الجهاز بالكسر قال الأزهري القراء كلهم على فتح الجيم والكسر لغة ليست بجيدة قال المفسرون حمل لكل رجل منهم بعيراً وأكرمهم أيضاً بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه في السفر فذلك قوله جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ثم بين تعالى أنه لما جهزهم بجهازهم قال ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ
واعلم أنه لا بد من كلام سابق حتى يصير ذلك الكلام سبباً لسؤال يوسف عن حال أخيهم وذكروا فيه وجوهاً
الوجه الأول وهو أحسنها إن عادة يوسف عليه السلام مع الكل أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه ولا أنقص وإخوة يوسف الذين ذهبوا إليه كانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا إن لنا أباً شيخاً كبيراً وأخاً آخر بقي معه وذكروا أن أباهم لأجل سنه وشدة حزنه لم يحضر وأن أخاهم بقي في خدمة أبيه ولا بد لهما أيضاً من شيء من الطعام فجهز لهما أيضاً بعيرين آخرين من الطعام فلما ذكروا ذلك قال يوسف فهذا يدل على أن أحب أبيكم له أزيد من حبه لكم وهذا شيء عجيب لأنكم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل وفي الفضل والأدب فجيئوني به حتى أراه فهذا السبب محتمل مناسب
والوجه الثاني أنهم لما دخلوا عليه عليه السلام وأعطاهم الطعام قال لهم من أنتم قالوا نحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال لعلكم جئتم عيوناً فقالوا معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد شيخ صديق نبي اسمه يعقوب قال كم أنتم قالوا كنا اثني عشر فهلك منا واحد وبقي واحد مع الأب يتسلى به عن ذلك الذي هلك ونحن عشرة وقد جئناك قال فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخ لكم من أبيكم ليبلغ إلي رسالة أبيكم فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده
والوجه الثالث لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف فلم تركتموه وحيداً فريداً قالوا ما تركناه وحيداً بل بقي عنده واحد فقال لهم لم استخلصه لنفسه ولم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده فقالوا لا بل لأجل أنه يحبه أكثر من محبته لسائر الأولاد فعند هذا قال يوسف لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم بعيد عن المجازفة ثم إنه خصه بمزيد المحبة وجب أن يكون زائداً عليكم في الفضل وصفات الكمال مع أني أراكم فضلاء علماء حكماء فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ فائتوني به والسبب الثاني ذكره المفسرون والأول والثالث محتمل والله أعلم
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه قال أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ أي أتمه ولا أبخسه وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم وأنا خير المنزلين أي خير المضيفين لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم وأقول هذا الكلام يضعف الوجه الثاني وهو الذي نقلناه عن المفسرين لأن مدار ذلك الوجه على أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس ولو شافههم بذلك الكلام فلا يليق به أن يقوم لهم أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم أنتم جواسيس وعيون مع أنه(18/133)
يعرف براءتهم عن هذه التهمة لأن البهتان لا يليق بحال الصديق
ثم قال فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ
واعلم أنه عليه السلام لما طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب والترهيب أما الترغيب فهو قوله أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ وأما الترهيب فهو قوله فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ وذلك لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده فإذا منعهم من الحضور عنده كان ذلك نهاية الترهيب والتخويف ثم إنهم لما سمعوا هذا الكلام من يوسف قالوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ أي سنجتهد ونحتال على أن ننزعه من يده وإنا لفاعلون هذه المراودة والغرض من التكرير التأكيد ويحتمل أن يكون وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ أن نجيئك به ويحتمل وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ كل ما في وسعنا من هذا الباب
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ
في الآية مسائل
المسائل الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لفتيانه بالألف والنون والباقون لفتيته بالتاء من غير ألف وهما لغتان كالصبيان والصبية والإخوان والإخوة قال أبو علي الفارسي الفتية جمع فتى في العدد القليل والفتيان للكثير فوجه البناء الذي للعدد القليل أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكونون قليلين لأن هذا من باب الأسرار فوجب صونه إلا عن العدد القليل ووجه الجمع الكثير أنه قال لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ والرحال تفيد العدد الكثير فوجب أن يكون الذين يباشرون ذلك العمل كثيرين
المسألة الثانية اتفق الأكثرون على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم ومنهم من قال إنهم كانوا عارفين به وهو ضعيف لأن قوله لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا يبطل ذلك ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجوه الأول أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه علموا أن ذلك كان كرماً من يوسف وسخاء محضاً فيبعثهم ذلك على العود إليه والحرص على معاملته الثاني خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى الثالث أراد به التوسعة على(18/134)
أبيه لأن الزمان كان زمان القحط الرابع رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع شدة حاجتهم إلى الطعام لؤم الخامس قال الفراء إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد الأنبياء فرجعوا ليعرفوا السبب فيه أو رجعوا ليردوا المال إلى مالكه السادس أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب ولا منة السابع مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا لطلب زيادة في الثمن الثامن أراد أن يعرف أبوه أنه أكرمهم وطلبه له لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه التاسع أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدة الزمان وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم العاشر أراد أن يقابل مبالغتهم في الإساءة بمبالغته في الإحسان إليهم
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما رجعوا إلى أبيهم قالوا قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ وفيه قولان الأول أنهم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عنده منعوا منه فقولهم مَنَعَ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إشارة إليه والثاني أنه منع الكيل في المستقبل وهو إشارة إلى قول يوسف فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى ( يوسف 60 ) والدليل على أن المراد ذلك قولهم فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ قرأ حمزة والكسائي يكتل بالياء والباقون بالنون والقراءة الأولى تقوى القول الأول والقراءة الثانية تقوي القول الثاني ثم قالوا وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ضمنوا كونهم حافظين له فلما قالوا ذلك قال يعقوب عليه السلام هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ والمعنى أنكم ذكرتم قبل هذا الكلام في يوسف وضمنتم لي حفظه حيث قلتم وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( يوسف 12 ) ثم ههنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه فهل يكون ههنا أماني إلا ما كان هناك يعني لما لم يحصل الأمان هناك فكذلك لا يحصل ههنا
ثم قال فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ قرأ حمزة والكسائي حَافِظًا بالألف على التمييز والتفسير على تقدير هو خير لكم حافظاً كقولهم هو خيرهم رجلاً ولله دره فارساً وقيل على الحال والباقون حَافِظًا بغير ألف على المصدر يعني خيركم حفظاً يعني حفظ الله لبنيامين خير من حفظكم وقرأ الأعمش فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وقرأ أبو هريرة رضي الله عنه خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ وقيل معناه وثقت بكم في حفظ يوسف عليه السلام فكان ما كان فالآن أتوكل على الله في حفظ بنيامين
فإن قيل لم بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد
قلنا لوجوه أحدها أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح وثانيها أنه كان يشاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام وثالثها أن ضرورة القحط أحوجته إلى ذلك ورابعها لعله تعالى أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه
فإن قيل هل يدل قوله فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا على أنه أذن في ذهاب ابنه بنيامين في ذلك الوقت
قلنا الأكثرون قالوا يدل عليه وقال آخرون لا يدل عليه وفيه وجهان الأول التقدير أنه لو أذن في خروجه معهم لكان في حفظ الله لا في حفظهم الثاني أنه لما ذكر يوسف قال فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي(18/135)
وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مَا نَبْغِى هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ
اعلم أن المتاع ما يصلح لأن يستمتع به وهو عام في كل شيء ويجوز أن يراد به ههنا الطعام الذي حملوه ويجوز أن يراد به أوعية الطعام
ثم قال وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ واختلف القراء في رُدَّتْ فالأكثرون بضم الراء وقرأ علقمة بكسر الراء قال صاحب ( الكشاف ) كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء كما في قيل وبيع وحكى قطرب أنهم قالوا في قولنا ضرب زيد على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد وأما قوله مَا نَبْغِى ففي كلمة مَا قولان
القول الأول أنها للنفي وعلى هذا التقدير ففيه وجوه الأول أنهم كانوا قد وصفوا يوسف بالكرم واللطف وقالوا إنا قدمنا على رجل في غاية الكرم أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب لمافعل ذلك فقولهم مَا نَبْغِى أي بهذا الوصف الذي ذكرناه كذباً ولا ذكر شيء لم يكن الثاني أنه بلغ في الإكرام إلى غاية ما وراءها شيء آخر فإنه بعد أن بالغ في إكرامنا أمر ببضاعتنا فردت إلينا الثالث المعنى أنه رد بضاعتنا إلينا فنحن لا نبغي منك عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى فإن هذه التي معنا كافية لنا
والقول الثاني أن كلمة ( ما ) ههنا للاستفهام والمعنى لما رأوا أنه رد إليهم بضاعتهم قالوا ما نبغي بعد هذا أي أعطانا الطعام ثم رد علينا ثمن الطعام على أحسن الوجوه فأي شيء نبغي وراء ذلك
واعلم أنا إذا حملنا ( ما ) على الاستفهام صار التقدير أي شيء نبغي فوق هذا الإكرام إن الرجل رد دراهمنا إلينا فإذا ذهبنا إليه نمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير بسبب حضور أخينا قال الأصمعي يقال ماره يميره ميراً إذا أتاه بميرة أي بطعام ومنه يقال ما عنده خير ولا مير وقوله وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ معناه أن يوسف عليه السلام كان يكيل لكل رجل حمل بعير فإذا حضر أخوه فلا بد وأن يزداد ذلك الحمل وأما إذا حملنا كلمة ( ما ) على النفي كان المعنى لا نبغي شيئاً آخر هذه بضاعتنا ردت إلينا فهي كافية لثمن الطعام في الذهاب الثاني ثم نفعل كذا وكذا
وأما قوله ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ففيه وجوه الأول قال مقاتل ذلك كيل يسير على هذا الرجل المحسن لسخائه وحرصه على البذل وهو اختيار الزجاج والثاني ذلك كيل يسير أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير والثالث أن يكون المراد ذلك الذي يدفع إلينا دون أخينا شيء يسير قليل فابعث أخانا معنا حتى نتبدل تلك القلة بالكثرة(18/136)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
اعلم أن الموثق مصدر بمعنى الثقة ومعناه العهد الذي يوثق به فهو مصدر بمعنى المفعول يقول لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً موثوقاً به وقوله مِنَ اللَّهِ أي عهداً موثوقاً به بسبب تأكده بإشهاد الله وبسبب القسم بالله عليه وقوله لَتَأْتُنَّنِى بِهِ دخلت اللام ههنا لأجل أنا بينا أن المراد بالموثق من الله اليمين فتقديره حتى تحلفوا بالله لتأتنني به وقوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فيه بحثان
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) هذا الاستثناء متصل فقوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ مفعوله له والكلام المثبت الذي هو قوله لَتَأْتُنَّنِى بِهِ في تأويل المنفي فكان المعنى لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا لعلة واحدة
البحث الثاني قال الواحدي للمفسرين فيه قولان
القول الأول أن قوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ معناه الهلاك قال مجاهد إلا أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذراً عندي والعرب تقول أحيط بفلان إذا قرب هلاكه قال تعالى وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ( الكهف 42 ) أي أصابه ما أهلكه وقال تعالى وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ( يونس 22 ) وأصله أن من أحاط به العدو وانسدت عليه مسالك النجاة دنا هلاكه فقيل لكل من هلك قد أحيط به
والقول الثاني ما ذكره قتادة إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ إلا أن تصيروا مغلوبين مقهورين فلا تقدرون على الرجوع
ثم قال تعالى فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ يريد شهيد لأن الشهيد وكيل بمعنى أنه موكول إليه هذا العهد فإن وفيتم به جازاكم بأحسن الجزاء وإن غدرتم فيه كافأكم بأعظم العقوبات
وَقَالَ يابَنِى َّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَة ٍ وَمَآ أُغْنِى عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
اعلم أن أبناء يعقوب لما عزموا على الخروج إلى مصر وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد قال لهم لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَة ٍ وفيه قولان الأول وهو قول جمهور(18/137)
المفسرين أنه خاف من العين عليهم ولنا ههنا مقامان
المقام الأول إثبات أن العين حق والذي يدل عليه وجوه الأول إطباق المتقدمين من المفسرين على أن المراد من هذه الآية ذلك والثاني ما روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعوذ الحسن والحسين فيقول ( أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ) ويقول هكذا كان يعوذ إبراهيم إسمعيل وإسحق صلوات الله عليهم والثالث ما روى عبادة بن الصامت قال دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم عدت إليه آخر النهار فرأيته معافى فقال ( إن جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد الله يشفيك ) قال فأفقت والرابع روي أن بني جعفر ابن أبي طالب كانوا غلمناً بيضاً فقالت أسماء يا رسول الله إن العين إليهم سريعة أفأسترقي لهم من العين فقال لها نعم والخامس دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا يا رسول الله أصابته العين فقال أفلا تسترقون له من العين والسادس قوله عليه السلام ( العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر ) والسابع قالت عائشة رضي الله عنها كن يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغسل منه المعين الذي أصيب بالعين
المقام الثاني في الكشف عن ماهيته فنقول إن أبا علي الجبائي أنكر هذا المعنى إنكاراً بليغاً ولم يذكر في إنكاره شبهة فضلاً عن حجة وأما الذين اعترفوا به وأقروا بوجوده فقد ذكروا فيه وجوهاً الأول قال الحافظ إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه وتسري فيه كتأثير اللسع والسم والنار وإن كان مخالفاً في جهة التأثير لهذه الأشياء قال القاضي وهذا ضعيف لأنه لو كان الأمر كما قال لوجب أن يؤثر في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيره في المستحسن واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف وذلك لأنه إذا استحسن شيئاً فقد يحب بقاءه كما إذا استحسن ولد نفسه وبستان نفسه وقد يكره بقاءه أيضاً كما إذا أحس الحاسد بشيء حصل لعدوه فإن كان الأول فإنه يحصل له عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله والخوف الشديد يوجب انحصار الروح في داخل القلب فحينئذ يسخن القلب والروح جداً ويحصل في الروح الباصرة كيفية قوية مسخنة وإن كان الثاني فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان حسد شديد وحزن عظيم بسبب حصول تلك النعمة لعدوه والحزن أيضاً يوجب انحصار الروح في داخل القلب ويحصل فيه سخونة شديدة فثبت أن عند الاستحسان القوي تسخن الروح جداً فيسخن شعاع العين بخلاف ما إذا لم يستحسن فإنه لا تحصل هذه السخونة فظهر الفرق بين الصورتين ولهذا السبب أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال
الوجه الثاني قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي إنه لا يمتنع أن تكون العين حقاً ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحساناً كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص وذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقاً به فهذا المعنى غير ممتنع ثم لا يبعد أيضاً أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الإعجاب وسأل ربه تقية ذلك فعنده تتعين المصلحة ولما كانت هذه العادة مطردة لا جرم قيل العين حق
الوجه الثالث وهو قول الحكماء قالوا هذا الكلام مبني على مقدمة وهي أنه ليس من شرط المؤثر أن(18/138)
يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعاً على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ولو كان موضوعاً فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان على المشي عليه وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة وأيضاً أن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذياً له حصل في قلبه غضب ويسخن مزاجه جداً فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذلك التصور النفساني ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضاً أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان وأيضاً جواهر النفوس المختلفة بالماهية فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ويتعجب منه فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه والنفوس النبوية نطقت به فعنده لا يبقى في وقوعه شك
وإذا ثبت هذا ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين كلام حق لا يمكن رده
القول الثاني وهو قول أبي علي الجبائي أن أبناء يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بهم وبحسهم وكمالهم فقال لاَ تَدْخُلُواْ تلك المدينة مِن بَابٍ وَاحِدٍ على ما أنتم عليه من العدد والهيئة فلم يأمن عليهم حسد الناس أو يقال لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم واعلم أن هذا الوجه محتمل لا إنكار فيه إلا أن القول الأول قد بينا أنه لا امتناع فيه بحسب العقل والمفسرون أطبقوا عليه فوجب المصير إليه ونقل عن الحسن أنه قال خاف عليهم العين فقال لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ثم رجع إلى علمه وقال وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء وعرف أن العين ليست بشيء وكان قتادة يفسر الآية بإصابة العين ويقول ليس في قوله وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء إبطال له لأن العين وإن صح فالله قادر على دفع أثره
القول الثالث أنه عليه السلام كان عالماً بأن ملك مصر هو ولده يوسف إلا أن الله تعالى ما أذن له في إظهار ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال لا تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَة ٍ وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة وهذا قول إبراهيم النخعي فأما قوله وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء فاعلم أن الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم ومأمور أيضاً بأن يعتقد ويجزم بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله تعالى وأن الحذر لا ينجي من القدر فإن الإنسان مأمور بأن يحذر عن الأشياء المهلكة والأغذية الضارة ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضار بقدر الإمكان ثم إنه مع ذلك ينبغي أن يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله فقوله عليه السلام لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَة ٍ فهو إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم وقوله وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى التوحيد المحض والبراءة عن كل شيء سوء الله تعالى وقول القائل كيف السبيل إلى الجمع بين هذين القولين فهذا(18/139)
السؤال غير مختص به وذلك لأنه لا نزاع في أنه لا بد من إقامة الطاعات والاحتراز عن المعاصي والسيئات مع أنا نعتقد أن السعيد من سعد في بطن أمه وأن الشقي من شقي في بطن أمه فكذا ههنا نأكل ونشرب ونحترز عن السموم وعن الدخول في النار مع أن الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله تعالى فكذا ههنا فظهر أن هذا السؤال غير مختص بهذا المقام بل هو بحث عن سر مسألة الجبر والقدر بل الحق أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة وبعد ذلك السعي البليغ والجد الجهيد فإنه يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فلا بد وأن يكون بقضاء الله تعالى ومشيئته وسابق حكمه وحكمته ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا في القضاء والقدر وذلك لأن الحكم عبارة عن الإلزام والمنع من النقيض وسميت حكمة الدابة بهذا الاسم لأنها تمنع الدابة عن الحركات الفاسدة والحكم إنما سمي حكماً لأنه يقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بحيث يصير الطرف الآخر ممتنع الحصول فبين تعالى أن الحكم بهذا التفسير ليس إلا لله سبحانه وتعالى وذلك يدل على أن جميع الممكنات مستندة إلى قضائه وقدره ومشيئته وحكمه إما بغير واسطة وإما بواسطة ثم قال عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ ومعناه أنه لما ثبت أن الكل من الله ثبت أنه لا توكل إلا على الله وأن الرغبة ليست إلا في رجحان وجود الممكنات على عدمها وذلك الرجحان المانع عن النقيض هو الحكم وثبت بالبرهان أنه لا حكم إلا لله فلزم القطع بأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله ويوجب أنه لا توكل إلا على الله فهذا مقام شريف عال ونحن قد أشرنا إلى ما هو البرهان الحق فيه والشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله أطنب في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتاب ( إحياء علوم الدين ) فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ إِلاَّ حَاجَة ً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
قال المفسرون لما قال يعقوب وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء ( يوسف 67 ) صدقه الله في ذلك فقال وما كان ذلك التفرق يغني من الله من شيء وفيه بحثان
البحث الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما ذلك التفرق ما كان يرد قضاء الله ولا أمراً قدره الله وقال الزجاج إن العين لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم وهم مجتمعون وقال ابن الأنباري لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم وهذه الكلمات متقاربة وحاصلها أن الحذر لا يدفع القدر
البحث الثاني قوله مِن شَى ْء يحتمل النصب بالمفعولية والرفع بالفاعلية(18/140)
أما الأول فهو كقوله ما رأيت من أحد والتقدير ما رأيت أحداً فكذا ههنا تقدير الآية أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئاً أي ذلك التفرق ما كان يخرج شيئاً من تحت قضاء الله تعالى
وأما الثاني فكقولك ما جاءني من أحد وتقديره ما جاءني أحد فكذا ههنا التقدير ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه
أما قوله إِلاَّ حَاجَة ً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا فقال الزجاج إنه استثناء منقطع والمعنى لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها يعني أن الدخول على صفة التفرق قضاء حاجة في نفس يعقوب قضاها ثم ذكروا في تفسير تلك الحاجة وجوهاً أحدها خوفه عليهم من إصابة العين وثانيها خوفه عليهم من حسد أهل مصر وثالثها خوفه عليهم من أن يقصدهم ملك مصر بشر ورابعها خوفه عليهم من أن لا يرجعوا إليه وكل هذه الوجوه متقاربة
وأما قوله وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ فقال الواحدي يحتمل أن يكون مَا مصدرية والهاء عائدة إلى يعقوب والتقدير وإنه لذو علم من أجل تعليمنا إياه ويمكن أن تكون مَا بمعنى الذي والهاء عائدة إليها والتأويل وإنه لذو علم للشيء الذي علمناه يعني أنا لما علمناه شيئاً حصل له العلم بذلك الشيء وفي الآية قولان آخران الأول أن المراد بالعلم الحفظ أي أنه لذو حفظ لما علمناه ومراقبة له والثاني لذو علم لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وهو إشارة إلى كونه عاملاً بما علمه ثم قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وفيه وجهان الأول ولكن أكثر الناس لا يعلمون مثل ما علم يعقوب والثاني لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة والعلم والمراد بأكثر الناس المشركون فإنهم لا يعلمون بأن الله كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة
وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّى أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَة َ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ
اعلم أنهم لما أتوه بأخيه بنيامين أكرمهم وأضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه فقال يوسف بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدة ثم أمر أن ينزل منهم كل اثنين بيتاً وقال هذا لا ثاني له فاتركوه معي فآواه إليه ولما رأى يوسف تأسفه على أخ له هلك قال له أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال من يجد أخاً مثلك ولكنك لم يلدك(18/141)
يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وقال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون
إذا عرفت هذا فنقول قوله اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ أي أنزله في الموضع الذي كان يأوي إليه وقوله إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ فيه قولان قال وهب لم يرد أنه أخوه من النسب ولكن أراد به إني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس لئلا تستوحش بالتفرد والصحيح ما عليه سائر المفسرين من أنه أراد تعريف النسب لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة وحصول الأنس ولأن الأصل في الكلام الحقيقة فلا وجه لصرفه عنها إلى المجاز من غير ضرورة
وأما قوله فَلاَ تَبْتَئِسْ فقال أهل اللغة تبتئس تفتعل من البؤس وهو الضرر والشدة والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس وقوله بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فيه وجوه الأول المراد بما كانوا يعملون من إقامتهم على حسدنا والحرص على انصراف وجه أبينا عنا الثاني أن يوسف عليه السلام ما بقي في قلبه شيء من العداوة وصار صافياً مع إخوته فأراد أن يجعل قلب أخيه صافياً معه أيضاً فقال فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي لا تلتفت إلى ما صنعوه فيما تقدم ولا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي أقدموا عليها الثالث أنهم إنما فعلوا بيوسف ما فعلوه لأنهم حسدوه على إقبال الأب عليه وتخصيصه بمزيد الإكرام فخاف بنيامين أن يحسدوه بسبب أن الملك خصه بمزيد الإكرام فأمنه منه وقال لا تلتفت إلى ذلك فإن الله قد جمع بيني وبينك الرابع روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا يعيرون يوسف وأخاه بسبب أن جدهما أبا أمهما كان يعبد الأصنام وأن أم يوسف امرأت يوسف فسرق جونة كانت لأبيها فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها إذا فقدها فقال له فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي من التعيير لنا بما كان عليه جدنا والله أعلم
ثم قال تعالى فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَة َ فِى رَحْلِ أَخِيهِ وقد مضى الكلام في الجهاز والرحل أما السقاية فقال صاحب ( الكشاف ) مشربة يسقي بها وهو الصواع قيل كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به وهو بعيد لأن الإناء الذي يشرب الملك الكبير منه لا يصلح أن يجعل صاعاً وقيل كانت الدواب تسقى بها ويكال بها أيضاً وهذا أقرب ثم قال وقيل كانت من فضة مموهة بالذهب وقيل كانت من ذهب وقيل كانت مرصعة بالجواهر وهذا أيضاً بعيد لأن الآنية التي يسقى الدواب فيها لا تكون كذلك والأولى أن يقال كان ذلك الإناء شيئاً له قيمة أما إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا
ثم قال تعالى ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ يقال أذنه أي أعلمه وفي الفرق بين أذن وبين أذن وجهان قال ابن الأنباري أذن معناه أعلم إعلاماً بعد إعلام لأن فعل يوجب تكرير الفعل قال ويجوز أن يكون إعلاماً واحداً من قبيل أن العرب تجعل فعل بمعنى أفعل في كثير من المواضع وقال سيبويه أذنت وأذنت معناه أعلمت لا فرق بينهما والتأذين معناه النداء والتصويت بالإعلام
وأما قوله تعالى أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قال أبو الهيثم كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير وقول من قال العير الإبل خاصة باطل وقيل العير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي(18/142)
تذهب وتجيء وقيل هي قافلة الحمير ثم كثر ذلك حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير وجمعها فعل كسقف وسقف
إذا عرفت هذا فنقول أَيَّتُهَا الْعِيرُ المراد أصحاب العير كقوله يا خيل الله اركبي وقرأ ابن مسعود وَجَعَلَ السّقَايَة َ على حذف جواب لما كأنه قيل فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ
فإن قيل هل كان ذلك النداء بأمر يوسف أو ما كان بأمره فإن كان بأمره فكيف يليق بالرسول الحق من عند الله أن يتهم أقواماً وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً وإن كان الثاني وهو أنه ما كان ذلك بأمره فهلا أنكره وهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة
قلنا العلماء ذكروا في الجواب عنه وجوهاً الأول أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال له إني أريد أن أحبسك ههنا ولا سبيل إليه إلا بهذه الحيلة فإن رضيت بها فالأمر لك فرضي بأن يقال في حقه ذلك وعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام فخرج عن كونه ذنباً والثاني أن المراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام والمعاريض لا تكون إلا كذلك والثالث أن ذلك المؤذن ربما ذكر ذلك النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا التقدير يخرج عن أن يكون كذباً الرابع ليس في القرآن أنهم نادوا بذلك النداء عن أمر يوسف عليه السلام والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم لأنهم لما طلبوا السقاية وما وجدوها وما كان هناك أحد إلا هم غلب على ظنونهم أنهم هم الذين أخذوها ثم إن إخوة يوسف قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي تَفْقِدُونَ من أفقدته إذا وجدته فقيداً قالوا تفقد صواع الملك قال صاحب ( الكشاف ) قرىء صواع وصاع وصوع وصوع بفتح الصاد وضمها والعين معجمة وغير معجمة قال بعضهم جمع صواع صيعان كغراب وغربان وجمع صاع أصواع كباب وأبواب وقال آخرون لا فرق بين الصاع والصواع والدليل عليه قراءة أبي هريرة قَالُواْ نَفْقِدُ وَقَالَ الْمَلِكُ وقال بعضهم الصواع اسم والسقاية وصف كقولهم كوز وسقاء فالكوز اسم والسقاء وصف
ثم قال وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ أي من الطعام أَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ قال مجاهد الزعيم هو المؤذن الذي أذن وتفسير زعيم كفيل قال الكلبي الزعيم الكفيل بلسان أهل اليمن وروى أبو عبيدة عن الكسائي زعمت به تزعم زعماً وزعامة أي كفلت به وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم وقد حكم بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ( الزعيم غارم )
فإن قيل هذه كفالة بشيء مجهول
قلنا حمل بعير من الطعام كان معلوماً عندهم فصحت الكفالة به إلا أن هذه الكفالة مال لرد سرقة وهو كفالة بما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئاً على رد السرقة ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم(18/143)
قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ
قال البصريون الواو في وَاللَّهُ بدل من التاء والتاء بدل من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عز وجل قال المفسرون حلفوا على أمرين أحدهما على أنهم ما جاؤا لأجل الفساد في الأرض لأنه ظهر من أحواله امتناعهم من التصرف في أموال الناس بالكلية لا بالأكل ولا بإرسال الدواب في مزارع الناس حتى روي أنهم كانوا قد سدوا أفواه دوابهم لئلا تعبث في زرع وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات ومن كانت هذه صفته فالفساد في الأرض لا يليق به والثاني أنهم ما كانوا سارقين وقد حصل لهم فيه شاهداً قاطع وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر ولم يستحلوا أخذها والسارق لا يفعل ذلك ألبتة ثم لما بينوا براءتهم عن تلك التهمة قال أصحاب يوسف عليه السلام فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ فأجابوا و قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ قال ابن عباس كانوا في ذلك الزمان يستعبدون كل سارق بسرقته وكان استعباد السارق في شرعهم يجري مجرى وجوب القطع في شرعنا والمعنى جزاء هذا الجرم من وجد المسروق في رحله أي ذلك الشخص هو جزاء ذلك الجرم والمعنى أن استعباده هو جزاء ذلك الجرم قال الزجاج وفيه وجهان أحدهما أن يقال جزاؤه مبتدأ ومن وجد في رحله خبره والمعنى جزاء السرقة هو الإنسان الذي وجد في رحله السرقة ويكون قوله فَهُوَ جَزَاؤُهُ زيادة في البيان كما تقول جزاء السارق القطع فهو جزاؤه الثاني أن يقال جَزَاؤُهُ مبتدأ وقوله مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ جملة وهي في موضع خبر المبتدأ والتقدير كأنه قيل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو إلا أنه أقام المضمر للتأكيد والمبالغة في البيان وأنشد النحويون لا أرى الموت يسبق الموت شيء
نغص الموت الغني والفقيرا
وأما قوله كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ أي مثل هذا الجزاء جزاء الظالمين يريد إذا سرق استرق ثم قيل هذا من بقية كلام أخوة يوسف وقيل إنهم لما قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه فقال أصحاب يوسف كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ(18/144)
اعلم أن إخوة يوسف لما أقروا بأن من وجد المسروق في رحله فجزاؤه أن يسترق قال لهم المؤذن إنه لا بد من تفتيش أمتعتكم فانصرف بهم إلى يوسف فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ لإزالة التهمة والأوعية جمع الوعاء وهو كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به استخرجها من وعاء أخيه وقرأ الحسن وِعَاء أَخِيهِ بضم الواو وهي لغة وقرأ سعيد بن جبير مِنْ أَخِيهِ فقلب الواو همزة
فإن قيل لم ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه
قلنا قالوا رجع ضمير المؤنث إلى السقاية وضمير المذكر إلى الصواع أو يقال الصواع يؤنث ويذكر فكان كل واحد منهما جائزاً أو يقال لعل يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعاً فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية وفيما يتصل بهم صواعاً عن قتادة أنه قال كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تائباً مما قذفهم به حتى إنه لما لم يبق إلا أخوه قال ما أرى هذا قد أخذ شيئاً فقالوا لا نذهب حتى تتفحص عن حاله أيضاً فلما نظروا في متاعه استخرجوا الصواع من وعائه والقوم كانوا قد حكموا بأن من سرق يسترق فأخذوا برقبته وجروا به إلى دار يوسف
ثم قال تعالى كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ وفيه بحثان الأول المعنى ومثل ذلك الكيد كدنا ليوسف وذلك إشارة إلى الحكم باسترقاق السارق أي مثل هذا الحكم الذي ذكره إخوة يوسف حكمنا ليوسف الثاني لفظ الكيد مشعر بالحيلة والخديعة وذلك في حق الله تعالى محال إلا أنا ذكرنا قانوناً معتبراً في هذا الباب وهو أن أمثال هذه الألفاظ تحمل على نهايات الأغراض لا على بدايات الأغراض وقررنا هذا الأصل في تفسير قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى ِ ( البقرة 26 ) فالكيد السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه ولا سبيل له إلى دفعه فالكيد في حق الله تعالى محمول على هذا المعنى ثم اختلفوا في المراد بالكيد ههنا فقال بعضهم المراد أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمر يوسف والله تعالى نصره وقواه وأعلى أمره وقال آخرون المراد من هذا الكيد هو أنه تعالى ألقى في قلوب إخوته أن حكموا بأن جزاء السارق هو أن يسترق لا جرم لما ظهر الصواع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق وصار ذلك سبباً لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عند نفسه
ثم قال تعالى مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ والمعنى أنه كان حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق فما كان يوسف قادراً على حبس أخيه عند نفسه بناء على دين الملك وحكمه إلا أنه تعالى كاد له ما جرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق فقد بينا أن هذا الكلام توسل به إلى أخذ أخيه وحبسه عند نفسه وهو معنى قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ثم قال نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة وعاصم والكسائي دَرَجَاتٌ بالتنوين غير مضاف والباقون بالإضافة
المسألة الثانية المراد من قوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء هو أنه تعالى يريه وجوه الصواب في بلوغ(18/145)
المراد ويخصه بأنواع العلوم وأقسام الفضائل والمراد ههنا هو أنه تعالى رفع درجات يوسف على إخوته في كل شيء
واعلم أن هذه الآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة والفكرة مدحه لأجل ذلك فقال نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وأيضاً وصف إبراهيم عليه السلام بقوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ( الأنعام 83 ) عند إيراده ذكر دلائل التوحيد والبراءة عن إلهية الشمس والقمر والكواكب ووصف ههنا يوسف أيضاً بقوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء لما هداه إلى هذه الحيلة وكم بين المرتبتين من التفاوت
ثم قال تعالى وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ والمعنى أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء فضلاء إلا أن يوسف كان زائداً عليهم في العلم
واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى عالم بذاته لا بالعلم فقالوا لو كان عالماً بالعلم لكان ذا علم ولو كان كذلك لحصل فوقه عليم تمسكاً بعموم هذه الآية وهذا باطل
واعلم أن أصحابنا قالوا دلت سائر الآيات على إثبات العلم لله تعالى وهي قوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ( النساء 166 ) لا يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ( البقرة 255 ) مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ( فاطر 11 ) وإذا وقع التعارض فنحن نحمل الآية التي تمسك الخصم بها على واقعة يوسف وإخوته خاصة غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص العموم إلا أنه لا بد من المصير إليه لأن العالم مشتق من العلم والمشتق مركب والمشتق منه مفرد وحصول المركب بدون حصول المفرد محال في بديهة العقل فكان الترجيح من جانبنا
قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ
اعلم أنه لما خرج الصواع من رحل أخي يوسف نكس إخوته رؤسهم وقالوا هذه الواقعة عجيبة أن راحيل ولدت ولدين لصين ثم قالوا يا بني راحيل ما أكثر البلاء علينا منكم فقال بنيامين ماأكثر البلاء علينا منكم ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة ثم تقولون لي هذا الكلام قالوا له فكيف خرج الصواع من رحلك فقال وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم
واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أنهم قالوا للملك إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان أيضاً سارقاً وكان غرضهم من هذا الكلام أنا لسنا على طريقته ولا على سيرته وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة لأنهما من أم أخرى واختلفوا في السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال الأول(18/146)
قال سعيد بن جبير كان جده أبو أمه كافراً يعبد الأوثان فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك فهذا هو السرقة والثاني أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه ويدفعه إلى الفقراء وقيل سرق عناقاً من أبيه ودفعه إلى المسكين وقيل دجاجة والثالث أن عمته كانت تحبه حباً شديداً فأرادت أن تمسكه عند نفسها وكان قد بقي عندها منطقة لاسحق عليه السلام وكانوا يتبركون بها فشدتها على وسط يوسف ثم قالت بأنه سرقها وكان من حكمهم بأن من سرق يسترق فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها والرابع أنهم كذبوا عليه وبهتوه وكانت قلوبهم مملوءة بالغضب على يوسف بعد تلك الوقائع وبعد انقضاء تلك المدة الطويلة وهذه الواقعة تدل على أن قلب الحاسد لا يطهر عن الغل ألبتة
ثم قال تعالى فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ واختلفوا في أن الضمير في قوله فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ إلى أي شيء يعود على قولين قال الزجاج فأسرها إضمار على شريطة التفسير تفسيره أنتم شر مكاناً وإنما أنث لأن قوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً جملة أو كلمة لأنهم يسمون الطائفة من الكلام كلمة كأنه قال فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وفي قراءة ابن مسعود فَأَسْرِ بالتذكير يريد القول أو الكلام وطعن أبو علي الفارسي في هذا الوجه فيما استدركه على الزجاج من وجهين
الوجه الأول قال الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين أحدهما أن يفسر بمفرد كقولنا نعم رجلاً زيد ففي نعم ضمير فاعلها ورجلاً تفسير لذلك الفاعل المضمر والآخر أن يفسر بجملة وأصل هذا يقع في الابتداء كقوله فَإِذَا هِى َ شَاخِصَة ٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الأنبياء 97 ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الصمد 1 ) والمعنى القصة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر الله أحد ثم إن العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً نحو إن كقوله إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ( طه 74 ) فَإِنَّهَا لاَ لاِوْلِى الاْبْصَارِ ( الحج 46 )
إذا عرفت هذا فنقول نفس المضمر على شريطة التفسير في كلا القسمين متصل بالجملة التي حصل منها الإضمار ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة ولا مبايناً لها وههنا التفسير منفصل عن الجملة التي حصل منها الإضمار فوجب أن لا يحسن والثاني أنه تعالى قال أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وذلك يدل على أنه ذكر هذا الكلام ولو قلنا إنه عليه السلام أضمر هذا الكلام لكان قوله أنه قال ذلك كذباً واعلم أن هذا الطعن ضعيف لوجوه
أما الأول فلأنه لا يلزم من حسن القسمين الأولين قبح قسم ثالث
وأما الثاني فلأنا نحمل ذلك على أنه عليه السلام قال ذلك على سبيل الخفية وبهذا التفسير يسقط هذا السؤال
والوجه الثاني وهو أن الضمير في قوله فَأَسَرَّهَا عائد إلى الإجابة كأنهم قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فأسر يوسف إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقت ثان ويجوز أيضاً أن يكون إضماراً للمقالة والمعنى أسر يوسف مقالتهم والمراد من المقالة متعلق تلك المقالة كما يراد بالخلق المخلوق وبالعلم المعلوم يعني أسر يوسف في نفسه كيفية تلك السرقة ولم يبين لهم(18/147)
أنها كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والطعن روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عوقب يوسف عليه السلام ثلاث مرات لأجل همه بها عوقب بالحبس وبقوله اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ( يوسف 42 ) عوقب بالحبس الطويل وبقوله إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ( يوسف 7 ) عوقب بقولهم فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ثم حكى تعالى عن يوسف أنه قال أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً أي أنتم شر منزلة عند الله تعالى لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم فأخذتم أخاكم وطرحتموه في الجب ثم قلتم لأبيكم إن الذئب أكله وأنتم كاذبون ثم بعتموه بعشرين درهماً ثم بعد المدة الطويلة والزمان الممتد ما زال الحقد والغضب عن قلوبكم فرميتموه بالسرقة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ يريد أن سرقة يوسف كانت رضا لله وبالجملة فهذه الوجوه المذكورة في سرقته لا يوجب شيء منها عود الذم واللوم إليه والمعنى والله أعلم بأن هذا الذي وصفتموه به هل يوجب عود مذمة إليه أم لا
قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ
اعلم أنه تعالى بين أنهم بعد الذي ذكروه من قولهم إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ( يوسف 77 ) أحبوا موافقته والعدول إلى طريقة الشفاعة فإنهم وإن كانوا قد اعترفوا أن حكم الله تعالى في السارق أن يستعبد إلا أن العفو وأخذ الفداء كان أيضاً جائزا فقالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً أي في السن ويجوز أن يكون في القدر والدين وإنما ذكروا ذلك لأن كونه ابناً لرجل كبير القدر يوجب العفو والصفح ثم قالوا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ يحتمل أن يكون المراد على طريق الاستبعاد ويحتمل أن يكون المراد على طريق الرهن حتى نوصل الفداء إليك ثم قالوا إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وفيه وجوه أحدها إنا نراك من المحسنين لو فعلت ذلك وثانيها إنا نراك من المحسنين إلينا حيث أكرمتنا وأعطيتنا البذل الكثير وحصلت لنا مطلوبنا على أحسن الوجوه ووردت إلينا ثمن الطعام وثالثها نقل أنه عليه السلام لما اشتد القحط على القوم ولم يجدوا شيئاً يشترون به الطعام وكانوا يبيعون أنفسهم منه فصار ذلك سبباً لصيرورة أكثر أهل مصر عبيداً له ثم إنه أعتق الكل فلعلهم قالوا إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلى عامة الناس بالإعتاق فكن محسناً أيضاً إلى هذا الإنسان بإعتاقه من هذه المحنة فقال يوسف مَعَاذَ اللَّهِ أي أعود بالله معاذاً أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده أي أعوذ بالله أن آخذ بريئاً بمذنب قال الزجاج موضع ( أن ) نصب والمعنى أعوذ بالله من أخذ أحد بغيره فلما سقطت كلمة ( من ) انتصب الفعل عليه وقوله إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ أي لقد تعديت وظلمت إن آذيت إنساناً بجرم صدر عن غيره
فإن قيل هذه الواقعة من أولها إلى آخرها تزوير وكذب فكيف يجوز من يوسف عليه السلام مع(18/148)
رسالته الإقدام على هذا التزوير والترويج وإيذاء الناس من غير سبب لا سيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عند نفسه بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد
والجواب لعله تعالى أمره بذلك تشديداً للمحنة على يعقوب ونهاه عن العفو والصفح وأخذ البدل كما أمر تعالى صاحب موسى بقتل من لو بقي لطغى وكفر
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنهم لما قالوا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ( يوسف 78 ) وهو نهاية ما يمكنهم بذله فقال يوسف في جوابه مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ( يوسف 79 ) فانقطع طمعهم من يوسف عليه السلام في رده فعند هذا قال تعالى فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا وهو مبالغة في يأسهم من رده وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً أي تفردوا عن سائر الناس يتناجون ولا شبهة أن المراد يتشاورون ويتحيلون الرأي فيما وقعوا فيه لأنهم إنما أخذوا بنيامين من أبيهم بعد المواثيق المؤكدة وبعد أن كانوا متهمين في حق يوسف فلو لم يعيدوه إلى أبيهم لحصلت محن كثيرة أحدها أنه لو لم يعودوا إلى أبيهم وكان شيخاً كبيراً فبقاؤه وحده من غير أحد من أولاده محنة عظيمة وثانيها أن أهل بيتهم كانوا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة وثالثها أن يعقوب عليه السلام ربما كان يظن أن أولاده هلكوا بالكلية وذلك غم شديد ولو عادوا إلى أبيهم بدون بنيامين لعظم حياؤهم فإن ظاهر الأمر يوهم أنهم خانوه في هذا الابن كما أنهم خانوه في الابن الأول ولكان يوهم أيضاً أنهم ما أقاموا لتلك المواثيق المؤكدة وزنا ولا شك أن هذا الموضع موضع فكرة وحيرة وذلك يوجب التفاوض والتشاور طلباً للأصلح الأصوب فهذا هو المراد من قوله فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا
المسألة الثانية قال الواحدي روي عن ابن كثير استياسوا حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ( يوسف 110 ) بغير همز وفي ييئس لغتان يئس وييأس مثل حسب ويحسب ومن قال استيأس قلب العين إلى موضع الفاء فصار استعفل وأصله استيأس ثم خففت الهمزة قال صاحب ( الكشاف ) استيأسوا يئسوا وزيادة السين والتاء للمبالغة كما في قوله استعصم ( يوسف 32 ) وقوله مِنْهُ خَلَصُواْ قال الواحدي يقال خلص الشيء يخلص خلوصاً إذا ذهب عنه الشائب من غيره ثم فيه وجهان الأول قال الزجاج خلصوا أي انفردوا وليس معهم أخوهم والثاني قال الباقون تميزوا عن الأجانب وهذا هو الأظهر وأما قوله نَجِيّاً فقال صاحب ( الكشاف ) النجي على معنيين يكون بمعنى المناجي كالعشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر ومنه قوله تعالى وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 )(18/149)
وبمعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل النجوى بمعنى المتناجين فعلى هذا معنى خَلَصُواْ نَجِيّا اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم نَجِيّاً أي مناجياً روي نَجْوَى أي فوجاً نَجِيّاً أي مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً وأحسن الوجوه أن يقال إنهم تمحضوا تناجياً لأن من كمل حصول أمر من الأمور فيه وصف بأنه صار غير ذلك الشيء فلما أخذوا في التناجي على غاية الجد صاروا كأنهم في أنفسهم صاروا نفس التناجي حقيقة
أما قوله تعالى قَالَ كَبِيرُهُمْ فقيل المراد كبيرهم في السن وهو روبيل وقيل كبيرهم في العقل وهو يهودا وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف ثم حكى تعالى عن هذا الكبير أنه قال أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما لما قال يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ( يوسف 79 ) غضب يهودا وكان إذا غضب وصاح فلا تسمع صوته حامل إلا وضعت ويقوم شعره على جسده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه فقال لبعض إخوته اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف عليه السلام لابن صغير له مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف عليه السلام رجله على الأرض وأخذ بملابسه وجذبه فسقط فعنده قال يا أيها العزيز فلما أيسوا من قبول الشفاعة تذاكروا وقالوا إن أبانا قد أخذ علينا موثقاً عظيماً من الله وأيضاً نحن متهمون بواقعة يوسف فكيف المخلص من هذه الورطة
المسألة الثانية لفظ ما في قوله مَا فَرَّطتُمْ فيها وجوه الأول أن يكون أصله من قبل هذا فرطتم في شأن يوسف عليه السلام ولم تحفظوا عهد أبيكم الثاني أن تكون مصدرية ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف وهو من قبل ومعناه وقع من قبل تفريطكم في يوسف الثالث النصب عطفاً على مفعول أَلَمْ تَعْلَمُواْ والتقدير ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقكم وتفريطكم من قبل في يوسف الرابع أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة ومحله الرفع والنصب على الوجهين المذكورين ثم قال فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي في الانصراف إليه أو يحكم الله لي بالخروج منها أو بالانتصاف ممن أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب وهو خير الحاكمين لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق وبالجملة فالمراد ظهور عذر يزول معه حياؤه وخجله من أبيه أو غيره قاله انقطاعاً إلى الله تعالى في إظهار عذره بوجه من الوجوه
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(18/150)
واعلم أنهم لما تفكروا في الأصوب ما هو ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على الوجه من غير تفاوت والظاهر أن هذا القول قاله ذلك الكبير الذي قال فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى قيل إنه روبيل وبقي هو في مصر وبعث سائر إخوته إلى الأب
فإن قيل كيف حكموا عليه بأنه سرق من غير بينة لا سيما وهو قد أجاب بالجواب الشافي فقال الذي جعل الصواع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحلكم
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أنهم شاهدوا أن الصواع كان موضوعاً في موضع ما كان يدخله أحد إلا هم فلما شاهدوا أنهم أخرجوا الصواع من رحله غلب على ظنونهم أنه هو الذي أخذ الصواع وأما قوله وضع الصواع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم فالفرق ظاهر لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم وأما هذا الصواع فإن أحداً لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصواع في رحله فظهر الفرق فلهذا السبب غلب على ظنونهم أنه سرق فشهدوا بناء على هذا الظن ثم بينهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ
والوجه الثاني في الجواب أن تقدير الكلام إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ في قول الملك وأصحابه ومثله كثير في القرآن قال تعالى إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( هود 87 ) أي عند نفسك وقال تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) أي عند نفسك وأما عندنا فلا فكذا ههنا
الوجه الثالث في الجواب أن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة ومثل هذا الشيء يسمى سرقة فإن إطلاق اسم أحد الشبيهين على الشبيه الآخر جائز في القرآن قال تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
الوجه الرابع أن القوم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت فلا يبعد أن يقال إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة لا سيما وقد شاهدوا شيئاً يوهم ذلك
الوجه الخامس أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقرأ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ بالتشديد أي نسب إلى السرقة فهذه القراءة لا حاجة بها إلى التأويل لأن القوم نسبوه إلى السرقة إلا أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه القراآت لا تدفع السؤال لأن الإشكال إنما يدفع إذا قلنا القراءة الأولى باطلة والقراءة الحقة هي هذه أما إذا سلمنا أن القراءة الأولى حقة كان الإشكال باقياً سواء صحت هذه القراءة الثانية أو لم تصح فثبت أنه لا بد من الرجوع إلى أحد الوجوه المذكورة أما قوله وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا فمعناه ظاهر لأنه يدل على أن الشهادة غير العلم بدليل قوله تعالى وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وذلك يقتضي كون الشهادة مغايرة للعلم ولأنه عليه السلام قال إذا علمت مثل الشمس فاشهد وذلك أيضاً يقتضي ما ذكرنا وليست الشهادة أيضاً عبارة عن قوله أشهد لأن قوله أشهد إخبار عن الشهادة والإخبار عن الشهادة غير الشهادة
إذا ثبت هذا فنقول الشهادة عبارة عن الحكم الذهني وهو الذي يسميه المتكلمون بكلام النفس وأما قوله وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ففيه وجوه الأول أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله والثاني قال عكرمة معناه لعل الصواع دس في متاعه(18/151)
بالليل فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات والثالث قال مجاهد والحسن وقتادة وما كنا نعلم أن ابنك يسرق ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقاً من الله في رده إليك والرابع نقل أن يعقوب عليه السلام قال لهم فهب أنه سرق ولكن كيف عرف الملك أن شرع بني إسرائيل أن من سرق يسترق بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم فقالوا عند هذا الكلام أنا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة وما كنا نعلم أن هذه الواقعة نقع فيها فقوله وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ إشارة إلى هذا المعنى
فإن قيل فهل يجوز من يعقوب عليه السلام أن يسعى في إخفاء حكم الله تعالى على هذا القول
قلنا لعله كان ذلك الحكم مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً فلهذا أنكر ذكر هذا الحكم عند الملك الذي ظنه كافراً
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا
واعلم أنهم لما كانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام بالغوا في إزالة التهمة عن أنفسهم فقالوا وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ الَّتِى كُنَّا فِيهَا والأكثرون اتفقوا على أن المراد من هذه القرية مصر وقال قوم بل المراد منه قرية على باب مصر جرى فيها حديث السرقة والتفتيش ثم فيه قولان الأول المراد واسأل أهل القرية إلا أنه حذف المضاف للإيجاز والاختصار وهذا النوع من المجاز مشهور في لغة العرب قال أبو علي الفارسي ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضروريات وجاحد المحسوسات والثاني قال أبو بكر الأنباري المعنى اسأل القرية والعير والجدار والحيطان فإنها تجيبك وتذكر لك صحة ما ذكرناه لأنك من أكابر أنبياء الله فلا يبعد أن ينطق الله هذه الجمادات معجزة لك حتى تخبر بصحة ما ذكرناه وفيه وجه ثالث وهو أن الشيء إذا ظهر ظهوراً تاماً كاملاً فقد يقال فيه سل السماء والأرض وجميع الأشياء عنه والمراد أنه بلغ في الظهور إلى الغاية التي ما بقي للشك فيه مجال
أما قوله وَالّعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا فقال المفسرون كان قد صحبهم قوم من الكنعانيين فقالوا سلهم عن هذه الواقعة ثم إنهم لما بالغوا في التأكيد والتقرير قالوا وِإِنَّا لَصَادِقُونَ يعني سواء نسبتنا إلى التهمة أو لم تنسبنا إليها فنحن صادقون وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم بأنفسهم لأن هذا يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه بل الإنسان إذا قدم ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده وأنا صادق في ذلك يعني فتأمل فيما ذكرته من الدلائل والبينات لتزول عنك الشبهة
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
اعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع من أبنائه ذلك الكلام لم يصدقهم فيما ذكروا كما في واقعة(18/152)
يوسف فقال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فذكر هذا الكلام بعينه في هذه الواقعة إلا أنه قال في واقعة يوسف عليه السلام وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( يوسف 18 ) وقال ههنا عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم إن قوله بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ليس المراد منه ههنا الكذب والاحتيال كما في قوله في واقعة يوسف عليه السلام حين قال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا لكنه عنى سولت لكم أنفسكم إخراج بنيامين عني والمصير به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم علي في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله إنما جاء على خلاف تقديركم وقيل بل المعنى سولت لكم أنفسكم أمراً خيلت لكم أنفسكم أنه سرق وما سرق
المسألة الثانية قيل إن روبيل لما عزم على الإقامة بمصر أمره الملك أن يذهب مع إخوته فقال أتركوني وإلا صحت صيحة لا تبقى بمصر امرأة حامل إلا وتضع حملها فقال يوسف دعوه ولما رجع القوم إلى يعقوب عليه السلام وأخبروه بالواقعة بكى وقال يا بني لا تخرجوا من عندي مرة إلا ونقص بعضكم ذهبتم مرة فنقص يوسف وفي الثانية نقص شمعون وفي هذه الثالثة نقص روبيل وبنيامين ثم بكى وقال عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً وإنما حكم بهذا الحكم لوجوه الأول أنه لما طال حزنه وبلاؤه ومحنته علم أنه تعالى سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب فقال ذلك على سبيل حسن الظن برحمة الله والثاني لعله تعالى قد أخبره من بعد محنة يوسف أنه حي أو ظهرت له علامات ذلك وإنما قال عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا لأنهم حين ذهبوا بيوسف كانوا إثني عشر فضاع يوسف وبقي أحد عشر ولما أرسلهم إلى مصر عادوا تسعة لأن بنيامين حبسه يوسف واحتبس ذلك الكبير الذي قال فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى ( يوسف 80 ) فلما كان الغائبون ثلاثة لا جرم قَالَ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا
ثم قال إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ يعني هو العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يابَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْأسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ(18/153)
واعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع كلام أبنائه ضاق قلبه جداً وأعرض عنهم وفارقهم ثم بالآخرة طلبهم وعاد إليهم
أما المقام الأول وهو أنه أعرض عنهم وفر منهم فهو قوله وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأَسَفَا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ
واعلم أنه لما ضاق صدره بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين عظم أسفه على يوسف عليه السلام وَقَالَ يأَبَتِ دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ وإنما عظم حزنه على مفارقة يوسف عند هذه الواقعة لوجوه
الوجه الأول أن الحزن الجديد يقوي الحزن القديم الكامن والقدح إذا وقع على القدح كان أوجع وقال متمم بن نويرة وقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى
فدعني فهذا كله قبر مالك
وذلك لأنه إذا رأى قبراً فتجدد حزنه على أخيه مالك فلاموه عليه فأجاب بأن الأسى يبعث الأسى وقال آخر فلم تنسني أو في المصيبات بعده
ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع
والوجه الثاني أن بنيامين ويوسف كانا من أم واحدة وكانت المشابهة بينهما في الصورة والصفة أكمل فكان يعقوب عليه السلام يتسلى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام فلما وقع ما وقع زال ما يوجب السلوة فعظم الألم والوجد
الوجه الثالث أن المصيبة في يوسف كانت أصل مصائبه التي عليها ترتب سائر المصائب والرزايا وكان الأسف عليه أسفاً على الكل الرابع أن هذه المصائب الجديدة كانت أسبابها جارية مجرى الأمور التي يمكن معرفتها والبحث عنها وأما واقعة يوسف فهو عليه السلام كان يعلم كذبهم في السبب الذي ذكروه وأما السبب الحقيقي فما كان معلوماً له وأيضاً أنه عليه السلام كان يعلم أن هؤلاء في الحياة وأما يوسف فما كان يعلم أنه حي أو ميت فلهذه الأسباب عظم وجده على مفارقته وقويت مصيبته على الجهل بحاله
المسألة الثانية من الجهال من عاب يعقوب عليه السلام على قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ قال لأن هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية من الله وأنه لا يجوز والعلماء بينوا أنه ليس الأمر كما ظنه هذا الجاهل وتقريره أنه عليه السلام لم يذكر هذه الكلمة ثم عظم بكاؤه وهو المراد من قوله وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ثم أمسك لسانه عن النياحة وذكر مالا ينبغي وهو المراد من قوله فَهُوَ كَظِيمٌ ثم إنه ما أظهر الشكاية مع أحد من الخلق بدليل قوله إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته فإنه صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء العظيم روي أن يوسف عليه السلام سأل جبريل هل لك علم بيعقوب قال نعم قال وكيف حزنه(18/154)
قال حزن سبعين ثكلى وهي التي لها ولد واحد ثم يموت قال فهل له فيه أجر قال نعم أجر مائة شهيد
فإن قيل روي عن محمد بن علي الباقر قال مر بيعقوب شيخ كبير فقال له أنت إبراهيم فقال أنا ابن ابنه والهموم غيرتني وذهبت بحسني وقوتي فأوحى الله تعالى إليه ( حتى متى تشكوني إلى عبادي وعزتي وجلالي لو لم تشكني لأبدلنك لحماً خيراً من لحمك ودماً خيراً من دمك ) فكان من بعد يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كان ليعقوب أخ مواخ ) فقال له ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك فقال الذي أذهب بصري البكاء على يوسف وقوس ظهري الحزن على بنيامين فأوحى الله تعالى إليه ( أما تستحي تشكوني إلى غيري ) فقال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فقال يا رب أما ترحم الشيخ الكبير قوست ظهري وأذهبت بصري فاردد عليَّ ريحانتي يوسف وبنيامين فأتاه جبريل عليه السلام بالبشرى وقال لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاماً للمساكين فإن أحب عبادي إلي الأنبياء والمساكين وكان يعقوب عليه السلام إذا أراد الغداء نادى مناديه من أراد الغداء فليتغد مع يعقوب وإذا كان صائماً نادى مثله عند الإفطار وروي أنه كان يرفع حاجبيه بخرقة من الكبر فقال له رجل ما هذا الذي أراه بك قال طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله إليه ( أتشكوني يا يعقوب ) فقال يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي
قلنا إنا قد دللنا على أنه لم يأت إلا بالصبر والثبات وترك النياحة وروي أن ملك الموت دخل على يعقوب عليه السلام فقال له جئت لتقبضني قبل أن أرى حبيبي فقال لا ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك وأما البكاء فليس من المعاصي وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام بكى على ولده إبراهيم عليه السلام وقال ( إن القلب ليحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ) وأيضاً فاستيلاء الحزن على الإنسان ليس باختياره فلا يكون ذلك داخلاً تحت التكليف وأما التأوه وإرسال البكاء فقد يصير بحيث لا يقدر على دفعه وأما ما ورد في الروايات التي ذكرتم فالمعاتبة فيها إنما كانت لأجل أن حسنات الأبرار سيئات المقربين وأيضاً ففيه دقيقة أخرى وهي أن الإنسان إذا كان في موضع التحير والتردد لا بد وأن يرجع إلى الله تعالى فيعقوب عليه السلام ما كان يعلم أن يوسف بقي حياً أم صار ميتاً فكان متوقفاً فيه وبسبب توقفه كان يكثر الرجوع إلى الله تعالى وينقطع قلبه عن الالتفات عن كل ما سوى الله تعالى إلا في هذه الواقعة وكان أحواله في هذه الواقعة مختلفة فربما صار في بعض الأوقات مستغرق الهم بذكر الله تعالى فإن عن تذكر هذا الواقعة فكان ذكرها كلا سواها فلهذا السبب صارت هذا الواقعة بالنسبة إليه جارية مجرى الإلقاء في النار للخليل عليه السلام ومجرى الذبح لابنه الذبيح
فإن قيل أليس أن الأولى عند نزول المصيبة الشديدة أن يقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ( البقرة 156 ) حتى يستوجب الثواب العظيم المذكور في قوله أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَة ٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( البقرة 157 )
قلنا قال بعض المفسرين إنه لم يعط الاسترجاع أمة إلا هذه الأمة فأكرمهم الله تعالى إذا أصابتهم مصيبة وهذا عندي ضعيف لأن قوله إِنَّا لِلَّهِ إشارة إلى أنا مملوكون لله وهو الذي خلقنا وأوجدنا وقوله وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ إشارة إلى أنه لا بد من الحشر والقيامة ومن المحال أن أمة من الأمم لا يعرفون ذلك فمن عرف عند نزول بعض المصائب به أنه لا بد في العاقبة من رجوعه إلى الله تعالى فهناك تحصل السلوة التامة عند(18/155)
تلك المصيبة ومن المحال أن يكون لمؤمن بالله غير عارف بذلك
المسألة الثالثة قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ نداء الأسف وهو كقوله ( يا عجباً ) والتقدير كأنه ينادي الأسف ويقول هذا وقت حصولك وأوان مجيئك وقد قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة منها في تفسير قوله حَاشَ للَّهِ ( يوسف 31 ) والأسف الحزن على ما فات قال الليث إذا جاءك أمر فحزنت له ولم تطقه فأنت أسيف أي حزني ومتأسف أيضاً قال الزجاج الأصل يا أسفى إلا أن ياء الإضافة يجوز إبدالها بالألف لخفة الألف والفتحة
ثم قال تعالى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ وفيه وجهان
الوجه الأول أنه لما قال يا أسفى على يوسف غلبه البكاء وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء وقوله وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ كناية عن غلبة البكاء والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء لا في حصول العمى فلو حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسناً ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل فكان ما ذكرناه أولى وهذا للتفسير مع الدليل رواه الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس رضي الله عنهما
والوجه الثاني أن المراد هو العمى قال مقاتل لم يبصر بهما ست سنين حتى كشف الله تعالى عنه بقميص يوسف عليه السلام وهو قوله فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا ( يوسف 93 ) قيل إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام حينما كان في السجن فقال إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك فوضع يده على رأسه وقال ليت أمي لم تلدني ولم أك حزناً على أبي والقائلون بهذا التأويل قالوا الحزن الدائم يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمى فالحزن كان سبباً للعمى بهذه الواسطة وإنما كان البكاء الدائم يوجب العمى لأنه يورث كدورة في سوداء العين ومنهم من قال ما عمي لكنه صار بحيث يدرك إدراكاً ضعيفاً قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف عليه السلام إلى حين لقائه وتلك المدة ثمانون عاماً وما كان على وجه الأرض عبداً أكرم على الله تعالى من يعقوب عليه السلام
أما قوله تعالى مِنَ الْحُزْنِ فاعلم أنه قرىء مِنَ الْحُزْنِ بضم الحاء وسكون الزاي وقرأ الحسن بفتح الحاء والزاي قال الواحدي واختلفوا في الحزن والحزن فقال قوم الحزن البكاء والحزن ضد الفرح وقال قوم هما لغتان يقال أصابه حزن شديد وحزن شديد وهو مذهب أكثر أهل اللغة وروى يونس عن أبي عمرو قال إذا كان في موضع النصب فتحوا الحاء والزاي كقوله تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً ( التوبة 92 ) وإذا كان في موضع الخفض أو الرفع ضموا الحاء كقوله مِنَ الْحُزْنِ وقوله أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ قال هو في موضع رفع الابتداء
وأما قوله تعالى فَهُوَ كَظِيمٌ فيجوز أن يكون بمعنى الكاظم وهو الممسك على حزنه فلا يظهره قال ابن قتيبة ويجوز أن يكون بمعنى المكظوم ومعناه المملوء من الحزن مع سد طريق نفسه المصدور من كظم السقاء إذا اشتد على ملئه ويجوز أيضاً أن يكون بمعنى مملوء من الغيظ على أولاده
واعلم أن أشرف أعضاء الإنسان هذه الثلاثة فبين تعالى أنها كانت غريقة في الغم فاللسان كان(18/156)
مشغولاً بقوله يا أسفى والعين بالبكاء والبياض والقلب بالغم الشديد الذي يشبه الوعاء المملوء الذي شد ولا يمكن خروج الماء منه وهذه مبالغة في وصف ذلك الغم
أما قوله تعالى قَالُواْ تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن السكيت يقال ما زلت أفعله وما فتئت أفعله وما برحت أفعله ولا يتكلم بهن إلا مع الجحد قال ابن قتيبة يقال ما فتيت وما فتئت لغتان فتيا وفتوأ إذا نسيته وانقطعت عنه قال النحويون وحرف النفي ههنا مضمر على معنى قالوا ما تفتؤا ولا تفتؤ وجاز حذفه لأنه لو أريد الإثبات لكان باللام والنون نحو والله لتفعلن فلما كان بغير اللام والنون عرف أن كلمة لا مضمرة وأنشدوا قول امرىء القيس
فقلت يمين الله أبرح قاعداً
والمعنى لا أبرح قاعداً ومثله كثير وأما المفسرون فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة لا تزال تذكره وعن مجاهد لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين
المسألة الثانية حكى الواحدي عن أهل المعاني أن أصل الحرض فساد الجسم والعقل للحزن والحب وقوله حرضت فلاناً على فلان تأويله أفسدته وأحميته عليه وقال تعالى حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ( الأنفال 65 )
إذا عرفت هذا فنقول وصف الرجل بأنه حرض إما أن يكون لإرادة أنه ذو حرض فحذف المضاف أو لإرادة أنه لما تناهى في الفساد والضعف فكأنه صار عين الحرض ونفس الفساد وأما الحرض بكسر الراء فهو الصفة وجاءت القراءة بهما معاً
إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين فيه عبارات أحدها الحرض والحارض هو الفاسد في جسمه وعقله وثانيهما سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الحرض فقال الفاسد الدنف وثالثها أنه الذي يكون لا كالأحياء ولا كالأموات وذكر أبو روق أن أنس بن مالك قرأ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً بضم الحاء وتسكين الراء قال يعني مثل عود الأشنان وقوله أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ أي من الأموات ومعنى الآية أنهم قالوا لأبيهم إنك لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم كأنهم قالوا أنت الآن في بلاء شديد ونخاف أن يحصل ما هو أزيد منه وأقوى وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء والأسف
فإن قيل لم حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعاً
قلنا إنهم بنوا هذا الأمر على الظاهر
فإن قيل القائلون بهذا الكلام وهو قوله تَاللَّهِ من هم
قلنا الأظهر أن هؤلاء ليسوا هم الإخوة الذين قد تولى عنهم بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه(18/157)
ثم حكى تعالى عن يعقوب عليه السلام أنه قال قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ يعني أن هذا الذي أذكره لا أذكره معكم وإنما أذكره في حضرة الله تعالى والإنسان إذا بث شكواه إلى الله تعالى كان في زمرة المحققين كما قال عليه الصلاة والسلام ( أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك ) والله هو الموفق والبث هو التفريق قال الله تعالى وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ ( البقرة 164 ) فالحزن إذا ستره الإنسان كان هماً وإذا ذكره لغيره كان بثاً وقالوا البث أشد الحزن والحزن أشد الهم وذلك لأنه متى أمكنه أن يمسك لسانه عن ذكره لم يكن ذلك الحزن مستولياً عليه وأما إذا عظم وعجز الإنسان عن ضبطه وانطلق اللسان بذكره شاء أم أبى كان ذلك بثاً وذلك يدل على أن الإنسان صار عاجزاً عنه وهو قد استولى على الإنسان فقوله بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ أي لا أذكر الحزن العظيم ولا الحزن القليل إلا مع الله وقرأ الحسن وَحُزْنِى بفتحتين وحزني بضمتين قيل دخل على يعقوب رجل وقال يا يعقوب ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سناً عالياً فقال الذي بي لكثرة غمومي فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي فقال يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفرها له وكان بعد ذلك إذا سئل قال إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وروي أنه أوحى الله إليه إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليَّ الأنبياء والمساكين فاصنع طعاماً وادع إليه المساكين وقيل اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت
ثم قال يعقوب عليه السلام وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون وهو أنه تعالى يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب فهو إشارة إلى أنه كان يتوقع وصول يوسف إليه وذكروا لسبب هذا التوقع أموراً أحدها أن ملك الموت أتاه فقال له يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف قال لا يا نبي الله ثم أشار إلى جانب مصر وقال أطلبه ههنا وثانيها أنه علم أن رؤيا يوسف صادقة لأن أمارات الرشد والكمال كانت ظاهرة في حق يوسف ورؤيا مثله عليه السلام لا تخطىء وثالثها لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه ولكنه تعالى ما عين الوقت فلهذا بقي في القلق ورابعها قال السدي لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله طمع أن يكون هو يوسف وقال يبعد أن يظهر في الكفار مثله وخامسها علم قطعاً أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه وما ضربه فغلب على ظنه أن ذلك الملك هو يوسف فهذا جملة الكلام في المقام الأول
والمقام الثاني أنه رجع إلى أولاده وتكلم معهم على سبيل اللطف وهو قوله تَعْلَمُونَ يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ
واعلم أنه عليه السلام لما طمع في وجدان يوسف بناء على الأمارات المذكورة قال لبنيه تحسسوا من يوسف والتحسس طلب الشيء بالحاسة وهو شبيه بالسمع والبصر قال أبو بكر الأنباري يقال تحسست عن فلان ولا يقال من فلان وقيل ههنا من يوسف لأنه أقام من مقام عن قال ويجوز أن يقال من للتبعيض والمعنى تحسسوا خبراً من أخبار يوسف واستعلموا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة مِنْ لما فيها من الدلالة على التجيض وقرىء تَجَسَّسُواْ بالجيم كما قرىء بهما في الحجرات(18/158)
ثم قال وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ قال الأصمعي الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه وتركيب الراء والواو الحاء يفيد الحركة والاهتزاز فكلما يهتز انسان له ويلتذ بوجوده فهو روح وقال ابن عباس لا تيئسوا من روح الله يريد من رحمة الله وعن قتادة من فضل الله وقال ابن زيد من فرج الله وهذه الألفاظ متقاربة وقرأ الحسن وقتادة من روح الله بالضم أي من رحمته
ثم قال يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن قال ابن عباس رضي الله عنهما إن المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء
واعلم أن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أو ليس بكريم بل هو بخيل وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة وكل واحد منها كفر ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً والله أعلم وقد بقي من مباحث هذه الآية سؤالات
السؤال الأول أن بلوغ يعقوب في حب يوسف إلى هذا الحد العظيم لا يليق إلا بمن كان غافلاً عن الله فإن من عرف الله أحبه ومن أحب الله لم يتفرغ قلبه لحب شيء سوى الله تعالى وأيضاً القلب الواحد لا يتسع للحب المستغرق لشيئين فلما كان قلبه مستغرقاً في حب ولده امتنع أن يقال إنه كان مستغرقاً في حب الله تعالى
والسؤال الثاني أن عند استيلاء الحزن الشديد عليه كان من الواجب أن يشتغل بذكر الله تعالى وبالتفويض إليه والتسليم لقضائه
وأما قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ فذلك لا يليق بأهل الدين والعلم فضلاً عن أكابر الأنبياء
والسؤال الثالث لا شك أن يعقوب كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه وجده وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الدنيا ومن كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة صعبة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية بل لا بد وأن يبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وبقي يعقوب على حزنه الشديد وأسفه العظيم وكان يوسف في مصر وكان يعقوب في بعض بلاد الشام قريباً من مصر فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة مخفية
السؤال الرابع لم لم يبعث يوسف عليه السلام أحداً إلى يعقوب ويعلمه أنه في الحياة وفي السلامة ولا يقال إنه كان يخاف إخوته لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً كان يمكنه إرسال الرسول إليه وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع الرسول
والسؤال الخامس كيف جاز ليوسف عليه السلام أن يضع الصاع في وعاء أخيه ثم يستخرجه منه ويلصق به تهمة السرقة مع أنه كان بريئاً عنها
السؤال السادس كيف رغب في إلصاق هذه التهمة به وفي حبسه عند نفسه مع أنه كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى(18/159)
والجواب عن الأول أن مثل هذه المحنة الشديدة تزيل عن القلب كل ما سواه من الخواطر ثم إن صاحب هذه المحنة الشديدة يكون كثير الرجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدعاء والتضرع فيصير ذلك سبباً لكمال الاستغراق
والجواب عن الثاني أن الداعي الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة فتارة كان يقول فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ( يوسف 84 ) وتارة كان يقول فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( يوسف 18 ) وأما بقية الأسئلة فالقاضي أجاب عنها بجواب كلي حسن فقال هذه الوقائع التي نقلت إلينا إما يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لا يمكن فإن كان الأول فلا إشكال وإن كان الثاني فنقول كان ذلك الزمان زمان الأنبياء عليهم السلام وخرق العادة في هذا الزمان غير مستبعد فلم يمتنع أن يقال إن بلدة يعقوب عليه السلام مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه السلام ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل نقض العادة
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَة ٍ مُّزْجَاة ٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَءِنَّكَ لاّنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَاذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أن المفسرين اتفقوا على أن ههنا محذوفاً والتقدير أن يعقوب لما قال لبنيه اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ قبلوا من أبيهم هذه الوصية فعادوا إلى مصر ودخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ
فإن قيل إذا كان يعقوب أمرهم أن يتحسسوا أمر يوسف وأخيه فلماذا عدلوا إلى الشكوى وطلبوا إيفاء الكيل
قلنا لأن المتحسسين يتوسلون إلى مطلوبهم بجميع الطرق والاعتراف بالعجز وضيق اليد ورقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة مما يرقق القلب فقالوا نجربه في ذكر هذه الأمور فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا فلهذا السبب قدموا ذكر هذه الواقعة وقالوا هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ والعزيز هو الملك القادر المنيع مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وهوا الفقر والحاجة وكثرة العيال وقلة الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم وَجِئْنَا بِبِضَاعَة ٍ مُّزْجَاة ٍ وفيه أبحاث(18/160)
البحث الأول معنى الإزجاء في اللغة الدفع قليلاً قليلاً ومثله التزجية يقال الريح تزجي السحاب قال الله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ( النور 43 ) وزجيت فلاناً بالقول دافعته وفلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالحيلة
والبحث الثاني إنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لهما جميعاً والمفسرون ذكروا كل هذه الأقسام قال الحسن البضاعة المزجاة القليلة وقال آخرون إنها كانت رديئة واختلفوا في تلك الرداءة فقال ابن عباس رضي الله عنهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام وقيل خلق الغرارة والحبل وأمتعة رثة وقيل متاع الأعراب الصوف والسمن وقيل الحبة الخضراء وقيل الأقط وقيل النعال والأدم وقيل سويق المقل وقيل صوف المعز وقيل إن دراهم مصر كانت تنقش فيها صورة يوسف والدراهم التي جاؤا بها ما كان فيها صورة يوسف فما كانت مقبولة عند الناس
البحث الثالث في بيان أنه لم سميت البضاعة القليلة الرديئة مزجاة وفيه وجوه الأول قال الزجاج هي من قولهم فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل والمعنى أنا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزمان وليست مما ينتفع به وعلى هذا الوجه فالتقدير ببضاعة مزجاة بها الأيام الثاني قال أبو عبيد إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها قال وهي من الأزجاء والأزجاء عند العرب السوق والدفع الثالث ببضاعة مزجاة أي مؤخرة مدفوعة عن الإنفاق لا ينفق مثلها إلا من اضطر واحتاج إليها لفقد غيرها مما هو أجود منها الرابع قال الكلبي مزجاة لغة العجم وقيل هي من لغة القبط قال أبو بكر الأنباري لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق والتصريف منسوباً إلى القبط
البحث الرابع قرأ حمزة والكسائي مزجاة بالإمالة لأن أصله الياء والباقون بالنصب والتفخيم
واعلم أن حاصل الكلام في كون البضاعة مزجاة إما لقلتها أو لنقصانها أو لمجموعها ولما وصفوا شدة حالهم ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ والمراد أن يساهلهم إما بإن يقيم الناقص مقام الزائد أو يقيم الرديء مقام الجيد ثم قالوا وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا والمراد المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسع بالجيد واختلف الناس في أنه هل كان ذلك طلباً منهم للصدقة فقال سفيان بن عيينة إن الصدقة كانت حلالاً للأنبياء قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الآية وعلى هذا التقدير كأنهم طلبوا القدر الزائد على سبيل الصدقة وأنكر الباقون ذلك وقالوا حال الأنبياء وحال أولاد الأنبياء ينافي طلب الصدقة لأنهم يأنفون من الخضوع للمخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله تعالى والاستغاثة به عمن سواه وروي عن الحسن ومجاهد أنهما كرها أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علي قالوا لأن الله لا يتصدق إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب وإنما يقول اللهم أعطني أو تفضل فعلى هذا التصدق هو إعطاء الصدقة والمتصدق المعطي وأجاز الليث أن يقال للسائل متصدق وأباه الأكثرون وروي أنهم لما قالوا مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وتضرعوا إليه اغرورقت عيناه فعند ذلك قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وقيل دفعوا إليه كتاب يعقوب فيه من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي في النار ليحرق فنجاه الله وجعلها برداً وسلاماً عليه وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان(18/161)
أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من البكاء عليه ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به إليك ثم رجعوا وقالوا إنه قد سرق وإنك حبسته عندك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره وعرفهم أنه يوسف
ثم حكى تعالى عن يوسف عليه السلام في هذا المقام أنه قال هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ قيل إنه لما قرأ كتاب أبيه يعقوب ارتعدت مفاصله واقشعر جلده ولان قلبه وكثر بكاؤه وصرح بأنه يوسف وقيل إنه لما رأى إخوته تضرعوا إليه ووصفوا ما هم عليه من شدة الزمان وقلة الحيلة أدركته الرقة فصرح حينئذ بأنه يوسف وقوله هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ استفهام يفيد تعظيم الواقعة ومعناه ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه وهو كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وعل تعرف من خالفت
واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( يوسف 15 ) وأما قوله وَأَخِيهِ فالمراد ما فعلوا به من تعريضه للغم بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وأمه وأيضاً كانوا يؤذونه ومن جملة أقسام ذلك الإيذاء قالوا في حقه إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ( يوسف 77 ) وأما قوله إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ فهو يجري مجرى العذر كأنه قال أنتم إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في جهالة الصبا أو في جهالة الغرور يعني والآن لستم كذلك ونظيره ما يقال في تفسير قوله تعالى مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الأنفطار 6 ) قيل إنما ذكر تعالى هذا الوصف المعين ليكون ذلك جارياً مجرى الجواب وهو أن يقول العبد يا رب غرني كرمك فكذا ههنا إنما ذكر ذلك الكلام إزالة للخجالة عنهم وتخفيفاً للأمر عليهم ثم إن إخوته قالوا أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ قرأ ابن كثير إِنَّكَ على لفظ الخبر وقرأ نافع أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ بفتح الألف غير ممدودة وبالياء وأبو عمرو آينك بمد الألف وهو رواية قالون عن نافع والباقون أئنك بهمزتين وكل ذلك على الاستفهام وقرأ أبي أَوْ أَنتَ يُوسُفَ فحصل من هذه القراءات أن من القراء من قرأ بالاستفهام ومنهم من قرأ بالخبر أما الأولون فقالوا إن يوسف لما قال لهم هَلْ عَلِمْتُمْ وتبسم فأبصروا ثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف فقالوا له استفهاماً أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ ويدل على صحة الاستفهام أنه قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وإنما أجابهم عما استفهموا عنه وأما من قرأ على الخبر فحجته ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه وكان في فرقه علامة وكان ليعقوب وإسحق مثلها شبه الشامة فلما رفع التاج عرفوه بتلك العلامة فقالوا إِنَّكَ لاَنتَ يُوسُفَ ويجوز أن يكون ابن كثير أراد الاستفهام ثم حذف حرف الاستفهام وقوله قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ فيه بحثان
البحث الأول اللام لام الابتداء وأنت مبتدأ ويوسف خبره والجملة خبر إن
البحث الثاني أنه إنما صرح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته وماعوضه الله من الظفر والنصر فكأنه قال أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه والله تعالى أوصلني إلى أعظم المناصب أنا ذلك العاجز الذي قصدتم قتله وإلقاءه في البئر ثم صرت كما ترون ولهذا قال وَهَاذَا أَخِى مع أنهم كانوا(18/162)
يعرفونه لأن مقصوده أن يقول وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله تعالى كما ترون وقوله قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قال ابن عباس رضي الله عنهما بكل عز في الدنيا والآخرة وقال آخرون بالجمع بيننا بعد التفرقة وقوله إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ معناه من يتق معاصي الله ويصبر على أذى الناس فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ والمعنى إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجرهم فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشريف بكونه متقياً ولو أنه قدم على ما يقوله الحشوية في حق زليخا لكان هذا القول كذباً منه وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء
المسألة الثانية قال الواحدي روي عن ابن كثير في طريق قنبل إِنَّهُ مِنَ يَتَّقِى بإثبات الياء في الحالين ووجهه أن يجعل ( من ) بمنزلة الذي فلا يوجب الجزم ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله وَيِصْبِرْ في موضع الرفع إلا أنه حذف الرفع طلباً للتخفيف كما يخفف في عضد وشمع والباقون بحذف الياء في الحالين
قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
اعلم أن يوسف عليه السلام لما ذكر لإخوته أن الله تعالى منَّ عليه وأن من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس فإنه لا يضيعه الله صدقوه فيه واعترفوا له بالفضل والمزية قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ اثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قال الأصمعي يقال آثرك إيثاراً أي فضلك الله وفلان آثر عبد فلان إذا كان يؤثره بفضله وصلته والمعنى لقد فضلك الله علينا بالعلم والحلم والعقل والفضل والحسن والملك واحتج بعضهم بهذه الآية على أن إخوته ما كانوا أنبياء لأن جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنسبة إليه فلو شاركوه في منصب النبوة لما قالوا تَاللَّهِ لَقَدْ اثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وبهذا التقدير يذهب سؤال من يقول لعل المراد كونه زائداً عليهم في الملك وأحوال الدنيا وإن شاركوه في النبوة لأنا بينا أن أحوال الدنيا لا يعبأ بها في جنب منصب النبوة
وأما قوله وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قيل الخاطىء هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وفرق بين الخاطىء والمخطىء فلهذا الفرق يقال لمن يجتهد في الأحكام فلا يصيب إنه مخطىء ولا يقال إنه خاطىء وأكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجب وبيعه وتبعيده عن البيت والأب وقال(18/163)
أبو علي الجبائي إنهم لم يعتذروا إليه من ذلك لأن ذلك وقع منهم قبل البلوغ فلا يكون ذنباً فلا يعتذر منه وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطؤا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله وهذا الكلام ضعيف من وجوه
الوجه الأول أنا بينا أنه لا يجوز أن يقال إنهم أقدموا على تلك الأعمال في زمن الصبا لأنه من البعيد في مثل يعقوب أن يبعث جمعاً من الصبيان غير البالغين من غير أن يبعث معهم رجلاً عاقلاً يمنعهم عما لا ينبغي ويحملهم على ما ينبغي
الوجه الثاني هب أن الأمر على ما ذكره الجبائي إلا أنا نقول غاية ما في الباب أنه لا يجب الاعتذار عن ذلك إلا أنه يمكن أن يقال إنه يحسن الاعتذار عنه والدليل عليه أن المذنب إذا تاب زال عقابه ثم قد يعيد التوبة والاعتذار مرة أخرى فعلمنا أن الإنسان أيضاً قد يتوب عند ما لا تكون التوبة واجبة عليه
واعلم أنهم لما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم مجرمين خاطئين قال يوسف لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وفيه بحثان
البحث الأول التثريب التوبيخ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا زنت أمة أحدكم فليضربها الحد ولا يثربها ) أي ولا يعيرها بالزنا فقوله لاَ تَثْرَيبَ أي لا توبيخ ولا عيب وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد إزالة الجلد قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام لإخوته لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ وقوله يعقوب سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى ( يوسف 98 )
البحث الثاني إن قوله الْيَوْمَ متعلق بماذا وفيه قولان
القول الأول إنه متعلق بقوله لاَ تَثْرَيبَ أي لا أثر بكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بسائر الأيام وفيه احتمال آخر وهو أني حكمت في هذا اليوم بأن لا تثريب مطلقاً لأن قوله لاَ تَثْرَيبَ نفي للماهية ونفي الماهية يقتضي انتفاء جميع أفراد الماهية فكان ذلك مفيداً للنفي المتناول لكل الأوقات والأحوال فتقدير الكلام اليوم حكمت بهذا الحكم العام المتناول لكل الأوقات والأحوال ثم إنه لما بين لهم أنه أزال عنهم ملامة الدنيا طلب من الله أن يزيل عنهم عقاب الآخرة فقال يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ والمراد منه الدعاء
والقول الثاني أن قوله الْيَوْمَ متعلق بقوله يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ كأنه لما نفى التثريب مطلقاً بشرهم بأن الله غفر ذنبهم في هذا اليوم وذلك لأنهم لما انكسروا وخجلوا واعترفوا وتابوا فالله قبل توبتهم وغفر ذنبهم فلذلك قال الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح وقال لقريش ( ما تروني فاعلاً بكم ) فقالوا نظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت فقال ( أقول ما قال أخي يوسف لا تقريب عليكم اليوم ) وروي أن أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس إذا أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاتل عليه قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ففعل فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( غفر الله لك ولمن علمك ) وروي أن إخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تحضرنا في مائدتك بكرة وعشيا ونحن نستحي منك(18/164)
لما صدر منا من الإساءة إليك فقال يوسف عليه السلام إن أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنهم ينظروني بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ولقد شرفت الآن بإتيانكم وعظمت في العيون لما جئتم وعلم الناس أنكم إخوتي وإني من حفدة إبراهيم عليه السلام
ثم قال يوسف عليه السلام اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا قال المفسرون لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه فقالوا ذهبت عيناه فأعطاهم قميصه قال المحققون إنما عرف أن إلقاء ذلك القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى ولولا الوحي لما عرف ذلك لأن العقل لا يدل عليه ويمكن أن يقال لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء وضيق القلب ضعف بصره فإذا ألقي عليه قميصه فلا بد أن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد وذلك يقوي الروح ويزيل الضعف عن القوي فحينئذ يقوى بصره ويزول عنه ذلك النقصان فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى وقوله يَأْتِ بَصِيرًا أي يصير بصيراً ويشهد له فَارْتَدَّ بَصِيرًا ( يوسف 96 ) ويقال المراد يأت إلي وهو بصير وإنما أفرده بالذكر تعظيماً له وقال في الباقين وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ قال الكلبي كان أهله نحواً من سبعين إنساناً وقال مسروق دخل قوم يوسف عليه السلام مصر وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة وروي أن يهودا حمل الكتاب وقال أنا أحزنته بحمل القميص الملطخ بالدم إليه فأفرحه كما أحزنته وقيل حمله وهو حاف وحاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُواْ ياأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
يقال فصل فلان من عند فلان فصولاً إذا خرج من عنده وفصل مني إليه كتاباً إذا أنفذ به إليه وفصل يكون لازماً ومتعدياً وإذا كان لازماً فمصدره الفصول وإذا كان متعدياً فمصدره الفصل قال لما خرجت العير من مصر متوجهة إلى كنعان قال يعقوب عليه السلام لمن حضر عنده من أهله وقرابته وولد ولده إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ ولم يكن هذا القول مع أولاده لأنهم كانوا غائبين بدليل أنه عليه السلام قال لهم اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ( يوسف 87 ) واختلفوا في قدر المسافة فقيل مسيرة ثمانية أيام وقيل عشرة أيام(18/165)
وقيل ثمانون فرسخاً واختلفوا في كيفية وصول تلك الرائحة إليه فقال مجاهد هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليه السلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فمن ثم قال إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ وروى الواحدي بإسناده عن أنس بن مالك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال أما قوله اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا ( يوسف 93 ) فإن نمروذ الجبار لما ألقى إبراهيم في النار نزل عليه جبريل عليه السلام بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه فكسا إبراهيم عليه السلام ذلك القميص إسحاق وكساه إسحق يعقوب وكساه يعقوب يوسف فجعله في قصبة من فضة وعلقها في عنقه فألقى في الجب القميص في عنقه فذلك قوله اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا والتحقيق أن يقال إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات لا وصول الرائحة إليه من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فيكون معجزة ولا بد من كونها معجزة لأحدهما والأقرب أنه ليعقوب عليه السلام حين أخبر عنه ونسبوه في هذا الكلام إلى ما لا ينبغي فظهر أن الأمر كما ذكر فكان معجزة له قال أهل المعاني إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدة المحنة ومجيء وقت الروح والفرح من المكان البعيد ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدة ثمانين سنة وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل ومعنى لأجد ريح يوسف أشم وعبر عنه بالوجود لأنه وجدان له بحاسة الشم وقوله لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ قال أبو بكر ابن الأنباري أفند الرجل إذا حزن وتغير عقله وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو المفند قال صاحب ( الكشاف ) يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم يكن في شبيبتها ذات رأي حتى تفند في كبرها فقوله لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ أي لولا أن تنسبوني إلى الخرف ولما ذكر يعقوب ذلك قال الحاضرون عنده تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ وفي الضلال ههنا وجوه الأول قال مقاتل يعني بالضلال ههنا الشقاء يعني شقاء الدنيا والمعنى إنك لفي شقائك القديم بما تكابد من الأحزان على يوسف واحتج مقاتل بقوله إِنَّا إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ( القمر 24 ) يعنون لفي شقاء دنيانا وقال قتادة لفي ضلالك القديم أي لفي حبك القديم لا تنساه ولا تذهل عنه وهو كقولهم إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ ( يوسف 8 ) ثم قال قتادة قد قالوا كلمة غليظة ولم يكن يجوز أن يقولوها لنبي الله وقال الحسن إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أن يوسف قد مات وقد كان يعقوب في ولوعه بذكره ذاهباً عن الرشد والصواب وقوله فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ في ( أن ) قولان الأول أنه لا موضع لها من الإعراب وقد تذكر تارة كما ههنا وقد تحذف كقوله فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ ( هود 74 ) والمذهبان جميعاً موجودان في أشعار العرب والثاني قال البصريون هي مع ( ما ) في موضع رفع بالفعل المضمر تقديره فلما ظهر أن جاء البشير أي ظهر مجيء البشير فأضمر الرافع قال جمهور المفسرين البشير هو يهودا قال أنا ذهبت بالقميص الملطخ بالدم وقلت إن يوسف أكله الذئب فأذهب اليوم بالقميص فأفرحه كما أحزنته قوله أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ أي طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو يقال ألقاه يعقوب على وجه نفسه فَارْتَدَّ بَصِيرًا أي رجع بصيراً ومعنى الارتداد انقلاب الشيء إلى حالة قد كان عليها وقوله فَارْتَدَّ بَصِيرًا أي صيره الله بصيراً كما يقال طالت النخلة والله تعالى أطالها واختلفوا فيه فقال بعضهم إنه كان قد عمي بالكلية فالله تعالى جعله بصيراً في هذا الوقت وقال آخرون بل كان قد ضعف بصره من كثرة(18/166)
البكاء وكثرة الأحزان فلما ألقوا القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه فعند ذلك قوي بصره وزال النقصان عنه فعند هذا قال أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ والمراد علمه بحياة يوسف من جهة الرؤيا لأن هذا المعنى هو الذي له تعلق بما تقدم وهو إشارة إلى ما تقدم من قوله إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( يوسف 86 ) روي أنه سأل البشير وقال كيف يوسف قال هو ملك مصر قال ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة ثم إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون إليه وَقَالُواْ يأَيُّهَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وظاهر الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال بل وعدهم بأنه يستغفر لهم بعد ذلك واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما والأكثرون أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر لأن هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة الثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة لأنها أوفق الأوقات للإجابة الثالث أراد أن يعرف أنهم هل تابوا في الحقيقة أم لا وهل حصلت توبتهم مقرونة بالإخلاص التام أم لا الرابع استغفر لهم في الحال وقوله سَأَسْتَغْفِرُ لَكُمْ معناه أني أداوم على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل فقد روي أنه كان يستغفر لهم في كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة وقيل قام إلى الصلاة في وقت فلما فرغ رفع يده إلى السماء وقال ( اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عليه واغفر لأولادي ما فعلوه في حق يوسف عليه السلام ) فأوحى الله تعالى إليه قد غفرت لك ولهم أجمعين وروي أن أبناء يعقوب عليه السلام قالوا ليعقوب وقد غلبهم الخوف والبكاء ما يغني عنا إن لم يغفر لنا فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى قل صبرهم فظنوا أنها الهلكة فنزل جبريل عليه السلام وقال ( إن الله تعالى أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة ) وقد اختلف الناس في نبوتهم وهو مشهور
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ ياأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
اعلم أنه روي أن يوسف عليه السلام وجه إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه وخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم تلقوا يعقوب عليه(18/167)
السلام وهو يمشي يتوكأ على يهودا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهودا هذا فرعون مصر قال لا هذا ولدك يوسف فذهب يوسف يبدأ بالسلام فمنع من ذلك فقال يعقوب عليه السلام السلام عليك وقيل إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى والمقاتلون منهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلاً سوى الصبيان والشيوخ
أما قوله إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ففيه بحثان
البحث الأول في المراد بقوله أبويه قولان الأول المراد أبوه وأمه وعلى هذا القول فقيل إن أمه كانت باقية حية إلى ذلك الوقت وقيل إنها كانت قد ماتت إلا أن الله تعالى أحياها وأنشرها من قبرها حتى سجدت له تحقيقاً لرؤية يوسف عليه السلام
والقول الثاني أن المراد أبوه وخالته لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين وقيل بنيامين بالعبرانية ابن الوجع ولما ماتت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى بأحد الأبوين لأن الرابة تدعى إما لقيامها مقام الأم أو لأن الخالة أم كما أن العم أب ومنه قوله تعالى وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 )
البحث الثاني آوى إليه أبويه ضمهما إليهما واعتنقهما
فإن قيل ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر
قلنا كأنه حين استقبلهم نزل بهم في بيت هناك أو خيمة فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال لهم ادْخُلُواْ مِصْرَ
أما قوله دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ففيه أبحاث
البحث الأول قال السدي إنه قال هذا القول قبل دخولهم مصر لأنه كان قد استقبلهم وهذا هو الذي قررناه وعن ابن عباس رضي الله عنهما المراد بقوله ادْخُلُواْ مِصْرَ أي أقيموا بها آمنين سمى الإقامة دخولاً لاقتران أحدهما بالآخر
البحث الثاني الاستثناء وهو قول إِن شَاء اللَّهُ فيه قولان الأول أنه عائد إلى الأمن لا إلى الدخول والمعنى ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله ونظيره قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( الفتح 27 ) وقيل إنه عائد إلى الدخول على القول الذي ذكرناه إنه قال لهم هذا الكلام قبل أن دخلوا مصر
البحث الثالث معنى قوله ءامِنِينَ يعني على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحداً وكانوا فيما سلف يخافون ملوك مصر وقيل آمنين من القحط والشدة والفاقة وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف
أما قوله وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ قال أهل اللغة العرش السرير الرفيع قال تعالى وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( النمل 23 ) والمراد بالعرش ههنا السرير الذي كان يجلس عليه يوسف وأما قوله وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا ففيه إشكال وذلك لأن يعقوب عليه السلام كان أبا يوسف وحق الأبوة عظيم قال تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 )(18/168)
فقرن حق الوالدين بحق نفسه وأيضاً أنه كان شيخاً والشاب يجب عليه تعظيم الشيخ
والقول الثالث أنه كان من أكابر الأنبياء ويوسف وإن كان نبياً إلا أن يعقوب كان أعلى حالاً منه
والقول الرابع أن جد يعقوب واجتهاده في تكثير الطاعات أكثر من جد يوسف ولما اجتمعت هذه الجهات الكثيرة فهذا يوجب أن يبالغ يوسف في خدمة يعقوب فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب هذا تقرير السؤال
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول وهو قول ابن عباس في رواية عطاء أن المراد بهذه الآية أنهم خروا له أي لأجل وجدانه سجداً لله تعالى وحاصل الكلام أن ذلك السجود كان سجوداً للشكر فالمسجود له هو الله إلا أن ذلك السجود إنما كان لأجله والدليل على صحة هذا التأويل أن قوله وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا مشعر بأنهم صعدوا ذلك السرير ثم سجدوا له ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير لأن ذلك أدخل في التواضع
فإن قالوا فهذا التأويل لا يطابق قوله وَقَالَ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ والمراد منه قوله إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 )
قلنا بل هذا مطابق ويكون المراد من قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ لأجلي أي أنها سجدت لله لطلب مصلحتي وللسعي في إعلاء منصبي وإذا كان هذا محتملاً سقط السؤال وعندي أن هذا التأويل متعين لأنه لا يستبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة
والوجه الثاني في الجواب أن يقال إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه وهذا التأويل حسن فإنه يقال صليت للكعبة كما يقال صليت إلى الكعبة قال حسان شعراً ما كنت أعرف أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم
وأعرف الناس بالقرآن والسنن
وهذا يدل على أنه يجوز أن يقال فلان صلى للقبلة وكذلك يجوز أن يقال سجد للقبلة وقوله وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا أي جعلوه كالقبلة ثم سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه
الوجه الثالث في الجواب قد يسمى التواضع سجوداً كقوله
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
وكان المراد ههنا التواضع إلا أن هذا مشكل لأنه تعالى قال وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا والخرور إلى السجدة مشعر بالإتيان بالسجدة على أكمل الوجوه وأجيب عنه بأن الخرور قد يعني به المرور فقط قال تعالى لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ( الفرقان 73 ) يعني لم يمروا(18/169)
الوجه الرابع في الجواب أن نقول الضمير في قوله وَخَرُّواْ لَهُ غير عائد إلى الأبوين لا محالة وإلا لقال وخروا له ساجدين بل الضمير عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التهنئة والتقدير ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمهما وأما الإخوة وسائر الداخلين فخروا له ساجدين
فإن قالوا فهذا لا يلائم قوله وَقَالَ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ
قلنا إن تعبير الرؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر تعبير عن تعظيم الأكابر من الناس له ولا شك أن ذهاب يعقوب مع أولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير مساوياً لأصل الرؤيا في الصفة والصورة فلم يوجبه أحد من العقلاء
الوجه الخامس في الجواب لعل الفعل الدال على التحية والإكرام في ذلك الوقت هو السجود وكان مقصودهم من السجود تعظيمه وهذا في غاية البعد لأن المبالغة في التعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب فلو كان الأمر كما قلتم لكان من الواجب أن يسجد يوسف ليعقوب عليه السلام
والوجه السادس فيه أن يقال لعل إخوته حملتهم الأنفة والاستعلاء على أن لا يسجدوا له على سبيل التواضع وعلم يعقوب عليه السلام أنهم لو لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران الفتن ولظهور الأحقاد القديمة بعد كمونها فهو عليه السلام مع جلالة قدره وعظم حقه بسبب الأبوة والشيخوخة والتقدم في الدين والنبوة والعلم فعل ذلك السجود حتى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال الأنفة والنفرة عن قلوبهم ألا ترى أن السلطان الكبير إذا نصب محتسباً فإذا أراد ترتيبه مكنه في إقامة الحسبة عليه ليصير ذلك سبباً في أن لا يبقى في قلب أحد منازعة ذلك المحتسب في إقامة الحسبة فكذا ههنا
الوجه السابع لعل الله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا هو كما أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم لحكمة لا يعرفها إلا هو ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنه لما علم أن الله أمره بذلك سكت
ثم حكى تعالى أن يوسف لما رأى هذه الحالة قَالَ يَاءادَمُ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا وفيه بحثان
البحث الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه لما رأى سجود أبويه وإخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه وقال ليعقوب هذا تأويل رؤياي من قبل وأقول هذا يقوي الجواب السابع كأنه يقول يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به وتكليف كلفت به فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سبباً لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة فكذلك صارت هذه الرؤيا التي رآها يوسف وحكاها ليعقوب سبباً لوجوب ذلك السجود فلهذا السبب حكى ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما رأى ذلك هاله واقشعر جلده ولكنه لم يقل شيئاً وأقول لا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد الله تعالى على يعقوب كأنه قيل له إنك كنت دائم الرغبة في وصاله ودائم الحزن بسبب فراقه فإذا وجدته فاسجد له فكان الأمر بذلك السجود من تمام الشديد والله أعلم بحقائق الأمور(18/170)
البحث الثاني اختلفوا في مقدار المدة بين هذا الوقت وبين الرؤيا فقيل ثمانون سنة وقيل سبعون وقيل أربعون وهو قول الأكثرين ولذلك يقولون إن تأويل الرؤيا إنما صحت بعد أربعين سنة وقيل ثماني عشرة سنة وعن الحسن أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وبقي في العبودية والسجون ثمانين سنة ثم وصل إلى أبيه وأقاربه وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة فكان عمره مائة وعشرين سنة والله أعلم بحقائق الأمور
ثم قال وَقَدْ أَحْسَنَ بَى أي إلي يقال أحسن بي وإليه قال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن ثقلت
إذا أخرجني من السجن ولم يذكر إخراجه من البئر لوجوه الأول أنه قال لإخوته لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ولو ذكر واقعة البئر لكان ذلك تثريباً لهم فكان إهماله جاراً مجري الكرم الثاني أنه لما خرج من البئر لم يصر ملكاً بل صيروه عبداً أما لما خرج من السجن صيروه ملكاً فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاماً كاملاً الثالث أنه لما أخرج من البئر وقع في المضار الحاصلة بسبب تهمة المرأة فلما أخرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته وزالت التهمة فكان هذا أقرب إلى المنفعة الرابع قال الواحدي النعمة في إخراجه من السجن أعظم لأن دخوله في السجن كان بسبب ذنب هم به وهذا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ورغبة النفس وهذا وإن كان في محل العفو في حق غيره إلا أنه ربما كان سبباً للمؤاخذة في حقه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين
ثم قال وَجَاء بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان
القول الأول جاء بكم من البدو أي من البداية وقال الواحدي البدو بسيط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد وأصله من بدا يبدو بدواً ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال بدو وحضر وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبرية
والقول الثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما كان يعقوب قد تحول إلى بدا وسكنها ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها قال ابن الأنباري بدا اسم موضع معروف يقال هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثير فقال وأنت التي حببت شعباً إلى بدا
إلى وأوطاني بلاد سواهما
فالبدو على هذا القول معناه قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا يقال بدا القوم يبدون بدوا إذا أتوا بدا كما يقال غار القوم غوراً إذا أتوا الغور فكان معنى الآية وجاء بكم من قصد بدا وعلى هذا القول كان يعقوب وولده حضريين لأن البدو لم يرد به البادية لكن عنى به قصد بدا إلى ههنا كلام قاله الواحدي في ( البسيط )
المسألة الثانية تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأن خروج العبد من(18/171)
السجن أضافه إلى نفسه بقوله إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السّجْنِ ومجيئهم من البدو وأضافه إلى نفسه سبحانه بقوله وَجَاء بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ وهذا صريح في أن فعل العبد بعينه فعل الله تعالى وحمل هذا على أن المراد أن ذلك إنما حصل بإقدار الله تعالى وتيسيره عدول عن الظاهر
ثم قال مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى قال صاحب ( الكشاف ) نَّزغَ أفسد بيننا وأغوى وأصله من نزغ الراكض الدابة وحملها على الجري يقال نزغه ونسغه إذا نخسه
واعلم أن الجبائي والكعبي والقاضي احتجوا بهذه الآية على بطلان الجبر قالوا لأنه تعالى أخبر عن يوسف عليه السلام أنه أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان ولو كان ذلك أيضاً من الرحمن لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعم
والجواب أن إضافته هذا الفعل إلى الشيطان مجاز لأن عندكم الشيطان لا يتمكن من الكلام الخفي وقد أخبر الله عنه فقال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك وأيضاً فإن كان إقدام المرء على المعصية بسبب الشيطان فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر لزم التسلسل وهو محال وإن لم يكن بسبب شيطان آخر فليقل مثله في حق الإنسان فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق ليس بسبب الشيطان وليس إيضاً بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل والفسق الذي يوجب وقوعه في ذم الدنيا وعقاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر والفسق لا بد له من موقع وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال ذلك من الله تعالى ثم الذي يؤكد ذلك أن الآية المتقدمة على هذه الآية وهي قوله إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السّجْنِ وَجَاء بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ صريح في أن الكل من الله تعالى
ثم قال إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء والمعنى أن حصول الاجتماع بين يوسف وبين أبيه وإخوته مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال كان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف فإذا أراد حصول شيء سهل أسبابه فحصل وإن كان في غاية البعد عن الحصول
ثم قال إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أعني أن كونه لطيفاً في أفعاله إنما كان لأجل أنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها فيكون عالماً بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب وحكيم أي محكم في فعله حاكم في قضائه حكيم في أفعاله مبرأ عن العبث والباطل والله أعلم
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرض أَنتَ وَلِى ِّ فِى الدُّنُيَا وَالاٌّ خِرَة ِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن يوسف عليه السلام أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن(18/172)
الذهب والفضة وخزائن الحلي وخزائن الثياب وخزائن السلاح فلما أدخله مخازن القراطيس قال يا بني ما أغفلك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال نهاني جبريل عليه السلام عنه قال سله عن السبب قال أنت أبسط إليه فسأله فقال جبريل عليه السلام أمرني الله بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب فهلا خفتني وروي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ولما قربت وفاته أوصى إليه أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة فعند ذلك تمنى ملك الآخرة فتمنى الموت وقيل ما تمناه نبي قبله ولا بعده فتوفاه الله طيباً طاهراً فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحب أن يدفه في محلتهم حتى هموا بالقتال فرأوا أن الأصلح أن يعملوا له صندوقاً من مرمر ويجعلوه فيه ويدفنوه في النيل بمكان يمر الماء عليه ثم يصل إلى مصر لتصل بركته إلى كل أحد وولد له افراثيم وميشا وولد لافراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى ثم دفن يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه
المسألة الثانية من في قوله مّنَ الْمُلْكِ وَمِنْ تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ للتبعيض لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا أو بعض ملك مصر وبعض التأويل قال الأصم إنما قال من الملك لأنه كان ذو ملك فوقه
واعلم أن مراتب الموجودات ثلاثة المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجسام فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة فلا يكون لها تأثير في شيء أصلاً وهذان القسمان متباعدان جداً ويتوسطهما قسم ثالث وهو الذي يؤثر ويتأثر وهو عالم الأرواح فخاصية جوهر الأرواح أنها تقبل الأثر والتصرف عن عالم نور جلال الله ثم إنها إذا أقبلت على عالم الأجسام تصرفت فيه وأثرت فيه فتعلق الروح بعالم الأجسام بالتصرف والتدبير فيه وتعلقه بعالم الإلهيات بالعلم والمعرفة وقوله تعالى قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ إشارة إلى تعلق النفس بعالم الأجسام وقوله وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ إشارة إلى تعلقها بحضرة جلال الله ولما كان لا نهاية لدرجات هذين النوعين في الكمال والنقصان والقوة والضعف والجلاء والخفاء امتنع أن يحصل منهما للإنسان إلا مقدار متناه فكان الحاصل في الحقيقة بعضاً من أبعاض الملك وبعضاً من أبعاض العلم فلهذا السبب ذكر فيه كلمة ( من ) لأنها دالة على التبعيض ثم قال فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه أبحاث
البحث الأول في تفسير لفظ الفاطر بحسب اللغة قال ابن عباس رضي الله عنهما ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها وأنا ابتدأت حفرها قال أهل اللغة أصل الفطر في اللغة الشق يقال فطر ناب البعير إذ بدا وفطرت الشيء فانفطر أي شققته فانشق وتفطر الأرض بالنبات والشجر بالورق إذا تصدعت هذا أصله في اللغة ثم صار عبارة عن الإيجاد لأن ذلك الشيء حال عدمه كأنه في ظلمة وخفاء فلما دخل في الوجود صار كأنه انشق عن العدم وخرج ذلك الشيء منه
البحث الثاني أن لفظ الفاطر قد يظن أنه عبارة عن تكوين الشيء عن العدم المحض بدليل الاشتقاق الذي ذكرناه إلا أن الحق أنه لا يدل عليه ويدل عليه وجوه أحدها أنه قال الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( فاطر 1 )(18/173)
ثم بين تعالى أنه إنما خلقها من الدخان حيث قال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ ( فصلت 11 ) فدل على أن لفظ الفاطر لا يفيد أنه أحدث ذلك الشيء من العدم المحض وثانيها أنه قال تعالى فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( الروم 30 ) مع أنه تعالى إنما خلق الناس من التراب قال تعالى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَة ً أُخْرَى ( طه 55 ) وثالثها أن الشيء إنما يكون حاصلاً عند حصول مادته وصورته مثل الكوز فإنه إنما يكون موجوداً إذا صارت المادة المخصوصة موصوفة بالصفة المخصوصة فعند عدم الصورة ما كان ذلك المجموع موجوداً وبإيجاد تلك الصورة صار موجداً لذلك الكوز فعلمنا أن كونه موجداً للكون لا يقتضي كونه موجداً لمادة الكوز فثبت أن لفظ الفاطر لا يفيد كونه تعالى موجداً للأجزاء التي منها تركبت السموات والأرض وإنما صار إلينا كونه موجداً لها بحسب الدلائل العقلية لا بحسب لفظ القرآن
واعلم أن قوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يوهم أن تخليق السموات مقدم على تخليق الأرض عند من يقول الواو تفيد الترتيب ثم العقل يؤكده أيضاً وذلك لأن تعين المحيط يوجب تعين المركز وتعينه فإنه لا يوجب تعين المحيط لأنه يمكن أن يحيط بالمركز الواحد محيطات لا نهاية لها أما لا يمكن أن يحصل للمحيط الواحد إلا مركز واحد بعينه وأيضاً اللفظ يفيد أن السماء كثيرة والأرض واحدة ووجه الحكمة فيه قد ذكرناه في قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 )
البحث الثالث قال الزجاج نصبه من وجهين أحدهما على الصفة لقوله رَبّ وهو نداء مضاف في موضع النصب والثاني يجوز أن ينصب على نداء ثان
ثم قال أَنتَ وَلِيُّنَا فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَة ِ والمعنى أنت الذي تتولى إصلاح جميع مهماتي في الدنيا والآخرة فوصل الملك الفاني بالملك الباقي وهذا يدل على أن الإيمان والطاعة كلمة من الله تعالى إذ لو كان ذلك من العبد لكان المتولي لمصالحه هو هو وحينئذ يبطل عموم قوله رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ
ثم قال تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حكى عن جبريل عليه السلام عن رب العزة أنه قال ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) فلهذا المعنى من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم عليه ذكر الثناء على الله فههنا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم ذكر عقيبه الدعاء وهو قوله تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ونظيره ما فعله الخليل صلوات الله عليه في قوله الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) من هنا إلى قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً ( الشعراء 83 ) ثناء على الله ثم قوله رَبّ هَبْ لِى إلى آخر الكلام دعاء فكذا ههنا
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله تَوَفَّنِى مُسْلِمًا هل هو طلب منه للوفاة أو لا فقال قتادة سأل ربه اللحوق به ولم يتمن نبي قط الموت قبله وكثير من المفسرين على هذا القول وقال ابن عباس رضي(18/174)
الله عنهما في رواية عطاء يريد إذا توفيتني فتوفني على دين الإسلام فهذا طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة
واعلم أن اللفظ صالح للأمرين ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت ويعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها أن كمال النفس الإنسانية على ما بيناه في أن يكون عالماً بالإلهيات وفي أن يكون ملكاً ومالكاً متصرفاً في الجسمانيات وذكرنا أن مراتب التفاوت في هذين النوعين غير متناهية والكمال المطلق فيهما ليس إلا لله وكل ما دون ذلك فهو ناقص والناقص إذا حصل له شعور بنقصانه وذاق لذة الكمال المطلق بقي في القلق وألم الطلب وإذا كان الكمال المطلق ليس إلا الله وما كان حصوله للإنسان ممتنعاً لزم أن يبقى الإنسان أبداً في قلق الطلب وألم التعب فإذا عرف الإنسان هذه الحالة عرف أنه لا سبيل له إلى دفع هذا التعب عن النفس إلا بالموت فحينئذ يتمنى الموت
والسبب الثاني لتمنى الموت أن الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمة الدنيا إلا أن حاصل كلامهم يرجع إلى أمور ثلاثة أحدها أن هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها وثانيها أنها غير خالصة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدرات وثالثها أن الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات ولما عرف العاقل أنه لا سبيل إلى تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم يتمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات
والسبب الثالث وهو الأقوى عند المحققين رحمهم الله أجمعين أن هذه اللذات الجسمانية لا حقيقة لها وإنما حاصلها دفع الآلام فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع ولذة الوقاع عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعية المني ولذة الإمارة والرياسة عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام وطلب الرياسة وإذا كان حاصل هذه اللذات ليس إلا دفع الألم لا جرم صارت عند العقلاء حقيرة خسيسة نازلة ناقصة وحينئذ يتمنى الإنسان الموت ليتخلص عن الاحتياج إلى هذه الأحوال الخسيسة
والسبب الرابع أن مداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل واحدة منها عيوب كثيرة أما لذة الأكل ففيها عيوب أحدها أن هذه اللذات ليست قوية فإن الشعور بألم القولنج الشديد والعياذ بالله منه أشد من الشعور باللذة الحاصلة عند أكل الطعام وثانيها أن هذه اللذة لا يمكن بقاؤها فإن الإنسان إذا أكل شبع وإذا شبع لم يبق شوقه للالتذاذ بالأكل فهذه اللذة ضعيفة ومع ضعفها غير باقية وثالثها أنها في نفسها خسيسة فإن الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر مستقذر ثم لما يصل إلى المعدة تظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة وذلك أيضاً منفر ورابعها أن جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة فيها فإن الروث في مذاق الجعل كاللوزنيج في مذاق الإنسان وكما أن الإنسان يكره تناول غذاء الجعل فكذلك الجعل يكره تناول غذاء الإنسان وأما اللذة فمشتركة فيما بين الناس وخامسها أن الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع وتلك حاجة شديدة والحاجة نقص وافر وسادسها أن الأكل يستحقر عند العقلاء قيل من كان همته ما(18/175)
يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه فهذا هو الإشارة المختصرة في معايب الأكل وأما لذة النكاح فكل ما ذكرناه في الأكل حاصل ههنا مع أشياء أخرى وهي أن النكاح سبب لحصول الولد وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجة إلى المال فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في طلب المال بطرق لا نهاية لها وربما صار هالكاً سبب طلب المال وأما لذة الرياسة فعيوبها كثيرة والذي نذكره ههنا بسبب واحد وهو أن كل أحد يكره بالطبع أن يكون خادماً مأموراً ويحب أن يكون مخدوماً آمراً فإذا سعى الإنسان في أن يصير رئيساً آمراً كان ذلك دالاً على مخالفة كل ما سواه فكأنه ينازع كل الخلق في ذلك وهو يحاول تحصيل تلك الرياسة وجميع أهل الشرق والغرب يحاولون إبطاله ودفعه ولا شك أن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر وإذا كان كذلك كان حصول هذه الرياسة كالمعتذر ولو حصل فإنه يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان بكل سبب من الأسباب وكان صاحبها عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال وعند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال
واعلم أن العاقل إذا تأمل هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات والسعي في هذه الخيرات ألبتة ثم إن النفس خلقت مجبولة على طلبها والعشق الشديد عليها والرغبة التامة في الوصول إليها وحينئذ ينعقد ههنا قياف وهو أن الإنسان ما دام يكون في هذه الحياة الجسمانية فإنه يكون طالباً لهذه اللذات وما دام يطلبها كان في عين الآفات وفي لجة الحسرات وهذا اللازم مكروه فالملزوم أيضاً مكروه فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة الجسمانية والسبب في الأمور المرغبة في الموت أن موجبات هذه اللذة الجسمانية متكررة ولا يمكن الزيادة عليها والتكرير يوجب الملالة أما سعادات الآخرة فهي أنواع كثيرة غير متناهية
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمة الله عليه وهو مصنف هذا الكتاب أنار الله برهانه أنا صاحب هذه الحالة والمتوغل فيها ولو فتحت الباب وبالغت في عيوب هذه اللذات الجسمانية فربما كتبت المجلدات وما وصلت إلى القليل منها فلهذا السبب صرت مواظباً في أكثر الأوقات على ذكر هذا الذي ذكره يوسف عليه السلام وهو قوله رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ
المسألة الثالثة تمسك أصحابنا في بيان أن الإيمان من الله تعالى بقوله تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وتقريره أن تحصيل الإسلام وإبقاءه إذا كان من العبد كان طلبه من الله فاسداً وتقريره كأنه يقول افعل يا من لا يفعل والمعتزلة أبداً يشنعون علينا ويقولون إذا كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقال للعبد افعل مع أنك لست فاعلاً فنحن نقول ههنا أيضاً إذا كان تحصيل الإيمان وإبقاؤه من العبد لا من الله تعالى فكيف يطلب ذلك من الله قال الجبائي والكعبي معناه اطلب اللطف لي في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه فهذا الجواب ضعيف لأن السؤال وقع على السلام فحمله على اللطف عدول عن الظاهر وأيضاً كل ما في المقدور من الألطاف فقد فعله فكان طلبه من الله محالاً
المسألة الرابعة لقائل أن يقول الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وأنه لا يجوز(18/176)
والجواب أحسن ما قيل فيه أن كمال حال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الإسلام ويرضى بقضاء الله وقدره ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب في هذا الباب وهذه الحالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر فالمطلوب ههنا هو الإسلام بهذا المعنى
المسألة الخامسة أن يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء عليهم السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من المفسرين يعني بآبائه إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والمعنى ألحقني بهم في ثوابهم ومراتبهم ودرجاتهم وههنا مقام آخر من تفسير هذه الآية على لسان أصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة أذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحدة منها إلى الأخرى بسبب تلك الملازمة والمجانسة فتعظم تلك الأنوار وتقوى تلك الأضواء ومثال تلك الأحوال المرآة الصقيلة الصافية إذا وضعت وضعاً متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحدة منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الإشراق والبريق اللمعان إلى حد لا تطيقه العيون والأبصار الضعيفة فكذا ههنا
ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ
اعلم أن قوله ذالِكَ رفع بالابتداء وخبره مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر ثان وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ أي ما كنت عند إخوة يوسف إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ أي عزموا على أمرهم وذكرنا الكلام في هذا اللفظ عند قوله فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وقوله وَهُمْ يَمْكُرُونَ أي بيوسف واعلم أن المقصد من هذا إخبار عن الغيب فيكون معجزاً بيان إن إخبار عن الغيب أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما طالع الكتب ولم يتلمذ لأحد وما كانت البلدة بلدة العلماء فإتيانه بهذه القصة الطويلة على وجه لم يقع فيه تحريف ولا غلط من غير مطالعة ولا تعلم ومن غير أن يقال إنه كان حاضراً معهم لا بد وأن يكون معجزاً وكيف يكون معجزاً وقد سبق تقرير هذه المقدمة في هذا الكتاب مراراً وقوله وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ أي وما كنت هناك ذكر على سبيل التهكم بهم لأن كل أحد يعلم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان معهم
وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَكَأَيِّن مِّن ءَايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَة ٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ(18/177)
اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التعنت واعتقد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه إذا ذكرها فربما آمنوا فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية وكأنه إشارة إلى ما ذكره الله تعالى في قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( القصص 56 ) قال أبو بكر بن الأنباري جواب لَوْ محذوف لأن جواب لَوْ لا يكون مقدماً عليها فلا يجوز أن يقال وقال الفراء في ( المصادر ) يقال حرص يحرص حرصاً ولغة أخرى شاذة حرص يحرص حريصاً ومعنى الحرص طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد وقوله وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ معناه ظاهر وقوله إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ أي هو تذكرة لهم في دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد والقصص والتكاليف والعبادات ومعناه أن هذا القرآن يشتمل على هذه المنافع العظيمة ثم لا تطلب منهم مالاً ولا جعلاً فلو كانوا عقلاء لقبلوا ولم يتمردوا وقوله تعالى وَكَأَيّن مِن ءايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ يعني أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ثم إنهم يمرون عليها ولا يلتفتون إليها
واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة لابد وأن تكون من أمور محسوسة وهي إما الأجرام الفلكية وأما الأجرام العنصرية أما الأجرام الفلكية فهي قسمان إما الأفلاك وإما الكواكب أما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته وقد يستدل بأحوال حركاتها إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم فلا بد من محرك قادر وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها وإما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات وأما الأجرام الكوكبية فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها أحيازها وحركاتها وتارة بألوانها وأضوائها وتار بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال والظلمات والنور وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية فإما أن تكون مأخوذة من بسائط وهي عجائب البر والبحر وإما من المواليد وهي أقسام أحدها الآثار العلوية كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح وثانيها المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها وثالثها النبات وخاصية الخشب والورق والثمر واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص وخاصية مخصوصة ورابعها اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها وخامسها تشريح أبدان الناس وتشريح القوى الإنسانية وبيان المنفعة الحاصلة فيها فهذه مجامع الدلائل ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين وحكايات الأقدمين وأن الملوك الذين استولوا على الأرض وخربوا البلاد وقهروا العباد ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر ثم بقي الوزر والعقاب عليهم هذا ضبط أنواع هذه الدلائل والكتاب المحتوي على شرح هذه الدلائل هو شرح جملة العالم الأعلى والعالم الأسفل والعقل البشري لا يفي بالإحاطة به فلهذا السبب ذكره الله تعالى على سبيل الإبهام قال صاحب ( الكشاف ) قرىء والاْرْضِ بالرفع على أنه مبتدأ و يَمُرُّونَ عليها خبره وقرأ السدي والاْرْضِ بالنصب على تقدير أن يفسر قوله يَمُرُّونَ عَلَيْهَا بقولنا يطوفونها وفي مصحف عبدالله والاْرْضِ يَمْشُونَ عَلَيْهَا برفع الأرض
أما قوله وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ فالمعنى أنهم كانوا مقرين بوجود الإله بدليل قوله(18/178)
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) إلا أنهم كانوا يثبتون له شريكاً في المعبودية وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم الذين يشبهون الله بخلقه وعنه أيضاً أنه قال نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب لأنهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك وعنه أيضاً أن أهل مكة قالوا الله ربنا وحده لا شريك له الملائكة بناته فلم يوحدوا بل أشركوا وقال عبدة الأصنام ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده وقالت اليهود ربنا الله وحده وعزيز ابن الله وقالت النصارى ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله وقال عبدة الشمس والقمر ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا وقال المهاجرون والأنصار ربنا الله وحده ولا شريك معه واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن الإقرار باللسان فقط لأنه تعالى حكم بكونهم مؤمنين مع أنهم مشركون وذلك يدل على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار باللسان وجوابه معلوم أما قوله أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَة ٌ مّنْ عَذَابِ اللَّهِ أي عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم وتغمرهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً أي فجأة وبغتة نصب على الحال يقال بغتهم الأمر بغتاً وبغتة إذا فاجأهم من حيث لم يتوقعوا وقوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ كالتأكيد لقوله بَغْتَة ً
قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قال المفسرون قل يا محمد لهم هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها سبيلي وسنتي ومنهاجي وسمي الدين سبيلاً لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب ومثله قوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ ( النحل 125 )
واعلم أن السبيل في أصل اللغة الطريق وشبهوا المعتقدات بها لما أن الإنسان يمر عليها إلى الجنة ادعو الله على بصيرة وحجة وبرهان أنا ومن اتبعني إلى سيرتي وطريقتي وسيرة أتباعي الدعوة إلى الله لأن كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول وعلى هدى ويقين فإن لم يكن كذلك فهو محض الغرور وقال عليه الصلاة والسلام ( العلماء أمناء الرسل على عباد الله من حيث يحفظون لما تدعونهم إليه ) وقيل أيضاً يجوز أن ينقطع الكلام عند قوله ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ ثم ابتدأ وقال عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وقوله وَسُبْحَانَ اللَّهِ عطف على قوله هَاذِهِ سَبِيلِى أي قل هذه سبيلي وقل سبحان الله تنزيهاً لله عما يشركون وما أنا من المشركين الذين اتخذوا مع الله ضداً ونداً وكفؤاً وولداً وهذه الآية تدل على أن حرفة الكلام وعلم الأصول حرفة الأنبياء عليهم السلام وأن الله ما بعثهم إلى الخلق إلا لأجلها
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاٌّ خِرَة ِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(18/179)
اعلم أنه قرأ حفص عن عاصم نُوحِى بالنون والباقون بالياء أَفَلاَ يَعْقِلُونَ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ورواية حفص عن عاصم تَعْقِلُونَ بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغائب
واعلم أن من جملة شبه منكري نبوته عليه الصلاة والسلام أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكاً فقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَى فلما كان الكل هكذا فكيف تعجبوا في حقك يا محمد والآية تدل على أن الله ما بعث رسولاً إلى الحق من النسوان وأيضاً لم يبعث رسولاً من أهل البادية قال عليه الصلاة والسلام ( من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل )
ثم قال أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ إلى مصارع الأمم المكذبة وقوله وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ والمعنى دار الحالة الآخرة لأن للناس حالتين حال الدنيا وحال الآخرة ومثله قوله صلاة الأولى أي صلاة الفريضة الأولى وأما بيان أن الآخرة خير من الأولى فقد ذكرنا دلائله مراراً
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّى َ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
اعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي كَذَّبُواْ بالتخفيف وكسر الذال والباقون بالتشديد ومعنى التخفيف من وجهين أحدهما أن الظن واقع بالقوم أي حتى إذا استيأس الرسل من إيمان القوم فظن القوم أن الرسل كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر
فإن قيل لم يجر فيما سبق ذكر المرسل إليهم فكيف يحسن عود هذا الضمير إليهم
قلنا ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم وإن شئت قلت أن ذكرهم جرى في قوله أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( يوسف 109 ) فيكون الضمير عائداً إلى الذين من قبلهم من مكذبي الرسل والظن ههنا بمعنى التوهم والحسبان
والوجه الثاني أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا وهذا التأويل منقول عن ابن(18/180)
أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قالوا وإنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية إلا أنه بعيد لأن المؤمن لا يجوز أن يطن بالله الكذب بل يخرج بذلك عن الإيمان فكيف يجوز مثله على الرسل وأما قراءة التشديد ففيها وجهان الأول أن الظن بمعنى اليقين أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيباً لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك فحينئذ دعوا عليهم فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال وورود الظن بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) أي يتيقنون ذلك والثاني أن يكون الظن بمعنى الحسبان والتقدير حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم فظن الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية روي أن ابن أبي مليكة نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال وظن الرسل أنهم كذبوا لأنهم كانوا بشراً ألا ترى إلى قوله حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ( البقرة 214 ) قال فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فأنكرته وقالت ما وعد الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً إلا وقد علم أنه سيوفيه ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم وهذا الرد والتأويل في غاية الحسن من عائشة
وأما قوله جَاءهُمْ نَصْرُنَا أي لما بلغ الحال إلى الحد المذكور جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّى َ مَن نَّشَاء قرأ عاصم وابن عامر فَنُجّى َ مَن نَّشَاء بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء على ما لم يسم فاعله واختاره أبو عبيدة لأنه في المصحف بنون واحدة وروي عن الكسائي إدغام إحدى النونين في الأخرى وقرأ بنون واحدة وتشديد الجيم وسكون الياء قال بعضهم هذا خطأ لأن النون متحركة فلا تدغم في الساكن ولا يجوز إدغام النون في الجيم والباقون بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء على معنى ونحن نفعل بهم ذلك
واعلم أن هذا حكاية حال ألا ترى أن القصة فيما مضى وإنما حكى فعل الحال كما أن قوله مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ ( القصص 15 ) إشارة إلى الحاضر والقصة ماضية
لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاوْلِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَى ْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن الاعتبار عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول والمراد منه التأمل والتفكر ووجه الاعتبار بقصصهم أمور الأول أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب وإعلائه بعد حبسه في السجن وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة لقادر على إعزاز محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإعلاء كلمته الثاني أن الإخبار عنه جار مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزة دالة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث أنه ذكر في أول السورة نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) ثم ذكر في آخرها لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ(18/181)
تنبيهاً على أن حسن هذه القصة إنما كان بسبب أنه يحصل منها العبرة ومعرفة الحكمة والقدرة والمراد من قصصهم قصة يوسف عليه السلام وإخوته وأبيه ومن الناس من قال المراد قصص الرسل لأنه تقدم في القرآن ذكر قصص سائر الرسل إلا أن الأولى أن يكون المراد قصة يوسف عليه السلام
فإن قيل لم قال عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ مع أن قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا ذوي عقول وأحلام وقد كان الكثير منهم لم يعتبر بذلك
قلنا إن جميعهم كانوا متمكنين من الاعتبار والمراد من وصف هذه القصة بكونها عبرة كونها بحيث يمكن أن يعتبر بها العاقل أو نقول المراد من أولي الألباب الذين اعتبروا وتفكروا وتأملوا فيها وانتفعوا بمعرفتها لأن أُوْلِى الالْبَابِ لفظ يدل على المدح والثناء فلا يليق إلا بما ذكرناه واعلم أنه تعالى وصف هذه القصة بصفات
الصفة الأولى كونها عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ وقد سبق تقريره
الصفة الثانية قوله مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وفيه قولان الأول أن المراد الذي جاء به وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يصح منه أن يفتري لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما ورد في التوراة من غير تفاوت والثاني أن المراد أنه ليس يكذب في نفسه لأنه لا يصح الكذب منه ثم إنه تعالى أكد كونه غير مفترى فقال وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وهو إشارة إلى أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة وسائر الكتب الإلهية ونصب تصديقاً على تقدير ولكن كان تصديق الذي بين يديه كقوله تعالى مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ ( الأحزاب 40 ) قاله الفراء والزجاج ثم قال ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى ولكن هو تصديق الذي بين يديه
والصفة الثالثة قوله وَتَفْصِيلَ كُلّ شَى ْء وفيه قولان الأول المراد وتفصيل كل شيء من واقعة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته والثاني أنه عائد إلى القرآن كقوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء ( الأنعام 38 ) فإن جعل هذا الوصف وصفاً لكل القرآن أليق من جعله وصفاً لقصة يوسف وحدها ويكون المراد ما يتضمن من الحلال والحرام وسائر ما يتصل بالدين قال الواحدي على التفسيرين جميعاً فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء ( الأعراف 156 ) يريد كل شيء يجوز أن يدخل فيها وقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 )
الصفة الرابعة والخامسة كونها هدى في الدنيا وسبباً لحصول الرحمة في القيامة لقوم يؤمنون خصهم بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا به كما قررناه في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب قال المصنف رحمه الله تعالى تم تفسير هذه السورة بحمد الله تعالى يوم الأربعاء السابع من شعبان ختم بالخير والرضوان سنة إحدى وستمائة وقد كنت ضيق الصدر جداً بسبب وفاة الولد الصالح محمد تغمده الله بالرحمة والغفران وخصه بدرجات الفضل والإحسان وذكرت هذه الأبيات في مرثيته على(18/182)
سبيل الإيجاز فلو كانت الأقدار منقادة لنا
فديناك من حماك بالروح والجسم
ولو كانت الأملاك تأخذ رشوة
خضعنا لها بالرق في الحكم والاسم
ولكنه حكم إذا حان حينه
سرى من مقر العرش في لجة اليم
سأبكي عليك العمر بالدم دائما
ولم أنحرف عن ذاك في الكيف والكم
سلام على قبر دفنت بتربه
وأتحفك الرحمن بالكرم الجم
وما صدني عن جعل جفني مدفنا
لجسمك إلا أنه أبداً يهمي
وأقسم إن مسوا رفاتي ورمتي
أحسوا بنار الحزن في مكمن العظم
حياتي وموتي واحد بعد بعدكم
بل الموت أولى من مداومة الغم
رضيت بما أمضى الإله بحكمه
لعلمي بأني لا يجاوزني حكمي
وأنا أوصي من طالع كتابي واستفاد ما فيه من الفوائد النفيسة العالية أن يخص ولدي ويخصني بقراءة الفاتحة ويدعو لمن قد مات في غربة بعيداً عن الإخوان والأب والأم بالرحمة والمغفرة فإني كنت أيضاً كثير الدعاء لمن فعل ذلك في حقي وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً آمين والحمد لله رب العالمين(18/183)
سورة الرعد
مدنية وآياتها 43 نزلت بعد سورة محمد
سورة الرعد أربعون وثلاث آيات مكية
سوى قوله تعالى وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَة ٌ ( الرعد 31 ) وقوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 ) قال الأصم هي مدنية بالإجماع سوى قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 )
ال م ر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنا قد تكلمنا في هذه الألفاظ قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه أنا الله أعلم وقال في رواية عطاء أنا الله الملك الرحمن وقد أمالها أبو عمرو والكسائي وغيرهما وفخمها جماعة منهم عاصم وقوله تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة المسماة بالمر ثم قال إنها آيات الكتاب وهذا الكتاب الذي أعطاه محمداً بأن ينزله عليه ويجعله باقياً على وجه الدهر وقوله وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ مبتدأ وقوله الْحَقّ خبره ومن الناس من تمسك بهذه الآية في نفي القياس فقال الحكم المستنبط بالقياس غير نازل من عند الله وإلا لكان من لم يحكم به كافراً لقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) وبالإجماع لا يكفر فثبت أن الحكم المثبت بالقياس غير نازل من عند الله وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون حقاً لأجل أن قوله وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ يقتضي أنه لا حق إلا ما أنزله الله فكل ما لم ينزله الله وجب أن لا يكون حقاً وإذا لم يكن حقاً وجب أن يكون باطلاً لقوله تعالى فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ( يونس 32 ) ومثبتو القياس يجيبون عنه بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضاً من عند الله لأنه(18/184)
لما أمر بالعمل بالقياس كان الحكم الذي دل عليه القياس نازلاً من عند الله ولما ذكر تعالى أن المنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو الحق بين أن أكثر الناس لا يؤمنون به على سبيل الزجر والتهديد
اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبَّرُ الاٌّ مْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن أكثر الناس لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وهو هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الله مبتدأ والذي رفع السموات خبره بدليل قوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ ( الرعد 3 ) ويجوز أن يكون الذي رفع السموات صفة وقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ يُفَصّلُ الآيَاتِ خبراً بعد خبر وقال الواحدي العمد الأساطين وهو جمع عماد يقال عماد وعمد مثل إهاب وأهب وقال الفراء العمد والعمد جمع العمود مثل أديم وادم وادم وقضيم وقضم وقضم والعماد والعمود ما يعمد به الشيء ومنه يقال فلان عمد قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما بينهم
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى استدل بأحوال السموات وبأحوال الشمس والقمر وبأحوال الأرض وبأحوال النبات أما الاستدلال بأحوال السموات بغير عمد ترونها فالمعنى أن هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجو العالي ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذواتها لوجهين الأول أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصول كل جسم في ذلك الحين والثاني أن الخلاء لا نهاية له والأحياز المعترضة في ذلك الخلاء الصرف غير متناهية وهي بأسرها متساوية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة فثبت أن حصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها ليس أمراً واجباً لذاته بل لا بد من مخصص ومرجح ولا يجوز أن يقال إنها بقيت بسلسلة فوقها ولا عمد تحتها وإلا لعاد الكلام في ذلك الحافظ ولزم المرور إلى ما لا نهاية له وهو محال فثبت أن يقال الأجرام الفلكية في أحيازها العالية لأجل أن مدبر العالم تعالى وتقدس أوقفها هناك فهذا برهان قاهر على وجود الإله القاهر القادر ويدل أيضاً على أن الإله ليس بجسم ولا مختص بحيز لأنه لو كان حاصلاً في حيز معين لامتنع أن يكون حصوله في ذلك الحيز لذاته ولعينه لما بينا أن الأحياز بأسرها متساوية فيمتنع أن يكون حصوله في حيز معين لذاته فلا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وكل ما حصل بالفاعل المختار فهو محدث فاختصاصه بالحيز المعين محدث وذاته لا تنفك عن ذلك الاختصاص وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث فثبت أنه لو كان حاصلاً في الحيز المعين لكان حادثاً وذلك محال فثبت أنه تعالى متعال عن الحيز والجهة وأيضاً كل ما سماك فهو سماء فلو كان تعالى موجوداً في جهة فوق جهة لكان من جملة السموات فدخل تحت قوله اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا(18/185)
فكل ما كان مختصاً بجهة فوق جهة فهو محتاج إلى حفظ الإله بحكم هذه الآية فوجب أن يكون الإله منزهاً عن جهة فوق أما قوله تَرَوْنَهَا ففيه أقوال الأول أنه كلام مستأنف والمعنى رفع السموات بغير عمد ثم قال تَرَوْنَهَا أي وأنتم ترونها أي مرفوعة بلا عماد الثاني قال الحسن في تقرير الآية تقديم وتأخير تقديره رفع السموات ترونها بغير عمد
واعلم أنه إذا أمكن حمل الكلام على ظاهره كان المصير إلى التقديم والتأخير غير جائز والثالث أن قوله تَرَوْنَهَا صفة للعمد والمعنى بغير عمد مرئية أي للسموات عمد ولكنا لا نراها قالوا ولها عمد على جبل قاف وهو جبل من زبرجد محيط بالدنيا ولكنكم لا ترونها وهذا التأويل في غاية السقوط لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة على وجود الإله القادر ولو كان المراد ما ذكروه لما ثبتت الحجة لأنه يقال إن السموات لما كانت مستقرة على جبل قاف فأي دلالة لثبوتها على وجود الإله وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل وهو أن العماد ما يعتمد عليه وقد دللنا على أن هذه الأجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى وحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى فنتج أن يقال إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الجو العالي وأنهم لا يرون ذلك التدبير ولا يعرفون كيفية ذلك الإمساك
وأما قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فاعلم أنه ليس المراد منه كونه مستقراً على العرش لأن المقصود من هذه الآية ذكر ما يدل على وجود الصانع ويجب أن يكون ذلك الشيء مشاهداً معلوماً وأن أحداً ما رأى أنه تعالى استقر على العرش فكيف يمكن الاستدلال به عليه وأيضاً بتقدير أن يشاهد كونه مستقراً على العرش إلا أن ذلك لا يشعر بكمال حاله وغاية جلاله بل يدل على احتياجه إلى المكان والحيز وأيضاً فهذا يدل على أنه ما كان بهذه الحالة ثم صار بهذه الحالة وذلك يوجب التغير وأيضاً الاستواء ضد الاعوجاج فظاهر الآية يدل على أنه كان معوجاً مضطرباً ثم صار مستوياً وكل ذلك على الله محال فثبت أن المراد استواؤه على عالم الأجسام بالقهر والقدرة والتدبير والحفظ يعني أن من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وفي تدبيره وفي الاحتياج إليه وأما الاستدلال بأحوال الشمس والقمر فهو قوله سبحانه وتعالى وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى
واعلم أن هذا الكلام اشتمل على نوعين من الدلالة
النوع الأول قوله وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وحاصله يرجع إلى الاستدلال على وجود الصانع القادر القاهر بحركات هذه الأجرام وذلك لأن الأجسام متماثلة فهذه الأجرام قابلة للحركة والسكون فاختصاصها بالحركة الدائمة دون السكون لا بد له من مخصص وأيضاً أن كل واحدة من تلك الحركات مختصة بكيفية معينة من البطإ والسرعة فلا بد أيضاً من مخصص لا سيما عند من يقول الحركة البطيئة معناها حركات مخلوطة بسكنات وهذا يوجب الاعتراف بأنها تتحرك في بعض الأحياز وتسكن في البعض فحصول الحركة في ذلك الحيز المعين والسكون في الحيز الآخر لا بد فيه أيضاً من مرجح
الوجه الثالث وهو أن تقدير تلك الحركات والسكنات بمقادير مخصوصة على وجه تحصل عوداتها وأدوارها متساوية بحسب المدة حالة عجيبة فلا بد من مقدر(18/186)
والوجه الرابع أن بعض تلك الحركات مشرقية وبعضها مغربية وبعضها مائلة إلى الشمال وبعضها مائلة إلى الجنوب وهذا أيضاً لا يتم إلا بتدبير كامل وحكمة بالغة
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى وفيه قولان الأول قال ابن عباس للشمس مائة وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتم في ستة أشهر ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً فالمراد بقوله كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى هذا وتحقيقه أنه تعالى قدر لكل واحد من هذه الكواكب سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك
والقول الثاني أن المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة وعند مجيء ذلك اليوم تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك السيرات كما وصف الله تعالى ذلك في قوله إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ( التكوير 1 2 ) إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ) إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الأنفطار 1 ) جَمَعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( القيامة 9 ) وهو كقوله سبحانه وتعالى ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ( الأنعام 2 ) ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال يُدَبّرُ الاْمْرَ وكل واحد من المفسرين حمل هذا على تدبير نوع آخر من أحوال العالم والأولى حمله على الكل فهو يدبرهم بالإيجاد والإعدام وبالإحياء والإماتة والإغناء والإفقار ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل وتكليف العباد وفيه دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك لأن هذا العالم المعلوم من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله تعالى والدليل المذكور دل على أن اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى ومن المعلوم أن كل من اشتغل بتدبير شيء فإنه لا يمكنه شيء آخر إلا الباري سبحانه وتعالى فإنه لا يشغله شأن عن شأن أما العاقل فإنه إذا تأمل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجسام وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير فلا يشغله شأن عن شأن ولا يمنعه تدبير عن تدبير وذلك يدل على أنه تعالى في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته غير مشابه للمحدثات والممكنات
ثم قال يُفَصّلُ الآيَاتِ وفيه قولان الأول أنه تعالى بين الآيات الدالة على إلهيته وعلمه وحكمته والثاني أن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان أحدهما الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك والشمس والقمر والكواكب وهذا النوع من الدلائل هو الذي تقدم ذكره والثاني الموجودات الحادثة المتغيرة وهي الموت بعد الحياة والفقر بعد الغنى والهرم بعد الصحة وكون الأحمق في أهنأ العيش والعاقل الذكي في أشد الأحوال فهذا النوع من الموجودات والأحوال دلالتها على وجود الصانع الحكيم ظاهرة باهرة وقوله يُفَصّلُ الآيَاتِ إشارة إلى أنه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز والتفصيل
ثم قال لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ واعلم أن الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع الحكيم فهي أيضاً تدل على صحة القول بالحشر والنشر لأن من قدر على خلق هذه الاْشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها فلأن يقدر على الحشر والنشر كان أولى يروى أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه(18/187)
تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة فقال كما يرزقهم الآن دفعة واحدة وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجو العالي وإن كان الخلق عاجزين عنه وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن ومن الأصحاب من تمسك بلفظ اللقاء على رؤية الله تعالى وقد مر تقريره في هذا الكتاب مراراً وأطواراً(18/188)
بداية الجزء التاسع عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(19/2)
وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ
واعلم أن الاستدلال بخلقه الأرض وأحوالها من وجوه الأول أن الشيء إذا تزايد حجمه ومقداره صار كأن ذلك الحجم وذلك المقدار يمتد فقوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي جعل الأرض مختصة بذلك المقدار المعين الحاصل له لا أزيد ولا أنقص والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً مما هو الآن وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه فاختصاصه بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص وتقدير الثاني قال أبو بكر الأصم المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه لأن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به والثالث قال قوم كانت الأرض مدورة فمدها ودحا من مكة من تحت البيت فذهبت كذا وكذا وقال آخرون كانت مجتمعة عند البيت المقدس فقال لها اذهبي كذا وكذا
اعلم أن هذا القول إنما يتم إذا قلنا الأرض مسطحة لا كرة وأصحاب هذا القول احتجوا عليه بقوله وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ( النازعات 30 ) وهذا القول مشكل من وجهين الأول أنه ثبت بالدلائل أن الأرض كرة فكيف يمكن المكابرة فيه
فإن قالوا وقوله مَدَّ الاْرْضَ ينافي كونها كرة فكيف يمكن مدها
قلنا لا نسلم أن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح والتفاوت الحاصل بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله ألا ترى أنه قال وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً(19/3)
( النبأ 7 ) فجعلها أوتاداً مع أن العالم من الناس يستقرون عليها فكذلك ههنا والثاني أن هذه الآية إنما ذكرت ليستدل بها على وجود الصانع والشرط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع فثبت أن التأويل الحق هو ما ذكرناه
والنوع الثاني من الدلائل الاستدلال بأحوال الجبال وإليه الإشارة بقوله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ من فوقها ثابتة باقية في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها يقال رسا هذا الوتد وأرسيته والمراد ما ذكرنا
واعلم أن الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم من وجوه الأول أن طبيعة الأرض واحدة فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعض لا بد وأن يكون بتخليق القادر الحكيم قالت الفلاسفة هذه الجبال إنما تولدت لأن البحار كانت في هذا الجانب من العالم فكانت تتولد في البحر طيناً لزجاً ثم يقوي تأثير الشمس فيها فينقلب حجراً كما يشاهد في كوز الفقاع ثم إن الماء كان يغور ويقل فيتحجر البقية فلهذا السبب تولدت هذه الجبال قالوا وإنما كانت البحار حاصلة في هذا الجانب من العالم لأن أوج الشمس وحضيضها متحركان ففي الدهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض فكان التسخين أقوى وشدة السخونة توجب انجذاب الرطوبات فحين كان الحضيض في جانب الشمال كانت البحار في جانب الشمال والآن لما انتقل الأوج إلى جانب الشمال والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبال في جانب الشمال هذا حاصل كلام القوم في هذا الباب وهو ضعيف من وجوه الأول أن حصول الطين في البحر أمر عام ووقوع الشمس عليها أمر عام فلم وصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون البعض والثاني وهو أنا نشاهد في بعض الجبال كأن تلك الأحجار موضوعة سافا فسافاً فكأن البناء لبنات كثيرة موضوع بعضها على بعض ويبعد حصول مثل هذا التركيب من السبب الذي ذكروه والثالث أن أوج الشمس الآن قريب من أول السرطان فعلى هذا من الوقت الذي انتقل أوج الشمس إلى الجانب الشمالي مضى قريب من تسعة آلاف سنة وبهذا التقدير أن الجبال في هذه المدة الطويلة كانت في التفتت فوجب أن لا يبقى من الأحجار شيء لكن ليس الأمر كذلك فعلمنا أن السبب الذي ذكروه ضعيف
والوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبال على وجود الصانع ذي الجلال ما يحصل فيها من معادن الفلزات السبعة ومواضع الجواهر النفيسة وقد يحصل فيها معادن الزاجات والأملاح وقد يحصل فيها معادن النفط والقير والكبريت فكون الأرض واحدة في الطبيعة وكون الجبل واحداً في الطبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدل دليلاً ظاهراً على أن الكل بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات والممكنات
والوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض وذلك أن الحجر جسم صلب فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه ولهذا السبب ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال قرن بها ذكر الأنهار مثل ما في هذه الآية ومثل قوله وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً ( المرسلات 27 )(19/4)
والنوع الثالث من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بعجائب خلقة النبات وإليه الإشارة بقوله وَمِن كُلّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن الحبة إذا وضعت في الأرض وأثرت فيها نداوة الأرض ربت وكبرت وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة في الهواء ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في أسفل الأرض وهذا من العجائب لأن طبيعة تلك الحبة واحدة وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد ثم إنه خرج من الجانب الأعلى من تلك الحبة جرم صاعد إلى الهواء من الجانب الأسفل منه جرم غائص في الأرض ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم والمقدر القديم لا بسبب الطبع والخاصية ثم إن الشجرة الثابتة من تلك الحبة بعضها يكون خشباً وبعضها يكون نوراً وبعضها يكون ثمرة ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع فالجوز له أربعة أنواع من القشور فالقشر الأعلى وتحته القشرة الخشبة وتحته القشرة المحيطة باللبنة وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرقة تمتاز عما فوقها حال كون الجوز رطباً وأيضاً فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطباع المختلفة فالأترج قشره حار يابس ولحمه حار رطب وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس ونوره حار يابس وكذلك العنب قشره وعجمه باردان يابسان ولحمه وماؤه حاران رطبان فتولد هذه للطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع وتأثيرات الأنجم والأفلاك لا بد وأن يكون لأجل تدبير الحكيم القادر القديم
المسألة الثانية المراد بزوجين اثنين صنفين اثنين والاختلاف إما من حيث الطعم كالحلو والحامض أو الطبيعة كالحار والبارد أو اللون كالأبيض والأسود
فإن قيل الزوجان لا بد وأن يكون اثنين فما الفائدة في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
قلنا قيل إنه تعالى أول ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط فلو قال خلق زوجين لم يعلم أن المراد النوع أو الشخص أما لما قال اثنين علمنا أن الله تعالى أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة إلا أنهم لما ابتدؤا من زوجين اثنين بالشخص هما آدم وحواء فكذلك القول في جميع الأشجار والزرع والله أعلم
النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بأحوال الليل والنهار وإليه الإشارة بقوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ والمقصود أنم الإنعام لا يكمل إلا بالليل والنهار وتعاقبهما كما قال فَمَحَوْنَا ءايَة َ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَة َ النَّهَارِ مُبْصِرَة ً ( الإسراء 12 ) ومنه قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ ( الأعراف 54 ) وقد سبق الاستقصاء في تقريره فيما سلف من هذا الكتاب قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم يُغْشِى بالتشديد وفتح الغين والباقون بالتخفيف ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
واعلم أنه تعالى في أكثر الأمر حيث يذكر الدلائل الموجودة في العالم السفلي يذكر عقبها إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أو ما يقرب منه بحسب المعنى والسبب فيه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية فما لم تقم الدلالة على دفع هذا السؤال لا يتم(19/5)
المقصود فلهذا المعنى قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ كأنه تعالى يقول مجال الفكر باق بعد ولا بد بعد هذا المقام من التفكر والتأمل ليتم الاستدلال
واعلم أن الجواب عن هذا السؤال من وجهين الأول أن نقول هب أنكم أسندتم حوادث العالم السفلي إلى الأحوال الفلكية والاتصالات الكوكبية إلا أنا أقمنا الدليل القاطع على أن اختصاص كل واحد من الأجرام الفلكية وطبعه ووضعه وخاصيته لا بد أن يكون بتخصيص المقدر القديم والمدبر الحكيم فقد سقط هذا السؤال وهذا الجواب قد قرره الله تعالى في هذا المقام لأنه تعالى ابتدأ بذكر الدلائل السماوية وقد بينا أنها كيف تدل على وجود الصانع ثم إنه تعالى أتبعها بالدلائل الأرضية
فإن قال قائل لم لا يجوز أن تكون هذه الحوادث الأرضية لأجل الأحوال الفلكية كان جوابنا أن نقول فهب أن الأمر كذلك إلا أنا دللنا فيما تقدم على افتقار الأجرام الفلكية إلى الصانع الحكيم فحينئذ لا يكون هذا السؤال قادحاً في غرضنا
والوجه الثاني من الجواب أن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث السفلية لأجل الاتصالات الفلكية وذلك هو المذكور في الآية التي تأتي بعد هذه الآية ومن تأمل في هذه اللطائف ووقف عليها علم أن هذا الكتاب اشتمل على علوم الأولين والآخرين
وَفِى الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاٍّ كُلِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية والحركات الكوكبية وتقريره من وجهين الأول أنه حصل في الأرض قطع مختلفة بالطبيعة والماهية وهي مع ذلك متجاورة فبعضها تكون سبخية وبعضها تكون رخوة وبعضها تكون صلبة وبعضها تكون منبتة وبعضها تكون حجرية أو رملية وبعضها يكون طيناً لزجاً ثم إنها متجاورة وتأثير الشمس وسائر الكواكب في تلك القطع على السوية فدل هذا على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير والثاني أن القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماء واحد فيكون تأثير الشمس فيها متساوياً ثم إن تلك الثمار تجيء مختلفة في الطعم واللون والطبيعة والخاصية حتى أنك قد تأخذ عنقوداً من العنب فيكون جميع حباته حلوة نضيجة إلا حبة واحدة فإنها بقيت حامضة يابسة ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطباع والأفلاك للكل على السوية بل نقول ههنا ما هو أعجب منه وهو أنه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون أحد وجهيه في غاية الحمرة والوجه الثاني في غاية السواد مع أن ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنعومة فيستحيل أن يقال وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني وهذا يدل دلالة(19/6)
قطعية على أن الكل بتدبير الفاعل المختار لا بسبب الاتصالات الفلكية وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى يُسْقَى بِمَاء واحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الحجة وتفسيرها وبيانها
واعلم أن بذكر هذا الجواب قد تمت الحجة فإن هذه الحوادث السفلية لا بد لها من مؤثر وبينا أن ذلك المؤثر ليس هو الكواكب والأفلاك والطبائع فعند هذا يجب القطع بأنه لا بد من فاعل آخر سوى هذه الأشياء وعندها يتم الدليل ولا يبقى بعده للفكر مقام ألبتة فلهذا السبب قال ههنا إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لأنه لا دافع لهذه الحجة إلا أن يقال إن هذه الحوادث السفلية حدثت لا لمؤثر ألبتة وذلك يقدح في كمال العقل لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث لما كان علماً ضرورياً كان عدم حصول هذا العلم قادحاً في كمال العقل فلهذا قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وقال في الآية المتقدمة إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( الزمر 42 ) ( الجاثية 13 ) فهذه اللطائف نفيسة من أسرار علم القرآن ونسأل الله العظيم أن يجعل الوقوف عليها سبباً للفوز بالرحمة والغفران
المسألة الثانية قوله وَفِى الاْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ قال أبو بكر الأصم أرض قريبة من أرض أخرى واحدة طيبة وأخرى سبخة وأخرى حرة وأخرى رملة وأخرى تكون حصباء وأخرى تكون حمراء وأخرى تكون سوداء وبالجملة فاختلاف بقاع الأرض في الارتفاع والانخفاض والطباع والخاصية أمر معلوم وفي بعض المصاحف ( قطعاً متجاورات ) والتقدير وجعل فيها رواسي وجعل في الأرض قطعاً متجاورات وأما قوله وَجَنَّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ فنقول الجنة البستان الذي يحصل فيه النخل والكرم والزرع وتحفه تلك الأشجار والدليل عليه قوله تعالى جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ( الكهف 32 ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ كلها بالرفع عطفاً على قوله ( وجنات ) والباقون بالجر عطفاً على الأعناب وقرأ حفص عن عاصم في رواية القواس ( صنوان ) بضم الصاد والباقون بكسر الصاد وهما لغتان والصنوان جمع صنو مثل قنوان وقنو ويجمع على أصناء مثل اسم وأسماء فإذا كثرت فهو الصني والصني بكسر الصاد وفتحها والصنو أن يكون الأصل واحداً وتنبت فيه النخلتان والثلاثة فأكثر فكل واحدة صنو وذكر ثعلب عن ابن الأعرابي الصنو المثل ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إن عم الرجل صنو أبيه ) أي مثله
إذا عرفت هذا فنقول إذا فسرنا الصنو بالتفسير الأول كان المعنى أن النخيل منها ما ينبت من أصل واحد شجرتان وأكثر ومنها ما لا يكون كذلك وإذا فسرناه بالتفسير الثاني كان المعنى أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة متشابهة وقد لا تكون كذلك
ثم قال تعالى تَسْقِى بِمَاء واحِدٍ قرأ عاصم وابن عامر ( يسقى ) بالياء على تقدير يسقى كله أو لتغليب المذكر على المؤنث والباقون بالتاء لقوله ( جنات ) قال أبو عمرو ومما يشهد للتأنيث قوله تعالى وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ قرأ حمزة والكسائي ( يفضل ) بالياء عطفاً على قوله يُدَبّرُ والباقون بالنون على تقدير ونحن نفضل و ( في الأكل ) قولان حكاهما الواحدي حكي عن الزجاج أن الأكل الثمر الذي يؤكل وحكى عن غيره أن الأكل المهيأ للأكل وأقول هذا أولى لقوله تعالى في صفة الجنة تَحْتِهَا الانْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 )(19/7)
وهو عام في جميع المطعومات وابن كثير ونافع يقرآن الأكل ساكنة الكاف في جميع القرآن والباقون بضم الكاف وهما لغتان
وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاٌّ غْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل القاهرة على ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ ذكر بعده مسألة المعاد فقال وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ وفيه أقوال
القول الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا قد حكموا عليك أنك من الصادقين فهذا عجب والثاني إن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم نفعاً ولا ضراً بعد ما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد فهذا عجب والثالث تقدير الكلام إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبر السموات والأرض وخالق الخلائق أجمعين وأنه هو الذي رفع السموات بغير عمد وهو الذي سخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب والغرائب فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته لأن القادر على الأقوى الأكمل فإن يكون قادراً على الأقل الأضعف أولى فهذا تقرير موضع التعجب
ثم إنه تعالى لما حكى هذا الكلام حكم عليهم بثلاثة أشياء أولها قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وهذا يدل على أن كل من أنكر البعث والقيامة فهو كافر وإنما لزم من إنكار البعث الكفر بربهم من حيث إن إنكار البعث لا يتم إلا بإنكار القدرة والعلم والصدق أما إنكار القدرة فكما إذا قيل إن إله العالم موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فلا يقدر على الإعادة أو قيل إنه وإن كان قادراً لكنه ليس تام القدرة فلا يمكنه إيجاد الحيوان إلا بواسطة الأبوين وتأثيرات الطبائع والأفلاك وأما إنكار العلم فكما إذا قيل إنه تعالى غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز هذا المطيع عن العاصي وأما إنكار الصدق فكما إذا قيل إنه وإن أخبر عنه لكنه لا يفعل لأن الكذب جائز عليه ولما كان كل هذه الأشياء كفراً ثبت أن إنكار البعث كفر بالله
الصفة الثانية قوله وَأُوْلَئِكَ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وفيه قولان الأول قال أبو بكر الأصم المراد بالأغلال كفرهم وذلتهم وانقيادهم للأصنام ونظيره قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً ( يس 8 ) قال الشاعر
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
ويقال للرجل هذا غل في عنقك للعمل الرديء معناه أنه لازم لك وأنك مجازى عليه بالعذاب قال القاضي هذا وإن كان محتملاً إلا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى وأقول يمكن نصرة قول الأصم بأن(19/8)
ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحال وذلك غير حاصل وأنتم تحملون اللفظ على أنه سيحصل هذا المعنى ونحن نحمله على أنه حاصل في الحال إلا أن المراد بالأغلال ما ذكرناه فكل واحد منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه فلم كان قولكم أولى من قولنا
والقول الثاني المراد أنه تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة والدليل عليه قوله تعالى إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ ( غافر 71 72 )
والصفة الثالثة قوله تعالى وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ والمراد منه التهديد بالعذاب المخلد المؤبد واحتج أصحابنا رحمهم الله تعالى على أن العذاب المخلد ليس إلا للكفار بهذه الآية فقالوا قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يفيد أنهم هم الموصوفون بالخلود لا غيرهم وذلك يدل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار
المسألة الثانية قال المتكلمون العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حق الله تعالى محال فكان المراد وإن تعجب فعجب عندك
ولقائل أن يقول قرأ بعضهم في الآية الأخرى بإضافة العجب إلى نفسه تعالى فحينئذ يجب تأويله وقد بينا أن أمثال هذه الألفاظ يجب تنزيهها عن مبادىء الأعراض ويجب حملها على نهايات الأعراض فإن الإنسان إذا تعجب من الشيء أنكره فكان هذا محمولاً على الإنكار
المسألة الثالثة اختلف القراء في قوله مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ وأمثاله إذا كان على صورة الاستفهام في الأول والثاني فمنهم من يجمع بين الاستفهامين في الحرفين وهم ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ثم اختلف هؤلاء فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة إلا أنه لا يمد وأبو عمرو يستفهم بهمزة مطولة يمد فيها وحمزة وعاصم بهمزتين في كل القرآن ومنهم من لا يجمع بين الاستفهامين ثم اختلفوا فنافع وابن عامر والكسائي يستفهم في الأول ويقرأ على الخبر في الثاني وابن عامر على الخبر في الأول والاستفهام في الثاني ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر فنافع بهمزة غير مطولة وابن عامر والكسائي بهمزتين أما نافع فكذلك إلا في الصافات وكذلك ابن عامر إلا في الواقعة وكذلك الكسائي إلا في العنكبوت والصافات
المسألة الرابعة قال الزجاج العامل في أَءذَا كُنَّا تُرَابًا محذوف تقديره أئذا كنا تراباً نبعث ودل ما بعده على المحذوف
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ(19/9)
اعلم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يهددهم تارة بعذاب القيامة وتارة بعذاب الدنيا والقوم كلما هددهم بعذاب القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر وهو الذي تقدم ذكره في الآية الأولى وكلما هددهم بعذاب الدنيا قالوا له فجئنا بهذا العذاب وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن فيه وإظهار أن الذي يقوله كلام لا أصل له فلهذا السبب حكى الله عنهم أنهم يستعجلون الرسول بالسيئة قبل الحسنة والمراد بالسيئة ههنا نزول العذاب عليهم كما قال الله تعالى عنهم في قوله فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً ( الأنفال 32 ) وفي قوله لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى قوله أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ( الإسراء 92 ) وإنما قالوا ذلك طعناً منهم فيما ذكره الرسول وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يعدهم على الإيمان بالثواب في الآخرة وبحصول النصر والظفر في الدنيا فالقوم طلبوا منه نزول العذاب ولم يطلبوا منه حصول النصر والظفر فهذا هو المراد بقوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ومنهم من فسر الحسنة ههنا بالإمهال والتأخير وإنما سموا العذاب سيئة لأنه يسوءهم ويؤذيهم
أما قوله وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ فاعلم أن العرب يقولون العقوبة مثلة ومثلة صدقة وصدقة فالأولى لغة الحجاز والثانية لغة تميم فمن قال مثلة فجمعه مثلات ومن قال مثلة فجمعه مثلات ومثلاث بإسكان التاء هكذا حكاه الفراء والزجاج وقال ابن الأنباري رحمه الله المثلة العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة وهو من قولهم مثل فلان بفلان إذا قبح صورته إما بقطع أذنه أو أنفه أو سمل عينيه أو بقر بطنه فهذا هو الأصل ثم يقال للعار الباقي والخزي اللازم مثلة قال الواحدي وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب ومماثلاً له لا جرم سمي بهذا الاسم قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ( المثلات ) بضمتين لاتباع الفاء العين ( والمثلات ) بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال السمرة والمثلات بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المثلات بضمتين والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات
إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية ويستعجلونك بالعذاب الذي لم نعاجلهم به وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية فلم يعتبروا بها وكان ينبغي أن يردعهم خوف ذلك عن الكفر اعتباراً بحال من سلف
أما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ فاعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة ووجه الاستدلال به أن قوله تعالى لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ أي حال اشتغالهم بالظلم كما أنه يقال رأيت الأمير على أكله أي حال اشتغاله بالأكل فهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم ومعلوم أن حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً فدل هذا على أنه تعالى قد يغفر الذنب قبل الاشتغال بالتوبة ثم نقول ترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر فوجب أن يبقى معمولاً به في حق أهل الكبيرة وهو المطلوب أو نقول إنه تعالى لم يقتصر على قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ بل ذكر معه قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر وأن يحمل الثاني على أحوال الكفار(19/10)
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد لذو مغفرة لأهل الصغائر لأجل أن عقوبتهم مكفرة ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد إن ربك لذو مغفرة إذا تابوا وأنه تعالى إنما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتوبة فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ويكون من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة بل نقول يجب حمل اللفظ عليه لأن القوم لما طلبوا تعجيل العقاب فالجواب المذكور فيه يجب أن يكون محمولاً على تأخير العقاب حتى ينطبق الجواب على السؤال ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد وإن ربك لذو مغفرة أنه تعالى إنما لا يعجل العقوبة إمهالاً لهم في الإتيان بالتوبة فإن تابوا فهو ذو مغفرة وإن عظم ظلمهم ولم يتوبوا فهو شديد العقاب
والجواب عن الأول أن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة وإلا لوجب أن يقال الكفار كلهم مغفور لهم لأجل أن الله تعالى أخر عقابهم إلى الآخرة وعن الثاني أنه تعالى تمدح بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل أما بأداء الواجب فلا تمدح فيه وعندكم يجب غفران الصغائر وعن الثالث أنا بينا أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة حال الظلم وبينا أن حال حصول الظلم يمنع حصول التوبة فسقطت هذه الأسئلة وصح ما ذكرناه
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَة ٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في الحشر والنشر أولاً ثم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانياً ثم طعنوا في نبوته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة ثالثاً وهو المذكور في هذه الآية
واعلم أن السبب فيه أنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات وقالوا هذا كتاب مثل سائر الكتب وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزة ألبتة وإنما المعجز ما يكون مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام
واعلم أن من الناس من زعم أنه لم يظهر معجز في صدق محمد عليه الصلاة والسلام سوى القرآن قالوا إن هذا الكلام إنما يصح إذا طعنوا في كون القرآن معجزاً مع أنه ما ظهر عليه نوع آخر من المعجزات لأن بتقدير أن يكون قد ظهر على يده نوع آخر من المعجزات لامتنع أن يقولوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ فهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان له معجز سوى القرآن
واعلم أن الجواب عنه من وجهين الأول لعل المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوا منه ( صلى الله عليه وسلم ) كحنين الجذع ونبوع الماء من بين أصابعه وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل فطلبوا منه معجزات قاهرة غير هذه الأمور مثل فلق البحر بالعصا وقلب العصا ثعباناً
فإن قيل فما السبب في أن الله تعالى منعهم وما أعطاهم
قلنا إنه لما أظهر المعجزة الواحدة فقد تم الغرض فيكون طلب الباقي تحكماً وظهور القرآن معجزة(19/11)
فما كان مع ذلك حاجة إلى سائر المعجزات وأيضاً فلعله تعالى علم أنهم يصرون على العناد بعد ظهور تلك المعجزات الملتمسة وكانوا يصيرون حينئذ مستوجبين لعذاب الاستئصال فلهذا السبب ما أعطاهم الله تعالى مطلوبهم وقد بين الله تعالى ذلك بقوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( الأنفال 23 ) بين أنه لم يعطهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنهم لا ينتفعون به وأيضاً ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له وهو أنه كلما أتى بمعجزة جاء واحد آخر فطلب منه معجزة أخرى وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم السلام وأنه باطل
الوجه الثاني وفي الجواب لعل الكفار ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات ثم إنه تعالى لما حكى عن الكفار ذلك قال إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اتفق القراء على التنوين في قوله هَادٍ وحذف الياء في الوصل واختلفوا في الوقف فقرأ ابن كثير بالوقف على الياء والباقون بغير الياء وهو رواية ابن فليح عن ابن كثير للتخفيف
المسألة الثانية في تفسير هذه الآية وجوه الأول المراد أن الرسول عليه السلام منذر لقومه مبين لهم ولكل قوم من قبله هاد ومنذر وداع وأنه تعالى سوى بين الكل في إظهار المعجزة إلا أنه كان لكل قوم طريق مخصوص لأجله استحق التخصيص بتلك المعجزة المخصوصة فلما كان الغالب في زمان موسى عليه السلام هو السحر جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم ولما كان الغالب في أيام عيسى عليه السلام الطب جعل معجزته ما كان من جنس تلك الطريقة وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ولما كان الغالب في أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الفصاحة والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان وهو فصاحة القرآن فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أليق بطباعهم فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى فهذا هو الذي قرره القاضي وهو الوجه الصحيح الذي يبقى الكلام معه منتظماً
والوجه الثاني وهو أن المعنى أنهم لا يجحدون كون القرآن معجزاً فلا يضيق قلبك بسببه إنما أنت منذر فما عليك إلا أن تنذر إلى أن يحصل الإيمان في صدورهم ولست بقادر عليهم ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالتخليق وهو الله سبحانه وتعالى فيكون المعنى ليس لك إلا الإنذار وأما الهداية فمن الله تعالى
واعلم أن أهل الظاهر من المفسرين ذكروا ههنا أقوالاً الأول المنذر والهادي شيء واحد والتقدير إنما أنت منذر ولكل قوم منذر على حدة ومعجزة كل واحد منهم غير معجزة الآخر الثاني المنذر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والهادي هو الله تعالى روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والثالث المنذر النبي والهادي علي قال ابن عباس رضي الله عنهما وضع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يده على صدره فقال ( أنا المنذر ) ثم أومأ إلى منكب علي رضي الله عنه وقال ( أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي )
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاٌّ رْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَى ْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ(19/12)
في الآية مسائل
المسألة الأولى في وجه النظم وجوه الأول أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم طلبوا آيات أخرى غير ما أتى به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بين أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فيعلم من حالهم أنهم هل طلبوا الآية الأخرى للاسترشاد وطلب البيان أو لأجل التعنت والعناد وهل ينتفعون بظهور تلك الآيات أو يزداد إصرارهم واستكبارهم فلو علم تعالى أنهم طلبوا ذلك لأجل الاسترشاد وطلب البيان ومزيد الفائدة لأظهره الله تعالى وما منعهم عنه لكنه تعالى لما علم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لأجل محض العناد لا جرم أنه تعالى منعهم عن ذلك وهو كقوله تعالى وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ ( يونس 20 ) وقوله قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ( العنكبوت 50 ) والثاني أن وجه النظم أنه تعالى لما قال وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ( الرعد 5 ) في إنكار البعث وذلك لأنهم أنكروا البعث بسبب أن أجزاء أبدان الحيوانات عند تفرقها وتفتتها يختلط بعضها ببعض ولا يبقى الامتياز فبين تعالى أنه إنما لا يبقى الامتياز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات أما في حق من كان عالماً بجميع المعلومات فإنه يبقى تلك الأجزاء بحيث يمتاز بعضها عن البعض ثم احتج على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات بأنه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام الثالث أن هذا متصل بقوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ( الرعد 6 ) والمعنى أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه فيه مصلحة والله أعلم
المسألة الثانية لفظ ( ما ) في قوله مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ إما أن تكون موصولة وإما أن تكون مصدرية فإن كانت موصولة فالمعنى أنه يعلم ما تحمله من الولد أنه من أي الأقسام أهو ذكر أم أنثى وتام أو ناقص وحسن أو قبيح وطويل أو قصير وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة فيه
ثم قال وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ والغيض هو النقصان سواء كان لازماً أو متعدياً يقال غاض الماء وغضته أنا ومنه قوله تعالى وَغِيضَ الْمَاء ( هود 44 ) والمراد من الآية وما تغيضه الأرحام إلا أنه حذف الضمير الراجع وقوله وَمَا تَزْدَادُ أي تأخذه زيادة تقول أخذت منه حقي وازددت منه كذا ومنه قوله تعالى وَازْدَادُواْ تِسْعًا ( الكهف 25 ) ثم اختلفوا فيما تغيضه الرحم وتزداده على وجوه الأول عدد الولد فإن الرحم قد يشتمل على واحد واثنين وعلى ثلاثة وأربعة يروي أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه الثاني الولد قد يكون مخدجاً وقد يكون تاماً الثالث مدة ولادته قد تكون تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإلى أربعة عند الشافعي وإلى خمس عند مالك وقيل إن الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً الرابع الدم فإنه تارة يقل وتارة يكثر الخامس ما ينقص بالسقط من غير أن يتم وما يزداد بالتمام السادس ما ينقص بظهور دم الحيض وذلك لأنه إذا سال الدم في وقت الحمل ضعف الولد ونقص وبمقدار حصول ذلك النقصان يزداد أيام الحمل لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النقصان قال ابن عباس رضي الله عنهما كلما سال الحيض في وقت(19/13)
الحمل يوماً زاد في مدة الحمل يوماً ليحصل به الجبر ويعتدل الأمر السابع أن دم الحيض فضلة تجتمع في بطن المرأة فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات فاضت وخرجت وسالت من دواخل تلك العروق ثم إذا سالت تلك المواد امتلأت تلك العروق مرة أخرى هذا كله إذا قلنا إن كلمة ( ما ) موصولة أما إذا قلنا إنها مصدرية فالمعنى أنه تعالى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا من أوقاته وأحواله
وأما قوله تعالى وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ فمعناه بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) وقوله في أول الفرقان وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( الفرقان 2 )
واعلم أن قوله كُلّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ يحتمل أن يكون المراد من العندية العلم ومعناه أنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات ويحتمل أن يكون المراد من العندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية وعند حكماء الإسلام أنه تعالى وضع أشياء كلية وأودع فيها قوى وخواص وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات مخصوصة مقدرة ويدخل في هذه الآية أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم وهو من أدل الدلائل على بطلان قول المعتزلة
ثم قال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد علم ما غاب عن خلقه وما شهدوه قال الواحدي فعلى هذا ( الغيب ) مصدر يريد به الغائب ( والشهادة ) أراد بها الشاهد واختلفوا في المراد بالغائب والشاهد قال بعضهم الغائب هو المعلوم والشاهد هو الموجود وقال آخرون الغائب ما غاب عن الحس والشاهد ما حضر وقال آخرون الغائب ما لا يعرفه الخلق والشاهد ما يعرفه الخلق ونقول المعلومات قسمان المعلومات والموجودات والمعدومات منها معدومات يمتنع وجودها ومنها معدومات لا يمتنع وجودها والموجودات أيضاً قسمان موجودات يمتنع عدمها وموجودات لا يمتنع عدمها وكل واحد من هذه الأقسام الأربعة له أحكام وخواص والكل معلوم لله تعالى وحكى الشيخ الإمام الوالد عن أبي القاسم الأنصاري عن إمام الحرمين رحمهم الله تعالى أنه كان يقول لله تعالى معلومات لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل وموصوفاً بصفات لا نهاية لها على البدل وهو تعالى عالم بكل الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخل تحت قوله تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ
ثم إنه تعالى ذكر عقيبه قوله الْكَبِيرُ وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثة والحجم والمقدار فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة والمقادير الإلهية ثم وصف تعالى نفسه بأنه المتعال وهو المتنزه عن كل ما لا يجوز عليه وذلك يدل على كونه منزهاً في ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الآية دالة على كونه تعالى موصوفاً بالعلم الكامل والقدرة التامة ومنزهاً عن كل ما لا ينبغي وذلك يدل على كونه تعالى قادراً على البعث الذي أنكروه وعلى الآيات التي اقترحوها وعلى العذاب الذي استعجلوه وأنه إنما يؤخر ذلك بحسب المشيئة الإلهية عند قوم وبحسب المصلحة عند آخرين وقرأ ابن كثير ( المتعالي ) بإثبات الياء في(19/14)
الوقف والوصل على الأصل والباقون بحذف الياء في الحالتين للتخفيف ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( سواء ) يطلب اثنين تقول سواء زيد وعمرو ثم فيه وجهان الأول أن سواء مصدر والمعنى ذو سواء كما تقول عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل الثاني أن يكون سواء بمعنى مستو وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى الإضمار إلا أن سيبويه يستقبح أن يقول مستو زيد وعمرو لأن أسماء الفاعلين إذا كانت نكرات لا يبدأ بها
ولقائل أن يقول بل هذا الوجه أولى لأن حمل الكلام عليه يغني عن التزام الإضمار الذي هو خلاف الأصل
المسألة الثانية في المستخفي والسارب قولان
القول الأول يقال أخفيت الشيء أخفيه إخفاء فخفي واستخفى فلان من فلان أي توارى واستتر وقوله وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ قال الفراء والزجاج ظاهر بالنهار في سربه أي طريقه يقال خلا له سربه أي طريقه وقال الأزهري تقول العرب سربت الإبل تسرب سرباً أي مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت فإذا عرفت ذلك فمعنى الآية سواء كان الإنسان مستخفياً في الظلمات أو كان ظاهراً في الطرقات فعلم الله تعالى محيط بالكل قال ابن عباس رضي الله عنهما سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة وقال مجاهد سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي
والقول الثاني نقله الواحدي عن الأخفش وقطرب أنه قال المستخفي الظاهر والسارب المتواري ومنه يقال خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته واختفيت الشيء استخرجته ويسمى النباش المستخفي والسارب المتواري ومنه يقال للداخل سرباً والسرب الوحش إذا دخل في السرب أي في كناسة قال الواحدي وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أن الاختيار هو الوجه الأول لاطباق أكثر المفسرين عليه وأيضاً فالليل يدل على الاستتار والنهار على الظهور والانتشار
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُو ءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ
اعلم أن الضمير من ( له ) إلى ( من ) في قوله سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ( الرعد 10 ) وقيل على اسم الله في عالم الغيب والشهادة والمعنى لله معقبات وأما المعقبات فيجوز أن يكون أصل هذه الكلمة معتقبات فأدغمت التاء في القاف كقوله وَجَاء الْمُعَذّرُونَ مِنَ الاْعْرَابِ ( التوبة 90 ) والمراد المعتذرون ويجوز أن يكون من عقبه إذا جاء على عقبه فاسم المعقب من كل شيء ما خلف يعقب ما قبله(19/15)
والمعنى في كلا الوجهين واحد
إذا عرفت هذا فنقول في المراد بالمعقبات قولان الأول وهو المشهور الذي عليه الجمهور أن المراد منه الملائكة الحفظة وإنما صح وصفهم بالمعقبات إما لأجل أن ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار وبالعكس وإما لأجل أنهم يتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والكتب وكل من عمل عملاً ثم عاد إليه فقد عقب فعلى هذا المراد من المعقبات ملائكة الليل وملائكة النهار روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك فقال عليه السلام ( ملك عن يمينك يكتب الحسنات وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشراً وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين أكتب فيقول لا لعله يتوب فإذا قال ثلاثاً قال نعم أكتب أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله تعالى واستحياءه منا وملكان من بين يديك ومن خلفك فهو قوله تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لربك رفعك وإن تجبرت قصمك وملكان على شفتك يحفظان عليك الصلاة علي وملك علي فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي تبدل ملائكة الليل بملائكة النهار فهم عشرون ملكاً على كل آدمي ) وعن ( صلى الله عليه وسلم ) ( يتعاقب فيكم ملاكئة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ) وهو المراد من قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ ( الإسراء 78 ) قيل تصعد ملائكة الليل وهي عشرة وتنزل ملائكة النهار وقال ابن جريج هو مثل قوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ ( ق 17 ) صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات وقال مجاهد ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته وفي الآية سؤالات
السؤال الأول الملائكة ذكور فلم ذكر في جمعها جمع الإناث وهو المعقبات
والجواب فيه قولان الأول قال الفراء المعقبات ذكران جمع ملائكة معقبة ثم جمعت معقبة بمعقبات كما قيل ابناوات سعد ورجالات بكر جمع رجال والذي يدل على التذكير قوله يَحْفَظُونَهُ والثاني وهو قول الأخفش إنما أنثت لكثرة ذلك منها نحو نسابة وعلامة وهو ذكر
السؤال الثاني ما المراد من كون أولئك المعقبات من بين يديه ومن خلفه
والجواب أن المستخفي بالليل والسارب بالنهار قد أحاط به هؤلاء المعقبات فيعدون عليه أعماله وأقواله بتمامها ولا يشذ من تلك الأعمال والأقوال من حفظهم شيء أصلاً وقال بعضهم بل المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه لأن السارب بالنهار إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من بين يديه ومن خلفه
السؤال الثالث ما المراد من قوله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
والجواب ذكر الفراء فيه قولين
القول الأول أنه على التقديم والتأخير والتقدير له معقبات من أمر الله يحفظونه
القول الثاني أن فيه إضماراً أي ذلك الحفظ من أمر الله أي مما أمر الله به فحذف الاسم وأبقى خبره(19/16)
كما يكتب على الكيس ألفان والمراد الذي فيه ألفان
والقول الثالث ذكره ابن الأنباري أن كلمة ( من ) معناها الباء والتقدير يحفظونه بأمر الله وباعانته والدليل على أنه لا بد من المصير إليه أنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحداً من أمر الله ومما قضاه عليه
السؤال الرابع ما الفائدة في جعل هؤلاء الملائكة موكلين علينا
والجواب أن هذا الكلام غير مستبعد وذلك لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا القول في كل ليلة ولا شك أن تلك الكواكب لها أرواح عندهم فتلك التدبيرات المختلفة في الحقيقة لتلك الأرواح وكذا القول في تدبير القمر والهيلاج والكدخدا على ما يقوله المنجمون وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور في ألسنتهم ولذلك تراهم يقولون أخبرني الطباعي التام ومرادهم بالطباعي التام أن لكل إنسان روحاً فلكية يتولى إصلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته وإذا كان هذا متفقاً عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئه من الشرع وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها معزة وبعضها مذلة وبعضها قوية القهر والسلطان وبعضها ضعيفة سخيفة وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك فكذا القول في الأرواح الفلكية ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وكل صفة أقوى من الأرواح البشرية وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة لما أنها تكون في تربية روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية وتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروح الفلكي ومتى كان الأمر كذلك كان ذلك الروح الفلكي معيناً لها على مهماتها ومرشداً لها إلى مصالحها وعاصماً لها عن صنوف الآفات فهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن الذي وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل فكيف يمكن استنكاره من الشريعة ثم في اختصاص هؤلاء الملائكة وتسلطهم على بني آدم فوائد كثيرة سوى التي مر ذكرها من قبل الأول أن الشياطين يدعون إلى الشرور والمعاصي وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات والثاني قال مجاهد ما من عبد إلا ومعه ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته الثالث أنا نرى أن الإنسان قد يقع في قلبه داع قوي من غير سبب ثم يظهر بالآخرة أن وقوع تلك الداعية في قلبه كان سبباً من أسباب مصالحه وخيراته وقد ينكشف أيضاً بالآخرة أنه كان سبباً لوقوعه في آفة أو في معصية فيظهر أن الداعي إلى الأمر الأول كان مريداً للخير والراحة وإلى الأمر الثاني كان مريداً للفساد والمحنة والأول هو الملك الهادي والثاني هو الشيطان المغوي الرابع أن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب لأن من آمن يعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها كما يزجره عنها إذا حضره من يعطيه من البشر وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال كان ذلك أيضاً رادعاً له عنها وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل
السؤال الخامس ما الفائدة في كتبة أعمال العباد قلنا ههنا مقامات
المقام الأول أن تفسير الكتبة بالمعنى المشهور من الكتبة قال المتكلمون الفائدة في تلك(19/17)
الصحف وزنها ليعرف رجحان إحدى الكفتين على الأخرى فإنه إذا رجحت كفة الطاعات ظهر للخلائق أنه من أهل الجنة وإن كان بالضد فبالضد قال القاضي هذا بعيد لأن الأدلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الأشقياء فلا يتوقف حصول تلك المعرفة على الميزان ثم أجاب القاضي عن هذا الكلام وقال لا يمتنع أيضاً ما روينا لأمر يرجع إلى حصول سروره عند الخلق العظيم أنه من أولياء الله في الجنة وبالضد من ذلك في أعداء الله
والمقام الثاني وهو قول حكماء الإسلام أن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني لأعيانها وذواتها كانت تلك الكتبة أقوى وأكمل
إذا ثبت هذا فنقول إن الإنسان إذا أتى بعمل من الأعمال مرات وكرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب تكررها ملكة قوية راسخة فإن كانت تلك الملكة ملكة سارة بالأعمال النافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بها بعد الموت وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الأحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد الموت
إذا ثبت هذا فنقول إن التكرير الكثير لما كان سبباً لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من الأعمال المتكررة أثر في حصول تلك الملكة الراسخة وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو آثار الشقاوة قل أو كثر فهذا هو المراد من كتبة الأعمال عند هؤلاء والله أعلم بحقائق الأمور وهذا كله إذا فسرنا قوله تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بالملائكة
القول الثاني وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما واختاره أبو مسلم الأصفهاني المراد أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر والمستخفي بظلمة الليل والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين والأنصار وهم الملوك والأمراء فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره ومن سار نهاراً بالمعقبات وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه أحراسه من الله تعالى والمعقب العون لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلا بد أن يبصر ذاك هذا فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخرة فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره وهم إن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتة والمقصود من هذا الكلام بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره عن حفظ الله وعصمته ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار ولذلك قال تعالى بعده وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ فكلام جميع المفسرين يدل على أن المراد لا يغير ما هم فيه من النعم بإنزال الانتقام إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد قال القاضي والظاهر لا يحتمل إلا هذا المعنى لأنه لا شيء مما يفعله تعالى سوى العقاب لا وقد يبتدىء به في الدنيا من دون تغيير يصدر من العبد فيما تقدم لأنه تعالى ابتدأ بالنعم دينا ودنياً ويفضل في ذلك من شاء على من يشاء فالمراد مما ذكره الله تعالى التغيير بالهلاك والعقاب ثم اختلفوا فبعضهم قال هذا الكلام راجع إلى قوله(19/18)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ( الرعد 6 ) فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعصية حتى قالوا إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في عقبه من يؤمن فإنه تعالى لا ينزل عليهم عذاب الاستئصال وقال بعضهم بل الكلام يجري على إطلاقه والمراد منه أن كل قوم بالغوا في الفساد وغيروا طريقتهم في إظهار عبودية الله تعالى فإن الله يزيل عنهم النعم وينزل عليهم أنواعاً من العذاب وقال بعضهم إن المؤمن الذي يكون مختلطاً بأولئك الأقوام فربما دخل في ذلك العذاب روي عن أبي بكر رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب ) واحتج أبو علي الجبائي والقاضي بهذه الآية في مسألتين
المسألة الأولى أنه تعالى لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله حالهم من النعمة إلى العذاب
المسألة الثانية قالوا الآية تدل على بطلان قول المجبرة إنه تعالى يبتدىء العبد بالضلال والخذلان أول ما يبلغ وذلك أعظم من العقاب مع أنه ما كان منه تغيير
والجواب أن ظاهر هذه الآية يدل على أن فعل الله في التغيير مؤخر عن فعل العبد إلا أن قوله تعالى وَمَا يَشَآءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الإنسان 30 ) يدل على أن فعل العبد مؤخر عن فعل الله تعالى فوقع التعارض
وأما قوله وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ فقد احتج أصحابنا به على أن العبد غير مستقل في الفعل قالوا وذلك لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى يحكم بكونه مستحقاً للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان لكان قادراً على رد ما أراده الله تعالى وحينئذ يبطل قوله وَإِذَا اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ فثبت أن الآية السابقة وإن أشعرت بمذهبهم إلا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على مذهبنا قال الضحاك عن ابن عباس لم تغن المعقبات شيئاً وقال عطاء عنه لا راد لعذابي ولا ناقض لحكمي وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ أي ليس لهم من دون الله من يتولاهم ويمنع قضاء الله عنهم والمعنى ما لهم والٍ يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم
هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِى ءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ
اعلم أنه تعالى لما خوف العباد بإنزال ما لا مرد له أتبعه بذكر هذه الآيات وهي مشتملة على أمور ثلاثة وذلك لأنها دلائل على قدرة الله تعالى وحكمته وأنها تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه وتشبه العذاب والقهر من بعض الوجوه(19/19)
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أموراً أربعة الأول البرق وهو قوله تعالى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) في انتصاب قوله خَوْفًا وَطَمَعًا وجوه الأول لا يصح أن يكونا مفعولاً لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع أو على معنى إخافة وإطماعاً الثاني يجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير ذا خوف وذا طمع أو على معنى إيخافاً وإطماعاً الثالث أن يكونا حالاً من المخاطبين أي خائفين وطامعين
المسألة الثانية في كون البرق خوفاً وطمعاً وجوه الأول أن عند لمعان البرق يخاف وقوع الصواعق ويطمع في نزول الغيث قال المتنبي فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى
يرجى الحيا منها ويخشى الصواعق
الثاني أنه يخاف المطر من له فيه ضرر كالمسافر وكمن في جرابه التمر والزبيب ويطمع فيه من له فيه نفع الثالث أن كل شيء يحصل في الدنيا فهو خير بالنسبة إلى قوم وشر بالنسبة إلى آخرين فكذلك المطر خير في حق من يحتاج إليه في أوانه وشر في حق من يضره ذلك إما بحسب المكان أو بحسب الزمان
المسألة الثالثة اعلم أن حدوث البرق دليل عجيب على قدرة الله تعالى وبيانه أن السحاب لا شك أنه جسم مركب في أجزاء رطبة مائية ومن أجزاء هوائية ونارية ولا شك أن الغالب عليه الأجزاء المائية والماء جسم بارد رطب والنار جسم يابس وظهور الضد من الضد التام على خلاف العقل فلا بد من صانع مختار يظهر الضد من الضد
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن الريح احتقن في داخل جرم السحاب واستولى البرد على ظاهره فانجمد السطح الظاهر منه ثم إن ذلك الريح يمزقه تمزيقاً عنيفاً فيتولد من ذلك التمزيق الشديد حركة عنيفة والحركة العنيفة موجبة للسخونة وهي البرق
والجواب أن كل ما ذكرتموه على خلاف المعقول وبيانه من وجوه الأول أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال أينما يحصل البرق فلا بد وأن يحصل الرعد وهو الصوت الحادث من تمزق السحاب ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك فإنه كثيراً ما يحدث البرق القوي من غير حدوث الرعد الثاني أن السخونة الحاصلة بسبب قوة الحركة مقابلة للطبيعة المائية الموجبة للبرد وعند حصول هذا العارض القوي كيف تحدث النارية بل نقول النيران العظيمة تنطفىء بصب الماء عليها والسحاب كله ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية الثالث من مذهبكم أن النار الصرفة لا لون لها البتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوة المحاكة الحاصلة بأجزاء السحاب لكن من أين حدث ذلك اللون الأحمر فثبت أن السبب الذي ذكروه ضعيف وأن حدوث النار الحاصلة في جرم السحاب مع كونه ماء خالصاً لا يمكن إلا بقدرة القادر الحكيم
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ قال صاحب(19/20)
( الكشاف ) السحاب اسم جنس والواحدة سحابة والثقال جمع ثقيلة لأنك تقول سحابة ثقيلة وسحاب ثقال كما تقول امرأة كريمة ونساء كرام وهي الثقال بالماء
واعلم أن هذا أيضاً من دلائل القدرة والحكمة وذلك لأن هذه الأجزاء المائية إما أن يقال إنها حدثت في جو الهواء أو يقال إنها تصاعدت من وجه الأرض فإن كان الأول وجب أن يكون حدوثها باحداث محدث حكيم قادر وهو المطلوب وإن كان الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض فلما وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت فرجعت إلى الأرض فنقول هذا باطل وذلك لأن الأمطار مختلفة فتارة تكون القطرات كبيرة وتارة تكون صغيرة وتارة تكون متقاربة وأخرى تكون متباعدة وتارة تدوم مدة نزول المطر زماناً طويلاً وتارة قليلاً فاختلاف الأمطار في هذه الصفات مع أن طبيعة الأرض واحدة وطبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة لا بد وأن يكون بتخصيص الفاعل المختار وأيضاً فالتجربة دلت على أن للدعاء والتضرع في نزول الغيث أثراً عظيماً ولذلك كانت صلاة الاستسقاء مشروعة فعلمنا أن المؤثر فيه هو قدرة الفاعل لا الطبيعة والخاصية
النوع الثالث من الدلائل المذكورة في هذه الآية الرعد وهو قوله وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ وفيه أقوال
القول الأول إن الرعد اسم ملك من الملائكة وهذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك بالتسبيح والتهليل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرعد ما هو فقال ( ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ) قالوا فما الصوت الذي نسمع قال ( زجره السحاب ) وعن الحسن أنه خلق من خلق الله ليس بملك فعلى هذا القول الرعد هو الملك الموكل بالسحاب وصوته تسبيح لله تعالى وذلك الصوت أيضاً يسمى بالرعد ويؤكد هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا سمع الرعد قال سبحان الذي سبحت له وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله ينشىء السحاب الثقال فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق )
واعلم أن هذا القول غير مستبعد وذلك لأن عند أهل السنة البنية ليست شرطاً لحصول الحياة فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة والعلم والقدرة والنطق في أجزاء السحاب فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له وكيف يستبعد ذلك ونحن نرى أن السمندل يتولد في النار والضفادع تتولد في الماء البارد والدودة العظيمة ربما تتولد في الثلوج القديمة وأيضاً فإذا لم يبعد تسبيح الجبال في زمن داود عليه السلام ولا تسبيح الحصى في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( فكيف يستبعد تسبيح السحاب ) وعلى هذاالقول فهذا الشيء المسمى بالرعد ملك أو ليس بملك فيه قولان أحدهما أنه ليس بملك لأنه عطف عليه الملائكة فقال وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ والمعطوف عليه مغاير للمعطوف والثاني وهو أنه لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة وإنما إفراده بالذكر على سبيل التشريف كما في قوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ( البقرة 98 ) وفي قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ مِنْ نُوحٌ ( الأحزاب 70 )
القول الثاني أن الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص ومع ذلك فإن الرعد يسبح الله سبحانه لأن التسبيح والتقديس وما يجري مجراهما ليس إلا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه(19/21)
وتعالى فلما كان حدوث هذا الصوت دليلاً على وجود موجود متعال عن النقص والإمكان كان ذلك في الحقيقة تسبيحاً وهو معنى قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 )
القول الثالث أن المراد من كون الرعد مسبحاً أن من يسمع الرعد فإنه يسبح الله تعالى فلهذا المعنى أضيف هذا التسبيح إليه
القول الرابع من كلمات الصوفية الرعد صعقات الملائكة والبرق زفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم
فإن قيل وما حقيقة الرعد
قلنا استقصينا القول في سورة ( البقرة ) في قوله فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ( البقرة 19 )
أما قوله وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ فاعلم أن من المفسرين من يقول عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد فإنه سبحانه جعل له أعواناً ومعنى قوله وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ أي وتسبح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته قال ابن عباس رضي الله عنهما إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم فإن أحدهم لا يعرف من على يمينه ومن على يساره ولا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء
واعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون عن الحكماء فكيف يليق بالعاقل الإنكار
النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء واعلم أنا قد ذكرنا معنى الصواعق في سورة البقرة قال المفسرون نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة أتيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخاصمانه ويجادلانه ويريدان الفتك به فقال أربد بن ربيعة أخو لبيد بن ربيعة أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من(19/22)
حديد ثم إنه لما رجع أربد أرسل عليه صاعقة فأحرقته ورمى عامراً بغدة كغدة البعير ومات في بيت سلولية
واعلم أن أمر الصاعقة عجيب جداً وذلك لأنها تارة تتولد من السحاب وإذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان في لجة البحر والحكماء بالغوا في وصف قوتها ووجه الاستدلال أن النار حارة يابسة وطبيعتها ضد طبيعة السحاب فوجب أن تكون طبيعتها في الحرارة واليبوسة أضعف من طبيعة النيران الحادثة عندنا على العادة لكنه ليس الأمر كذلك فإنها أقوى نيران هذا العالم فثبت أن اختصاصها بمزيد تلك القوة لا بد وأن يكون بسبب تخصيص الفاعل المختار
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل الأربعة قال وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ والمراد أنه تعالى بين دلائل كمال علمه في قوله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ( الرعد 8 ) وبين دلائل كمال القدرة في هذه الآيات
ثم قال وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ يعني هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله وهو يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون المراد الرد على الكافر الذي قال أخبرنا عن ربنا أمن نحاس أم من حديد وثانيها أن يكون المراد الرد على جدالهم في إنكار البعث وإبطال الحشر والنشر وثالثها أن يكون المراد الرد عليهم في طلب سائر المعجزات ورابعها أن يكون المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال وفي هذه الواو قولان الأول أنه للحال والمعنى فيصيب بالصاعقة من يشاء في حال جداله في الله وذلك أن أربد لما جادل في الله أحرقته الصاعقة والثاني أنها واو الاستئناف كأنه تعالى لما تمم ذكر هذه الدلائل قال بعد ذلك وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ
ثم قال تعالى وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ وفي لفظ المحال أقوال قال ابن قتيبة الميم زائدة وهو من الحول ونحوه ميم مكان وقال الأزهري هذا غلط فإن الكلمة إذا كانت على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية نحو مهاد ومداس ومداد واختلفوا مم أخذ على وجوه الأول قيل من قولهم محل فلان بفلان إذا سعى به إلى السلطان وعرضه للهلاك وتمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه فكان المعنى أنه سبحانه شديد المكر لأعدائه يهلكهم بطريق لا يتوقعونه الثاني أن المحال عبارة عن الشدة ومنه تسمى السنة الصعبة سنة المحل وما حلت فلاناً محالاً أي قاومته أينا أشد قال أبو مسلم ومحال فعال من المحل وهو الشدة ولفظ فعال يقع على المجازاة والمقابلة فكأن المعنى أنه تعالى شديد المغالبة وللمفسرين ههنا عبارات فقال مجاهد وقتادة شديد القوة وقال أبو عبيدة شديد العقوبة وقال الحسن شديد النقمة وقال ابن عباس شديد الحول الثالث قال ابن عرفة يقال ماحل عن أمره أي جادل فقوله شَدِيدُ الْمِحَالِ أي شديد الجدال الرابع روي عن بعضهم شَدِيدُ الْمِحَالِ أي شديد الحقد قالوا هذا لا يصح لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى إلا أنا قد ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه الألفاظ إذا وردت في حق الله تعالى فإنها تحصل على نهايات الأعراض لا على مبادىء الأعراض فالمراد بالحقد ههنا هو أنه تعالى يريد إيصال الشر إليه مع أنه يخفي عنه تلك الإرادة
لَهُ دَعْوَة ُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَى ْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ
اعلم أن قوله لَهُ دَعْوَة ُ الْحَقّ أي لله دعوة الحق وفيه بحثان
البحث الأول في أقوال المفسرين وهي أمور أحدها ما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال دَعْوَة ُ الْحَقّ قول لا إله إلا الله وثانيها قول الحسن إن الله هو الحق فدعاؤه هو الحق كأنه يومىء إلى أن الانقطاع إليه في الدعاء هو الحق وثالثها أن عبادته هي الحق والصدق
واعلم أن الحق هو الموجود والموجود قسمان قسم يقبل العدم وهو حق يمكن أن يصير باطلاً وقسم لا يقبل العدم فلا يمكن أن يصير باطلاً وذلك هو الحق الحقيقي وإذا كان واجب الوجود لذاته موجوداً لا يقبل العدم كان أحق الموجودات بأن يكون حقاً هو هو وكان أحق الاعتقادات وأحق الأذكار بأن يكون حقاً هو(19/23)
اعتقاد ثبوته وذكر وجوده فثبت بهذا أن وجوده هو الحق في الموجودات واعتقاد وجوده هو الحق في الاعتقادات وذكره بالثناء والإلهية والكمال هو الحق في الأذكار فلهذا قال لَهُ دَعْوَة ُ الْحَقّ
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) دَعْوَة ُ الْحَقّ فيه وجهان أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف إليه الكلمة في قوله كَلِمَة َ الْحَقّ والمقصود منه الدلالة على كون هذه الدعوة مختصة بكونها حقة وكونها خالية عن أمارات كونه باطلاً وهذا من باب إضافة الشيء إلى صفته والثاني أن تضاف إلى الحق الذي هو الله سبحانه على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب وعن الحسن الحق هو الله وكل دعاء إليه فهو دعوة الحق
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ يعني الآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَى ْء مما يطلبونه إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه فكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم وقيل شبهوا في قلة فائد دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطها ناشراً أصابعه ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء ولم يبلغ مطلوبه من شربه وقرىء تَدْعُونَ بالتاء كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ بالتنوين ثم قال وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَى فِى ضَلَالٍ أي إلا في ضياع لا منفعة فيه لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم
وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالاٌّ صَالِ
اعلم أن في المراد بهذا السجود قولين
القول الأول أن المراد منه السجود بمعنى وضع الجبهة على الأرض وعلى هذا الوجه ففيه وجهان أحدهما أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص وهم المؤمنون فبعض المؤمنين يسجدون لله طوعاً بسهولة ونشاط ومن المسلمين من يسجد لله كرهاً لصعوبة ذلك عليه مع أنه يحمل نفسه على أداء تلك الطاعة شاء أم أبى والثاني أن اللفظ عام والمراد منه أيضاً العام وعلى هذا ففي الآية إشكال لأنه ليس كل من في السموات والأرض يسجد لله بل الملائكة يسجدون لله والمؤمنون من الجن والإنس يسجدون لله تعالى وأما الكافرون فلا يسجدون
الجواب عنه من وجهين الأول أن المراد من قوله وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي ويجب على كل من في السموات والأرض أن يسجد لله فعبر عن الوجوب بالوقوع والحصول والثاني وهو أن المراد من السجود التعظيم والاعتراف بالعبودية وكل من في السموات ومن في الأرض يعترفون بعبودية الله تعالى على ما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 )
وأما القول الثاني في تفسير الآية فهو أن السجود عبارة عن الانقياد والخضوع وعدم الامتناع وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل وتحقيق القول فيه أن ما(19/24)
سواه ممكن لذاته والممكن لذاته هو الذي تكون ماهيته قابلة للعدم والوجود على السوية وكل من كان كذلك امتنع رجحان وجوده على عدمه أو بالعكس إلا بتأثير موجود ومؤثر فيكون وجود كل ما سوى الحق سبحانه بإيجاده وعدم كل ما سواه بإعدامه فتأثيره نافذ في جميع الممكنات في طرفي الإيجاد والإعدام وذلك هو السجود وهو التواضع والخضوع والانقياد ونظير هذه الآية بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وقوله وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 83 )
وأما قوله تعالى طَوْعًا وَكَرْهًا فالمراد أن بعض الحوادث مما يميل الطبع إلى حصوله كالحياة والغنى وبعضها مما ينفر الطبع عنه كالموت والفقر والعمى والحزن والزمانة وجميع أصناف المكروهات والكل حاصل بقضائه وقدره وتكوينه وإيجاده ولا قدرة لأحد على الامتناع والمدافعة
ثم قال تعالى وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ وفيه قولان
القول الأول قال المفسرون كل شخص سواء كان مؤمناً أو كافراً فإن ظله يسجد لله قال مجاهد ظل المؤمن يسجد لله طوعاً وهو طائع وظل الكافر يسجد لله كرهاً وهو كاره وقال الزجاج جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله وعند هذا قال ابن الأنباري لا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولاً وأفهاماً تسجد بها وتخشع كما جعل الله للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيح الله تعالى وحتى ظهر أثر التجلي فيها كما قال فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا ( الأعراف 143 )
والقول الثاني وهو أن المراد من سجود الظلال ميلانها من جانب إلى جانب وطولها بسبب انحطاط الشمس وقصرها بسبب ارتفاع الشمس فهي منقادة مستسلمة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب وإنما خصص الغدو والآصال بالذكر لأن الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين
قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَى ْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن كل من في السموات والأرض ساجد له بمعنى كونه خاضعاً له عاد إلى الرد على عبدة الأصنام فقال قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُلِ اللَّهُ ولما كان هذا الجواب جواباً يقر به المسؤول ويعترف به ولا ينكره أمره ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتة ولما بين أنه سبحانه هو الرب لكل الكائنات قال قل لهم فلم اتخذتهم من دون الله أولياء وهي جمادات وهي لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة لأنفسها ودفع المضرة عن أنفسها فبأن تكون عاجزة عن(19/25)
تحصيل المنفعة لغيرها ودفع المضرة عن غيرها كان ذلك أولى فإذا لم تكن قادرة على ذلك كانت عبادتها محض العبث والسفه ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أن الجاهل بمثل هذه الحجة يكون كالأعمى والعالم بها كالبصير والجهل بمثل هذه الحجة كالظلمات والعلم بها كالنور وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير والظلمة لا تساوي النور كذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالم بها قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وعمرو عن عاصم يَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ بالياء لأنها مقدمة على اسم الجمع والباقون بالتاء واختاره أبو عبيدة ثم أكد هذا البيان فقال أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يعني هذه الأشياء التي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتى يقولوا إنها تشارك الله في الخالقية فوجب أن تشاركه في الإلهية بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أن هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل ألبتة ولا خلق ولا أثر وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهية محض السفه والجهل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أصحابنا استدلوا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال من وجوه الأول أن المعتزلة زعموا أن الحيوانات تخلق حركات وسكنات مثل الحركات والسكنات التي يخلقها الله تعالى وعلى هذا التقدير فقد جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذم والإنكار فدلت هذه الآية على أن العبد لا يخلق فعل نفسه قال القاضي نحن وإن قلنا إن العبد يفعل ويحدث إلا أنا لا نطلق القول بأنه يخلق ولو أطلقناه لم نقل إنه يخلق كخلق الله لأن أحدنا يفعل بقدرة الله وإنما يفعل لجلب منفعة ودفع مضرة والله تعالى منزه عن ذلك كله فثبت أن بتقدير كون العبد خالقاً إلا أنه لا يكون خلقه كخلق الله تعالى وأيضاً فهذا الإلزام لازم للمجبرة لأنهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسب العبد وفعل له وهذا عين الشرك لأن الإله والعبد في خلق تلك الأفعال بمنزلة الشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه حق وأيضاً فهو تعالى إنما ذكر هذا الكلام عيباً للكفار وذماً لطريقتهم ولو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما بقي لهذا الذم فائدة لأن للكفار أن يقولوا على هذا التقدير إن الله سبحانه وتعالى لما خلق هذا الكفر فينا فلم يذمنا عليه ولا ينسبنا إلى الجهل والتقصير مع أنه قد حصل فينا لا بفعلنا ولا باختيارنا
والجواب عن السؤال الأول أن لفظ الخلق إما أن يكون عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود أو يكون عبارة عن التقدير وعلى الوجهين فبتقدير أن يكون العبد محدثاً فإنه لا بد وأن يكون حادثاً أما قوله والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه ليس خلقه كخلق الله
قلنا الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين والإخراج من العدم إلى الوجود ومعلوم أن الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني وحينئذ يصح أن يقال إن هذا الذي هو مخلوق العبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى بل لا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات إلا أن حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في حصول المماثلة من هذا الوجه وهذا القدر يكفي في الاستدلال وأما قوله هذا لازم على المجبرة حيث قالوا إن فعل العبد مخلوق لله تعالى فنقول هذا غير لازم لأن هذه الآية دالة على أنه لا يجوز أن يكون خلق العبد مثلاً لخلق الله تعالى(19/26)
ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتة فكيف يلزمنا ذلك وأما قوله لو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما حسن ذم الكفار على هذا المذهب
قلنا حاصله يرجع إلى أنه لما حصل المدح والذم وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل وهو منقوض لأنه تعالى ذم أبا لهب على كفره مع أنه عالم منه أنه يموت على الكفر وقد ذكرنا أن خلاف المعلوم محال الوقوع فهذا تقرير هذا الوجه في هذه الآية
وأما الوجه الثاني في التمسك بهذه الآية قوله قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ولا شك أن فعل العبد شيء فوجب أن يكون خالقه هو الله وسؤالهم عليه ما تقدم
والوجه الثالث في التمسك بهذه الآية وقوله وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ وليس يقال فيه أنه تعالى واحد في أي المعاني ولما كان المذكور السابق هو الخالقية وجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية القهار لكل ما سواه وحينئذ يكون دليلاً أيضاً على صحة قولنا
المسألة الثانية زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء اعلم أن هذا النزاع ليس إلا في اللفظ وهو أن هذا الاسم هل يقع عليه أم لا وزعم أنه لا يقع هذا الاسم على الله تعالى واحتج عليه بأنه لو كان شيئاً لوجب كونه خالقاً لنفسه لقوله تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ولما كان ذلك محالاً وجب أن لا يقع عليه اسم الشيء ولا يقال هذا عام دخله التخصيص لأن العام المخصوص إنما يحسن إذا كان المخصوص أقل من الباقي وأخس منه كما إذا قال أكلت هذ الرمانة مع أنه سقطت منها حبات ما أكلها وههنا ذات الله تعالى أعلى الموجودات وأشرفها فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقه
والحجة الثانية تمسك بقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والمعنى ليس مثل مثله شيء ومعلوم أن كل حقيقة فإنها مثل مثل نفسها فالباري تعالى مثل مثل نفسه مع أنه تعالى نبه على أن مثل مثله ليس بشيء فهذا تنصيص على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيء
والحجة الثالثة قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى ولفظ الشيء يتناول أخس الموجودات فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن فوجب أن لا يكون هذا اللفظ من الأسماء الحسنى فوجب أن لا يجوز دعاء الله تعالى بهذا اللفظ والأصحاب تمسكوا في إطلاق هذا الاسم عليه تعالى بقوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( الأنعام 19 )
وأجاب الخصم عنه بأن قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً سؤال متروك الجواب وقوله قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ كلام مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله
المسألة الثالثة تمسك المعتزلة بهذه الآية في أنه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة قالوا لأنه لو حصل لله تعالى علم وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إما أن تحصل بخلق الله أو لا بخلقه والأول باطل وإلا لزم التسلسل والثاني باطل لأن قوله اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء يتناول الذات والصفات حكمنا(19/27)
بدخول التخصيص فيه في حق ذات الله تعالى فوجب أن يبقى فيما سوى الذات على الأصل وهو أن يكون تعالى خالقاً لكل شيء سوى ذاته تعالى فلو كان لله علم وقدرة لوجب كونه تعالى خالقاً لهما وهو محال وأيضاً تمسكوا بهذه الآية في خلق القرآن قالوا الآية دالة على أنه تعالى خالق لكل الأشياء والقرآن ليس هو الله تعالى فوجب أن يكون مخلوقاً وأن يكون داخلاً تحت هذا العموم
والجواب أقصى ما في الباب أن الصيغة عامة إلا أنا نخصصها في حق صفات الله تعالى بسبب الدلائل العقلية
أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَة ٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأرض كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الاٌّ مْثَالَ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ سُو ءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
اعلم أنه تعالى لما شبه المؤمن والكافر والإيمان والكفر بالأعمى والبصير والظلمات والنور ضرب للإيمان والكفر مثلاً آخر فقال أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا ومن حق الماء أن يستقر في الأودية المنخفضة عن الجبال والتلال بمقدار سعة تلك الأودية وصغرها من حق الماء إذا زاد على قدر الأودية أن ينبسط على الأرض ومن حق الزبد الذي يحتمله الماء فيطفو ويربو عليه أن يتبدد في الأطراف ويبطل سواء كان ذلك الزبد ما يجري مجرى الغليان من البياض أو ما يحفظ بالماء من الأجسام الخفيفة ولما ذكر تعالى هذا الزبد الذي لا يظهر إلا عند اشتداد جري الماء ذكر الزبد الذي لا يظهر إلا بالنار وذلك لأن كل واحد من الأجساد السبعة إذا أذيب بالنار لابتغاء حلية أو متاع آخر من الأمتعة التي يحتاج إليها في مصالح البيت فإنه ينفصل عنها نوع من الزبد والخبث ولا ينتفع به بل يضيع ويبطل ويبقى الخالص فالحاصل أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء والأجساد السبعة إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو لأجل اتخاذ سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به فكذا ههنا أنزل من سماء الكبرياء والجلالة والإحسان ماء وهو القرآن والأودية قلوب العباد وشبه القلوب(19/28)
بالأودية لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن كما أن الأودية تستقر فيها المياه النازلة من السماء وكما أن كل واحد فإنما يحصل فيه من مياه الأمطار ما يليق بسعته أو ضيقه فكذا ههنا كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علوم القرآن ما يليق بذلك القلب من طهارته وخبثه وقوة فهمه وقصور فهمه وكما أن الماء يعلوه زبد الأجساد السبعة المذابة يخالطها خبث ثم إن ذلك الزبد والخبث يذهب ويضيع ويبقى جوهر الماء وجوهر الأجساد السبعة كذا ههنا بيانات القرآن تختلط بها شكوك وشبهات ثم إنها بالآخرة تزول وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة والمكاشفة في العاقبة فهذا هو تقرير هذا المثل ووجه انطباق المثل على الممثل به وأكثر المفسرين سكتوا عن بيان كيفية التمثيل والتشبيه
المسألة الثانية في المباحث اللفظية التي في هذه الآية في لفظ الأودية أبحاث
البحث الأول الأودية جمع واد وفي الوادي قولان
القول الأول أنه عبارة عن الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل هذا قول عامة أهل اللغة
والقول الثاني قال السهروردي يسمى الماء وادياً إذا سال قال ومنه سمي الودى ودياً لخروجه وسيلانه وعلى هذا القول فالوادي اسم للماء السائل كالمسيل والأول هو القول المشهور إلا أن على هذا التقدير يكون قوله فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ مجازاً فكان التقدير سالت مياه الأودية إلا أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
البحث الثاني قال أبو علي الفارسي رحمه الله الأودية جمع واد ولا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة قال ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير ثم إن وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر وأطيار ووزن فعيل يجمع على أفعلة كجريب وأجربة ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع الفعيل فيقال واد وأودية ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال يتيم وأيتام وشريف وأشراف هذا ما قاله أبو علي الفارسي رحمه الله وقال غيره نظير واد وأودية ناد وأندية للمجالس
البحث الثالث إنما ذكر لفظ أودية على سبيل التنكير لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فتسيل بعض أودية الأرض دون بعض أما قوله تعالى بِقَدَرِهَا ففيه بحثان
البحث الأول قال الواحدي القدر والقدر مبلغ الشيء يقال كم قدر هذه الدراهم وكم قدرها ومقدارها أي كم تبلغ في الوزن فما يكون مساوياً لها في الوزن فهو قدرها
البحث الثاني فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا أي من الماء فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع الوادي كثر الماء
أما قوله فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ففيه بحثان
البحث الأول قال الفراء يقال أزبد الوادي إزباداً والزبد الاسم وقوله رَّابِيًا قال الزجاج طافياً عالياً فوق الماء وقال غيره زائداً بسبب انتفاخه يقال ربا يربو إذا زاد(19/29)
أما قوله تعالى وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَة ٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ فاعلم أنه تعالى لما ضرب المثل بالزبد الحاصل من الماء أتبعه بضرب المثل بالزبد الحاصل من النار وفيه مباحث
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم يُوقِدُونَ بالياء واختاره أبو عبيدة لقوله يَنفَعُ النَّاسَ وأيضاً فليس ههنا مخاطب والباقون بالتاء على الخطاب وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أنه خطاب للمذكورين في قوله قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء ( الرعد 16 ) والثاني أنه يجوز أن يكون خطاباً عاماً يراد به الكافة كأنه قال ومما توقدون عليه في النار أيها الموقدون
البحث الثاني الإيقاد على الشيء على قسمين أحدهما أن لا يكون ذلك الشيء في النار وهو كقوله تعالى ) فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ ( القصص 38 ) والثاني أن يوقد على الشيء ويكون ذلك الشيء في النار فإن من أراد تذويب الأجساد السبعة جعلها في النار فلهذا السبب قال ههنا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ
البحث الثالث في قوله ابْتِغَاء حِلْيَة ٍ قال أهل المعاني الذي يوقد عليه لابتغاء حلية الذهب والفضة والذي يوقد عليه لابتغاء الأمتعة الحديد والنحاس والرصاص والأسرب يتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها والمتاع كل ما يتمتع به وقوله زَبَدٌ مّثْلُهُ أي زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للحق والباطل ثم قال أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ قال الفراء الجفاء الرمي والاطراح يقال جفا الوادي غثاءه يجفوه جفاء إذا رماه والجفاء اسم للمجتمع منه المنضم بعضه إلى بعض وموضع جفاء نصب على الحال والمعنى أن الزبد قد يعلو على وجه الماء ويربو وينتفخ إلا أنه بالآخرة يضمحل ويبقى الجوهر الصافي من الماء ومن الأجساد السبعة فكذلك الشبهات والخيالات قد تقوى وتعظم إلا أنها بالآخرة تبطل وتضمحل وتزول ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشبهات وفي قراءة رؤبة بن العجاج جفالاً وعن أبي حاتم لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفار
أما قوله تعالى لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَى ففيه وجهان الأول أنه تم الكلام عند قوله كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الاْمْثَالَ ثم استأنف الكلام بقوله لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَى ومحله الرفع بالابتداء وللذين خبره وتقديره لهم الخصلة الحسنى والحالة الحسنى الثاني أنه متصل بما قبله والتقدير كأنه قال الذي يبقى هو مثل المستجيب والذي يذهب جفاء مثل من لا يستجيب ثم بين الوجه في كونه مثلاً وهو أنه لمن يستجيب الحسنى وهو الجنة ولمن لا يستجيب أنواع الحسرة والعقوبة وفيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الاستجابة الحسنى فيكون الحسنى صفة لمصدر محذوف
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أحوال السعداء وأحوال الأشقياء أما أحوال السعداء فهي قوله لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَى والمعنى أن الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوة وبعث الرسل والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله فلهم الحسنى قال ابن عباس الجنة وقال أهل المعاني الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرة الدائمة الخالية عن(19/30)
الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال ولم يذكر الزيادة ههنا لأنه تعالى قد ذكرها في سورة أخرى وهو قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 206 ) وأما أحوال الأشقياء فهي قوله وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ فلهم أنواع أربعة من العذاب والعقوبة
فالنوع الأول قوله لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ والافتداء جعل أحد الشيئين بدلاً من الآخر ومفعول لافتدوا به محذوف تقديره لافتدوا به أنفسهم أي جعلوه فداء أنفسهم من العذاب والكناية في ( به ) عائدة إلى ( ما ) في قوله مَّا فِى الاْرْضِ
واعلم أن هذا المعنى حق لأن المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته وكل ما سواه فإنما يحبه لكونه وسيله إلى مصالح ذاته فإذا كانت النفس في الضرر والألم والتعب وكان مالكاً لما يساوي عالم الأجساد والأرواح فإنه يرضى بأن يجعله فداء لنفسه لأن المحبوب بالعرض لا بد وأن يكون فداء لما يكون محبوباً بالذات
والنوع الثاني من أنواع العذاب الذي أعده الله لهم هو قوله أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الْحِسَابِ قال الزجاج ذاك لأن كفرهم أحبط أعمالهم وأقول ههنا حالتان فكل ما شغلك بالله وعبوديته ومحبته فهي الحالة السعيدة الشريفة العلوية القدسية وكل ما شغلك بغير الله فهي الحالة الضارة المؤذية الخسيسة ولا شك أن هاتين الحالتين يقبلان الأشد والأضعف والأقل والأزيد ولا شك أن المواظبة على الأعمال المناسبة لهذه الأحوال توجب قوتها ورسوخها لما ثبت في المعقولات أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة ولا شك أنه لما كانت كثرة الأفعال توجب حصول تلك الملكات الراسخة وكل واحدة من تلك الأفعال حتى اللمحة واللحظة والخطور بالبال والالتفات الضعيف فإنه يوجب أثراً ما في حصول تلك الحالة في النفس فهذا هو الحساب وعند التأمل في هذه الفصول يتبين للإنسان صدق قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 )
إذا ثبت هذا فالسعداء هم الذين استجابوا لربهم في الإعراض عما سوى الله وفي الإقبال بالكلية على عبودية الله تعالى ولا جرم حصل لهم الحسنى
وأما الأشقياء فهم الذين لم يستجيبوا لربهم فلهذا السبب وجب أن يحصل لهم سوء الحساب والمراد بسوء الحساب أنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين عن الفوز بخدمة حضرة المولى
والنوع الثالث قوله تعالى وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاستسعاد بخدمة حضرة المولى عاكفين على لذات الدنيا فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم فيحترقون على مفارقتها وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة فلذلك قال مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى فقال وَبِئْسَ الْمِهَادُ ولا شك أن الأمر كذلك
ثم قال تعالى أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى فهذا إشارة إلى المثل المتقدم ذكره وهو أن العالم بالشيء كالبصير والجاهل به كالأعمى وليس أحدهما كالآخر لأن الأعمى إذا(19/31)
أخذ يمشي من غير قائد فالظاهر أنه يقع في البئر وفي المهالك وربما أفسد ما كان على طريقه من الأمتعة النافعة أما البصير فإنه يكون آمناً من الهلاك والإهلاك
ثم قال إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ والمراد أنه لا ينتفع بهذه الأمثلة إلا أرباب الألباب الذين يطلبون من كل صورة معناها ويأخذون من كل قشرة لبابها ويعبرون بظاهر كل حديث إلى سره ولبابه
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَة ً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيِّئَة َ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
اعلم أن هذه الآية هل هي متعلقة بما قبلها أم لا فيه قولان
القول الأول إنها متعلقة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أنه يجوز أن يكون قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ صفة لأولي الألباب والثاني أن يكون ذلك صفة لقوله أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ ( الرعد 19 )
والقول الثاني أن يكون قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مبتدأ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ عُقْبَى الدَّارِ خبره كقوله وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَة ُ ( الرعد 25 ) واعلم أن هذه الآية من أولها إلى آخرها جملة واحدة شرط وجزاء وشرطها مشتمل على قيود وجزاؤها يشتمل أيضاً على قيود أما القيود المعتبرة في الشرط فهي تسعة
القيد الأول قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وفيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الذي عاهدهم عليه حين كانوا في صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى والثاني أن المراد بعهد الله كل أمر قام الدليل على صحته وهو من وجهين أحدهما الأشياء التي أقام الله عليها دلائل عقلية قاطعة لا تقبل النسخ والتغيير والآخر التي أقام الله عليها الدلائل السمعية وبين لهم تلك الأحكام والحاصل أنه دخل تحت قوله يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ كل ما قام الدليل عليه ويصح إطلاق لفظ العهد على الحجة بل الحق أنه لا عهد أوكد من الحجة والدلالة على ذلك أن من حلف على الشيء فإنما(19/32)
يلزمه الوفاء به إذا ثبت بالدليل وجوبه لا بمجرد اليمين ولذلك ربما يلزمه أن يحدث نفسه إذا كان ذلك خيراً له فلا عهد أوكد من إلزام الله تعالى إياه ذلك بدليل العقل أو بدليل السمع ولا يكون العبد موفياً للعهد إلا بأن يأتي بكل تلك الأشياء كما أن الحالف على أشياء كثيرة لا يكون باراً في يمينه إلا إذا فعل الكل ويدخل فيه الاتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن كل المنهيات ويدخل فيه الوفاء بالعقود في المعاملات ويدخل فيه أداء الأمانات وهذا القول هو المختار الصحيح في تأويل الآية
القيد الثاني قوله وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وفيه أقوال
القول الأول وهو قول الأكثرين إن هذا الكلام قريب من الوفاء بالعهد فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق والعهد وهذا مثل أن يقول إنه لما وجب وجوده لزم أن يمتنع عدمه فهذان المفهومان متغايران إلا أنهما متلازمان فكذلك الوفاء بالعهد يلزمه أن لا ينقض الميثاق
واعلم أن الوفاء بالعهد من أجل مراتب السعادة قال عليه السلام ( لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن عهد له ) والآيات الواردة في هذا الباب كثيرة في القرآن
والقول الثاني أن الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه فالحاصل أن قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء وقوله وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ إشارة إلى ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختياره نفسه كالنذر بالطاعات والخيرات
والقول الثالث أن المراد بالوفاء بالعهد عهد الربوبية والعبودية والمراد بالميثاق المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند ظهوره
واعلم أن الوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع قال عليه السلام ( من عاهد الله فغدر كانت فيه خصلة من النفاق ) وعنه عليه السلام ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيام ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى عهداً ثم غدر ورجل استأجر أجيراً استوفى عمله وظلمه أجره ورجل باع حراً فاسترق الحر وأكل ثمنه ) وقيل كان بين معاوية وملك الروم عهد فأراد أن يذهب إليهم وينقض العهد فإذا رجل على فرس يقول وفاء بالعهد لا غدر سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذن إليهم عهده ولا يحلها حتى ينقضي الأمد وينبذ إليهم على سواء ) قال من هذا قالوا عمرو بن عيينة فرجع معاوية
القيد الثالث وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وههنا سؤال وهو أن الوفاء بالعهد وترك نقض الميثاق اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات فما الفائدة في ذكر هذه القيود المذكورة بعدهما
والجواب من وجهين الأول أنه ذكر لئلا يظن ظان أن ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فلا جرم أفرد ما بينه وبين العباد بالذكر والثاني أنه تأكيد
إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في تفسيره وجوهاً الأول أن المراد منه صلة الرحم قال عليه السلام ( ثلاث يأتين يوم القيامة لها ذلق الرحم تقول أي رب قطعت والأمانة تقول أي رب تركت والنعمة تقول أي رب كفرت )(19/33)
والقول الثاني أن المراد صلة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومؤازرته ونصرته في الجهاد
والقول الثالث رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد فيدخل فيه صلة الرحم وصلة القرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان كما قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) ويدخل في هذه الصلة امدادهم بإيصال الخيرات ودفع الآفات بقدر الإمكان وعيادة المريض وشهود الجنائز وإفشاء السلام على الناس والتبسم في وجوههم وكف الأذى عنهم ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة والدجاجة وعن الفضيل بن عياض رحمه الله أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال من أين أنتم قالوا من خراسان فقال اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم واعلموا أن العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين وأقول حاصل الكلام أن قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ إشارة إلى الشفقة على خلق الله
القيد الرابع قوله وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ والمعنى أنه وإن أتى بكل ما قدر عليه في تعظيم أمر الله وفي الشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد وأن تكون الخشية من الله والخوف منه مستولياً على قلبه وهذه الخشية نوعان أحدهما أن يكون خائفاً من أن يقع زيادة أو نقصان أو خلل في عباداته وطاعاته بحيث يوجب فساد العبادة أو يوجب نقصان ثوابها والثاني وهو خوف الجلال وذلك لأن العبد إذا حضر عند السلطان المهيب القاهر فإنه وإن كان في غير طاعته إلا أنه لا يزول عن قلبه مهابة الجلالة والرفعة والعظمة
القيد الخامس قوله وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ اعلم أن القيد الرابع إشارة إلى الخشية من الله وهذا القيد الخامس إشارة إلى الخوف والخشية وسوء الحساب وهذا يدل على أن المراد من الخشية من الله ما ذكرناه من خوف الجلال والمهابة والعظمة وإلا لزم التكرار
القيد السادس قوله تعالى وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ فيدخل فيه الصبر على فعل العبادات والصبر على ثقل الأمراض والمضار والغموم والأحزان والصبر على ترك المشتهيات وبالجملة الصبر على ترك المعاصي وعلى أداء الطاعات ثم إن الإنسان قد يقدم على الصبر لوجوه أحدها أن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل وثانيها أن يصبر لئلا يعاب بسبب الجزع وثالثها أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء ورابعها أن يصبر لعلمه بأن لا فائدة في الجزع فالإنسان إذا أتى بالصبر لأحد هذه الوجوه لم يكن ذلك داخلاً في كمال النفس وسعادة القلب أما إذا صبر على البلاء لعلمه بأن ذلك البلاء قسمة حكم بها القسام العلام المنزه عن العيب والباطل والسفه بل لا بد أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة ومصلحة راجحة ورضي بذلك لأنه تصرف المالك في ملكه ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملكه أو يصبر لأنه صار مستغرقاً في مشاهدة المبلى فكان استغراقه في تجلي نور المبلى أذهله على التألم بالبلاء وهذا أعلى مقامات الصديقين فهذه الوجوه الثلاثة هي التي يصدق عليها أنه صبر ابتغاء وجه ربه ومعناه أنه صبر لمجرد ثوابه وطلب رضا الله تعالى
واعلم أن قوله ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ فيه دقيقة وهي أن العاشق إذا ضربه معشوقه فربما نظر العاشق لذلك الضارب وفرح به فقوله ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ محمول على هذا المجاز يعني كما أن العاشق يرضى بذلك الضرب لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه فكذلك العبد يصبر على البلاء والمحنة ويرضى به(19/34)
لاستغراقه في معرفة نور الحق وهذه دقيقة لطيفة
القيد السابع قوله وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ
واعلم أن الصلاة والزكاة وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى إلا أنه تعالى أفردها بالذكر تنبيهاً على كونها أشرف من سائر العبادات وقد سبق في هذا الكتاب تفسير إقامة الصلاة ولا يمتنع إدخال النوافل فيه أيضاً
القيد الثامن قوله تعالى وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَة ً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الحسن المراد الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سراً وإن اتهم بترك الزكاة فالأولى أداؤها في العلانية وقيل السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الأمام وقال آخرون بل المراد الزكاة الواجبة والصدقة التي يؤتى بها على صفة التطوع فقوله سِرّا يرجع إلى التطوع وقوله علانية يرجع إلى الزكاة الواجبة
المسألة الثانية قالت المعتزلة إنه تعالى رغب في الانفاق من كل ما كان رزقاً وذلك يدل على أنه لا رزق إلا الحلال إذ لو كان الحرام رزقاً لكان قد رغب تعالى في إنفاق الحرام وأنه لا يجوز
القيد التاسع قوله صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ وفيه وجهان الأول أنهم إذا أتوا بمعصية درؤها ودفعوها بالتوبة كما روى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لمعاذ بن جبل ( إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ) والثاني أن المراد أنهم لا يقابلون الشر بالشر بل يقابلون الشر بالخير كما قال تعالى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وعن ابن عمر رضي الله عنهما ليس الوصول من وصل ثم وصل تلك المجازاة لكنه من قطع ثم وصل وعطف على من لم يصله وليس الحليم من ظلم ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج لكن الحليم من قدر ثم عفا وعن الحسن هم الذين إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا ويروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متنكراً فقال من أين أنت فقال من بلخ فقال وهل تعرف شقيقاً قال نعم فقال كيف طريقة أصحابه فقال إذا منعوا صبروا وإن أعطوا شكروا فقال عبد الله طريقة كلابنا هكذا فقال وكيف ينبغي أن يكون فقال الكاملون هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا
واعلم أن جملة هذه القيود التسعة هي القيود المذكورة في الشرط أما القيود المذكورة في الجزاء فهي أربعة
القيد الأول قوله أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي عاقبة الدار وهي الجنة لأنها هي التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها قال الواحدي العقبى كالعاقبة ويجوز أن تكون مصدراً كالشورى والقربى والرجعى وقد يجيء مثل هذا أيضاً على فَعلى كالنجوى والدعوى وعلى فِعلى كالذكرى والضيزى ويجوز أن يكون اسماً وهو ههنا مصدر مضاف إلى الفاعل والمعنى أولئك لهم أن تعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة
القيد الثاني قوله جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الزجاج جنات عدن بدل من عقبى والكلام في جنات عدن ذكرناه مستقصى عند(19/35)
قوله تعالى وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وذكرنا هناك مذهب المفسرين ومذهب أهل اللغة
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو يَدْخُلُونَهَا بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله والباقون بفتح الياء وضم الخاء على إسناد الدخول إليهم
القيد الثالث وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن علية ( صلح ) بضم اللام قال صاحب الكشاف والفتح أفصح
المسألة الثانية قال الزجاج موضع من رفع لأجل العطف على الواو في قوله يَدْخُلُونَهَا ويجوز أن يكون نصباً كما تقول قد دخلوا وزيداً أي مع زيد
المسألة الثالثة في قوله وَمَنْ صَلَحَ قولان الأول قال ابن عباس يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم وقال الزجاج بين تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة قال الواحدي والصحيح ما قال ابن عباس لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان مصلحاً في عمله فهو يدخل الجنة
واعلم أن هذه الحجة ضعيفة لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سروراً وبهجة فإذا بشر الله المكلف بأنه إذا دخل الجنة فإنه يحضر معه آباؤه وأزواجه وأولاده فلا شك أنه يعظم سرور المكلف بذلك وتقوى بهجته به ويقال إن من أعظم موجبات سروره هم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون الله على الخلاص منها والفوز بالجنة ولذلك قال تعالى في صفة أهل الجنة إنهم يقولون قَالَ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( يس 26 27 )
المسألة الرابعة قوله وَأَزْواجُهُمْ ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه وما روي عن سودة أنه لما هم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بطلاقها قالت دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك كالدليل على ما ذكرناه
والقيد الرابع قوله وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس لهم خيمة من درة مجوفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها ألف باب مصاريعها من ذهب يدخلون عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ على أمر الله وقال أبو بكر الأصم من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون ونعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى
واعلم أن دخول الملائكة إن حملناه على الوجه الأول فهو مرتبة عظيمة وذلك لأن الله تعالى أخبر عن هؤلاء المطيعين أنهم يدخلون جنة الخلد ويجتمعون بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم على أحسن وجه ثم إن الملائكة مع جلالة مراتبهم يدخلون عليهم لأجل التحية والإكرام عند الدخول عليهم يكرمونهم بالتحية(19/36)
والسلام ويبشرونهم بقوله فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ولا شك أن هذا غير ما يذكره المتكلمون من أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يأتي قبور الشهداء رأس كل حول فيقول ( السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) والخلفاء الأربعة هكذا كانوا يفعلون وأما إن حملناه على الوجه الثاني فتفسير الآية أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ومنهم كروبيون فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الراضيات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يختص بتلك الصفة مزيد اختصاص فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السماوية ما يناسبها من الصفة المخصوصة بها فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر وهكذا القول في جميع المراتب
المسألة الثانية تمسك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والعظيم فكانوا به أجل مرتبة من البشر ولو كانوا أقل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجباً علو درجاتهم وشرف مراتبهم ألا ترى أن من عاد من سفره إلى بيته فإذا قيل في معرض كمال مرتبته أنه يزوره الأمير والوزير والقاضي والمفتي فهذا يدل على أن درجة ذلك المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذلك ههنا
المسألة الثالثة قال الزجاج ههنا محذوف تقديره الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون سلام عليكم فأضمر القول ههنا لأن في الكلام دليلاً عليه وأما قوله بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ففيه وجهان أحدهما أنه متعلق بالسلام والمعنى أنه إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات وترك المحرمات والثاني أنه متعلق بمحذوف والتقدير أن هذه الكرامات التي ترونها وهذه الخيرات التي تشاهدونها إنما حصلت بواسطة ذلك الصبر
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض أُوْلَائِكَ لَهُمُ اللَّعْنَة ُ وَلَهُمْ سُو ءُ الدَّارِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفات السعداء وذكر ما ترتب عليها من الأحوال الشريفة العالية أتبعها بذكر حال الأشقياء وذكر ما يترتب عليها من الأحوال المخزية المكروهة وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب ليكون البيان كاملاً فقال وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وقد بينا أن عهد الله ما ألزم عباده بواسطة الدلائل العقلية والسمعية لأنها أوكد من كل عهد وكل يمين إذ الأيمان إنما تفيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على أنها توجب الوفاء بمقتضاها والمراد من نقض هذه العهود أن لا ينظر المرء في الأدلة أصلاً فحينئذ لا يمكنه العمل بموجبها أو بأن ينظر فيها ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو بأن ينظر في الشبهة فيعتقد(19/37)
خلاف الحق والمراد من قوله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ أي من بعد أن وثق الله تلك الأدلة وأحكمها لأنه لا شيء أقوى مما دل الله على وجوبه في أن ينفع فعله ويضر تركه
فإن قيل إذا كان العهد لا يكون إلا مع الميثاق فما فائدة اشتراطه تعالى بقوله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ
قلنا لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف الله العبد والمراد بالميثاق الأدلة المؤكدة لأنه تعالى قد يؤكد إليك العهد بدلائل أخرى سواء كانت تلك المؤكدة دلائل عقلية أو سمعية
ثم قال تعالى وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ( الرعد 21 ) وذلك في مقابلة قوله وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل والمراد به قطع كل ما أوجب الله وصله ويدخل فيه وصل الرسول بالموالاة والمعاونة ووصل المؤمنين ووصل الأرحام ووصل سائر من له حق ثم قال وَيُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وذلك الفساد هو الدعاء إلى غير دين الله وقد يكون بالظلم في النفوس والأموال وتخريب البلاد ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الصفات قال أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَة ُ واللعنة من الله الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة إلى ضدهما من عذاب ونقمة وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ لأن المراد جهنم وليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا فِى الاٌّ خِرَة ِ إِلاَّ مَتَاعٌ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَة ٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَأابٍ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّة ٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبِّى لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاٌّ مْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْأسِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَة ٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِى َ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِى ءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأرض أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَة ِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ
اعلم أنه تعالى لما حكم على من نقض عهد الله في قبول التوحيد والنبوة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل لو كانوا أعداء الله لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه يبسط الرزق على البعض ويضيقه على البعض ولا تعلق له بالكفر والإيمان فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن ويوجد المؤمن مضيقاً عليه دون الكافر فالدنيا دار امتحان قال الواحدي معنى القدر في اللغة قطع الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان وقال المفسرون معنى ( يقدر ) ههنا يضيق ومثله قوله تعالى وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( الطلاق 7 ) أي ضيق ومعناه أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء
وأما قوله وَفَرِحُواْ بِالْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فهو راجع إلى من بسط الله له رزقه وبين تعالى أن ذلك لا يوجب الفرح لأن الحياة العاجلة بالنسبة إلى الآخرة كالحقير القليل بالنسبة إلى ما لا نهاية له(19/38)
قوله تعالى
ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب
اعلم أن الكفار قالوا يا محمد إن كنت رسولا فأتنا بآية ومعجزة قاهرة ظاهرة مثل معجوات موسى وعيسى عليهما السلام
فأجاب عن هذا السؤال بقوله قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه أحدها كأنه تعالى يقول إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة ولكن الاضلال والهداية من الله فأضلكم عن تلك الآيات القاهرة الباهرة وهدى أقواما آخرين إليها حتى عرفوا بها صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في دعوى النبوة وإذا كان كذلك فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات وثانيها أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت أكثر من أن تصير مشتبهة على العاقل فلما طلبوا بعدها آيات أخرى كان موضعا للتعجب والاستنكار فكأنه قيل لهم ما أعظم عنادكم إن الله يضل من يشاء من كان عل صفتكم وثالثها أنهم لما طلبوا سائر الآيات والمعجزات فكأنه قيل لهم لا فائدة من ظهور الآيات والمعجزات فإن الإضلال والهداية من الله فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية فإنه لم يحصل الانتفاع بها ولو حصلت آية واحدة فقط وحصلت الهداية من الله فإنه يحصل الانتفاع بها فلا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله في طلب الهدايات ورابعها قال أبو علي الجبائي المعنى أن الله يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم العذاب والإضلال عن الثواب ويهدي إليه من أناب أي يهدي إلى جنته من تاب وآمن قال وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث انه عقبه بقوله من أناب أي تاب والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه وذلك يدل على أنه تعالى إنما يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا هذا تمام كلام أبي علي وقوله أناب أي اقبل إلى الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير
قوله تعالى الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب
اعلم أن قوله الذين آمنوا بدل من قوله من أناب قال ابن عباس يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت
فإن قيل أليس أنه تعالى قال في سورة الأنفال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الأنفال 2 والوجل ضد الاطمئنان فكيف وصفهم ههنا بالاطمئنان
والجواب من وجوه الأول أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا من أن يقدموا على المعاصي فهناك وصفهم بالوجل وإذا ذكروا بوعده بالثواب والرحمة سكنت قلوبهم إلى ذلك وأحد الأمرين لا ينافي الآخر لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب ويوجد الوجل في حال فكرهم في المعاصي وتوجد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات الثاني أن المراد أن علمهم بكون القرآن معجزا يوجب حصول(19/39)
الطمأنينة لهم في كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نبيا حقا من عند الله أما شكلهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم الثالث أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده وأن محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) صادق في كل ما أخبر عنه إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم انهم هل أتوا بالطاعة الموجبة للثواب أم لا وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا
واعلم أن لنا في قوله ألا بذكر الله تطمئن القلوب أبحاثا دقيقة غامضة وهي من وجوه
الوجه الأول أن الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثر لا يتأثر ومتأثر لا يؤثر وموجود يؤثر في شيء ويتأثر في شيء فالمؤثر الذي لا يتأثر هو الله سبحانه وتعالى والمتأثر الذي لا يؤثر هو الجسم فإنه ذات قابلة للصفات المختلفة والآثار المتنافية وليس له خاصية إلا القبول فقط وأما الموجود الذي يؤثر تارة ويتأثر تارة أخرى فهي الموجودات الروحانية وذلك لأنها إذا توجهت إلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة الله تعالى وقدرته وتكوينه وإيجاده وإذا توجهت إلى عالم الأجسام اشتاقت إلى التصرف فيها لأن عالم الأرواح مدبر لعالم الأجسام
وإذا عرفت هذا فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرف فيها أما إذا توجه القلب إلى مطالعة الحضرة الإلهية حصل فيه أنوار الصمدية والأضواء الإلهية فناك يكون ساكنا فلهذا السبب قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب
الوجه الثاني أن القلب كلما وصل إلى شيء فإنه يطلب الانتقال منه إلى حالة أشرف منها لأنه لا سعادة في عالم الأجسام إلا وفوقها مرتبة أخرى في اللذة والغبطة أما إذا انتهى القلب والعقل إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهية والأضواء الصمدية بقي واستقر فلم يقدر على الانتقال منه البتة لأنه ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منها وأكمل فلهذا المعنى قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب
والوجه الثالث في تفسير هذه الكلمة أن الاكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على كر الدهور والأزمان صابرا على الذوبان الحاصل بالنار فإكسير جلال الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا باقيا صافيا نورانيا لا يقبل التغير والتدبل فلهذا قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب
ثم قال تعالى
الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب
المسألة الأولى في تفسير كلمة طوبى ثلاثة أقوال القول الأول أنها اسم شجرة في الجنة روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال { طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وأن أغصانها لترى من وراء سور الجنة } وحكى أبو بكر الأصم رضي الله عنه أن أصل هذه الشجرة في دار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي دار كل مؤمن منها غصن
والقول الثاني وهوقول أهل اللغة أن طوبى مصدر من طاب كبشرى وزلفى ومعنى طوبى لك أصبت طيبا ثم اختلفوا على وجوه فقيل فرح وقرة عين لهم عن ابن عباس رضي الله عنهما وقيل نعم(19/40)
ما لهم عن عكرمة وقيل غبطة لهم عن الضحاك وقيل حسن لهم عن قتادة وقيل خير وكرامة عن أبي بكر الأصم وقيل العيش الطيب لهم عن الزجاج
واعلم أن المعاني متقاربة والتفاوت يقرب من أن يكون في اللفظ والحاصل أنه مبالغة في نيل الطيبات ويدخل فيه جميع اللذات وتفسيره أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم
والقول الثالث أن هذه اللفظة ليست عربية ثم اختلفوا فقال بعضهم طوبى اسم الجنة بالحبشية وقيل اسم الجنة بالهندية وقيل البستان بالهندية وهذا القول ضعيف لأنه ليس في القرآن إلا العربي لا سيما واشتقاق هذا اللفظ من اللغة العربية ظاهر
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف الذين آمنوا مبتتدأ و طوبى لهم خبره ومعنى طوبى لك أي أصبت طيبا ومحلها النصب أو الرفع كقولك طيبا لك زطيب لك وسلاما لم وسلام لك والقراءة في قوله وحسن مآب بالرفع والنصب تدلك على محلها وقرأ مكوزة الأعرابي طيبى لهم
أما قوله وحسن مآب فالمراد حسن المرجع والمقر وكل ذلك وعد من الله بأعظم النعيم ترغيبا في طاعته وتحذيرا عن المعصية قوله تعالى
كذلك أرسلنا في أمة قد خلت من قبلها الأمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب
اعلم أن الكاف في كذلك للتشبيه فقيل أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك في أمة قد خلت من قبلها أمم وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة وقيل كما أرسلنا إلى أمم وأعطيناهم كتبا تتلى عليهم كذلك أعطيناك هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فماذا اقترحوا غيره وقال صاحب الكشاف كذلك أرسلناك أي مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات ثم فسر كيف أرسله فقال في أمة قد خلت من قبلها أمم أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم فهي آخر الأمم وأنت آخر الأنبياء
أما قوله لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك فالمراد لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن أي وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن الذي رحمته وسعت كل شيء وما بهم من نعمة فمنه وكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز عليهم قل هو ربي الواحد المتعال عن الشركاء لا إله إلا هو عليه توكلت في نصرتي عليكم وإليه متاب فيعينني على مصابرتكم زمجاهدتكم قيل نزل قوله وهم يكفرون بالرحمن في عبد الله بن أمية المخزومي وكان يقول أما الله فنعرفه وأما الرحمن فلا نقول نعرفه إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذلب فقال تعالى قل ادعوا أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى الإسراء 110 وكقوله وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن الفرقان 60(19/41)
وقيل إنه عليه السلام حين صالح قريشا من الحديبية كتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال المشركون إن كنت رسول الله وقد قاتلناك فقد ظلمنا ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد عبد الله فكتب كذلك ولما كتب في الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا أما الرحمن فلا نعرفه وكانوا يكتبون باسمك اللهم فقال عليه السلام { اكتبوا كما تريدون }
واعلم أنه قوله وهم يكفرون بالرحمن إذا حملناه على هاتين الروايتين كان معناه أنهم كفروا بإطلاق هذا الإسم على الله تعالى لا أنهم كفروا بالله تعالى وقال آخرون بل كفروا بالله إنا جحدا له وإما لإثباتهم الشركاء معه قال القاضي وهذا القول أليق بالظاهر لأن قوله تعالى وهم يكفرون بالرحمن يقتضي أنهم كفروا بالله قال القاضي هذا القول أليق بالظاهر لأن قوله تعالى وهم يكفرون بالرحمن يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم من الرحمن وليس المفهوم منه الاسم كما لو قال قائل كفروا بمحمد وكذبوا به لكان المفهوم هو دون اسمه
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد
اعلم أنه روي أن أهل مكة قعدوا في فناء مكة فأتاهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعرض الإسلام عليهم فقال له عبد الله بن أمية المخزومي سير لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا واجعل لنا فيها أنهارا نزرع فيها - أو أحي لنا بعض أموالنا لنسألهم أحق ما تقول أو باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى أو سخر لنا الريح حتى نركبها ونسير في البلاد فقد كانت الريح مسخرة لسليمان فلست بأهون على ربك من سليمان فنزل قوله ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أي من أماكنها أو قطعت به الأرض أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا أو كلم به الموتى لكان هو هذا القرآن الذي أنزلناه عليك وحذف جواب لو لكونه معلوما وقال الزجاج المحذوف هو أنه لو أن قرآنا سيرت به الجبال وكذا وكذا لما آمنوا به كقوله ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى الأنعام 111
ثم قال تعالى بل لله الأمر جميعا يعني إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وليس لأحد أن يتحكم عليه في أفعاله وأحكامه
ثم قال تعالى أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله أفلم ييأس قولان(19/42)
القول الأول أفلم يعلموا وعلى هذا التقدير ففيه وجهان
الوجه الأولك ييأس يعلم في لغة النخع وهذا قول أكثر المفسرين مثل مجاهد والحسن وقتادة واحتجوا عليه بقول الشاعر ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه
وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وأنشد أبو عبيدة أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني
ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
أي ألم تعلموا وقال الكسائي ما وجدت العرب يئست بمعنى علمت البتة
والوجه الثاني ما روي ان عليا وابن عباس كانا يقرآن أفلم يأس الذين آمنوا فقيل لابن عباس أفلم ييأس فقال أظن أن الكاتب كتبها وهو ناعس إنه كان في الخط يأس فزاد الكاتب سنة واحدة فصار ييأس فقرئ ييأس وهذا القول بعيد جدا لأنه يقتضي كون القرآن محلا للتحريف والتصحيف وذلك يخرجه عن كونه حجة قال صاحب الكشاف ما هذا القول والله إلا فرية بلا مرية
والقول الثاني قال الزجاج المعنى أو يئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء لأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا وتقريره أن العلم بأن الشيء لا يكون يوجب اليأس من كونه والملازمة توجب حسن المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ اليأس لإرادة العلم
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره والمعنى أنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس والمعتزلة تارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء وتارة يحملون الهداية على الهداية إلى طريق الجنة وفيهم من يجري الكلام على الظاهر ويقول إنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس لأنه ما شاء هدابة الأطفال والمجانين فلا يكون شائيا لهداية جميع الناس والكلام في هذه المسألة قد سبق مرارا
أما قوله تعالى ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دراهم ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله الذين كفروا فيه قولان
القول الأول قيل أراد به جميع الكفار لأن الوقائع الشديدة التي وقعت لبعض الكفار من القتل والسبي أوجب حصول الغم في قلب الكل وقيل أراد بعض الكفار وهم جماعة معينون والألف واللام في لفظ الكفار للمعهود السابق وهو ذلك الجمع المعين
المسألة الثانية في الآية وجهان الأول ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم أو تحل القارعة قريبا منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارهم ويتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم أو القيامة(19/43)
والقول الثاني ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من العداوة والتكذيب قارعة لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم وتصيب مواشيهم أو تحل أنت يا محمد قريبا من دراهم بجيشك كما حل بالحديبية حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة وكان الله قد وعده ذلك
ثم قال إن الله لا يخلف الميعاد والغرض منه تقوية قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإزالة الحزن عنه قال القاضي وهذا يدل على بطلان قول من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده وهذه الآية وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إذ بعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق الفساق
وجوابنا أن الحلف غيرن وتخصيص العموم غير ونحن لا نقول بالخلف ولكنا نخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو
وقوله تعالى
ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أش وما لهم من واق
اعلم أن القول لما طلبوا سائر المعجزات من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل الاستهزاء والسخرية وكان ذلك يشق على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان يتأذى من تلك الكلمات فالله تعالى أنزل هذه الآية تسلية له وتصبيرا له على سفاهة قومه فقال له إن أقوام سائر الأنبياء استهزؤا بهم كمت أن قومك يستهزئون بك فأمليت للذين كفروا أي أطلت لهم المدة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم فكيف كان عقابي لهم
واعلم أني سأنتقم من هؤلاء الكفار كما انمتقمت من أولئك المتقدمين والإملاء الإمهال وأن يتركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل الاستهزاء ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج وما يكون توبيخا لهم وتعجيبا من عقولهم فقال أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت والمعنى أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات من الجزيئات والكليات وإذا كان كذلك كان عالما بجميع أحوال النفوس وقادرا على تحصيل مطالبها من تحصيل المنافع ودفع المضار ومن إيصال الثواب إليها على كل الطاعات وإيصال العقاب إليها على كل المعاصي وهذا هو المراد من قوله قائم على كل نفس بما كسبت وما ذاك إلا الحق سبحانه ونظيره قوله تعالى قائما بالقسط آل عمران 18(19/44)
واعلم أنه لا بد لهذا الكلام من جواب واختلفوا فيه على وجوه
الوجه الأول التقدير أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كمن ليس بهذه الصفة وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضر وهذا الجواب مضمر في قوله تعالى وجعلوا لله شركاء والتقدير أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم التي لا تضر ولا تنفع ونظيره قوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور ربه الزمر 22 وما جاء جوابه لأنه مضمر في قوله فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله الزمر 22 فكذا ههنا قال صاحب الكشاف يجوز أن يقدر ما يقع خبرا للمبتدأ أو يعطف عليه قوله وجعلوا والتقدير أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه ولم يمجدوه وجعلوا له شركاء
الوجه الثاني وهو الذي ذكره السيد صاحب حل العقد فقال نجعل الواو في قوله وجعلوا واو الحال ونضمر للمبتدأ خبرا يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإمكان ما يقارنها من الحال والتقدير أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود والحال أنهم جعلوا له شركاء ثم أقيم الظاهر وهو قوله لله مقام المضمر تقريرا للإلهية وتصريحا بها وهذا كما تقول جواد يعطي الناس ويغنيهم موجود ويحرم مثلي
واعلم أنه تعالى لما قرر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال قل سموهم وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكروا ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال سمه إن شئت يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل فكأنه تعالى قال سموهم بالآلهة على سبيل التهديد والمعنى سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها ثم زاد في الحجاج فقال أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض والمراد أتقدرون على أن تخبروه وتعلموه بأمر تعلمونه وهو لا يعلمه وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن شريك البتة لأنهم ادعوا أن له شركاء في الأرض لا في غيرها أم بظاهر من القول يعني تموهون بإظهار قول لا حقيقة له وهو كقوله تعالى ذلك قولهم بأفواههم التوبة 30 ثم إنه تعالى بين بعد هذا الحجاج سوء طريقتهم فقال على وجه التحقير لما هم عليه بل زين للذين كفروا مكرهم قال الواحدي معنى بل ههنا كأنه يقول دع ذكر ما كنا فيه زين لهم مكرهم وذلك لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على إفساد قولهم فكأنه يقول دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل قال القاضي لا شبهة في أنه تعالى إنما ذكر ذلك لأجل أن يذمهم به وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله بل لا بد وأن يكون إما شياطين الإنس وإما شياطين الجن
واعلم أن هذا التأويل ضعيف لوجوه الأول أنه لو كان المزين أحد شياطين الجن أو الأنس فالمزين في قلب ذلك الشيطان إن كان شيطانا آخر لزم التسلسل وإن كان هو الله فقد زال السؤال والثاني أن يقال القلوب لا يقدر عليها إلا الله والثالث أنا قد دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله تعالى وعند حصوله يجب الفعل
أما قوله وصدوا عن السبيل فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي وصدوا بضم الصاد وفي حم وصد عن السبيل غافر 37 على ما لم يسم فاعله بمعنى أن الكفار صدهم غيرهم وعند أهل السنة أن الله صدهم وللمعتزلة فيه وجهان قيل الشيطان وقيل أنفسهم وبعضهم لبعض كما يقال فلان معجب وإن(19/45)
لم يكن ثمة غيره وهو قول أبي مسلم والباقون وصدوا بفتح الصاد في السورتين يعني أن الكفار صدوا عن سبيل الله أي أعرضوا وقيل صرفوا غيرهم وهو لازم ومتعد وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول وحجة القراءة الثانية قوله الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
ثم قال ومن يضلل الله فما له من هاد اعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية من وجوه أولها قوله بل زين للذين كفروا مكرهم وقد بينا بالدليل أن ذلك المزين هو الله وثانيها قوله وصدوا عن البسيل بضم الصاد وقد بينا أن ذلك الصاد هو الله وثالثها قوله ومن يضلل الله فما له من هاد وهو صريح في المقصود وتصريح بأن ذلك المزين وذلك الصاد ليس إلا الله ورابعها قوله تعالى لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق أخبر عنهم أنهم سيقعون في عقاب الآخرة وإخبار الله ممتنع التغير وإذا امتنع وقوع التغير في هذا الخبر امتنع صدور اٌ يمان منه وكل هذه الوجوه لقد لخصناها في هذا الكتاب مرارا قال القاضي من يضلل الله أي عن ثواب الجنة لكفره وقوله فما له من هاد منبئ بذلك أن الثواب لا ينال إلا بالطاعة خاصة فمن زاغ عنها لم يجد إليها سبيلا وقيل المراد بذلك من حكم بأنه ضال وسماه ضالا وقيل المراد من يضلله الله عن الإيمان بأن يجده كذلك ثم قال والوجه الأول أقوى
واعلم أن الوجه الأول ضعيف جدا لأن الكلام إنما وقع في شرح إيمانهم وكفرهم في الدنيا ولم يجر ذكر ذهابهم إلى الجنة البتة فصرف الكلام عن المذكور إلى غير المذكور بعيد وأيضا فهب أن نساعد على أن الأمر كما ذكرووه إلا أنه تعالى لما أخبر أنهم لا يدخلون الجنة فقد حصل المقصود لأن خلاف معلوم الله ومخبره محال ممتنع الوقوع
واعلم أنه تعالى لما أخبر عنهم بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة الذي هو أشق وأنه لا دافع لهم عنه لا في الدنيا ولا في الآخرة أما عذاب الدنيا فبالقتل والقتال واللعن والذم والإهانة وهل ديخل المصائب والأمراض في ذلك أم لا اختلفوا فيه قال بعضهم إنها تدخل فيه وقال بعضهم إنها تكون عقابا لأن كل أحد نزلت به مصيبة فإنه مأمور بالصبر عليها ولو كان عقابا لم يجب ذلك فالمراد على هذا القول من الآية القتل والسبي واغتنام الأموال واللعن وإنما قال ولعذاب الآخرة أشق لأنه أزيد إن شئت بسبب القوة والشدة وإن شئت بسبب كثرة الأنواع وإن شئت بسبب أنه لا يختلط بها شيء من موجبات الراحة وإن شئت بسبب الدوام وعدم الانقطاع ثم بين بقوله وما لهم من الله من واق أي أن أحدا لا يقيهم ما نزل بهم من عذاب الله قال الواحدي أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء في قوله واق وكذلك في قوله ومن يضلل الله فما له من هاد وكذلك في قوله وال الرعد 1 وهو الوجه لأنك تقول في الوصل هذا هاد ووال وواق فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين فإذا وقفت انحذفت التنوين في الوقف في الرفع والجر والياء كانت انحذفت فيصادف الوقف الحركة التي هي كسرة في غير فاعل فتحذفها كما تحذف سائر الحركات التي تقف عليها فيصير هاد ووال وواق وكان ابن كثير يقف بالياء في هاجي ووالي وواقي ووجهه ما حكى سيبويه أن بعض من يوثق به من العرب يقول هذا داعي فيقفون بالياء(19/46)
قوله تعالى
مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين وفي قوله مثل الجنة أقوال الأول قال سيبويه مثل الجنة مبتدأ وخبره محذوف والتقدير فيما قصصنا عليكم مثل الجنة والثاني قال الزجاج مثل الجنة من صفتها كذا وكذا والثالث مثل الجنة مبتدأ وخبره تجري من تحتها الأنهار كما تقول صفة زيد اسم والرابع الخبر هو قوله أكلها دائم لأنه الخارج عن العادة كأنه قال مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه أكلها دائم
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث أولها تجري من تحتها الأنهار وثانيها أن أكلها دائم والمعنى أن جنات الدنيا لا يدوم ورقها وثمرها ومنافعها أما جنات الآخرة فثمارها دائمة غير منقطعة وثالثها أن ظلها دائم أيضاً والمراد أنه ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ونظيره قوله تعالى لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بين أن ذلك عقبى الذين اتقوا يعني عاقبة أهل التقوى هي الجنة وعاقبة الكافرين النار وحاصل الكلام من هذه الآية أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب موصوفة بصفة الدوام
واعلم أن قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ فيه مسائل ثلاث
المسألة الأولى أنه يدل على أن أكل الجنة لا تفنى كما يحكى عن جهم وأتباعه
المسألة الثانية أنه يدل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه
المسألة الثالثة قال القاضي هذه الآية تدل على أن الجنة لم تخلق بعد لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وأن ينقطع أكلها لقوله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) و كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) لكن لا ينقطع أكلها لقوله تعالى أُكُلُهَا دَائِمٌ فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة ثم قال فلا ننكر أن يحصل الآن في السموات جنات كثيرة يتمتع بها الملائكة ومن يعد حياً من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ما روي في ذلك إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة
والجواب أن دليلهم مركب من آيتين أحدهما قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ والأخرى قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا فإذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمومين سقط دليلهم فنحن نخصص أحد هذين العمومين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة وهو قوله تعالى وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 )(19/47)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاٌّ حْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ
اعلم أن في المراد بالكتاب قولين الأول أنه القرآن والمراد أن أهل القرآن يفرحون بما أنزل على محمد من أنواع التوحيد والعدل والنبوة والبعث والأحكام والقصص ومن الأحزاب الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار من ينكر بعضه وهو قول الحسن وقتادة
فإن قيل الأحزاب ينكرون كل القرآن
قلنا الأحزاب لا ينكرون كل ما في القرآن لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء والأحزاب ما كانوا ينكرون كل هذه الأشياء
والقول الثاني إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل وعلى هذا التقدير ففي الآية قولان الأول قال ابن عباس الذين آتيناهم الكتاب هم الذين آمنوا بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بأرض الحبشة وفرحوا بالقرآن لأنهم آمنوا به وصدقوه والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين قال القاضي وهذا الوجه أولى من الأول لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن أما إذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة ويمكن أن يقال إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة فلهذا السبب حكى الله تعالى فرحهم به والثاني والذين آتيناهم الكتاب اليهود أعطوا التوارة والنصارى أعطوا الإنجيل يفرحون بما أنزل في هذا القرآن لأنه مصدق لما معهم ومن الأحزاب من سائر الكفار من ينكر بعضه وهو قول مجاهد قال القاضي وهذا لا يصح لأن قوله يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ يعم جميع ما أنزل إليه ومعلوم أنهم لا يفرحون بكل ما أنزل إليه ويمكن أن يجاب فيقال إن قوله بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ لا يفيد العموم بدليل جواز ادخال لفظتي الكل والبعض عليه ولو كانت كلمة ( ما ) للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة منه فقال قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَابِ وهذا الكلام جامع لكل ما ورد التكليف به وفيه فوائد أولها أن كلمة ( إنما ) للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك وثانيها أن العبادة غاية التعظيم وذلك يدل على أن المرء مكلف بذلك وثالثها أن عبادة الله تعالى لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل فهذا يدل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه ورابعها أن عبادة الله واجبة(19/48)
وهو يبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المحض وخامسها قوله وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ وهذا يدل على نفي الشركاء والأنداد والأضداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى سواء قال إن ذلك المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب أو الأصنام والأوثان والأرواح العلوية أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية وسادسها قوله إِلَيْهِ ادْعُواْ والمراد منه أنه كما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات فكذلك يجب عليه الدعوة إلى عبودية الله تعالى وهو إشارة إلى نبوته وسابعها قوله وَإِلَيْهِ مَابِ وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة ووقف عليها عرف أنها محتوية على جميع المطالب المعتبرة في الدين
وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ وَاقٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل إلى ما تقدم من الأنبياء أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم كذلك أنزلنا عليك القرآن والكناية في قوله أَنزَلْنَاهُ تعود إلى ( ما ) في قوله يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ يعني القرآن
المسألة الثانية قوله أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا فيه وجوه الأول حكمة عربية مترجمة بلسان العرب الثاني القرآن مشتمل على جميع أقسام التكاليف فالحكم لا يمكن إلا بالقرآن فلما كان القرآن سبباً للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة الثالث أنه تعالى حكم على جميع المكلفين بقبول القرآن والعمل به فلما حكم على الخلق بوجوب قبوله جعله حكماً
واعلم أن قوله حُكْمًا عَرَبِيّا نصب على الحال والمعنى أنزلناه حال كونه حكماً عربياً
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية دالة على حدوث القرآن من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث الثاني أنه وصفه بكونه عربياً والعربي هو الذي حصل بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاً الثالث أن الآية دالة على أنه إنما كان حكماً عربياً لأن الله تعالى جعله كذلك ووصفه بهذه الصفة وكل ما كان كذلك فهو محدث
والجواب أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه والله أعلم
المسألة الرابعة روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائه فتوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد أن حوله الله عنها قال ابن عباس الخطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد أمته وقيل بل الغرض منه حث الرسول عليه السلام على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها ويتضمن(19/49)
ذلك أيضاً تحذير جميع المكلفين لأن من هو أرفع منزلة إذا حذر هذا التحذير فهم أحق بذلك وأولى
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّة ً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِى َ بِأايَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ
اعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشبهات في إبطال نبوته
فالشبهة الأولى قولهم لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ ( الفرقان 7 ) وهذه الشبهة إنما ذكرها الله تعالى في سورة أخرى
والشبهة الثانية قولهم الرسول الذي يرسله الله إلى الخلق لا بد وأن يكون من جنس الملائكة كما حكى الله عنهم في قوله لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 ) وقوله لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( الأنعام 8 )
فأجاب الله تعالى عنه ههنا بقوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّة ً يعني أن الأنبياء الذين كانوا قبله كانوا من جنس البشر لا من جنس الملائكة فإذا جاز ذلك في حقهم فلم لا يجوز أيضاً مثله في حقه
الشبهة الثالثة عابوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكثرة الزوجات وقالوا لو كان رسولاً من عند الله لما كان مشتغلاً بأمر النساء بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّة ً وبالجملة فهذا الكلام يصلح أن يكون جواباً عن الشبهة المتقدمة ويصلح أن يكون جواباً عن هذه الشبهة فقد كان لسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة مهيرة وسبعمائة سرية ولداود مائة امرأة
والشبهة الرابعة قالوا لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبنا منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس برسول فأجاب الله عنه بقوله وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِى َ بِئَايَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وتقريره أن المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر والعلة وفي إظهار الحجة والبينة فأما الزائد عليها فهو مفوض إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها ولا اعتراض لأحد عليه في ذلك
الشبهة الخامسة أنه عليه السلام كان يخوفهم بنزول العذاب وظهور النصرة له ولقومه ثم إن ذلك الموعود كان يتأخر فلما لم يشاهدوا تلك الأمور احتجوا بها على الطعن في نبوته وقالوا لو كان نبياً صادقاً لما ظهر كذبه
فأجاب الله عنه بقوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ يعني نزول العذاب على الكفار وظهور الفتح والنصر للأولياء قضى الله بحصولها في أوقات معينة مخصوصة ولكل حادث وقت معين وَلِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ فقبل حضور(19/50)
ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث فتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كاذباً
الشبهة السادسة قالوا لو كان في دعوى الرسالة محقاً لما نسخ الأحكام التي نص الله تعالى على ثوبتها في الشرائع المتقدمة نحو التوراة والإنجيل لكنه نسخها وحرفها نحو تحريف القبلة ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل فوجب أن لا يكون نبياً حقاً
فأجاب الله سبحانه وتعالى عنه بقوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ويمكن أيضاً أن يكون قوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ كالمقدمة لتقرير هذا الجواب وذلك لأنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة ثم يبقيه مدة مخصوصة ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً ثم يميت ثانياً فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات ثم ينسخه في سائر الأوقات فكان المراد من قوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ ما ذكرناه ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ والمعنى أنه يوجد تارة ويعدم أخرى ويحيي تارة ويميت أخرى ويغني تارة ويفقر أخرى فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما اقتضته المشيئة الإلهية عند أهل السنة أو بحسب ما اقتضته رعاية المصالح عند المعتزلة فهذا اتمام التحقيق في تفسير هذه الآية ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ فيه أقوال الأول أن لكل شيء وقتاً مقدراً فالآيات التي سألوها لها وقت معين حكم الله به وكتبه في اللوح المحفوظ فلا يتغير عن ذلك الحكم بسبب تحكماتهم الفاسدة ولو أن الله أعطاهم ما التمسوا لكان فيه أعظم الفساد الثاني أن لكل حادث وقتاً معيناً قضى الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة ولا يتغير ألبتة عن ذلك الوقت والثالث أن هذا من المقلوب والمعنى أن لكل كتاب منزل من السماء أجلاً ينزله فيه أي لكل كتاب وقت يعمل به فوقت العمل بالتوراة والإنجيل قد انقضى ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر والرابع لكل أجل معين كتاب عند الملائكة الحفظة فللانسان أحوال أولها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يصير شاباً ثم شيخاً وكذا القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحسن والقبح الخامس كل وقت معين مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعلمها إلا الله تعالى فإذا جاء ذلك الوقت حدث ذلك الحادث ولا يجوز حدوثه في غيره واعلم أن هذه الآية صريحة في أن الكل بقضاء الله وبقدره وأن الأمور مرهونة بأوقاتها لأن قوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ معناه أن تحت كل أجل حادث معين ويستحيل أن يكون ذلك التعيين لأجل خاصية الوقت فإن ذلك محال لأن الأجزاء المعروضة في الأوقات المتعاقبة متساوية فوجب أن يكون اختصاص كل وقت بالحادث الذي يحدث فيه بفعل الله تعالى واختياره وذلك يدل على أن الكل من الله تعالى وهو نظير قوله عليه السلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة )
المسألة الثانية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وَيُثَبّتْ ساكنة الثاء خفيفة الباء من أثبت يثبت والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء من التثبيت وحجة من خفف أن ضد المحو الإثبات لا التثبت ولأن التشديد للتكثير وليس القصد بالمحو التكثير فكذلك ما يكون في مقابلته ومن شدد احتج بقوله وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ( النساء 66 ) وقوله فَثَبّتُواْ ( الأنفال 12 )(19/51)
المسألة الثالثة المحو ذهاب أثر الكتابة يقال محاه يمحوه محواً إذا أذهب أثره وقوله وَيُثَبّتْ قال النحويون أراد ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية للفعل الأول عن تعدية الثاني وهو كقوله تعالى وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ( الأحزاب 35 )
المسألة الرابعة في هذه الآية قولان
القول الأول إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا إن الله يمحو من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض وعلى هذا التقرير ففي الآية وجوه الأول المراد من المحو والإثبات نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر بدلاً عن الأول الثاني أنه تعالى يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتابة كل قول وفعل ويثبت غيره وطعن أبو بكر الأصم فيه فقال إنه تعالى وصف الكتاب بقوله لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) وقال أيضاً فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 )
أجاب القاضي عنه بأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الذنوب والمباح لا صغيرة ولا كبيرة وللأصم أن يجيب عن هذا الجواب فيقول إنكم باصطلاحكم خصصتم الصغيرة بالذنب الصغير والكبيرة بالذنب الكيبر وهذا مجرد اصطلاح المتكلمين أما في أصل اللغة فالصغير والكبير يتناولان كل فعل وعرض لأنه إن كان حقيراً فهو صغير وإن كان غير ذلك فهو كبير وعلى هذا التقرير فقوله لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) يتناول المباحات أيضاً الثالث أنه تعالى أراد بالمحو أن من أذنب أثبت ذلك الذنب في ديوانه فإذا تاب عنه محى من ديوانه الرابع يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وهو من جاء أجله ويدع من لم يجيء أجله ويثبته الخامس أنه تعالى يثبت في أول السنة حكم تلك السنة فإذا مضت السنة محيت وأثبت كتاب آخر للمستقبل السادس يمحو نور القمر ويثبت نور الشمس السابع يمحو الدنيا ويثبت الآخرة الثامن أنه في الأرزاق والمحن والمصائب يثبتها في الكتاب ثم يزيلها بالدعاء والصدقة وفيه حث على الانقطاع إلى الله تعالى التاسع تغير أحوال العبد فما مضى منها فهو المحو وما حصل وحضر فهو الإثبات العاشر يزيل ما يشاء ويثبت ما يشاء من حكمه لا يطلع على غيبه أحداً فهو المنفرد بالحكم كما يشاء وهو المستقل بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار بحيث لا يطلع على تلك الغيوب أحد من خلقه
واعلم أن هذا الباب فيه مجال عظيم
فإن قال قائل ألستم تزعمون أن المقادير سابقة قد جف بها القلم وليس الأمر بأنف فكيف يستقيم مع هذا المعنى المحو والإثبات
قلنا ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه(19/52)
المسألة الخامسة قالت الرافضة البداء جائز على الله تعالى وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده وتمسكوا فيه بقوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ
واعلم أن هذا باطل لأن علم الله من لوازم ذاته المخصوصة وما كان كذلك كان دخول التغير والتبدل فيه محالاً
المسألة السادسة أما أُمُّ الْكِتَابِ فالمراد أصل الكتاب والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أماً له ومنه أم الرأس للدماغ وأم القرى لمكة وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب وفيه قولان
القول الأول أن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ وجميع حوادث العالم العلوي والعالم السفلي مثبت فيه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كان الله ولا شيء معه ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة ) قال المتكلمون الحكمة فيه أن يظهر للملائكة كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات على سبيل التفصيل وعلى هذا التقدير فعند الله كتابان أحدهما الكتاب الذي يكتبه الملائكة على الخلق وذلك الكتاب محل المحو والإثبات والكتاب الثاني هو اللوح المحفوظ وهو الكتاب المشتمل على تعين جميع الأحوال العلوية والسفلية وهو الباقية روى أبو الدرداء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن الله سبحانه وتعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وللحكماء في تفسير هذين الكتابين كلمات عجيبة وأسرار غامضة
والقول الثاني إن أم الكتاب هو علم الله تعالى فإنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الموجودات والمعدومات وإن تغيرت إلا أن علم الله تعالى بها باق منزه عن التغير فالمراد بأم الكتاب هو ذاك والله أعلم
وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ
اعلم أن المعنى وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ من العذاب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك والمعنى سواء أريناك ذلك أو توفيناك قبل ظهوره فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء أمانته ورسالته وعلينا الحساب والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ كالسراج والأداء
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ(19/53)
اعلم أنه تعالى لما وعد رسوله بأن يريه بعض ما وعدوه أو يتوفاه قبل ذلك بين في هذه الآية أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت وقوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا فيه أقوال
القول الأول المراد أنا نأتي أرض الكفرة ننقصها من أطرافها وذلك لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الكفرة قهراً وجبراً فانتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات والأمارات على أن الله تعالى ينجز وعده ونظيره قوله تعالى أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الأنبياء 44 ) وقوله سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ ( فصلت 53 )
والقول الثاني وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا المراد موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصلحاء والأخيار وقال الواحدي وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول ويمكن أن يقال هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع وتقريره أن يقال أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة وموت بعد حياة وذل بعد عز ونقص بعد كمال وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة فيجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين ويجعلهم مقهورين بعد أن كانوا قاهرين وعلى هذا الوجه فيحسن اتصال هذا الكلام بما قبله وقيل نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع
ثم قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ معناه لا راد لحكمه والمعقب هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب
فإن قيل ما محل قوله لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ
قلنا هو جملة محلها النصب على الحال كأنه قيل والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع
ثم قال وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ قال ابن عباس يريد سريع الانتقام يعني أن حسابه للمجازاة بالخير والشر يكون سريعاً قريباً لا يدفعه دافع
أما قوله وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يعني أن كفار الأمم الماضية قد مكروا برسلهم وأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم وفرعون مكر بموسى واليهود مكروا بعيسى
ثم قال فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا قال الواحدي معناه أن مكر جميع الماكرين له ومنه أي هو حاصل بتخليقه وإرادته لأنه ثبت أن الله تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد وأيضاً فذلك المكر لا يضر إلا بإذن الله تعالى ولا يؤثر إلى بتقديره وفيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأمان له من مكرهم كأنه قيل له إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره من الممكور به أيضاً من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى وأن لا يكون الرجاء إلا من(19/54)
الله تعالى وذهب بعض الناس إلى أن المعنى فلله جزاء المكر وذلك لأنهم لما مكروا بالمؤمنين بين الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم قال الواحدي والأول أظهر لقولين بدليل قوله يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ يريد أن اكساب العباد بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك فكان الكل من الله تعالى قالت المعتزلة الآية الأولى إن دلت على قولكم فالآية الثانية وهي قوله يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ دلت على قولنا لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة ولو كان حدوث الفعل بخلق الله تعالى لم يكن لقدرة العبد فيه أثر فوجب أن لا يكون للعبد كسب
وجوابه أن مذهبنا أن مجموع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال وَسَيَعْلَمْ الْكَافِرُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وَسَيَعْلَمْ الْكَافِرُ على لفظ المفرد والباقون على الجمع قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ( الكفار والكافرون والذين كفروا والكفر ) أي أهله قرأ جناح بن حبيش ( وسيعلم الكافر ) من أعلمه أي سيخبر
المسألة الثانية المراد بالكافر الجنس كقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 2 ) والمعنى إنهم وإن كانوا جهالاً بالعواقب فسيعلمون لمن العاقبة الحميدة وذلك كالزجر والتهديد
والقول الثاني وهو قول عطاء يريد المستهزئين وهم خمسة والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون
والقول الثالث وهو قول ابن عباس يريد أبا الجهل والقول الأول هو الصواب
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
اعلم أنه تعالى حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله ثم إنه تعالى احتج عليهم بأمرين الأول شهادة الله على نبوته والمراد من تلك الشهادة أنه تعالى أظهر المعجزات الدالة على كونه صادقاً في ادعاء الرسالة وهذا أعلى مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كذلك أما المعجز فإنه فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله تعالى فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة والثاني قوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ وفيه قراءتان إحداهما القراءة المشهورة وَمَنْ عِندَهُ يعني والذي عنده علم الكتاب والثانية وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ وكلمة ( من ) ههنا لابتداء الغاية أي ومن عند الله حصل علم الكتاب أما على القراءة الأولى ففي تفسير الآية أقوال
القول الأول أن المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم عبد الله بن سلام وسلمان(19/55)
الفارسي وتميم الداري ويروى عن سعيد بن جبير أنه كان يبطل هذا الوجه ويقول السورة مكية فلا يجوز أن يراد به ابن سلام وأصحابه لأنهم آمنوا في المدينة بعد الهجرة وأجيب عن هذا السؤال بأن قيل هذه السورة وإن كانت مكية إلا أن هذه الآية مدنية وأيضاً فإثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين عن الكذب لا يجوز وهذا السؤال واقع
القول الثاني أراد بالكتاب القرآن أي أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر وبرهان باهر إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزاً إلا لمن علم ما في هذا الكتاب من الفصاحة والبلاغة واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة فمن عرف هذا الكتاب على هذا الوجه علم كونه معجزاً فقوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ أي ومن عنده علم القرآن وهو قول الأصم
القول الثالث ومن عنده علم الكتاب المراد به الذي حصل عنده علم التوراة والإنجيل يعني أن كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذب كان شاهداً على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رسول حق من عند الله تعالى
القول الرابع ومن عنده علم الكتاب هو الله تعالى وهو قول الحسن وسعيد بن جبير والزجاج قال الحسن لا والله ما يعني إلا الله والمعنى كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم وقال الزجاج الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره وهذا القول مشكل لأن عطف الصفة على الموصوف وإن كان جائزاً في الجملة إلا أنه خلاف الأصل لا يقال شهد بهذا زيد والفقيه بل يقال شهد به زيد الفقيه وأما قوله إن الله تعالى لا يستشهد بغيره على صدق حكمه فبعيد لأنه لما جاز أن يقسم الله تعالى على صدق قوله بقوله وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ ( التين 1 ) فأي امتناع فيما ذكره الزجاج
وأما القراءة الثانية وهي قوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ على من الجارة فالمعنى ومن لدنه علم الكتاب لأن أحداً لا يعلم الكتاب إلا من فضله وإحسانه وتعليمه ثم على هذه القراءة ففيه أيضاً قراءتان ومن عنده علم الكتاب والمراد العلم الذي هو ضد الجهل أي هذا العلم إنما حصل من عند الله
والقراءة الثانية ومن عنده علم الكتاب بضم العين وبكسر اللام وفتح الميم على ما لم يسم فاعله والمعنى أنه تعالى لما أمر نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله تعالى على ما ذكرناه وكان لا معنى لشهادة الله تعالى على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه ولا يعلم كون القرآن معجزاً إلا بعد الإحاطة بما في القرآن وأسراره بين تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله والمعنى أن الوقوف على كون القرآن معجزاً لا يحصل إلا إذا شرف الله تعالى ذلك العبد بأن يعلمه علم القرآن والله تعالى أعلم بالصواب
تم تفسير هذه السورة يوم الأحد الثامن عشر من شعبان سنة إحدى وستمائة وأنا ألتمس من كل من نظر في كتابي هذا وانتفع به أن يخص ولدي محمداً بالرحمة والغفران وأن يذكرني بالدعاء وأقول في مرثية ذلك الولد شعراً أرى معالم هذا العالم الفاني
ممزوجة بمخافات وأحزان
خيراته مثل أحلام مفزعة
وشره في البرايا دائم داني(19/56)
سورة إبراهيم
مكية إلا آيتي 28 و 29 فمدنيتان
وآياتها 52 نزلت بعد سورة نوح
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
سورة إبراهيم
عليه السلام خمسون وآيتان مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أن الكلام في أن هذه السورة مكية أو مدنية طريقه الآحاد ومتى لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام الشرعية فنزولها بمكة والمدينة سواء وإنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل فيه ناسخ ومنسوخ فيكون فيه فائدة عظيمة وقوله الر كِتَابٌ معناه أن السورة المسماة بالر كتاب أنزلناه إليك لغرض كذا وكذا فقوله الر مبتدأ وقوله كِتَابٌ خبره وقوله أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ صفة لذلك الخبر وفيه مسائل
المسألة الأولى دلت هذه الآية على أن القرآن موصوف بكونه منزلاً من عند الله تعالى قالت المعتزلة النازل والمنزل لا يكون قديماً
وجوابنا أن الموصوف بالنازل والمنزل هو هذه الحروف وهي محدثة بلا نزاع
المسألة الثانية قالت المعتزلة اللام في قوله لِتُخْرِجَ النَّاسَ لام الغرض والحكمة وهذا يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض وذلك يدل على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة برعاية المصالح
أجاب أصحابنا عنه بأن من فعل فعلاً لأجل شيء آخر فهذا إنما يفعله لو كان عاجزاً عن تحصيل هذا المقصود إلا بهذه الواسطة وذلك في حق الله تعالى محال وإذا ثبت بالدليل أن يمتنع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل ثبت أن كل ظاهر أشعر به فإنه مؤول محمول على معنى آخر(19/57)
المسألة الثالثة إنما شبه الكفر بالظلمات لأنه نهاية ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية وشبه الإيمان بالنور لأنه نهاية ما ينجلي به طريق هدايته
المسألة الرابعة قال القاضي هذه الآية فيها دلالة على إبطال القول بالجبر من جهات أحدها أنه تعالى لو كان يخلق الكفر في الكافر فكيف يصح إخراجه منه بالكتاب وثانيها أنه تعالى أضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فإن كان خالق ذلك الكفر هو الله تعالى فكيف يصح من الرسول عليه الصلاة والسلام إخراجهم منه وكان للكافر أن يقول إنك تقول إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصح منك أن تخرجنا منه فإن قال لهم أنا أخرجكم من الظلمات التي هي كفر مستقبل لا واقع فلهم أن يقولوا إن كان تعالى سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج وإن لم يخلقه فنحن خارجون منه بلا إخراج وثالثها أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليهم ليتدبروه وينظروا فيه فيعلموا بالنظر والاستدلال كونه تعالى عالماً قادراً حكيماً ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وحينئذ يقبلوا منه كل ما أداه إليهم من الشرائع وذلك لا يصح إلا إذا كان الفعل لهم ويقع باختيارهم ويصح منهم أن يقدموا عليه ويتصرفوا فيه
والجواب عن الكل أن نقول الفعل الصادر من العبد إما أن يصدر عنه حال استواء الداعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر والأول باطل لأن صدور الفعل رجحان لجانب الوجود على جانب العدم وحصول الرجحان حال حصول الاستواء محال والثاني عين قولنا لأنه يمتنع صدور الفعل عنه إلا بعد حصول الرجحان فإن كان ذلك الرجحان منه عاد السؤال وإن لم يكن منه بل من الله تعالى فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وذلك هو المطلوب والله أعلم
المسألة الخامسة احتج أصحابنا على صحة قولهم في أن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله تعالى بِإِذْنِ رَبّهِمْ فإن معنى الآية أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بإذن ربهم والمراد بهذا الإذن إما الأمر وإما العلم وإما المشيئة والخلق وحمل الإذن على الأمر محال لأن الإخراج من الجهل إلى العلم لا يتوقف على الأمر فإنه سواء حصل الأمر أو لم يحصل فإن الجهل متميز عن العلم والباطل متميز عن الحق وأيضاً حمل الإذن على العلم محال لأن العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه فالعلم بالخروج من الظلمات إلى النور تابع لذلك الخروج ويمتنع أن يقال إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج ولما بطل هذان القسمان لم يبق إلا أن يكون المراد من الإذن المشيئة والتخليق وذلك يدل على أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف
قلنا لفظ اللطف لفظ مجمل ونحن نفصل القول فيه فنقول المراد بالإذن إما أن يكون أمراً يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم أو لا يقتضي ذلك فإن كان الثاني لم يكن فيه أمر ألبتة فامتنع أن يقال إنه مما حصل بسببه ولأجله فبقي الأول وهو أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم وقد دللنا في ( الكتب العقلية ) على أنه متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو عين قولنا والله أعلم(19/58)
المسألة السادسة القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والإمام احتجوا عليه بهذه الآية وقالوا إنه تعالى صرح في هذه الآية بأن الرسول هو الذي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وذلك يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم
وجوابنا أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يكون كالمنبه وأما المعرفة فهي إنما تحصل بالدليل والله أعلم
المسألة السابعة الآية دالة على أن طرق الكفر والبدعة كثيرة وأن طريق الخير ليس إلا الواحد لأنه تعالى قال لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فعبر عن الجهل والكفر بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهداية بالنور وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أن طرق الجهل كثيرة وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا الواحد
المسألة الثامنة في قوله تعالى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وجهان الأول أنه بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل كقوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ( الأعراف 75 ) الثاني يجوز أن يكون على وجه الاستئناف كأنه قيل إلى أي نور فقيل إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
المسألة التاسعة قالت المعتزلة الفاعل إنما يكون آتياً بالصواب والصلاح تاركاً للقبيح والعبث إذا كان قادراً على كل المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات فإنه إن لم يكن قادراً على الكل فربما فعل القبيح بسبب العجز وإن لم يكن عالماً بكل المعلومات فربما فعل القبيح بسبب الجهل وإن لم يكن غنياً عن كل الحاجات فربما فعل القبيح بسبب الحاجة أما إذا كان قادراً على الكل عالماً الكل غنياً عن الكل امتنع منه الإقدام على فعل القبيح فقوله الْعَزِيزُ إشارة إلى كمال القدرة وقوله الْحَمِيدِ إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد في كل أفعاله وذلك إنما يحصل إذا كان عالماً بالكل غنياً عن الكل فثبت بما ذكرنا أن صراط الله إنما كان موصوفاً بكونه شريفاً رفيعاً عالياً لكونه صراطاً مستقيماً للإله الموصوف بكونه عزيزاً حميداً فلهذا المعنى وصف الله نفسه بهذين الوصفين في هذا المقام
المسألة العاشرة إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً ثم بعد ذلك العلم بكونه غنياً عن الحاجات والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً بالكل غنياً عن الكل لا جرم قدم الله ذكر العزيز على ذكر الحميد والله أعلم
اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا عَلَى الاٌّ خِرَة ِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ(19/59)
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر اللَّهِ مرفوعاً بالابتداء وخبره ما بعده وقيل التقدير هو الله والباقون بالجر عطفاً على قوله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وههنا بحث وهو أن جماعة من المحققين ذهبوا إلى أن قولنا الله جار مجرى الإسم العلم لذات الله تعالى وذهب قوم آخرون إلى أن لفظ مشتق والحق عندنا هو الأول ويدل عليه وجوه الأول أن الاسم المشتق عبارة عن شيء ما حصل له المشتق منه فالأسود مفهومه شيء ما حصل له السواد والناطق مفهومه شيء ما حصل له النطق فلو كان قولنا الله اسماً مشتقاً من معنى لكان المفهوم منه أنه شيء ما حصل له ذلك المشتق منه وهذا المفهوم كلي لا يمتنع من حيث هو هو عن وقوع الشركة فيه فلو كان قولنا الله لفظاً مشتقاً لكان مفهومه صالحاً لوقوع الشركة فيه ولو كان الأمر كذلك لما كان قولنا لا إله إلا الله موجباً للتوحيد لأن المستثنى هو قولنا الله وهو غير مانع من وقوع الشركة فيه ولما اجتمعت الأمة على أن قولنا لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا الله جارٍ مجرى الاسم العلم الثاني أنه كلما أردنا أن نذكر سائر الصفات والأسماء ذكرنا أولاً قولنا الله ثم وصفناه بسائر الصفات كقولنا هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس ولا يمكننا أن نعكس الأمر فنقول الرحمن الرحيم الله فعلمنا أن الله هو اسم علم للذات المخصوصة وسائر الألفاظ دالة على الصفات والنعوت الثالث أن ما سوى قولنا الله كلها دالة إما على الصفات السلبية كقولنا القدوس السلام أو على الصفات الإضافية كقولنا الخالق الرازق أو على الصفات الحقيقية كقولنا العالم القادر أو على ما يتركب من هذه الثلاثة فلو لم يكن قولنا الله اسماً للذات المخصوصة لكان جميع أسماء الله تعالى ألفاظاً دالة على صفاته ولم يحصل فيها ما يدل على ذاته المخصوصة وذلك بعيد لأنه يبعد أن لا يكون له من حيث إنه هو اسم مخصوص والرابع قوله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) والمراد هل تعلم من اسمه الله غير الله وذلك يدل على أن قولنا الله اسم لذاته المخصوصة وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن أن يذكر عقيبه الصفات كقوله تعالى هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىء الْمُصَوّرُ ( الحشر 24 ) فإما أن يعكس فيقال هو الخالق المصور البارىء الله فذلك غير جائز
وإذا ثبت هذا فنقول الذين قرؤا اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ بالرفع أرادوا أن يجعلوا قوله اللَّهِ مبتدأ ويجعلوا ما بعده خبراً عنه وهذا هو الحق الصحيح فأما الذين قرؤا اللَّهِ بالجر عطفاً على الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ فهو مشكل لما بينا أن الترتيب الحسن أن يقال الله الخالق وإما أن يقال الخالق الله فهذا لا يحسن وعند هذا اختلفوا في الجواب على وجوه الأول قال أبو عمرو بن العلاء القراءة بالخفض على التقديم والتأخير والتقدير صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات والثاني أنه لا يبعد أن يذكر الصفة أولاً ثم يذكر الاسم ثم يذكر الصفة مرة أخرى كما يقال مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه وهو بعينه نظير قوله صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وتحقيق القول فيه أنا بينا أن الصراط إنما يكون ممدوحاً محموداً إذا كان صراطاً للعالم القادر الغني والله تعالى عبر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ثم لما ذكر هذا المعنى وقعت الشبهة في أن ذلك العزيز من هو فعطف عليها قوله اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ إزالة لتلك الشبهة الثالث قال صاحب ( الكشاف ) الله عطف بيان للعزيز الحميد وتحقيق هذا القول ما قررناه فيما تقدم الرابع قد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن قولنا الله(19/60)
في أصل الوضع مشتق إلا أنه بالعرف صار جارياً مجرى الإسم العلم فحيث يبدأ بذكره ويعطف عليه سائر الصفات فذلك لأجل أنه جعل اسم علم وأما في هذه الآية حيث جعل وصفاً للعزيز الحميد فذاك لأجل أنه حمل على كونه لفظاً مشتقاً فلا جرم بقي صفة الخامس أن الكفار ربما وصفوا الوثن بكونه عزيزاً حميداً فلما قال لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بقي في خاطر عبدة الأوثان أنه ربما كان ذلك العزيز الحميد هو الوثن فأزال الله تعالى هذه الشبهة وقال اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أي المراد من ذلك العزيز الحميد هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض
المسألة الثانية قوله اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو ألبتة وذلك لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء فلو حصل ذات الله تعالى في جهة فوق لكان حاصلاً في السماء وهذه الآية دالة على أن كل ما في السموات فهو ملكه فلزم كونه ملكاً لنفسه وهو محال فدلت هذه الآية على أنه منزه عن الحصول في جهة فوق
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خالق لأعمال العباد لأنه قال لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وأعمال العباد حاصلة في السموات والأرض فوجب القول بأن أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله تعالى وإذا ثبت أنها مقدورة لله تعالى وجب وقوعها بقدرة الله تعالى وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره وذلك محال
واعلم أن قوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يفيد الحصر والمعنى أن ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره وذلك يدل على أنه لا مالك إلا الله ولا حاكم إلا الله ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال وَوَيْلٌ لّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ والمعنى أنهم لما تركوا عبادة الله تعالى الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما إلى عبادة ما لا يملك ضراً ولا نفعاً ويخلق ولا يخلق ولا إدراك لها ولا فعل فالويل ثم الويل لمن كان كذلك وإنما خص هؤلاء بالويل لأن المعنى يولولون من عذاب شديد ويصيحون منه ويقولون يا ويلاه ونظيره قوله تعالى دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ( الفرقان 13 ) ثم بين تعالى صفة هؤلاء الكافرين الذين توعدهم بالويل الذي يفيد أعظم العذاب وذكر من صفاتهم ثلاثة أنواع الأول قوله الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى إن شئت جعلت ( الذين ) صفة الكافرين في الآية المتقدمة وإن شئت جعلته مبتدأ وجعلت الخبر قوله أُوْلَائِكَ وإن شئت نصبته على الذم
المسألة الثانية الاستحباب طلب محبة الشيء وأقول إن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه لا يحب كونه محباً لذلك الشيء مثل من يميل طبعه إلى الفسق والفجور ولكنه يكره كونه محباً لهما أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محباً له وأحب تلك المحبة فهذا هو نهاية المحبة فقوله الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا يدل على كونهم في نهاية المحبة للحياة الدنيوية ولا يكون الإنسان كذلك إلا إذا كان غافلاً عن الحياة الأخروية وعن معايب هذه الحياة العاجلة ومن كان كذلك كان في نهاية الصفات المذمومة وذلك لأن هذه الحياة موصوفة بأنواع كثيرة من العيوب فأحدها أن بسبب هذه الحياة انفتحت أبواب الآلام والأسقام(19/61)
والغموم والهموم والمخاوف والأحزان وثانيها أن هذه اللذات في الحقيقة لا حاصل لها إلا دفع الآلام بخلاف اللذات الروحانية فإنها في أنفسها لذات وسعادات وثالثها أن سعادات هذه الحياة منغصة بسبب الانقطاع والإنقراض والانقضاء ورابعها أنها حقيرة قليلة وبالجملة فلا يحب هذه الحياة إلا من كان غافلاً عن معايبها وكان غافلاً عن فضائل الحياة الروحانية الأخروية ولذلك قال تعالى وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 17 ) فهذه الكلمة جامعة لكل ما ذكرناه
المسألة الثالثة إنما قال يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ لأن فيه إضماراً والتقدير يستحبون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليتبين بذلك أن الاستحباب للدنيا وحده لا يكون مذموماً إلا بعد أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة فأما من أحبها ليصل بها إلى منافع النفس وإلى خيرات الآخرة فإن ذلك لا يكون مذموماً حتى إذا آثرها على آخرته بأن اختار منها ما يضره في آخرته فهذه المحبة هي المحبة المذمومة
النوع الثاني من الصفات التي وصف الله الكفار بها قوله تعالى وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
واعلم أن من كان موصوفاً باستحباب الدنيا فهو ضال ومن منع الغير من الوصول إلى سبيل الله ودينه فهو مضل فالمرتبة الأولى إشارة إلى كونهم ضالين وهذه المرتبة الثانية وهي كونهم صادين عن سبيل الله إشارة إلى كونهم مضلين
والنوع الثالث من تلك الصفات قوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا واعلم أن الإضلال على مرتبتين
المرتبة الأولى أنه يسعى في صد الغير ومنعه من الوصول إلى المنهج القويم والصراط المستقيم
والمرتبة الثانية أن يسعى في إلقاء الشكوك والشبهات في المذهب الحق ويحاول تقبيح صفته بكل ما يقدر عليه من الحيل وهذا هو النهاية في الضلال والإضلال وإليه الإشارة بقوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا قال صاحب ( الكشاف ) الأصل في الكلام أن يقال ويبغون لها عوجاً فحذف الجار وأوصل الفعل ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب الثلاثة لأحوال هؤلاء الكفار قال في صفتهم أُوْلَئِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ وإنما وصف هذا الضلال بالبعد لوجوه
الوجه الأول أنا بينا أن أقصى مراتب الضلال هو الذي وصفه الله تعالى في هذه المرتبة فهذه المرتبة في غاية البعد عن طريق الحق فإن شرط الضدين أن يكونا في غاية التباعد مثل السواد والبياض فكذا ههنا الضلال الذي يكون واقعاً على هذا الوجه يكون في غاية البعد عن الحق فإنه لا يعقل ضلال أقوى وأكمل من هذا الضلال
والوجه الثاني أن يكون المراد أنه يبعد ردهم عن طريقة الضلال إلى الهدى لأنه قد تمكن ذلك في نفوسهم
والوجه الثالث أن يكون المراد من الضلال الهلاك والتقدير أولئك في هلاك يطول عليهم فلا ينقطع وأراد بالبعد امتداده وزوال انقطاعه(19/62)
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) كان هذا إنعاماً على الرسول من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم وإنعاماً أيضاً على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر وأرشدهم إلى نور الإيمان فذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين أما بالنسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فلأنه تعالى بين أن سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة الخلق فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسان أولئك القوم فإنه متى كان الأمر كذلك كان فهمهم لأسرار تلك الشريعة ووقوفهم على حقائقها أسهل وعن الغلط والخطأ أبعد فهذا هو وجه النظم
المسألة الثانية احتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توفيقية قال لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل وقد دلت هذه الآية على أن إرسال جميع الرسل لا يكون إلا بلغة قومهم وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف فوجب حصولها بالإصطلاح
المسألة الثالثة زعم طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أن محمداً رسول الله لكن إلى العرب لا إلى سائر الطوائف وتمسكوا بهذه الآية من وجهين الأول أن القرآن لما كان نازلاً بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا على العرب ومن لا يكون عربياً لم يكن القرآن حجة عليه الثاني قالوا إن قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ( إبراهيم 4 ) المراد بذلك اللسان لسان العرب وذلك يقتضي أن يقال إنه ليس له قوم سوى العرب وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط
والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد من قَوْمِهِ أهل بلده وليس المراد من قَوْمِهِ أهل دعوته والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ( الأعراف 158 ) بل إلى الثقلين لأن التحدي كما وقع مع الإنس فقد وقع مع الجن بدليل قوله تعالى قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 )
المسألة الرابعة تمسك أصحابنا بقوله تعالى فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء على أن الضلال والهداية من الله تعالى والآية صريحة في هذا المعنى قال الأصحاب ومما يؤكد هذا المعنى ما روي أن(19/63)
أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس وقد ارتفعت أصواتهما فقال عليه السلام ( ما هذا ) فقال بعضهم يا رسول الله يقول أبو بكر الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا ويقول عمر كلاهما من الله وتبع بعضهم أبا بكر وبعضهم عمر فتعرف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما قاله أبو بكر وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه ثم أقبل على عمر فتعرف ما قاله وعرف البشر في وجهه ثم قال ( أقضي بينكما كما قضى به اسرافيل بين جبريل وميكائيل قال جبريل مثل مقالتك يا عمر وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر فقضاء اسرافيل أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما ) قالت المعتزلة هذه الآية لا يمكن اجراؤها على ظاهرها وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى قال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ والمعنى أنا إنما أرسلنا كل رسول بلسان قومه ليبين لهم تلك التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك البيان أسهل ووقوفهم على المقصود والغرض أكمل وهذا الكلام إنما يصح لو كان مقصود الله تعالى من إرسال الرسل حصول الإيمان للمكلفين فأما لو كان مقصوده الإضلال وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود والثاني أنه عليه السلام إذا قال لهم إن الله يخلق الكفر والضلال فيكم فلهم أن يقولوا له فما الفائدة في بيانك وما المقصود من إرسالك وهل يمكننا أن نزيل كفراً خلقه الله تعالى فينا عن أنفسنا وحينئذ تبطل دعوة النبوة وتفسد بعثة الرسل الثالث أنه إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى ومشيئته وجب أن يكون الرضا به واجباً لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وذلك لا يقوله عاقل والرابع أنا قد دللنا على أن مقدمة هذه الآية وهو قوله لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) يدل على مذهب العدل وأيضاً مؤخرة الآية يدل عليه وهو قوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح ومريداً لها فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل قوله فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد فوجب المصير إلى التأويل وقد استقصينا ما في هذه التأويلات في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 ) ولا بأس بإعادة بعضها فالأول أن المراد بالإضلال هو الحكم بكونه كافراً ضالاً كما يقال فلان يكفر فلاناً ويضلله أي يحكم بكونه كافراً ضالاً والثاني أن يكون الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار والهداية عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة والثالث أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ولم يتعرض له صار كأنه أضله والمهتدي لما أعانه بالألطاف صار كأنه هو الذي هداه قال صاحب ( الكشاف ) المراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف وبالهداية التوفيق واللطف
والجواب عن قولهم أولاً أن قوله تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ لا يليق به أن يضلهم
قلنا قال الفراء إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن كان الفعل الثاني مشاكلاً للأول نسقته عليه وإن لم يكن مشاكلاً له استأنفته ورفعته ونظيره قوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ ( التوبة 32 ) فقوله وَيَأْبَى اللَّهُ في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك لأنه لا يحسن أن يقال يريدون أن يأبى الله فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف ونظيره أيضاً قوله لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ ( الحج 5 ) ومن ذلك قولهم أردت أن أزورك فيمنعني المطر بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه ومثله قول الشاعر(19/64)
يريد أن يعربه فيعجمه
إذا عرفت هذا فنقول ههنا قال تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ ثم قال فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله وأقول تقرير هذا الكلام من حيث المعنى كأنه تعالى قال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى أما قوله ثانياً لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له ما الفائدة في بيانك ودعوتك فنقول يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات أخبار عن كونه ضالاً فيقول له الكافر لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً فهل أقدر على جعل إلهك كاذباً وهل أقدر على جعل علمه جهلاً وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضاً وارد عليه وأما قوله ثالثاً يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
قلنا ويلزمك أيضاً على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وأما قوله رابعاً إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) يدل على صحة الاعتزال فنقول قد ذكرنا أن قوله بِإِذْنِ رَبّهِمْ يدل على صحة مذهب أهل السنة وأما قوله خامساً أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له فنقول وقد وصف نفسه بكونه عزيزاً والعزيز هو الغالب القاهر فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم وقد حصل لما بقي عزيزاً غالباً فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مراراً فلا فائدة في الإعادة
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذالِكُمْ بَلا ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ(19/65)
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أرسل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم وكيفية معاملة أقوامهم معهم تصبيراً للرسول عليه السلام على أذى قومه وإرشاداً له إلى كيفية مكالمتهم ومعاملتهم فذكر تعالى على العادة المألوفة قصص بعض الأنبياء عليهم السلام فبدأ بذكر قصة موسى عليه السلام فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا قال الأصم آيات موسى عليه السلام هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وانفجار العيون من الحجر وإظلال الجبل وإنزال المن والسلوى وقال الجبائي أرسل الله تعالى موسى عليه السلام إلى قومه من بني إسرائيل بآياته وهي دلالاته وكتبه المنزلة عليه وأمره أن يبين لهم الدين وقال أبو مسلم الأصفهاني إنه تعالى قال في صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) وقال في حق موسى عليه السلام أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ والمقصود بيان أن المقصود من البعثة واحد في حق جميع الأنبياء عليهم السلام وهو أن يسعوا في إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات
المسألة الثانية قال الزجاج قوله أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ أي بأن أخرج قومك ثم قال ءانٍ ههنا تصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي ويكون المعنى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أي أخرج قومك كأن المعنى قلنا له أخرج قومك ومثله قوله وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ ( ص 6 ) أي أمشوا والتأويل قيل لهم امشوا وتصلح أيضاً أن تكون المخففة التي هي للخبر والمعنى أرسلناه بأن يخرج قومه إلا أن الجار حذف ووصلت ( أن ) بلفظ الأمر ونظيره قولك كتبت إليه أن قم وأمرته أن قم ثم إن الزجاج حكى هذين القولين عن سيبويه
أما قوله وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فاعلم أنه تعالى أمر موسى عليه السلام في هذا المقام بشيئين أحدهما أن يخرجهم من ظلمات الكفر والثاني أن يذكرهم بأيام الله وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي أيام جمع يوم واليوم هو مقدار المدة من طلوع الشمس إلى غروبها وكانت الأيام في الأصل أيوام فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت إحداهما في الأخرى وغلبت الياء
المسألة الثانية أنه يعبر بالأيام عن الوقائع العظيمة التي وقعت فيها يقال فلان عالم بأيام العرب ويريد وقائعها وفي المثل من ير يوماً ير له معناه من رؤي في يوم مسروراً بمصرع غيره ير في يوم آخر حزيناً بمصرع نفسه وقال تعالى وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ( آل عمران 140 )
إذا عرفت هذا فالمعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد فالترغيب والوعد أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل في سائر ما سلف من الأيام والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل ممن سلف من الأمم فيما سلف من الأيام مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب ليرغبوا في الوعد فيصدقوا ويجذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب
واعلم أن أيام الله في حق موسى عليه السلام منها ما كان أيام المحنة والبلاء وهي الأيام التي كانت بنو(19/66)
إسرائيل فيها تحت قهر فرعون ومنها ما كان أيام الراحة والنعماء مثل إنزال المن والسلوى وانفلاق البحر وتظليل الغمام
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ والمعنى أن في ذلك التذكير والتنبيه دلائل لمن كان صباراً شكوراً لأن الحال إما أن يكون حال محنة وبلية أو حال منحة وعطية فإن كان الأول كان المؤمن صباراً وإن كان الثاني كان شكوراً وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه ويوافق إرادته كان مشغولاً بالشكر وإن جرى ما لا يلائم طبعه كان مشغولاً بالصبر
فإن قيل إن ذلك التذكيرات آيات للكل فلماذا خص الصبار الشكور بها
قلنا فيه وجوه الأول أنهم لما كانوا هم المنتفعون بتلك الآيات صارت كأنها ليست آيات إلا لهم كما في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا والثاني لا يبعد أن يقال الانتفاع بهذا النوع من التذكير لا يمكن حصوله إلا لمن كان صابراً أو شاكراً أما الذي لا يكون كذلك لم ينتفع بهذه الآيات
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أمر موسى عليه السلام بأن يذكرهم بأيام الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه ذكرهم بها فقال وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ فقوله إِذْ أَنجَاكُمْ ظرف للنعمة بمعنى الأنعام أي اذكروا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول ذكر في سورة البقرة يُذَبّحُونَ ( البقرة 49 ) وفي سورة الأعراف يَقْتُلُونَ ( الأعراف 41 ) وههنا وَيُذَبّحُونَ مع الواو فما الفرق
والجواب قال تعالى في سورة البقرة يُذَبّحُونَ بغير واو لأنه تفسير لقوله سُوء الْعَذَابِ وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو تقول أتاني القوم زيد وعمرو لأنك أردت أن تفسر القوم بهما ومثله قوله تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ( الفرقان 68 69 ) فالآثام لما صار مفسراً بمضاعفة العذاب لا جرم حذف عنه الواو أما في هذه السورة فقد أدخل الواو فيه لأن المعنى أنهم يعذبونهم بغير التذبيح وبالتذبيح أيضاً فقوله وَيُذَبّحُونَ نوع آخر من العذاب لا أنه تفسير لما قبله
السؤال الثاني كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم
والجواب من وجهين أحدهما أن تمكين الله إياهم حتى فعلوا ما فعلوا كان بلاء من الله والثاني وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم والبلاء هو الابتلاء وذلك قد يكون بالنعمة تارة وبالمحنة أخرى قال تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً ( الأنبياء 35 ) وهذا الوجه أولى لأنه يوافق صدر الآية وهو قوله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
السؤال الثالث هب أن تذبيح الأبناء كان بلاء أما استحياء النساء كيف يكون بلاء
الجواب كانوا يستخدمونهن بالاستحياء في الخلاص منه نعمة وأيضاً إبقاؤهن منفردات عن الرجال فيه أعظم المضار(19/67)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ
اعلم أن قوله وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ من جملة ما قال موسى لقومه كأنه قيل وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم ومعنى تَأَذَّنَ أذن ربكم ونظير تأذن وآذن توعد وأوعد وتفضل وأفضل ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل كأنه قيل وإذ آذن ربكم إيذاناً بليغاً ينتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبهة والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال لَئِن شَكَرْتُمْ فأجرى تَأَذَّنَ مجرى قال لأنه ضرب من القول وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لَئِن شَكَرْتُمْ
واعلم أن المقصود من الآية بيان أن من اشتغل بشكر نعم الله زاده الله من نعمه ولا بد ههنا من معرفة حقيقة الشكر ومن البحث عن تلك النعم الزائدة الحاصلة عن الاشتغال بالشكر أما الشكر فهو عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة وأما الزيادة في النعم فهي أقسام منها النعم الروحانية ومنها النعم الجسمانية أما النعم الروحانية فهي أن الشاكر يكون أبداً في مطالعة أقسام نعم الله تعالى وأنواع فضله وكرمه ومن كثر إحسانه إلى الرجل أحبه الرجل لا محالة فشغل النفس بمطالعة أنواع فضل الله وإحسانه يوجب تأكد محبة العبد لله تعالى ومقام المحبة أعلى مقامات الصديقين ثم قد يترقى العبد من تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن الالتفات إلى النعمة ولا شك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة الله تعالى ومعرفته فثبت أن الاشتغال بالشكر يوجب مزيد النعم الروحانية وأما مزيد النعم الجسمانية فلأن الاستقراء دل على أن من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر وبالجملة فالشكر إنما حسن موقعه لأنه اشتغال بمعرفة المعبود وكل مقام حرك العبد من عالم الغرور إلى عالم القدس فهو المقام الشريف العالي الذي يوجب السعادة في الدين والدنيا
وأما قوله وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ فالمراد منه الكفران لا الكفر لأن الكفر المذكور في مقابلة الشكر ليس إلا الكفران والسبب فيه أن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة نعمة من الله والجاهل بها جاهل بالله والجهل بالله من أعظم أنواع العقاب والعذاب وأيضاً فههنا دقيقة أخرى وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فوجوده إنما يحصل بإيجاد الواجب لذاته وعدمه إنما يحصل بإعدام الواجب لذاته وإذا كان كذلك فكل ما سوى الحق فهو منقاد للحق مطواع له وإذا كانت الممكنات بأسرها منقادة للحق سبحانه فكل قلب حضر فيه نور معرفة الحق وشرف جلاله انقاد لصاحب ذلك القلب ما سواه لأن حضور ذلك النور في قلبه يستخدم كل ما سواه بالطبع وإذا خلا القلب عن ذلك النور ضعف وصار خسيساً فيستخدمه كل ما سواه ويستحقره كل ما يغايره فبهذا الطريق الذوقي يحصل العلم بأن الاشتغال بمعرفة الحق يوجب انفتاح أبواب الخيرات في الدنيا والآخرة وأما الإعراض عن معرفة الحق بالاشتغال بمجرد الجسمانيات يوجب انفتاح أبواب الآفات والمخافات في الدنيا والآخرة(19/68)
وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ حَمِيدٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ
اعلم أن موسى عليه السلام لما بين أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا وفي الآخرة والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد وحصول الآفات في الدنيا والآخرة بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران أما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران فلا جرم قال تعالى وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ حَمِيدٌ والغرض منه بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا لمنافع عائدة إلى المعبود والذي يدل على أن الأمر كذلك ما ذكره الله في قوله إِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ وتفسيره أنه واجب الوجود لذاته واجب الوجود بحسب جميع صفاته واعتباراته فإنه لو لم يكن واجب الوجود لذاته لافتقر رجحان وجوده على عدمه إلى مرجح فلم يكن غنياً وقد فرضناه غنياً هذا خلف فثبت أن كونه غنياً يوجب كونه واجب الوجود في ذاته وإذا ثبت أنه واجب الوجود لذاته كان أيضاً واجب الوجود بحسب جميع كمالاته إذ لو لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك الكمال لافتقر في حصول ذلك الكمال إلى سبب منفصل فحينئذ لا يكون غنياً وقد فرضناه غنياً هذا خلف فثبت أن ذاته كافية في حصول جميع كمالاته وإذا كان الأمر كذلك كان حميداً لذاته لأنه لا معنى للحميد إلا الذي استحق الحمد فثبت بهذا التقرير الذي ذكرناه أن كونه غنياً حميداً يقتضي أن لا يزداد بشكر الشاكرين ولا ينتقص بكفران الكافرين فلهذا المعنى قال إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ حَمِيدٌ وهذه المعاني من لطائف الأسرار
واعلم أن قولنا إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعًا سواء حمل على الكفر الذي يقابل الإيمان أو على الكفران الذي يقابل الشكر فالمعنى لا يتفاوت ألبتة فإنه تعالى غني عن العالمين في كمالاته وفي جميع نعوت كبريائه وجلاله
ثم إنه تعالى قال أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وذكر أبو مسلم الأصفهاني أنه يحتمل أن يكون ذلك خطاباً من موسى عليه السلام لقومه والمقصود منه أنه عليه السلام كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعالى على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين وهذا المقصود حاصل على التقديرين إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه اتبداء مخاطبة لقوم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) (19/69)
واعلم أنه تعالى ذكر أقواماً ثلاثة وهم قوم نوح وعاد وثمود
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ وذكر صاحب ( الكشاف ) فيه احتمالين الأول أن يكون قوله وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً والثاني أن يقال قوله وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ معطوف على قوم نوح وعاد وثمود وقوله لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ فيه قولان
القول الأول أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله لأن المذكور في القرآن جملة فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل
والقول الثاني أن المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلاً كذبوا رسلاً لم نعرفهم أصلاً ولا يعلمهم إلا الله والقائلون بهذا القول الثاني طعنوا في قول من يصل الأنساب إلى آدم عليه السلام كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد وعن ابن عباس بين عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون ونظير هذه الآية قوله تعالى وَقُرُوناً بَيْنَ ذالِكَ كَثِيراً ( الفرقان 38 ) وقوله مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ( عافر 78 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان في انتسابه لا يجاوز معد بن عدنان بن أدد وقال ( تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق ) قال القاضي وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع على مقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت لأنه إن أمكن ذلك لم يبعد أيضاً تحصيل العلم بالأنساب الموصولة
فإن قيل أي القولين أولى
قلنا القول الثاني عندي أقرب لأن قوله تعالى لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ نفى العلم بهم وذلك يقتضي نفي العلم بذواتهم إذ لو كانت ذواتهم معلومة وكان المجهول هو مدد أعمارهم وكيفية صفاتهم لما صح نفي العلم بذواتهم ولما كان ظاهر الآية دليلاً على نفي العلم بذواتهم لا جرم كان الأقرب هو القول الثاني ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم أنه لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات أتوا بأمور أولها قوله فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وفي معناه قولان الأول أن المراد باليد والفم الخارجتان المعلومتان والثاني أن المراد بهما شيء غير هاتين الجارحتين وإنما ذكرهما مجازاً وتوسعاً أما من قال بالقول الأول ففيه ثلاثة أوجه
الوجه الأول أن يكون الضمير في أَيْدِيهِمْ و أَفْوَاهِهِمْ عائداً إلى الكفار وعلى هذا ففيه احتمالات الأول أن الكفار ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها من الغيظ والضجر من شدة نفرتهم عن رؤية الرسل واستماع كلامهم ونظيره قوله تعالى عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ( آل عمران 119 ) وهذا القول مروي عن ابن عباس وابن مسعود رحمهما الله تعالى وهو اختيار القاضي والثاني أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبة الضحك فوضع يده على فيه والثالث أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث وهذا مروي عن الكلبي والرابع أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به أي هذا هو الجواب عندنا عما ذكرتموه وليس(19/70)
عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق ألا ترى إلى قوله فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
الوجه الثاني أن يكون الضميران راجعين إلى الرسل عليهم السلام وفيه وجهان الأول أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم الثاني أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم فإن من ذكر كلاماً عند قوم وأنكروه وخافهم فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه وغرضه أن يعرفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكرم ألبتة
الوجه الثالث أن يكون الضمير في أيديهم يرجع إلى الكفار وفي الأفواه إلى الرسل وفيه وجهان الأول أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء عليهم السلام ونصائحهم وكلامهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيباً لهم ورداً عليهم والثاني أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء عليهم السلام منعاً لهم من الكلام ومن بالغ في منع غيره من الكلام فقد يفعل به ذلك أما على القول الثاني وهو أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز ففيه وجوه
الوجه الأول قال أبو مسلم الأصفهاني المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج وذلك لأن اسماع الحجة انعام عظيم والإنعام يسمى يداً يقال لفلان عندي يد إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد المراد منها صفقة البيع والعقد كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد وأيضاً العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أيادي وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي وفي العدد الكثير هو الأيادي فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ونظيره قوله تعالى إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ( النور 15 ) فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع رداً في الأفواه فهذا تمام كلام أبي مسلم في تقرير هذا الوجه
الوجه الثاني نقل محمد بن جرير عن بعضهم أن معنى قوله فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ أنهم سكتوا عن الجواب يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب رد يده في فيه وتقول العرب كلمت فلاناً في حاجة فرد يده في فيه إذا سكت عنه فلم يجب ثم إنه زيف هذا الوجه وقال إنهم أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
الوجه الثالث المراد من الأيدي نعم الله تعالى على ظاهرهم وباطنهم ولما كذبوا الأنبياء فقد عرضوا تلك النعم للإزالة والإبطال فقوله رُدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ أي ردوا نعم الله تعالى عن أنفسهم بالكلمات التي صدرت عن أفواههم ولا يبعد حمل ( في ) على معنى الباء لأن حروف الجر لا يمتنع إقامة بعضها مقام بعض
النوع الثاني من الأشياء التي حكاها الله تعالى عن الكفار قولهم إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ والمعنى إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم فيه لأنهم ما أقروا بأنهم أرسلوا
واعلم أن المرتبة الأولى هو أنهم سكتوا عن قبول قول الأنبياء عليهم السلام وحاولوا اسكات الأنبياء(19/71)
عن تلك الدعوى وهذه المرتبة الثانية أنهم صرحوا بكونهم كافرين بتلك البعثة
والنوع الثالث قولهم وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء تَدْعُونَا بادغام النون مُرِيبٍ موقع في الريبة أو ذي ريبة من أرابه والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر
فإن قيل لما ذكروا في المرتبة الثانية أنهم كافرون برسالتهم كيف ذكروا بعد ذلك كونهم شاكين مرتابين في صحة قولهم
قلنا كأنهم قالوا إما أن نكون كافرين برسالتكم أو أن ندع هذا الجزم واليقين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم والله أعلم
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
اعلم أن أولئك الكفار لما قالوا للرسل وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( إبراهيم 9 ) قالت رسلهم وهل تشكون في الله وفي كونه فاطر السموات والأرض وفاطراً لأنفسنا وأرواحنا وأرزاقنا وجميع مصالحنا وإنا لا ندعوكم إلا إلى عبادة هذا الإله المنعم ولا نمنعكم إلا عن عبادة غيره وهذه المعاني يشهد صريح العقل بصحتها فكيف قلتم وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب وهذا النظم في غاية الحسن وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله أَفِى اللَّهِ شَكٌّ استفهام على سبيل الإنكار فلما ذكر هذا المعنى أردفه بالدلالة الدالة على وجود الصانع المختار وهو قوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن وجود السموات والأرض كيف يدل على احتياجه إلى الصانع المختار الحكيم مراراً وأطواراً فلا نعيدها ههنا
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في أن وجود الله تعالى لا يحتمل الشك وأقول من الناس من ذهب إلى أنه قبل الوقوف على الدلائل الدقيقة فالفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار ويدل على أن الفطرة الأولية شاهدة بذلك وجوه
الوجه الأول قال بعض العقلاء إن من لطم على وجه صبي لطمة فتلك اللطمة تدل على وجوب الصانع وعلى حصول التكليف وعلى وجوب دار الجزاء وعلى وجوب النبي أما دلالتها على وجود(19/72)
الصانع المختار فلأن الصبي العاقل إذا وقعت اللطمة على وجهه يصيح ويقول من الذي ضربني وما ذاك إلا أن شهادة فطرته تدل على أن اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل فعلها ولأجل مختار أدخلها في الوجود فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار ذلك الحادث مع قلته وحقارته إلى الفاعل فبأن تشهد بافتقار جميع حوادث العالم إلى الفاعل كان أولى وأما دلالتها على وجوب التكليف فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول لم ضربني ذلك الضارب وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ومندرجة تحت التكليف وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي فعل شاء واشتهى وأما دلالتها على وجوب حصول دار الجزاء فهو أن ذلك الصبي يطلب الجزاء على تلك اللطمة وما دام يمكنه طلب ذلك الجزاء فإنه لا يتركه فلما شهدت الفطرة الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع الأعمال كان أولى وأما دلالتها على وجوب النبوة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي يقدر هذه الأمور ويبين لهم هذه الأحكام فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأمور الأربعة
الوجه الثاني في التنبيه على أن الإقرار بوجود الصانع بديهي هو أن الفطرة شاهد بأن حدوث دار منقوشة بالنقوش العجيبة مبنية على التركيبات اللطيفة الموافقة للحكم والمصلحة يستحيل إلا عند وجود نقاش عالم وبان حكيم ومعلوم أن آثار الحكمة في العالم العلوي والسفلي أكثر من آثار الحكمة في تلك الدار المختصرة فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار النقش إلى النقاش والبناء إلى الباني فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم كان أولى
الوجه الثالث أن الإنسان إذا وقع في محنة شديدة وبلية قوية لا يبقى في ظنه رجاء المعاونة من أحد فكأنه بأصل خلفته ومقضتى جبلته يتضرع إلى من يخلصه منها ويخرجه عن علائقها وحبائلها وما ذاك إلا شهادة الفطرة بالإفتقار إلى الصانع المدبر
الوجه الرابع أن الموجود إما أن يكون غنياً عن المؤثر أو لا يكون فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته فإنه لا معنى للواجب لذاته إلا الموجود الذي لا حاجة به إلى غيره وإن لم يكن غنياً عن المؤثر فهو محتاج والمحتاج لا بد له من المحتاج إليه وذلك هو الصانع المختار
الوجه الخامس أن الاعتراف بوجود الإله المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه فهذه مراتب أربعة أولها أن الإقرار بوجود الإله أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار وثانيها الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً لأنه لو كان موجباً فلا ضرر في الإقرار بكونه مختاراً أما لو كان مختاراً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار وثالثها الإقرار بأنه كلف عباده لأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعتقاد أنه كلف العباد أما إنه لو كلف ففي إنكار تلك التكاليف أعظم المضار ورابعها الإقرار بوجود المعاد فإنه إن كان الحق أنه لا معاد فلا ضرر في الإقرار بوجوده لأنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجسمانية وهي حقيرة ومنقوصة وإن كان الحق هو وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المصير إليه لأن بديهة العقل حاكمة بأنه يجب دفع الضرر عن النفس بقدر الإمكان(19/73)
المسألة الثالثة لما أقام الدلالة على وجود الإله بدليل كونه فاطر السموات والأرض وصفه بكمال الرحمة والكرم والجود وبين ذلك من وجهين الأول قوله يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ قال صاحب ( الكشاف ) لو قال قائل ما معنى التبعيض في قوله من ذنوبكم ثم أجاب فقال ما جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( نوح 3 4 ) طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ياقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِى َ اللَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ( الأحقاف 31 ) وقال في خطاب المؤمنين هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَة ٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( الصف 10 ) إلى أن قال يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ( آل عمران 31 ) والاستقراء يدل على صحة ما ذكرناه ثم قال وكأن ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي بين الفريقين في المعاد وقيل إنه أراد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم هذا كلام هذا الرجل وقال الواحدي في ( البسيط ) قال أبو عبيدة ( من ) زائدة وأنكر سيبويه زيادتها في الواجب وإذا قلنا إنها ليست زائدة فههنا وجهان أحدهما أنه ذكر البعض ههنا وأريد به الجميع توسعاً والثاني أن ( من ) ههنا للبدل والمعنى لتكون المغفرة بدلاً من الذنوب فدخلت من لتضمن المغفرة معنى البدل من السيئة وقال القاضي ذكر الأصم أن كلمة ( من ) ههنا تفيد التبعيض والمعنى أنكم إذا تبتم فإنه يغفر لكم الذنوب التي هي من الكبائر فأما التي تكون من باب الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في أنفسها مغفورة قال القاضي وقد أبعد في هذا التأويل لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر إلا بالتوبة وإنما تكون الصغيرة مغفورة من المؤمنين الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابها فأما من لا ثواب له أصلاً فلا يكون شيء من ذنوبه صغيراً ولا يكون شيء منها مغفوراً ثم قال وفيه وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإنابته فلا يكون المغفور منها إلا ما ذكره وتاب منه فهذا جملة أقوال الناس في هذه الكلمة
المسألة الرابعة أقول هذه الآية تدل على أنه تعالى قد يغفر الذنوب من غير توبة في حق أهل الإيمان والدليل عليه أنه قال يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وعد بغفران بعض الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة وذلك البعض ليس هو الكفر لإنعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان فوجب أن يكون البعض الذي يغفر له من غير التوبة هو ما عد الكفر من الذنوب
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال كلمة ( من ) صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول المراد من البعض ههنا هو الكل على ما قاله الواحدي أو نقول المراد منها إبدال السيئة بالحسنة على ما قاله الواحدي أيضاً أو نقول المراد منه تمييز المؤمن عن الكافر في الخطاب على ما قاله صاحب ( الكشاف ) أو نقول المراد منه تخصيص هذا الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم أو نقول المراد منه الذنوب التي يذكرها الكافر عند الدخول في الإيمان على ما قاله القاضي فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة أما قوله إنها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله تعالى بأنها حشو ضائع فاسد والعاقل لا يجوز المصير إليه من غير ضرورة فأما قول الواحدي المراد من كلمة ( من ) ههنا هو الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة لأن حاصله أن قوله يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ هو أنه يغفر لكم ذنوبكم وهذا عين ما نقله عن أبي عبيدة وحكي عن سيبويه إنكاره وأما(19/74)
قوله المراد منه إبدال السيئة بالحسنة فليس في اللغة أن كلمة من تفيد الإبدال وأما قول صاحب ( الكشاف ) المراد تمييز خطاب المؤمن عن خطاب الكافر بمزيد التشريف فهو من باب الطامات لأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب وإن لم يحصل كان هذا الجواب فاسداً وأما قول الأصم فقد سبق إبطاله وأما قول القاضي فجوابه أن الكافر إذا أسلم صارت ذنوبه بأسرها مغفورة لقوله عليه السلام ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) فثبت أن جميع ما ذكروه من التأويلات تعسف ساقط بل المراد ما ذكرنا أنه تعالى يغفر بعض ذنوبه من غير توبة وهو ما عدا الكفر وأما الكفر فهو أيضاً من الذنوب وأنه تعالى لا يغفره إلا بالتوبة وإذا ثبت أنه تعالى يغفر كبائر كافر من غير توبة بشرط أن يأتي بالإيمان فبأن تحصل هذه الحالة للمؤمن كان أولى هذا ما خطر بالبال على سبيل الارتجال والله أعلم بحقيقة الحال
النوع الثاني مما وعد الله تعالى به في هذه الآية قوله وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وفيه وجهان الأول المعنى أنكم إن آمنتم أخر الله موتكم إلى أجل مسمى وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال الثاني قال ابن عباس المعنى يمتعكم في الدنيا بالطيبات واللذات إلى الموت
فإن قيل أليس إنه تعالى قال فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( الأعراف 34 ) فكيف قال ههنا وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى
قلنا قد تكلمنا في هذه المسألة في سورة الأنعام في قوله ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ( الأنعام 2 ) ثم حكى تعالى أن الرسل لما ذكروا هذه الأشياء لأولئك الكفار قالوا قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَى
واعلم أن هذا الكلام مشتمل على ثلاثة أنوع من الشبه
فالشبهة الأولى أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية فيمتنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد وهو أن يكون الواحد منهم رسولاً من عند الله مطلعاً على الغيب مخالطاً لزمرة الملائكة والباقون يكونون غافلين عن كل هذه الأحوال أيضاً كانوا يقولون إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة وجب أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة وفي الحاجة إلى الأكل والشرب والحدث والوقاع وهذه الشبهة هي المراد من قولهم إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا
والشبهة الثانية التمسك بطريقة التقليد وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم مطبقين متفقين على عبادة الأوثان قالوا ويبعد أن يقال إن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خواطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين وأن الرجل الواحد عرف فساده ووقف على بطلانه والعوام ربما زادوا في هذا الباب كلاماً آخر وذلك أن الرجل العالم إذا بين ضعف كلام بعض المتقدمين قالوا له إن كلامك إنما يظهر صحته لو كان المتقدمون حاضرين أما المناظرة مع الميت فسهلة فهذا كلام يذكره الحمقى والرعاع وأولئك الكفار أيضاً ذكروه وهذه الشبهة هي المراد من قوله تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا
والشبهة الثالثة أن قالوا المعجز لا يدل على الصدق أصلاً وإن كانوا سلموا على أن المعجز يدل على الصدق إلا أن الذي جاء به أولئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنها أمور معتادة وأنها ليست من باب(19/75)
المعجزات الخارجة عن قدرة البشر وإلى هذا النوع من الشبهة الإشارة بقوله فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فهذا تفسير هذه الآية بحسب الوسع والله أعلم
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوة حكى عن الأنبياء عليهم السلام جوابهم عنها
أما الشبهة الأولى وهي قولهم إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فجوابه أن الأنبياء سلموا أن الأمر كذلك لكنهم بينوا أن التماثل في البشرية والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة لأن هذا المنصب منصب يمن الله به على من يشاء من عباده فإذا كان الأمر كذلك فقد سقطت هذه الشبهة
واعلم أن هذا المقام فيه بحث شريف دقيق وهو أن جماعة من حكماء الإسلام قالوا إن الإنسان ما لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصاً بخواص شريفة علوية قدسية فإنه يمتنع عقلاً حصول صفة النبوة له وأما الظاهريون من أهل السنة والجماعة فقد زعموا أن حصول النبوة عطية من الله تعالى يهبها لكل من يشاء من عباده ولا يتوقف حصولها على امتياز ذلك الإنسان عن سائر الناس بمزيد إشراق نفساني وقوة قدسية وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية فإنه تعالى بين أن حصول النبوة ليس إلا بمحض المنة من الله تعالى والعطية منه والكلام من هذا الباب غامض غائص دقيق والأولون أجابوا عنه بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسدانية تواضعاً منهم واقتصروا على قولهم وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ بالنبوة لأنه قد علم أنه تعالى لا يخصهم بتلك الكرامات إلا وهم موصوفون بالفضائل التي لأجلها استوجبوا ذلك التخصيص كما قال تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 )
وأما الشبهة الثانية وهي قولهم إطباق السلف على ذلك الدين يدل على كونه حقاً لأنه يبعد أن يظهر للرجل الواحد ما لم يظهر للخلق العظيم فجوابه عين الجواب المذكور عن الشبهة الأولى لأن التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب عطية من الله تعالى وفضل منه ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية وأن يحرم الجمع العظيم منها
وأما الشبهة الثالثة وهي قولهم إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها وإنما نريد معجزات قاهرة قوية(19/76)
فالجواب عنها قوله تعالى وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وشرح هذا الجواب أن المعجزة التي جئنا بها وتمسكنا بها حجة قاطعة وبينة قاهرة ودليل تام فأما الأشياء التي طلبتموها فهي أمور زائدة والحكم فيها لله تعالى فإن خلقها وأظهرها فله الفضل وإن لم يخلقها فله العدل ولا يحكم عليه بعد ظهور قدر الكفاية ثم إنه تعالى حكى عن الأنبياء والرسل عليهم السلام أنهم قالوا بعد ذلك وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بذلك الجواب فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف والوعيد وعند هذا قالت الأنبياء عليهم السلام لا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على الله واعتمادنا على فضل الله ولعل الله سبحانه كان قد أوحى إليهم أن أولئك الكفرة لا يقدرون على إيصال الشر والآفة إليهم وإن لم يكن حصل هذا الوحي فلا يبعد منهم أن لا يلتفتوا إلى سفاهتهم لما أن أرواحهم كانت مشرقة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء عالم الغيب والروح متى كانت موصوفة بهذه الصفات فقلما يبالي بالأحوال الجسمانية وقلما يقيم لها وزناً في حالتي السراء والضراء وطورى الشدة والرخاء فلهذا السبب توكلوا على الله وعولوا على فضل الله وقطعوا أطماعهم عما سوى الله والذي يدل على أن المراد ما ذكرناه قوله تعالى حكاية عنهم وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا يعني أنه تعالى لما خصنا بهذه الدرجات الروحانية والمعارف الإلهية الربانية فكيف يليق بنا أن لا نتوكل على الله بل اللائق بنا أن لا نتوكل إلا عليه ولا نعول في تحصيل المهمات إلا عليه فإن من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مكان الإخلاص والمكاشفة يقبح به أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق سواء كان ملكاً له أو ملكاً أو روحاً أو جسماً وهذه الآية دالة على أنه تعالى يعصم أولياءه المخلصين في عبوديته من كيد أعدائهم ومكرهم ثم قالوا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا فإن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات والحق لا بد وأن يصير غالباً قاهراً والباطل لا بد وأن يصير مغلوباً مقهوراً ثم أعادوا قولهم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ والفائدة فيه أنهم أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله وَمَا لَنَا أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ثم لما فرغوا من أنفسهم أمروا أتباعهم بذلك وقالوا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولاً ورأيت في كلام الشيخ أبي حامد الغزالي رحمه الله فصلاً حسناً وحاصله أن الإنسان إما أن يكون ناقصاً أو كاملاً أو خالياً عن الوصفين أما الناقص فإما أن يكون ناقصاً في ذاته ولكنه لا يسعى في تنقيص حال غيره وإما أن يكون ناقصاً ويكون مع ذلك ساعياً في تنقيص حال الغير فالأول هو الضال والثاني هو الضال المضل وأما الكامل فإما أن يكون كاملاً ولا يقدر على تكميل الغير وهم الأولياء وإما أن يكون كاملاً ويقدر على تكميل الناقصين وهم الأنبياء ولذلك قال عليه السلام ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ) ولما كانت مراتب النقصان والكمال ومراتب الإكمال والإضلال غير متناهية بحسب الكمية والكيفية لا جرم كانت مراتب الولاية والحياة غير متناهية بحسب الكمال والنقصان فالولي هو الإنسان الكامل الذي لا يقوى على التكميل والنبي هو الإنسان الكامل المكمل ثم قد تكون قوته الروحانية النفسانية وافية بتكميل إنسانين ناقصين وقد تكون أقوى من ذلك فيفي بتكميل عشرة ومائة وقد تكون تلك القوة قاهرة قوية تؤثر تأثير الشمس في العالم فيقلب أرواح أكثر أهل العلم من مقام الجهل إلى مقام المعرفة ومن طلب الدنيا إلى طلب الآخرة وذلك مثل روح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن وقت ظهوره كان العالم مملوءاً من اليهود وأكثرهم كانوا مشبهة ومن النصارى وهم حلولية ومن المجوس وقبح مذاهبهم(19/77)
ظاهر ومن عبدة الأوثان وسخف دينهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان فلما ظهرت دعوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سرت قوة روحه في الأرواح فقلب أكثر أهل العالم من الشرك إلى التوحيد ومن التجسيم إلى التنزيه ومن الاستغراق في طلب الدنيا إلى التوجه إلى عالم الآخرة فمن هذا المقام ينكشف للإنسان مقام النبوة والرسالة
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَمَا لَنَا أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إشارة إلى ما كانت حاصلة لهم من كمالات نفوسهم وقولهم في آخر الأمر وعلى الله فليتوكل المتوكلون إشارة إلى تأثير أرواحهم الكاملة في تكميل الأرواح الناقصة فهذه أسرار عالية مخزونة في ألفاظ القرآن فمن نظر في علم القرآن وكان غافلاً عنها كان محروماً من أسرار علوم القرآن والله أعلم وفي الآية وجه آخر وهو أن قوله وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ المراد منه أن الذين يطلبون سائر المعجزات وجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله تعالى لا عليها فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها
وأما قوله في آخر الآية وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ المراد منه الأمر بالتوكل على الله في دفع شر الناس الكفار وسفاهتهم وعلى هذا التقدير فالتكرار غير حاصل لأن قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ وارد في موضعين مختلفين بحسب مقصودين متغايرين وقيل أيضاً الأول ذكر لاستحداث التوكل والثاني للسعي في إبقائه وإدامته والله أعلم
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأنبياء عليهم السلام أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا والمعنى ليكونن أحد الأمرين لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى ملتنا والسبب فيه أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين وأهل الباطل يكونون كثيرين والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة
فإن قيل هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها(19/78)
قلنا الجواب من وجوه
الوجه الأول أن أولئك الأنبياء عليهم السلام إنما نشأوا في تلك البلاد وكانوا من تلك القبائل في أول الأمر ما أظهروا المخالفة مع أولئك الكفار بل كانوا في ظاهر الأمر معهم من غير إظهار مخالفة فالقوم ظنوا لهذا السبب أنهم كانوا في أول الأمر على دينهم فلهذا السبب قالوا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا
الوجه الثاني أن هذا حكاية كلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين فيه فلعلهم توهموا ذلك مع أنه ما كان الأمر كما توهموه
الوجه الثالث لعل الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أن المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ولا بأس أن يقال إنهم كانوا قبل ذلك لوقت على دين أولئك الكفار
الوجه الرابع قال صاحب ( الكشاف ) العود بمعنى الصيرورة كثير في كلام العرب
الوجه الخامس لعل أولئك الأنبياء كانوا قبل إرسالهم على ملة من الملل ثم إنه تعالى أوحى إليهم بنسخ تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي الأقوام على تلك الشريعة التي صارت منسوخة مصرين على سبيل الكفر وعلى هذا التقدير فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء أن يعودوا إلى تلك الملة
الوجه السادس لا يبعد أن يكون المعنى أو لتعودن في ملتنا أي إلى ما كنتم عليه قبل إدعاء الرسالة من السكوت عن ذكر معايبة ديننا وعدم التعرض له بالطعن والقدح وعلى جميع هذه الوجوه فالسؤال زائل والله أعلم
واعلم أن الكفار لما ذكروا هذا الكلام قال تعالى فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الاْرْضَ مِن بَعْدِهِمْ قال صاحب ( الكشاف ) لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ حكاية تقتضي إضمار القول أو إجراء الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه وقرأ أبو حيوة ليهلكن الظالمين وليسكننكم بالياء اعتباراً لأوحى فإن هذا اللفظ لفظ الغيبة ونظيره قولك أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن والمراد بالأرض أَرْضُ الْظَّالِمِينَ وَدِيَارَهُمْ ونظيره قوله وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا ( الأعراف 137 ) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ ( الأحزاب 27 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من آذى جاره أورثه الله داره ) واعلم أن هذه الآية تدل على أن من توكل على ربه في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه
ثم قال تعالى ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ فقوله ذلك إشارة إلى أن ما قضى الله تعالى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أثر ذلك الأمر حق لمن خاف مقامي وفيه وجوه الأول المراد موقفي وهو موقف الحساب لأن ذلك الموقف موقف الله تعالى الذي يقف فيه عباده يوم القيامة ونظيره قوله وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ ( النازعات 40 ) وقوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) الثاني أن المقام مصدر كالقيامة يقال قام قياماً ومقاماً قال الفراء ذلك لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي إياه كقوله أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( الرعد 33 ) الثالث ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى أي إقامتي على العدل والصواب فإنه تعالى لا يقضي إلا بالحق ولا يحكم إلا بالعدل وهو تعالى مقيم على العدل لا يميل عنه ولا ينحرف ألبتة الرابع ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى أي مقام العائذ عندي وهو من باب إضافة المصدر إلى(19/79)
المفعول الخامس ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى أي لم خافني وذكر المقام ههنا مثل ما يقال سلام الله على المجلس الفلاني العالي والمراد سلام الله على فلان فكذا ههنا
ثم قال تعالى وَخَافَ وَعِيدِ قال الواحدي الوعيد اسم من أوعد إيعاداً وهو التهديد قال ابن عباس خاف ما أوعدت من العذاب
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً قوله ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى ثم عطف عليه قوله وَخَافَ وَعِيدِ فهذا يقتضي أن يكون الخوف من الله تعالى مغايراً للخوف من وعيد الله ونظيره أن حب الله تعالى مغاير لحب ثواب الله وهذا مقام شريف عال في أسرار الحكمة والتصديق
ثم قال وَاسْتَفْتَحُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى للاستفتاح ههنا معنيان أحدهما طلب الفتح بالنصرة فقوله وَاسْتَفْتَحُواْ أي واستنصروا الله على أعدائهم فهو كقوله إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ ( الأنفال 19 ) والثاني الفتح الحكم والقضاء فقول ربنا وَاسْتَفْتَحُواْ أي واستحكموا وسألوه القضاء بينهم وهو مأخوذ من الفتاحة وهي الحكومة كقوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ ( الأعراف 19 )
إذا عرفت هذا فنقول كلا القولين ذكره المفسرون أما على القول الأول فالمستفتحون هم الرسل وذلك لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم قَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) وقال موسى رَبَّنَا اطْمِسْ ( يونس 88 ) الآية وقال لوط رَبّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ( العنكبوت 30 ) وأما على القول الثالث وهو طلب الحكمة والقضاء فالأولى أن يكون المستفتحون هم الأمم وذلك أنهم قالوا اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا ومنه قول كفار قريش اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء ( الأنفال 32 ) وكقول آخرين ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( العنكبوت 29 )
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله وَاسْتَفْتَحُواْ معطوف على قوله فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ وقرىء واستفتحوا بلفظ الأمر وعطفه على قوله لَنُهْلِكَنَّ أي أوحى إليهم ربهم وقال لهم لَنُهْلِكَنَّ وقال لهم استفتحوا
ثم قال تعالى وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إن قلنا المستفتحون هم الرسل كان المعنى أن الرسل استفتحوا فنصروا وظفروا بمقصودهم وفازوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وهم قومهم وإن قلنا المستفتحون هم الكفرة فكان المعنى أن الكفار استفتحوا على الرسل ظناً منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ منهم وما أفلح بسبب استفتاحه على الرسل
المسألة الثانية الجبار ههنا المتكبر على طاعة الله وعبادته ومنه قوله تعالى وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً ( مريم 14 ) قال أبو عبيدة عن الأحمر يقال فيه جبرية وجبروة وجبروت وجبورة وحكى الزجاج الجبرية والجبر بكسر الجيم والباء والنجبار والجبرياء قال الواحدي فهي ثمان لغات في مصدر الجبار وفي الحديث أن امرأة حضرت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأمرها أمراً فأبت عليه فقال ( دعوها فإنها جبارة ) أي مستكبرة وأما(19/80)
العنيد فقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقه قال النضر بن شميل العنود الخلاف والتباعد والترك وقال غيره أصله من العند وهو الناحية يقال فلان يمشي عنداً أي ناحية فمعنى عاند وعند أخذ في ناحية معرضاً وعاند فلان فلاناً إذا جانبه وكان منه على ناحية
إذا عرفت هذا فنقول كونه جباراً متكبراً إشارة إلى الخلق النفساني وكونه عنيداً إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانباً عن الحق منحرفاً عنه ولا شك أن الإنسان الذي يكون خلقه هو التجبر والتكبر وفعله هو العنود وهو الانحراف عن الحق والصدق كان خائباً عن كل الخيرات خاسراً عن جميع أقسام السعادات
واعلم أنه تعالى لما حكم عليه بالخيبة ووصفه بكونه جباراً عنيداً وصف كيفية عذابه بأمور الأول قوله مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وفيه إشكال وهو أن المراد أمامه جهنم فكيف أطلق لفظ الوراء على القدام والأمام
وأجابوا عنه من وجوه الأول أن لفظ ( وراء ) اسم لما يوارى عنك وقدام وخلف متوار عنك فصح إطلاق لفظ ( وراء ) على كل واحد منهما قال الشاعر عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
ويقال أيضاً الموت وراء كل أحد الثاني قال أبو عبيدة وابن السكيت الوراء من الأضداد يقع على الخلف والقدام والسبب فيه أن كل ما كان خلفاً فإنه يجوز أن ينقلب قداماً وبالعكس فلا جرم جاز وقوع لفظ الوراء على القدام ومنه قوله تعالى وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ ( الكهف 79 ) أي أمامهم ويقال الموت من وراء الإنسان الثاني قال ابن الأنباري ( وراء ) بمعنى بعد قال الشاعر
وليس وراء الله للمرء مذهب
أي وليس بعد الله مذهب
إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى حكم عليه بالخيبة في قوله وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
ثم قال وَمِن وَرَائِهِ جَهَنَّمَ أي ومن بعده الخيبة يدخل جهنم
النوع الثاني مما ذكره الله تعالى من أحوال هذا الكافر قوله وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وفيه سؤالات
السؤال الأول علام عطف وَيُسْقَى
الجواب على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى من ماء صديد
السؤال الثاني عذاب أهل النار من وجوه كثيرة فلم خص هذه الحالة بالذكر
الجواب يشبه أن تكون هذه الحالة أشد أنواع العذاب فخصص بالذكر مع قوله وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ
السؤال الثالث ما وجه قوله مِن مَّاء صَدِيدٍ(19/81)
الجواب أنه عطف بيان والتقدير أنه لما قال وَيُسْقَى مِن مَّاء فكأنه قيل وما ذلك الماء فقال صَدِيدٍ والصديد ما يسيل جلود أهل النار وقيل التقدير ويسقى من ماء كالصديد وذلك بأن يخلق الله تعالى في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة وهو أيضاً يكون في نفسه صديداً لأن كراهته تصد عن تناوله وهو كقوله وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ( محمد 15 ) وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ( الكهف 29 )
السؤال الرابع ما معنى يتجرعه ولا يكاد يسيغه
الجواب التجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار ويقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً وأساغه إساغة واعلم أن ( يكاد ) فيه قولان
القول الأول أن نفيه إثبات وإثباته نفي فقوله وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ أي ويسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول ما كدت أقوم أي قمت بعد إبطاء قال تعالى فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ( البقرة 7 ) يعني فعلوا بعد إبطاء والدليل على حصول الإساغة قوله تعالى يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ( الحج 20 ) ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة وأيضاً فإن قوله يَتَجَرَّعُهُ يدل على أنهم أساغوا الشيء بعد الشيء فكيف يصح أن يقال بعده إنه يسيغه ألبتة
والقول الثاني أن كاد للمقاربة فقول لاَ يَكَادُونَ لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه فكيف يحصل الإساغة كقوله تعالى لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ( النور 40 ) أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها
فإن قيل فقد ذكرتم الدليل على حصول الإساغة فكيف الجمع بينه وبين هذا الوجه
قلنا عنه جوابان أحدهما أن المعنى لا يسيغ جميعه كأنه يجرع البعض وما ساغ الجميع الثاني أن الدليل الذي ذكرتم إنما دل على وصول بعض ذلك الشراب إلى جوف الكافر إلا أن ذلك ليس بإساغة لأن الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق بقبول النفس واستطابة المشروب والكافر يتجرع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه أي لا يستطيبه ولا يشربه شرباً بمرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة والله أعلم
النوع الثالث مما ذكره الله تعالى في وعيد هذا الكافر قوله وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ ( إبراهيم 17 ) والمعنى أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ومع ذلك فإنه لا يموت وقيل من كل جزء من أجزاء جسده
النوع الرابع قوله وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ وفيه وجهان الأول أن المراد من العذاب الغليظ كونه دائماً غير منقطع الثاني أنه في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله قال المفضل هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد والله أعلم
مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَى ْءٍ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ(19/82)
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع عذابهم في الآية المتقدمة بين في هذه الآية أن أعمالهم بأسرها تصير ضائعة باطلة لا ينتفعون بشيء منها وعند هذا يظهر كمال خسرانهم لأنهم لا يجدون في القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعاً باطلاً وذلك هو الخسران الشديد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في ارتفاع قوله مَثَلُ الَّذِينَ وجوه الأول قال سيبويه التقدير وفيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا أو مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم وقوله كَرَمَادٍ جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول كيف مثلهم فقيل أعمالهم كرماد الثاني قال الفراء التقدير مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد فحذف المضاف اعتماداً على ذكره بعد المضاف إليه وهو قوله أَعْمَالَهُمْ ومثله قوله تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ ( السجدة 7 ) أي خلق كل شيء وكذا قوله وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) المعنى ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة الثالث أن يكون التقدير صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد كقولك صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول الرابع أن تكون أعمالهم بدلاً من قوله مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ والتقدير مثل أعمالهم وقوله كَرَمَادٍ هو الخبر الخامس أن يكون المثل صلة وتقديره الذين كفروا أعمالهم
المسألة الثانية اعلم أن وجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ولا خبر فكذا ههنا أن كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لم يبق من تلك الأعمال معهم خبر ولا أثر ثم اختلفوا في المراد بهذه الأعمال على وجوه
الوجه الأول أن المراد منها ما عملوه من أعمال البر كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين وإطعام الجائع وذلك لأنها تصير محبطة باطلة بسبب كفرهم ولولا كفرهم لانتفعوا بها
والوجه الثاني أن المراد من تلك الأعمال عبادتهم للأصنام وما تكلفوه من كفرهم الذي ظنوه إيماناً وطريقاً إلى الخلاص والوجه في خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالاً عليهم
والوجه الثالث أن المراد من هذه الأعمال كلا القسمين لأنهم إذا رأوا الأعمال التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت والأعمال التي ظنوها خيرات وأفنوا فيها أعمارهم قد بطلت أيضاً وصارت من أعظم الموجبات لعذابهم فلا شك أنه تعظم حسرتهم وندامتهم فلذلك قال تعالى وَذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ
المسألة الثالثة قرىء الرياح في يوم عاصف جعل العصف لليوم وهو لما فيه وهو الريح أو الرياح كقولك يوم ماطر وليلة ساكرة وإنما السكور لريحها قال الفراء وإن شئت قلت في يوم ذي عصوف وإن(19/83)
شئت قلت في يوم عاصف الريح فحذف ذكر الريح لكونه مذكوراً قبل ذلك وقرىء في يوم عاصف بالإضافة
المسألة الرابعة قوله لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَى ْء أي لا يقدرون مما كسبوا على شيء منتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة وذلك لأنه ضاع بالكلية وفسد وهذه الآية دالة على كون العبد مكتسباً لأفعاله
واعلم أنه تعالى لما تمم هذا المثال قال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه النظم أنه تعالى لما بين أن أعمالهم تصير باطلة ضائعة بين أن ذلك البطلان والإحباط إنما جاء بسبب صدر منهم وهو كفرهم بالله وإعراضهم عن العبودية فإن الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداء وكيف يليق بحكمته أن يفعل ذلك وأنه تعالى ما خلق كل هذا العالم إلا لداعية الحكمة والصواب
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي خَالِقٌ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ على اسم الفاعل على أنه خبر أن والسموات والأرض على الإضافة كقوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( إبراهيم 10 ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( الأنعام 95 ) و جَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً ( الأنعام 96 ) والباقون خلق على فعل الماضي السَّمَاء والاْرْضِ بالنصب لأنه مفعول
المسألة الثالثة قوله بِالْحَقّ نظير لقوله في سورة يونس وَمَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ ( يونس 5 ) ولقوله في آل عمران رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) ولقوله في ص وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ( ص 27 ) أما أهل السنة فيقولون إلا بالحق وهو دلالتهما على وجود الصانع وعلمه وقدرته وأما المعتزلة فيقولون إلا بالحق أي لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح
ثم قال تعالى إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ والمعنى أن من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق فبأن يقدر على إفناء قوم وإماتتهم وعلى إيجاد آخرين وإحيائهم كان أولى لأن القادر على الأصعب الأعظم بأن يكون قادراً على الأسهل الأضعف أولى قال ابن عباس هذا الخطاب مع كفار مكة يريد أميتكم يا معشر الكفار وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم
ثم قال وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي ممتنع لما ذكرنا أن القادر على إفناء كل العالم وإيجاده بأن يكون قادراً على إفناء أشخاص مخصوصين وإيجاده أمثالهم أولى وأحرى والله أعلم
وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ(19/84)
اعلم أنه تعالى لما ذكر أصناف عذاب هؤلاء الكفار ثم ذكر عقيبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة ذكر في هذه الآية كيفية خجالتهم عند تمسك أتباعهم وكيفية افتضاحهم عندهم وهذا إشارة إلى العذاب الروحاني الحاصل بسبب الفضيحة والخجالة وفيه مسائل
المسألة الأولى برز معناه في اللغة ظهر بعد الخفاء ومنه يقال للمكان الواسع البراز لظهوره وقيل في قوله وَتَرَى الاْرْضَ بَارِزَة ً ( الكهف 47 ) أي ظاهرة لا يسترها شيء وامرأة برزة إذا كانت تظهر للناس ويقال برز فلان على أقرانه إذا فاقهم وسبقهم وأصله في الخيل إذا سبق أحدها قيل برز عليها كأنه خرج من غمارها فظهر
إذا عرفت هذا فنقول ههنا أبحاث
البحث الأول قوله وَبَرَزُواْ ورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدق وحق فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود ونظيره قوله وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 50 )
البحث الثاني قد ذكرنا أن البروز في اللغة عبارة عن الظهور بعد الاستتار وهذا في حق الله تعالى محال فلا بد فيه من التأويل وهو من وجوه الأول أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية الثاني أنهم خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه الثالث وهو تأويل الحكماء أن النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء والوطاء وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله
البحث الثالث قال أبو بكر الأصم قوله وَبَرَزُواْ للَّهِ هو المراد من قوله في الآية السابقة وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( إبراهيم 17 )
واعلم أن قوله وَبَرَزُواْ للَّهِ قريب من قوله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ وَلاَ نَاصِرٍ ( الطارق 9 10 ) وذلك لأن البواطن تظهر في ذلك اليوم والأحوال الكامنة تنكشف فإن كانوا من السعداء برزوا للحاكم الحكيم بصفاتهم القدسية وأحوالهم العلوية ووجوههم المشرقة وأرواحهم الصافية المستنيرة فيتجلى لها نور الجلال ويعظم فيها إشراق عالم القدس فما أجل تلك الأحوال وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف العظمة ومنازل الكبرياء ذليلين مهينين خاضعين خاشعين واقعين في خزي الخجالة ومذلة الفضيحة وموقف المهانة والفزع نعوذ بالله منها ثم حكى الله تعالى أن الضعفاء يقولون للرؤساء هل تقدرون على دفع عذاب الله عنا والمعنى أنه إنما اتبعناكم لهذا اليوم ثم إن الرؤساء يعترفون بالخزي والعجز والذل قالوا سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ومن المعلوم أن اعتراف الرؤساء والسادة والمتبوعين بمثل هذا العجز والخزي والنكال يوجب الخجالة العظيمة والخزي الكامل التام فكان المقصود من ذكر هذه الآية استيلاء عذاب الفضيحة والخجالة والخزي عليهم مع ما تقدم ذكره من سائر وجوه أنواع العذاب والعقاب نعوذ بالله منها والله أعلم(19/85)
المسألة الثانية كتبوا الضعفاء بواو قبل الهمزة في بعض المصاحف والسبب فيه أنه كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ونظيره علماء بني إسرائيل
المسألة الثالثة الضعفاء الأتباع والعوام والذين استكبروا هم السادة والكبراء قال ابن عباس المراد أكابرهم الذين استكبروا عن عبادة الله تعالى إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا أي في الدنيا قال الفراء وأكثر أهل اللغة التبع تابع مثل خادم وخدم وباقر وبقر وحارس وحرس وراصد ورصد قال الزجاج وجائز أن يكون مصدراً سمي به أي كنا ذوي تبع
واعلم أن هذه التبعية يحتمل أن يقال المراد منها التبعية في الكفر ويحتمل أن يكون المراد منها التبعية في أحوال الدنيا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَى ْء أي هل يمكنكم دفع عذاب الله عنا
فإن قيل فما الفرق بين من في قوله مّنْ عَذَابِ اللَّهِ وبينه في قوله مِن شَى ْء
قلنا كلاهما للتبعيض بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو عذاب الله أي بعض عذاب الله وعند هذا حكى الله تعالى عن الذين استكبروا أنهم قالوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ وفيه وجوه الأول قال ابن عباس معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم قال الواحدي معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله تعالى أضلهم ولم يهدهم فدعوا أتباعهم إلى الضلال ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى قال صاحب ( الكشاف ) لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ( المجادلة 18 )
واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب عن أهل القيامة فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخه فلا يقبل منه الثاني قال صاحب ( الكشاف ) يجوز أن يكون المعنى لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال لا يجوز حمل هذا على اللطف لأن ذلك قد فعله الله تعالى والثالث أن يكون المعنى لو خلصنا الله من العقاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم والدليل على أن المراد من الهدى هذا الذي ذكرناه أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه فوجب أن يكون المراد من الهداية هذا المعنى
ثم قال سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا أي مستو علينا الجزع والصبر والهمزة وأم للتسوية ونظيره اصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ ( الطور 16 ) ثم قالوا ما لنا من محيص أي منجي ومهرب والمحيص قد يكون مصدراً كالمغيب والمشيب ومكاناً كالمبيت والمضيق ويقال حاص عنه وحاض بمعنى واحد والله أعلم
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى َ الاٌّ مْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِى َّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(19/86)
اعلم أنه تعالى لما ذكر المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع من كفرة الإنس أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه من الإنس فقال تعالى وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ وفي المراد بقوله لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ وجوه
القول الأول قال المفسرون إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه فيقوم في النار فيما بينهم خطيباً ويقول ما أخبر الله عنه بقوله وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ
القول الثاني أن المراد من قوله قُضِى َ الاْمْرُ لما انقضت المحاسبة والقول الأول أولى لأن آخر أمر أهل القيامة استقرار المطيعين في الجنة واستقرار الكافرين في النار ثم يدوم الأمر بعد ذلك
والقول الثالث وهو أن مذهبنا أن الفساق من أهل الصلاة يخرجون من النار ويدخلون الجنة فلا يبعد أن يكون المراد من قوله لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ ذلك الوقت لأن في ذلك الوقت تنقطع الأحوال المعتبرة ولا يحصل بعده إلا دوام ما حصل فيه قبل ذلك وأما الشيطان فالمراد به إبليس لأن لفظ الشيطان لفظ مفرد فيتناول الواحد وإبليس رأس الشياطين ورئيسهم فحمل اللفظ عليه أولى لا سيما وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافر قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول )
أما قوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ففيه مباحث
البحث الأول المراد أن الله تعالى وعدكم وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم وتقرير الكلام أن النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية ولا تتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها ويرغب فيها كما قال وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 17 )
البحث الثاني قوله وَعْدَ الْحَقّ من باب إضافة الشيء إلى نفسه كقوله حُبَّ الْحَصِيدِ ( ق 9 ) ومسجد الجامع على قول الكوفيين والمعنى وعدكم الوعد الحق وعلى مذهب البصريين يكون التقدير وعد اليوم الحق أو الأمر الحق أو يكون التقدير وعدكم الحق ثم ذكر المصدر تأكيداً
البحث الثالث في الآية إضمار من وجهين الأول أن التقدير إن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد لأنهم كانوا يشاهدونها وليس وراء العيان بيان ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى الثاني أن في قوله وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ الوعد يقتضي مفعولاً ثانياً وحذف ههنا للعلم به والتقدير ووعدتكم أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب(19/87)
أما قوله وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ أي قدرة ومكنة وتسلط وقهر فاقهركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها إلا أن دعوتكم أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني قال النحويون ليس الدعاء من جنس السلطان فقوله إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ من جنس قولهم ما تحيتهم إلا الضرب وقال الواحدي إنه استثناء منقطع أي لكن دعوتكم وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة ( إلا ) ههنا استثناء حقيقي لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة يكون بالقهر والقسر وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه فهذا نوع من أنواع التسلط ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وجوارحه وعلى إزالة العقل عنه كما يقوله العوام والحشوية ثم قال فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ يعني ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله تعالى فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إلي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أشياء الأول أنه لو كان الكفر والمعصية من الله لوجب أن يقال فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه الثاني ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وعلى إزالة العقل عنه كما تقول الحشوية والعوام الثالث أن هذه الآية تدل على أن الإنسان لا يجوز ذمه ولومه وعقابه بسبب فعل الغير وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم
أجاب بعض الأصحاب عن هذه الوجوه بأن هذا قول الشيطان فلا يجوز التمسك به
وأجاب الخصم عنه بأنه لو كان هذا القول منه باطلاً لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره وأيضاً فلا فائدة في ذلك اليوم في ذكر هذا الكلام الباطل والقول الفاسد ألا ترى أن قوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ كلام حق وقوله وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ قول حق بدليل قوله تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ( الحجر 42 )
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن الشيطان الأصلي هو النفس وذلك لأن الشيطان بين أنه ما أتى إلا بالوسوسة فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتة فدل هذا على أن الشيطان الأصلي هو النفس
فإن قال قائل بينوا لنا حقيقة الوسوسة
قلنا الفعل إنما يصدر عن الإنسان عند حصول أمور أربعة يترتب بعضها على البعض ترتيباً لازماً طبيعياً وبيانه أن أعضاء الإنسان بحكم السلامة الأصلية والصلاحية الطبيعية صالحة للفعل والترك والإقدام والإحجام فما لم يحصل في القلب ميل إلى ترجيح الفعل على الترك أو بالعكس فإنه يمتنع صدور الفعل وذلك الميل هو الإرادة الجازمة والقصد الجازم ثم إن تلك الإرادة الجازمة لا تحصل إلا عند حصول علم أو اعتقاد أو ظن بأن ذلك الفعل سبب للنفع أو سبب للضرر فإن لم يحصل فيه هذا الإعتقاد لم يحصل الميل لا إلى الفعل ولا إلى الترك فالحاصل أن الإنسان إذا أحس بشيء ترتب عليه شعوره بكونه ملائماً له أو بكونه منافراً له أو بكونه غير ملائم ولا منافر فإن حصل الشعور بكونه ملائماً له ترتب عليه الميل الجازم إلى الفعل(19/88)
وإن حصل الشعور بكونه منافراً له ترتب عليه الميل الجازم إلى الترك وإن لم يحصل لا هذا ولا ذاك لم يحصل الميل لا إلى ذلك الشيء ولا إلى ضده بل بقي الإنسان كما كان وعند حصول ذلك الميل الجازم تصير القدرة مع ذلك الميل موجبة للفعل
إذا عرفت هذا فنقول صدور الفعل عن مجموع القدرة والداعي الحاصل أمر واجب فلا يكون للشيطان مدخل فيه وصدور الميل عن تصور كونه خيراً أو تصور كونه شراً أمر واجب فلا يكون للشيطان فيه مدخل وحصول كونه خيراً أو تصوراً كونه شراً عن مطلق الشعور بذاته أمر لازم فلا مدخل للشيطان فيه فلم يبق للشيطان مدخل في شيء من هذه المقامات إلا في أن يذكره شيئاً بأن يلقي إليه حديثه مثل أن الإنسان كان غافلاً عن صورة امرأة فيلقي الشيطان حديثها في خاطره فالشيطان لا قدرة له إلا في هذا المقام وهو عين ما حكى الله تعالى عنه أنه قال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى يعني ما كان مني إلا مجرد هذه الدعوة فأما بقية المراتب فما صدرت مني وما كان لي فيها أثر ألبتة بقي في هذا المقام سؤالان
السؤال الأول كيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه
والجواب للناس في الملائكة والشياطين قولان
القول الأول أن ما سوى الله بحسب القسمة العقلية على أقسام ثلاثة المتحيز والحال في المتحيز والذي لا يكون متحيزاً ولا حالاً فيه وهذا القسم الثالث لم يقم الدليل ألبتة على فساد القول به بل الدلائل الكثيرة قامت على صحة القول به وهذا هو المسمى بالأرواح فهذه الأرواح إن كانت طاهرة مقدسة من عالم الروحانيات القدسية فهم الملائكة وإن كانت خبيثة داعية إلى الشرور وعالم الأجساد ومنازل الظلمات فهم الشياطين
إذا عرفت هذا فنقول فعلى هذا التقدير الشيطان لا يكون جسماً يحتاج إلى الولوج في داخل البدن بل هو جوهر روحاني خبيث الفعل مجبول على الشر والنفس الإنسانية أيضاً كذلك فلا يبعد على هذا التقدير في أن يلقى شيء من تلك الأرواح أنواعاً من الوساوس والأباطيل إلى جوهر النفس الإنسانية وذكر بعض العلماء في هذا الباب احتمالاً ثانياً وهو أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالنوع فهي طوائف وكل طائفة منها في تدبير روح من الأرواح السماوية بعينها فنوع من النفوس البشرية تكون حسنة الأخلاق كريمة الأفعال موصوفة بالفرح والبشر وسهولة الأمر وهي تكون منتسبة إلى روح معين من الأرواح السماوية وطائفة أخرى منها تكون موصوفة بالحدة والقوة والغلظة وعدم المبالاة بأمر من الأمور وهي تكون منتسبة إلى روح آخر من الأرواح السماوية وهذه الأرواح البشرية كالأولاد لذلك الروح السماوي وكالنتائج الحاصلة وكالفروع المتفرعة عليها وذلك الروح السماوي هو الذي يتولى إرشادها إلى مصالحها وهو الذي يخصها بالإلهامات حالتي النوم واليقظة والقدماء كانوا يسمون ذلك الروح السماوي بالطباع التام ولا شك أن لذلك الروح السماوي الذي هو الأصل والينبوع شعباً كثيرة ونتائج كثيرة وهي بأسرها تكون من جنس روح هذا الإنسان وهي لأجل مشاكلتها ومجانستها يعين بعضها بعضاً على الأعمال اللائقة بها والأفعال المناسبة لطبائعها ثم إنها إن كانت خيرة طاهرة طيبة كانت ملائكة وكانت تلك الإعانة مسماة بالإلهام وإن كانت(19/89)
شريرة خبيثة قبيحة الأعمال كانت شياطين وكانت تلك الإعانة مسماة بالوسوسة وذكر بعض العلماء أيضاً فيه احتمالاً ثالثاً وهو أن النفوس البشرية والأرواح الإنسانية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق بسبب المشاكلة الحاصلة بين هذا البدن وبين ما كان بدناً لتلك النفس المفارقة فيصير لتلك النفس المفارقة تعلق شديد بهذا البدن وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن ومعاضدة لها على أفعالها وأحوالها بسبب هذه المشاكلة ثم إن كان هذا المعنى في أبواب الخير والبركات كان ذلك إلهاماً وإن كان في باب الشر كان وسوسة فهذه وجوه محتملة تفريعاً على القول بإثبات جواهر قدسية مبرأة عن الجسمية والتحيز والقول بالأرواح الطاهرة والخبيثة كلام مشهور عند قدماء الفلاسفة فليس لهم أن ينكروا إثباتها على صاحب شريعتنا محمد ( صلى الله عليه وسلم )
وأما القول الثاني وهو أن الملائكة والشياطين لا بد وأن تكون أجساماً فنقول إن على هذا التقدير يمتنع أن يقال إنها أجسام كثيفة بل لا بد من القول بأنها أجسام لطيفة والله سبحانه ركبها تركيباً عجيباً وهي أن تكون مع لطافتها لا تقبل التفرق والتمزق والفساد والبطلان ونفوذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة غير مستبعد ألا ترى أن الروح الإنسانية جسم لطيف ثم إنه نفذ في داخل عمق البدن فإذا عقل ذلك فكيف يستبعد نفوذ أنواع كثيرة من الأجسام اللطيفة في داخل هذا البدن أليس أن جرم النار يسري في جرم الفحم وماء الورد يسري في ورق الورد ودهن السمسم يجري في جسم السمسم فكذا ههنا فظهر بما قررنا أن القول بإثبات الجن والشياطين أمر لا تحيله العقول ولا تبطله الدلائل وأن الإصرار على الإنكار ليس إلا من نتيجة الجهل وقلة الفطنة ولما ثبت أن القول بالشياطين ممكن في الجملة فنقول الأحق والأولى أن يقال الملائكة على هذا القول مخلوقون من النور والشياطين مخلوقون من الدخان واللهب كما قال الله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) وهذا الكلام من المشهورات عند قدماء الفلاسفة فكيف يليق بالعاقل أن يستبعده من صاحب شريعتنا محمد ( صلى الله عليه وسلم )
السؤال الثاني لم قال الشيطان فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ وهو أيضاً ملوم بسبب اقدامه على تلك الوسوسة الباطلة
والجواب أراد بذلك فلا تلوموني على ما فعلتم ولوموا أنفسكم عليه لأنكم عدلتم عما توجبه هداية الله تعالى لكم ثم قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِى َّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس بمغيثكم ولا منقذكم قال ابن الأعرابي الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث يقال صرخ فلان إذا استغاث وقال واغوثاه وأصرحته أغثته
المسألة الثانية قرأ حمزة بمصرخي بكسر الياء قال الواحدي وهي قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب قال الفراء ولعلها من وهم القراء فإنه قل من سلم منهم عن الوهم ولعله ظن أن الباء في قوله بِمُصْرِخِى َّ خافضة لجملة هذه الكلمة وهذا خطأ لأن الياء من المتكلم خارجة من ذلك قال ومما نرى(19/90)
أنهم وهموا فيه قوله نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ( النساء 115 ) بجزم الهاء ظنوا والله أعلم أن الجزم في الهاء وهو خطأ لأن الهاء في موضع نصب وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه ومن النحويين من تكلف في ذكر وجه لصحته إلا أن الأكثرين قالوا إنه لحن والله أعلم
ثم قال تعالى حكاية عنه إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ( ما ) في قوله إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ فيه قولان الأول إنها مصدرية والمعنى كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة والمعنى أنه جحد ما كان يعتقده أولئك الأتباع من كون إبليس شريكاً لله تعالى في تدبير هذا العالم وكفر به أو يكون المعنى أنهم كانوا يطيعون الشيطان في أعمال الشر كما كانوا قد يطيعون الله في أعمال الخير وهذا هو المراد بالإشراك والثاني وهو قول الفراء أن المعنى أن إبليس قال إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم والمعنى أنه كان كفره قبل كفر أولئك الأتباع ويكون المراد بقوله ( ما ) في هذا الموضع ( من ) والقول هو الأول لأن الكلام إنما ينتظم بالتفسير الأول ويمكن أن يقال أيضاً الكلام منتظم على التفسير الثاني والتقدير كأنه يقول لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة وعلى هذا التقدير ينتظم الكلام
أما قوله إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فالأظهر أنه كلام الله عز وجل وأن كلام إبليس تم قبل هذا الكلام ولا يبعد أيضاً أن يكون ذلك من بقية كلام إبليس قطعاً لأطماع أولئك الكفار عن الإعانة والإغاثة والله أعلم
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح أحوال الأشقياء من الوجوه الكثيرة شرح أحوال السعداء وقد عرفت أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وكونها دائمة أشير إليه بقوله خَالِدِينَ فِيهَا والتعظيم حصل من وجهين أحدهما أن تلك المنافع إنما حصلت بإذن الله تعالى وأمره والثاني قوله تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ لأن بعضهم يحيي بعضاً بهذه الكلمة والملائكة يحيونهم بها كما قال وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 ) والرب الرحيم يحييهم أيضاً بهذه الكلمة كما قال سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 )
واعلم أن السلام مشتق من السلامة وإلا ظهر أن المراد أنهم سلموا من آفات الدنيا وحسراتها أو فنون(19/91)
آلامها وأسقامها وأنواع غمومها وهمومها وما أصدق ما قالوا فإن السلامة من محن عالم الأجسام الكائنة الفاسدة من أعظم النعم لا سيما إذا حصل بعد الخلاص منها الفوز بالبهجة الروحانية والسعادة الملكية
المسألة الثانية قرأ الحسن وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءامَنُواْ على معنى وأدخلهم أنا وعلى هذه القراءة فقوله بِإِذْنِ رَبّهِمْ متعلق بما بعده أي تحيتهم فيها سلام بإذن ربهم يعني أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَة ً طَيِّبَة ً كَشَجَرة ٍ طَيِّبَة ٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَة ٍ خَبِيثَة ٍ كَشَجَرَة ٍ خَبِيثَة ٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال الأشقياء وأحوال السعداء ذكر مثالاً يبين الحال في حكم هذين القسمين وهو هذا المثل وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر شجرة موصوفة بصفات أربعة ثم شبه الكلمة الطيبة بها
فالصفة الأولى لتلك الشجرة كونها طيبة وذلك يحتمل أموراً أحدها كونها طيبة المنظر والصورة والشكل وثانيها كونها طيبة الرائحة وثالثها كونها طيبة الثمرة يعني أن الفواكه المتولدة منها تكون لذيذة مستطابة ورابعها كونها طيبة بحسب المنفعة يعني أنها كما يستلذ بأكلها فكذلك يعظم الانتفاع بها ويجب حمل قوله شجرة طيبة على مجموع هذه الوجوه لأن اجتماعها يحصل كمال الطيب
والصفة الثانية قوله أَصْلُهَا ثَابِتٌ أي راسخ باق آمن الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء وذلك لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الانقراض والانقضاء فهو وإن كان يحصل الفرح بسبب وجدانه إلا أنه يعظم الحزن بسبب الخوف من زواله وانقضائه أما إذا علم من حاله أنه باق دائم لا يزول ولا ينقضي فإنه يعظم الفرح بوجدانه ويكمل السرور بسبب الفوز به
والصفة الثالثة قوله وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاء وهذا الوصف يدل على كمال حال تلك الشجرة من وجهين الأول أن ارتفاع الأغصان وقوتها في التصاعد يدل على ثبات الأصل ورسوخ العروق والثاني أنها متى كانت متصاعدة مرتفعة كانت بعيدة عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمراتها نقية ظاهرة طيبة عن جميع الشوائب
والصفة الرابعة قوله تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا والمراد أن الشجرة المذكورة كانت موصوفة(19/92)
بهذه الصفة وهي أن ثمرتها لا بد أن تكون حاضرة دائمة في كل الأوقات ولا تكون مثل الأشجار التي يكون ثمارها حاضراً في بعض الأوقات دون بعض فهذا شرح هذه الشجرة التي ذكرها الله تعالى في هذا الكتاب الكريم ومن المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها وتملكها فإنه لايجوز له أن يتغافل عنها وأن يتساهل في الفوز بها
إذا عرفت هذا فنقول معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وفي خدمته وطاعته تشبه هذه الشجرة في هذه الصفات الأربع
أما الصفة الأولى وهي كونها طيبة فهي حاصلة بل نقول لا طيب ولا لذيذ في الحقيقة إلا هذه المعرفة وذلك لأن اللذة الحاصلة بتناول الفاكهة المعينة إنما حصلت لأن إدراك تلك الفاكهة أمر ملائم لمزاج البدن فلأجل حصول تلك الملاءمة والمناسبة حصلت تلك اللذة العظيمة وههنا الملائم لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ليس إلا معرفة الله تعالى ومحبته والاستغراق في الابتهاج به فوجب أن تكون هذه المعرفة لذيذة جداً بل نقول اللذة الحاصلة من إدراك الفاكهة يجب أن تكون أقل حالاً من اللذة الحاصلة بسبب إشراق جوهر النفس بمعرفة الله وبيان هذا التفاوت من وجوه
الوجه الأول أن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة بسبب أن سطح الحاس يلاقي سطح المحسوس فقط فأما أن يقال إن جوهر المحسوس نفذ في جوهر الحاس فليس الأمر كذلك لأن الأجسام يمتنع تداخلها أما ههنا فمعرفة الله تعالى وذلك النور وذلك الإشراق صار سارياً في جوهر النفس متحداً به وكأن النفس عند حصول ذلك الإشراق تصير غير النفس التي كانت قبل حصول ذلك الإشراق فهذا فرق عظيم بين البابين
والوجه الثاني في الفرق أن في الالتذاذ بالفاكهة المدرك هو القوة الذائقة والمحسوس هو الطعم المخصوص وههنا المدرك هو جوهر النفس القدسية والمعلوم والمشعور به هو ذات الحق جل جلاله وصفات جلاله وإكرامه فوجب أن تكون نسبة إحدى اللذتين إلى الأخرى كنسبة أحد المدركين إلى الآخر
الوجه الثالث في الفرق أن اللذات الحاصلة بتناول الفاكهة الطيبة كلما حصلت زالت في الحال لأنها كيفية سريعة الاستحالة شديدة التغير أما كمال الحق وجلاله فإنه ممتنع التغير والتبدل واستعداد جوهر النفس لقبول تلك السعادة أيضاً ممتنع التغير فظهر الفرق العظيم من هذا الوجه
واعلم أن الفرق بين النوعين يقرب أن يكون من وجوه غير متناهية فليكتف بهذه الوجوه الثلاثة تنبيهاً للعقل السليم على سائرها وأما الصفة الثانية وهي كون هذه الشجرة ثابتة الأصل فهذه الصفة في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل وذلك لأن عروق هذه الشجرة راسخة في جوهر النفس القدسية وهذا الجوهر جوهر مجرد عن الكون والفساد بعيد عن التغير والفناء وأيضاً مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلي جلال الله تعالى وهذا التجلي من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور وذلك مما يمتنع عقلاً زواله لأنه سبحانه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في جميع صفاته والتغير والفناء والتبدل والزوال والبخل والمنع محال في حقه فثبت أن الشجرة الموصوفة بكونها ثابتة الأصل ليست إلا هذه الشجرة
الصفة الثالثة لهذه الشجرة كونها بحيث يكون فرعها في السماء(19/93)
واعلم أن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الإلهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني
وأما النوع الأول فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام ( التعظيم لأمر الله ) ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفة الله تعالى في عالم الأرواح وفي عالم الأجسام وفي أحوال عالم الأفلاك والكواكب وفي أحوال العالم السفلي ويدخل فيه محبة الله تعالى والشوق إلى الله تعالى والمواظبة على ذكر الله تعالى والاعتماد بالكلية على الله تعالى والانقطاع بالكلية عما سوى الله تعالى والاستقصاء في ذكر هذه الأقسام غير مطموع فيه لأنها أحوال غير متناهية
وأما النوع الثاني فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام ( والشفقة على خلق الله ) ويدخل فيه الرحمة والرأفة والصفح والتجاوز عن الذنوب والسعي في إيصال الخير إليهم ودفع الشر عنهم ومقابلة الإساءة بالإحسان وهذه الأقسام أيضاً غير متناهية وهي فروع ثابتة من شجرة معرفة الله تعالى فإن الإنسان كلما كان أكثر توغلاً في معرفة الله تعالى كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى وأفضل
وأما الصفة الرابعة فهي قوله تعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا فهذه الشجرة أولى بهذه الصفة من الأشجار الجسمانية لأن شجرة المعرفة موجبة لهذه الأحوال ومؤثرة في حصولها والسبب لا ينفك عن المسبب فأثر رسوخ شجرة المعرفة في أرض القلب أن يكون نظر بالعبرة كما قال فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وأن يكون سماعه بالحكمة كما قال الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الزمر 18 ) ونطقه بالصدق والصواب كما قال كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( النساء 135 ) وقال عليه السلام ( قولوا الحق ولو على أنفسكم ) وهذا الإنسان كلما كان رسوخ شجرة المعرفة في أرض قلبه أقوى وأكمل كان ظهور هذه الآثار عنده أكثر وربما توغل في هذا الباب فيصير بحيث كلما لاحظ شيئاً لاحظ الحق فيه وربما عظم ترقيه فيه فيصير لا يرى شيئاً إلا وقد كان قد رأى الله تعالى قبله فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وأيضاً فما ذكرناه إشارة إلى الإلهامات النفسانية والملكات الروحانية التي تحصل في جواهر الأرواح ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة ولمحة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل كثمرة هذه الشجرة
وأما قوله بِإِذْنِ رَبّهَا ففيه دقيقة عجيبة وذلك لأن عند حصول هذه الأحوال السنية والدرجات العالية قد يفرح الإنسان بها من حيث هي هي وقد يترقى فلا يفرح بها من حيث هي هي وإنما يفرح بها من حيث إنها من المولى وعند ذلك فيكون فرحه في الحقيقة بالمولى لا بهذه الأحوال ولذلك قال بعض المحققين من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالفاني ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول فقد ظهر بهذا التقرير الذي شرحناه والبيان الذي فصلناه أن هذا المثال الذي ذكره الله تعالى في هذا الكتاب مثال هادٍ إلى عالم القدس وحضرة الجلال وسرادقات الكبرياء فنسأل الله تعالى مزيد الاهتداء والرحمة إنه سميع مجيب وذكر بعضهم في تقرير هذا المثال كلاماً لا بأس به فقال إنما مثل الله سبحانه وتعالى الإيمان بالشجرة لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ(19/94)
وأصل قائم وأغصان عالية كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء معرفة في القلب وقول باللسان وعمل بالأبدان والله أعلم
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف في نصب قوله كَلِمَة ً طَيّبَة ً وجهان الأول أنه منصوب بمضمر والتقدير جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة وهو تفسير لقوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً الثاني قال ويجوز أن ينتصب مثلاً وكلمة بضرب أي ضرب كلمة طيبة مثلاً بمعنى جعلها مثلاً وقوله كَشَجَرة ٍ طَيّبَة ٍ خبر مبتدأ محذوف والتقدير هي كشجرة طيبة الثالث قال صاحب ( حل العقد ) أظن أن الأوجه أن يجعل قوله كَلِمَة َ عطف بيان والكاف في قوله كَشَجَرَة ٍ في محل النصب بمعنى مثل شجرة طيبة
المسألة الثالثة قال ابن عباس الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله والشجرة الطيبة هي النخلة في قول الأكثرين وقال صاحب ( الكشاف ) إنها كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وأراد بشجرة طيبة الثمرة إلا أنه لم يذكرها لدلالة الكلام عليها أصلها أي أصل هذه الشجرة الطيبة ثابت وفرعها أي أعلاها في السماء والمراد الهواء لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء تُؤْتِى أي هذه الشجرة أُكُلُهَا أي ثمرها وما يؤكل منها كل حين واختلفوا في تفسير هذا الحين فقال ابن عباس ستة أشهر لأن بين حملها إلى صرامها ستة أشهر جاء رجل إلى ابن عباس فقال نذرت أن لا أكلم أخي حتى حين فقال الحين ستة أشهر وتلا قوله تعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ وقال مجاهد وابن زيد سنة لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة وقال سعيد بن المسيب شهران لأن مدة إطعام النخلة شهران وقال الزجاج جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أن الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أم قصرت والمراد من قوله تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ أنه ينتفع بها في كل وقت وفي كل ساعة ليلاً أو نهاراً أو شتاء أو صيفاً قالوا والسبب فيه أن النخلة إذا تركوا عليها الثمر من السنة إلى السنة انتفعوا بها في جميع أوقات السنة وأقول هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية إلا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود لأنه تعالى وصف هذه الشجرة بالصفات المذكورة ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل واختلافهم في تفسير الحين أيضاً من هذا الباب والله أعلم بالأمور
ثم قال وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ والمعنى أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني وذلك لأن المعاني العقلية المحضة لا يقبلها الحس والخيال والوهم فإذا ذكر ما يساويها من المحسوسات ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة وانطبق المعقول على المحسوس وحصل به الفهم التام والوصول إلى المطلوب
وأما قوله تعالى وَمَثلُ كَلِمَة ٍ خَبِيثَة ٍ كَشَجَرَة ٍ خَبِيثَة ٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
فاعلم أن الشجرة الخبيثة هي الجهل بالله فإنه أول الآفات وعنوان المخالفات ورأس الشقاوات ثم إنه تعالى شبهها بشجرة موصوفة بصفات ثلاثة
الصفة الأولى أنها تكون خبيثة فمنهم من قال إنها الثوم لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) وصف الثوم بأنها شجرة خبيثة(19/95)
وقيل إنها الكراث وقيل إنها شجرة الحنظل لكثرة ما فيها من المضار وقيل إنها شجرة الشوك
واعلم أن هذا التفصيل لا حاجة إليه فإن الشجرة قد تكون خبيثة بحسب الرائحة وقد تكون بحسب الطعم وقد تكون بحسب الصورة والمنظر وقد تكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة والشجرة الجامعة لكل هذه الصفات وإن لم تكن موجودة إلا أنها لما كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعاً في المطلوب
والصفة الثانية قوله اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ وهذه الصفة في مقابلة قوله أَصْلُهَا ثَابِتٌ ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الإجتثاث أخذ الجثة كلها وقوله مِن فَوْقِ الاْرْضِ معناه ليس لها أصل ولا عرق فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة
والصفة الثالثة قوله ما لها من قرار وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية والمعنى أنه ليس لها استقرار يقال قر الشيء قراراً كقولك ثبت ثباتاً شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت
واعلم أن هذا المثال في صفة الكلمة الخبيثة في غاية الكمال وذلك لأنه تعالى بين كونها موصوفة بالمضار الكثيرة وخالية عن كل المنافع أما كونها موصوفة بالمضار فإليه الإشارة بقوله خَبِيثَة ٍ وأما كونها خالية عن كل المنافع فإليه الإشارة بقوله اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ لَهَا مِن قَرَارٍ والله أعلم
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّ خِرَة ِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن صفة الكلمة الطيبة أن يكون أصلها ثابتاً وصفة الكلمة الخبيثة أن لا يكون لها أصل ثابت بل تكون منقطعة ولا يكون لها قرار ذكر أن ذلك القول الثابت الصادر عنهم في الحياة الدنيا يوجب ثبات كرامة الله لهم وثبات ثوابه عليهم والمقصود بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى فقوله يُثَبّتُ اللَّهُ أي على الثواب والكرامة وقوله بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ أي بالقول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا
ثم قال وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يعني كما أن الكلمة الخبيثة ما كان لها أصل ثابت ولا فرع باسق فكذلك أصحاب الكلمة الخبيثة وهم الظالمون يضلهم الله عن كراماته ويمنعهم عن الفوز بثوابه وفي الآية قول آخر وهو القول المشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في قوله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ قال ( حين يقال له في القبر من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمراد في الباء في قوله بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ هو أن الله تعالى إنما(19/96)
ثبتهم في القبر بسبب مواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول ولهذا الكلام تقرير عقلي وهو أنه كلما كانت المواظبة على الفعل أكثر كان رسوخ تلك الحالة في العقل والقلب أقوى فكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في حقائقها ودقائقها أكمل وأتم كان رسوخ هذه المعرفة في عقله وقلبه بعد الموت أقوى وأكمل قال ابن عباس من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها وإنما فسر الآخرة ههنا بالقبر لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا ودخل في أحكام الآخرة وقوله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يعني أن الكفار إذا سئلوا في قبورهم قالوا لا ندري وإنما قال ذلك لأن الله أضله وقوله وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء يعني إن شاء هدى وإن شاء أضل ولا اعتراض عليه في فعله ألبتة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ
اعلم أنه تعالى عاد إلى وصف أحوال الكفار في هذه الآية فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا نزل في أهل مكة حيث أسكنهم الله تعالى حرمه الآمن وجعل عيشهم في السعة وبعث فيهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يعرفوا قدر هذه النعمة ثم إنه تعالى حكى عنهم أنواعاً من الأعمال القبيحة
النوع الأول قوله بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وفيه وجوه الأول يجوز أن يكون بدلوا شكر نعمة الله كفراً لأنه لما وجب عليهم الشكر بسبب تلك النعمة أتوا بالكفر فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً والثاني أنهم بدلوا نفس نعمة الله كفراً لأنهم لما كفروا سلب الله تلك النعمة عنهم فبقي الكفر معهم بدلاً من النعمة الثالث أنه تعالى أنعم عليهم بالرسول والقرآن فاختاروا الكفر على الإيمان
والنوع الثاني ما حكى الله تعالى عنهم قوله وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ وهو الهلاك يقال رجل بائر وقوم بور ومنه قوله تعالى وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً ( الفتح 12 ) وأراد بدار البوار جهنم بدليل أنه فسرها بجهنم فقال جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ أي المقر وهو مصدر سمي به
النوع الثالث من أعمالهم القبيحة قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً ذكر أنهم بعد أن كفروا بالله جعلوا له أنداداً والمراد من هذا الجعل الحكم والاعتقاد والقول والمراد في الأنداد الأشباه والشركاء وهذا الشريك يحتمل وجوهاً أحدها أنهم جعلوا للأصنام حظاً فيما أنعم الله به عليهم نحو قولهم هذا لله وهذا لشركائنا وثانيها أنهم شركوا بين الأصنام وبين خالق العالم في العبودية وثالثها أنهم كانوا يصرحون بإثبات الشركاء لله وهو قولهم في الحج لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك(19/97)
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو لِيُضِلُّواْ بفتح الياء من ضل يضل والباقون بضم الياء من أضل غيره يضل
المسألة الثالثة اللام في قوله لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ لام العاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ويحتمل أن تكون لام كي أي الذين اتخذوا الوثن كي يضلوا غيرهم هذا إذا قرىء بالضم فإنه يحتمل الوجهين وإذا قرىء بالنصب فلا يحتمل إلا لام العاقبة لأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم وتحقيق القول في لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل أول الفكر آخر العمل وكل ما حصل في العاقبة كان شبيهاً بالأمر المقصود في هذا المعنى والمشابهة أحد الأمور المصححة لحسن المجاز فلهذا السبب حسن ذكر اللام في العاقبة ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ والمراد أن حال الكافر في الدنيا كيف كانت فإنها بالنسبة إلى ما سيصل إليه من العقاب في الآخرة تمتع ونعيم فلهذا المعنى قال قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وأيضاً إن هذا الخطاب مع الذين حكى الله عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً فأولئك كانوا في الدنيا في نعم كثيرة فلا جرم حسن قوله تعالى قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وهذا الأمر يسمى أمر التهديد ونظيره قوله تعالى اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( فصلت 40 ) وكقوله قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( الزمر 8 )
( 31 )
قُل لِّعِبَادِى َ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَة َ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَة ً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ
اعلم أنه تعالى لما أمر الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين في هذه الآية بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي لّعِبَادِى َ بسكون الياء والباقون بفتح الياء لالتقاء الساكنين فحرك إلى النصب
المسألة الثانية في قوله يُقِيمُواْ وجهان الأول يجوز أن يكون جواباً لأمر محذوف هو المقول تقديره قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا الثاني يجوز أن يكون هو أمراً مقولاً محذوفاً منه لام الأمر أي ليقيموا كقولك قل لزيد ليضرب عمراً وإنما جاز حذف اللام لأن قوله قُلْ عوض منه ولو قيل ابتداء يقيموا الصلاة لم يجز
المسألة الثالثة أن الإنسان بعد الفراغ من الإيمان لا قدرة له على التصرف في شيء إلا في نفسه أو في ماله أما النفس فيجب شغلها بخدمة المعبود في الصلاة وأما المال فيجب صرفه إلى البذل في طاعة الله تعالى فهذه الثلاثة هي الطاعات المعتبرة وهي الإيمان والصلاة والزكاة وتمام ما يجب أن يقال في هذه(19/98)