|
المؤلف: علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الشهير بالخازن
دار النشر: دار الفكر - بيروت / لبنان -
1399 هـ /1979 م
عدد الأجزاء / 7
[ترقيم الشاملة موافق للمطبوع]
تم استيراده من نسخة: عبد الحميد بن عبد الستار
صفحة رقم 272
بها ) الذي جعل لكم الأرض مهداً ( أي فراشاً وقيل مهدها لكم ) وسلك لكم فيها سبلاً ( أي أدخل في الأرض لأجلكم طرقاً وسهلها لكم لتسلكوها ) وأنزل من السماء ماء ( يعني المطر ثم الأخبار عن موسى ثم قال الله تعالى ) فأخرجنا به ( أي بذلك الماء ) أزواجاً ( أي أصنافاً ) من نبات شتى ( أي مختلف الألوان والطعوم والمنافع فمنها ما هو للناس ومنها ما هو للدواب ) كلوا وارعوا أنعامكم ( أي أخرجنا أصناف النبات للانتفاع بالأكل والرعي ) إن في ذلك ( أي الذي ذكر ) لآيات لأولي النهى ( أي لذوي العقول , قيل هم الذين ينتهون عما حرم الله عليهم ) منها خلقناكم ( أي من الأرض خلقنا آدم , وقيل إن الملك ينطلق فيأخذ من التراب الذي يدفن فيه فيذره في النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة ) وفيها نعيدكم ( أي عند الموت والدفن ) ومنها نخرجكم تارة أخرى ( أي يوم القيامة للبعث والحساب.
قوله تعالى ) ولقد أريناه ( يعني فرعون ) آياتنا كلها ( يعني الآيات التسع التي أعطاها الله موسى ) فكذب وأبى ( يعني فرعون وزعم أنها سحر وأبى أن يسلم ) قال ( يعني فرعون ) أجئتنا لتخرجنا من أرضنا ( يعني مصر ) بسحرك يا موسى ( يريد أن تغلب على ديارنا فيكون لك الملك وتخرجنا منها ) فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً ( أي اضراب أجلاً وميقاتاً ) لا نخلفه ( لا نجاوزه ) نحن ولا أنت مكاناً سوىً ( أي مكاناً عدلاً وقال ابن عباس : نصفاً تستوي مسافة الفريقين إليه وقيل معناه سوى هذا المكان ) قال ( يعني موسى ) موعدكم يوم الزينة ( قيل كان يوم عيد لهم يتزينون فيه ويجتمعون في كل سنة وقيل هو يوم النيروز وقال ابن عباس يوم عاشوراء ) وأن يحشر الناس ضحى ( أي وقت الضحوة نهاراً جهاراً ليكون أبعد من الريبة ) فتولى فرعون فجمع ( يعني فرعون ) كيده ( يعني مكره وسحره وحيله ) ثم أتى ( يوم المعاد ) قال لهم موسى ( يعني للسحرة الذين
(4/272)
صفحة رقم 273
جمعهم فرعون وكانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر حبل وعصا وقيل كانوا أربعمائة وقيل كانوا اثني عشر ألفاً ) ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب ( اي فيهلكنكم ويستأصلكم ) وقد خاب من افترى ( أي خسر من ادعى مع الله إلهاً آخر وقيل معناه خسر من كذب على الله تعالى.
)
طه : ( 62 - 64 ) فتنازعوا أمرهم بينهم...
" فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى " ( قوله تعالى : ( فتنازعوا أمرهم بينهم ( أي تناظروا وتشاوروا , يعني السحرة في أمر موسى سراً من فرعون وقالوا إن غلبنا موسى اتبعناه , معناه لما قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً.
قال بعضهم لبعض ما هذا بقول ساحر ) وأسروا النجوى ( أي المناجاة ) قالوا ( قال بعضهم لبعض سراً ) إن هذان لساحران ( يعني موسى وهارون ) يريدان أن يخرجاكم من أرضكم ( يعني من مصر ) بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ( قال ابن عباس : يعني بسراة قومكم وأشرافكم , وقيل معناه يصرفان وجوه الناس عنكم , وقيل أراد أهل طريقتكم المثلى وهم بنو إسرائيل يعني يريد أن يذهبا بهم لأنفسهما , وقيل معناه يذهبا بسنتكم وبدينكم الذي أنتم عليه ) فأجمعوا كيدكم ( أي لا تدعو شيئاً من كيدكم إلا جئتم به , وقيل معناه اعزموا كلكم على كيده مجتمعين له ولا تختلفوا فيختل أمركم ) ثم ائتوا صفاً ( أي جمعاً مصطفين ليكون أشد لهيبتكم وقيل معناه ثم ائتوا المكان الموعود به ) وقد أفلح اليوم من استعلى ( أي فاز من غلب.
(4/273)
صفحة رقم 274
)
طه : ( 65 - 75 ) قالوا يا موسى...
" قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى " ( ) قالوا ( يعني السحرة ) يا موسى إما أن تلقي ( أي عصاك ) وإما أن نكون أول من ألقى ( أي عصينا ) قال ( يعني موسى ) بل ألقوا ( يعني أنتم أولاً ) فإذا حبالهم ( فيه إضمار أي فألقوا فإذا حبالهم ) وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( قيل إنهم لما ألقوا الحبال والعصي أخذوا أعين الناس , فرأى موسى كأن الأرض امتلأت حيات وكانت قد أخذت ميلاً في ميل من كل جانب ورآها كأنها تسعى ) فأوجس ( أي أضمر وقيل وجد ) في نفسه خيفة موسى ( قيل هو طبع البشرية وذلك أنه ظن أنها تقصده , وقيل خاف على القوم أن يلتبس عليهم الأمر فيشكوا في أمره فلا يتبعوه ) قلنا لا تخف ( أي قال الله تعالى لموسى لا تخف ) إنك أنت الأعلى ( أي الغالب عليهم ولك الغلبة عليهم والظفر ) وألق ما في يمينك ( أي عصاك والمعنى لا يخيفنك كثرة حبالهم وعصيهم فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها ) تلقف ( أي تلقم وتبتلع ) ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ( أي حيلة ساحر ) ولا يفلح الساحر حيث أتى ( أي من الأرض.
وقال ابن عباس لا يسعد حيث كان ) فألقي السحرة سجداً قالوا آمنا برب هارون وموسى ( قال صاحب الكشاف سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود , ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود فما أعظم الفرق بين الإلقائين.
وقيل إنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وقيل إنهم لما سجدوا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة ) قال ( يعني فرعون ) آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم ( أي لرئيسكم وعظيمكم يعني أنه أسحركم وأعلاكم في صناعة السحر ومعلمكم ) الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ( يعني أقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ) ولأصلبنكم في جذوع النخل ( يعني على جذوع النخل ) ولتعلمن أينا أشد عذاباً ( يعني على إيمانكم به أنا أو رب موسى على ترك الإيمان به ) وأبقى ( يعني أدوم ) قالوا ( يعني السحرة ) لن نؤثرك ( يعني لن نختارك ) على ما جاءنا من البينات ( يعني الدلالات الواضحات , قيل هي اليد البيضاء والعصا وقيل كان استدلالهم أنهم قالوا لو كان هذا سحر فأين حبالنا وعصينا.
وقيل إنهم لما سجدوا رأوا الجنة والنار ورأوا منازلهم في الجنة فعند ذلك قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ) والذي فطرنا ( قيل هو قسم , وقيل معناه لن نؤثرك على الله الذي فطرنا ) فاقض ما أنت قاض (
(4/274)
صفحة رقم 275
يعني فاصنع ما أنت صانع ) إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ( يعني إنما أمرك وسلطانك في الدنيا سيزول عن قريب ) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر ( فإن قلت كيف قالوا هذا وقد جاؤوا مختارين غير مكرهين.
قلت كان فرعون أكرههم في الابتداء على تعلمهم السحر لكي لا يذهب أصله.
وقيل كانت السحرة اثنين وسبعون اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل , وكان فرعون أكره الذين هم من بني إسرائيل على تعلم السحر.
وقيل قال السحرة لفرعون أرنا موسى إذا هو نام فأراهم موسى نائماً وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون هذا ليس بساحر إن الساحر إذا نام بطل سحره.
فأبى عليهم فأكرههم على أن يعملوا فذلك قولهم وما أكرهتنا عليه من السحر ) والله خير وأبقى ( يعني خير منك ثواباً وأبقى عقاباً وقيل خير منك إن أطيع وأبقى عذاباً إن عصي وهذا جواب لقوله ) ولتعلمن أينا اشد عذاباً وأبقى ( ) إنه من يأت ربه مجرماً ( قيل هذا ابتداء كلام من الله تعالى وقيل هو من تمام قول السحرة معناه من مات على الشرك ) فإن له جهنم لا يموت فيها ( فيستريح ) ولا يحيى ( حياة ينتفع بها ) من يأته مؤمناً ( يعني من مات على الإيمان ) قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ( يعني الرفيعة العلية.
)
طه : ( 76 - 86 ) جنات عدن تجري...
" جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي " ( فسر الدرجات بقوله ) جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فهيا وذلك جزاء من تزكى ( يعني تطهر من الذنوب , وقيل أعطى زكاة نفسه وقال لا إله إلا الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ) أخرجه الترمذي.
قوله وأنعما يقال أحسن فلان إلى فلان وأنعم يعني أفضل وزاد في الإحسان , والمعنى أنهما منهم وزادوا تناهياً إلى غايته.
قوله تعالى ) ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ( يعني أسر بهم ليلاً من أرض مصر ) فاضرب لهم طريقاً ( يعني اجعل لهم طريقاً ) في البحر ( بالضرب بالعصا ) يبساً ( يعني يابساً ليس فيه ماء ولا طين وذلك أن الله تعالى أيبس لهم الطريق في البحر ) لا تخاف دركاً ولا تخشى ( يعني لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك
(4/275)
صفحة رقم 276
ولا تخشى أن يغرقك البحر أمامك ) فأتبعهم ( يعني فلحقهم ) فرعون بجنوده فغشيهم ( يعني أصابهم ) من اليم ما غشيهم ( وهو الغرق وقيل علاهم وسترهم من اليم ما لم يعلم كنهه إلا الله تعالى فغرق فرعون وجنوده ونجا موسى وقومه ) وأضل فرعون قومه وما هدى ( يعني وما أرشدهم وهو تكذيب لفرعون في قوله ) وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ( " قوله عز وجل ) يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى ( ذكرهم الله النعمة في نجاتهم وهلاك عدوهم وفيما وعد موسى من المناجاة بجانب الطور وكتب التوراة في الألواح.
وإنما قال وواعدناكم لأنها اتصلت بهم حيث كانت لنبيهم , ورجعت منافعها إليهم وبها قوام دينهم وشريعتهم وفيها أفاض الله عليهم من سائر نعمه وأرزاقه ) كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه ( قال ابن عباس لا تظلموا , وقيل لا تكفروا النعمة فتكونوا طاغين , وقيل لا تتقووا بنعمتي على المعاصي , وقيل لا تدخروا ) فيجعل عليكم غضبي ( يعني يجب عليكم غضبي ) ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ( يعني هلك وسقط في النار ) وإني لغفار لمن تاب ( قال ابن عباس تاب عن الشرك ) وآمن ( يعني وحد الله وصدق رسوله ) وعمل صالحاً ( يعني أدى الفرائض ) ثم اهتدى ( قال ابن عباس علم أن ذلك توفيق من الله تعالى , وقيل لزم الإسلام حتى مات عليه , وقيل علم أن لذلك ثواباً , وقيل أقام على السنة.
قوله عز وجل ) وما أعجبك ( يعني وما حملك على العجلة ) عن قومك يا موسى ( وذلك أن موسى اختار من قومه سبعين رجلاً يذهبو معه إلى الطور ليأخذوا التوراة.
فسار بهم ثم عدل موسى من بينهم شوقاً إلى ربه , وخلف السبعين وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل فقال الله له وما أعجلك عن قومك يا موسى ؟ فأجاب ربه ف ) قال هم أولاء على أثري ( أي هم بالقرب مني يأتون على أثري من بعدي.
فإن قلت لم يطابق السؤال الجواب فإنه سأله عن سبب العجلة فعدل عن الجواب , فقال هم أولاء بأنه لم يوجد منه إلا تقدم سيره ثم أعقبه بجواب السؤال فقال ) وعجلت إليك رب لترضى ( أي لتزداد رضاً ) قال فإنا قد فتنا قومك ( أي فإنا ابتلينا الذين خلفتهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر الفاً ) من بعدك ( أي من بعد انطلاقك إلى
(4/276)
صفحة رقم 277
الجبل ) وأضلهم السامري ( أي دعاهم وصرفهم إلى الضلال وهو عبادة العجل , وإنما أضاف الضلال إلى السامري لأنهم ضلوا بسببه وقيل إن جميع المنشآت تضاف إلى منشئها في الظاهر , وإن كان الموجد لها في الأصل هو الله تعالى فذلك قوله هنا وأضلهم السامري , قيل كان السامري من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة , وقيل كان من القبط وكان جاراً لموسى وآمن به , وقيل كان علجاً من علوج كرمان رفع إلى مصر وكان من قوم يعبدون البقر ) فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً ( أي حزيناً جزعاً ) قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً ( أي صدقاً يعطيكم التوراة ) أفطال عليكم العهد ( أي مدة مفارقتي إياكم ) أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ( أي أردتم أن تفعلوا فعلاً يجب عليكم الغضب من ربكم بسببه ) فأخلفتم موعدي ( يعني ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع.
)
طه : ( 87 - 96 ) قالوا ما أخلفنا...
" قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي " ( ) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ( أي بملك أمرنا , وقيل باختيارنا وذلك أن المرء إذا وقع في الفتنة لم يملك نفسه ) ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم ( أي حملنا مع أنفسنا ما كان قد استعرناه من قوم فرعون , والأوزار الأثقال سميت أوزاراً لكثرتها وثقلها وقيل الأوزار الآثام , أي حملنا آثاماً وذلك أن بني إسرائيل استعاروا حلياً من القبط ولم يردوها وبقيت معهم إلى حين خروجهم من مصر وقيل إن الله لما أغرق فرعون نبذ البحر حليهم فأخذها بنو إسرائيل فكانت غنيمة ولم تكن الغنائم تحل لهم ) فقذفناها ( أي ألقيناها قيل إن السامري قال لهم احفروا حفيرة وألقوها فيها حتى يرجع موسى فيرى رأيه فيها.
وقيل إن هارون أمرهم بذلك ففعلوا ) فكذلك ألقى السامري ( أي ما كان معه من الحلي فيها , قال ابن عباس : أوقد هارون ناراً وقال اقذفوا ما معكم فيها , وقيل إن هارون مر على السامري وهو يصوغ العجل فقال له ما هذا قال أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي.
فقال هارون أللهم اعطه ما سألك على ما في نفسه.
فألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل في فم العجل وقال كن عجلاً يخور فكان كذلك.
بدعوة من هارون فذلك قوله تعالى ) فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار ( اختلفوا هل كان الجسد حياً أم لا على قولين أحدهما لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد ضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيه منافذ ومخاريق بحيث إذا دخل فيها الريح صوت كصوت العجل.
الثاني : أنه صار حياً وخار كما يخور العجل ) فقالوا هذا إلهكم وإله موسى ( يعني قال ذلك السامري ومن تابعه من افتتن به.
وقيل عكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط مثله ) فنسي ( قيل هو إخبار عن قول السامري أي إن موسى نسي إلهه وتركه ها هنا وذهب يطلبه.
وقيل معناه أن موسى إنما طلب هذا ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر فأخطأ الطريق وضل.
وقيل هو من كلام الله
(4/277)
صفحة رقم 278
تعالى وكأنه أخبر عن السامري أنه نسي الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لا يحل في شيء.
ولا يحل فيه شيء ثم بين سبحانه وتعالى المعنى الذي يجب الاستدلال به فقال ) أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ( أي إن العجل لا يرد لهم جواباً إذ دعوه ولا يكلمهم ) ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً ( هذا توبيخ لهم إذ عبدوا ما لا يملك ضر من ترك عبادته ولا ينفع من عبده وكان العجل فتنة من الله تعالى ابتلى به بني إسرائيل.
قوله عز وجل ) ولقد قال لهم هارون من قبل ( أي من قبل رجوع موسى ) يا قوم إنما فتنتم به ( أي ابتليتم بالعجل ) وإن ربكم الرحمن فاتبعوني ( على ديني في عبادة الله ) وأطيعوا أمري ( يعني في ترك عبادة العجل.
اعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم أولاً عن الباطل بقوله ) إنما فتنتم به ( ثم دعا إلى معرفة الله تعالى بقوله ) إن ربكم الرحمن ( ثم دعاهم إلى معرفة النبوة بقوله ) فاتبعوني ( ثم دعاهم إلى الشرائع بقوله ) وأطيعوا أمري ( فهذا هو الترتيب الجيد لأنه لا بد من إماطة الأذى عن الطريق وهي إزالة الشبهات ثم معرفة الله فإنها هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة.
وإنما قال وإن ربكم الرحن فخص هذا الموضع بهذا الاسم لأنه ينبههم على أنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو التواب الرحيم فقابلوا هذا القول بالإصرار والجحود ) قالوا لن نبرح ( يعني لن نزال ) عليه ( يعني على عبادة العجل ) عاكفين ( يعني مقيمين ) حتى يرجع إلينا موسى ( كأنهم قالوا لن نقبل حجتك ولا نقبل إلا قول موسى فاعتزلهم هارون ومعه اثنا عشر ألفاً الذي لم يعبدوا العجل.
فلما رجع موسى سمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل فقال للسبعين الذين معه هذا صوت الفتنة , فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله و ) قال ( له ) يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ( أي أشركوا ) ألا تتبعن ( أي تتبع أمري ووصيتي وهلا قاتلتهم وقد علمت أني ولو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم , وقيل معناه ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إياهم زجراً لهم عما أتوه ) أفعصيت أمري ( يعني خالفت أمري ) قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ( يعني بشعر رأسي وكان قد أخذ بذؤابتيه ) إني خشيت أن تقول ( يعني لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضاً فتقول ) فرقت بين بني إسرائيل ( يعني خشيت إن فارقتهم واتبعتك أن يصيروا أحزاباً فيتقاتلون , فتقول فرقت بني إسرائيل ) ولم ترقب قولي ( يعني لم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي أصلح وأرفق بهم ثم أقبل موسى على السامري ) قال فما خطبك ( يعني فما أمرك وشأنك وما الذي حملك على ما صنعت ) يا سامري قال ( يعني السامري ) بصرت بما لم يبصروا به
(4/278)
صفحة رقم 279
فقبضت قبضة من أثر الرسول ( يعني من تراب حافر فرس جبريل ) فنبذتها ( يعني فقذفتها في فم العجل فخار.
فإن قلت كيف عرف السامري جبريل ورآه من بين سائر النار.
قلت ذكروا فيه وجهين.
أحدهما : أن أمه ولدته في السنة التي كان يقتل فيها البنون فوضعته في كهف حذراً عليه من القتل فبعث الله إليه جبريل ليربيه لما قضى الله على يديه من الفتنة.
الوجه الثاني : أنه لما نزل جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الطور رآه السامري من بين سائر الناس , فلما رآه قال إن لهذا لشأناً فقبض القبضة من أصل تربة أثر موطئه , فلما سأله موسى قال قبضت قبضة من أثر الرسول إليك يوم جاء للميعاد.
وقيل رآه يوم فلق البحر فأخذ القبضة وجعلها في عمامته لما يريد الله أن يظهره من الفتنة على يديه وهو قوله ) وكذلك سولت ( يعني زينت ) لي نفسي ( وقيل إنه من السؤال والمعنى أنه لم يدعني إلى فعله غيري واتبعت فيه هواي.
)
طه : ( 97 - 108 ) قال فاذهب فإن...
" قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا " ( ) قال ( يعني موسى للسامري ) فاذهب فإن لك في الحياة ( يعني ما دمت حياً ) أن تقول لا مساس ( يعني لا تخالط أحداً ولا يخالطك أحد فعوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أوحش منها ولا أعظم وذلك أن موسى أمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لا مساس لك ولولدك.
فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع لا يمس أحد وقيل كان إذا مس أحداً.
أو مسه أحد حما جمعياً فتحامى الناس وتحاموه وكان لا مساس حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك ) وإن لك ( يا سامري ) موعداً ( يعني بعذابك في الآخرة ) لن تخلفه ( قرىء بكسر اللام ومعناه لن تغيب عنه ولا مذهب لك عنه بل توافيه يوم القيامة , وقرىء بالفتح أي لن تكذبه ولم يخلفكه الله بل يكافئك على فعلك ) وانظر لننسفنه ( أي لنذرينه ) في اليم ( يعني في البحر ) نسفاً ( روي أن موسى أخذ العجل فذبحه فسال منه دم وحرقه في النار ثم ذراه في البحر وقيل معناه لنحرقنه أي لنبردنه فعلى هذا التأويل لم ينقلب لحماً ودماً فإن ذلك لا يمكن أن يبرد بالمبرد ويمكن أن يقال صار لحماً ودماً ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها في البحر فلما فرغ موسى من أمر العجل وابطال ما ذهب إليه السامري رجع إلى بيان الدين الحق فقال مخاطباً لبني إسرائيل ) إنما إلهكم الله ( يعني المستحق للعبادة والتعظيم هو الله ) الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً ( يعني وسع علمه كل شيء وقيل يعلم من يعبده.
قوله عز
(4/279)
صفحة رقم 280
وجل : ( كذلك نقص عليك من أنباء ( يعني من أخبار ) ما قد سبق ( يعني الأمم الخالية وقيل ما سبق من الأمور ) وقد آتيناك من لدنا ذكراً ( وهو القرآن ) من أعرض عنه ( يعني عن القرآن ولم يؤمن به ولم يعمل بما فيه ) فإنه يحمل يوم القيامة وزراً ( يعني حملاً ثقيلاً من الإثم ) خالدين فيه ( يعني مقيمين في عذاب الوزر ) وساء لهم يوم القيامة حملاً ( يعني بئس ما حملوا أنفسهم من الإثم ) يوم ينفخ في الصور ( قيل هو قرن ينفخ فيه يدعي به الناس للمحشر والمراد بهذه النفخة النفخة الثانية لأنه أتبعه بقوله ) ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً ( يعني نحشر المجرمين زرق العيون سود الوجوه وقيل عمياً وقي عطشاً ) يتخافتون ( يعني يتشاورون ) بينهم ( ويتكلمون خفية ) إن لبثتم ( يعني مكثتم في الدنيا ) إلا عشراً ( يعني عشر ليال وقيل في القبور وقيل بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة وذلك أن العذاب رفع عنهم بين النفختين فاستقصروا مدة لبثهم لهول ما عاينوا فقال الله تعالى ) نحن أعلم بما يقولون ( يعني يتشاورون فيما بينهم ) إذ يقول أمثلهم طريقة ( أي أوفاهم وأعدلهم قولاً ) إن لبثتم إلا يوماً ( قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من أهوال يوم القيامة وقيل نسوا مقدار لبثهم لشدة ما دهمهم قوله عز وجل ) ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً (.
قال ابن عباس : سأل رجل من ثقيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال كيف تكون الجبال يوم القيامة فأنزل الله تعالى هذه الآية والنسف هو القلع اي يقلعها من أصولها ويجعلها هباء منثوراً ) فيذرها ( أي يدع أماكن الجبال من الأرض ) قاعاً صفصفاً ( أي ارضاً ملساء مستوية لا نبات فيها ) لا ترى فيها جوعاً ولا أمتاً ( يعني لا انخفاضاً ولا ارتفاعاً يعني لا ترى وادياً ولا رابية ) يومئذ يتبعون الداعي ( أي صوت الداعي ويقف على صخرة بيت المقدس ويقول أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى عرض الرحمن ) لا عوج له ( أي لا عوج لهم عن دعائه ولا يزيعون عنه يميناً ولا شمالاً بل يتبعونه سراعاً ) وخشعت الأصوات للرحمن ( يعني سكنت وذلت وخضعت وضعفت والمراد به أصحاب الأصوات وقيل خضعت الأصوات من شدة الفزع ) فلا تسمع إلا همساً (
(4/280)
صفحة رقم 281
وهو الصوت الخفي قال ابن عباس : هو تحريك الشفاه من غير نطق وقيل أراد بالهمس صوت وطء الأقدام إلى المحشر كصوت أخفاف الإبل.
)
طه : ( 109 - 119 ) يومئذ لا تنفع...
" يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " ( ) يومئذ لا تنفع الشفاعة ( لأحد من الناس ) إلا من أذن له الرحمن ( يعني إلا من أذن له أن يشفع ) ورضي له قولاً ( قال ابن عباس : يعني قال لا إله إلا الله , وفيه دليل على أنه لا يشفع غير المؤمن , وقيل إن درجة الشافع درجة عظيمة فهي لا تحصل إلا لمن يأذن الله له فيها وكان عند الله مرضياً ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ( قيل الكناية راجعة إلى الذين يتبعون الداعي , أي يعلم الله ما قدموا من الأعمال وما خلفوا من الدنيا وقيل الضمير يرجع إلى من أذن له الرحمن وهو الشافع , والمعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع ثم قال يعلم ما بين أيديهم أي أيدي الشافعين وما خلفهم ) ولا يحيطون به علماً ( قيل الكناية ترجع إلى ما أي هو يعلم ما بين راجعة إلى الله تعالى أي ولا يحيطون بالله علماً ) وعنت الوجوه ( يعني ذلت وخضعت في ذلك اليوم ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره وذكر الوجوه وأراد بها المكلفين لأن عنت من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه وإنما خص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يتبين وفيها يظهر وقوله تعالى ) للحي القيوم ( تقدم تفسيره ) وقد خاب من حمل ظلماً (.
قال ابن عباس خسر من أشرك بالله ) ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هظماً ( قال ابن عباس معناه لا يخاف أن يزاد على سيئاته ولا ينقص من حسناته , وقيل لا يؤخذ بذنب لم يعمله ولا تبطل عنه حسنة عملها قوله تعالى ) وكذلك أنزلناه ( أي كما بينا في هذه السورة أو هذه الآية المتضمنة للوحيد أنزلنا القرآن كله كذلك وقوله ) قرآناً عربياً ( أي بلسان العرب ليفهمون ويقفوا على إعجازه وحسن نظمه وخروجه عن كلام البشر ) وصرفنا فيه من الوعيد ( أي كررنا وفصلنا القول فيه بذكر الوعيد ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم لأن الوعيد بهما يتعلق فتكريره وتصريفه يقتضي بيان الأحكام فلذلك قال تعالى ) لعلهم يتقون ( أي يجتنبون الشرك والمحارم وترك الواجبات ) أو يحدث لهم ذكراً ( أي إنما أنزلنا القرآن ليصبروا متقين مجتنبين ما لا ينبغي ويحدث لهم القرآن ذكراً يرغبهم في الطاعات وفعل ما ينبغي , وقيل معناه يجدد لهم القرآن عبرة وعظة فيعتبرون ويتعظون بذكر عقاب الله الأمم قوله تعالى ) فتعالى الله الملك الحق ( أي جل الله وعظم عن إلحاد الملحدين وعما يقوله المشركون والجاحدون وقيل فيه تنبيه على ما يلزم خلقه من تعظيمه وتمجيده , وقيل إنما وصف نفسه بالملك الحق لأن ملكه لا يزول ولا يتغير وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره وأولى به منه ) ولا تعجل بالقرآن (
(4/281)
صفحة رقم 282
أراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يبادره فيقرأ معه أن يفرغ جبريل مما يريده من التلاوة ومخافة الانفلات أو النسيان فنهاه الله تعالى عن ذلك فقال تعالى ) ولا تعجل بالقرآن ( أي ولا تعجل بقراءته ) من قبل أن يقضى إليك وحيه ( أي من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ وقيل معناه لا تقرئه أصحابك ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معناه ) وقل رب زدني علماً ( فيه التواضع والشكر لله والمعنى زدني علماً إلى ما علمت فإن لك في كل شيء علماً وحكمة , قيل ما أمر الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.
وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول اللهم زدني علماً وإيماناً ويقيناً قوله عزّ وجلّ ) ولقد عهدنا إلى آدم ( يعني أمرنا وأوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة ) من قبل ( أي من هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا الإيمان بي وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى ) لعلهم يتقون ( ) فنسي ( أي فترك ما عهدنا إليه من الاحتراز عن أكل هذه الشجرة وأكل منها , وقيل أراد النسيان الذي هو ضد الذكر ) ولم نجد له عزماً ( أي صبراً عما نهي عنه وحفظاً لما أمر به , وقيل معناه لم نجد له رأياً معزوماً حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له , وقيل معناه لم نجد له عزماً على المقام على المعصية فيكون إلى المدح أقرب قوله عز وجل ) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس إبى ( أن يسجد ) فقلنا يا آدم إن هذا ( أي إبليس ) عدو لك ولزوجتك ( إي حواء وسبب العداوة ما رأى من آثار نعمة الله على آدم فحسده فصار عدواً له ) فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ( أسند الخروج إليه , وإن كان الله تعالى هو المخرج لأنه لما كان بوسوسته وفعل آدم ما يترتب عليه الخروج صح ذلك.
ومعنى تشقى تتعب وتنصب ويكون عيشك من كد يمينك بعرق جبينك , وهو الحرث والزرع والحصد والطحن والخبز قيل أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فكان ذلك شقاءه.
فإن قلت لم أسند الشقاء إلى آدم دون حواء.
قلت فيه وجهان أحدهما : أن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله , كما أن في سعادته سعادتهم لأنه القيم عليهم.
الثاني : إنه أريد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك على الرجل دون المرأة لأن الرجل هو الساعي على زوجته ) إن لك أن لا تجوع فيها ( يعني الجنة ) ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ( أي تعطش ) ولا تضحى ( أي تبرز للشمس فيؤذيك حرها لأنه ليس في الجنة شمس وأهلها في ظل ممدود والمعنى أن الشبع والري والكسوة والسكن هي الأمور التي يدور عليها كفاف الإنسان.
فذكر الله تعالى
(4/282)
صفحة رقم 283
حصول هذه الأشياء في الجنة وإنه مكفي لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى أهل الدنيا.
)
طه : ( 120 - 121 ) فوسوس إليه الشيطان...
" فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى " ( ) فوسوس إليه الشيطان ( أي أنهى إليه الوسوسة فأسر إليه ثم بين تلك الوسوسة ما هي فقال ) قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ( أي على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلداً ) وملك لا يبلى ( أي لا يبيد ولا يفنى رغبة في دوام الراحة , فكان الشيء الذي رغب الله فيه آدم رغبة إبليس فيه , إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراز عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها وآدم مع كمال علمه بأن الله تعالى هو خالقه وربه ومولاه وناصره , وإبليس هو عدوه أعرض عن قول الله تعالى ولم يرد المخالفة ومن تأمل هذا السر عرف أنه لا دفع لقضاء الله ولا مانع منه.
وقوله تعالى ) فأكلا منها ( يعني أكل آدم وحواء من الشجرة ) فبدت لهما سوءاتهما ( أي عريا من الثياب التي كانت عليهما حتى بدت فروجهما وظهرت عوراتهما ) وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ( أي يلزقان بسوءاتهما من ورق التين ) وعصى آدم ربه ( أي بأكل الشجرة ) فغوى ( أي فعل ما لم يكن له فعله وقيل أخطأ طريق الحق وضل حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عنه فخاب ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل ومن الراحة إلى التعب.
قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال عصى آدم ولايجوز أن يقال آدم عاص , لأنه إنما يقال لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه يقال خاط ثوبه ولا يقال هو خياط حتى يعاود ذلك مراراً ويعتاده.
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم ( احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً فحج آدم موسى )
. وفي رواية لمسلم ( قال آدم بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين سنة قال فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى.
قال له نعم قال فهل تلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحج آدم موسى ).
( الكلام على معنى الحديث وشرحه )
قوله احتج آدم وموسى : المجادلة والمخاصمة يقال حاججت فلاناً فحججته أي جادلته فغلبته.
قال أبو سليمان الخطابي : قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر والقضاء من الله تعالى على معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره , ويتوهم أن قوله فحج آدم وموسى من هذا الوجه وليس كذلك.
وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وإكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها.
والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر والقضاء في هذا معناه الخلق وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم إرادة واختبار.
فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء.
فمن رام الفصل بينهما فقد رام هذا البناء ونقضه وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى كان قد علم من آدم أن يتناول الشجرة ويأكل منها , فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك.
وإنما كان تناوله الشجرة سبباً لنزوله إلى الأرض التي خلق لها وإنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه ولذلك قال أتلومني على أمر الله علي من قبل أن يخلقني.
(4/283)
صفحة رقم 284
( فصل : في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك )
قال الإمام فخر الدين الرازي : اختلف الناس في عصمة الأنبياء وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة , أحدهما : ما يقع في باب الإعتقاد وهو اعتقاد لكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عليهم.
والثاني : ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب مواظبين على التبليغ والتحريض.
وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمداً ولا سهواً ومن الناس من جوز ذلك سهواً قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن.
الثالث : ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد وأجازه لبعضهم على سبيل السهو.
الرابع : ما يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال.
أحدها : قول من جوز عليهم الكبائر.
الثاني : قول من منع من الكبائر وجوز الصغائر على جهة العمد وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث : لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي.
الرابع : أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ.
الخامس : أنه لا يقع منهم لا كبيرة ولا صغيرة لا على سبيل العمد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل , وهو قول الشيعة.
واختلفت الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال : أحدها : قول من ذهب إلى أنهم معصومون من حين وقت الولادة وهو قول الشيعة.
الثاني : قول من ذهب إلى عصمتهم من وقت بلوغهم وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز منهم بعد النبوة وهو قول أكثر أصحابنا وأبي الهزيل وأبي علي من المعتزلة.
قال الإمام والمختار عندنا لم يصدر عنهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين جائتهم النبوة.
ويدل عليه وجوه أحدها : لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة وذلك غير جائز لأن درجة الأنبياء غاية في الرفعة والشرف.
الثاني : لو صدر منه وجب أن لا يكون مقبول الشهادة فكان أقل حالاً من عدول الأمة وذلك غير جائز أيضاً لأن معنى النبوة والرسالة هو أنه يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم , وأيضاً فإنه يوم القيامة شاهد على الكل.
الثالث : لو صدر من النبي ذنب وجب الاقتداء به فيه وذلك محال.
الرابع : ثبت ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح بمن رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفته في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحاً لغرضه.
واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطعيوه لدخلوا تحت قوله ) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } " وقال ) وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } " الخامس : قال الله تعالى ) أنهم كانوا يسارعون في الخيرات } " ولفظه للعموم فيتناول الكل ويدل على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه , فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل خير وتاركين لكل منهي وذلك ينافي صدور الذنب عنهم.
السادس : قال الله تعالى : ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير } " وقال تعالى : ( إن الله اصطفى آدم وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } " وقال تعالى في حق موسى : ( إني اصفيتك على الناس برسلاتي وبكلامي } " وقال تعالى : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إن أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } " وغير ذلك من الآيات التي تدل على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرة , وذلك ينافي صدور الذنب عنهم , وذكر غير ذلك من الوجوه.
قال وأما المخالف فقد تمسك
(4/284)
صفحة رقم 285
بآيات منها قصة آدم هذه.
والجواب عنها أن نقول إن كلامهم إنما يتم أن لو بينوا بالدلالة أن ذلك كان حال النبوة وذلك ممنوع ولم لا يجوز أن يقال إن آدم حال ما صدرت عنه هذه الأشياء ما كان نبياً وإن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وإن الله تعالى قبل توبته وشرفه بالنبوة والرسالة.
وقال القاضي عياض وأما قصة آدم ) وعصى آدم ربه فغوى ( أي جهل وقيل أخطأ فقد أخبر الله تعالى بعذره في قوله : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ( " أي نسي عداوة إبليس له وما عهد الله إليه.
وقيل لم يقصد المخالفة استحلالاً لها ولكنه اغتر بحلف إبليس له إني لكما لمن الناصحين وتوهم أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً , وقيل نسي ولم ينو المخالفة فلذك قال ولم نجد له عزماً أي قصداً للمخالفة , وقيل بل أكل من الشجرة متأولاً وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس , ولهذا قيل إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة وقيل تأويل أن الله تعالى لم ينه نهي تحريم.
فإن قلت إذا نفيت عنهم الذنوب والمعاصي فما معنى قوله : ( وعصى آدم ربه فغوى ( وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم وهل يتوب ويستغفر من لا شيء عليه.
قلت إن درجة الأنبياء من الرفعة والعلو والمعرفة بالله وسنته في عباده وعظم سلطانه وقوة بطشه , مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم , وإنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها ولم يؤمروا , وآتوها على وجه التأويل أو السهو وتزيدوا من أمور الدنيا المباحة أوخذوا عليها وعوتبوا بسببها أو حذروا من المؤاخذة بها فهم خائفون وجلون , وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم ومعاص بالنسبة إلى كمال طاعتهم , لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاصيهم كان هذا أدنى أفعالهم وأسوأ ما يجري من أحوالهم كما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين , أي يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات وسنذكر في كل موضع ما يليق به وما قيل فيه إن شاء الله تعالى.
قوله عز وجل : ( ثم اجتباه ربه ( أي اختاره واصطفاه ) فتاب عليه ( أي عاد بالعفو والمغفرة ) وهدى ( أي هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار ) قال اهبطا منه جميعاً ( قيل الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبلس ومعه ذريته فصح قوله اهبطا لاشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة , وقيل الخطاب لآدم وحواء لأنهما أصل البشر فجعلا كأنهما البشر فخوطبا بلفظ الجمع ) بعضكم لبعض عدو ( وقيل في تقوية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس , ويحتمل أن يكون بعض الفريقين لبعض عدواً ) فأما يأتينكم مني هدى ( أي كتاب ورسول ) فمن اتبع هدايَ ( أي الكتاب والرسول ) فلا يضل ولا يشقى ( قال ابن عباس : من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب وذلك لأن الله تعالى يقول فمن اتبع هداي فلا يضل أي في الدنيا ولا يشقى أي في الآخرة ) ومن أعرض عن ذكري ( يعني القرآن فلم يؤمن به ولم يتبعه ) فإن له معيشة ضنكاً ( روي عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أنهم قالوا هو عذاب القبر.
قال أبو سعيد يضغط في القبر حتى تخلتف أضلاعه.
وفي بعض المسانيد مرفوعاً يلتئم عليه القبر حتى تختلف أضلاعه , فلا يزال يعذب حتى يبعث وقيل الزقوم والضريع والغسلين في النار , وقيل الحرام والكسب الخبيث.
وقال ابن عباس الشقاء وعنه قال كل ما أعطي العبد قل أم كثر فلم يتق فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة.
(4/285)
صفحة رقم 286
وإن قوماً أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين منها فكانت معيشتهم وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف لهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله تعالى.
وقيل يسلب القناعة حتى لا يشبع ) ونحشره يوم القيامة أعمى ( قال ابن عباس أعمى البصر وقيل أعمى عن الحجة ) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ( يعني بصيراً العين أو بصير بالحجة ) قال كذلك ( يعني كما ) أتتك آياتنا فنسيتها ( يعني فطردتها وأعرضت عنها ) وكذلك اليوم تنسى ( يعني تترك في النار وقيل نسوا من الخير والرحمة ولم ينسوا من العذاب ) وكذلك نجزي من أسرف ( يعني كما جزينا من أعرض عن القرآن كذلك نجزي من أسرف أي أشرك ) ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد ( يعني مما يعذبهم الله به في الدنيا والقبر ) وأبقى ( يعني وأدوم قوله تعالى : ( أفلم يهد لهم ( يعني أفلم يبين القرآن لكفار مكة ) كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ( يعني في ديارهم ومنازلهم إذ سافروا وذلك أن قريشاً كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وهم ثمود وقريات قوم لوط ) إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( أي لذوي العقول ) ولولا كلمة سبقت من ربك ( أي ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم ) لكان لزاماً وأجل مسمى ( تقديره ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى وهو القيامة لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة.
( طه : ( 122 ) ثم اجتباه ربه...
" ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " ( ) فوسوس إليه الشيطان ( أي أنهى إليه الوسوسة فأسر إليه ثم بين تلك الوسوسة ما هي فقال ) قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ( أي على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلداً ) وملك لا يبلى ( أي لا يبيد ولا يفنى رغبة في دوام الراحة , فكان الشيء الذي رغب الله فيه آدم رغبة إبليس فيه , إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراز عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها وآدم مع كمال علمه بأن الله تعالى هو خالقه وربه ومولاه وناصره , وإبليس هو عدوه أعرض عن قول الله تعالى ولم يرد المخالفة ومن تأمل هذا السر عرف أنه لا دفع لقضاء الله ولا مانع منه.
وقوله تعالى ) فأكلا منها ( يعني أكل آدم وحواء من الشجرة ) فبدت لهما سوءاتهما ( أي عريا من الثياب التي كانت عليهما حتى بدت فروجهما وظهرت عوراتهما ) وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ( أي يلزقان بسوءاتهما من ورق التين ) وعصى آدم ربه ( أي بأكل الشجرة ) فغوى ( أي فعل ما لم يكن له فعله وقيل أخطأ طريق الحق وضل حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عنه فخاب ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل ومن الراحة إلى التعب.
قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال عصى آدم ولايجوز أن يقال آدم عاص , لأنه إنما يقال لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه يقال خاط ثوبه ولا يقال هو خياط حتى يعاود ذلك مراراً ويعتاده.
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم ( احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً فحج آدم موسى ).
وفي رواية لمسلم ( قال آدم بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين سنة قال فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى.
قال له نعم قال فهل تلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحج آدم موسى ).
( الكلام على معنى الحديث وشرحه )
قوله احتج آدم وموسى : المجادلة والمخاصمة يقال حاججت فلاناً فحججته أي جادلته فغلبته.
قال أبو سليمان الخطابي : قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر والقضاء من الله تعالى على معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره , ويتوهم أن قوله فحج آدم وموسى من هذا الوجه وليس كذلك.
وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وإكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها.
والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر والقضاء في هذا معناه الخلق وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم إرادة واختبار.
فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء.
فمن رام الفصل بينهما فقد رام هذا البناء ونقضه وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى كان قد علم من آدم أن يتناول الشجرة ويأكل منها , فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك.
وإنما كان تناوله الشجرة سبباً لنزوله إلى الأرض التي خلق لها وإنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه ولذلك قال أتلومني على أمر الله علي من قبل أن يخلقني.
( فصل : في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك )
قال الإمام فخر الدين الرازي : اختلف الناس في عصمة الأنبياء وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة , أحدهما : ما يقع في باب الإعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عليهم.
والثاني : ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب مواظبين على التبليغ والتحريض.
وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمداً ولا سهواً ومن الناس من جوز ذلك سهواً قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن.
الثالث : ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد وأجازه لبعضهم على سبيل السهو.
الرابع : ما يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال.
أحدها : قول من جوز عليهم الكبائر.
الثاني : قول من منع من الكبائر وجوز الصغائر على جهة العمد وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث : لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي.
الرابع : أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ.
الخامس : أنه لا يقع منهم لا كبيرة ولا صغيرة لا على سبيل العمد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل , وهو قول الشيعة.
واختلفت الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال : أحدها : قول من ذهب إلى أنهم معصومون من حين وقت الولادة وهو قول الشيعة.
الثاني : قول من ذهب إلى عصمتهم من وقت بلوغهم وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز منهم بعد النبوة وهو قول أكثر أصحابنا وأبي الهزيل وأبي علي من المعتزلة.
)
طه : ( 123 - 129 ) قال اهبطا منها...
" قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى " ( ) فوسوس إليه الشيطان ( أي أنهى إليه الوسوسة فأسر إليه ثم بين تلك الوسوسة ما هي فقال ) قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ( أي على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلداً ) وملك لا يبلى ( أي لا يبيد ولا يفنى رغبة في دوام الراحة , فكان الشيء الذي رغب الله فيه آدم رغبة إبليس فيه , إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراز عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها وآدم مع كمال علمه بأن الله تعالى هو خالقه وربه ومولاه وناصره , وإبليس هو عدوه أعرض عن قول الله تعالى ولم يرد المخالفة ومن تأمل هذا السر عرف أنه لا دفع لقضاء الله ولا مانع منه.
وقوله تعالى ) فأكلا منها ( يعني أكل آدم وحواء من الشجرة ) فبدت لهما سوءاتهما ( أي عريا من الثياب التي كانت عليهما حتى بدت فروجهما وظهرت عوراتهما ) وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ( أي يلزقان بسوءاتهما من ورق التين ) وعصى آدم ربه ( أي بأكل الشجرة ) فغوى ( أي فعل ما لم يكن له فعله وقيل أخطأ طريق الحق وضل حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عنه فخاب ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل ومن الراحة إلى التعب.
قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال عصى آدم ولايجوز أن يقال آدم عاص , لأنه إنما يقال لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه يقال خاط ثوبه ولا يقال هو خياط حتى يعاود ذلك مراراً ويعتاده.
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم ( احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً فحج آدم موسى ).
وفي رواية لمسلم ( قال آدم بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين سنة قال فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى.
قال له نعم قال فهل تلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحج آدم موسى ).
( الكلام على معنى الحديث وشرحه )
قوله احتج آدم وموسى : المجادلة والمخاصمة يقال حاججت فلاناً فحججته أي جادلته فغلبته.
قال أبو سليمان الخطابي : قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر والقضاء من الله تعالى على معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره , ويتوهم أن قوله فحج آدم وموسى من هذا الوجه وليس كذلك.
وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وإكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها.
والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر والقضاء في هذا معناه الخلق وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم إرادة واختبار.
فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء.
فمن رام الفصل بينهما فقد رام هذا البناء ونقضه وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى كان قد علم من آدم أن يتناول الشجرة ويأكل منها , فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك.
وإنما كان تناوله الشجرة سبباً لنزوله إلى الأرض التي خلق لها وإنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه ولذلك قال أتلومني على أمر الله علي من قبل أن يخلقني.
( فصل : في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك )
قال الإمام فخر الدين الرازي : اختلف الناس في عصمة الأنبياء وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة , أحدهما : ما يقع في باب الإعتقاد وهو اعتقاد لكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عليهم.
والثاني : ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب مواظبين على التبليغ والتحريض.
وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمداً ولا سهواً ومن الناس من جوز ذلك سهواً قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن.
الثالث : ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد وأجازه لبعضهم على سبيل السهو.
الرابع : ما يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال.
أحدها : قول من جوز عليهم الكبائر.
الثاني : قول من منع من الكبائر وجوز الصغائر على جهة العمد وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث : لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي.
الرابع : أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ.
الخامس : أنه لا يقع منهم لا كبيرة ولا صغيرة لا على سبيل العمد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل , وهو قول الشيعة.
واختلفت الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال : أحدها : قول من ذهب إلى أنهم معصومون من حين وقت الولادة وهو قول الشيعة.
الثاني : قول من ذهب إلى عصمتهم من وقت بلوغهم وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز منهم بعد النبوة وهو قول أكثر أصحابنا وأبي الهزيل وأبي علي من المعتزلة.
قال الإمام والمختار عندنا لم يصدر عنهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين جائتهم النبوة.
ويدل عليه وجوه أحدها : لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة وذلك غير جائز لأن درجة الأنبياء غاية في الرفعة والشرف.
الثاني : لو صدر منه وجب أن لا يكون مقبول الشهادة فكان أقل حالاً من عدول الأمة وذلك غير جائز أيضاً لأن معنى النبوة والرسالة هو أنه يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم , وأيضاً فإنه يوم القيامة شاهد على الكل.
الثالث : لو صدر من النبي ذنب وجب الاقتداء به فيه وذلك محال.
الرابع : ثبت ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح بمن رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفته في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحاً لغرضه.
واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطعيوه لدخلوا تحت قوله ) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ( " وقال ) وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ( " الخامس : قال الله تعالى ) أنهم كانوا يسارعون في الخيرات ( " ولفظه للعموم فيتناول الكل ويدل على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه , فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل خير وتاركين لكل منهي وذلك ينافي صدور الذنب عنهم.
السادس : قال الله تعالى : ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير ( " وقال تعالى : ( إن الله اصطفى آدم وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ( " وقال تعالى في حق موسى : ( إني اصفيتك على الناس برسلاتي وبكلامي ( " وقال تعالى : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إن أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ( " وغير ذلك من الآيات التي تدل على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرة , وذلك ينافي صدور الذنب عنهم , وذكر غير ذلك من الوجوه.
قال وأما المخالف فقد تمسك بآيات منها قصة آدم هذه.
والجواب عنها أن نقول إن كلامهم إنما يتم أن لو بينوا بالدلالة أن ذلك كان حال النبوة وذلك ممنوع ولم لا يجوز أن يقال إن آدم حال ما صدرت عنه هذه الأشياء ما كان نبياً وإن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وإن الله تعالى قبل توبته وشرفه بالنبوة والرسالة.
وقال القاضي عياض وأما قصة آدم ) وعصى آدم ربه فغوى ( أي جهل وقيل أخطأ فقد أخبر الله تعالى بعذره في قوله : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ( " أي نسي عداوة إبليس له وما عهد الله إليه.
وقيل لم يقصد المخالفة استحلالاً لها ولكنه اغتر بحلف إبليس له إني لكما لمن الناصحين وتوهم أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً , وقيل نسي ولم ينو المخالفة فلذك قال ولم نجد له عزماً أي قصداً للمخالفة , وقيل بل أكل من الشجرة متأولاً وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس , ولهذا قيل إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة وقيل تأويل أن الله تعالى لم ينه نهي تحريم.
فإن قلت إذا نفيت عنهم الذنوب والمعاصي فما معنى قوله : ( وعصى آدم ربه فغوى ( وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم وهل يتوب ويستغفر من لا شيء عليه.
قلت إن درجة الأنبياء من الرفعة والعلو والمعرفة بالله وسنته في عباده وعظم سلطانه وقوة بطشه , مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم , وإنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها ولم يؤمروا , وآتوها على وجه التأويل أو السهو وتزيدوا من أمور الدنيا المباحة أوخذوا عليها وعوتبوا بسببها أو حذروا من المؤاخذة بها فهم خائفون وجلون , وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم ومعاص بالنسبة إلى كمال طاعتهم , لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاصيهم كان هذا أدنى أفعالهم وأسوأ ما يجري من أحوالهم كما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين , أي يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات وسنذكر في كل موضع ما يليق به وما قيل فيه إن شاء الله تعالى.
قوله عز وجل : ( ثم اجتباه ربه ( أي اختاره واصطفاه ) فتاب عليه ( أي عاد بالعفو والمغفرة ) وهدى ( أي هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار ) قال اهبطا منه جميعاً ( قيل الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبلس ومعه ذريته فصح قوله اهبطا لاشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة , وقيل الخطاب لآدم وحواء لأنهما أصل البشر فجعلا كأنهما البشر فخوطبا بلفظ الجمع ) بعضكم لبعض عدو ( وقيل في تقوية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس , ويحتمل أن يكون بعض الفريقين لبعض عدواً ) فأما يأتينكم مني هدى ( أي كتاب ورسول ) فمن اتبع هدايَ ( أي الكتاب والرسول ) فلا يضل ولا يشقى ( قال ابن عباس : من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب وذلك لأن الله تعالى يقول فمن اتبع هداي فلا يضل أي في الدنيا ولا يشقى أي في الآخرة ) ومن أعرض عن ذكري ( يعني القرآن فلم يؤمن به ولم يتبعه ) فإن له معيشة ضنكاً ( روي عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أنهم قالوا هو عذاب القبر.
قال أبو سعيد يضغط في القبر حتى تخلتف أضلاعه.
وفي بعض المسانيد مرفوعاً يلتئم عليه القبر حتى تختلف أضلاعه , فلا يزال يعذب حتى يبعث وقيل الزقوم والضريع والغسلين في النار , وقيل الحرام والكسب الخبيث.
وقال ابن عباس الشقاء وعنه قال كل ما أعطي العبد قل أم كثر فلم يتق فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة.
وإن قوماً أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين منها فكانت معيشتهم وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف لهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله تعالى.
وقيل يسلب القناعة حتى لا يشبع ) ونحشره يوم القيامة أعمى ( قال ابن عباس أعمى البصر وقيل أعمى عن الحجة ) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ( يعني بصيراً العين أو بصير بالحجة ) قال كذلك ( يعني كما ) أتتك آياتنا فنسيتها ( يعني فطردتها وأعرضت عنها ) وكذلك اليوم تنسى ( يعني تترك في النار وقيل نسوا من الخير والرحمة ولم ينسوا من العذاب ) وكذلك نجزي من أسرف ( يعني كما جزينا من أعرض عن القرآن كذلك نجزي من أسرف أي أشرك ) ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد ( يعني مما يعذبهم الله به في الدنيا والقبر ) وأبقى ( يعني وأدوم قوله تعالى : ( أفلم يهد لهم ( يعني أفلم يبين القرآن لكفار مكة ) كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ( يعني في ديارهم ومنازلهم إذ سافروا وذلك أن قريشاً كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وهم ثمود وقريات قوم لوط ) إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( أي لذوي العقول ) ولولا كلمة سبقت من ربك ( أي ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم ) لكان لزاماً وأجل مسمى ( تقديره ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى وهو القيامة لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة.
)
طه : ( 130 - 135 ) فاصبر على ما...
" فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى " ( ) فاصبر على ما يقولون ( نسختها آية السيف ) وسبح بحمد ربك ( أي صل بأمر ربك ) قبل طلوع الشمس ( يعني صلاة الفجر ) وقبل غروبها ( أي صلاة العصر ) ومن آناء الليل ( أي ومن ساعاته ) فسبح ( يعني فصل المغرب والعشاء قال ابن عباس يريد أول الليل ) وأطراف النار ( يعني صلاة الظهر سمي وقت الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال وهو طرف النصف الأول انتهاء وطرف النصف الآخر ابتداء ) لعلك ترضى ( أي ترضى ثوابه في المعادن وقيل معناه لعلك ترضى بالشفاعة , وقرىء ترضى بضم التاء أي تعطى ثوابه , وقيل يرضاك ربك
( ق ) عن جرير بن عبد الله قال : ( كنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال إنكم سترون ربكم عياناً كما
(4/286)
صفحة رقم 287
ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته , فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) قوله لا تضامون بتخفيف الميم من الضيم , وهو الظلم والمعنى أنكم ترونه جميعاً لا يظلم بعضكم بعضاً في رؤيته وروي بتشديد الميم من الانضمام والازدحام , أي لا يزدحم ولا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته والكاف في قوله كما ترون هذا القمر كاف التشبيه للرؤية لا للمرئي وهي فعل الرائي , ومعناه ترون ربكم رؤية ينزاح معها الشك كرؤيتكم هذا القمر ليلة البدر ولا ترتابون فيه ولا تشكون قوله عز وجل : ( ولا تمدن عينيك ( قال أبو رافع نزل برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ضيف فبعثني إلى يهودي فقال قل له إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( بعني كذا وكذا من الدقيق أو سلفني إلى هلال رجب فأتيته فقلت له ذلك فقال والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن فأتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته فقال والله لئن باعني أو أسلفني لقضيته إني لأمين في السماء وأمين في الأرض أذهب بدرعي الحديد إليه ) فنزلت هذه الآية : ( ولا تمدن عينيك ( أي لا تنظر نظراً تكاد تردده استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به وتمنياً له ) إلى ما متعنا به ( أي أعطينا ) أزواجاً ( أي أصنافاً ) منهم زهرة الحياة الدنيا ( أي زينتها وبهجتها ) لنفتنهم فيه ( أي لنجعل ذلك فتنة بأن تزيد النعمة فيزيدوا كفراً وطغياناً ) ورزق ربك ( أي في المعاد في الجنة ) خير وأبقى ( أي أدوم وقال أبي بن كعب من لم يعتز بالله تقطعت نفسه حسرات , ومن أتبع بصره ما في أيدي الناس يطل حزنه ومن ظن أن نعمة الله عليه في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه.
ف
قوله تعالى : ( وأمر أهلك ( أي قومك وقيل من كان على دينك ) بالصلاة ( يعني بالمحافظة عليها ) واصطبر عليها ( يعني اصبر على الصلاة فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وقيل اصبر عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أبلغ منه بلسان القول ) لا نسألك رزقاً ( أي لا نكلفك أن ترزق أحداً من خلقنا ولا أن ترزق نفسك بل نكلفك عملاً ) نحن نرزقك ( أي بل نحن نرزقك ونرزق أهلك ) والعاقبة للتقوى ( أي الخصلة المحمودة لأهل التقوى قال ابن عباس الذين صدقوك واتبعوك وآمنوا بك وفي بعض المسانيد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية قوله تعالى ؛ ) وقالوا ( يعني المشركين ) لولا يأتينا بآية من ربه ( أي الآية المقترحة فانه كان قد أتاهم بآيات كثيرة ) أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ( أي بيان ما فيها وهو القرآن لأنه أقوى دلالة وأوضح آية وقيل معنى
(4/287)
صفحة رقم 288
ما في الصحف ما في التوراة والإنجيل وغيرهما من أخبار الأمم أنهم اقترحوا الآيات فلما أتتهم لم يؤمنوا فعجلنا لهم العذاب والهلاك فما يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم كحال أولئك وقيل بينة ما في الصحف الأولى هي البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبوته وبعثته ) ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ( أي من قبل إرسال الرسل وإنزال القرآن ) لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسلاً ( أي لقالوا يوم القيامة أولاً أرسلت إلينا رسولاً يدعونا ) فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ( بالعذاب والهوان والافتضاح ) قل كل متربص ( أي منتظر دوائر الزمان وذلك أن المشركين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون وحوادث الدهر فإذا مات تخصلنا قال الله تعالى : ( فتربصوا ( أي فانتظروا ) فستعلمون ( أي إذا جاء أمر الله وقامت القيامة ) ومن أصحاب الصراط السوي ( يعني المستقيم ) ومن اهتدى ( يعني من الضلالة نحن أم أنتم والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
سورة الأنبياء
( تفسير سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ) وهي مكية وعدد آياتها مائة واثنتا عشرة آية وألف ومائة وثمان وستون كلمة وأربعة آلاف وثمانمائة وتسعون حرفا.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قوله عز وجل )
الأنبياء : ( 1 - 10 ) اقترب للناس حسابهم...
" اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون " ( قوله عز وجل : ( اقترب للناس حسابهم ( أي وقت محاسبة الله إياهم على أعمالهم يوم القيامة.
نزل في منكري البعث وإنما ذكر الله هذا الاقتراب لما فيه من المصلحة للمكلفين , فيكونون أقرب إلى التأهب له , والمراد بالناس المحاسبون وهم المكلفون دون غيرهم , وقيل هم المشركون وهذا من باب إطلاق اسم الجنس على بعضه ) وهم في غفلة معرضون ( أي عن التأهب له وقيل معناه أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء ثم إذا نبهوا من سنة الغفلة بما يتلى من الآيات والنذر أعرضوا عنه ) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ( يعني ما يحدث الله من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظمهم به وقيل معناه إن الله يحدث الأمر بعد الأمر فينزل الآية بعد الآية والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع وقيل الذكر المحدث ما قاله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبينه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن وأضافة إليه لأن الله تعالى قال وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) إلا استمعوه وهم يلعبون ( أي لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون ) لاهية قلوبهم ( أي ساهية معرضة غافلة عن ذكر الله ) وأسروا النجوى الذين ظلموا ( أي بالغوا في أخفاء
(4/288)
صفحة رقم 289
التناحي وهم الذين أشركوا ثم بين سرهم الذي تناجوا به , فقال تعالى مخبراً عنهم ) هل هذا إلا بشر مثلكم ( يعني أنهم أنكروا إرسال البشر وطلبوا إرسال الملائكة والأولى إرسال البشر إلى البشر لأن الإنسان إلى القبول من أشكاله أقرب ) أفتأتون السحر ( يعني أتحضرون السحر وتقبلونه ) وأنتم تبصرون ( يعني تعلمون أنه سحر ) قال ( لهم محمد ) ربي يعلم القول في السماء والأرض ( يعني لا يخفى عليه شيء ) وهو السميع ( لأقوالهم ) العليم ( بأفعالهم.
قوله عز وجل :
) بل قالوا أضغاث أحلام ( يعني أباطيل وأهاويل رآها في النوم ) بل افتراه ( يعني اختلقه ) بل هو شاعر ( وذلك أن المشركين اقتسموا القول في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيما يقوله , فقال بعضهم أضغاث أحلام وقال بعضهم بل هو فرية وقال بعضهم هو شاعر وما جاءكم به شعر ) فليأتنا ( يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) بآية ( يعني بحجة إن كان صادقاً ) كما أرسل الأولون ( أي من الرسل بالآيات قال الله تعالى مجيباً لهم ) ما آمنت قبلهم ( أي قبل مشركي مكة ) من قرية ( أي من أهل قرية أتتهم الآيات ) أهلكناها ( يعني بالتكذيب ) أفهم يؤمنون ( يعني إن جاءتهم آية والمعنى أن أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما جاءتهم أفيؤمن هؤلاء.
قوله تعالى : ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ( هذا جواب لقولهم هل هذا إلا بشر مثلكم , والمعنى إنا لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالاً يوحى إليهم مثلك ) فأسألوا أهل الذكر ( يعني أهل التوراة والإنجيل يريد علماء أهل الكتاب , فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشراً وإن أنكروا نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أمر الله المشركين بسؤال أهل الكتاب لأن المشركين أقرب إلى تصديقهم من تصديق من آمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل أراد بالذكر القرآن يعني فاسئلوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن ) إن كنتم لا تعلمون ( قوله عز وجل : ( وما جعلناهم ( أي الرسل ) جسداً لا يأكلون الطعام ( هذا رد لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام , والمعنى لم نجعلهم ملائكة بل جعلناهم بشراً يأكلون الطعام ) وما كانوا خالدين ( يعني في الدنيا بل يموتون كغيرهم ) ثم صدقناهم الوعد ( يعني الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم ) فأنجيناهم ومن نشاء ( يعني من المؤمنين الذي صدقوهم ) وأهلكنا المسرفين ( يعني المشركين لأن المشرك مسرف على
(4/289)
صفحة رقم 290
نفسه.
قوله عز وجل : ( لقد أنزلنا إليكم ( يعني يا معشر قريش ) كتاباً فيه ذكركم ( يعني شرفكم وفخركم وهو شرف لمن آمن به , وقيل معناه فيه حديثكم , وقيل فيه ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم وقيل فيه تذكرة لكم لتحذروا فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد ) أفلا تعقلون ( فيه بعث على التدبر لأن الخوف من لوازم العقل.
)
الأنبياء : ( 11 - 23 ) وكم قصمنا من...
" وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " ( قوله تعالى : ( وكم قصمنا ( يعني أهلكنا ) من قرية كانت ظالمة ( يعني كافرة والمراد أهل القرية ) وأنشأنا بعدها ( أي أحدثنا بعد هلاك أهلها ) قوماً آخرين فلما أحسوا بأسنا ( أي عذابنا بحاسة البصر ) إذا هم منها يركضون ( يعني يسرعون هاربين من قريتهم لما رأوا مقدمة العذاب ) لا تركضوا ( يعني قيل لهم لا تهربوا ) وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ( يني تنعمتم فيه من العيش ) ومساكنكم لعلكم تسألون ( قال ابن عباس عن قتل نبيكم , قيل نزلت هذه الآية في أهل حضرموت قرية باليمن , وكان أهلها عرباً فبعث الله إليهم نبياً يدعوهم إلى الله فكذبوه وقتلوه , فسلط الله عليهم بختنصر فقتلهم وسباهم , فلما استمر فيهم القتل هربوا فقالت الملائكة لهم استهزاء لا تركضوا , أي لا تهربوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم لعلكم تسألون شيئاً من دنياكم فتعطون من شئتم وتمنعون من شئتم , فإنكم أهل ثروة ونعمة فأتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف , ونادى مناد من جو السماء يا لثارات الأنبياء فلما رأوا ذلك , أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم ) قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين ( يعني لأنفسنا حين كذبنا الرسل وذلك أنهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب , وقالوا ذلك على سبيل الندامة ولم ينفعهم الندم ) فما زالت تلك دعواهم ( يعني تلك الكلمة هو قولهم يا ويلنا ) حتى جعلناهم حصيداً ( يعني بالسيوف كما يحصد الزرع ) خامدين ( يعني ميتين.
قوله عز وجل : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ( معناه ما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب للعب واللهو , سويناهما لفوائد منها التفكر في خلقهما وما فيهما من العجائب والمنافع التي لا تعد ولا تحصى ) لو أردنا أن نتخذ لهواً ( قال ابن عباس : اللهو المرأة وعنه أنه الولد ) لاتخذناه من لدنا ( يعني من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض , وقيل معناه لو كان ذلك جائزاً في حقنا لم نتخذه بحيث يظهر لكم بل نستر , ذلك حتى لا تتطلعوا عليه , وذلك أن النصارى لما قالوا , في المسيح وأمه ما قالوا رد الله عليهم بقوله لاتخذناه
(4/290)
صفحة رقم 291
من لدنا لأنكم لا تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره ) إن كنا فاعلين ( يعني ما كنا فاعلين , وقيل ما كنا ممن يفعل ذلك لأنه لا يليق بالربوبية ) بل ( يعني دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل ) نقذف ( يعني نرمي ونسلط ) بالحق ( يعني بالإيمان ) على الباطل ( يعني على الكفر , وقيل الحق قول الله أنه لا ولد له والباطل قولهم اتخذ الله ولداً ) فيدمغه ( فيهلكه ) فإذا هو زاهق ( يعني ذاهب والمعنى أنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يذهب ويضمحل , ثم أوعدهم على كذبهم فقال تعالى ) ولكم الويل ( يا معشر الكفار ) مما تصفون ( الله بما لا يليق من الصحابة والولد ) وله من في السموات والأرض ( يعني عبيداً وملكاً وهو الخالق لهم والمنعم عليهم بأصناف النعم ) ومن عنده ( يعني الملائكة وإنما خص الملائكة وإن كانوا داخلين في جملة من في السموات لكرامتهم ومزيد الاعتناء بهم ) لا يستكبرون عن عبادته ( يعني لا يتكبرون ولا يتعظمون عنها ) ولا يستحسرون ( يعني لا يعيون ولا يتبعون , وقيل لا ينقطعون عن العبادة ثم وصفهم الله تعالى ) يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( يعني لا يضعفون ولا يسأمون , وذلك أن تسبيحهم متصل دائم لا يفتر في جميع أوقاتهم لا تتخلله فترة بفراغ أو شغل أخر قال كعب الأحبار التسبيح لهم كالنفس لبني آدم ) آم اتخذوا آلهة من الأرض ( يعني الأصنام من الحجارة والخشب وغيرهم من المعادن وهي من الأرض ) هم ينشرون ( يعني يحيون الأموات , إذ لا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم والإنعام بأبلغ وجوه النعم , وهو الله عز وجل ) لو كان فيهما ( يعني في السماء والأرض ) آلهة إلا الله ( يعني غير الله ) لفسدتا ( يعني لخربتا وهلك من فيهما الوجود والتمانع من الآلهة لأن كل أمر صدر عن الاثنين فأكثر لم يجر على النظام وقال الإمام فخر الدين الرازي قال المتكلمون القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال , فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالاً , وإنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا لو فرضنا وجود إلهين , فلا بد وأن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات , ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك زيد وتسكينه.
لو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه وأراد تسكينه , فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس فلو امتنعن معاً وذلك محال أو يقع مراد أحدهما : دون الثاني وذلك أيضاً محال لوجهين أحدهما أنه لو كان كل واحد منهما قادراً على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر , بل لا بد وأن يستويا في القدرة وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح.
وثانيهما : أنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده يكون قادراً والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً والعجز نقص , وهو على الإله محال.
ولو فرضنا إلهين , لكان كل واحد منهما قادراً على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد , وهو محال لأن إسناد الفعل إلى الفاعل إنما كان لإمكانه ,
(4/291)
صفحة رقم 292
فإذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد فالفعل لكونه من هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلاً منهما جميعاً , فيلزم استغناؤه عنهما معاً واحتياجه إليهما معاً , وذلك محال وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد فنقول القول بوجود إلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور بواحد منهما , وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع البتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعاً , أو نقول لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا , فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما , وهو محال وإن اختلفا فإما أن يقع المرادن أو لا يقع واحد منهما أو يقع أحدهما دون الثاني والكل محال فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات.
واعلم أنك إذا وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل على وحدانية الله تعالى.
وأما الدلائل السمعية على الوحدانية فكثيرة في القرآن , واعلم أن كل من طعن في دلالة التمانع ففسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة يقول بإلهيتها عبدة الأصنام , لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فلزم إفساد العالم قالوا وهذا أولى لأنه تعالى حكى عنهم في قوله : ( أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ( ثم ذكر الدلالة على فساد هذا فوجب أن يختص الدليل به وأما قوله ) فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( ففيه تنزيه الله سبحانه وتعالى عما يصفه به المشركون من الشريك والولد ) لا يسأل عما يفعل ( يعني لا يسأل عما يفعله ويقضيه في خلقه ) وهم يسألون ( يعني والناس عن أعمالهم , والمعنى أنه لا يسأل عما يحكم في عباده من إعزاز وإذلال وهدى وإضلال وإسعاد وإشقاء , لأنه الرب مالك الأعيان والخلق يسألون سؤال توبيخ.
يقال لهم يوم القيامة لم فعلتم كذا لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم.
والله تعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعله لم فعلته.
)
الأنبياء : ( 24 - 33 ) أم اتخذوا من...
" أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون " ( قوله عز وجل : ( أم اتخذوا من دونه آلهة ( لما أبطل الله تعالى أن تكون آلهة سواه , بقوله لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا أنكر عليهم اتخاذهم الآلهة فقال أم اتخذوا من دونه آلهة وهو استفهام إنكار وتوبيخ ) قل هاتوا برهانكم ( أي حجتكم على ذلك ثم قال مستأنفاً ) هذا ( يعني القرآن ) ذكر من معي ( يعني فيه خبر من معي على ديني ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ) وذكر ( يعني خبر ) من قبلي ( أي من الأمم السالفة وما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة.
وقال ابن عباس ذكر من معي القرآن وذكر من قبلي التوراة والإنجيل , والمعنى راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب , هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولداً أو كان معه آلهة ) بل آكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ( قوله عز وجل : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( أي فوحدوني , وقيل لما توجهت الحجة عليهم , ذمهم على جهلهم بمواضع الحق , فقال بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون , أي عن التأمل والتفكر وما يجب عليهم من الإيمان بأنه لا إله إلا هو.
قوله تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولداً ( نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله ) سبحانه ( نزه نفسه عما قالوا.
) بل عباد ( أي هم عباد يعني الملائكة ) مكرمون ( أي أكرمهم الله واصطفاهم ) لا يسبقونه ( أي لا يتقدمونه ) بالقول ( أي
(4/292)
صفحة رقم 293
لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ) وهم بأمره يعملون ( المعنى أنهم لا يخالفونه قولاً ولا عملاً ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ( أي ما عملوا وما هم عاملون وقيل ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم ) ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ( قال ابن عباس إلا لمن قال لا إله إلا الله وقيل إلا لمن رضى الله تعالى عنه ) وهم من خشيته مشفقون ( أي خائفون وجلون لا يأمنون مكره ) ومن يقل منهم إني إله من دونه ( قيل عنى به إبليس حيث دعا إلى عبادة نفسه فإن أحداً من الملائكة لم يقل إني إله من دون الله ) فذلك نجزيه جنهم كذلك نجزي الظالمين ( أي الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها.
قوله عزّ وجلّ ) أولم ير الذين كفروا ( أي ألم يعلم الذين كفروا ) أن السموات والأرض كانتا رتقاً ( قال ابن عباس كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ) ففتقناهما ( أي فصلنا بينهما بالهواء.
قال كعب : خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض , ثم خلق ريحاً بوسطهما ففتحهما بها , وقيل كانت السموات مرتتقة طبقة واحدة , ففتقها وجعلها سبع سموات وكذلك الأرض , وقيل كانت السماء رتقاً لا تمطر , والأرض رتقاً لا تنبت , ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات ) وجعلنا من الماء كل شيء حي ( أي وأحيينا بالماء الذي ينزل من السماء كل شيء , من الحيوان ويدخل فيه النبات والشجر , وذلك لأنه سبب لحياة كل شيء , وقال المفسرون : معناه أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء وقيل يعني النطفة.
فإن قلت قد خلق الله بعض ما هو حي من غير الماء كآدم وعيسى والملائكة والجان.
قلت خرج هذا الأمر مخرج الأغلب والأكثر يعني أن أكثر ما على وجه الأرض مخلوق من الماء أو بقاؤه بالماء ) أفلا يؤمنون ( أي أفلا يصدقون ) وجعلنا في الأرض رواسي ( أي جبالاً ثوابت ) أن تميد بهم ( أي لئلا تميد بهم , قيل إن الأرض بسطت على الماء فكانت تتحرك كما تتحرك السفينة في الماء فأرساها الله فأثبتها بالجبال ) وجعلنا فيها ( أي في الرواسي ) فجاجاً ( أي طرقاً ومسالك والفج الطريق الواسع بين جبلين ) سبلاً ( وهو تفسير الفجاج ) لعلهم يهتدون ( أي إلى مقاصدهم ) وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً ( أي من أن يسقط ويقع وقيل محفوظاً من الشياطين بالشهب ) وهم ( يعني الكفار ) عن آياتها معرضون (
(4/293)
صفحة رقم 294
أي عما خلق الله فيها من الشمس والقمر والنجوم , وكيفية حركتها في أفلاكها ومطالعها ومغاربها , والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة القدرة القاهرة , لا يتفكرون ولا يعتبرون بها ) وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس كل في فلك يسبحون ( أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء.
وإنما قال يسبحون ولم يقل تسبح , على ما يقال لما لا يعقل لأنه ذكر عنها فعل العقلاء , وهو السباحة والجري.
والفلك مدار النجوم الذي يضمها وهو في كلام العرب كل شيء مستدير , وجمعه أفلاك وقيل الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل , يريد أن الذي تجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الرحى , وقيل الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيهن وقيل الفلك استدارة السماء , وقيل الفلك موج مكفوف دون السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم , وقال أصحاب الهيئة الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول , والحق أنه لا سبيل إلى معرفة صفة السموات إلا بأخبار الصادق فسبحان الخالق المدبر لخلقه بالحكمة والقدرة الباهرة غير المتناهية.
)
الأنبياء : ( 34 - 43 ) وما جعلنا لبشر...
" وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون " ( قوله عزّ وجلّ : ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ( يعني الدوام والبقاء في الدنيا ) أفإن مت فهم الخالدون ( نزلت هذه الآية حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون نشمت بموته , فنفى الله الشماتة عنه بهذا والمعنى أن الله تعالى قضى أن لا يخلد في الدنيا بشراً لا أنت و لاهم فإن مت أنت أفيبقى هؤلاء وفي معناه قول القائل :
فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
) كل نفس ذائقة الموت ( هذا العموم مخصوص بقوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك فإن الله تعالى حي لا يموت ولا يجوز عليه الموت.
والذوق هاهنا عبارة عن مقدمات الموت وآلامه العظيمة قبل حلوله ) ونبلوكم ( أي نختبركم ) بالشر والخير ( أي بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر , وقيل مما تحبون وما تكرهون ) فتنة ( أي ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبون وصبركم فيما تكرهون ) وإلينا ترجعون ( أي للحساب والجزاء.
قوله عزّ وجلّ ) وإذا رآك الذين كفروا إن ( أي ما ) يتخذونك إلا هزواً ( أي سخرياً قيل نزلت في أبي جهل مر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فضحك وقال هذا نبي بني عبد مناف ) أهذا الذي يذكر آلهتكم ( أي يقول بعضهم لبعض أهذا الذي يعيب ألهتكم والذكر يطلب على المدح والذم مع القرينة ) وهم بذكر الرحمن هم كافرون ( وذلك أنهم كانوا يقولون لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة وهو مسيلمة الكذاب قوله تعالى ) خلق الإنسان من عجل ( , قيل معناه أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع , وقيل لما دخل الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلاً إلى ثمار الجنة , فوقع فقيل خلق الإنسان من عجل
(4/294)
صفحة رقم 295
وأورث بنيه العجلة وقيل معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إياه , لأن خلقه كان بعد كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة , فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس فلما أحيا الروح رأسه قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس , وقيل خلق بسرعة وتعجيل على غير قياس خلق بنيه لأنهم خلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة أطواراً أطواراً طوراً بعد طور وقيل خلق الإنسان من عجل أي من طين قال الشاعر :
89 ( والنخل ينبت بين الماء والعجل ) 89
أي بين الماء والطين.
وقيل أراد بالإنسان النوع الإنساني يدل عليه قوله ) سأريكم آياتي فلا تستعجلون ( وذلك أن المشركين كانوا يستعجلون العذاب , وقيل نزلت في النظر بن الحرث , ومعنى سأريكم آياتي أي مواعيدي فلا تطلبوا العذاب قبل وقته فأراهم يوم بدر , وقيل كانوا يستعجلون القيامة فلذلك قال تعالى ) ويقولون ( يعني المشركين ) متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( وهذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء فبين تعالى أنهم إنما يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم , بين ما لهؤلاء المستهزئين فقال تعالى : ( لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون ( يعني لا يدفعون ) عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ( قيل السياط ) ولا هم ينصرون ( أي لا يمنعون من العذاب والمعنى لو علموا لما أقاموا على كفرهم ولما استعجلوا بالعذاب ولما قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) بل تأتيهم ( يعني الساعة ) بغتة ( أي فجأة ) فتبهتهم ( أي تحيرهم ) فلا يستطيعون ردها ( اي صرفها ودفعها عنهم ) ولا هم ينظرون ( أي لا يمهلون للتوبة والمعذرة ) وقد استهزىء برسل من قبلك ( أي يا محمد كما استهزأ بك قومك ) فحاق ( أي نزل وأحاط ) بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ( أي عقوبة استهزائهم وفيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم.
قوله تعالى ) قل من يكلؤكم ( أي يحفظكم ) بالليل ( إذ نمتم ) والنهار ( إذا انصرفتم في معايشكم ) من الرحمن ( قال ابن عباس معناه من يمنعكم من عذاب الرحمن ) بل هم عن ذكر ربهم ( أي عن القرآن ومواعظه ) معرضون ( أي لا يتأملون في شيء منها ) أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا ( معناه ألهم آلهة من دوننا تمنعهم ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال ) لا يستطيعون نصر أنفسهم ( أي لايقدرون على نصر أنفسهم فكيف ينصرون من عبدهم ) ولا هم منا يصبحون ( قال ابن عباس يمنعون وقيل يجارون وقيل ينصرون وقيل
(4/295)
صفحة رقم 296
معناه لا يصبحون من الله بخير.
)
الأنبياء : ( 44 - 57 ) بل متعنا هؤلاء...
" بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين " ( ) بل متعنا هؤلاء ( يعني الكفار ) وآباءهم ( أي في الدنيا بأن أنعمنا عليهم وأمهلناهم ) حتى طال عليهم العمر ( أي امتد بهم الزمان فاغتروا ) أفلا يرون ( يعني هؤلاء المشركين ) أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ( يعني ننقص من أطراف المشركين , ونزيد من أطراف المؤمنين يريد بذلك ظهور النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفتحه ديار الشرك أرضاً فأرضاً وقرية فقرية , والمعنى أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها بأخذ الواحد , بعد الواحد وفتح البلاد والقرى مما حول مكة وإدخالها في ملك محمد ( صلى الله عليه وسلم ) , وموت رؤوس المشركين المتنعمين بالدنيا.
أما كان لهم عبرة في ذلك فيؤمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويعلموا أنهم لا يقدرون على الامتناع منا ومن إرادتنا فيهم ثم قال ) أفهم الغالبون ( استفهام بمعنى التقريع معناه بل نحن الغالبون وهم المغلوبون ) قل ( يا محمد ) إنما أنذركم بالوحي ( أي أخوفكم بالقرآن ) ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ( أي يخوفون ) ولئن مستهم ( أي أصابتهم ) نفحة من عذب ربك ( قال ابن عباس طرف وقيل شيء قليل ) ليقولن يا ويلنا إن كنا ظالمين ( دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقروا على أنفسهم بالظلم والشرك.
وقوله عزّ وجلّ ) ونضع الموازين القسط ( أي ذوات العدل ومعنى وصفها بذلك لأن الميزان قد يكون مسقيماً وقد يكون بخلافه فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل ومعنى وضعها إحضارها ) ليوم القيامة ( أي لأهل يوم القيامة قيل المراد بالميزان العدل والقسط بينهم في الأعمال , فمن أحاطت حسناته بسيئاته فاز ونجا وبالعكس ذل وخسر , والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن الله سبحانه وتعالى يضع الموازين الحقيقية ويزن بها أعمال العباد , وقال الحسن هو ميزان له كفتان ولسان وأكثر الأقوال أنه ميزان واحد وإنما جمع لاعتبار عدد الأعمال الموزونة به.
وروي أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه عزّ وجلّ أن يريه الميزان فأراه كل كفته ما بين المشرق والمغرب فلما رآه غشي عليه , ثم فاق فقال إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات ؟ قال يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة.
فعلى هذا ففي كيفية وزن الأعمال مع أنها أعراض طريقان : أحدهما : أن توضع صحائف الأعمال فتوضع صحائف الحسنات في كفة , وصحائف السيئات في كفة.
والثاني : أن يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة , وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة.
فإن قلت كيف تصنع بقوله ونضع الموازني القسط مع قوله فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً.
قلت هذه في حق الكفار لأنهم ليس لهم أعمال توزن مع الكفر.
وقوله تعالى ) فلا تظلم نفس شيئاً ( يعني لا تبخس مما لها وما عليها من خير وشر شيئاً ) وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ( معناه أنه لا ينقص من إحسان محسن , ولا يزاد في إساءة
(4/296)
صفحة رقم 297
مسيء , وأراد بالحبة الجزء اليسير من الخردل , ومعنى أتينا بها يعني أحضرناها لنجازي بها.
وعن عبد الله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلاً , كل سجل مد البصر , ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً , أظلمك كتبتي الحافظون , فيقول لا يارب , فيقول أفلك عذر , فيقول لا يا رب.
فيقول الله تعلى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم , فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة , فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء ) أخرجه الترمذي.
السجل الكتاب الكبير , وأصله من التسجيل لأنه يجمع أحكاماً , والبطاقة ورقة صغيرة تجعل في طي الثوب يكتب فيها ثمنه , والطيش الخفة , قلت في الحديث دليل على أن صحائف الأعمال هي التي توزن , لا أن الأعمال تتجسد جواهر فتوزن والله أعلم.
قوله تعالى ) وكفى بنا حاسبين ( قال ابن عباس معناه كفى بنا عالمين حافظين لأن من حسب شيئاً فقد علمه وحفظه , والغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشبته عليه شيء وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون بأشد ا لخوف منه ويروى عن الشبلي أنه رؤي في المنام فقيل لهم ما فعل الله بك فقال :
حاسبونا فدققوا
ثم منوا فأعتقوا
هكذا سيمة الملو
ك بالمماليك يرفقوا
" قوله عزّ وجلّ ) ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ( يعني الكتاب المفرق بين الحق والباطل وهو التوراة , وقيل الفرقان النصر على الأعداء فعلى هذا يكون ) وضياء ( يعني التوراة ومن قال الفرقان هو التوراة جعل الواو زائدة في وضياء والمعنى آتينا موسى التوراة ضياء ) وذكراً للمتقين ( يعني يتذكرون بمواعظها ويعملون بما فيها ) الذين يخشون ربهم بالغيب ( أي يخافونه ولم يروه , وقيل يخافونه في الخلوات إذا غابوا عن أعين الناس ) وهم من الساعة مشفقون ( أي خائفون ) وهذا ذكر مبارك أنزلناه ( أي كما آتينا موسى التوراة , فكذلك أنزلنا القرآن ذكراً مباركاً , أي هو ذكر لمن آمن به مبارك يتبرك به ويطلب منه الخير ) أفأنتم ( يا أهل مكة ) له منكرون ( أي جاحدون.
قوله تعالى ) ولقد آتينا إبراهيم رشده ( أي صلاحه وهداه ) من قبل ( أي من قبل موسى وهرون , وقيل من قبل البلوغ وهو حين خرج من السرب وهو صغير ) وكنا به عالمين ( أي إنه من أهل الهداية والنبوة ) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل ( يعني الصور والأصنام ) التي أنتم له عاكفون ( أي مقيمون على عبادتها ) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ( أي فاقتدينا بهم ) قال ( يعني إبراهيم ) لقد كنتم أنتم وآباءكم في ضلال مبين ( أي في خطأ بين بعبادتكم إياها ) قالوا أجئتنا بالحق ( أي بالصدق ) أم أنت من اللاعبين (
(4/297)
صفحة رقم 298
يعنون أجاد أنت فيما تقول أم أنت لاعب ) قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن ( أي خلقهن ) وأنا على ذلكم من الشاهدين ( أي على أنه الإله الذي يستحق العبادة , وقيل شاهد على أنه خالق السموات والأرض ) وتالله لأكيدن أصنامكم ( أي لأمكرن بها ) بعد أن تولوا مدبرين ( أي منطلقين إلى عيدكم , قيل إنما قال إبراهيم هذا القول سراً في نفسه , ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد من قومه فأفشاه عليه , وهو القائل إنا سمعنا فتى يذكرهم , وقيل كان لهم في كل سنة مجمع وعيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم رجعوا إلى منازلهم فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معه إبراهيم , فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال إني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا , فنادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه , ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهن في بهو عظيم , ومستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه صنم أصغر منه والأصنام جنبها إلى جنب بعض كل صنم الذي يليه أصغر منه وهكذا إلى باب البهو , وإذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدي الآلهة وقالوا إذا رجعنا وقد بركت الآلهة عليه أكلنا منه , فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء ) ألا تأكلون ( " فلما لم يجيبوه ) ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضرباً باليمين ( وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم العظيم , علق الفأس في عنقه , وقيل في يده ثم خرج.
)
الأنبياء : ( 58 - 68 ) فجعلهم جذاذا إلا...
" فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين " ( قوله تعالى : ( فجعلهم جذاذاً ( أي كسراً وقطعاً ) إلا كبيراً لهم ( أي تركه ولم يسكره ووضع الفأس في عنقه , ثم خرج وقيل ربطه على يده وكانت اثنين وسبعين صناماً بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد وبعضها من نحاس ورصاص وحجر وخشب وكان الصنم الكبير من الذهب مكللاً بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان وقوله ) لعلهم إليه يرجعون ( قيل معناه يرجعون إلى إبراهيم وإلى دينه وما يدعوهم إليه , إذا علموا ضعف الآلهة وعجزها , وقيل معناه لعلهم يرجعون إلى الصنم فيسألونه ما لهؤلاء تكسروا وأنت صحيح والفأس في عنقك , فلما رجع القوم من
(4/298)
صفحة رقم 299
عيدهم إلى بيت آلهتهم ورأوا أصنام مكسرة ) قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ( أي في تكسيرها واجترائه عليها ) قالوا سمعنا فتى يذكرهم ( أي يسبهم ويعيبهم ) يقال له إبراهيم ( أي هو الذي نظن أنه صنع هذا فبلغ ذلك نمرود الجبار وأشراف قومه ) قالوا فأتوا به على أعين الناس ( أي جيئوا به ظاهراً بمرأى الناس وإنما قاله نمرود ) لعلهم يشهدون ( أي عليه بأنه الذي فعل ذلك كرهوا أن يأخذوه بغير بنية وقيل معناه لعلهم يحضرون عذابه وما يصنع به فلما أتوا به ) قالوا ( له ) أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال ( يعني إبراهيم ) بل فعله كبيرهم هذا ( غضب أن تعبدون معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهن وأراد إبراهيم بذلك إقامة الحجة عليهم فذلك قوله ) فاسألوهم إن كانوا ينطقون ( أي حتى يخبروا بمن فعل ذلك بهم , وقيل : معناه إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه أنا فعلت ذلك
( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله قوله إني سقيم وقوله : فعله كبيرهم هذا , وقوله لسارة : هذه أختي ) لفظ الترميذي قيل في قوله إني سقيم أي : سأسقم وقيل : سقيم القلب مغتم بضلالتكم.
وأما قوله بل فعله كبيرهم هذا فإنه علق خبره بشرط نطقه كأنه قال : إن كان ينطق فهو على طريق التبكيت لقومه وقوله لسارة : هذه أختي , أي في الدين والإيمان قال الله تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة ( " فكل هذه الألفاظ صدق في نفسها ليس فيها كذب.
فإن قلت : قد سماها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كذبات بقوله : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات وقال في حديث الشفاعة ويذكر كذباته.
قلت : معناه أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب , وإن كان حقاً في الباطن إلا هذه الكلمات ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم عليه الصلاة والسلام منها بمؤاخذته بها قال البغوي : وهذه التأويلات لنفي الكذب عن إبراهيم والأولى هو الأول للحديث , ويجوز أن يكون الله أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم , كما أذن ليوسف حين أمر مناديه فقال : أيتها العير إنكم لسارقون ولم يكونوا سرقوا قال الإمام فخر الدين الرازي : وهذا القول مرغوب عنه , والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذب لمصلحة ويأذن الله فيه فلنجوز هذا الاحتمال في كل ما أخبر الأنبياء عنه , وذلك يبطل الوثوق بالشرائع ويطرق التهمة إلى كلها , الحديث محمول على المعاريض , فإنه فيها مندوحة عن الكذب.
وقوله : ( فرجعوا إلى أنفسهم ( يعني تفكروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم ) فقالوا ( ما نراه إلا كما قال ) إنكم أنتم الظالمون ( يعني بعبادتكم ما لا يتكلم وقيل معناه أنتم الظالمون لهذا الرجل في سؤالكم إياه , وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها
(4/299)
صفحة رقم 300
) ثم نكسوا على رؤوسهم ( قال أهل التفسير أجرى الله الحق على ألسنتهم في القول الأول وهو إقرارهم على أنفسهم بالظلم ثم أدركتهم الشقاوة فرجعوا إلى حالهم الأولى وهو قوله : ثم نكسوا على رؤوسهم أي ردوا إلى الكفر وقالوا ) لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ( يعني فكيف نسألهم , فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليهم ) قال ( لهم ) أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ( يعني إن عبدتموه ) ولا يضركم ( يعني إن تركتم عبادته ) أف لكم ( يعني تباً لكم ) ولما تعبدون من دون الله ( والمعنى أنه حقرهم وحقر معبودهم ) أفلا تعقلون ( يعني أليس لكم عقل تعقلون به أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة ؟ فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب ) قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم ( يعني أنكم لا تنصرونها إلا بتحريق إبراهيم لأنه يعيبها ويطعن فيها ) إن كنتم فاعلين ( يعني ناصرين آلهتكم.
قال ابن عمر : الذي قال هذا رجل من الأكراد قيل اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وقيل : قاله نمرود بن كنعان بن سنحاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح.
ذكر القصة في ذلك
فلما اجتمع نمرود وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنياناً كالحظيرة بقرية يقال لها كوثى ثم جمعوا له صلاب الحطب وأصناف الخشب مدة شهر حتى كان الرجل يمرض فيقول : لئن عوفيت لأجمعن حطباً لإبراهيم وكانت المرأة تنذر في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحتطبن في نار إبراهيم , وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها احتساباً في دينها , وكان الرجل يوصي بشراء الحطب من ماله لإبراهيم , فلما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب ناراً فاشتعلت النار واشتدت حتى إن الطير ليمر بها فتحرق من شدة وهجها وحرها , فأوقدوا عليها سبعة أيام , فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم لم يعلموا كيف يلقونه , فقيل إن إبليس جاء وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه ثم عمدوا إلى إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً , فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة : أي ربنا إبراهيم خليلك يلقى في النار وليس في أرضك أحد يعبدك غيره , فأذن لنا في نصرته فقال الله تعالى : إنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فإن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك , وإن لم يدع غيري , فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه , فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه وقال : إن أردت أخمدت النار , وأتاه خازن الهواء وقال : إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل.
وروي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه في النار : لا إله إلا أنت سبحانك لك
(4/300)
صفحة رقم 301
الحمد ولك الملك لا شريك لك , ثم رموا به في المنجنيق إلى النار , فاستقبله جبريل فقال : يا إبراهيم ألك حاجة قال : أما إليك فلا قال جبريل فسأل ربك فقال إبراهيم : حسبي من سؤالي علمه بحالي
( خ ) عن أبن عباس في قوله تعالى : ( وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ( " قال : قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار وقالها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حين ) قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ( " قال كعب الأحبار : جعل كل شيء يطفىء عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ في النار
( ق ) عن أم شريك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمر بقتل الأوزاغ زاد البخاري وقال كان ينفخ على إبراهيم )
)
الأنبياء : ( 69 - 71 ) قلنا يا نار...
" قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين " ( قال عز وجل : ( قلنا ( يعني ) يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ( قال ابن عباس : لو لم يقل سلاماً لمات إبراهيم من بردها , وفي بعض الآثار أنه لم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم , ولو لم يقل على إبراهيم بقيت ذات برد أبداً , وقيل : أخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس.
قال كعب : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه قالوا : وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام , قاله المنهال بن عمرو وقال إبراهيم : ما كنت أياماً قط أنعم مني من الإيام التي كنت في النار.
وقيل : وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه.
قالوا : وبعث الله عز وجل جبريل بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه , وقال جبريل : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبائي.
ثم نظر نمرود وأشرف على إبراهيم من صرح له فرأه جالساً في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب , فناداه يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين النار يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها قال نعم.
قال : هل تخشى إن قمت أن تضرك قال لا.
قال : فقم فاخرج منها فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها فلما وصل إليه قال له إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك مثلك في صورتك قاعداً إلى جنبك ؟ قال : ذلك ملك الظل أرسله إلى ربي ليؤنسني فيها فقال نمرود يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده وإني ذابح له أربعة آلاف بقرة.
قال إبراهيم : لا يقبل الله منك ما دمت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال : لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها , فذبحها نمرود , وكف عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومنعه الله
(4/301)
صفحة رقم 302
عز وجل منه قوله عز وجل ) وأرادوا به كيداً ( يعني أرادوا أن يكيدوه ) فجعلناهم الأخسرين ( قيل : معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم.
وقيل : إن الله تعالى أرسل على نمرود وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت في دماغه بعوضة فأهلكته.
قوله تعالى : ( ونجيناه ولوطاً ( يعني من نمرود وقومه ) إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ( يعني إلى أرض الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الاشجار والثمار والأنهار.
وقال أبي بن كعب : بارك الله فيها وسماها مباركة لأنه ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس.
وقيل : لأن أكثر الأنبياء منها
( ق ) عن أبي قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال لكعب : ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقبره فقال كعب : إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنز من عباده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ) أخرجه أبو داود , أراد بالهجرة الثانية الهجرة إلى الشام يرغب في المقام بها عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( طوبى لأهل الشام فقلت وما ذاك يا رسول الله قال لأن الملائكة باسطة أجنحتها عليها ) أخرجه الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : ( قلت يا رسول الله أين تأمرني ؟ قال ها هنا ونحا بيده نحو الشام ) أخرجه الترمذي.
قال محمد بن إسحاق : استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله تعالى به من جعل النار عليه برداً وسلاماً على خوف من نمرود وملئهم وآمنت به سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم , وتبعه لوط وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران وهو أخو إبراهيم , وكان لهما أخ ثالث اسمه ناخور فثلاثتهم اولاد تارخ وهو آزر , فخرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق مهاجراً إلى ربه معه لوط وسارة فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله , ثم خرج مهاجراً حتى قدم مصر , ثم خرج ورجع إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين , ونزل لوط بالمؤتفكة وهي على مسيرة يوم وليلة من السبع فبعثه الله نبياً إلى أهلها وما قرب منها فذلك قوله تعالى ) ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي
(4/302)
صفحة رقم 303
باركنا فيها للعالمين (.
)
الأنبياء : ( 72 - 79 ) ووهبنا له إسحاق...
" ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين " ( قوله تعالى : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ( يعني عطية من عطاء الله.
قال ابن عباس : النافلة هو يعقوب لأن الله تعالى أعطى إبراهيم إسحاق بدعائه حيث قال : رب هب لي من الصالحين وزاده يعقوب نافلة وهو ولد الولد ) وكلا جعلنا صالحين ( يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) وجعلناهم أئمة ( يعني قدوة يهتدى بهم في الخير ) يهدون بأمرنا ( يعني يدعون الناس إلى ديننا بأمرنا ) وأوحينا إليهم فعل الخيرات ( يعني العمل بالشرائع ) وإقام الصلاة ( يعني المحافظة عليها ) وإيتاء الزكاة ( يعني الواجبة وخصهما لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية وشرعت لذكر الله والزكاة أفضل العبادات المالية ومجموعها التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) وكانوا لنا عابدين ( يعني موحدين قوله عز وجل ) ولوطاً أتيناه حكماً ( أي الفصل بين الخصوم بالحق وقيل أراد الحكمة والنبوة ) وعلماً ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ( يعني قرية سدوم وأراد أهلها وأراد بالخبائث إتيان الذكور في أدبارهم , وكانوا يتضارطون في مجالسهم مع أشياء أخرى كانوا يعلمونها من المنكرات ) إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا ( قيل : أراد بالرحمة النبوة وقيل أراد بها الثواب ) إنه من الصالحين ( أي الأنبياء.
قوله تعالى : ( ونوحاً إذ نادى من قبل ( أي من قبل إبراهيم ولوط ) فاستجبنا له ( أي أجبنا دعاءه ) فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ( قال ابن عباس من الغرق وتكذيب قومه له , وقيل : إنه كان أطول الأنبياء عمراً وأشدهم بلاء.
والكرب أشد الغم ) ونصرناه ( أي منعناه ) من القوم الذين كذبوا بآياتنا ( من أن يصلوا إليه بسوء وقيل من بمعنى على ) إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين (.
قوله عز وجل ) وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ( قال ابن عباس وأكثر المفسرين : كان الحرث كرماً قد تدلت عناقيده وقيل كان زرعاً وهو أشبه بالعرف ) إذا نفشت فيه غنم القوم ( أي رعته ليلاً فأفسدته وكان بلا راع ) وكنا لحكمهم شاهدين ( أي كان ذلك بعلمنا ومرأى منا لا يخفى علنيا علمه.
(4/303)
صفحة رقم 304
وفيه دليل لمن يقول بأن أقل الجمع اثنان لقوله وكنا لحكمهم والمراد به داود وسليمان قال ابن عباس وغيره.
إن رجلين دخلا على داوود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الزرع إن غنم هذا دخلت زرعي ليلاً فوقعت فيه فأفسدته فلم تبق منه شيئاً فأعطاه رقاب الغنم بالزرع , فخرجا فمرا على سليمان فقال : كيف قضى بينكما فأخبراه فقال سليمان : لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا وروي أنه قال غير هذا أرفق بالفريقين , فأخبر بذلك داود فدعاه وقال : كيف تقضي ويروى أنه قال له بحق النبوة والأبوة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين ؟ قال أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها , ويزرع صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه , فاذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى صاحبه وأخذ صاحب الغنم غنمه فقال داود : القضاء ما قضيت وحكم بذلك , فقيل : كان لسليمان يوم حكم بذلك من العمر إحدى عشر سنة.
وحكم الإسلام في هذه المسألة أن ما أفسدته الماشية المرسلة من مال الغير بالنهار فلا ضمان على ربها وما أفسدته بالليل ضمنه ربها لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار والمواشي تسرح بالنهار وترد بالليل إلى المراح.
ويدل على هذه المسألة ماروى حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً لرجل من الأنصار فأفسدت فيه فقضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن على أهل الأموال حفظها بالنهار , وعلى أهل المواشي حفظها بالليل وزاد في رواية : وإن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل , أخرجه أبو داود مرسلاً.
وذهب أصحاب الرأي أن المالك إذا لم يكن مع ماشيته فلا ضمان عليه فيما أتلفت ليلاً كان أو نهاراً , فذلك قوله تعالى : ( ففهمناها سليمان ( أي علمناه وألهمناه حكم القضية ) وكلاً ( أي داود وسليمان ) آتينا حكماً وعلماً ( أي بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام قال الحسن لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا ولكن الله حمد هذا بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده.
واختلف العلماء في أن حكم داود كان باجتهاده أم بنص , وكذلك حكم سليمان فقال بعضهم : حكماً بالاجتهاد.
قال : ويجوز الاجتهاد للأنبياء ليدركوا ثواب المجتهدين والعلماء لهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب أو سنة وإذا أخطؤوا فلا إثم عليهم
( ق ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ) وقال قوم إن داود وسليمان حكما بالوحي فكان حكم سليمان ناسخاً لحكم داود ومن قال بهذا يقول لا يجوز للأنبياء الحكم بالاجتهاد لأنهم مستغنون عنه بالوحي , واحتج من ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب بظاهر هذه الآية وبالحديث حيث وعد الثواب للمجتهد على الخطأ , وهو قول أصحاب الرأي وذهب جماعة إلى أنه ليس كل
(4/304)
صفحة رقم 305
مجتهد مصيباً بل إذا اختلف اجتهاد المجتهدين في حادثة كان الحق مع واحد لا بعينه , ولو كان كل واحد مصيباً لم يكن للتقسيم معنى , وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة والإثم في الخطأ عنه موضوع إذا لم يأل جهداً , ووجه الاجتهاد في هذا الحكم أن داود قوم قدر الضرر في الحرث فكان مساوياً لقيمة الغنم , وكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر في الحرث قيمة المثل , فلا جرم سلم الغنم إلى المجني عليه.
وأما سليمان فإن اجتهاده أدى إلى أنه يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد , فأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائزة , ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الحرث فحكم به.
ومن أحكام داود وسليمان عليهما السلام ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( كانت امرأتان معها ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى ) أخرجاه في الصحيحين قوله تعالى ) وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ( أي يسبحن مع داود إذا سبح قال ابن عباس كان يفهم تسبيح الحجر والشجر , قيل : كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير وقيل معنى يسبحن يصلين معه إذا صلى وقيل كان داود إذا افتر يسمعه الله تسبيح الجبال والطير لنشط في التسبيح ويشتاق إليه ) وكنا فاعلين ( يعني ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير.
)
الأنبياء : ( 80 - 81 ) وعلمناه صنعة لبوس...
" وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين " ( ) وعلمناه صنعة لبوس لكم ( أي صعنة الدروع التي تلبس في الحرب قيل أول من صنع الدروع وسردها
(4/305)
صفحة رقم 306
واتخذها حلقاً داود وكانت من قبل صفائح قالوا إن الله ألان الحديد لداود بأن يعمل منه بغير نار كأنه طين والدرع يجمع بين الخفة والحصانة وهو قوله تعالى : ( لتحصنكم ( أي تمنعكم ) من بأسكم ( أي حرب عدوكم وقيل من وقع السلاح فيكم وقيل ليحصنكم الله به ) فهل أنتم شاكرون ( أي يقول ذلك لداود وأهل بيته.
قوله عز وجل ) ولسليمان الريح ( أي وسخرنا لسليمان الريح وهو جسم متحرك لطيف ممتنع بلطفه من القبض عليه يظهر للحسن بحركته ويخفى عن البصر بلطفه ) عاصفة ( أي شديدة الهبوب.
فإن قلت : قد وصفها الله بالرخاء وهي الريح اللينة قلت : كانت الريح تحت أمره إن أراد أن تشتد اشتدت وإن أراد أن تلين لانت ) تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها ( يعني الشام وذلك لأنها كانت تجري بسليمان وأصحابه حيث يشاء سليمان ثم يعود إلى منزله بالشام ) وكنا بكل شيء عالمين ( أي بصحة التدبير فيه وعلمنا ان ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه.
قال وهب : كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه حلقت عليه الطير وقام له الإنس والجن حتى يجلس على سريره , وكان أمرأ غزاء , قلما كان يقعد عن الغزو , ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حى يذله , وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب , ثم نصب له على الخشب , ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب , فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته , حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمرت به شهراً في روحته وشهراً في غدوته إلى حيث أراد.
وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء وبالمزرعة فما تحركها ولا تثير تراباً ولا تؤذي طائراً.
قال وهب : ذكر لي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فيه كتبه بعض صحابة سليمان إما من الإنس أو من الجن نحن نزلناه وما بنيناه ومبنياً وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فنازلون بالشام وقال مقاتل : نسجت الشياطين لسليمان بساطاً فرسخاً في فرسخ ذهباً في إبريسم وكان يوضع له منبر من ذهب وسط البساط فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة , تقعد الأنبياء على كراسي الذهب , والعلماء على كراسي الفضة , وحولهم الناس , وحول الناس الجن والشياطين , وتظلله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه شمس , وترفع ريح الصبا
(4/306)
صفحة رقم 307
البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح , وقال الحسن : لما شغلت نبي الله سليمان الخيل حتى فاتته , صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل فأبدله الله مكانها خيراً منها وأسرع الريح تجري بأمره كيف شاء فكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحه ببابل.
وروي أن سليمان سار من أرض العراق فقال بمدينة بلخ متخللاً بلاد الترك , ثم جاوزهم إلى أرض الصين يعدو على مسيرة شهر ويروح على مثل ذلك ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحر البحر حتى أتى أرض السند وجاوزها وخرج منها إلى مكران وكرمان , ثم جاوزهما حتى أتى أرض فارس فنزلها أياماً , وغدا منها فقال بكسكر , ثم راح إلى الشام.
وكان مستقره بمدنية تدمر وكان أمر الشياطين قبل شخوصه إلى العراق فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأصفر والأبيض , وفي ذلك يقول النابغة :
إلا سليمان إذ قال المليك له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وجيش الجن إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
)
الأنبياء : ( 82 - 83 ) ومن الشياطين من...
" ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " ( قوله عز وجل ) ومن الشياطين ( أي وسخرنا له من الشياطين ) من يغوصون له ( أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له من قعر البحر الجواهر ) ويعملون عملاً دون ذلك ( أي دون الغوص وهو اختراع الصنائع العجيبة كما قال ) يعملون له ما يشاء من محاربيب وتماثيل ( " الآية , ويتجاوزون في ذلك إلى أعمال المدن والقصور والصناعات كاتخاذ النورة والقوارير والصابون وغير ذلك ) وكنا لهم حافظين ( يعني حتى لا يخرجوا عن أمره , وقيل : حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا وذلك أنهم كانوا إذا عملوا عملاً في النهار وفرغ قبل الليل أفسدوه وخربوه.
قيل : إن سليمان كان إذا بعث شيطاناً مع إنسان ليعمل له عملاً قال له إذا فرغ من عمله قبل الليل اشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل ويخربه.
قوله تعالى : ( وأيوب إذ نادى ربه ( يعني دعا ربه.
ذكر قصة أيوب عليه السلام
قال وهب بن منبه : كان أيوب رجلاً من الروم وهو أيوب بن أموص بن تارخ بن روم
(4/307)
صفحة رقم 308
ابن عيص بن اسحاق بن إبراهيم , وكانت أمه من ولد لوط بن هاران , وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط له الدنيا , وكانت له البثنية من أرض البلقاء من أعمال خوازم مع أرض الشام كلها سهلها وجبلها وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير مالا يكون لرجل أفضل منه في العدد والكثرة , كان له خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل له آلة كل فدان أتان لكل أتان من الولد اثنان أو ثلاثة أو ربع أو خمس وفوق ذلك , وكان الله تعالى قد أعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء وكان براً تقياً رحيماً بالمساكين يطعمهم ويكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل وكان شاكراً لأنعم الله , مؤدياً لحق الله قد امتنع عن عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من أمر الدنيا , وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه : رجل من أهل اليمن يقال له النغر وقيل نغير , ورجلان من أهل بلده يقال لأحدهما تلدد والآخر صافر كان لهؤلاء مال , وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات , وكان يقف فيهن حيثما أراد حتى رفع الله عيسى فحجب عن أربع.
فلما بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حجب عن السموات كلها إلا من استرق السمع , فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب , وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه , فأدرك إبليس الحسد والبغي , فصعد سريعاً
(4/308)
صفحة رقم 309
حتى وقف من السماء حيث كان يقف وقال : إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك , ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج عن طاعتك , قال الله تعالى : انطلق فقد سلطتك على ماله.
فانقص عدو الله إبليس حتى وقع على الأرض فجمع عفاريت الجن ومردة الشياطين وقال لهم : ماذا عندكم من القوة فقد سلطت على مال أيوب هي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال.
فقال عفريت من الشياطين : أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار فأحرق كل شيء آتي عليه قال إبليس : اذهب فأن الإبل ورعاتها , فأتى الإبل حين وضعت رؤوساها ورعت فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض وإعصار من نار فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها , ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قيم ممن كانوا عليها على قعود إلى أيوب فوجده قائماً يصلي فقال يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك وأحرقتها ومن فيها غيري , فقال أيوب بعد أن فرغ من الصلاة : الحمد لله هو أعطانيها وهو أخذها , وإنها مال الله أعارنيها وهو أولى بها , إذا شاء نزعها.
قال فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها , منهم من يقول : ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور , ومنهم من يقول : لو كان إله أيوب يقدر أن يمنع شيئاً لمنع وليه , ومنهم من يقول : بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه ويفجع صديقه , فقال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني , عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود إلى التراب وعرياناً أحشر إلى الله عز وجل , ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته , الله أولى بك وبما أعطاك , ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيداً ولكنه علم منك شراً فأخرك.
فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً فقال : ما عندكم من القوة فاني لم أكلم قبله.
قال عفريت من الجن عندي من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه.
قال إبليس : فأت الغنم ورعاتها فانطلق حتى توسطها ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتاً من عند آخرها مات رعاتها , فجاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاء إلى أيوب فوجده يصلي فقال له مثل القول الأول , فرد عليه مثل الرد الأول , فرجع إبليس إلى أصحابه فقال : ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب , فقال عفريت : عندي من القوة ما إذا شئت
(4/309)
صفحة رقم 310
تحولت ريحاً عاصفة تنسف كل شيء تأتي عليه.
قال : فأت الفدادين في الحرث والزرع فانطلق يؤمهم وذلك حين شرع الفدادون في الحرث والزرع فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصفة فنسفت كل شيء من ذلك , حتى كأنه لم يكن ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمانهم إلى أيوب وهو قائم يصلي , فقال له مثل قوله الأول , فرد عليه أيوب مثل رده الأول , وجعل إبليس يصف ماله مالاً مالاً حتى مر على آخره كلما انتهى إلى هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه , ورضي عنه بالقضاء , ووطن نفسه بالصبر والبلاء حتى لم يبق له مال.
فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعاً حتى وقف في الموقف الذي يقف فيه وقال : إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال قال الله عز وجل : انطلق فقد سلطتك على ولده.
(4/310)
صفحة رقم 311
فانقض عدو الله حتى أتى بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم القصر حتى تداعى من قواعده , وجعل جدره يضرب بعضها بعضاً برميهم بالخشب والحجارة , فلما مثل بهم كل مثلة رفع القصر وقلبه عليهم , وصاروا منكسين وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه فأخبره وقال : لو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم وأدمغتهم , ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لتقطع قلبك عليهم , فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رق قلب أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال : يا ليت أمي لم تلدني.
فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيوب مسروراً به , ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر , فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فسبقت توبته إلى الله وهو أعلم , فوقف إبليس خاسئاً ذليلاً وقال : إلهي إنما هون على أيوب المال والولد أنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده فقال الله عز وجل : انطلق فقد سلطتك على جسده , لكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله , وكان الله أعلم به , ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب.
فانقض عدو الله إبليس سريعاً إليه فوجد أيوب ساجداً فعجل قبل أن يرفع رأسه , فأتاه من قبل وجهه فنفخ في منخريه نفخة اشتعل منها جسده فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم , ووقعت فيه حكة فحك بأظفاره حتى سقطت كلها , ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة.
فلم يزل يحك حتى قرح لحمه وتقطع وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة لهم وجعلوا له عريشة , ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته وهي رحمة بنت أفرائيم بن يوسف بن يعقوب , فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه , فلما رأى الثلاثة من أصحابه ما ابتلاه الله به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه , فلما طال به البلاء انطلق إليه أصحابه فبكتوه ولا موه وقالوا : تب إلى الله من الذنب الذي عوقبت به.
قال : وحضر معهم فتى حديث السن قد آمن به وصدقه فقال لهم الفتى : إنك تكلمتم أيها الكهول وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم ولكن تركتم من القول ما هو أحسن من الذي قلتم , ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم , ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم , وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم , فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم , وحرمة من انتهكتم , ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وصفوته وخيرته من أهل الأرض إلى يومكم هذا ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئاً من أمره منذ أتاه الله ما أتاه إلى يومكم هذا ولا على أنه نزع منه شيئاً من الكرامة التي أكرمه الله بها ولا أن أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا.
فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم , ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين , وليس بلاؤه لأولئك دليلاً على سخطه عليهم , ولا لهوائهم عليه , ولكنها كرامة وخيرة لهم , ولو كان أيوب ليس من الله بهذه إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة لكان لا يجعل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين , ولكنه يرحمه ويبكي ويستغفر له ويحزن لحزنه ويدله على مراشد أمره , وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا فالله الله أيها الكهول , وقد كان بي عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم ألم تعلمون أن لله عباداً أسكنتهم الخشية من غير عيّ ولا بكم وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله , ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله أنقطعت ألسنتهم واقشعرت
(4/311)
صفحة رقم 312
جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاماً لأمر الله وإجلالاً , فإذا اشتاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم من الظالمين والخاطئين وإنهم لأبرار برآء ومع المقصرين المفرطين وإنهم لأكياس أقوياء.
قال أيوب عليه السلام : إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير , فإذا نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن ولا طول التجربة , وإذا جعل الله العبد حكيماً في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء , وهم يرون من الله سبحانه وتعالى عليه نور الكرامة , ثم أقبل أيوب على الثلاثة وقال : أتيتموني غضاباً رهبتم قبل أن تسترهبوا , وبكيتم قبل أن تضربوا , كيف بي لو قلت تصدقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني , أو قربوا عني قرباناً لعل الله أن يقبله ويرضى عني وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم , وظننتم أنكم قد عوفيتم بإحسانكم , ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوباً سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم.
وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي , فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم , فأنتم كنتم أشد عليَّ من مصيبتي.
ثم أعرض عنهم أيوب , وأقبل على ربه مستغيثاً به متضرعاً إليه فقال : يا رب لأي شيء خلقتني ؟ ليتني إذ كرهتني لم تخلقني , يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي , فالموت كان أجمل بي.
ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم وليّاً وللأرملة قَيِّماً إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنُّ لك , وإن أسأت فبيدك عقوبتي , جعلتني للبلاء غرضاً , وللفتنة نصيباً , وقد وقع عليَّ من البلاء ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي.
وإن قضاءك هو الذي أذلني , وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي , ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فيَّ فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي , ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه.
فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب , ثم نودي يا أيوب إن الله يقول ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً قم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد أزرك وقم مقام جبار يخاصم جبارا إن استطعت , فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي.
لقد منتك نفسك يا أيوب أمراً , ما يبلغ لمثله مثلك.
أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها ؟ هل كنت معي تمد بأطرافها ؟ هل علمت أي مقدار قدرتها , أم على أي شيء وضعت أكنافها.
أبطاعتك حمل الماء الأرض , أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء ؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا يقلها دعم من تحتها ؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها
(4/312)
صفحة رقم 313
أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها ؟ أين كنت مني يوم أنبعت الأنهار وسكبت البحار ؟ أبسلطانك حبست أمواج البحار على حدودها أم بقدرتك فتحت الأرحام حين بلغت ملتها ؟ أين كنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال ؟ هل تدري على أي شيء أرسيتها أم بأي مثقال وزنتها ؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها ؟ أم هل تدري من أين الماء الذي أنزلت من السماء ؟ أم هل تدري من أي شيء أنشأت السحاب ؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج ؟ أم أين جبال البرد ؟ أم أين خزانة الليل بالنهار وخزانة النهار بالليل ؟ وأين خزانة الريح ؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار ومن جعل العقول في أجواف الرجال ؟ وشق الأسماع والأبصار ؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم الأرزاق بحكمته ؟ في كلام كثير يدل على آثار قدرته ذكرها لأيوب فقال أيوب : صغر شأني وكل لساني وعقلي ورأيي وضعفت قوتي عن هذا الأمر الذي يعرض عليَّ إلهي.
قد علمت أن كل الذي قد ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت ولا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية إلهي أوثقني البلاء فتكلمت ولم أملك نفسي فكان البلاء الذي أنطقني.
ليت الأرض انشقت بي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخطك.
ربي وليتني مت بغمي في أشد بلائي قبل ذلك.
إنما تكلمت حين تكلمت بعذري , وسكت حين سكت لترحمني كلمة زلت مني فلن أعود , وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدي , أعوذ بك اليوم منك وأستجير بك من جهد البلاء , فأجرني وأستغيث بك من عقابك فأغثني , وأستعينك عن أمري فأعني , وأتوكل عليك فاكفني , وأعتصم بك فاعصمني وأستغفرك فاغفر لي فلن أعود لشيء تكرهه مني.
قال الله تعالى : يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي , فقد غفرت لك , ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وتكون عبرة لأهل البلاء وعزاً للصابرين , فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب , فمنه تناول وقرب عن أصحابك قرباناً استغفر لهم , فإنهم قد عصوني فيك.
روي عن أنس يرفعه أن أيوب لبث ببلائه ثماني عشرة سنة , وقال وهب : ثلاث سنين لم يزد يوماً , وقال كعب : سبع سنين , وقال الحسن : مكث أيوب مطروحاً على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهراً يختلف فيه الدود , لا يقربه أحد غير رحمة صبرت معه بصدق , وكانت تأتيه بالطعام ,
(4/313)
صفحة رقم 314
وتحمد الله معه إذ حمد , وأيوب مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله تعالى والصبر على بلائه , فصرخ إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض , فلما اجتمعوا إليه قالوا : ما أحزنك ؟ قال : أعياني هذا العبد الذي لم أدع له مالاً ولا ولداً ولم يزدد إلا صبراً , ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة لا تقربه إلا امرأته , فاستعنت بكم لتعينوني عليه , فقالوا له : فأين مكرك الذي أهلكت به من مضى ؟ قال : بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا عليَّ قالوا : من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة ؟ قال : من قبل امرأته.
قالوا فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس يقربه أحد غيرها.
قال : أصبتم فانطلق إبليس حتى أتى رحمة امراة أيوب وهي تصدق فتمثل لها في صورة رجل وقال لها : أين بعلك يا أمة الله ؟ قالت هو ذاك يحك قروحه ويتردد الديدان في جسده.
فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع , فوسوس إليها وذكرها ما كانت فيه من النعم والمال , وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر , وأن ذلك لا ينقطع عنه أبداً , فصرخت فعلم أنها قد جزعت فأتاها بسخلة وقال : ليذبح لي هذه أيوب ويبرأ افجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال أين الولد أين الصديق أين لونك الحسن أين جسمك الحسن ؟ اذبح هذه السخلة واسترح.
قال أيوب : أتاك عدو الله فنفخ فيك ؟ ويلك أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والصحة من أعطانيه ؟ قالت الله قال كم متعنا به قالت ثمانين سنة.
قال فمنذ كم ابتلانا قالت منذ سبع سنين وأشهر قال ويلك ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة , والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله.
طعامك وشرابك الذي تأتيني به علي حرام أن أذوق منه شيئاً أعزبي عني فلا أراك , فطردها , فذهبت.
فلما نظر أيوب وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجداً لله وقارب ) أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ( فقيل له ارفع رأسك فقد استجبت لك اركض برجلك , فركض برجله فنبعت عين ماء , فاغتسل منها فلم يبق عليه من درنه ودائه شيء ظاهر إلا سقط , وعاد شبابه وجماله أحسن ما كان , ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى فشرب منها , فلم يبق في جوفه داء إلا خرج , فقام صحيحاً وكسي حلة فجعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان عليه وما كان له.
من أهل ومال إلا وقد ضعفه الله له وذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراد من ذهب فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك ؟ قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها ؟ قال : فخرج حتى جلس على مكان مشرف.
ثم إن امرأته قالت : أرأيت إن كان طردني إلى من أكله ؟ أدعه يموت جوعاً ؟ ويضيع فتأكله السباع ؟ لأرجعن إليه.
فرجعت إليه فلا الكناسة رأت , ولا تلك الحالة التي كانت تعرف , وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعيني أيوب , وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عن أيوب , فدعاها وقال : ما تريدين
(4/314)
صفحة رقم 315
يا أمة الله فبكت وقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذاً على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل به ؟ فقال أيوب : ما كان منك فبكت وقالت بعلي.
فقال هل تعرفينه إذا رأيتيه ؟ قالت وهل يخفى على أحد رآه ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه ثم قالت : أما إنه أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحاً.
قال : فإني أنا أيوب الذي أمرتني أن أذبح لإبليس , وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله فرد عليَّ ما ترين.
وقال وهب : لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين , فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئاً اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس من مراكب الناس له عظم وبهاء.
فقال لها : أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى قالت نعم.
قال : هل تعرفيني ؟ قالت لا.
قال : أنا إله الأرض وأن الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك وعليه كل ما كان لكما من مال وولد فإنه عندي ثم أراها إياه ببطن الوادي الذي لقيها فيه.
وفي بعض الكتب أن إبليس قال لها اسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك.
فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها وما رأها.
قال : لقد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك , ثم أقسم إن عافاه الله ليضربها مائة جلدة وقال عند ذلك : مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له ودعائه إياها وإياي إلى الكفر.
ثم إن الله تعالى رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء وخفف عليها , وأراد أن يبر يمين أيوب , فأمره أن يأخذ ضغثاً يشتمل على مائة عود صغير فيضربها به ضربة واحدة.
وقيل : لم يدع الله بالكشف عنه حتى ظهرت له ثلاثة أشياء : أحدها : ما قيل في حقه : لو كان لك عند الله منزلة ما أصابك هذا , والثاني : أن امرأته طلبت طعاماً فلم تجد ما تطعمه فباعت ذوائبها فأتته بطعام , والثالث : قول إبليس : إني أدوايه على أن يقول أنت شفيتني.
وقيل مسني الضر أي من شماتة الأعداء حتى روي أنه قيل له بعد ما عوفي ما كان أشد عليك في بلائك ؟ قال : شماتة الأعداء.
فإن قلت كيف سماه الله صابراً وقد أظهر الشكوى والجزع بقوله مسني الضر وقوله مسني الشيطان بنصب وعذاب ؟ قلت : ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء بدليل.
)
الأنبياء : ( 84 ) فاستجبنا له فكشفنا...
" فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين " ( قوله تعالى : ( فاستجبنا له ( والشكوى إنما تكون إلى الخلق لا إلى الخالق بدليل قول يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقال سفيان بن عيينة : من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء الله تعالى لا يكون ذلك جزعاً كما ( روي أن جبريل عليه السلام داخل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في مرضه فقال كيف تجدك ؟ قال : أجدني مغموماً وأجدني مكروباً.
وقال لعائشة حين قالت : وارأساه بل أنا
(4/315)
صفحة رقم 316
وارأساه ) قوله تعالى ) فاستجبنا له ( أي أجبنا دعاءه ) فكشفنا ما به من ضر ( وذلك أنه قال له ) اركض برجلك ( " فركض برجله فنبعت عين ماء فأمره أن يغتسل منها ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فأمره أن يضرب برجله الأرض مرة أخرى ففعل , فنبع عين ماء بارد , فأمره أن يشرب منها , فشرب , فذهب كل داء كان بباطنه فصار كأصح ما كان ) وآتيناه أهله ومثلهم معهم ( قال ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين : رد الله إليه أهله وأولاده بأعيانهم وأحياهم الله وأعطاه مثلهم معهم , وهو ظاهر القرآن , وعن ابن عباس رواية أخرى أن الله رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكراً.
وقيل كان له سبع بني وسبع بنات.
وعن أنس يرفعه أن كان له أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب , وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاضا.
وروى أن الله تعالى بعث إليه ملكاً وقال له : إن ربك يقرئك السلام بصبرك فاخرج إلى أندرك , فخرج إليه فأرسل الله عليه جراداً من ذهب فذهبت واحدة فأتبعها وردها إلى أندره فقال له الملك ما يكفيك ما أندرك ؟ فقال هذه بركة من بركات ربي ولا أشبع من بركاته
( خ ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قال : بلى يا رب ولكني لا غنى لي عن بركتك ) وقيل : أتى الله أيوب مثل أهله الذي هلكوا.
قال عكرمة : قيل لأيوب إن أهلك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا , وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في
(4/316)
صفحة رقم 317
الدنيا فقال : بل يكونون لي في الآخرة وأوتى مثلهم في الدنيا.
فعلى هذا يكون معنى الآية ) وآتيناه أهله ( في الآخرة ومثلهم معهم في الدنيا وأراد بالأهل الأولاد ) رحمة من عندنا ( إي نعمة ) وذكرى للعابدين ( يعني عظة وعبرة لهم.
)
الأنبياء : ( 85 - 87 ) وإسماعيل وإدريس وذا...
" وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " ( قوله عز وجل : ( وإسماعيل ( هو إبن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإدريس ( هو أخنوخ ) وذا الكفل كل من الصابرين ( لما ذكر الله أمر أيوب وصبره على البلاء أتبعه بذكر هؤلاء الأنبياء لأنهم صبروا على المحن والشدائد والعبادة أيضاً.
أما إسماعيل ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه على الانقياد إلى الذبح.
وأما ادريس فقد تقدمت قصته.
وأما ذو الكفل فاختلفوا فيه فقيل نبياً من بني إسرائيل وكان ملكاً أوحى الله إليه إني أريد قبض روحك فاعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفل أنه يصلي الليل ولا يفتر ويصوم النهار ولا يفطر ويقضي بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك إليه ففعل ذلك , فقام شاب فقال : أنا أتكفل لك بهذا , فتكفل ووفى فشكر الله له ونبأه فسمي ذا الكفل.
وقيل : لما كبر اليسع قال إني أستخلف رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي أنظر كيف يعمل قال : فجمع الناس وقال : من يتقبل من ثلاثاً أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ويقضي ولا يغضب , فقام رجل تزدريه العين فقال : أنا , فاستخلفه فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة , وكان لا ينام من الليل والنهار إلا تلك النومة : فدق الباب فقال : من هذا , فقال : شيخ كبير مظلوم , فقام ففتح الباب فقال إني بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني وفعلوا وفعلوا , وجعل يطول عليه ؛ حتى ذهبت القائلة فقال : إذا رحت فائتني حتى آخذك حقك , فانطلق وراح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يبتغيه فلم يجده , فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلم يره , فلما رجع إلى القائلة وقال وأخذ مضجعه دق الباب فقال : من هذا فقال : الشيخ المظلوم
(4/317)
صفحة رقم 318
ففتح وقال له : ألم أقل إذا قعدت فائتني ؟ قال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك إذا قمت جحدوني قال : فانطلق فإذا جلست فائتني وفاتته القائلة , فلما جلس جعل ينظر فلا يراه وشق عليه النعاس فلما كان اليوم الثالث قال لبعض أهله لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام فإنه قد شق علي النعاس فلما كانت تلك الساعة نام فجاء فلم يأذن له الرجل فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها , فإذا هو في البيت فدق الباب من داخل فاستيقظ فقال يا فلان ألم آمرك قال أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه , وإذا الرجل معه في البيت فقال : أتنام والخصوم ببابك , فنظر إليه فعرفه فقال : أعدو الله ؟ قال نعم أعييتني وفعلت ما فعلت لأغضبك فعصمك الله فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به , واختلف في نبوته فقيل كان نبياً , وهو إلياس وقيل هو زكريا , وقيل إنه كان عبداً صالحاً ولم يكن نبياً ) وأدخلناهم في رحمتنا ( يعني ما أنعم به عليهم من النبوة وصبرهم إليه في الجنة من الثواب ) إنهم من الصالحين (.
قوله عز وجل : ( وذا النون ( أي واذكر صاحب الحوت أضيف إلى الحوت لابتلاعه إياه وهو يونس بن متى ) إذ ذهب مغاضباً ( قال ابن عباس في رواية عنه : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك فسبى منها تسعة أسباط ونصفاً وبقي منهم سبطان ونصف , فأوحى الله إلى شعياء النبي أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبياً قوياً فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك : فمن ترى , وكان في مملكته خمسة من الأنبياء.
قال : يونس إنه قوي أمين فدعا الملك يونس : وأمره أن يخرج فقال يونس هل الله أمرك بإخراجي ؟ قال لا.
قال فهل سماني الله لك ؟ قال لا.
قال ها هنا غيري أنبياء أقوياء , فألحوا عليه فخرج مغاضباً للنبي وللملك وقومه وأتى بحر الروم فركب وقيل ذهب عن قومه مغاضباً لربه لما كشف عنه العذاب بعد ما أوعدهم وكره أن يكون بين أظهر قوم جربوا عليه الخلف فيما أوعدهم , واستحيا منهم ولم يعلم السبب الذي رفع العذاب عنهم به فكان غضبه أنفقة من ظهور خلف وعده وأنه يسمى كذاباً لا كراهية لحكم الله.
وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أنهم يقتلون من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه ما لم يأتهم العذاب للمعياد فذهب مغاضباً.
(4/318)
صفحة رقم 319
قال ابن عباس : أتى جبريل يونس فقال انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم فقال : ألتمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك فغضب وانطلق إلى السفينة.
وقال وهب : إن يونس كان عبداً صالحاً كان في خلقه ضيق فلما حمل أثقل النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل , فقذفها من يده وخرج هارباً منها فلذلك أخرجه الله من أولي العزم من الرسل وقال لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ( " وقال ) ولا تكن كصاحب الحوت ( " وقوله ) فظن أن لن نقدر عليه ( أي لن نقضي عليه العقوبة.
قاله ابن عباس في رواية عنه وقيل معناه فظن أن لن نضيق عليه الحبس وقيل معناه فظن أنه يعجر ربه فلا يقدر عليه , قيل لما انطلق يونس مغاضباً لربه واستزله الشيطان حتى ظن أن لن يقدر عليه وكان له سلف وعبادة إبى الله أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت فمكث فيه أربعين ما بين يوم وليلة.
وقيل سبعة أيام وقيل ثلاثة.
وقيل : إنه الحوت ذهب به حتى بلغ تخوم الأرض السابعة فتاب إلى ربه وراجع نفسه في بطن الحوت ) فنادى في الظلمات ( أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت ) أن لا إله إلا إنت سبحانك إني كنت من الظالمين ( أي حيث عصيتك وما صنعت من شيء فلم أعبد غيرك فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته وروى أبو هريرة مرفوعاً قال أوحى الله تعال إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً فأخذه ثم أهوى به إلى مسكنه في البحر فلما انتهى به أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه ما هذا فأوحى الله إليه هذا تسبيح دواب البحر قال فسبح هو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا
(4/319)
صفحة رقم 320
نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة وفي رواية صوتاً معروفاً من مكان مجهول فقال : ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت فقالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل فذلك.
)
الأنبياء : ( 88 - 92 ) فاستجبنا له ونجيناه...
" فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " ( قوله تعالى : ( فاستجبنا له ونجيناه من الغم ( أي تلك الظلمات ) وكذلك ننجي المؤمنين ( أي من الكروب إذا دعونا واستغاثوا بنا.
فإن قلت قد تمسك بمواضع من هذه القصة من أجاز وقوع الذنب من الأنبياء منها قوله ) إذ هب مغاضباً ( " ومنها ) فظن أن لن نقدر عليه ( " ومنها قوله ) إني كنت من الظالمين ( " قلت أما الجواب الكلي فقد اختلفوا في هذه الواقعة هل كانت من قبل الرسالة أم لا ؟ فقال ابن عباس : كانت رسالته بعد أن أخرجه الله من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في الصافات بعد ذكر خروجه ) وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ( " فثبت بهذا أن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وقد أجاز بعضهم عليه الصغائر قبل النبوة ومنعها بعد النبوة وهو الصحيح.
وأما الجواب التفصيلي لقوله إذ ذهب مغاضباً فحمله على أنه لقومه أو للملك أولى بحال الأنبياء وأما قوله ) فظن أن لن نقدر عليه ( " فقد تقدم معناه أي لن نضيق عليه وذلك أن يونس ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج.
وإن الله تعالى لا يضيق عليه في اختياره وقيل هو من القدر لا من القدرة وأما قوله ) إني كنت من الظالمين ( " فالظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا اعتراف عند بعضهم بذنبه فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه أو لضعفه عما حمله , أو لدعائه بالعذاب على قومه وفي هذه الأشياء ترك الأفضل مع قدرته على تحصيله فكان ذلك ظلماً.
وقيل كانت رسالته قبل هذه الواقعة بدليل قوله ) وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون ( " فعلى هذا يكون الجواب عن هذه الواقعة ما تقدم من التفصيل والله أعلم.
قوله عز وجل ) وزكريا إذ نادى ربه ( أي دعا ربه فقال ) رب لا تذرني فرداً ( أي وحيداً لا ولد لي يساعدني وارزقني وارثاً ) وأنت خير الوارثين ( هو ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق وأنه الوارث لهم وهذا على سبيل التمثيل والمجاز فهو كقوله وأنت خير الرازقين ) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى ( أي ولداً ) وأصلحنا له زوجة ( أي جعلناها ولوداً بعد ما كانت عقيماً وقيل كانت سيئة الخلق
(4/320)
صفحة رقم 321
فأصلحها الله تعالى له بأن رزقها حسن الخلق ) إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ( يعني الأنبياء المذكورين في هذه السورة.
وقيل زكريا وأهل بيته , والمسارعة في الخيرات من أكبر ما يمدح به المرء لأنها تدل على حرص عظيم في طاعة الله عز وجل ) ويدعوننا رغباً ورهباً ( يعني إنهم ضموا إلى فعل الطاعات أمرين : أحدهما : الفزغ إلى الله لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة من عقابه.
والثاني : الخشوع وهو قوله تعالى ) وكانوا لنا خاشعين ( الخشوع هو الخوف اللازم للقلب فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفاً من الوقوع في الإثم.
قوله تعالى ) والتي أحصنت فرجها ( أي إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً كما قالت ) لم يمسسني بشر ولم أك بغياً ( " وهي مريم بنت عمران ) فنفخنا فيها من روحنا ( أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فخلقنا بذلك النفخ المسيح في بطنها , وأضاف الروح إليه تشريفاً لعيسى كبيت الله وناقة الله ) وجعلناها وابنها آية ( أي دلالة ) للعالمين ( على كمال قدرتنا وعلى خلق ولد من غير أب , فان قلت هما آيتان فكيف قال آية ؟.
قلت معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية واحدة أي ولادتها إياها من غير أب آية.
قوله تعالى ) إن هذه أمتكم ( أي ملتكم ودينكم ) أمة واحدة ( أي ديناً واحداً وهو الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان والأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد , وجعلت الشريعة أمة لاجتماع أهلها على مقصد واحد ) وأنا ربكم فاعبدون ( اي لا دين سوى ديني ولا رب لكم غيري فاعبدوني أي وحدوني.
)
الأنبياء : ( 93 - 100 ) وتقطعوا أمرهم بينهم...
" وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون " ( ) وتقطعوا أمرهم بينهم ( أي اختلفوا في الدين فصاروا فرقاً وأحزاباً حتى لعن بعضهم بعضاً وتبرأ بعضهم من بعض ) كل إلينا راجعون ( فنجزيهم بأعمالهم ) فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ( أي لا يجحد ولا يبطل سعيه بل يشكر ويثاب عليه ) وإنا له كاتبون ( أي لعلمه وحافظون له.
وقيل : الشكر من الله المجازاة , والكفران ترك المجازاة.
قوله عز وجل ) وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ( قال ابن عباس : ومعناه وحرام على أهل قرية أهلكانهم أن يرجعوا بعد الهلاك , وقيل : معناه وحرام على أهل قرية حكمنا بهلاكهم أن نقبل أعمالهم لأنهم لا يتوبون.
قوله عز وجل ) حتى إذا فتحت
(4/321)
صفحة رقم 322
يأجوج ومأجوج ( يريد فتح السد وذلك أن الله يفتحه أخبر عن يأجوج ومأجوج وهما قبيلتان , يقال إنهما تسعة أعشار بني آدم ) وهم من كل حدب ينسلون ( أي يسرعون النزول من كل الآكام والتلال.
وفي هذه الكناية وجهان : أحدهما أن المراد بهم يأجوج ومأجوج وهو الأصح بدليل ما روي عن النواس بن سمعان قال ( ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظننا أنه من طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال : ما شأنكم ؟ قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال الغداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرىء حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافئة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف , إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض ؟ قال أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال لا أقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض ؟ قال كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر لهم السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأصبغه ضروعاً وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه ) قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأديهم شيء من أموالهم ( ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي إلى حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله.
ثم يأتي عيسى عليه السلام إلى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح على وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد أن يقاتلهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقول لقد كان بهذة مرة ماء ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله فيهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله , ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة.
ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك ودري بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس , واللقحة من البقر
(4/322)
صفحة رقم 323
لتكفي القبيلة من الناس , واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة ) أخرجه مسلم.
شرح غريب ألفاظ الحديث
قوله حتى طنناه في طائفة النخل أي ناحية النخل وجانبه والطائفة القطعة من الشيء , وقوله فخفض فيه ورفع خفض صوته ورفعه من شدة ما تكلم به في أمره.
وقيل إنه خفض من أمره تهوينا له ورفع من شدة فتنته والتخويف من أمره.
قوله إنه شاب قطط أي جعد الشعر وقوله طافئة أي خارجة عن حدها قوله إنه خارج خلة أي إنه يخرج قصداً وطريقاً بين جهتين والتخلل الدخول في الشيء.
قوله فعاث أي أفسد.
قوله اقدروا له قدرة أي قدروا قدر يوم من أيامكم المعهودة وصلوا فيه بقدر أوقاته , وقوله فتروح عليهم سارحتهم أي مواشيهم , وقوله فيصبحون ممحلين أي مقحطين قد أجدبت أرضهم وغلت أسعارهم.
قوله كيعاسيب النحل جمع يعسوب وهو فحل النحل ورئيسها.
قوله فيقطعه جزلتين رمية الغرض أي قطعتين والغرض الهدف الذي يرمى بالنشاب.
قوله بين مهرودتين رويت بالدال المهملة وبالمعجمة أي شقتين وقيل حلتين وقيل الهرد الصبغ الأصفر بالورس والزعفران.
قوله لا يدان لأحد بقتالهم أي لا قدرة ولا قوة لأحد بقتالهم والنغف دود يكون في أنوف الإبل والغنم فرسى جمع فريس وهو القتيل.
قوله زهمهم أي ريحهم النتنة.
قوله كالزلفة أي كالمرآة وجمعها زلف ويروى بالقاف وأراد به استوائها ونظافتها.
قوله تأكل العصابة أي الجماعة قيل يبلغون أربعين وقحف الرمانة في الحديث قشرها.
والرسل بكسر الراء اللبن واللقحة الناقة ذات اللبن , والفئام الجماعة من الناس , والفخذ دون القبيلة , وقوله يتهارجون أي يختلفون والتهاريج الاختلاف , وأصله القتل.
الوجه في تفسير قوله تعالى ) وهم من كل حدب ينسلون (
قيل جميع الخلائق يخرجون من قبورهم إلى موقف الحساب ( م ) عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : اطلع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) علينا ونحن نتذاكر فقال : ( ما تذكرون قالوا ؟ نذكر الساعة قال إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغاربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب , وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ) قوله عز وجل ) واقترب الوعد الحق ( أي القيامة قال حذيفة لو أن رجلاً اقتنى فلواً بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة.
الفلو المهر ) فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ( قيل معنى الآية أن القيامة إذا قامت شخص أبصار الذين كفروا من شدة الأهوال ولا تكاد تطوف هول ذلك اليوم ويقولون ) يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا ( يعني في الدنيا حيث كذبنا به وقلنا إنه غير كائن ) بل كنا ظالمين ( أي في وضعنا العبادة في غير موضعها.
قوله عز وجل ) إنكم ( الخطاب للمشركين ) وما تعبدون من دون الله ( يعني الأصنام ) حصب جهنم (
(4/323)
صفحة رقم 324
أي حطبها ووقودها وقيل يرمي بهم في النار كما يرمي بالحصباء وأصل الحصب الرمي ) أنتم لها واردون ( أي فيها داخلون ) لو كان هؤلاء ( يعني الأصنام ) آلهة ( أي على الحقيقة ) ما وردوها ( أي ما دخل الأصنام النار وعبدوها ) وكل فيها خالدون ( يعني العابدين والمعبودين ) لهم فيها زفير ( قيل الزفير هو أن يملأ الرجل صدره غماً ثم يتنفس وقيل هو شدة ما ينالهم من العذاب ) وهم فيها لا يسمعون ( قال ابن مسعود في هذه الآية : إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخر ثم تلك التوابيت في توابيت أخر عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئاً ولا يرى أحد منهم أن في النار أحداً يعذب غيره.
)
الأنبياء : ( 101 - 107 ) إن الذين سبقت...
" إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " ( قوله تعالى ) إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ( قال العلماء : إن هنا بمعنى إلا أي إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى يعني السعادة والعدة الجميلة بالجنة ) أولئك عنها ( أي عن النار ) مبعدون ( قيل : الآية عامة من كل من سبقت لهم من الله السعادة , وقال أكثر المفسرين عنى بذلك كل من عبد من دون الله وهو الله طائع ولعبادة من يعبده كاره وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أفحمه ثم تلا عليه ) إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جنهم ( " الآيات الثلاث ثم قال فأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ابن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته فدعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له الزبعرى أنت قلت إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ؟ قال نعم قال أليست اليهود تعبد عزيراً والنصارى تعبد المسيح وبني مليح تعبد الملائكة فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : بل هم يعبدون الشياطين فأنزل الله تعالى ) إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ( يعني عزيراً والمسيح والملائكة أولئك عنها مبعدون وأنزل في ابن الزبعرى ) ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ( " وزعم جماعة أن المراد من الآية الأصنام لأن الله تعالى قال إنكم وما تعبدون من دون الله , ولو أراد به الملائكة والناس لقال إنكم ومن تعبدون لأن من لمن يعقل وما لمن لا يعقل ) لا يسمعون حسيسها ( يعني صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة ) وهم فيما اشتهت أنفسهم ( أي من النعيم والكرامة ) خالدون ( أي مقيمون.
قوله تعالى : ( لا يحزنهم الفزع
(4/324)
صفحة رقم 325
الأكبر ( قال ابن عباس : يعني النفخة الأخيرة , وقيل هو حين يذبح الموت وينادى يا أهل النار خلود بلا موت وقيل هو حين يطبق على جنهم وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه ) وتتلقاهم الملائكة ( أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون ) هذا يومكم الذي كنتم توعدون ( أي في الدنيا.
قوله عز وجل ) يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ( قال ابن عباس : السجل الصحيفة والمعنى كطي الصحيفة على مكتوبها والطي هو الدرج الذي هو ضد النشر.
وقيل : السجل اسم ملك يكتب أعمال العباد إذا رفعت إليه والمعنى نطوي السماء كما يطوي السجل والطومار الذي يكتب فيه والتقدير لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم ) كما بدأنا أول خلق نعيده ( أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة
( ق ) عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بموعظة فقال : ( أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده ) قوله غرلاً أي قلفا.
وقوله تعالى ) وعداً علينا إنا كنا فاعلين ( يعني الإعادة والبعث بعد الموت.
قوله تعالى ) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ( قيل : الزبور جميع الكتب المنزلة على الأنبياء والذكر هو أم الكتاب الذي عنده ومن ذلك الكتاب تنسخ جميع الكتب ومعنى من بعد الذكر أي بعد ما كتب في اللوح المحفوظ.
وقال ابن عباس : الزبور التوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة.
وقيل الزبور : كتاب داود والذكر هو القرآن وبعد هنا بمعنى قبل ) أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ( يعني أرض الجنة يرثها أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ في كتب الأنبياء : أن الجنة يرثها من كان صالحاً من عباده عاملاً بطاعته.
وقال ابن عباس : أراد أن أراضي الكفار يفتحها المسلمون وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين , وقيل أراد الأرض المقدسة يرثها الصالحون بعد من كان فيها ) إن في هذا ( أي في القرآن ) لبلاغاً ( أي وصولاً إلى البغية يعني من اتبع القرآن وعمل بما فيه وصل إلى ما يرجو من الثواب , وقيل البلاغ الكفاية أي فيه كفاية لما فيه من الأخبار
(4/325)
صفحة رقم 326
والوعد والوعيد والمواعظ البالغة فهو زاد العباد إلى الجنة وهو قوله تعالى ) لقوم عابدين ( يعني مؤمنين لا يعبدون أحداً من دون الله تعالى وقيل هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان والحج.
وقال ابن عباس : عالمين وقيل : هم العالمون العاملون.
قوله عز وجل ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( قيل : كان الناس أهل كفر وجاهلية وضلال وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم فبعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب فدعاهم إلى الحق , وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام وبين الحلال من الحرام قال الله تعالى ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( قيل يعني المؤمنين خاصة فهو رحمة لهم.
وقال ابن عباس : هو عام في حق من آمن ومن لم يؤمن , فمن آمن فهو رحمة له في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن فهو رحمة له في الدنيا بتأخير العذاب عنه ورفع المسخ والخسف والاستئصال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنما أنا رحمة مهداة ).
)
الأنبياء : ( 108 - 112 ) قل إنما يوحى...
" قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون " ( ) قل إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ( يعني منقادون لما يوحى إلي من إخلاص الإلهية والتوحيد لله والمراد بهذا الاستفهام الأمر أي أسلموا ) فإن تولوا ( أي أعرضوا ولم يسلموا ) فقل آذنتكم ( أعلمتكم بالحرب وأن لا صلح بيننا ) على سواء ( أي إنذاراً بيناً نستوي في علمه لا أستبد أنا به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم والمعنى آذنتكم على وجه نستوي نحن وأنتم في العلم به وقيل معناه لتستووا في الإيمان به وأعلمتكم بما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره ) وإن أدري ( أي وما أعلم ) أقريب أم بعيد ما توعدون ( يعني يوم القيامة لا يعلمه إلا الله ) إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ( أي لا يغيب عن علمه شيء منكم في علانيتكم وسركم ) وإن أدري لعله فتنة لكم ( أي لعل تأخير العذاب عنكم اختبار لكم ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم بكم ) ومتاع إلى حين ( أي تتمتعون إلى انقضاء آجالكم ) قال رب احكم ( أي افصل بيني وبين من كذبني ) بالحق ( أي بالعذاب كأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر.
وقيل : معناه افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق من الجميع وهو أن تنصرني عليهم والله يحكم بالحق طلب ولم يطلب ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب ) وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ( أي من الشرك والكفر والكذب والأباطيل , كأنه سبحانه وتعالى قال قل داعياً إلى رب احكم بالحق , وقل متوعداً للكفار وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
تم الجزء الرابع من تفسير الخازن ويليه الجزء الخامس وأوله : تفسير سورة الحج.
(4/326)
صفحة رقم 2
سورة الحج
تفسير سورة الحج
وهي مكية غر ست آيات من قوله عز وجل ' هذان خصمان ' غلى قوله ' هدوا إلى صراط الحميد ' وهي ثمان وسبعون آية وألف ومائتان وإحدى وتسعون كلمة وخمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
الحج : ( 1 - 2 ) يا أيها الناس...
" يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد " ( قوله عزّ وجلّ ) يا أيها الناس اتقوا ربكم ( يعني احذروا عقابة واعملوا بطاعته ) إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( الزلزلة شدة الحركة على الحال الهائلة ووصفها بالعظم ولا شيء أعظم مما عظمه الله تعالى.
قيل : هي من أشراط الساعة قبل قيامها.
وقال ابن عباس : زلزلة الساعة قيامها فتكون معها ) يوم ترونها ( أي الساعة وقيل الزلزلة ) تذهل ( قال ابن عباس تشغل وقيل تنسي ) كل مرضعة عما أرضعت ( أي كل امرأة معها ولد ترضعه ) وتضع كل ذات حمل حملها ( أي تسقط من هول ذلك اليوم كل حامل حملها قال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام.
فعلى هذا القول تكون الزلزلة في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حبل ومن قال تكون الزلزلة في القيامة قال هذا على وجه تعظيم الأمر وتهويله على حقيقته كما تقول أصابنا أمر يشيب فيه الوليد تريد به شدته ) وترى الناس سكارى ( على التشبيه ) وما هم بسكارى ( على التحقيق ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وأزال تمييزهم وقيل سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب ) ولكن عذاب شديد (
( ق ) عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك ).
زاد في رواية ( والخير في يديك فينادى بصوت إن الله تعالى يأمرك أن
(5/2)
صفحة رقم 3
تخرج من ذريتك بعث النار قال رب وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فحينئذٍ تضع الحوامل , ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم ) زاد في رواية قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرجل فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة.
فكبّرنا ثم قال : ثلث أهل الجنة فكبّرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبّرنا ) لفظ البخاري.
وفي حديث عمران بن حصين وغيره أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلاً فنادى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحثوا المطى حتى كانوا حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليهم فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة , فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا والناس من بين باكٍ وجالس متفكر.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أي يوم ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم قال : ذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث من ذريتك بعث النار ) وذكر نحو حديث أبي سعيد وزاد فيه ثم قال ( يدخل من أمتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب فقال عمر : سبعون ألفاً ؟ قال : نعم قال ومع كل واحد سبعون ألفاً ).
)
الحج : ( 3 - 5 ) ومن الناس من...
" ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج " ( قوله عزّ وجلّ : ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ( نزلت في النضر بن الحارث كان كثير الجدل وكان يقول للملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين وكان ينكر البعث وإحياء من
(5/3)
صفحة رقم 4
صار تراباً ) ويتبع ( يعني في جداله في الله بغير علم ) كل شيطان مريد ( يعني المتمرد والمستمر في الشر وفيه جهان أحدهما : أنهم شياطين الإنس وهم رؤساء الكفر الذين يدعون من دونهم إلى الكفر والثاني أنه إبليس وجنوده ) كتب عليه ( يعني قضى على الشيطان ) أنه من تولاه ( يعني اتبعه ) فإنه ( يعني الشيطان ) يضله ( يعني يضل من تولاه عن طريق الجنة ) ويهديه إلى عذاب السعير ( وفي الآية زجر عن اتباعه والمعنى كتب عليه أنه من يقبل منه فهو في ضلال ثم ألزم الحجة منكري البعث فقال ) يا آيها الناس إن كنتم في ريب ( يعني شك ) من البعث ( يعني بعد الموت ) فإنّا خلقناكم من تراب ( يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل ) ثم من نطفة ( يعني ذريته من المني وأصلها الماء القليل ) ثم من علقة ( يعني من دم جامد غليظ وذلك أنّ النطفة تصير دماً غليظاً ) ثم من مضغة ( وهو لحمة قليلة قدر ما يمضغ ) مخلقة وغير مخلقة (.
قال ابن عباس : أي تامة الخلق وغير تامة الخلق وقيل مصورة وغير مصورة وهو السقط.
وقيل : المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته وغير المخلقة السقط فكأنه سبحانه وتعالى قسم المضغة إلى قسمين أحدهما تام الصورة والحواس والتخطيط , والقسم الثاني هو الناقص عن هذه الأحوال كلها.
وروي عن علقمة عن ابن مسعود موقوفاً عليه قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة فإن قال غير مخلقة قذفها في الرحم دماً ولم تكن نسمة وإن قال مخلقة قال الملك : إي رب أذكر أم أثنى شقي أم سعيد ما الأجل ما العمل ما الرزق بأي أرض يموت ؟ فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته والذي أخرجاه في الصحيحين عنه قال حدّثنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الصادق المصدوق ( إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكاً يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فوَ الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها , وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه بعمل أهل الجنة فيدخلها ) وقوله تعالى ) لنبين لكم ( أي كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة وقيل لنبين لكم أنّ تغير المضغة إلى الخلقة هو اختيار الفاعل المختار فإنّ القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزاً عن الإعادة ) ونقر في الأرحام ما نشاء ( أي لا تسقطه ولا تمجه ) إلى أجل مسمّى ( أي وقت خروجه من الرحم تام الخلق ) ثم نخرجكم ( أي وقت الولادة من بطون أمهاتكم ) طفلاً ( أي صغاراً وإنّما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس ) ثم لتبلغوا أشدكم (
(5/4)
صفحة رقم 5
أي كمال القوة والعقل والتمييز ) ومنكم من يتوفى ( أي قبل بلوغ الكبر ) ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ( أي الهرم والخوف ) لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً ( أي يبلغ من السن ما يتغير به عقله فلا يعقل شيئاً فصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال تعالى ) وترى الأرض هامدة ( أي يابسة لا نبات فيها ) فإذا أنزلنا عليها الماء ( يعني المطر ) اهتزت ( أي تحركت بالنبات ) وربت ( أي ارتفعت وذلك أنّ الأرض ترتفع بالنبات ) وأنبتت ( هو مجاز لأن الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعاً ) من كل زوج بهيج ( أي من كل صنف حسن نضير والبهيج هو المبهج وهو الشيء المشرق الجميل ثم إنّ الله تعالى لمّا ذكر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب.
)
الحج : ( 6 - 13 ) ذلك بأن الله...
" ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير " ( فقال تعالى : ( ذلك ( أي ذكرنا ذلك لتعلموا ) بأن الله هو الحق ( وإن هذه الأشياء دالة على وجود الصانع ) وأنّه يحيي الموتى ( أي إنه إذا لم يستبعد منه إيجاد هذه الأشياء فكيف يستبعد منه إعادة الأموات ) وأنه على كل شيء قدير ( أي من كان كذلك كان قادراً على جميع الممكنات ) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور ( أي ما ذكر من الدلائل لتعلموا أن الساعة كائنة لا شك فيها وأنّها حق وأنّ البعث بعد الموت حق قوله تعالى ) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ( يعني النضر بن الحرث ) ولا هدى ( اي ليس معه من الله بيان ولا رشاد ) ولا كتاب منير ( أي ولا كتاب من الله له نور ) ثاني عطفه ( أي لاوي جنبه وعنقه متبختراً لتكبّره معرضاً عما يدعى إليه من الحق تكبّراً ) ليضل عن سبيل الله ( أي عن دين الله ) له في الدنيا خزي ( أي عذاب وهوان وهو أنه قتل يوم بدر صبراً هو وعقبة بن أبي معيط ) ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك ( أي يقال له ذلك ) بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ( أي فيعذبهم بغير ذنب والله تعالى على أي وجه أراد يتصرف في عبده فحكمه عدل وهو غير ظالم.
قوله عزّ وجلّ ) ومن الناس من يعبد الله على حرف ( الآية نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهراً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله , قال هذا دين حسن وقد أصبت فيه
(5/5)
صفحة رقم 6
خيراً واطمأن له وإن صابه مرض وولدت امرأته جارية ولم تلد فرسه وقل ماله قال ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلاّ شراً فينقلب عن دينه وذلك هو الفتنة فأنزل الله تعالى ) ومن الناس من يعبد الله على حرف ( أي على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه نحو حرف الجبل والحائظ الذي غير مستقر فقيل للشاك في الدين أنه يعبد الله على حرف لأنه لم يدخل فيه على الثبات والتمكن.
وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم على سكينة وطمأنينة ولو عبدوا الله بالشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف وقيل هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قبل ) فإن أصابه خير ( أي صحة في جسمه وسعة في معيشته ) اطمأن به ( أي رضي به وسكن إليه ) وإن أصابته فتنة ( أي بلاء في جسمه وضيق في معيشته ) انقلب على وجهه ( أي ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر ) خسر الدنيا والآخرة ( أي خسر في الدنيا العز والكرامة ولا يبقى دمه وماله مصوناً.
وقيل خسر في الدنيا ما كان يؤمل والآخرة بذهاب الدين والخلود في النار ) ذلك هو الخسران المبين ( أي الظاهر ) يدعو من دون الله ما لا يضره ( إن عصاه ولم يعبده ) وما لا ينفعه ( أي إن أطاعه وعبده ) ذلك هو الضلال البعيد ( أي عن الحق والرشد ) يدعو لمن ضره أقرب من نفعه ( فإن قلت قد قال الله تعالى الآية الأولى ) يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ( وقال في هذه الآية ) يدعو لمن ضره أقرب من نفعه ( وهذا تناقض فكيف الجمع بينهما.
قلت إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى قال في الآية الأولى : ما لا يضره أي لا يضره ترك عبادته وقوله لمن ضره أي ضر عبادته وقيل : إنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها سبب الضرر وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها وقيل : إن الله تعالى سفه الكافر حيث عبد جماداً لا يضر ولا ينفع وهو يعتقد بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع وقيل الآية في الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا وينفعوا وحجة هذا القول أن الله تعالى بين في الآية الأولى أنّ الأوثان لا تضر ولا تنفع وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضاراً نافعاً , فلو كان المذكور
(5/6)
صفحة رقم 7
في هذه الأوثان لزم التناقض فثبت أنهم الرؤساء بدليل قوله ) لبئس المولى ولبئس العشير ( أي الناصر والمصاحب المعاشر.
)
الحج : ( 14 - 18 ) إن الله يدخل...
" إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء " ( قوله عزّ وجلّ : ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إنّ الله يفعل ما يريد ( أي بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة وبأهل معصيته من الهوان قوله تعالى ) من كان يظن أن لن ينصره الله ( يعني نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) في الدنيا ( أي بإعلاء كلمته وإظهار دينه ) والآخرة ( أي وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه ) فليمدد بسبب ( أي بحبل ) إلى السماء ( أي سقف البيت على قول الأكثرين والمعنى ليشدّد حبلاً من سقف بيته فليختنق به حتى يموت ) ثم ليقطع ( أي الحبل بعد الاختناق وقيل ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً ) فلينظر هل يذهبن كيده ( أي صنيعه وحيلته ) ما يغيظ ( أي فليختنق غيظاً.
وليس هذا على سبيل الحتم لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق ولكنه كما يقال للحاسد مت غيظاً وقيل المراد بالسماء السماء المعروفة والمعنى من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره ليقطعه عنه فليقطعه من أصله فإنّ أصله في السماء فليطلب سبباً يصل به إلى السماء , ثم ليقطع عن النبي صلى الله علي وسلم الوحي الذي يأتيه فينظر هل يتهيّأ له الوصول إلى السماء بحيلة وهل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل فإذا كان ذلك ممتنعاً كان غيظه عديم الفائدة.
وفي الآية زجر للكافر عن الغيظ فيما لا فائدة فيه.
روي أنّ الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود محالفة فقالوا : لا يمكننا أن نسلم لأنّنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فتنقطع المحالفة بيننا وبين اليهود فلا يميرونا ولا يؤوونا وقيل النصر معناه الرزق.
ومعنى الآية من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإنّ ذلك لا يجعله مرزوقاً تقول العرب من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله ) وكذلك أنزلناه ( يعني القرآن ) آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ( يعني عبدة الأوثان وقيل الأديان ستة واحد لله وهو الإسلام وخمسة للشيطان وهو ما عدا الإسلام ) إن الله يفصل بينهم ( أي يحكم بينهم ) يوم القيامة ( وقيل يفصل بينهم في الأحوال
(5/7)
صفحة رقم 8
والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاء واحداً بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد ) إنّ الله على كل شيء شهيد ( أي إنه علم بما يستحقه كل واحد منهم فلا يجزي في ذلك الفصل ظلم ولا حيف وقد تقدّم بسط الكلام على معنى هذه الآية في تفسير سورة البقرة.
قوله عزّ وجلّ ) ألم ترَ ( أي لم تعلم وقيل ألم تر بقلبك ) إنّ الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب ( قيل سجود هذه الأشياء تحول ظلالهما وقيل ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجداً حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه وقيل معنى سجودها الطاعة فإنه ما من جماد إلاّ وهو مطيع لله تعالى خاشع ومسبح له كما وصفهم بالخشية والتسبيح : وهذا مذهب أهل السنة وهو أنّ هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي خلقها الله تعالى فيها من غير امتناع البتة أشبهت بمطاوعتها أفعال المكلف وهو السجود الذي كل خضوع دونه.
فإن قلت هذا التأويل يبطله قوله ) وكثير من الناس ( فإن السجود بالمعنى الذي ذكر عام في الناس كلهم فإسناده إلى كثير من الناس يكون تخصيصاً من غير فائدة.
قلت المعنى الذي ذكرته وإن كان عاماً في حق الكل إلاّ أن بعضهم تمرد وتكبّر وترك السجود في الظاهر فهذا وإن كان ساجداً بذاته لكنه متمرد بظاهره وأمّا المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره أيضاً فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر وقيل معنى الآية ) ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ( ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول : بمعنى الانقياد , والثاني بمعنى الطاعة والعبادة.
فإن قلت قوله من في السموات ومن في الأرض لفظ عموم فيدخل فيه الناس فلم قال وكثير من الناس.
قلت لو اقتصر على ما تقدّم لأوهم أن كل الناس يسجدون طوعاً دون بعض وهم الذين قال فيهم ) وكثير حق عليه العذاب ( وهم الكفار أي حق عليهم العذاب بكفرهم وتركهم السجود ومع كفرهم وامتناعهم عن السجود تسجد ظلالهم لله عزّ وجلّ ) ومن يهن الله فما له من مكرم ( أي من يذله الله فلا يكرمه أحد ) إنّ الله يفعل ما يشاء ( أي يكرم الله بالسعادة من يشاء ويهين بالشقاوة من يشاء وقيل هو الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب.
( فصل )
هذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند تلاوتها أو سماع تلاوتها.
)
الحج : ( 19 - 24 ) هذان خصمان اختصموا...
" هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد " ( قوله عزّ وجلّ : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ( أي جادلوا في دينه وأمره واختلفوا في هذين الخصمين فروي عن قيس بن عبادة قال : سمعت أبا ذر يقسم قسماً أن هذه الآية ) هذان خصمان اختصموا في ربهم ( نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد من عتبة أخرجاه في الصحيحين
( خ ) عن علي بن أبي طالب
(5/8)
صفحة رقم 9
قال : أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة.
قال قيس بن عبادة فيهم نزلت ) هذان خصمان اختصموا في ربهم ( قال هم الذين تبارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة.
قال محمد بن إسحاق : خرج يوم بدر عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة , ودعوا إلى المبارزة فخرج إليهم فئة من الأنصار ثلاثة عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله بن رواحة فقالوا رهط من الأنصار فقالوا حين انتسبوا أكفاء كرام ثم نادى مناديهم يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن إبي طالب ) فلما دنوا منهم قالوا : من أنتم فذكروا أنفسهم قالوا نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد ابن عتبة فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة وعلي الوليد واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه فكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا واحتملا عبيدة إلى أصحابه وقد قطعت رجله ومخها يسيل.
فلما أتوا به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ألست شهيداً يا رسول الله قال : بلى فقال عبيدة : لو كان أبو طالب حياً لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول :
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وقال ابن عباس : نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب قال أهل الكتاب نحن أولى بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم وقال المسلمون نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم حسداً فهذه خصومتهم في ربهم وقيل هم المؤمنون والكافرون من أي ملة كانوا فالمؤمنون خصم والكفار خصم وقيل الخصمان الجنة والنار
( ق ) عن أبي هريرة قال قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( تحاجت الجنة والنار فقال النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين.
وقالت الجنة : فما لي لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم ) زاد في رواية ( وغزاتهم فقال الله عزّ وجلّ للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنّما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول قط قط فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم ربك من خلقه أحداً.
وأما الجنة فإنّ الله تعالى ينشىء لها خلقاً ) وللبخاري ( اختصمت الجنة والنار ) وهذا القول ضعيف والأقوال الأولى أولى بالصحة لأن حمل الكلام على ظاهره أولى وقوله هذان كالإشارة إلى سبب تقدم ذكره وهو أهل الأديان الستة وأيضاً فإنه ذكر صنفين أهل طاعته
(5/9)
صفحة رقم 10
وأهل معصيته وذكر مآل الخصمين فقال تعالى : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ( قال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب وليس من الآنية شيء إذا حمي اشد حراً منه وسمي باسم الثياب.
لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب وقيل يلبس أهل النار مقطعات من نار ) يصب من فوق رؤوسهم الحميم ( أي الماء الحار الذي انتهت حرارته ) يصهر به ( أي يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم ) ما في بطونهم ( من الشحوم والأحشاء ) والجلود ( عن أبي هريرة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إنّ الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوف أحدهم , فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان ) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب صحيح ) ولهم مقامع من حديد ( يعني سياط من حديد وهي الجزر من الحديد.
وفي الخبر ( لو وقع مقمع من حديد في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض ) ) كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم ( يعني كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفاسهم ) أعيدوا فيها ( يعني ردوا إليها بالمقامع.
قيل إن جهنم لتجيش بهم فتلقيهم إلى أعلاها فيريدون الخروج منها فتضربهم الزبانية بمقامع الحديد فيهوون فيها سبعين خريفاً ) وذوقوا عذاب الحريق ( يعني تقول لهم الملائكة ذلك والحريق بمعنى المحرق فهذا وصف حال أحد الحصمين وهم الكفار وقال تعالى في وصف الخصم الآخر وهم المؤمنون ) إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً
(5/10)
صفحة رقم 11
ولباسهم فيها حرير ( وهو الإبريسم الذي حرم لبسه على الرجال في الدنيا.
عن معاوية هو جد بهز بن حكيم عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد ) أخرجه الترمذي وقال : حديث صحيح
( ق ) عن أبي موسى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ) عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن عليهم التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب ) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب
( ق ) عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) قوله تعالى ) وهدوا ( من الهداية يعني أرشدوا ) إلى الطيب من القول ( قال ابن عباس : هو شهادة أن لا إله إلا الله.
وقيل هو لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله وقيل إلى القرآن وقيل هو قول أهل الجنة ) والحمد لله الذين صدقنا وعده ( ) وهدوا إلى صراط الحميد ( يعني إلى دين الله وهو الإسلام والحميد هو الله المحمود في أفعاله.
)
الحج : ( 25 - 28 ) إن الذين كفروا...
" إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " ( قوله عزّ وجلّ : ( إنّ الذين كفروا ( يعني بما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويصدّون عن سبيل الله ( أي بالمنع من الهجرة والجهاد والإسلام ) والمسجد الحرام ( يعني ويصدون عن المسجد الحرام ) الذي جعلناه للناس ( أي قبلة لصلاتهم ومنسكاً متعبداً ) سواء العاكف ( أي المقيم ) فيه ( قال بعضهم ويدخل فيه الغريب إذا جاور وأقام به ولزم التعبد فيه ) والبارد ( أي الطارىء المنتاب إليه من غيره واختلفوا في معنى الآية فقيل سواء العاكف فيه والبادي في تعظيم حرامته وقضاء النسك به.
وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة قالوا : والمراد منه نفس المسجد الحرام ومعنى التسوية في تعظيم الكعبة وفي فضل الصلاة فيه والطواف به.
وعن جبير بن مطعم أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ) أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي.
وقيل : المراد منه جميع الحرم ومعنى التسوية أنّ المقيم والبادي سواء في النزول به ليس أحدهما أحق بالمنزل من الآخر غير أنه لا يزعج أحد أحداً إذ كان قد سبق إلى منزلة وقول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد قالوا : هما سواء في البيوت والمنازل قال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق منهم وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم فعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها قالوا : إنّ أرض مكة لا تملك لأنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد وإليه ذهب أبو حنيفة.
قالوا : والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم وعلى القول الأول الأقرب إلى الصواب أنه يجوز بيه دور مكة وإجارتها وهو قول طاوس وعمرو بن دينار.
وإليه ذهب
(5/11)
صفحة رقم 12
الشافعي احتج الشافعي في ذلك قوله تعالى : ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ( " أضاف الديار إلى مالكيها وقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يوم فتح مكة : ( من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) فنسب الديار إليهم نسبة ملك واشترى عمر بن الخطاب دار السجن بأربعة آلاف درهم فدلت هذه النصوص على جواز بيعها وقوله تعالى ) ومن يرد فيه ( أي في المسجد الحرام ) بإلحاد بظلم ( أي يميل إلى الظلم قيل الإلحاد فيه هو الشرك وعبادة غير الله.
وقيل : هو كل شيء كان منهياً عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم.
وقيل هو دخول الحرم بغير إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد وقطع شجر.
وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم فيه من لا يظلمك.
وقال مجاهد : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات وقيل : احتكار الطعام بمكة بدليل ما روى يعلى بن أمية أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ) أخرجه أبو داود وقال عبد الله بن مسعود في قوله ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) نذقه من عذاب أليم ( قال لو أنّ رجلاً همّ بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ولو أنّ رجلاً همّ بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم.
قال السدي : إلاّ أن يتوب.
وروي عن عبد الله بن عمرو أنّه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله وبلى والله.
قوله تعالى ) وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ( قال ابن عباس : جعلنا وقيل وطأنا وقيل بينا وإنما ذكر مكان البيت لأن الكعبة رفعت إلى السماء زمن الطوفان فلما أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام ببناء البيت لم يدر أي جهة يبني فبعث الله تعالى ريحاً خجوجاً فكنست له ما حول البيت عن الأساس وقيل بعث الله سحابة بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري
(5/12)
صفحة رقم 13
فنبى عليه ) أن لا تشرك بي شيئاً ( أي عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له : لا تشرك بي شيئاً ) وطهر بيتي ( أي من الشرك والأوثان والأقذار ) للطائفين ( أي الذي يطوفون بالبيت ) والقائمين ( أي المقيمين فيه ) والركع السجود ( أي المصلين.
قوله عزّ وجلّ ) وأذن ( أي أعلم وناد , والأذان في اللغة الإعلام ) في الناس ( قال ابن عباس : أراد بالناس أهل القبلة ) بالحج ( فقال إبراهيم عليه السلام وما يبلغ صوتي فقال الله عليك الأذان وعلينا الإبلاغ فقام إبراهيم على المقام حتى صار كأطول الجبال وأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال يا أيُّها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتاً وكتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات : لبيك اللهم لبيك.
قال ابن عباس : فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجاً وروي أنّ إبراهيم صعد أبا قبيس ونادى.
وزعم الحسن أن المأمور بالتأذين هو محمد صلّى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع ( م ) عن أبي هريرة قال : ( خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا أيُّها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ) ) يأتوك رجالاً ( أي مشاة على أرجلهم جمع راجل ) وعلى كل ضامر ( أي ركباناً على الإبل المهزولة من كثرة السير وبدأ المشاة تشريفاً لهم ) يأتين ( أي جماعة الإبل ) من كل فج عميق ( أي من كل طريق بعيد فمن أتى مكة حاجاً فكأنه قد أتى إبراهيم لأنه مجيب نداءه.
قوله تعالى ) ليشهدوا منافع لهم ( قيل العفو المغفرة وقيل : التجارة وقال ابن عباس : الأسواق وقيل ما يرضى به الله من أمر الدنيا والآخرة ) ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ( يعني عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين قيل لها معلومات للحرص عليها من أجل وقت الحج في آخرها.
وعن ابن عباس أنها أيام عرفة والنحر وأيام التشريق وقيل : إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده ) على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ( يعني الهدايا والضحايا من النعم وهي الإبل والبقر والغنم وفيه دليل على أنّ الأيام المعلومات يوم النحر وأيام التشريق لأنه التسمية على بهيمة
(5/13)
صفحة رقم 14
الأنعام عند نحرها ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام ) فكلوا منها ( أمر إباحة ليس بواجب وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً فأمر الله بمخالفتهم.
واتفق العلماء على أن الهدى إذا كان تطوعاً يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة تطوعاً يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع قال ( وقدم علي ببدن من اليمن وساق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مائة بدنة فنحر منها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثاً وستين بدنة ونحر علي ما غبر وأشركه في بدنه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها ) أخرجه مسلم قوله ما غبر أي ما بقي قوله ببضعه أي بقطعة.
واختلف العلماء في الهدي الواجب بالشرع مثل دم التمتع والقرآن والدم الواجب بإفساد الحج وفوته وجزاء الصيد هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئاً قال الشافعي : لا يأكل منه شيئاً وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر وقال ابن عمر : لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك وبه قال أحمد وإسحاق.
وقال مالك يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلاّ من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور وعند إصحاب الرأي أنه يأكل من دم التمتع والقرآن ولا يأكل من واجب سواهما.
وقوله تعالى ) وأطعموا البائس الفقير ( يعني الزمن الذي لا شيء له.
)
الحج : ( 29 - 30 ) ثم ليقضوا تفثهم...
" ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور " ( وقوله تعالى : ( ثم ليقضوا تفثهم ( أي ليزيلوا أدرانهم وأوساخهم والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق وقص الشارب ونتف الإبط وقلم الأظفار والاستحداد ولبس الثياب والحج أشعث أغبر إذا لم يزل هذه الأوساخ.
وقال ابن عمر وابن عباس : قضاء التفث مناسك الحج كلها ) وليفوا نذورهم ( أراد نذر الحج والهدي وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج أي ليتموها بقضائها.
وقيل المراد منه الوفاء بما نذر وهو على ظاهره وقيل : أراد به الخروج عمَا وجب عليه نذره أو لم ينذره ) وليطوفوا بالبيت العتيق ( أراد به طواف الواجب وهو طواف الإفاضة ووقته يوم النحر بعد الرمي والحلق.
والطواف ثلاثة طواف القدوم وهو أنّ من قدم مكة يطوف بالبيت
(5/14)
صفحة رقم 15
سبعاً يرمل ثلاثاً من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ويمشي أربعاً وهذا الطواف سنة لا شيء على من تركه
( ق ) عن عائشة : ( إن أول شيء بدأ به حين قدم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أنه توضأ ثم طاف ثم لم تكن عمرة ثم حجّ أبو بكر وعمر مثله )
( ق ) عن ابن عمر ( أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثاً ومشى أربعاً ) زاد في رواية ( ثم يصلي ركعتين يعني بعد الطواف بالبيت ثم يطوف بين الصفا والمروة ) ولفظ أبي داود ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا طاف في الحج أو العمرة أو ما يقدم يسعى ثلاثة أشواط ويمشي أربعاً ثم يصلي سجدتين ) والطواف الثاني هو طواف الإفاضة وذلك يوم النحر بعد الرمي والحلق
( ق ) عن عائشة قالت : ( حاضت صفية ليلة النفر فقالت : ما أراني إلا حابستكم قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم عقرى حلقى أطافت يوم النحر قيل نعم قال فانفري ) قوله عقرى وحلقى معناه عقرها الله أي أصابها بالعقر وبوجع في حلقها وقيل معناه مشئومة مؤذية ولم يرد به الدعاء عليها وإنّما هو شيء يجري على ألسنة العرب كقولهم : لا أم لك وتربت يمينك وفيه دليل على أن من لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة لا يجوز له أن ينفر.
الثالث طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف سبعاً فمن تركه فعليه دم إلا المرأة الحائض فإنه يجوز لها تركه للحديث المتقدم ولما روى ابن عباس قال ( أمر الناس أن يكون الطواف آخر عهدهم بالبيت إلا أنه رخص للمرأة الحائض ) متفق عليه.
الرمل سنة تختص بطواف القدوم ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع وقوله ) بالبيت العتيق ( قال ابن عباس وغيره سمي عتيقاً لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط , وقيل لأنه أول بيت وضع للناس وقيل لأن الله أعتقه من الغرق فإنه رفع أيام الطوفان وقيل لأنه لم يملك.
قوله عزّ وجلّ ) ذلك ( أي الأمر
(5/15)
صفحة رقم 16
ذلك يعني ما ذكر من أعمال الحج ) ومن يعظم حرمات الله ( أي ما نهى الله عنه من معاصيه وتعظيمها ترك ملابستها وقيل : حرمات الله ما لا يحل انتهاكه وقيل الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وقيل : الحرمات هنا مناسك الحج وتعظيمها إقامتها وإتمامها وقيل الحرمات هنا البيت الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام والشهر الحرام ومعنى التعظيم العلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظ حرمتها ) فهو خير له عند ربه ( أي ثواب تعظيم الحرمات خير له عند الله في الآخرة ) وأحلت لكم الأنعام ( اي أن تأكلوها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم ) إلا ما يتلى عليكم ( أي تحريمه وهو قوله في سورة المائدة ) حرمت عليكم الميتة والدم ( " الآية ) فاجتنبوا الرجس والأوثان ( أي اتركوا عبادتها فإنها سبب الرجس وهو العذاب وقيل سمى الأوثان رجساً لأنّ عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات ) واجتنبوا قول الزور ( يعني الكذب والبهتان.
وقال ابن عباس : هي شهادة الزور وروي عن أيمن بن خريم قال : ( إنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قام خطيباً فقال أيها الناس عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ) أخرجه الترمذي وقال قد اختلفوا في روايته ولا نعرف لأيمن سماعاً من النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وأخرجه أبو داود عن خريم بن فاتك بنحوه وقيل : هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك.
)
الحج : ( 31 - 34 ) حنفاء لله غير...
" حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر
(5/16)
صفحة رقم 17
من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين " ( قوله تعالى : ( حنفاء لله ( يعني مخلصين له ) غير مشركين به ( فدل ذلك على أن المكلف ينوي بما يؤتيه من العبادة الأخلاص لله بها لا غيره وقيل كانوا في الشرك يحجون ويحرمون البنات والأمهات والأخوات وكانوا حنفاء فنزلت ) حنفاء لله غير مشركين به ( أي حجوا لله مسلمين موحدين ومن أشرك لا يكون حنيفاً ) ومن يشرك بالله فكأنّما خر ( أي سقط ) من السماء ( إلى الأرض ) فتخطفه الطير ( يعني تسلبه وتذهب به ) أو تهوي به الريح ( يعني تميل وتذهب به ) في مكان سحيق ( يعني بعيد.
ومعنى الآية أنّ من أشرك بالله بعيد من الحق والإيمان كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير أو هوت به الريح فلا يصل إليه بحال وقيل شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء لأنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقط الريح فهو هالك لا محالة.
إما باستلاب الطير لحمه أو بسقوطه في المكان السحيق.
وقيل معنى الآية من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير ففرقت أجزاءه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة.
وقيل شبه الإيمان بالسماء في علوه والذي ترك الإيمان بالساقط من السماء والأهواء التي توزع أفكاره بالطير المختطفة والشياطين التي تطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة.
قوله عزّ وجلّ ) ذلك ( يعني الذي ذكر من اجتناب الرجس وقول الزور ) ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ( يعني تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب قال ابن عباس : شعائر الله البدن والهدي وأصلها من الإشعار , وهو العلامة التي يعرف بها أنها هدى وتعظيمها استسمانها واستحسانها وقيل شعائر الله أعلام دينه وتعظيمها من تقوى القلوب ) لكم فيها ( اي في البدن ) منافع ( قيل هي درها ونسلها وصوفها ووبرها وركوب ظهرها ) إلى أجل مسمى ( أي إلى أن يسميها ويوجبها هدياً فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها.
وهو قول مجاهد وقتادة والضحّاك ورواية عن ابن عباس وقيل معناه لكم في الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هدايا بأن تركبوها وتشربوا من ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها وهو قول عطاء.
واختلف العلماء في ركوب الهدي فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق : يجوز ركوبها والحمل عليها من غير ضرر بها لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأى رجلاً يسوق بدنه فقال : ( اركبها فقال يا رسول الله إنّها بدنة فقال : اركبها ويلك في الثانية والثالثة ) أخرجاه في الصحيحين.
وكذلك يجوز له أن يشرب من لبنها بعد ما يفضل عن ري ولدها.
وقال أصحاب الرأي : لا يركبها إلاّ أن يضطر إليه وقيل أراد بالشعائر المناسك ومشاهدة مكة لكم فيها منافع يعني بالتجارة والأسواق ) إلى أجل مسمى ( يعني إلى الخروج من مكة وقيل ) لكم فيها منافع ( يعني بالأجر والثواب في قضاء المناسك إلى انقضاء أيام الحج ) ثم محلها إلى البيت العتيق ( يعني منحرها عند البيت العتيق يريد به جميع أرض الحرم.
وروي عن جابر في حديث حجة الوداع أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( نحرت ها هنا ومنىً كلها منحر فانحروا في رحالكم ) ومن قال الشعائر المناسك قال معنى ثم محلها يعني محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق يطوفون به طواف الزيارة.
قوله تعالى ) ولكل أمة ( يعني جماعة مؤمنة سلفت قبلكم ) جعلنا منسكاً ( قرىء بكسر السين يعني مذبحاً وهو موضع القربان منسكاً بفتح السين وهو
(5/17)
صفحة رقم 18
إراقة الدم وذبح القرابين ) ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ( يعني عند ذبحها ونحرها سماها بهيمة لأنها لا تتكلم وقيد بالأنعام لأن ما سواها لا يجوز ذبحه في القرابين وإن جاز أكله.
قوله عزّ وجلّ ) فإلهكم إله واحد ( يعني سموا على الذبح اسم الله وحده فإنّ إلهكم إله واحد ) فله أسلموا ( يعني أخلصوا وانقادوا وأطيعوا ) وبشر المخبتين ( قال ابن عباس : المتواضعين وقيل المطمئنين إلى الله وقيل الخاشعين الرقيقة قلوبهم وقيل هم الذي لا يظلمون وإذا ظلموا لا ينتصرون ثم وصفهم.
)
الحج : ( 35 - 40 ) الذين إذا ذكر...
" الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز " ( فقال تعالى : ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ( يعني خافت من عقاب الله فيظهر عليها الخشوع والتواضع لله تعالى ) والصابرين على ما أصابهم ( يعني من البلاء والمرض والمصائب ونحو ذلك مما كان من الله تعالى وما كان من الله تعالى وما كان من غير الله فله أن يصبر عليه وله أن ينتصر لنفسه ) والمقيمي الصلاة ( يعني في أوقاتها محافظة عليها ) ومما رزقناهم ينفقون ( يعني يتصدّقون.
قوله تعالى ) والبدن ( جميع بدنه سميت بدنة لعظمها وضخامتها , يريد الإبل الصحاح الأجسام والبقر ولا تسمى الغنم بدنة لصغرها ) جعلناها لكم من شعائر الله ( يعني من أعلام دينه قيل لأنه تشعر وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي ) لكم فيها خير ( يعني نفع في الدنيا وثواب في العقبى ) فاذكروا اسم الله عليها ( يعني عند نحرها ) صواف ( يعني قياماً على ثلاث قوائم قد صفت رجليها ويدها اليمنى والأخرى معقولة فنحرها كذلك
( ق ) عن زياد بن جبير قال : ( رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها قال ابعثها قياماً مقيدة سنّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ) فإذا وجبت جنوبها ( يعني سقطت بعد النحر ووقع جنبها على الأرض ) فكلوا منها ( أمر إباحة ) وأطعموا القانع والمعتر ( قيل القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل.
والمعتر هو الذي يسأل وعن ابن عباس القانع هو الذي لا يسأل ولا يتعرض.
وقيل : القانع هو الذي يسأل والمعتر هو الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل وقيل القانع المسكين والمعتر الذي ليس بمسكين ولا
(5/18)
صفحة رقم 19
تكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم ) كذلك ( يعني مثل ما وصفنا من نحرها قياماً ) سخرناها لكم ( يعني لتتمكنوا من نحرها ) لعلكم تشكرون ( يعني إنعام الله عليكم ) لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ( وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحرو البدن لطخوا الكعبة بدمائها يزعمون أن ذلك قربة إلى الله تعالى فأنزل الله ) لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ( يعني لن ترفع إلى الله لحومها ولا دماؤها ) ولكن يناله التقوى منكم ( يعني ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة والإخلاص وهو ما أريد به وجه الله ) كذلك سخرها لكم ( يعني البدن ) لتكبروا الله على ما هداكم ( وأرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه وهو أن يقول الله : أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا ) وبشر المحسنين ( قال ابن عباس الموحدين.
قوله تعالى ) إن الله يدافع عن الذين آمنوا ( أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم منهم وينصرهم عليهم ) إنّ الله لا يحب كل خوان كفور ( أي خوان في أمانة الله كفور لنعمته.
قال ابن عباس : خانوا الله فجعلوا منه شريكاً وكفروا نعمه.
وقيل من تقرّب إلى الأصنام بذبيحته وسمى غير الله عليها فهو خوان كفور.
قوله عزّ وجلّ ) أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ( أي أذن الله لهم بالجهاد ليقاتلوا المشركين قال المفسرون كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول لهم : ( اصبروا فإني لم أومر بقتال ) حتى هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال.
وقيل نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذي يمنعون من الهجرة بأنهم ظلموا أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء ) وإن الله على نصرهم لقدير ( فيه وعد من الله بنصر المؤمنين ثم وصفهم.
فقال تعالى ) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ( يعني أنهم أخرجوا بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب
(5/19)
صفحة رقم 20
الإقرار والتعظيم والتمكين لا موجب الإخراج ) ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ( أي بالجهاد وإقامة الحدود ) لهدمت صوامع ( هي معابد الرهبان المتخذة في الصحراء ) وبيع ( هي معابد النصارى في البلد وقيل الصوامع للصابئين والبيع للنصارى ) وصلوات ( هي كنائس اليهود ويسمونها بالعبرانية صلوتاً ) ومساجد ( يعني مساجد المسلمين ) يذكر فيها اسم الله كثيراً ( يعني في المساجد.
ومعنى الآية ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلواتهم فهدم في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى البيع والصوامع وفي زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) المساجد ) ولينصرن الله من ينصره ( أي ينصر دينه ونبيه ) إنّ الله لقوي ( أي على نصر من ينصر دينه ) عزيز ( أي لا يضام ولا يمنع مما يريده.
)
الحج : ( 41 - 47 ) الذين إن مكناهم...
" الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون " ( قوله عزّ وجلّ : ( الذين إن مكناهم في الأرض ( أي نصرناهم على عدوهم تمكنوا من البلاد ) أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ( هذا وصف أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : هم جميع هذه الأمة وقيل هم المهاجرون وهو الأصح لأنه قوله ) الذين إن مكناهم ( صفة لمن تقدم ذكرهم وهو قوله ) الذين أخرجوا من ديارهم ( " وهم المهاجرون ) ولله عاقبة الأمور ( أي آخر أمور الخلق مصيرها إليه وذلك أنه يبطل فيها كل ملك سوى ملكه فتصير إليه بلا منازع.
قوله تعالى ) وإن يكذبوك ( فيه تسلية وتعزية للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى وإن كذبك قومك ) فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى ( فإن قلت لم قال وكذب ولم يقل وقوم موسى ؟.
قلت فيه وجهان أحدهما : أن موسى لم يكذبه قومه وهم بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه وهو القبط الثاني : كأنه قيل بعد ما ذكرت تكذيب كل قوم رسولهم قال وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره ) فأمليت للكافرين ( أي أمهلتهم وأخرت العقوبة عنهم ) ثم أخذتهم ( أي عاقبتهم ) فكيف كان نكير ( أي إنكاري عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب والهلاك يخوف به من خالف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكذبه.
قوله عزّ وجلّ ) فكأين من قرية أهلكتها ( وقرىء أهلكناها على التعظيم ) وهي ظالمة ( أي وأهلها ظالمون ) فهي خاوية ( أي ساقطة ) على عروشها ( أي على سقوفها ) وبئر معطلة ( أي وكم من بئر معطلة أي متروكة مخلاة عن أهلها ) وقصر مشيد ( أي رفيع عال وقيل مجصص وقيل إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن.
أما القصر فعلى قمة جبل والبئر في سفحه ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة فكفروا فأهلكهم الله وبقي البئر والقصر خاليين.
(5/20)
صفحة رقم 21
وقيل إن هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها : حاضوراء وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السلام لما نجوا من العذاب أتوا إلى حضرموت ومعهم صالح فلما حضروه مات صالح فسمي المكان حضرموت.
لذلك ولما مات صالح بنو حاضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلاً منهم فأقاموا دهراً وتناسلوا حتى كثروا وعبدوا الأصنام وكفروا فارسل الله تعالى إليهم نبيا ؟ ً يقال له حنظلة بن صفوان.
وكان حمالاً فيهم فقتلوه في السوق فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخرب قصرهم.
قوله تعالى ) أفلم يسيروا في الأرض ( يعني كفار مكة فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ) فتكون لهم قلوب يعقلون بها ( أي يعلمون بها ) أو آذان يسمعون بها ( يعني ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية فيعتبرون بها ) فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( المعنى أن عمى القلب هو الضار في أمر الدين لا عمى البصر لأن البصر الظاهر بلغة ومتعة وبصر القلوب النافع ) ويستعجلونك بالعذاب ( نزلت في النضر بن الحارث ) ولن يخلف الله وعده ( أي إنه أنجز ذلك يوم بدر ) وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون ( قال ابن عباس : يعني يوماً من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض.
وقيل يوماً من أيام الآخرة يدل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة ) أخرجه أبو داود بزيادة فيه وأخرج الترمذي نحوه ومعنى الآية أنهم يستعجلون بالعذاب وإن يوماً من إيام عذابهم في الآخرة كألف سنة.
وقيل إن يوماً من أيام العذاب في الثقل والاستطالة كألف سنة فكيف يستعجلونه وقيل معناه أن يوماً عنده وألف سنة في الإمهال سواء لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير فيستوي في قدرته
(5/21)
صفحة رقم 22
وقوع ما يستعجلونه من العذاب وتأخيره وهذا معنى قول ابن عباس.
)
الحج : ( 48 - 53 ) وكأين من قرية...
" وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد " ( ) وكأين من قرية أمليت لها ( يعني أمهلتها ) وهي ظالمة ( يعني مع استمرار أهلها على الظلم ) ثم أخذتها ( يعني أنزلت بهم العذاب ) وإلى المصير ( يعني مصيرهم إلي في الآخرة ففيه وعيد وتهديد.
قوله عزّ وجلّ ) قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ( أمر رسول الله أن يديم لهم التخويف والإنذار وأن يقول لهم إنما بعثت لكم منذراً ) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ( لما أمر الله الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقول ) إنما أنا نذير مبين ( " أردف ذلك بأن أمره بوعد من آمن ووعيد من عصى فقال ) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ( يعن ستر لصغائر ذنوبهم وقيل للكبائر أيضاً مع التوبة ورزق كريم يعني لا ينقطع أبداً وقيل هو الجنة ) والذين سعوا في آياتنا ( يعني عملوا في إبطال آياتنا ) معاجزين ( يعني مثبطين الناس عن الإيمان وقرىء معاجزين يعني معاندين مشاقين وقيل معناه ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا ويفوتوننا فلا نقدر عليهم بزعمهم أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ) أولئك أصحاب الجحيم ( وقوله تعالى ) وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ( قال ابن عباس وغيره من المفسرين : لما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تعالى تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم فكان يوماً في مجلس لقريش فأنزل الله عزّ وجلّ سورة والنجم فقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بلغ ) أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ( " ألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدث به نفسه ويتمناه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد غير الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإن جعل لها محمد نصيباً فنحن معه فلما أمسى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاه جبريل فقال : يا محمد ماذا صنعت ؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله تعالى فحزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حزناً شديداً وخاف من الله تعالى خوفاً كبيراً فأنزل الله تعالى هذه الآية يعزيه وكان به رحيماً وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وبلغهم سجود قريش وقيل
(5/22)
صفحة رقم 23
قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا : هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً فلم يدخل أحد منهم إلاّ بجوار أو مستخفياً.
فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شراً إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم وقوله ) وما أرسلنا من قبلك من رسول ( الرسول هو الذي يأتيه جبريل بالوحي عياناً ) ولا نبي ( النبي هو الذي تكون نبوته إلهاماً , أو مناماً فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً إلا إذا تمنى يعني أحب شيئاً واشتهاه وحدث به نفسه مما لم يؤمر به ) ألقى الشيطان في أمنيته ( يعني في مراده وقال ابن عباس : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلاً.
والمعنى ما من نبي ) إلا إذا تمنى ( أن يؤمن قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى قومه فينسخ الله ما يلقى الشيطان.
وقال أكثر المفسرين معنى تمنى قرأ وتلا كتاب الله ألقى الشيطان في أمنيته يعني في تلاوته قال حسان في عثمان حين قتل :
تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخرها لاقى حمام المقادر
" فإن قلت : قد قامت الدلائل على صدقة وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً قال الله تعالى : ( وما ينطق عن الهوى ( " وقال تعالى : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ( " فكيف يجوز الغلط على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) في التلاوة وهو معصوم منه ؟.
قلت ذكر العلماء عن هذا الإشكال أجوبة : أحدها : توهين أصل هذه القصة وذلك أنه لم يروها أحد من أهل الصحة ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل وإنما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم والذي يدل على ضعيف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها فقائل يقول إنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) كان في الصلاة وآخر يقول قرأها وهو في نادي قومه وأخر يقول قرأها وقد أصابته سنة وآخر يقول بل حدث نفسه بها فجرى ذلك على لسانه وآخر يقول إن الشيطان قالها على لسان النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لمّا عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك إلى غير ذلك من اختلاف ألفاظها والذي جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قرآ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافراً (
(5/23)
صفحة رقم 24
. أخرجه البخاري ومسلم وصح في حديث ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
رواه البخاري فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها والذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة.
وفقد رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جداً فهذا توهين هذه القصة الجواب الثاني : وهو من حيث المعنى هو أنّ الحجة قد قامت بالدليل الصحيح وإجماع الأمة على عصمة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة وهو تمنيه أن ينزل عليه مدح إليه غير الله أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه حتى نبهه جبريل عن ذلك فهذا كله ممتنع في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) قال الله عزّ وجلّ ) ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقعطنا من الوتين (
الآية الجواب الثالث : في تسليم وقوع هذه القصة وسبب سجود الكفار أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قرأ يرتل القرآن ترتيلاً ويفصل الآي تفصيلاً كما صح عنه في قراءته فيحتمل أن الشيطان ترصد لتلك السكنات فدس فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكياً لصوت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) , فسمعه من دنا منه من الكفار فظنوها من قول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فسجدوا معه لسجوده فأما المسلمون فلم يقدح ذلك عندهم لتحققهم من حال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ذم الأوثان وإنهم كانوا يحفظون السورة كما أولها الله عزّ وجلّ الجواب الرابع : في تحقيق تفسير الآية وقد تقدم أنّ التمني يكون حديث النفس وبمعنى التلاوة فعلى الأول : يكون معنى قوله ) إلا إذا تمنى ( أي خطر بباله وتمنى بقلبه بعض الأمور ولا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة وعلى الثاني : وهو تفسير التمني بالتلاوة فيكون معنى قوله ) إلا إذا تمنى ( أي تلا وهو ما يقع للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) من السهو في إسقاط آية أو آيات أو كلمة أو نحو ذلك ولكنه لا يقر على هذا السهو بل ينبه عليه ويذكر به للوقت والحين كما صح في الحديث ( لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها في سورة كذا
وحاصل هذا أن الغرض من هذه الآية أن الأنبياء والرسل وإن عصمهم الله عن الخطأ في العلم فلم يعصمهم من جواز السهو عليهم بل حالهم في ذلك كحال سائر البشر والله تعالى أعلم.
قوله عزّ وجلّ ) فينسخ الله ما يلقي الشيطان ( أي يبطله ويذهبه ) ثم يحكم الله آياته ( أي يثبتها ) والله عليم حكيم ( قوله عزّ وجلّ ) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة ( أي محنة وبلية والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء ) للذين في قلوبهم مرض ( أي شك ونفاق ) والقاسية قلوبهم ( أي الجافية قلوبهم عن قبول الحق وهم المشركون ) وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ( أي في خلاف شديد.
)
الحج : ( 54 - 58 ) وليعلم الذين أوتوا...
" وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين " ( ) وليعلم الذي أوتوا العلم ( أي التوحيد والقرآن والتصديق بنسخ الله ما يشاء ) أنه الحق من ربك ( أي الذي أحكم الله من آيات القرآن هو الحق من ربك ) فيؤمنوا به ( أي يعتقدوا أنه من الله عزّ وجلّ ) فتخبت له قلوبهم ( أي تسكن إليه ) وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ( أي إلى طريق قويم وهو الإسلام.
قوله عزّ وجلّ
(5/24)
صفحة رقم 25
) ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ( أي في شك من القرآن وقيل من الدين الذي هو صراط مستقيم ) حتى تأتيهم الساعة بغتة ( أي فجأة وقيل أراد بالساعة الموت ) أو يأتيهم عذاب عقيم ( أي عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة وقيل هو يوم بدر سمي عقيماً لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم لا تأتي بخير وقيل لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه ) الملك يومئذٍ ( يعني يوم القيامة ) لله ( وحده من غير منازع ولا مشارك فيه ) يحكم ( اي يفصل ) بينهم ( ثم بين ذلك الحكم فقال تعالى ) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين (.
قوله تعالى ) والذين هاجروا في سبيل الله ( أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب رضاه ) ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً ( أي لا ينقطع أبداً وهو رزق الجنة لأنه فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ) وإن الله لهو خير الرازقين ( فإن قلت الرازق في الحقيقة هو الله عزّ وجلّ لا رازق للخلق غيره فكيف قال وإن الله لهو خير الرازقين.
قلت قد يسمى غير الله رازقاً على المجاز كقوله رزق السلطان الجند أي أعطاهم أرزاقهم وإن الرزاق في الحقيقة هو الله تعالى وقيل لأنه الله تعالى يعطي الرزق ما لا يقدر عليه غيره.
)
الحج : ( 59 - 71 ) ليدخلنهم مدخلا يرضونه...
" ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير " ( ) ليدخلنهم مدخلاً يرضونه ( يعني الجنة يكرمون به ولا ينالهم فيه مكروه ) وإن الله لعليم ( بنياتهم ) حليم ( بالعفو عنهم.
قوله عزّ وجلّ ) ذلك ( أي الأمر ذلك الذي قصصنا عليك ) ومن عاقب بمثل ما عوقب به ( يعني جازى الظالم بمثل ظلمه وقيل يعني قاتل المشركين كما قاتلوه ) ثم بغى عليه ( يعني ظلم بإخراجه من منزله يعني ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حتى أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم نزلت في قوم من المشركين أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا في المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت المسلمون فنصرهم الله عليهم فذلك قوله تعالى ) لينصرنه الله إن الله لعفو ( يعني عن مساوي المؤمنين ) غفور ( يعني لذنوبهم ) ذلك ( النصر ) بأن الله ( القادر على ما يشاء فمن قدرته أنه ) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ( في معنى هذا الإيلاج قولان , أحدهما : أنه يجعل ظلمه الليل ما كان ضياء النهار وذلك بغيبوبة الشمس ويجعل ضياء النهار مكان ظلمة الليل بطلوع الشمس.
القول الثاني : هو ما يزيد
(5/25)
صفحة رقم 26
في أحدهما وينقص من الآخر من الساعات وذلك لايقدر عليه إلا الله تعالى ) وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق ( أي ذو الحق في قوله وفعله , ودينه حق وعبادته حق ) وأن ما يدعون ( يعني المشركين ) من دونه هو الباطل ( يعني الأصنام التي ليس عندها ضر ولا نفع ) وأن الله هو العلي ( أي العالي على كل شيء ) الكبير ( أي العظيم في قدرته وسلطانه.
قوله عزّ وجلّ ) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ( يعني بالنبات ) إن الله لطيف ( يعني باستخراج النبات من الأرض رزقاً للعباد والحيوان ) خبير ( يعني بما في قلوب العباد إذا تأخر المطر عنهم ) له ما في السموات وما في الأرض ( يعني عبيداً وملكاً ) وإن الله لهو الغني الحميد ( يعني الغني عن عباده الحميد في أفعاله ) ألم تر أنّ الله سخر لكم ما في الأرض ( يعني الدواب التي تركب في البر ) والفلك ( أي وسخر لكم السفن ) تجري في البحر بأمره ( يعني سخر لها الماء والرياح ولولا ذلك ما جرت ) ويمسك السماء أن تقع ( أي لكيلا تسقط ) على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم ( يعني أنه أنعم بهذه النعم الجامعة بمنافع الدنيا والدين وقد بلغ الغاية في الإنعام والإحسان فهو إذن رؤوف رحيم بكم ) وهو الذي أحياكم ( أي أنشأكم ولم تكونوا شيئاً ) ثم يميتكم ( أي عند انقضاء آجالكم ) ثم يحييكم ( أي يوم البعث للثواب والعقاب ) إن الإنسان لكفور ( أي لجحود لنعم الله عزّ وجلّ.
قوله تعالى ) لكل أمة جعلنا منسكاً ( قال ابن عباس شريعة ) هم ناسكوه ( هم عاملون بها وعنه أنه قال عيداً وقيل موضع قربان يذبحون فيه وقيل موضع عبادة ) فلا ينازعنك في الأمر ( أي في أمر الذبائح نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله ؟ وقيل معناه لا تنازعهم أنت.
قوله تعالى ) وادع إلى ربك ( أي إلى الإيمان به وإلى دينه ) إنك لعلى هدى مستقيم ( أي على دين واضح قويم ) وإن جادلوك ( يعني خاصموك في أمر الذبح وغيره ) فقل الله أعلم بما تعملون ( أي من التكذيب ) الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ( يعني فتعلمون حينئذٍ الحق من الباطل وقيل حكم يوم القيامة يتردّد بين جنة وثواب لمن قبل وبين نار وعقاب لمن رد وأبى.
قوله عزّ وجلّ
(5/26)
صفحة رقم 27
) ألم تعلم ( الخطاب للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ويدخل فيه الأمة ) أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب ( يعني في اللوح المحفوظ ) إن ذلك ( يعني علمه بجميعه ) على الله يسير ( أي هين وقيل : إن كتب الحوادث مع أنها من الغيب على الله يسير ) ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً ( يعني حجة ظاهرة من دليل سمعي ) وما ليس لهم به علم ( يعني أنهم فعلوا ما فعلوه عن جهل لا عن علم ولا دليل عقلي ) وما للظالمين ( يعني المشركين ) من نصير ( يعني مانع يمنعهم من العذاب.
)
الحج : ( 72 - 78 ) وإذا تتلى عليهم...
" وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير " ( ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ( يعني القرآن وصفه بذلك لأنه فيه بيان الأحكام والفصل بين الحلال والحرام ) تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر ( يعني الإنكار والكراهية يتبين ذلك في وجوههم ) يكادون يسطون ( يعني يقعون ويبسطون إليكم أيديهم بالسوء وقيل يبطشوه ) بالذين يتلون عليهم آياتنا ( أي بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ ) قل ( يعني قل لهم يا محمد ) أفأنبئكم بشر من ذلكم ( يعني بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون ) النار ( يعني هي النار ) وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ( قوله تعالى ) يا أيها الناس ضرب مثل ( فإن قلت الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلاً.
قلت لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة جاز أن يسمى كل كلام كان كذلك مثلاً.
وقال في الكشاف قد سميت الصفة والقصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مسيرة عندهم مستحسنة مستغربة ) فاستمعوا له ( يعني تدبروه حق تدبره فإنّ الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع والمعنى جعل لي شبيه وشبه به الأوثان أي جعل المشركون الأصنام شركائي يعبدونها ثم بين حالها وصفتها فقال تعالى ) إن الذين تدعون من دون الله ( يعني الأصنام ) لن يخلقوا ذباباً ( يعني واحداً في صغره وضعفه وقلته لأنها لا تقدر على ذلك ) ولو اجتمعوا له ( يعني لخلقه , والمعنى أن هذه الأصنام لو اجتمعت لم يقدروا على خلق ذبابة على ضعفها وصغرها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبوداً له ) وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ( قال ابن عباس : كانوا يطلون الأصنام بالزعفران فإذا جف جاء الذباب فاستلبه منه.
وقيل : كانوا يضعون الطعام بين أيدي الأصنام فيقع الذباب عليه ويأكل منه ) ضعف الطالب والمطلوب ( قال ابن عباس الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم والمطلوب هو الصنم وقيل الطالب
(5/27)
صفحة رقم 28
الصنم والمطلوب الذباب أي لو طلب الصنم أن يخلق الذباب لعجز عنه وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم ) ما قدروا الله حق قدره ( يعني ما عظموه حق عظمته وما عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه ) إن الله لقوي عزيز ( يعني غالب لا يقهر.
قوله عزّ وجلّ ) الله يصطفي من الملائكة ( يعني يختار من الملائكة ) رسلاً ( جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وغيرهم ) ومن الناس ( يعني يختار الله من الناس رسلاً مثل إبراهيم وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء والرسل صلّى الله عليهم أجمعين.
نزلت حين قال المشركون أأنزل عليه الذكر من بيننا فأخبر الله تعالى أن الاختيار إليه يختار من يشاء من عباده لرسالته ) إن الله سميع ( يعني بأقوالهم ) بصير ( يعني لأفعالهم لا تخفى عليه خافية.
قوله تعالى ) يعلم ما بين أيديهم ( قال ابن عباس : ما قدموا ) وما خلفهم ( يعني ما خلفوا وقيل يعلم ما عملوا ما هم عاملون وقيل يعلم ما بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم ) وإلى الله ترجع الأمور ( يعني في الآخرة.
قوله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ( يعني صلوا لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود ) واعبدوا ربكم ( يعني وحدوه وقيل أخلصوا له العبادة ) وافعوا الخير ( قال ابن عباس : صلة الأرحام ومكارم الأخلاق وقيل فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله تعالى وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة وحسن القول غير ذلك من أعمال البر ) لعلكم تفلحون ( يعني لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة.
فصل : في حكم سجود التلاوة هنا
لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة واختلفوا في السجدة الثانية فروي عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى أنهم قالوا في الحج
(5/28)
صفحة رقم 29
سجدتان وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق , يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله في الحج سجدتان قال : ( نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما ) أخرجه الترمذي وأبو داود.
وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال : إن هذه السورة فضلت بسجدتين.
أخرجه مالك في الموطأ وذهب قوم إلى أنّ في الحج سجدة واحدة وهي الأولى وليس هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك بدليل أنه قرن السجود بالركوع فدل ذلك أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة واختلف العلماء في عدة سجود التلاوة.
فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة لكن الشافعي قال في الحج سجدتان وأسقط سجدة ص.
وقال أبو حنيفة في الحج سجدة وأثبت سجدة ص وبه قال أحمد في إحدى الروايتين عنه فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة.
وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود يروى ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس وبه قال مالك فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( في القرآن إحدى عشرة سجدة ) أخرجه أبو داود وقال إسناده واه.
ودليل من قال في القرآن خمس عشرة سجدة ما روي عن عمرو بن العاص قال : أقرأني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في القرآن خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل وهي سورة الحج سجدتان.
أخرجه أبو داود وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( سجدنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في اقرأ وإذا السماء انشقت ) أخرجه مسلم وسجود التلاوة سنة للقارىء والمستمع.
وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة هو واجب.
قوله عز وجل ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) أي جاهدوا في سبيل الله أعداء الله ومعنى حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه قاله ابن عباس وعنه أنه قال لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد كمات تجاهدون في سبيل الله ولا تخافون لومة لائم وقيل معناه اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته قبل نسخها قوله تعالى ' فاتقوا الله ما استطعتم ' وقال أكثر المفسرين حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصة لله ولتكون كلمة الله هي العليا بدليل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ' من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ' أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري وقيل مجاهد النفس والهوى هو حق الجهاد وهو الجهاد الأكبر روى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما رجع من غزوة تبوك قال رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ' ذكره البغوي بغير سند قيل أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس ( هو اجتنابكم ) يعني اختاركم لدينه والاشتغال بخدمته وعبادته وطاعته فأي رتبة أعلى من هذا وأي سعادة فوق هذا ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) أي ضيق وشدة وهو أن المؤمن لا يبتلي بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجا بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير
(5/29)
صفحة رقم 30
ذلك فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد فيه سبيلا إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفق وقيل معناه رفع الضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس عليكم وسع ذلك عليكم عليكم حتى تتيقنوا وقبل معناه الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة والفطر في السفر والتيمم عند عدم الماء وأكل الميتة عند الضرورة والصلاة قاعدا والفطر مع العجز بعذر المرض ونحو ذلك من الرخص التي رخص الله لعباده.
قيل أعطى الله هذه الأمة خصلتين لم يعطهما أحدا غيرهم جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج وقال ابن عباس الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها اللله عنهذه الأمة ( ملة أبيكم إبراهيم ) لأنها داخلة في ملة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
فإن قلت لم يكن إيراهيم أبا للأمة كلها فكيف سماه أبا في قوله ( ملة أبيكم إبراهيم ) قلت إن الخطاب للعرب فهو أبو العرب قاطبة وإن كان الخطاب لمكل المسلمين فهو أبو المسلمين.
والمعنى لأن وجوب احترامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب فهو كقوله ' وأزواجه أمهاتهم ' وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ' إن ما أ ، ا لكم كالوالد ' وفي قوله ( هو سماكم المسلمين من قبل ) قولان أحدهما أن الكتابة ترجع إلى الله تعالى يعني أن الله سماكم المسلمين في الكتب القدديمة من قبل نزول القرآن والقول الثاني أن الكناية راجعة إلى إبراهيم يعني أن إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه من قبل هذا الوقت وهو قوله ( ربنا واجعلنا مسلمين لك وذريتنا أمع مسلمة لك ) فاستجاب الله دعاءه فينا ( وفي هذا ) أي وفي القرآن سماكم المسلمين ( ليكون الرسول شهيدا عليكم ) أي يوم القيامة أنه قد بلغكم ( وتكونوا شهداء على الناس ) أي تشهدون يوم اللقيامة عهلى الأمم أن رسلهم قد بلغتهم ( فأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة واعتصموا بالله ) يعني أتقوا بع وتوكلوا عليه وقيل تمسكوا بدين الله.
وقال ابن عباس سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره وقيل معناه ادعوا ربكم أن يثبتكم على دينه وقيل الاعتصاك هو التمسك بالكتاب والسنة ( هخو مولاكم ) يعني وليكم وناصلاركم وحافظكم ( فنعم المولى ونعم النصير ) أي الناصر لكم والله تعالى أعلم.
سورة المؤمنون
) ( تفسير سورة المؤمنين ) وهي مكية وهي مائة وثمان عشرة آية وألف وثمانمائة وأربعون كلمة وأربعة آلاف وثمانمائة حرف وحرفان.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
المؤمنون : ( 1 - 2 ) قد أفلح المؤمنون
" قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " ( عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل فأنزل الله عليه يوماً فمكث ساعة ثم سري عنه
(5/30)
صفحة رقم 31
فقرأ قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات من أولها.
وقال : من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا اللهم أرضنا وأرض عنا ) أخرجه الترمذي.
قوله عزّ وجلّ ) قد أفلح المؤمنون ( قال ابن عباس قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة وقيل الفلاح البقاء والنجاة ) الذين هم في صلاتهم خاشعون ( قال ابن عباس : مخبتون أذلاّء خاضعون.
وقيل خائفون وقيل : متواضعون وقيل الخشوع من أفعال القلب كالخوف والرهبة وقيل هو من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات وغض البصر.
وقيل لا بد من الجمع بين أفعال القلب والجوارح وهو الأولى فالخاشع في صلاته لا بد وأن يحصل له الخشوع في جميع الجوارح , فأما ما يتعلق بالقلب من الأفعال فنهاية الخضوع والتذلل للمعبود ولا يلتفت الخاطر إلى شيء سوى ذلك التعظيم.
وأما ما يتعلق بالجوارح فهو أن يكون ساكناً مطرقاً ناظراً إلى موضع سجوده.
وقيل الخشوع هو أن لا يعرف من على يمينه ولا من على شماله
( ق ) عن عائشة قالت : ( سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) الاختلاس هو الاختطاف عن أبي ذر عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه ) وفي رواية ( أعرض عنه ) أخرجه أبو داود والنسائي.
وقيل الخشوع هو أن لايرفع بصره إلى السماء
( خ ) عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال : لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم ) وقال أبو هريرة كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزل ) الذين هم في صلاتهم خاشعون ( رمقوا بأبصارهم إلى موضع السجود.
وقيل الخشوع هو أن لا يعبث بشيء من جسده
(5/31)
صفحة رقم 32
في الصلاة لما روي ( أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه ) ذكره البغوي بغير سند.
عن أبي ذر عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه ) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
وقيل الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة والإعراض عمّا سوى الله والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر.
)
المؤمنون : ( 3 - 10 ) والذين هم عن...
" والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون " ( ) والذين هم عن اللغو معرضون ( قال ابن عباس عن الشرك وقيل عن المعاصي وقيل هو كل باطل ولهو ما لا يجمل من القول والفعل وقيل هو معارضة الكفار الشتم والسب ) والذين هم للزكاة فاعلون ( أي الزكاة الواجبة مؤدّون فعبر عن التأدية بالفعل لأنها فعل وقيل الزكاة ها هنا العمل الصالح والأول أولى ) والذين هم لفروجهم حافظون ( الفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة وحفظه التعفف عن الحرام ) إلاّ على أزواجهم ( على بمعنى من ) أو ما ملكت أيمانهم ( يعني الإماء والجواري والآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها ) فإنهم غير ملومين ( يعني بعدم حفظ فرجه من امرأته وأمته فإنه لا يلام على ذلك وإنما لا يلام فيما إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي وفي حال الحيض والنفاس فإنه محظور فلا يجوز ومن فعله فإنه ملوم ) فمن ابتغى وراء ذلك ( أي التمس وطلب سوى الأزواج والولائد وهن الجواري المملوكة ) فأولئك هم العادون ( أي الظالمون المجاوزون الحد من الحلال إلى الحرام.
وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام وهو قول أكثر العلماء.
سئل عطاء عنه فقال : مكروه سمعت أن قوماً يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء وقال سعيد بن جبير عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم.
قوله عزّ وجلّ ) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ( أي حافظون يحفظون ما ائتمنوا عليه والعقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها.
والأمانات تختلف فمنها ما يكون بين العبد وبين الله تعالى كالصلاة والصوم وغسل الجنابة وسائر العبادات التي أوجبها الله تعالى على العباد فيجب الوفاء بجميعها.
ومنها ما يكون بين العباد كالودائع والصنائع والأسرار
(5/32)
صفحة رقم 33
وغير ذلك فيجب الوفاء به أيضاً ) والذين هم على صلواتهم يحافظون ( أي يداومون ويراعون أوقاتها وإتمام أركانها وركوعها وسجودها وسائر شروطها.
فإن قلت كيف كرر ذكر الصلاة أولاً وآخراً.
قلت هما ذكران مختلفان فليس تكراراً وصفهم أولاً بالخشوع في الصلاة وآخراً بالمحافظة عليها.
قوله عزّ وجلّ ) أولئك ( يعني أهل هذه الصفة ) هم الوارثون ( يعني يرثون منازل أهل النار من الجنة.
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فمن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ) وذلك قوله تعالى : ( أولئك هم الوارثون ( ذكره البغوي بغير سند وقيل معنى الوراثة هو أن يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يئول أمر الميراث إلى الوارث.
)
المؤمنون : ( 11 - 18 ) الذين يرثون الفردوس...
" الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون " ( ) الذين يرثرون الفردوس ( هو أعلى الجنة.
عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس ) أخرجه الترمذي ) هم فيها خالدون ( أي لا يخرجون منها ولايموتون.
قوله عزّ وجلّ ) ولقد خلقنا الإنسان ( يعني ولد آدم الإنسان اسم جنس ) من سلالة من طين ( قال ابن عباس السلالة صفوة الماء وقيل هي المني لأن النطفة تسل من الظهر من طين يعني طين آدم لأن السلالة تولدت من طين خلق منه آدم وقيل : المراد من الإنسان هو آدم , وقوله من سلالة أي سل من كل تربة ) ثم جعلناه نطفة ( يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة ) في قرار مكين ( أي حريز وهو الرحم وسمي مكيناً لاستقرار النطفة فيه إلى وقت الولادة ) ثم خلقنا النطفة علقة ( أي صيرنا النطفة قطعة دم جامد ) فخلقنا العلقة مضغة ( أي جعلنا الدم الجامد قطعة لحم صغيرة ) فخلقنا المضغة عظاماً فسكونا العظام لحماً ( وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالسكوة له.
قيل إن بين كل خلق وخلق أربعين يوماً ) ثم أنشأناه خلقاً آخر ( أي مبايناً للخلق الأول قال ابن عباس : هو نفخ الروح فيه وقيل جعله حيواناً بعد ما كان جماداً وناطقاً بعدما كان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره عجائب صنعه وغرائب فطره وعن ابن عباس قال : إن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الرضاع إلى القعود والقيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل ويشرب إلى أن
(5/33)
صفحة رقم 34
يبلغ الحلم ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها ) فتبارك الله ( أي استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال ) أحسن الخالقين ( أي المصورين والمقدرين.
فإن قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى ) الله خالق كل شيء ( " وقوله ) هل من خالق غير الله ؟ ( " قلت الخلق له معان : منها الإيجاد والإبداع ولا موجد ولا مبدع إلاّ الله تعالى.
ومنها التقدير كما قال الشاعر :
ولأنت تفري ماخلقت وبع
ض القوم يخلق ثم لا يفري
" معناه أنت تقدّر الأمور وتقطعها وغيرك لا يفعل ذلك فعلى هذا يكون معنى الآية الله أحسن المقدرين.
وجواب آخر وهو أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام خلق طيراً وسمّى نفسه خالقاً بقوله ) إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ( فقال ) تبارك الله أحسن الخالقين ( ) ثم إنكم بعد ذلك ( أي بعد ما ذكر من تمام الخلق ) لميتون ( أي عند انقضاء آجالكم ) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ( أي للحساب والجزاء.
قوله عزّ وجلّ ) ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ( يعني سبع سموات طرائق لأن بعضها فوق بعض وقيل لأنها طرائق الملائكة في الصعود والهبوط ) وما كنا عن الخلق غافلين ( يعني بل كنا لهم حافظين من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم.
وقيل معناه بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب.
وقيل ما تركناهم سدى بغير أمر ونهي وقيل معناه إنما خلقنا السماء فوقهم لتنزل عليهم الأرزاق والبركات منها.
وقيل معناه و ما كنا عن الخلق غافلين أي عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم لا تخفى علينا خافية ) وأنزلنا من السماء ماء بقدر ( أي يعلمه الله من حاجتهم إليه وقيل بقدر ما يكفيهم لمعايشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة ) فأسكناه في الأرض ( يعني ما يبقى في الغدران والمستنقعات مما ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر.
وقيل أسكناه في الأرض ثم أخرجناه منها ينابيع كالعيون والآبار فكل ماء في الأرض من السماء ) وإنّا على ذهاب به لقادرون ( وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة ) أخرجه مسلم.
وعن ابن عباس عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ الله عزّ وجلّ أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل , أنزلها الله عزّ وجلّ من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل
(5/34)
صفحة رقم 35
درجة من درجاتها على جناحي جبريل استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس فذلك قوله ) وأنزلنا من السماء ماء بدر فأسكناه في الأرض ( فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله عزّ وجلّ جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى ) وإنا على ذهاب به لقادرون ( فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا ) وروى هذا الحديث البغوي في تفسيره.
وقال روى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان بن عثمان بن سعيد بالإجازة عن سعيد بن سابق الإسكندارني عن مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عباس.
ثم ذكر ما أنبت بالماء.
)
المؤمنون : ( 19 - 29 ) فأنشأنا لكم به...
" فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين " ( فقال تعالى : ( فأنشأنا لكم به ( أي بالماء ) جنات ( أي بساتين ) من نخيل وأعناب ( إنما أفردهما بالذكر لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام والفواكة رطباً ويابساً ) لكم فيها ( أي في الجنات ) فواكة كثيرة ومنها تأكلون ( أي شتاءً وصيفاً ) وشجرة ( أي وأنشأنا لكم شجرة وهي الزيتون ) تخرج من طور سيناء ( أي من جبل مبارك وقيل من جبل حسن قيل هو بالنبطية وقيل بالحبشة وقيل السريانية ومعناه الجبل الملتف بالأشجار.
وقيل كل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سيناء وسينين وقيل هو من السناء وهو الارتفاع وهو الجبل الذي منه نودي موسى بين مصر وإيلة وقيل هو جبل فلسطين وقيل سيناء اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده.
وقيل هو اسم المكان الذي فيه هذا الجبل ) تنبت بالدهن ( أي تنبت وفيها الدهن وقيل تنبت بثمر الدهن وهو الزيت ) وصبغ للآكلين ( الصبغ الأدام الذي يكون مع الخبز ويصبغ به جعل الله في هذه الشجرة المباركة أدماً وهو الزيتون ودهناً وهو الزيت وخصّ جبل الطور بالزيتون لأنه منه نشأ وقيل إن أول شجرة نبتت بعد الطوفان الزيتون وقيل
(5/35)
صفحة رقم 36
إنها تبقى في الأرض نحو ثلاثة آلاف سنة.
قوله عزّ وجلّ ) وإن لكم في الأنعام لعبرة ( أي أية تعتبرون بها ) نسقيكم مما في بطونها ( أي ألبانها ووجه الاعتبار فيه أن اللبن يخلص إلى الضرع من بين فرث ودم بإذن الله تعالى ليس فيه منهما شيء فيستحيل إلى الطهارة وإلى طعم يوافق الشهوة والطبع ويصير غذاء , وتقدّم بسط الكلام بما فيه كفاية في سورة النحل ) ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ( يعني كما تنتفعون بها وهي حية فكذلك تنتفعون بها بعد الذبح للأكل ) وعليها ( أي وعلى الإبل ) وعلى الفلك تحملون ( أي على الإبل في البر وعلى السفن في البحر.
قوله تعالى ) ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( أي ما لكم معبوداً سواه ) أفلا تتقون ( أي أفلا تخافون عاقبة إذا عبدتم غيره ) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم ( أي آدمي مثلكم مشارك لكم في جميع الأمور ) يريد أن يتفضل عليكم ( أي إنه يحب الشرف والرياسة متبوعاً وأنتم له تبع ) ولو شاء الله لأنزل ملائكة ( يعني بإبلاغ الوحي ) ما سمعنا بهذا ( يعني الذي يدعونا إليه نوح ) في آياتنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة ( يعني جنون ) فتربصوا به حتى حين ( يعني إلى الموت فتستريحوا منه ) قال رب انصرني بما كذبون ( يعني أعني بإهلاكهم بتكذيبهم إياي ) فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ( يعني بمرأى منا قاله ابن عباس.
وقيل بعلمنا وحفظنا لئلا يتعرض له أحد ولا يفسد عليه عمله ) ووحينا ( قيل : إن جبريل علمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها ) فإذا جاء أمرنا ( يعني عذابنا ) وفار التنور ( قيل هو التنور الذي يخبز فيه وكان من حجارة , وقيل التنور هو وجه الأرض والمعنى أنك إذا رأيت الماء يفور من التنور ) فاسلك فيها ( يعني فأدخل في السفينة ) من كل زوجين اثنين ( يعني من كل حيوان ذكر وانثى ) وأهلك ( يعني وسائر من آمن بك ) إلا من سبق عليه القول ( يعني وجب عليه العذاب ) منهم ( يعني الكفار وقيل أراد بأهله أهل بيته خاصة والذي سبق عليه القول منهم هو ابنه كنعان ) ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( قوله عزّ وجلّ ) فإذا استويت ( يعني اعتدلت ) أنت ومن معك على الفلك ( يعني في السفينة ) فقل الحمد لله الذين نجانا من القوم الظالمين ( يعني الكافرين ) وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً ( قيل موضع النزول وهو السفينة عند الركوب.
وقيل هو وجه الأرض بعد الخروج من السفينة وأراد بالبركة النجاة من الغرق وكثرة النسل بعد الإنجاء ) وأنت خير المنزلين ( معناه أنه قد يكون الإنزال من غير الله كما يكون من الله فحسن أن يقول وأنت خير المنزلين لأنه يحفظ من أنزله ويكلؤه في سائر أحواله ويدفع عنه المكره بخلاف منزل الضيف فإنه لا يقدر على ذلك.
)
المؤمنون : ( 30 - 44 ) إن في ذلك...
" إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون " ( ) إن في ذلك ( يعني الذي ذكر من أمر نوح والسفينة وإهلاك أعداء الله ) لآيات (
(5/36)
صفحة رقم 37
يعني دلالات على قدرتنا ) وإن كنا ( يعني وما كنا ) لمبتلين ( يعني إلا مختبرين إياهم بإرسال نوح ووعظه وتذكيره لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم.
قوله تعالى ) ثم أنشأنا من بعدهم ( يعني من بعد إهلاكهم ) قرناً آخرين ( يعني عاداً ) فأرسلنا فيه رسولاً منهم ( يعني هوداً قاله أكثر المفسرين وقيل القرن ثمود والرسول صالح والأول أصح ) إن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ( يعني هذه الطريقة التي أنتم عليها مخافة العذاب ) وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة ( يعني بالمصير إليها ) وأترفناهم ( يعني نعمناهم ووسعنا عليهم ) في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون ( يعني من مشاربكم ) ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون ( يعني لمغبونون ) أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون ( يعني من قبوركم أحياء ) هيهات هيهات ( قال ابن عباس أي بعيد بعيد ) لما توعدون ( استبعد القوم بعثهم بعد الموت إغفالاً منهم للتفكر في بدء أمرهم وقدرة الله على إيجادهم وأرادوا بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبداً ) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ( قيل معناه نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث وقيل يموت الآباء ويحيا الأبناء وقيل معناه يموت قوم ويحيا قوم ) وما نحن بمبعوثين ( يعني بعد الموت ) إن هو ( يعنون رسولهم ) إلا رجل افترى على الله كذباً وما نحن له بمؤمنين ( يعني بمصدقين بالبعث بعد الموت ) قال رب انصرني بما كذبون قال عمّا قليل ليصبحن ( يعني ليصيرن ) نادمين ( على كفرهم وتكذيبهم ) فأخذتهم الصيحة بالحق ( يعني صيحة العذاب وقيل صاح بهم جبريل فتصدعت قلوبهم وقيل أراد بالصيحة الهلاك ) فجعلناهم غثاء ( هو ما يحمله السيل من حشيش وعيدان الشجر , والمعنى صيرناهم هلكى فيبسوا يبس الغثاء من بنات الأرض ) فبعداً ( يعني ألزمنا بعداً من الرحمة ) للقوم الظالمين (.
قوله عز وجل ) ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين ( يعني أقواماً آخرين ) ما تسبق من أمة أجلها ( يعني وقت هلاكها ) وما يستأخرون ( يعني عن وقت هلاكهم ) ثم أرسلنا رسلنا تترى ( يعني مترادفين يتبع بعضهم بعضاً غير متواصلين لأن بين كل رسولين زمناً طويلاً
(5/37)
صفحة رقم 38
) كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً ( يعني بالهلاك فأهلكنا بعضهم في أثر بعض ) وجعلناهم أحاديث ( يعني سمراً وقصصاً يتحدث من بعدهم بأمرهم وشأنهم ) فبعداً لقوم لا يؤمنون (.
)
المؤمنون : ( 45 - 60 ) ثم أرسلنا موسى...
" ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون " ( قوله تعالى : ( ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين ( يعني بحجة بينة كالعصا واليد وغيرهما ) إلى فرعون وملئه فاستكبروا ( يعني تعظموا عن الإيمان ) وكانوا قوماً عالين ( يعني متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم ) قالوا ( يعني فرعون وقومه ) أنؤمن لبشرين مثلنا ( يعنون موسى وهارون ) وقومهما لنا عابدون ( يعني مطيعون متذللون ) فكذبوهما فكانوا من المهلكين ( يعني بالغرق ) ولقد آتينا موسى الكتاب ( يعني التوراة ) لعلهم يهتدون ( يعني لكي يهتدي به قومه.
قوله عزّ وجلّ ) وجعلنا ابن مريم وأمه آية ( يعني دلالة على قدرتنا لأنه خلقه من غير ذكر وأنطقه في المهد.
فإن قلت لم قال آية ولم يقل آيتين.
قلت معناه جعلنا شأنهما آية لأن عيسى ولد من غير ذكر وكذلك مريم ولدته من غير ذكر فاشتركا في هذه الآية فكانت آية واحدة ) وآويناهما إلى ربوة ( يعني مكان مرتفع قيل هي دمشق وقيل هي الرملة وقيل أرض فلسطين وقال ابن عباس هي بيت المقدس.
قال كعب بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً.
وقيل هي مصر وسبب الأيواء أنها فرت بابنها إليها.
وقوله ) ذات قرار ( يعني منبسطة واسعة يستقر عليها ساكنوها ) معين ( هو الماء الجاري الذي تراه العيون.
قوله تعالى ) يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ( قيل أراد بالرسل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وحده وقيل أراد به عيسى عليه السلام وقيل أراد جميع الرسل وأراد بالطيبات الحلال ) واعملوا صالحاً ( أي استقيموا على ما يوجبه الشرع ) إني بما تعملون عليم ( فيه تحذير من مخالفة ما أمرهم به وإذا كان الرسل مع علو شأنهم كذلك فلأن يكون تحذيراً لغيرهم أولى لما روي عن أبي هريرة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال ) يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ( وقال ) يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ( ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه
(5/38)
صفحة رقم 39
حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك ) أخرجه مسلم.
قوله عزّ وجلّ ) وإن هذه أمتكم ( أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها ) أمة واحدة ( أي ملة واحدة وهي الإسلام ) وأنا ربكم فاتقون ( أي فاحذرون وقيل معناه أمرتكم بما أمرت به المرسلين قبلكم فأمركم واحد وأنا ربكم فاتقون ) فتقطعوا ( أي تفرقوا فصاروا فرقاً يهوداً ونصارى ومجوساً وغير ذلك من الأديان المختلفة ) أمرهم ( أي دينهم ) بينهم وزيراً ( أي فرقاً وقطعاً مختلفة وقيل معنى زبراً أي كتباً , والمعنى تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب ) كل حزب بما لديهم فرحون ( أي مسرورون معجبون بما عندهم من الدين ) فذرهم ( الخطاب للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) في غمرتهم ( قال ابن عباس في كفرهم وضلالتهم وقيل في عمايتهم وغفلتهم ) حتى حين ( أي إلى أن يموتوا ) أيحبسون أنما نمدهم به من مال وبنين ( أي ما نعطيهم ونجعله لهم مدداً من المال والبنين في الدنيا ) نسارع لهم في الخيرات ( أي نعجل لهم ذلك في الخيرات ونقدمه ثواباً لأعمالهم لمرضاتنا عنهم ) بل لا يشعرون ( أي إن ذلك استدراج لهم ثم ذكر المسارعين في الخيرات فقال تعالى ) إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ( أي خائفون , والمعنى أن المؤمنين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عقابه.
قال الحسن البصري المؤمن جمع إحساناً وخشية والمنافق جمع إساءة وأمناً ) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ( يعني يصدقون ) والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا ( أي يعطون ما أعطوا من الزكامة والصدقات.
وقيل معناه يعملون ما عملوا من أعمال البر ) وقلوبهم وجلة ( أي خائفة أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وأنّ أعمالهم لا تقبل منهم ) أنهم إلى ربهم راجعون ( أي إنهم يوقنون أنهم إلى الله صائرون.
قال الحسن عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم.
عن عائشة قالت : ( قلت يا رسول الله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجله هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصدّيق ولكن هم الذي يصومون ويتصدّقون ويخافون
(5/39)
صفحة رقم 40
أن لا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات ) أخرجه الترمذي.
)
المؤمنون : ( 61 - 71 ) أولئك يسارعون في...
" أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون " ( وقوله : ( أولئك يسارعون في الخيرات ( أي يبادرون إلى الأعمال الصالحة ) وهم لها سابقون ( أي إليها وقال ابن عباس سبقت لهم من الله السعادة وقيل سبقوا الأمم إلى الخيرات.
قوله عزّ وجلّ ) ولا نكلف نفساً إلا وسعها ( أي طاقتها من الأعمال , فمن لم يستطع القيام فليصل قاعداً ومن لم يستطع الصوم فليفظر ) ولدينا كتاب ( هو اللوح المحفوظ ) ينطق بالحق ( أي يبين الصدق والمعنى قد أثبتنا عمل كل عامل في اللوح المحفوظ فهو ينطق به ويبينه وقيل هو كتاب أعمال العباد التي تكتبها الحفظة ) وهم لا يظلمون ( أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ثم ذكر الكفار فقال تعالى ) بل قلوبهم في غمرة ( أي غفلة وجهالة ) من هذا ( يعني القرآن ) ولهم أعمال ( أي للكفار أعمال خبيثة من المعاصي والخطايا محكومة عليهم ) من دون ذلك ( يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله في قوله ) إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ( ) هم ( يعني الكفار ) لها ( أي لتلك الأعمال الخبيثة ) عاملون ( أي لا بد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة ) حتى إذا أخذنا مترفيهم ( أي رؤساءهم وأغنياءهم ) بالعذاب ( قال ابن عباس : هو السيف يوم بدر وقيل هو الجوع حين دعا عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف ) ) إذا هم يجأرون ( أي يصيحون ويستغيثون ويجزعون ) لا تجأروا اليوم ( يعني لا تجزعوا ولا تضجوا اليوم ) إنكم منا لا تنصرون ( يعني لا تمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم ) قد كانت آياتي تتلى عليكم ( يعني القرآن ) فكنتم على أعقابكم تنكصون ( يعني ترجعون القهقرى وتتأخرون عن الإيمان ) مستكبرين ( قال ابن عباس : أي بالبيت الحرام كناية عن غير مذكور أي مستعظمين بالبيت وذلك أنهم كانوا يقولون نحن أهل حرم الله وجيران بيته فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحداً فيأمنون فيه وسائر الناس في الخوف.
وقيل مستكبرين به أي بالقرآن فلم يؤمنوا به والقول الأول أظهر ) سامراً ( يعني أنهم يسمرون بالليل حول البيت وكان عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً أو شعراً ونحو ذلك من القول فيه وفي النبيّ
(5/40)
صفحة رقم 41
( صلى الله عليه وسلم ) وهو قوله ) تهجرون ( من الإهجار وهو الإفحاش في القول وقيل معنى تهجرون تعرضون عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وعن الإيمان به وبالقرآن وقيل هو من الهجر وهو القول القبيح أي تهذبون وتقولون ما لا تعلمون ) أفلم يدبروا القول ( يعني أفلم يتدبروا ما جاءهم من القرآن فيعتبرون بما فيه من الدلالات الواضحة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أم جاءهم مالم يأت آباءهم الأولين ( يعني فأنكروا يريد إنا قد بعثنا من قبلهم رسلاً إلى قومهم فكذلك بعثنا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ( قال ابن عباس : أليس قد عرفوا محمداً صلّى الله عليه وسلم صغيراً وكبيراً وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود وهذا على سبيل التوبيخ لهم على الإعراض عنه بعد ما عرفوه بالصدق والأمانة ) أم يقولون به جنة ( أي جنون وليس هو كذلك ) بل جاءهم بالحق ( بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل ) وأكثرهم للحق كارهون (.
قوله عزّ وجلّ ) ولو اتبع الحق أهواءهم ( قيل الحق هو الله تعالى والمعنى ولو اتبع الله مرادهم فيما يفعل.
وقيل : لو سمى لنفسه شريكاً وولداً كما يقولون وقيل : الحق هو القرآن أي لو نزل القرآن بما يحبون وما يعتقدون ) لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ( أي لفسد العالم ) بل أتيناهم بذكرهم ( قال ابن عباس بما فيه شرفهم وفخرهم وهو القرآن ) فهم عن ذكرهم ( أي شرفهم ) معرضون (.
)
المؤمنون : ( 72 - 88 ) أم تسألهم خرجا...
" أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون " ( ) أم تسألهم ( أي على ما جئتهم به ) خرجاً ( أي أجراً وجعلاً ) فخراج ربك خير ( أي ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير ) وهو خير الرازقين ( تقدم تفسيره ) وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ( أي إلى دين الإسلام ) وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط ( أي عن دين الحق ) لناكبون ( أي لعادلون عنه ومائلون ) ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر ( أي قحط وجدوبة ) للجوا ( أي لتمادوا ) في طغيانهم يعمهون ( أي لم ينزعوا عنه ) ولقد أخذناهم بالعذاب ( وذلك أنّ النبيّ
(5/41)
صفحة رقم 42
دعا على قريش أن يجعل الله عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم القحط.
فجاء أبو سفيان إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال بلى فقال : إنهم قد أكلوا القد والعظام وشكا إليه الضر فادع الله أن يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله هذه الآية ) فما استكانوا لربهم ( ما خضعوا وما ذلوا لربهم ) وما يتضرعون ( أي لم يتضرعوا إلى ربهم بل مضوا على تمردهم ) حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد ( قال ابن عباس يعني القتل يوم بدر وقيل الموت وقيل هو قيام الساعة ) إذا هم فيه مبلسون ( أي آيسون من كل خير.
قوله عزّ وجلّ ) وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة ( أي لتسمعوا بها وتبصروا وتعقلوا ) قليلاً ما تشكرون ( أي لم تشكروا هذه النعم ) وهو الذي ذرأكم في الأرض ( أي خلقكم ) وإليه تحشرون ( أي تبعثون ) وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار ( أي تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان وقيل جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض ) أفلا تعقلون ( أي ما ترون من صنعه فتعتبروا ) بل قالوا مثل ما قال الأولون ( أي كذبوا كما كذب الأولون , وقيل معناه أنكروا البعث مثل ما أنكر الأولون مع وضوح الأدلة ) قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون ( أي لمحشورون قالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب ) لقد وعدنا نحن ( أي هذا الوعد ) وآباؤنا هذا من قبل ( أي وعد آباؤنا قوم ذكروا أنهم رسل الله فلم نر له حقيقة ) إن هذا إلاّ أساطير الأولين ( أي أكاذيب الأولين.
قوله تعالى ) قل ( أي يا محمد لأهل مكة ) لمن الأرض ومن فيها ( من الخلق ) إن كنتم تعلمون ( أي خالقها ومالكها ) سيقولون لله ( أي لا بد لهم من ذلك لأنهم يقرون أنها مخلوقة لله ) قل ( أي قل لهم يا محمد إذا أقروا بذلك ) أفلا تذكرون ( أي فتعلموا أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت ) قل رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون ( أي عبادة غيره وقيل معناه أفلا تحذرون عقابه ) قل من بيده ملكوت كل شيء ( أي ملك كل شيء ) وهو يجير ( أي يؤمن من يشاء ) ولا يجار عليه ( أي لا يؤمن من أخافه الله وقيل يمنع هو من يشاء من السوء ولا يمتنع
(5/42)
صفحة رقم 43
منه من أراده بسوء ) إن كنتم تعلمون ( أي فأجيبوا.
)
المؤمنون : ( 89 - 101 ) سيقولون لله قل...
" سيقولون لله قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " ( ) سيقولون لله قل فأنى تسحرون ( أي فأنّى تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته وكيف يخيل لكم الحق باطلاً ) بل أتيناهم بالحق ( أي بالصدق ) وإنهم لكاذبون ( أي فيما يدعون من الشريك والولد ) ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ( أي من شريك ) إذاً لذهب كل إله بما خلق ( أي لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه ولم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ومنع كل إله الآخر عن الاستيلاء على ما خلقه هو ) ولعلا بعضهم على بعض ( أي طلب بعضه مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم وإذا كان كذلك فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء ويقدر على كل شيء ثم نزه نفسه تعالى فقال ) سبحان الله عمّا يصفون ( أي من إثبات الولد والشريك ) عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ( أي تعظم من أن يوصف بما لا يليق به.
قوله عزّ وجلّ ) قل رب ( أي يا رب ) إما تريني ما يوعدون ( أي ما وعدتهم من العذاب ) رب ( أي يا رب ) فلا تجعلني في القوم الظالمين ( أي تهلكني بهلاكهم ) وإنا على أن نريك ما نعدهم ( أي من العذاب ) لقادرون ادفع بالتي هي أحسن ( يعني بالخلة التي هي أحسن وهي الصفح والإعراض والصبر ) السيئة ( يعني أذاهم أمر بالصبر على أذى المشركين والكف عن المقاتلة ثم نسخها الله بآية السيف ) نحن أعلم بما يصفون ( أي يكذبون ويقولون من الشرك.
قوله عزّ وجلّ ) وقل رب أعوذ بك ( أي أمتنع وأعتصم بك ) من همزات الشياطين ( قال ابن عباس نزغاتهم وقيل وساوسهم وقيل نفخهم ونفثهم وقيل دفعهم بالإغواء إلى المعاصي ) وأعوذ بك رب أن يحضرون ( أي من شيء من أموري وإنما ذكر الحضور لأن الشيطان إذا حضره يوسوس له عن جبير بن مطعم أنه رأى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي صلاة قال عمر ولا أدري أي صلاة هي قال : ( الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً ثلاثاً وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه.
قال نفثه الشعر ونفخه الكبر وهمزه الموتة ) أخرجه أبو داود وقد جاء تفسير هذه الألفاظ في متن الحديث وتزيده إيضاحاً قوله نفثه الشعر أي لأن الشعر تخرج من القلب فيلفظ به اللسان وينفثه كما ينفث الريق.
قوله ونفخه الكبر وذلك أن المتكبر ينتفخ ويتعاظم ويجمع نفسه فيحتاج إلى أن ينفخ.
وقوله وهمزه الموتة الموتة الجنون لأنه المجنون ينخسه الشيطان ثم أخبر الله عزّ وجلّ أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت فقال تعالى ) حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ( قيل
(5/43)
صفحة رقم 44
المراد به الله وهو على عادة العرب فإنهم يخاطبون الواحد بلفظ الجمع على وجه التعظيم.
وقيل هذا خطاب مع الملائكة الذي يقبضون روحه فعلى هذا يكون معناه أن استغاث بالله أولاً ثم رجع إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا.
وقيل ذكر الرب للقسم فكأنه قال عند المعاينة بحق الله ارجعون ) لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ( أي ضيعت وقيل تركت أي منعت وقيل خلفت من التركة أو المعنى أقول لا إله إلا الله وأعمل بطاعته فيدخل فيه الأعمال البدنية والمالية قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله فرحم الله أمراً عمل فيما تمناه الكافر إذ رأى العذاب ) كلا ( كلمة ردع وزجر أي لا يرجع إليها ) إنها ( يعني مسألته الرجعة ) كلمة هو قائلها ( أي لا ينالها ) ومن ورائهم برزخ ( أي من أمامهم ومن بين أيديهم حاجز ) إلى يوم يبعثون ( معناه أن بينهم وبين الرجعة حجاباً ومانعاً عن الرجوع وهو الموت وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.
قوله تعالى ) فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ( قال ابن عباس إنها النفخة الأولى في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض فلا أنساب بينهم ) يومئذٍ ولا يتساءلون ( ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وعن ابن مسعود أنها النفخة الثانية.
قال : ( يؤخذ بيد العبد والأمَة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي منادٍ هذا فلان ابن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه ثم قرأ ابن مسعود ) فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون ( وفي رواية عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم يعني لا يتفاخرون بالأنساب يومئذٍ كما كانوا يتفاخرون في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيلة أنت ولم يرد أن الأنساب تنقطع.
فإن قلت قد قال ها هنا ولا يتساءلون وقال في موضع آخر وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
قلت قال ابن عباس إن للقيامة أحوالاً ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون.
)
المؤمنون : ( 102 - 114 ) فمن ثقلت موازينه...
" فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون " ( قوله عزّ وجلّ : ( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين
(5/44)
صفحة رقم 45
خسروا ( أي غبنوا ) أنفسهم في جهنم خالدون تلفح ( أي تسفح وقيل تحرق ) وجوههم النار وهم فيها كالحون ( أي عابسون وقد بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم كالرأس المشوي على النار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وهم فيها كالحون قال تشويه النار فتنقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته ) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب.
قوله تعالى ) ألم تكن آياتي تتلى عليكم ( يعني قوارع القرآن وزواجره تخوفون بها ) فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا ( أي التي كتبت علينا فلم نهتد ) وكنا قوماً ضالين ( أي عن الهدى ) ربنا أخرجنا منها ( أي من النار ) فإن عدنا ( إي لما تكره ) فإنا ظالمون قال اخسؤوا فيها ( أي ابعدوا فيها كما يقال للكلب إذا طرد أخسأ ) ولا تكلمون ( أي في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم فعند ذلك إيس المساكين من الفرج.
قال الحسن : هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعد ذلك ما هو إلا الزفير والشهيق وعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون.
وروي عن عبد الله بن عمرو ( إن أهل جهنم يدعون مالكاً خازن جهنم أربعين عاماً يا مالك ليقض علينا ربك فلا يجيبهم ثم يقول إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون فيما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق ).
ذكره البغوي بغير سند وأخرجه الترمذي بمعناه عن أبي الدرداء قوله فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة أي سكتوا ولم يتكلموا بكلمة وقيل إذا قال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم ) إنه كان فريق من عبادي ( يعني المؤمنين ) يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخرياً ( أي تسخرون منهم وتستهزئون بهم ) حتى أنسوكم ذكري ( اشتغالكم بالاستهزاء بهم ذكري ) وكنتم منهم تضحكون ( نزل في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب
(5/45)
صفحة رقم 46
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثل بلال وعمار وصهيب وخباب ثم قال الله ) إني جزيتهم اليوم بما صبروا ( أي على أذاكم واستهزائكم في الدنيا ) أنهم هم الفائزون ( أي جزيتهم بصبرهم الفوز بالجنة ) قال ( يعني أن الله قال للكفار يوم البعث ) كم لبثتم في الأرض ( أي في الدنيا وفي القبور ) عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم ( معناه أنهم نسوا مدة لبثهم في الدنيا لعظم ما هم بصدده من العذاب ) فاسأل العادين ( يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم ) قال إن لبثتم ( أي ما لبثتم في الدينا ) إلاّ قليلا ( سماه قليلا لأن المرء وإن طال لبثه في الدنيا.
فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة ) لو أنكم كنتم تعلمون ( يعني قدر لبثكم في الدنيا.
)
المؤمنون : ( 115 - 118 ) أفحسبتم أنما خلقناكم...
" أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " ( قوله عزّ جلّ : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً ( أي لعباً وباطلاً لا لحكمة وقيل العبث معناه لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب وإنما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عزّ وجلّ ) وأنكم إلينا لا ترجعون ( أي في دار الآخرة للجزاء.
روى البغوي بسنده عن الحسن : ( أن رجلاً مصاباً مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بماذا رقيت في أذنه فأخبره فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأها على الجبل لزال ) ثم نزه الله تعالى عمّا يصفه به المشركون فقال عزّ وجلّ ) فتعالى الله الملك الحق ( أي هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات ) لا إله إلا هو رب العرش الكريم ( أي الحسن وقيل الرفيع المرتفع وإنما خصّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات ) ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به ( يعني لا حجة ولا بينة له به إذ لا يمكن إقامة برهان ولا دليل على إلهية غير الله ولا حجة في دعوى الشرك ) فإنما حسابه ( أي جزاؤه ) عند ربه ( أي هو مجازيه بعلمه ) إنه لا يفلح الكافرون ( يعني لا يسعد من جحد وكذب ) وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين (.
(5/46)
صفحة رقم 47
سورة النور
تفسير سورة النور وهي مدنية وهي اثنتان وقيل أربع وستون آية
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
النور : ( 1 ) سورة أنزلناها وفرضناها...
" سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " ( قوله عزّ وجلّ ) سورة أنزلناها وفرضناها ( أي أوجبنا ما فيها من الأحكام وألزمناكم العمل بها وقيل معناه قدرنا ما فيها من الحدود وقيل أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم , إلى قيام الساعة ) وأنزلنا فيها آيات بينات ( أي واضحات ) لعلكم تذكرون ( يعني تتعظون.
)
النور : ( 2 - 3 ) الزانية والزاني فاجلدوا...
" الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " ( قوله تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( الزنا هو من الكبائر وموجب للحد وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً.
والشروط المعتبرة في وجوب الحد العقل والبلوغ ويشترط الإحصان في الرجم ويجب على العبد والأمة نصف الحد ولا رجم عليهما لأنه لا يتنصف وقوله فاجلدوا أي فاضربوا يقال جلده إذا ضرب جلده ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم كل واحد منهما أي الزانية والزاني مائة جلدة.
وقد وردت السنة بجلد مائة وتغريب عام وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة التغريب إلى رأي الإمام وقال مالك يجلد الرجل مائة جلدة ويغرب وتجلد المرأة ولا تغرب وإن كان الزاني محصناً فعليه الرحم ) ولا تأخذكم بهما رأفة ( أي رحمة ورقة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها.
وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي الشعبي وقيل معنى الرأفة أن تحفظوا الضرب بل أوجعوهما ضرباً وهو قول سعيد بن المسيب والحسن.
قال الزهري يجتهد في حد الزنا والفرية أي القذف ويخفف في حد الشرب وقيل يجتهد في حد الزنا ويخفف دون ذلك في حد الفرية دون ذلك في حد الشرب ) في دين الله ( أي في حكم الله.
وروي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت فقال للجلاد اضرب ظهرها ورجليها فقال له ابنه ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله فقال يا بني إن الله لم يأمرني بقتلها وقد ضربت فأوجعت ) إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ( معناه أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله وقيل هو من باب التهييح , والتهاب التغضب لله تعالى ولدينه ومعناه إن كنتم تؤمنون فلا تتركوا إقامة الحدود ) وليشهد ( يعني وليحضر ) عذابهما ( أي حدهما إذا أقيم عليهما ) طائفة ( يعني نفر ) من المؤمنين ( قيل أقله رجل واحد فصاعداً وقيل رجلان وقيل ثلاثة وقيل
(5/47)
صفحة رقم 48
أربعة بعدد شهود الزنا.
قوله عزّ وجلّ ) الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ( اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها فقال قوم قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر وفي المدنية نساء بغايا هنّ أخصب أهل المدينة فرغب ناس من فقراء المسليمن في نكاحهن لينفقن عليهم فاستأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك فنزلت هذه الآية فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا تلك البغايا لأنهنّ كن مشركات.
وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والزهري والشعبي ورواية عن ابن عباس.
وقال عكرمة نزلت في نساء كن بمكة والمدينة لهن رايات يعرفن بها منهن أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي.
وكان في الجاهلية ينكح الزانية يتخذها مأكله فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الصفة فاستأذن رجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في نكاح أم مهزول واشترطت له أن تنفق عليه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( كان رجل يقال له مرثد بن مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له في الجاهلية فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها.
فقال مرثد إن الله حرم الزنا قالت فانكحني فقال حتى أسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : فأتيت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت يا رسول الله أنكح عناقاً ؟ فأمسك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يرد شيئاً فنزلت الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك فدعاني فقرأها علي وقال لا تنكحها ) أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود بألفاظ متقاربة المعنى فعلى قول هؤلاء كان التحريم خاصاً في حق أولئك دون سائر الناس.
وقال قوم المراد من النكاح هو الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية
(5/48)
صفحة رقم 49
أو مشركة والزانية لا تزني إلا بزانٍ أو مشرك.
وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك ورواية عن ابن عباس قال يزيد بن هارون إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك وإن جامعها وهو محرم فهو زانٍ.
وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول إذا تزوج الزاني الزانية فهما زانيان وقال سعيد بن المسيب وجماعة إن حكم الآية منسوخ وكان نكاح الزانية حراماً بهذه الآية ثم نسخت بقوله تعالى ) وأنكحوا الأيامى منكم ( فدخلت الزانية في هذا العموم واحتج من جوز نكاح الزانية بما روي عن جابر : ( أن رجلاً أتى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله إن امرأتي لا تمنع يد لامس فقال طلقها قال إني أحبها وهي جميلة قال استمتع بها ) وفي رواية غيره فأمسكها إذاً وروى هذا الحديث أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال النسائي رفعه أحد الرواة إلى ابن عباس ولم يرفعه بعضهم قال وهذا الحديث ليس بثابت.
وروي أنّ عمر بن الخطاب ضرب رجلاً وامرأة في زنا وحرص على أن يجمع بينهما فأبى الغلام وقيل في معنى الآية إن الفاجر الخبيث لا يرغب في نكاح الصالحة من النساء وإنما يرغب في نكاح فاجرة خبيثة مثله أو مشركة والفاسقة الخبيثة لا ترغب في نكاح الصلحاء من الرجال وإنما ترغب في نكاح فاسق خبيث مثلها أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين أي صرف الرغبة بالكلية إلى نكاح الزواني وترك الرغبة في الصالحات العفائف محرم على المؤمنين ولا يلزم من حرمة هذا حرمة التزوج بالزانية.
)
النور : ( 4 - 7 ) والذين يرمون المحصنات...
" والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين " ( قوله : ( والذين يرمون ( أي يقذفون بالزنا ) المحصنات ( يعني المسلمات الحرائر العفائف ) ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ( أي يشهدون على الزنا ) فاجلدوهم ثمانين جلدة ( بيان حكم الآية أن من قذف محصناً أو محصنة بالزنا فقال له : يا زاني أو يا زانية أو زنيت فيجب عليه جلد ثمانين إن كان القاذف حراً وإن كان عبداً يجلد أربعين وإن كان المقذوف غير محصن فعلى القاذف التعزير.
وشرائط الإحصان خمسة الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا حتى لو زنا في عمره مرة واحدة ثم تاب وحسنت توبته بعد ذلك ثم قذفه قاذف فلا حد عليه فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا أو أقام القاذف أربعة يشهدون عليه بالزنا سقط الحد عن القاذف لأن الحد إنما وجب عليه لأجل الفرية.
وقد ثبت صدقه وأما الكنايات مثل أن يقول يا فاسق أو يا فاجر أو يا خبيث أو يا مؤاجر أو قال امرأتي لا ترديد لامس فهذا ونحوه لا يكون قذفاً إلا أن يريد ذلك.
وأما التعريض مثل أن يقول أما أنا فما زنيت أو ليست امرأتي زانية فليس بقذف عند الشافعي وأبي حنيفة.
وقال مالك يجب فيه الحد وقال أحمد هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا.
قوله تعالى ) ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون ( فيه دليل على أنّ القذف من الكبائر لأن اسم الفاسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة ) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ( اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة وفي حكم هذا الاستثناء فذهب قوم إلى أنّ القاذف ترد شهادته بنفس القذف وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته بعد التوبة قبلت شهادته سواء تاب بعد إقامة الحد عليه أو قبله لقوله تعالى ) إلا الذين تابوا ( وقالوا هذا الاستثناء يرجع إلى رد الشهادة وإلى الفسق
(5/49)
صفحة رقم 50
وإذا تاب تقبل شهادته ويزول عنه اسم الفسق.
يروى ذلك عن عمر وابن عباس وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وبه قال مالك والشافعي.
وذهب قوم إلى أنّ شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب وقالوا الاستثناء يرجع إلى قوله ) وأولئك هم الفاسقون ( وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي قالوا بنفس القذف لا ترد شهادته ما لم يحد قال الشافعي هو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات فكيف تردونها في أحسن حاليه وتقبلونها في شر حاليه.
وذهب الشافعي إلى أنّ حد القذف يسقط بالتوبة.
وقال : الاستثناء يرجع إلى الكل وعامة العلماء على أنه لا يسقط الحد بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط كالقصاص يسقط بالعفو ولا يسقط بالتوبة.
فإن قلت إذا قبلت شهادته بعد التوبة فما معنى قوله أبداً ما دام مصرًّا على القذف لأنه أبد كل إنسان مدته على ما يليق به كما يقال شهادة الكافر لا تقبل أبداً يراد بذلك ما دام على كفره فإذا أسلم قبلت شهادته.
قوله عزّ وجلّ ) والذين يرمون ( أي يقذفون ) أزواجهم ولم يكن لهم شهداء ( أي يشهدون على صحة ما قالوا ) إلا أنفسهم ( أي غير أنفسهم ) فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( سبب نزول هذه الآية ما روي عن سهل بن الساعدي أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي فقال لعاصم : أرأيت لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي عن ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسأل عاصم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المسألة وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال يا عاصم ماذا قال لك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عاصم لعويمر لم تأتني بخير قد كره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المسألة التي سألت عنها فقال عويمر : والله لا أنتهي حتى أسأله عنها فجاء عويمر ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسط الناس فقال : يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآناً فاذهب فأت بها قال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال مالك قال ابن شهاب فكانت تلك سنة المتلاعنين ) أخرجاه في الصحيحين زاد في رواية ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( انظروا إن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمراً إلا وقد صدق عليها , وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمراً إلا قد كذب عليها ) فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى أمه قوله أسحم أي أسود الأدعج الشديد سواج العين مع سعتها وقوله خدلج الساقين أي ممتلىء الساقين غليظهما وقوله , كأنه
(5/50)
صفحة رقم 51
وحرة بفتح الحاء دويبة كالعظاءة تلصق بالأرض وأراد بها في الحديث المبالغة في قصره
( خ ) عن ابن عباس ( أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) بشريك بن سحماء فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحد على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة فجعل النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : البينة والحد في ظهرك فقال هلال بن أمية : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه ) والذين يرمون أزواجهم ( فقرأ حتى بلغ إن كان من الصادقين فانصرف النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فأرسل إليهما.
فجاء فقام هلال بن أمية فشهدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول الله يعلم إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفها وقال : إنها موجبة قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : انظروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن ) وفي رواية غير البخاري عن ابن عباس قال ( لما نزلت والذين يرمون المحصنات ) الآية ( قال سعد بن عبادة لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتى بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ حاجته ويذهب وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج امرأة قط إلا بكراً ولا طلق امرأة له واجترأ رجل منا أن يتزوجها.
فقال سعد يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لا أعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبر الله فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : فإنّ الله يأبى إلاّ ذلك فقال صدق الله ورسوله قال فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية من حديقة له فرأى رجلاً مع امرأته يزني بها فأمسك حتى أصبح فلما أصبح غدا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو جالس مع أصحابه فقال : يا رسول الله إني جئت إلى أهلي عشاء فوجدت مع امرأتي رجلاً رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو جالس مع أصحابه فقال يا رسول الله إني جئت إلى أهلي عشاءً فوجدت مع امرأتي رجلاً رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما أتاه به وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به والله يعلم إني لصادق.
ما قلت إلا حقاً وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً فهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بضربه قال : واجتمعت الأنصار فقالوا : ابتلينا بما قال سعد بجلد هلال وتبطل شهادته فبينما هم كذلك ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ فأنزل الله والذين يرمون أزواجهم إلى آخر الآيات فقال رسول الله صل الله عليه وسلم أبشر يا هلال فإنّ الله تعالى قد جعل لك فرجاً.
فقال : كنت أرجو ذلك من الله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أرسلوا إليها فجاءت فلما اجتمعا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قيل فكذبت فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب فهل منكما تائب فقال يا رسول الله قد صدقت وما قلت إلاّ حقاً فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا عنوا بينهما فقيل لهلال فشهد أربع شهادات الله إنه لمن الصادقين فقال له عند الخامسة : يا هلال اتق الله فإنّ عذاب الدنيا أهون من عذاب
(5/51)
صفحة رقم 52
الآخرة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس وإن هذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال والله لا يعذبني الله عليها كما لم يحدني عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشهد ) والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ( ثم قال للمرأة أشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فقال لها عند الخامسة ووقفها اتقى الله إن الخامسة موجبة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بينهما.
وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه فجاءت به غلاماً كأنه جمل أورق على الشبه المكروه , وكان أميراً بمصر لا يدرى من أبوه ) الأورق هو الأبيض وروى ابن عباس ( أن عويمراً لما لاعن زوجته خولة أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى نودي الصلاة جامعة فصلّى العصر ثم قال لعويمر : قم فقام فقال : أشهد بالله إن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ثم قال في الثانية أشهد بالله إني رأيت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين.
ثم قال في الثالثة أشهد بالله إنها لحبلى من غيري وإني لمن الصادقين.
ثم قال في الرابعة أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربع أشهر وإني لمن الصادقين ثم قال في الخامسة لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال ثم أمره بالقعود فقعد.
ثم قال لخولة قومي فقامت فقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمراً لمن الكاذبين ثم قالت في الثانية : أشهد بالله إنه مارأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين.
ثم قالت في الثالثة أشهد بالله إنى حبلى منه وأنه لمن الكاذبين ثم قالت في الرابعة : أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة : غضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى لله عليه سلم بينهما وقال لولا هذه الأيمان لكان في أمرهما رأي ثم قال : تحينوا الولادة فإن جاءت به أصيهب أثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن سحماء وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به ) قال ابن عباس : فجاءت بأشبه خلق بشريك.
بيان حكم الآية
إن الرجل إذا قذف امرأته فموجبه موجب قذف الأجنبية وجوب الحد عليه إن كانت محصنة أو التعزير إن كانت غير محصنة غير أن المخرج منهما مختلف , فإذا قذف أجنبياً أو أجنبية يقام عليه الحد إلا أن يأتي بأربعة يشهدو بالزنا أو يقر المقذوف بالزنا فيسقط عنه الحد.
وفي الزوجة إذا وجد أحد هذين أو لاعن سقط عنه الحد فاللعان في قذف الزوجة بمنزلة البينة لأنه الرجل إذا رأى مع امرأته رجلاً بما لا يمكنه إقامة البينة ولا يمكنه الصبر على العار , فجعل الله اللعان حجة له على صدقه فقال تعالى : ( فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( وإذا أقام الزوجة بينة على زناها أو اعترفت هي بالزنا سقط عنه الحد واللعان إلا أن كان هناك ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه وإذا أراد الإمام أن يلاعن بينهما بدأ بالرجل فيقيمه ويلقنه كلمات اللعان فيقول : قل أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا وإن كان قد رماها برجل بعينه سماه في اللعان ويقول كما يلقنه الإمام.
وإن كان ولد أو حمل يريد نفيه يقول وإن هذا الولد أو هذا الحمل لمن الزنا ما هو مني.
ويقول في الخامسة علي لعنة
(5/52)
صفحة رقم 53
الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة وإذا أتى بكلمة من كلمات اللعان من غير تلقين الإمام لا تحسب فإذا فرغ الرجل من اللعان وقعت الفرقة بينه وبين الزوجة وحرمت عليه
(5/53)
صفحة رقم 54
على التأبيد وانتفى عنه النسب وسقط عنه الحد ووجب على المرأة حد الزنا , فهذه خمسة أحكام
(5/54)
صفحة رقم 55
تتعلق بلعان الزوج.
)
النور : ( 8 - 9 ) ويدرأ عنها العذاب...
" ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " ( قوله عزّ وجلّ : ( ويدرأ ( أي يدفع ) عنها العذاب ( أي الحد ) أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ( حكم الآية أن الزوج إذا لاعن وجب على المرأة حد الزنا فإن أرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به وتقول في الخامسة علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به ولا يتعلق بلعانها إلا هذا الحكم الواحد وهو إسقاط الحد عنها.
ولو أقام الزوج بينة لم يسقط الحد عنها باللعان.
وعند أصحاب الرأي لا حد على من قذف زوجته بل موجبة اللعان فإن لم يلاعن حبس حتى يلاعن فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة من اللعان حبست حتى تلاعن.
وعند الآخرين اللعان حجة صدقه والقاذف إذا قعد عن إقامة البينة على صدقه لا يحبس بل يحد كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة.
وعن أبي حنيفة موجب اللعان وقوع الفرقة ونفي النسب وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعاً وقضاء القاضي وفرقة اللعان فرقة فسخ عند الأكثرين وبه قال الشافعي وتلك الفرقة متأبدة حتى لو أكذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه لا فيما له فيلزمه الحج ويلحقه الولد لكن لا يرتفع تأبيد التحريم.
وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق فإذا أكذب نفسه جاز له أن ينكحها وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل وكل من صح يمينه صح لعانه حراً كان أو عبداً مسلماً كان أو ذمياً.
وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم.
وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين فإن كان أحد الزوجين رقيقاً أو ذمياً أو محدوداً في قذف فلا لعان بينهما وظاهر القرآن حجة لمن قال : يجري اللعان بينهما لأن الله تعالى قال والذين يرمون أزواجهم ولم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو نائبه ويغلظ اللعان بأربعة أشياء بتعدد الألفاظ وبالمكان والزمان وأن يكون بمحضر جماعة من
(5/55)
صفحة رقم 56
الناس , أما تعدد الألفاظ فيجب ولا يجوز الإخلال بشيء منها , وأما المكان فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن فإن كان بمكة فبين الركن والمقام وإن كان بالمدينة فعند منبر النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وفي سائر البلاد في الجامع عند المنبر , وأما الزمان فهو أن يكون بعد العصر , وأما الجمع فأقله أربعة والتغليظ بالجمع مستحب فلو لاعن الحاكم بينهما وحده جاز وفي التغليظ بالزمان والمكان قولان.
)
النور : ( 10 - 11 ) ولولا فضل الله...
" ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " ( قوله تعالى : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ( أي لعاجلكم بالعقوبة ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان ) وأن الله تواب ( أي يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة ) حكيم ( أي فيما فرضه من الحدود.
قوله عزّ وجلّ ) إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ( الآيات سبب نزولها ما روي عن ابن شهاب قال حدّثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة زوج النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال لها أهل الإفك ما قالوا.
وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصاً وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضاً قالوا : قالت عائشة رضي الله عنها : ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه فأيها خرج سهمها خرج بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : عائشة أقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش , فلما قضيت من شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه قالت : وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي
(5/56)
صفحة رقم 57
فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون إني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام , فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي.
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي , والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه وهوى حتى أناخ راحلته فوطىء على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين ).
وفي رواية ( موغرين في نحر الظهيرة قالت فهلك من هلك في شأني وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ثم ينصرف فذلك الذي يريبني مه ولا أشعر بالشر حتى نقهت فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل , وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب حين فرغنا من شأننا نمشي فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت : أتسبين رجلاً قد شهد بدراً ؟ فقالت : يا هنتاه أولم تسمعي ما قال ؟ قلت : ما قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً إلى مرضي فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال : كيف تيكم قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قال وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقن الخبر من قبلها فأذن لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم فأتيت أبوي قالت فقلت لأمي يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به فقالت : يا بنية هوني على نفسك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت : فقلت سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي قالت : ودعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله قالت : فأما أسامة فاشار عليه بما يعلم براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه ومن الود فقال أسامة هم أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيراً وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل
(5/57)
صفحة رقم 58
الجارية تصدقك قالت : فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بريرة فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت له بريرة : لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمراً قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله قالت : فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله وهو على المنبر : من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي ) وفي رواية ( في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي قالت : فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال : أنا أعذرتك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كانا من إخواننا من الخزرج.
أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه كان رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد يعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قائم على المنبر فلم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخفضهم حتى سكتوا وسكت قالت : وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي جمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أظن أن البكاء فالق كبدي قالت فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسلّم ثم جلس ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها وقد مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء قالت فتشهّد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه.
فلما قضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحسن منه قطرة وقلت لأبي أجب عني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما قال : قال والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما قال قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث به الناس حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك , ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني منه بريئة لتصدقني فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال ) فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ( ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وإن الله مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحياً يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم والله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت : فوالله
(5/58)
صفحة رقم 59
ما رام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه قال فسري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي : يا عائشة احمدي الله ) وفي رواية ( أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي قالت : فأنزل الله عزّ وجلّ ) إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ( العشر الآيات فأنزل الله عزّ وجل هذه الآيات في براءتي قالت فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله ) ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى قوله غفور رحيم ( فقال أبو بكر بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه وقال والله لا أنزعها منه أبداً قالت عائشة وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سأل زينب بن جحش عن أمري فقال يا زينب ما علمت أو ما رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلا خيراً قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك ) قال ابن شهاب : فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط زاد في رواية قالت عائشة : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله فو الذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط فقلت : ثم قتل بعد في سبيل الله شهيداً (.
هذا حديث متفق على صحته أخرجاه في الصحيحين زاد البخاري في رواية عن عروة : عن عائشة ) والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي ابن سلول وقال عروة أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقرره ويشيعه ويستوشيه قال عروة لم يسم لي من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى.
قال عروة كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه الذي قال :
فإن أبي ووالدتي وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
(5/59)
صفحة رقم 60
أخرجاه من حديث مسروق قال : دخلت على عائشة وعندها حسان ينشدها شعراً ببيت من أبياته فقال :
حصان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت عائشة : لكنك لست كذلك قال مسروق فقلت لها : تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله ) والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( قالت وأي عذاب أشد من العمى.
وقالت : إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
حل غريب ألفاظ هذا الحديث
قوله : وكلهم حدثني طائفة أي قطعة من حديثها , قوله كان أوعى أي أحفظ له , قولها آذن أي أعلم بالرحيل , قولها فإذا عقد لي من جزع أظفار وهو نوع من الخرز وهو الحجر اليماني المعروف , قولها لم يهبلن أي يكثر لحمهن فيثقلن , قولها إنما يأكلن العلقة من الطعام هو بضم العين أي البلغة من الطعام وهو قدر ما يمسك الرمق , قولها وليس بها منهم داع ولا مجيب أي ليس بها أحد لا من يدعو ولا من يرد جواباً , قولها فتيممت أي قصدت قولها قد عرس من وراء الجيش فأدلج , التعريس نزول المسافر في آخر الليل للراحة والإدلاج بالتشديد سير آخر الليل وبالتخفيف سير الليل كله , قولها باسترجاعه هو قوله ) إنا لله وإنا إليه راجعون ( " قولها فخمرت أي غطيت وجهي بجلبابي أي إزاري , قولها موغرين في نحر الظهيرة الوغرة شدة الحر وكذا نحر الظهيرة أي أولها , قولها والناس يفيضون أي يخوضون ويتحدثون , قولها وهو يريبني يقال رابني الشيء يريبني أي شككت فيه , قولها ولا أرى من النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) اللطف أي الرفق بها واللطف في الأفعال الرفق وفي الأقوال لين الكلام , قولها حتى نقهت أي أفقت من المرض والمناصع المواضع الخالية تقضي فيها الحاجة من غائط وبول وأصله المكان الواسع الخالي والمرط كساء من صوف أوخز , قولها تعس مسطح أي عثر وهو من الدعاء على الإنسان أي سقط لوجهه , قولها يا هنتاه أي بلهاء كأنها تنسبها إلى البله وقلة المعرفة , قولها لا يرقأ لي دمع أي لا ينقطع وقول بريرة إن رأيت بمعنى النفي أي ما رأيت منها أمراً أغمصه بالصاد المهملة أي أعيب والداجن الشاة التي تألف البيت وتقيم به : قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : من يعذرني أي من يقوم بعذري إن أنا كافأته على سوء صنيعه إن عاتبت أو عاقبت فلا تلوموني على ذلك قولها وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه أي من قبيلته قولها ولكن احتملته
(5/60)
صفحة رقم 61
الحمية أي حمله الغضب والأنفة والتعصب على الجهل للقرابة , قوله فتثاور الحيان أي ثاروا ونهضوا للقتال والمخاصمة , قولها فلم يزل يخفضهم أي يهون عليهم ويسكن , قوله ( صلى الله عليه وسلم ) إن كنت ألممت قيل هو من اللمم وهو صغائر الذنوب وقيل معناه مقارفة الذنب من غير فعل , قولها قلص دمعي أي انقطع جريانه , قولها ما رام أي ما برح من مكانه والبرحاء الشدة والكرب والجمانة وجمعها جمان فسري عنه أي كشف عنه وقول زينب أحمي سمعي وبصري أي أمنعهما أن أخبر بما لم أسمع ولم أبصر , قولها وهي التي كانت تساميني من السمو وهو العلو والغلبة فعصها الله أي منعها من الوقوع في الشر بالورع وقول الرجل ما كشفت من كنف أي من ستر أنثى قوله ويستوشيه أي يستخرجه بالبحث عنه والاستقصاء فيه وقول حسان في عائشة حصان بفتح الحاء يقال امرأة حصان أي متعففة رزان أي ثابتة ما تزن أي ترمي ولا تتهم بريبة أي بأمر يريب الناس حيية وتصبح غرثى أي جائعة والغرث الجوع من لحوم الغوافل جمع غافلة , والمعنى أنها لا تغتاب أحداً مما هو غافل عن مثل هذا الفعل وقول عائشة في حسان إنه كان ينافح أي يناضل ويخاصم عن الله ورسوله : وأما التفسير فقوله عزّ وجلّ ) إن الذين جاؤوا بالإفك ( أي بالكذب والإفك أسوأ الكذب لكونه مصروفاً عن الحق وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء والمدح بما كانت عليه من الحصانة والشرف والعقل والعلم والديانة فمن رماها بالسوء فقد قلب الحق بالباطل وجاء بالإفك , عصبة أي جماعة منكم أي عبد الله بن أبي ابن سلول ومسطح بن أثاثة وحسان بن
(5/61)
صفحة رقم 62
ثابت وحمنة بنت جحش زوجة طلحة ابن عبيدالله.
فإن قلت عبدالله بن أبي ابن سلول كان رأس المنافقين فكيف قال منكم.
قلت كان ينسب إلى الإيمان في الظاهر وقيل قوله منكم خرج مخرج الأغلب فإنّ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة كانوا من المؤمنين المخلصين ) لاتحسبوه شراً لكم ( يعني الإفك الخطاب لعائشة وصفوان وقيل لعائشة ولأبويها وللنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ولصفوان ) بل هو خير لكم ( يعني أن الله آجركم على ذلك وأظهر براءتكم وشهد بكذب العصبة وأوجب لهم الذم وهذا غاية الشرف والفضل لكم ) لكل امرىء منهم ( أي من العصبة الكاذبة ) ما اكتسب من الإثم ( أي جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه ) والذي تولى كبره ( يعني تحمل معظمه وبدأ بالخوض فيه وأقام بإشاعته وهو عبدالله بن أبي ابن سلول ) منهم ( من العصبة ) له عذاب عظيم ( يعني عذاب النار في الآخرة روي ( أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا جميعاً ثمانين ثمانين ).
)
النور : ( 12 - 21 ) لولا إذ سمعتموه...
" لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم " ( قوله عزّ وجلّ : ( لولا إذ سمعتموه ( يعني الحديث الكذب وهو قول أهل الإفك ) ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم ( بأخوانهم وأهل دينهم ) خيراً ( والمعنى كان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول أهل الإفك أن يكذبوه ويحسنوا الظن ولا يسرعوا في التهمة وقول الزور فيمن عرفوا عفته وطهارته وفيه معاتبة للمؤمنين ) وقالوا هذا إفك مبين ( يعني كذب بين لا حقيقة له ) لولا ( يعني هلا ) جاؤوا عليه ( يعني على ما زعموا ) بأربعة شهداء ( يعني يشهدون بذلك ) فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله ( يعني في حكم الله ) هم الكاذبون ( وهذا من باب الزواجر.
فإن قلت كيف يصيرون عن الله كاذبين إذا لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت.
قلت قيل هذا في حق الذين رموا عائشة خاصة معناه فأولئك هم الكاذبون في غيبي.
وعلمي وقيل معناه فأولئك عند الله في حكم الكاذبين فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب والقاذف إذا لم يأت بالشهود
(5/62)
صفحة رقم 63
يجب زجره.
قوله تعالى ) لولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم ( معناه لولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم به من حديث الإفك والخطاب للقذفة وهذا الفضل هو تأخير العذاب وقبول التوبة ممن تاب ) إذ تلقونه بألسنتكم ( أي يرويه بعضكم عن بعض وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا فيتلقونه تلقياً يلقيه بعضهم إلى بعض ) وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ( أي من غير أن تعلموا أنه حق ) وتحسبوه هيناً ( أي وتظنون أنه سهل لا إثم فيه ) وهو عند الله عظيم ( أي في الزور ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك ( قيل هو للتعجب وقيل هو للتنزيه ) هذا بهتان عظيم ( أي كذب عظيم يبهت ويحير منه عظمه.
روي أن أم أيوب الأنصاري قالت لأبي أيوب الأنصاري : ما بلغك ما يقول الناس في عائشة فقال : سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت الآية على وفق قوله ) يعظكم الله ( قال ابن عباس يحرم الله عليكم وقيل ينهاكم الله ) أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات ( أي في الأمر والنهي ) والله عليم ( أي بأمر عائشة وصفوان ) حكيم ( أي حكم ببراءتهما.
قوله عزّ وجلّ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة ( أي يظهر الزنا ويذيع ) في الذين آمنوا ( قيل الآية مخصوصة بمن قذف عائشة والمراد بالذين آمنوا جميع المؤمنين ) لهم عذاب أليم في الدنيا ( يعني الحد والذم على فعله ) والآخرة ( أي وفي الآخرة لهم النار ) والله يعلم ( أي كذبهم وبراءة عائشة وما خاضوا فيه من سخط الله ) وأنتم لا تعلمون ( وقيل معناه يعلم ما في قلب من يحب أن تشيع الفاحشة فيجازيه على ذلك وأنتم لا تعلمون ذلك ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته ( يعني لولا إنعامه عليكم لعاجلكم بالعقوبة قال ابن عباس يريد مسطحاً وحسان بن ثابت وحمنة ) وأن الله رؤوف رحيم (.
قوله تعالى :
) يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ( يعني آثاره ومسالكه ) ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ( يعني بالقبائح من الأقوال
(5/63)
صفحة رقم 64
والأفعال وكل ما يكره الله عزّ وجلّ والآية عامة في حق كل أحد لأن كل مكلف ممنوع من ذلك ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ( يعني ما طهر ولا صلح والآية عند بعض المفسرين على العموم قالوا أخبر الله تعالى أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح منكم أحد وقيل الخطاب للذين خاضوا في الإفك ومعناه ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل.
وهذا قول ابن عباس قال معناه ما قبل توبة أحد منكم أبداً ) ولكن الله يزكي ( يعني يظهر ) من يشاء ( من الذنب بالرحمة والمغفرة ) والله سميع ( يعني لأقوالكم ) عليم ( يعني بما في قولكم.
)
النور : ( 22 - 26 ) ولا يأتل أولوا...
" ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم " ( قوله : ( ولا يأتل ( يعني ولا يحلف من الألية وهي القسم ) أولوا الفضل منكم والسعة ( يعني الغنى يعني أبا بكر الصديق ) أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ( يعني مسطحاً وكان مسكيناً مهاجراً بدرياً ابن خالة أبي بكر الصديق حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه فأنزل الله هذه الآية ) وليعفوا وليصفحوا ( يعني عن خوض مسطح في أمر عائشة ) ألا تحبون ( يخاطب أبا بكر ) أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( فلما قرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أبي بكر قال بل أنا أحب أن يغفر الله لي ورجع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه وقال والله لا أنزعها عنه أبداً.
وفي الآية أدلة على فضل أبي بكر الصديق لأن الفضل المذكور في الآية ذكره تعالى في معرض المدح وذكره بلفظ الجمع في قوله أولوا الفضل وقوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم وهذا يدل على علو شأنه ومرتبته منها أنه احتمل الأذى من ذوي القربى ورجع عليه بما كان ينفقه عليه وهذا من أشد الجهاد لأنه جهاد النفس.
ومنها أنه تعالى قال في حق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فاعف عنهم واصفح ( " وقال في حق أبي بكر : ( وليعفوا وليصفحوا ( فدل أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلى الله عليه سلم في جميع الأخلاق.
وفي الآية دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ويكفّر عن يمينه ومنه الحديث الصحيح ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) قوله تعالى : ( إن الذين يرمون المحصنات ( يعني العفائف ) الغافلات ( يعني عن الفواحش والغافلة , عن الفاحشة هي التي لا يقع في قلبها فعل الفاحشة وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها ) المؤمنات ( وصفها بالمؤمنات لعلو شأنها ) لعنوا ( يعني عذبوا ) في الدنيا ( بالحد ) والآخرة ( يعني وفي الآخرة بالنار ) ولهم عذاب عظيم ( وهذا
(5/64)
صفحة رقم 65
في حق عبدالله بن أبي ابن سلول المنافق , وروي عن حصيف قال قلت لسعيد بن جبير من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة قال ذاك لعائشة وأزواج النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة دون سائر المؤمنات ليس في ذلك توبة ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ ) والذين يرمون المحصنات ( إلى قوله تابوا فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة وقيل بل لهم توبة أيضاً للآية ) يوم تشهد عليهم ألسنتهم ( هذا قبل أن يختم على أفواههم ) وأيديهم وأرجلهم ( يروي أنه يختم على الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا وهو قوله ) بما كانوا يعملون يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق ( يعني جزاءهم الواجب وقيل حسابهم العدل ) ويعلمون أن الله هو الحق المبين ( يعني الموجود الظاهر الذي بقدرته وجود كل شيء وقيل معناه يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا وقال ابن عباس وذلك أن عبدالله بن أبي ابن سلول كان يشك في الدين فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين.
قوله عزّ وجلّ ) الخبيثات للخبيثين ( قال أكثر المفسرين معنى الخبيثات الكلمات والقول للخبيثين من الناس ومثله ) والخبيثون ( أي من الناس ) للخبيثات ( من القول ) والطيبات ( أي من القول ومعنى الآية أن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس.
والطيب من القول لا يليق إلا بالطيب من الناس وعائشة لا يليق بها.
الخبيث من القول لأنها طيبة فيضاف إليها طيب القول من الثناء والمدح وما يليق بها وقيل معناه لا يتكلم بالخبيث إلى الخبيث من الرجال والنساء وهذا ذم للذين قذفوا عائشة ولا يتكلم بالطيب من القول إلا الطيب من الرجال والنساء.
وهذا مدح للذين يرونها بالطاهر والمدح لها وقيل معنى الآية الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء أمثال عبدالله بن أبي المنافق والشاكين في الدين والطيبات من النساء ) للطيبين والطيبون للطيبات ( يريد عائشة طيبها الله لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أولئك مبرؤون ( يعني عائشة وصفوان ذكرهما الله بلفظ الجمع منزهون ) مما يقولون ( يعني أصحاب الإفك ) لهم مغفرة ( أي عفو لذنوبهم ) ورزق كريم ( يعني الجنة روي أنّ عائشة كانت تفتخر بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها منها أن جبريل عليه السلام أتى بصورتها في سرفة حرير وقال هذه : زوجتك.
وروي أنه أتى بصورتها في راحته.
ومنها أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لم يتزوج بكراً غيرها وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حجرها وفي يومها ودفن في بيتها وكان ينزل عليه الوحي وهي معه في اللحاف ونزلت براءتها من السماء وأنها ابنة الصديق وخليفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وخلقت طيبة ووعدت مغفرة ورزقاً كريماً.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول
(5/65)
صفحة رقم 66
حدثتني الصديقة بنت الصدّيق حبيبة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المبرأة من السماء.
)
النور : ( 27 - 30 ) يا أيها الذين...
" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون " ( قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا ( أي تستأذنوا وكان ابن عباس يقرأ حتى تستأذنوا ويقال تستأنسوا خطأ من الكاتب ونفي هذه الرواية نظر لأن القرآن ثبت بالتواتر والاستئناس في اللغة الاستئذان.
وقيل الاستئناس طلب الإنس وهو أن ينظر هل في البيت إنسان فيؤذنه إني داخل وقيل هو من آنست أي أبصرت وقيل هو أن يتكلم بتسبيحة أو يتنحنح حتى يعرف أهل البيت ) وتسلموا على أهلها ( بيان حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد الاستئذان والسلام.
واختلفوا في أيهما يقدم فقيل يقدم الاستئذان فيقول أدخل سلام عليكم كما في الآية من تقديم الاستئذان قبل السلام.
وقال الأكثرون يقدم السلام فيقول سلام عليكم أأدخل وتقدير حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا وكذا هو في مصحف ابن مسعود وروي عن كند بن حنبل قال : ( دخلت على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : ولم أسلّم ولم أستأذن فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) ارجع فقل السلام عليكم أأدخل ( أخرجه أبو داود والترمذي وعن ربعي بن حراش قال ) جاء رجل من بني عامر فاستأذن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في البيت فقال ألج فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لخادمه اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له قل السلام عليكم أأدخل فسمع الرجل ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال السلام عليكم أأدخل فأذن له رسول الله صلى الله عليه سلم ( أخرجه أبو داود
( ق ) عن أبي سعيد وأبيّ ابن كعب عن أبي موسى قال أبو سعيد : ( كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال : استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت قال ما منعك قلت استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع ) قال والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال أبي بن كعب فوالله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال ذلك.
قال الحسن الأول إعلام والثاني مؤآمرة والثالث استئذان بالرجوع عن عبدالله بن بسر قال ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم السلام عليكم ) وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذٍ ستور أخرجه أبو داود وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن ( أخرجه أبو داود وقيل إذا وقع بصره على إنسان قدم السلام وإلاّ قدم الاستئذان ثم يسلم.
وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة يستأذن على ذوات المحارم يدل عليه ما روي ) عن عطاء بن يسار أن رجلاً سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : استأذن على أمي ؟ قال نعم فقال الرجل إني معها في البيت فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
استأذن عليها فقال الرجل إني خادمها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة قال لا قال فاستأذن عليها ( أخرجه مالك في المؤطأ مرسلاً وقوله تعالى ) ذلكم خير لكم ( أي فعل الاستئذان خير لكم وأولى بكم من التهجم بغير إذن ) لعلكم تذكرون ( أي
(5/66)
صفحة رقم 67
هذه الآداب فتعملوا بها.
قوله عزّ وجلّ ) فإن لم تجدوا فيها ( أي البيوت ) أحداً ( أي يأذن لكم في دخولها ) فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم ( أي في الدخول ) وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا ( يعني إذا كان في البيت قوم وكرهوا دخول الداخل عليهم فقالوا ارجع فليرجع ولا يقف على الباب ملازماً ) هو أزكى لكم ( أي الرجوع هو أطهر وأصلح لكم فإنّ للناس أحوالاً وحاجات يكرهون الدخول عليهم في تلك الأحوال وإذا حضر إلى الباب فلم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز.
كان ابن عباس يأتي دون الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه الرجل فإذا خرج ورآه قال يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني بمكانك فيقول هكذا أمرنا أن نطلب العلم.
وإذا وقف على الباب فلا ينظر من شقه إذا كان الباب مردوداً
( ق ) ) عن سهل بن سعد قال ( اطلع رجل من جحر في باب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ومع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مدرى يرجل وفي رواية يحك به رأسه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لو علمت أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الإذن من أجل البصر )
( ق ) عن أبي هريرة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه ) وفي رواية النسائي قال ( لو أن أمرأً أطلع عليك بغير إذن فحذفته ففقأت عينه ما كان
(5/67)
صفحة رقم 68
عليك حرج ) وقال مرة أخرى جناح ) والله بما تعملون عليم ( يعني من الدخول بالإذن ولما نزلت آية الاستئذان قالوا كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن فأنزل الله تعالى ) ليس عليكم جناح ( يعني إثم ) أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة ( يعني بغير استئذان ) فيها متاع لكم ( يعني منفعة لكم قيل إن هذه البيوت في الخانات والمنازل المبينة للسابلة ليأووا إليها ويؤوا أمتعتهم فيها فيجوز دخولها بغير استئذان ولمنفعة النزول بها واتقاء الحر والبرد وإيواء الأمتعة بها.
وقيل بيوت التجار وحوانيتهم في الأسواق يدخلها للبيع والشراء وهو منفعتها فليس فيها استئذان.
وقيل هي جميع البيوت التي لا ساكن فيها لأن الاستئذان إنما جعل لئلا يطلع على عورة فإن لم يخف ذلك جاز له الدخول بغير استئذان ) والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( قوله تعالى ) قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ( يعني عما لا يحل النظر إليه قيل معناه يغضوا أبصارهم.
وقيل من هنا للتعبيض لأنه لا يجب الغض عما يحل إليه النظر وإنما أمروا أن يغضوا عما لا يحل النظر إليه ( م ) عن جرير قال سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن نظرة الفجأة قال : ( اصرف بصرك ) عن بريدة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي : ( يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس لك الثانية ) أخرجه أبو داود والترمذي ( م ) عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لاينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد ) وقوله تعالى ) ويحفظوا فروجهم ( يعني عما لا يحل.
قال أبو العالية كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا في هذا الموضع فإن أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه.
فإن قلت كيف أدخل من على غض البصر دون حفظ الفرج.
قلت فيه دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وثديهن وأعضادن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات في البيع والأجنبية يجوز النظر إلى وجهها وكفيها للحاجة إلى ذلك وأما أمر الفروج فمضيق وكفاك أن أبيح النظر إلاّ ما استثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه.
فإن قلت كيف قدم غض البصر على حفظ الفرج.
قلت لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد ولا يكاد أحد يقدر على الاحتراس منه ) ذلك أزكى لهم ( يعني غض البصر وحفظ الفرج ) إنّ الله خبير بما يصنعون ( يعني أنه
(5/68)
صفحة رقم 69
خبير بأحوالهم وأفعالهم وكيف يجيلون أبصارهم وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم.
)
النور : ( 31 ) وقل للمؤمنات يغضضن...
" وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " ( قوله عزّ وجلّ : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ( يعني عما لا يحل لهن.
روي عن أم سلمى قالت : كنت عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده ميمونة بنت الحارث إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( احتجبا منه فقلنا : يا رسول الله أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه ) أخرجه الترمذي وأبو داود.
قوله تعالى ) ولا يبدين ( يعني لا يظهرن ) زينتهن ( يعني لغير المحرم وأراد بالزينة الخفية مثل الخلخال والخضاب في الرجل والسوار في المعصم والقرط في الأذن والقلائد في العنق فلا يجوز للمرأة إظهارها ولا يجوز للأجنبي النظر إليها والمراد من الزينة النظر إلى مواضعها من البدن ) إلا ما ظهر منها ( يعني من الزينة قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي الوجه والكفان.
وقال ابن مسعود هي الثياب.
وقال ابن عباس هي الكحل والخاتم والخضاب في الكف فما كان من الزينة الظاهرة يجوز للرجل الأجنبي النظر إليه للضرورة مثل تحمل الشهادة ونحوه من الضرورات إذا لم يخف فتنة وشهوة فإن خاف شيئاً من ذلك غض البصر وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة وسائر بدنها عورة ) وليضربن بخمرهن ( يعني ليلقين بمقانعهن ) على جيوبهن ( يعني موضع الجيب وهو النحر والصدر يعني ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وأقراطهن وصدورهن
( خ ) عن عائشة قالت : ( يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله ) وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن فاختمرن بها ( المرط كساء من صوف أو خز أو كتان وقيل هو الإزار وقيل هو الدرع ) ولا يبدين زينتهن ( يعني الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب وهي ما عدا الوجه والكفين ) إلا لبعولتهن ( قال ابن عباس لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن أو آبائهن ) أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخونهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن ( فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنية ولا ينظرون إلى مابين السرة والركبة.
ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدن زوجته غير أنه يكره له النظر
(5/69)
صفحة رقم 70
إلى فرجها ) أو نسائهن ( يعني المؤمنات من أهل دينهن أراد به أن يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة ما بين السرة والركبة ولا يجوز للمرأة المؤمنة أن تتجرد من ثيابها عند الذمية أو الكافرة لأن الله تعالى قال أو نسائهن والذمية أو الكافرة ليست من نسائنا ولأنها أجنبية في الدين فكانت أبعد من الرجل الأجنبي كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات.
وقيل يجوز كما يجوز أن تنكشف للمرأة المسلمة لأنها من جملة النساء ) أو ما ملكت أيمانهن ( قيل هو عبد المرأة فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً وأن ينظر إلى مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم.
وهو ظاهر القرآن يروى ذلك عن عائشة وأم سلمة : وروى أنس أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أتى إلى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما تلقى قال : إنه ليس عليكم بأس إنما هو أبوك وغلامك ( وقيل : هو كالأجنبي معها وهو قول سعيد بن المسيب.
قال والمراد من الآية الإماء دون العبيد ) أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ( قرىء غير بنصب الراء قال هو بمعنى الاستثناء ومعناه يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم فانهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة وقرىء غير بالجر على نعت التابعين والإربة والأرب الحاجة والمراد بالتابعين غير أولي الأربة هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم في النساء وقال ابن عباس هو الأحمق العنين وقيل هو الذي لا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن وقيل هو المجبوب والخصي وقيل هو الشيخ الهرم الذي ذهبت شهوته وقيل هو المخنت ( م ) عن عائشة رضي الله عنها : ( قالت كان يدخل على أزواج النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) مخنث وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال : إذا أقبلت بأربع وإذا أدبرت بثمان فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : ألا أرى هذا يعرف ما ها هنا لا يدخل عليكن هذا فاحجبوه ( زاد أبو داود في رواية ) وأخرجوه إلى البيداء يدخل كل جمعة فيستطعم ( قوله أقبلت بأربع أي أن لها في بطنها أربع عكن فهي تقبل إذا أقبلت بها وأراد بالثمان أطراف
(5/70)
صفحة رقم 71
العكن الأربع من الجانبين وذلك صفة لها بالسنون ) أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ( أي لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها وقيل : لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر وقيل لم يطيقوا أمر النساء وقيل لم يبلغوا حد الشهوة وقيل الطفولية اسم للصبي ما لم يحتلم ) ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ( قيل كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها ليسمع صوت خلخالها أو يتبين خلخالها فنهين عن ذلك وقيل إن الرجل تغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال ويصير ذلك داعية له زائدة في مشاهدتهن وقد علل ذلك بقوله تعالى : ( ليعلم ما يخفين من زينتهن ( فنبه به على أن الذي لأجله نهى عنه أن يعلم به ما عليهن من الحلي غيره ) وتوبوا إلى الله جميعاً ( أي من التقصير الواقع في أمره ونهيه وراجعوا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة قيل إن أوامر الله ونواهيه في كل باب لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها وإن ضبط نفسه واجتهد فلا ينفك عن تقصير يقع منه فلذلك وصى المؤمنين بالتوبة والاستغفار ووعد بالفلاح إذا تابوا واستغفروا فذلك قوله تعالى ) أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ( ( م ) عن الأغر أغر مزينة قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ) توبوا إلى ربكم فوالله إني لأتوب إلى ربي تبارك وتعالى مائة مرة في اليوم ( عن ابن عمر قال إن كنا لنعد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المجلس يقول : ( رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة ( أخرجه عبد الرحمن بن حميد الكشي
( ق ) عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عله وسلم : ( الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة ( ( م ) عن أبي هريرة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله
(5/71)
صفحة رقم 72
عليه (.
)
النور : ( 32 ) وأنكحوا الأيامى منكم...
" وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم " ( قوله عزّ وجلّ : ( وأنكحوا الأيامى منكم ( جمع الأيم يطلق على الذكر والأنثى وهو من لا زوج له من رجالكم ونسائكم ) والصالحين من عبادكم ( أي من عبيدكم ) وإمائكم ( بيان حكم الآية أمر ندب واستحباب لإجماع السلف عليه فيستحب لمن تاقت نفسه إلى النكاح ووجد أهبته أن يتزوج وإن لم يجد أهبته يكسر شهوته بالصوم
( ق ) عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) الباءة النكاح ويكنى به عن الجماع أيضاً والوجاء بكسر الواو رض الأنثيين وهو نوع من الخصاء شبه الصوم في قطعه شهوة النكاح بالوجاء الذي يقطع النسل عن معقل بن يسار قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) أخرجه أبو داود والنسائي ( م ) عن عبدالله بن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ) أما من لا تتوق نفسه إلى النكاح وهو قادر عليه فالتخلي للعبادة أفضل له من النكاح عند الشافعي وعند أصحاب الرأي النكاح أفضل.
قال الشافعي : قد ذكر الله عبداً أكرمه فقال وسيداً حصوراً وهو الذي لا يأتي النساء وذكر القواعد من النساء ولم يندبهن إلى النكاح وفي الآية دليل على أن تزويج الأيامى إلى الأولياء لأن الله خاطبهم به كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات.
وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم روي ذلك عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعائشة.
وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وشريح وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب الثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وجوز أصحاب الرأي للمرأة تزويج نفسها وقال مالك إن كانت المرأة دنيئة يجوز لها تزويج نفسها وإن كانت شريفة فلا والدليل على أن الولي شرط في النكاح ما روي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا نكاح إلا بولي ) أخرجه أبو داود والترمذي ولهما عن عائشة عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثاً فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها
(5/72)
صفحة رقم 73
فإن تشاحوا فالسلطان ولي من لا ولي له ) وقوله تعالى ) إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ( قيل الغنى هنا القناعة وقيل : هو اجتماع الرزقين رزق الزوج والزوجة وقال عمر بن الخطاب.
عجبت لمن يبتغي الغنى بغير النكاح والله تعالى يقول إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وقال بعضهم إن الله وعد الغنى بالنكاح وبالتفرق فقال تعالى ) إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ( وقال ) وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ( ) والله واسع ( يعني أنه ذو الإفضال والجود ) عليم ( أي بما يصلح خلقه من الرزق.
)
النور : ( 33 ) وليستعفف الذين لا...
" وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " ( قوله تعالى : ( وليستعفف الذي لا يجدون نكاحاً ( يعني ليطلب العقة عن الزنا والحرام الذين لا يجدون ما ينكحون به من الصدق والنفقة ) حتى يغنيهم الله من فضله ( يعني يوسع عليهم من رزقه ) والذين يبتغون الكتاب ( يعني يطلبون المكاتبة ) مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ( سبب نزول هذه الآية أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها وقتل يوم حنين في الحرب , بيان حكم الآية وكيفية المكاتبة وذلك أن يقول الرجل لمملوكه : كاتبتك على كذا من المال ويسمى مالاً معلوماً تؤدي ذلك في نجمين أو في نجوم معلومة في كل نجم كذا فإذا أديت ذلك فأنت حر ويقبل العبد ذلك , فإذا أدى العبد ذلك المال عتق ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد الكتابة وإذا عتق بأداء المال فما فضل في يده من المال فهو له ويتبعه أولاده الذي حصلوا في الكتابة في العتق وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق وما في يده من المال فهو لسيده لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه ( المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ) أخرجه أبو داود وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى ) فكاتبوهم ( أم إيجاب يجب على السيد أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيراً إذا سأل العبد ذلك على قيمته أو على أكثر من قيمته وإن سأل على أقل من قيمته لا يجب وهو قول عطاء وعمرو بن دينار لما روي أن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه وكان كثير المال فانطلق سيرين إلى
(5/73)
صفحة رقم 74
عمر فشكاه فدعاه عمر فقال له : كاتبه فأبى فضربه بالدرة وتلا فكاتبوهم ) إن علمتم فيهم خيراً ( فكاتبه وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ندب واستحباب ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي لأنه عقد جوز إرفاقاً بالعبد ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل فيحصل المقصود.
وجوز أبو حنيفة الكتابة إلى نجم وحالة واحدة واختلفوا في معنى قوله ) إن علمتم فيهم خيراً ( فقال أبن عمر قوة على الكسب وهو قول مالك والثوري وقيل مالاً , روي أن عبداً لسلمان الفارسي قال له : كاتبني قال ألك مال قال لا قال تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ولم يكاتبه قيل لو أراد به المال لقال أن علمتم لهم خيراً وقيل صدقاً وأمانة.
وقال الشافعي : أظهر معاني الخير في العبد الاكتساب مع الأمانة فأحب أن لا يمنع من المكاتبة إذا كان هكذا وعن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ثلاث حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله ) أخرجه الترمذي والنسائي وقيل معنى الخير أن يكون العبد عاقلاً بالغاً فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق وقوله تعالى ) وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ( قيل هو خطاب للموالي فيجب على السيد أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئاً وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة.
وبه قال الشافعي ثم اختلفوا في قدر ما يحط فقيل يحط الربع وهو قول علي ورواه بعضهم مرفوعاً.
وقال ابن عباس : يحط الثالث وقال الآخرون : ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء وبه قال الشافعي
(5/74)
صفحة رقم 75
قال نافع : كاتب عبدالله بن عمر غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم أخرجه مالك في الموطأ.
وقال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبة لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ويضع عنه من آخر كتابته ما أحب وقال بعضهم هو أمر استحباب والوجوب أظهر وقيل أراد بقوله ) وآتوهم من مال الله ( أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات وهو قوله وفي الرقاب أراد به المكاتب وهو قول الحسن وزيد بن أسلم.
وقيل : هو حث لجميع الناس على مؤنتهم واختلف العلماء فيما إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم فذهب كثير منهم إلى أنه يموت رقيقاً وترتفع الكتابة سواء ترك مالاً أو لم يترك وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال عمر بن عبدالعزيز والزهري وقتادة وإليه ذهب الشافعي وأحمد , وقال قوم : إن ترك وفاء ما بقي عليه من مال الكتابة كان حراً وإن فضل له مال كان لأولاده الأحرار.
وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال لأن عتقه معلق بالأداء وقد وجد وتتبعه أولاده وأكسابه كما في الكتابة الصحيحة لأن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم.
وقوله تعالى :
) ولا تكروهوا فتياتكم ( أي إماءكم ) على البغاء ( أي الزنا ) إن أردن تحصناً ( الآية ( م ) عن جابر قال كان عبد الله بن أبي ابن سلول يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئاً قال فأنزل الله ) ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً ( وفي رواية أخرى أن جارية لعبدالله بن أبي يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله ) ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ( إلى قوله ) غفور رحيم ( وقال المفسرون : نزلت في عبدالله بن أبي ابن سلول المنافق كانت له جاريتان يقال لهما مسيكة ومعاذة وكان يكرههما على الزنا لضريبة يأخذها منهما , وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤجرون إماءهم فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه , وإن يك شراً فقد آن لنا أن ندعه فأنزل الله هذه الآية وروي أن إحدى الجاريتين جاءت ببرد , وجاءت الآخرى بدينار فقال لهما ارجعا فازنيا فقالتا : والله
(5/75)
صفحة رقم 76
لا نفعل قد جاء الإسلام , وحرم الزنا فأتيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشكتا إليه فأنزل الله هذه الآية واختلف العلماء في معنى قوله إن أردن تحصناً على أقوال أحدها : أن الكلام ورد على سبب وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية , فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطاً فيه الثاني : إنما شرط إرادة التحصن لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن , فأمّا إذا لم ترد المرأة التحصن فإنها تبغي بالطبع طوعهاً الثالث : أن إن بمعنى أي إذا أردن وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن تحصناً , كقوله ) وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ( " أي إذا كنتم القول الرابع : أن في هذه الآية تقديماً وتأخيراً تقديره وأنكحوا الأيامى منكم إن أردتم تحصناً , ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) لتبتغوا ( أي لتطلبوا ) عرض الحياة الدنيا ( أي من أموال الدنيا يريد كسبهن , وبين أولادهن ) ومن يكرههن ( يعني على الزنا ) فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ( يعني للمكروهات والوزر على المكره , وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال لهن والله لهن والله.
)
النور : ( 34 - 35 ) ولقد أنزلنا إليكم...
" ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم " ( قوله تعالى : ( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ( أي من الحلال والحرام ) ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم ( أي شبهاً من حالكم بحالهم أيها المكذبون , وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق من كان قبلهم من المكذبين ) وموعظة للمتقين ( أي المؤمنين الذين يتقون الشرك والكبائر.
قوله عزّ وجلّ ) الله نور السموات والأرض ( قال ابن عباس : معناه الله هادي السموات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون , وبهدايته من حيرة الضلالة ينجون وقيل معناه الله منور السموات والأرض , نور السماء بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء وقيل : معناه مزين السموات والأرض زين السماء بالشمس والقمر والنجوم , وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين , ويقال : زين الأرض بالنبات والأشجار , وقيل : معناه إن الأنوار كلها منه وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح كما قال الشاعر :
إذا سار عبدالله عن مرو ليلة
فقد سار عنها نورها وجمالها
) مثل نوره ( أي مثل نور الله عز وجل في قلب المؤمن , وهو النور الذي يهتدي به وقال
(5/76)
صفحة رقم 77
ابن عباس مثل نوره الذي أعطى المؤمن , وقيل الكناية عائدة إلى المؤمن أي مثل نور قلب المؤمن وقيل أراد بالنور القرآن وقيل هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل هو الطاعة سمي طاعة الله نوراً , وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تشريفاً وتفصيلاً ) كمشكاة ( هي الكوة التي لا منفذ لها قيل : هي بلغة الحبشة ) فيها مصباح ( أي سراج وأصله من الضوء ) المصباح في زجاجة ( يعني القنديل وإنما ذأر الزجاجة لأن النور , وضوء النار فيها أبين من كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج ثم وصف الزجاجة , فقال تعالى ) الزجاجة كأنها كوكب دري ( من درأ الكوكب إذا اندفع منقضاً , فيتضاعف نوره في تلك الحال , وفي ذلك الوقت وقيل هو من درأ النجم إذا طلع , وارتفع وقيل دري أي شديد الإنارة نسب إلى الدر , في صفائه وحسنه وإن كان الكوكب أضوأ من الدر لكنه يفضل الكوكب بصفائه كما يفضل الدر على سائر اللؤلؤ وقيل الكوكب الدري أحد الكواكب الخمسة السيارة , التي هي زحل والمريخ والمشتري والزهرة وعطارد , قيل : شبهه بالكواكب ولم يشبهه بالشمس والقمر , لأنهما يلحقهما الكسوف بخلاف الكواكب ) يوقد ( أي اتقد المصباح ) من شجرة مباركة زيتونة ( أي من زيت شجرة مباركة كثيرة البركة , وفيها منافع كثيرة لأن الزيت يسرج به ويدهن به وهو إدام وهو أصفى الأدهان وأضوأها , وقيل : إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان وقيل : أراد به زيتون الشام لأنها هي الأرض المباركة , وهي شجرة لا يسقط ورقها , عن أسيد بن ثابت أو أبي أسيد الأنصاري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كلوا الزيت وادهنوا به
(5/77)
صفحة رقم 78
فإنه من شجرة مباركة ) أخرجه الترمذي.
وقوله ) لا شرقية ولا غربية ( أي ليست شرقيه وحدها فلا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية وحدها فلا تكون الشمس بالغداة , إذا طلعت بل مصاحبة للشمس طول النهار تصيبها الشمس عند طلوعها , وعند غروبها فتكون شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين فيكون زيتها أضوأ , وهذا معنى قول ابن عباس وقيل معناه أنها ليست في مقنأة لا تصيبها الشمس , ولا في مضحاة لا يصيبها الظل فهي لا تضرها شمس ولا ظل وقيل معناه أنها معتدلة ليست في شرق يضرها الحر , ولا في غرب يضرها البرد وقيل معناه هي شامية لأن الشام وسط الأرض , لا شرقي ولا غربي وقيل ليست هذه الشجرة من أشجار الدنيا لأنها لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية , وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ) يكاد زيتها يضيء ( أي من صفائه ) ولو لم تمسسه نار ( أي قبل أن تمسه النار ) نور على نور ( أي نور المصباح على نور الزجاجة.
فصل في بيان التمثيل المذكور في الآية
اختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل , فقيل : المراد به الهدى ومعناه أن هداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات , وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي فيها زجاجة صافية وفي تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء , والرقة والبياض فإذا كان كذلك كان كاملاً في صفائه , وصلح أن يجعل مثلاً لهداية الله تعالى وقيل وقع هذا التمثيل لنور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال ابن عباس لكعب الأحبار : أخبرني عن قوله تعالى ) مثل نوره كمشكاة ( قال كعب : هذا مثل ضربه الله لنبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة توقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة يكاد نور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمره يتبين للناس ولو لم يتكلم به أنه نبيّ كما يكاد ذلك الزيت يضيء , ولو لم تمسسه نار وروي عن ابن عمر في هذه الآية قال المشكاة : جوف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والزجاجة قلبه والمصباح النور الذي جعله الله فيه لا شرقية ولا غربية , لا يهودي ولا نصراني توقد من شجرة مباركة إبراهيم نور على نور قلب إبراهيم ونور قلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : وقال محمد بن كعب القرظي : المشكاة إبراهيم , والزجاجة إسماعيل والمصباح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعليهم أجمعين سمى الله محمداً مصباحاً , كما سماه سراجاً منيراً والشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام لأن أكثر
(5/78)
صفحة رقم 79
الأنبياء من صلبه لا شرقية ولا غربية , يعني إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً لأن اليهود تصلّي إلى الغرب , والنصارى تصلّي إلى الشرق يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار تكاد محاسن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تظهر للناس قبل أن يوحى إليه نور على نور نبي من نسل نبي نور محمد على نور إبراهيم , وقيل وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن قال أبيّ بن كعب , هذا مثل المؤمن فالمشكاة نفسه , والزجاجة قلبه والمصباح ما جعله الله فيه من الإيمان والقرآن توقد من شجرة مباركة هي شجرة الإخلاص لله وجده فمثله مثل شجرة التف بها الشجر فهي خضراء ناعمة نضرة , لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت فكذلك المؤمن , قد احترس أن يصيبه شيء من الفتن فهو بين أربع خلال إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن حكم عدل وإن قال صدق يكاد زيتها يضيء أي يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يتبين له لموافقته إياه , نور على نور قال أبي : فهو يتقلب في خمسة أنوار قوله نور , وعمله نور ومدخله نور , ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة وقال ابن عباس : هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسسه النار , فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم , فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونور على نور , وقال الكلبي : نور على نور يعني إيمان المؤمن وعمله.
وقيل نور الإيمان ونور القرآن وقيل هذا مثل القرآن فالمصباح هو القرآن فكما يستضاء بالمصباح فكذلك يهتدى بالقرآن والزجاجة قلب المؤمن , والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة المعرفة في قلبه , يكاد زيتها يضيء أي نور المعرفة يشرق في قلب المؤمن , ولو لم يمسسه النار وقيل تكاد حجة القرآن تتضح , وإن لم يقرأ نور على نور يعني القرآن نور من الله لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والإعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نوراً على نور.
قوله تعالى ) يهدي الله لنوره من يشاء ( قال ابن عباس : لدين الإسلام وهو نور البصيرة ) ويضرب الله الأمثال للناس ( أي يبين الله الأشياء للناس تقريباً إلى الأفهام , وتسهيلاً لسبيل الإدراك ) والله بكل شيء عليم (.
)
النور : ( 36 ) في بيوت أذن...
" في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال " ( قوله عزّ وجلّ : ( في بيوت ( أي ذلك المصباح يوقد في بيوت والمراد بالبيوت جميع المساجد بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض وقيل : المراد بالبيوت أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل , فجعلاها قبلة , وبيت المقدس
(5/79)
صفحة رقم 80
بناه داود وسليمان ومسجد المدينة بناه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومسجد قباء أسس على التقوى وبناه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً ) أذن الله أن ترفع ( أي تبنى وقيل : تعظم فلا يذكر فيها الخنى من القول وتطهر عن الأنجاس والأقذار ) ويذكر فيها اسمه ( قال ابن عباس يتلى فيها كتابه ) ويسبح له فيها ( أي يصلي له فيها ) بالغدو والآصال ( بالغداة والعشي قال أهل التفسير : أراد به الصلاة المفروضة فالتي تؤدّى بالغداة صلاة الفجر والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين , لأن اسم الأصيل يقع على هذا الوقت كله وقيل : أراد به الصبح والعصر.
عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من صلى صلاة البردين دخل الجنة أراد بالبردين صلاة الصبح , وصلاة العصر ) وقال ابن عباس : التسبيح بالغدو صلاة الضحى والآصال صلاة العصر عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم ( من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة كان أجره كأجر الحاج المحرم , ومن خرج إلى المسجد إلى تسبيح الضحى لا يعنيه إلا ذاك كان أجره كأجر المعتمر وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين ) أخرجه أبو داود.
)
النور : ( 37 - 40 ) رجال لا تلهيهم...
" رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " ( ) رجال ( قيل خص الرجال بالذكر في هذه المساجد , لأن النساء ليس عليهن حضور المساجد لجمعة ولا جماعة ) لا تلهيهم ( أي لا تشغلهم ) تجارة ( وقيل خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل الإنسان به عن الصلوات , والطاعات وأراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعاً , لأنه ذكر البيع بعده وقيل التجارة لأهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يده ) ولا بيع ( أي ولا يشغلهم بيع ) عن ذكر الله ( أي حضور المساجد لإقامة الصلوات ) وإقام الصلاة ( يعني إقامة الصلاة في وقتها لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة , وروي عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت
(5/80)
صفحة رقم 81
الصلاة فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم , ودخلوا المساجد فقال ابن عمر فيهم نزلت هذه الآية ) رجال لا تلهيهم تجارة , ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة ( ) وإيتاء الزكاة ( يعني المفروضة قال ابن عباس إذا حضر , وقت أداء الزكاة لا يحبسونها ) يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ( يعني أن هؤلاء الرجال , وإن بالغوا في ذكر الله والطاعات فإنهم مع ذلك وجلون خائفون لعلهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته.
قيل : إن القلوب تضطرب من الهول والفزع وتشخص الأبصار.
وقيل : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشك إلى اليقين وترفع عن الأبصار الأغطية.
وقيل : تتقلب القلوب بين الخوف والرجاء فتخشى الهلاك وتطمع في النجاة , وتتقلب الأبصار من هول ذلك اليوم , من أي ناحية يؤخذ بهم أمن ذات اليمين , أم من ذات الشمال ومن أي يؤتون كتبهم أمن اليمين أم من قبل الشمال ؟ وقيل : يتقلب القلب في الجوف , فيرفع إلى الحنجرة فلا ينزل ولا يخرج ويتقلب البصر فيشخص من هول الأمر وشدته ) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ( يعني أنهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا والمراد بالأحسن الحسنات كلها وهي الطاعات فرضها ونفلها , وذكر الأحسن تنبيهاً على أنه لا يجازيهم على مساوىء أعمالهم , بل يغفرها لهم وقيل : إنه سبحانه وتعالى يجزيهم جزاء أحسن من أعالمهم , على الواحد من عشرة إلى سبعمائة ضعف ) ويزيدهم من فضله ( يعني أنه سبحانه وتعالى يجزيهم بأحسن أعمالهم ولا يقتصر على ذلك بل يزيدهم من فضله ) والله يرزق من يشاء بغير حساب ( فيه تنبيه على كمال قدرته وكمال جوده وسعة إحسانه وفضله.
قوله تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ( لما ضرب مثلاً لحال المؤمن وأنه في الدنيا والآخرة في نور , وأنه فائز بالنعيم المقيم , أتبعه بضرب مثل لأعمال الكفار , وشبهه بالسراب وهو شبه ماء يرى نصف النهار عند شدة الحر في البراري يظنه من رآه ماء , فإذا قرب منه لم ير شيئاً.
والقيعة القاع وهو المنبسط من الأرض وفيه يكون السراب ) يحسبه ( أي يتوهمه ) الظمآن ( أي العطشان ) ماء حتى إذا جاء ( أي جاء ما قدر أنه ماء وقيل : جاء إلى موضع السراب ) لم يجده شيئاً ( أي لم يجده على ما قدره وظنه ووجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر من أعمال البر , يعتقد أنه له ثواباً عند الله وليس كذلك فإذا وافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه , بل وجد العقاب العظيم والعذاب الأليم فعظمت حسرته , وتناهى غمه فشبه حاله بحال الظمآن الذي اشتدت
(5/81)
صفحة رقم 82
حاجته إلى الماء , فإذا شاهد السراب في البر تعلق قلبه به فإذا جاءه لم يجده شيئاً فكذلك حال الكافر يحسب أن عمله , نافعه فإذا احتاج إلى عمله لم يجده أغنى عنه شيئاً ولا نفعه ) ووجد الله عنده ( أي وجد الله بالمرصاد وقيل : قدم على الله ) فوفاه حسابه ( أي جزاء عمله ) والله سريع الحساب ( معناه أنه عالم بجميع المعلومات فلا تشغله محاسبة واحد عن واحد.
ثم ضرب للكفار مثلاً آخر فقال تعالى ) أو كظلمات ( أعلم الله سبحانه وتعالى أن أعمال الكفار إن كانت حسنة , فهي كسراب بقيعة وإن كانت قبيحة فهي كظلمات , وقيل : معناه إن مثل أعمالهم في فسادها , وجهالتهم فيها كظلمات ) في بحر لجي ( أي عميق كثير الماء ولجة البحر معظمه ) يغشاه ( أي يعلوه ) موج من فوقه موج ( أي متراكم ) من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض ( معناه أن البحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب غموره الماء , فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى ) إذا أخرج يده لم يكد يراها ( أي لم يقرب أن يراها لشدة الظلمة وقيل : معناه لم يرها إلا بعد الجهد وقيل : لما كانت اليد من أقرب شيء يراه الإنسان قال : لم يكد يراها , ووجه التشبيه أن الله ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات : ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب , وكذلك الكافر له ثلاث ظلمات ظلمة الإعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل وقيل : شبه بالبحر اللجي قلبه , وبالموج ما يتغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة , وبالسحاب الختم والطبع على قلبه.
قال أبيّ بن كعب : الكافر يتقلب في خمس من الظلم كلامه ظلمة وعمله ظلمة , ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة , ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة في النار ) ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ( قال ابن عباس من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً , فلا دين له وقيل من لم يهده الله فلا هادي له قيل نزلت هذه الآية في عتبة بن ربيعة بن أمية , كان يلتمس الدين في الجاهلية ولبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر وعاند , والأصح أن الآية عامة في حق جميع الكفار.
)
النور : ( 41 - 45 ) ألم تر أن...
" ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير " ( قوله عزّ وجلّ : ( ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات ( أي باسطات أجنحتهن في الهواء قيل خص الطير بالذكر من جملة الحيوان لأنها تكون بين السماء والأرض , فتكون خارجة عن حكم من في السموات والأرض ) كل قد علم صلاته وتسبيحه ( قيل : الصلاة لبني آدم والتسبيح لسائر الخلق وقيل إن ضرب أجنحة الطير
(5/82)
صفحة رقم 83
صلاته وتسبيحه , وقيل : معناه إن كل مصل ومسبح علم الله صلاته وتسبيحه وقيل معناه كل مصل ومسبح منهم قد علم صلاة نفسه وتسبيحه ) والله عليم بما يفعلون ولله ملك السموات والأرض ( أي إن جميع الموجودات ملكه وفي تصرفه وعنه نشأت ومنه بدأت فهو واجد الوجود وقيل معناه أن خزائن المطر والرزق بيده ولا يملكها أحد سواه ) وإلى الله المصير ( أي وإلى الله مرجع العباد بعد الموت.
قوله تعالى ) ألم تر أن الله يزجي ( أي يسوق ) سحاباً ( بأمره إلى حيث يشاء من أرضه وبلاده ) ثم يؤلف بينه ( أي يجمع بين قطع السحاب المتفرقة بعضها إلى بعض ) ثم يجعله ركاماً ( أي متراكماً بعضه فوق بعض ) فترى الودق ( أي المطر ) يخرج من خلاله ( أي من وسطه وهو مخارج القطر ) وينزل من السماء من جبال فيها من برد ( قيل معناه وينزل من جبال من السماء وتلك الجبال من برد.
قال ابن عباس : أخبر الله أن في السماء جبالاً من برد وقيل معناه وينزل من السماء مقدار جبال في الكثرة من برد.
فإن قلت : ما الفرق بين من الأولى والثانية والثالثة.
قلت : من الأولى لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء , والثالثة للتجنيس لأن تلك الجبال من جنس البرد ) فيصيب به ( أي البرد ) من يشاء ( فيهلكه وأمواله ) ويصرفه عمن يشاء ( أي فلا يضره ) يكاد سنا برقه ( أي ضوء برق السحاب ) يذهب بالأبصار ( أي من شدة ضوئه وبريقه ) يقلب الله الليل والنهار ( أي يصرفهما في اختلافهما وتعاقبهما فيأتي بالليل ويذهب بالنهار ويأتي بالنهار ويذهب بالليل
( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال الله تعالى ( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر , وأنا الدهر بيدي الأمن أقلب الليل والنهار ) معنى هذا الحديث : أن العرب كانوا يقولون عند النوازل والشدائد أصابنا الدهر ويذمونه في أشعارهم فقيل لهم : لا تسبوا الدهر فإن فاعل ذلك هو الله عز وجل والدهر مصرف تقع فيه التأثيرات كما تقع بكم , وقوله تعالى ) إن في ذلك ( أي الذي ذكر من هذه الأشياء ) لعبرة لأولي الأبصار ( أي دلالة لأهل العقول والبصائر على قدرة الله وتوحيده.
قوله عز وجل ) والله خلق كل دابة من ماء ( أي
(5/83)
صفحة رقم 84
من نطفة وأراد به كل حيوان يشاهد في الدنيا ولا يدخل فيه الملائكة والجن , لأنا لا نشاهدهم وقيل : إن أصل جميع الخلق من الماء وذلك أن الله خلق ماء فجعل بعضه ريحاً ونوراً فخلق منه الملائكة وجعل بعضه ناراً فخلق منه الجن , وجعل بعضه طيناً فخلق منه آدم ) فمنهم من يمشي على بطنه ( أي كالحيات والحيتان والديدان ونحو ذلك ) ومنهم من يمشي على رجلين ( يعني مثل بني آدم والطير ) ومنهم من يمشي على أربع ( يعني كالبهائم والسباع.
فإن قلت كيف قال : خلق كل دابة من ماء مع أن كثيراً من الحيوانات يتولد من غير نطفة.
قلت ذلك المخلق من غير نطفة , لا بد أن يتكون من شيء , وذلك الشيء أصله من الماء فكان من الماء.
فإن قلت : فمنهم من يمشي ضمير العقلاء , فلم يستعمل في غير العقلاء.
قلت ذكر الله تعالى ما لا يعقل مع من يعقل لأن جعل الشريف أصلاً , والخسيس تبعاً أولى.
فإن قلت : لم قدم ما يمشي على بطنه على غيره من المخلوقات.
قلت قدم الأعجب , والأعرف في القدرة وهو الماشي بغير آلة المشي , وهي الأرجل والقوائم ثم ذكر ما يمشي على رجلين ثم ما يمشي على أربع.
فإن قلت : لم اقتصر على ذكر الأربع وفي الحيوانات ما يمشي على أكثر من أربع , كالعناكب والعقارب والرتيلا وما له أربع وأربعون رجلاً ونحو ذلك.
قلت هذا القسم كالنادر فكان ملحقاً بالأغلب وقيل : إن هذه الحيوانات اعتمادها على أربع في المشي والباقي تبع لها ) يخلق الله ما يشاء ( أي مما لا يعقل ولا يعلم ) إن الله على كل شيء قدير ( أي هو القادر على الكل العالم بالكل المطلع على الكل , يخلق ما يشاء كما يشاء لا يمنعه مانع ولا دافع.
)
النور : ( 46 - 55 ) لقد أنزلنا آيات...
" لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون " ( ) لقد أنزلنا آيات مبينات ( يعني القرآن هو المبين للهدى والأحكام والحلال والحرام ) والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( يعني إلى دين الإسلام الذي هو دين الله وطريقه إلى رضاه وجنته.
قوله تعالى ) ويقولون ( يعني المنافقين ) آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ( أي يقولونه : بألسنتهم من غير اعتقاد ) ثم يتولى فريق منهم ( أي يعرض على طاعة الله ورسوله ) من بعد ذلك ( أي من بعد قولهم آمناً , ويدعو إلى غير حكم الله قال الله تعالى ) وما أولئك بالمؤمنين ( نزلت هذه الآية في بشر المنافق , كان بينه وبين يهودي خصومة في أرض , فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقال المنافق بل نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمداً يحيف فأنزل الله هذه الآية ) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ( أي الرسول يحكم بحكم الله بينهم ) إذا فريق منهم معرضون ( يعني عن الحكم وقيل عن الإجابة ) وإن لم يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ( أي مطيعين منقادين لحكمه أي إذا كان الحكم لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لثقتهم أنه , كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضاً ) في قلوبهم مرض ( أي كفر ونفاق ) أم ارتابوا ( أي شكوا وهذا استفهام ذم وتوبيخ , والمعنى هم كذلك ) أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ( أي بظلم
(5/84)
صفحة رقم 85
) بل أولئك هم الظالمون ( أي لأنفسهم بإعراضهم عن الحق.
قوله عزّ وجلّ ) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ( أي إلى كتاب الله ) ورسوله ليحكم بينهم ( هذا تعليم أدب الشرع على أي من هذه صفته ) هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ( قال ابن عباس فيما ساءه وسره ) ويخش الله ( أي على ما عمل من الذنوب ) ويتقه ( أي فيما بعد ) فأولئك هم الفائزون ( يعني الناجون.
قوله تعالى ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( قيل : جهد اليمين أن يحلف بالله ولا يزيد على ذلك شيئاً ) لئن أمرتهم ليخرجن ( وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا , ولئن أقمت أقمنا , ولئن أمرتنا بالجهاد جاهدنا وقيل لما نزل بيان كراهتهم لحكم الله ورسوله قالوا للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا , وأموالنا ونسائنا لخرجنا , فكيف لا نرضى بحكمك فقال الله تعالى ) قل ( لهم ) لا تقسموا ( يعني لا تحلفوا , وتم الكلام ثم ابتدأ فقال ) طاعة معروفة ( يعني هذه طاعة القول باللسان دون الإعتقاد بالقلب , هي معروفة يعني أمر عرف منكم أنكم تكذبون , وتقولون ما لا تفعلون وقيل : معناه طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل ) إن الله خبير بما تعلمون ( يعني من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل ) قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ( يعني بقلوبكم وصدق نياتكم ) فإن تولوا ( يعني أعرضوا عن طاعة الله ورسوله ) فإنما عليه ( أي على الرسول ) ما حمل ( أي ما كلف وأمر به من تبليغ الرسالة ) وعليكم ما حملتم ( أي ما كلفتم من الإجابة والطاعة ) وإن تطيعوه تهتدوا ( أي تصيبوا الحق والرشد في طاعته ) وما على الرسل إلا البلاغ المبين ( أي التبليغ الواضح البين.
قوله عزّ وجلّ ) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ( قيل مكث النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة بعد الوحي عشر سنين مع أصحابه , وأمروا بالصبر على أذى الكفار فكانوا يصبحون ويمسون خائفين ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم : سلاحه فقال رجل منهم أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فأنزل الله هذه الآية , ومعنى ليستخلفنهم والله ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم , فجعلهم ملوكها
(5/85)
صفحة رقم 86
وساستها وسكانها ) كما استخلف الذين من قبلهم ( أي كما استخلف داوُد وسليمان وغيرهما من الأنبياء , وكما استخلف بني إسرائيل وأهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم ) وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى ( أي اختاره ) لهم ( قال ابن عباس يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان ) وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني ( آمنين ) لا يشركون بي شيئاً ( فأنجز الله وعده وأظهر دينه ونصر أولياءه وأبدلهم بعد الخوف أمناً وبسطاً في الأرض
( خ ) عن عدي بن حاتم قال : بينا أنا عندي النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل فقال : ( يا عدي هل رأيت الحيرة قلت : لم أرها ولقد أنبئت عنها قال فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترحل عن الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله قلت فيما بيني وبين نفسي , فإين دعار طيىء الذين قد سعروا البلاد , ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى قلت كسرى بن هرمز قال كسرى بن هرمز ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه وليلقين الله أحدكم يوم القيامة , وليس بينه وبينه ترجمان يترجم فليقولن ألم أبعث إليك رسولاً , فيبلغك فيقول بلى يا رب , ألم أعطك مالاً وأفضل عليك فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم , وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم ) قال عدي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( أتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة ) قال عدي : فرأيت الظعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلى الله وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز , ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم ( صلى الله عليه وسلم ) : يخرج الرجل ملء كفه ذهباً إلخ.
وفي الآية دليل على صحة خلافة أبي بكر الصديق والخلفاء الراشدين بعده , لأن في أيامهم كانت الفتوحات العظيمة وفتحت كنوز كسرى غيره من الملوك , وحصل الأمن والتمكين وظهور الدين عن سفينة قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً ) ثم قال : أمسك خلافة أبي بكر سنتين وخلافة عمر عشر سنين , وخلافة عثمان اثنتي عشر سنة وعلي ستاً قال علي : قلت لحماد القائل لسعيد أمسك سفينة قال نعم ( أخرجه أبو داود والترمذي بنحو هذا اللفظ.
قلت : كذا ورد هذا الحديث بهذا التفصيل , وفيه إجمال وتفصيله أن خلافة أبي بكر كانت سنتين وثلاثة أشهر , وخلافة عمر كانت عشر سنين وستة أشهر وخلافة عثمان اثنتي عشر سنة كما ذكر في الحديث , وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر ولهذا جاء في بعض روايات الحديث على كذا , ولم يبين تعيين مدته فعلى هذا
(5/86)
صفحة رقم 87
التفصيل تكون مدة خلافة الأئمة الأربعة تسعة وعشرين سنة وستة أشهر , وكملت ثلاثين سنة بخلافة الحسن كانت ستة أشهر ثم نزل عنها والله أعلم , وقوله تعالى ) ومن كفر بعد ذلك ( أراد به كفران النعمة ولم يرد الكفران بالله ) فأولئك هم الفاسقون ( أي العاصون قال أهل التفسير : أو من كفر بهذه النعمة و جحد حقها الذين قتلوا عثمان , فلما قتلوه غير الله الله مابهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتلون بعد أن كانوا إخواناً.
عن ابن أخي عبدالله بن سلام قال : ( لما أريد قتل عثمان جاء عبدالله بن سلام فقال عثمان : ما جاء بك قال : جئت في نصرك قال : اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجاً خير لي منك داخلاً , فخرج عبدالله إلى الناس فقال : أيّها الناس إن لله سيفاً مغموداً وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه فوالله إن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة , وليسلن الله سيفه المغمود عنكم فلا يغمد إلى يوم القيامة قالوا : اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان ( أخرجه الترمذي زاد في رواية غير الترمذي ) فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفاً , ولا خليفة إلا قتل به خسمة وثلاثون ألفاً (.
)
النور : ( 56 - 58 ) وأقيموا الصلاة وآتوا...
" وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " ( قوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ( أي افعلوا هذه الأشياء على رجاء الرحمة ) لا تحسبن الذي كفروا معجزين ( أي فائتين عنا ) في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير ( قوله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ( قال ابن عباس وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غلاماً من الأنصار يقال له : مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه , فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته عند ذلك فأنزل الله هذه الآية وقيل : نزلت في أسماء بنت مرثد كان لها غلام كبير فدخل عليها في وقت كرهته فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت إنا خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها , فأنزل الله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ( واللام لام الأمر وفيه قولان أحدهما : أنه على الندب والاستحباب والثاني : أنه على الوجوب وهو الأولى الذين ملكت أيمانكم يعني العبيد والإماء
(5/87)
صفحة رقم 88
) والذين لم يبلغوا الحلم منكم ( يعني الأحرار وليس المراد منهم الذين لم يظهروا على عورات النساء , بل المراد الذين عرفوا أمر النساء ولكنهم لم يبلغوا الحلم وهو سن التمييز والعقل وغيرهما , واتفق العلماء على أن الاحتلام بلوغ واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة , ولم يحتلم فقال أبو حنيفة لا يكون بالغاً حتى يبلغ ثمان عشرة سنة ويستكملها والجارية سبع عشرة سنة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد في الغلام والجارية بخمسة عشرة سنة يصير مكلفاً , وتجري عليه الأحكام وإن لم يحتلم ) ثلاث مرات ( أي ليستأذنوا في ثلاثة أوقات ) من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ( أي وقت المقيل ) ومن بعد صلاة العشاء ( وإنما خص هذه الثلاثة الأوقات , لأنها ساعات الخلوات ووضع الثياب , فربما يبدو من الإنسان ما لا يجوز أن يراه أحد من العبيد والصبيان , فأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات وغير العبيد والصبيان يستأذن في جميع الأوقات ) ثلاث عورات لكم ( سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدوا عورته ) ليس عليكم ولا عليهم ( يعني العبيد والخدم والصبيان ) جناح ( أي حرج في الدخول عليكم بغير استئذان ) بعدهن ( أي بعد هذه الأوقات الثلاثة طوافون عليكم ) أي العبيد والخدم يترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالكم بغير أذن ) بعضكم على بعض ( أي يطوف بعضكم على بعض ) كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقيل : إنها منسوخة حكي ذلك عن سعيد بن المسيب , روى عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا يا ابن العباس كيف ترى في هذه ا لآية التي أمرنا بها , ولا يعمل بها أحد قول الله عزّ وجلّ ) يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت ايمانكم ( الآية فقال ابن عباس : إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجاب فربما دخل الخدم أو الولد أو يتيم الرجل والرجل على أهله فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات , فجاءهم الله بالستور والخير ( فلم أرد أحداً يعمل بذلك بعد.
أخرجه أبو داود في رواية عنه نحوه وزاد فرأيي أن ذلك أغنى عن الاستئذان في تلك العورات , وذهب قوم إلى أنها غير منسوخه روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قال : ( سألت الشعبي عن هذه الآية ليستأذنكم الذي ملكت أيمانكم أمنسوخة هي ؟ قال : لا والله قلت إن الناس لا يعملون بها قال الله تعالى المستعان وقال سعيد بن جبير في هذه الآية أن ناساً يقولون : نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس قيل ثلاث آيات ترك الناس العمل بهن هذه الآية وقوله ) إن أكرمكم عند الله أتقاكم ( " والناس يقولون أعظمكم بيتاً ) وإذا حضر القسمة أولو القربى ( " الآية.
(5/88)
صفحة رقم 89
)
النور : ( 59 - 61 ) وإذا بلغ الأطفال...
" وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون " ( وقوله عزّ وجلّ : ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم ( أي الاحتلام يريد الأحرار الذين بلغوا ) فليستأذنوا ( أي يستأذنوا في جميع الأوقات في الدخول عليكم ) كما استأذن الذين من قبلكم ( أي الأحرار الكبار ) كذلك يبين الله لكم آياته ( أي دلالته وقيل أحكامه ) والله عليم ( أي بأمور خلقه ) حكيم ( بما دبر وشرع قال سعيد بن المسيب : يستأذن الرجل على أمه فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك , وسئل حذيفة أيستأذن الرجل على والدته قال نعم إن لم تفعل رأيت منها ما تكره قوله ) والقواعد من النساء ( يعني اللاتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر فلا يلدن ولا يحضن ) اللاتي لا يرجون نكاحاً ( أي لا يردن الأزواج لكبرهن , وقيل : هن العجائز اللواتي إذا رآهن الرجال استقذروهن فأما من كانت فيها بقية جمال وهي محل الشهوة فلا تدخل في حكم هذه الآية ) فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ( أي عند الرجال والمعنى بعض يثابهن وهو الجلباب والرداء الذي فوق الثياب , والقناع الذي فوق الخمار فأما الخمار فلا يجوز وضعه ) غير متبرجات بزينة ( أي من غير أن يردن وضع الجلباب والرداء إظهار زينتهن.
والتبرج هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما يجب عليها أن تستره ) وأن يستعففن ( أي فلا يلقين الجلباب ولا الرداء ) خير لهن والله سميع عليم ( قوله عز وجل ) ليس على الأعمى حرج ( اختلف العلماء في هذه الآية فقال ابن عباس : لما أنزل الله ) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى , الزمنى والعمى والعرج وقالوا الطعام أفضل الأموال وقد نهانا الله عز وجل عن أكل الأموال بالباطل , والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لا يتمكن من الجلوس , ولا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفى من الطعام حقه فأنزل الله هذه الآية فعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في أي ليس في الأعمى , والمعنى ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والمريض والأعرج حرج وقيل كان العميان والعرجان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأن الناس يقذرونهم ويكرهون مؤاكلتهم , وكان الأعمى يقول ربما آكل أكثر من ذلك ويقول الأعرج والأعمى ربما أجلس مكان اثنين فنزلت هذه الآية , وقيل : نزلت ترخيصاً لهؤلاء في الأكل من بيوت من سماهم الله في باقي الآية , وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل في طلب الطعام فإذا لم يكن عنده شيء , ذهب بهم إلى بيت أبيه أو بيت أمه أو بعض من سمى الله تعالى فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك ويقولون ذهب بنا إلى غير بيته فأنزل الله هذه الآية وقيل : كان المسلمون إذا غزوا دفعوا مفاتيح بيوتهم إلى الزمنى ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا , فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وأصحابها غيب فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم وقيل نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد فعلى هذا تم الكلام عند قوله
(5/89)
صفحة رقم 90
) ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ( وقوله تعالى ) ولا على أنفسكم ( كلام مستأنف قيل لما نزلت ) ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( " قالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل من أحد فأنزل الله تعالى ) ولا على أنفسكم ( ) أن تأكلوا من بيوتكم ( أي لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم , قيل أراد من أموال عيالكم وبيوت أزواجكم لأن بيت المرأة كبيت الزوج , وقيل بيوت أولادكم ونسب بيوت الأولاد إلى الآباء لما جاء في الحديث ( أنت ومالك لأبيك ) ) أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه ( قال ابن عباس : عني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته ماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمرة ضيعته , ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر , وقيل يعني بيوت عبيدكم ومماليككم , وذلك أن السيد يملك منزل عبده , والمفاتح الخزائن ويجوز أن يكون المفتاح الذي يفتح به , وإذ ملك الرجل المفتاح فهو خازن , فلا بأس أن يأكل الشيء اليسير , وقيل : ما ملكتم مفتاحه أي ماخزنتموه عندكم ما ملكتموه ) أو صديقكم ( الصديق هو الذي صدقك في المودة ؛ قال ابن عباس نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازياً مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وخلف مالك بن زيد على أهله , فلما رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك فأنزل الله تعالى هذه الآية , والمعنى أنه ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا
(5/90)
صفحة رقم 91
من غير أن تتزودوا وتحملوا ) ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً ( نزلت في بني ليث بن عمرو , وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفاً يأكل معه فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح , ربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يأتي من يشاربه , فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل وقال ابن عباس : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول : والله إني لأجنح أي أتحرج أن آكل معك , وأنا غني وأنت فقير فنزلت هذه الآية وقيل : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا أنزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم , فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا جميعاً , أي مجتمعين أو أشتاتاً أي متفرقين ) فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم ( أي ليسلم بعضكم على بعض هذا في دخول الرجل بيت نفسه يسلم على أهله , ومن في بيته قال قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليه , وإذا دخلت بيتاً ليس في أحد فقل السلام علينا , وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته , حدثنا أن الملائكة ترد عليه وقال ابن عباس إذا لم يكن في البيت أحد , فيلقل السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته وعن ابن عباس في قوله تعالى : ( فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم ( قال : إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) تحية من عند الله مباركة طيبة ( قال ابن عباس حسنة جميلة وقيل ذكر البركة والطيب ها هنا لما فيه من الثواب والأجر ) كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ( أي عن الله أمره ونهيه وآدابه.
)
النور : ( 62 - 64 ) إنما المؤمنون الذين...
" إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم " ( قوله عزّ وجلّ : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه ( أي مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على أمر جامع ( أي يجمعهم من حرب أو صلاة حضرت , أو جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر نزل ) لم يذهبوا ( أي لم يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عما اجتمعوا له ) حتى يستأذنوه ( قال المفسرون ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا صعد المنبر يوم الجمعة , وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , بحيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن
(5/91)
صفحة رقم 92
لمن شاء منهم ) قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده قال أهل العلم وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام يخالفونه , ولا يرجعون عنه إلا بإذن وإذا استأذن الإمام إن شاء أذن له وإن شاء لم يأذن وهذا إذا لم يكن حدث سبب يمنعه من المقام فإن حدث سبب يمنعه من المقام , بأن يكون في المسجد فتحيض امرأة منهم أو يجنب رجل أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان ) إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم ( أي أمرهم ) فأذن لمن شئت منهم ( أي في الانصراف والمعنى إن شئت فأذن إن شئت فلا تأذن ) واستغفر لهم الله ( أي إن رأيت لهم عذراً في الخروج عن الجماعة ) إن الله غفور رحيم ( قوله عز وجل ) لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ( قال ابن عباس رضي الله عنهما : يقول احذروا دعاء الرسول إذا اسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره وقيل معناه لا تدعوه باسمه , كما يدعو بعضكم بعضاً يا محمد يا عبدالله , ولكن فخموه وعظموه وشرفوه وقولوا يا نبيّ الله يا رسول الله في لين وتواضع ) قد يعلم الله الذين يتسللون ( أي يخرجون ) منكم لواذاً ( أي يستتر بعضهم ببعض ويروغ في خفية فيذهب قيل كانوا في حفر الخندق فكان المنافقون ينصرفون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مختفين وقال ابن عباس لواذاً أي يلوذ بعضهم ببعض , وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فكانوا يلوذون ببعض أصحابه , فيخرجون من المسجد في استتار وقوله قد يعلم فيه التهديد بالمجازاة ) فليحذر الذين يخالفون عن أمره ( أي يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذن ) أن تصيبهم فتنة ( أي لئلا تصيبهم فتنة أي بلاء في الدنيا ) أو يصيبهم عذاب أليم ( أي وجيع في الآخرة , ثم عظم الله نفسه.
فقال تعالى ( إلا إن الله ما في السموات والأرض ) أي ملكا وعبيدا ( قد يعلم ما أنتم عليه ) أي من الأيمان والنفاق ( ويوم يرجعون إليه ) فينبئهم بما عملوا ) أي من الخير والشر ( والله بكل شيء عليم ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ' لا تنزلوا النساء الغرف
(5/92)
صفحة رقم 93
ولا تعملوهن الكتابة وعلموهن الغزل وسورة النور ' أخرجه أبو عبد الله بن السبع في صحيحه والله سبحانه وتعالى أعلم
سورة الفرقان
تفسير سورة الفرقان مكية وهي سبع وسبعون آية وثمانمائة واثنتان وتسعون كلمة وثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثون حرفا.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
الفرقان : ( 1 - 2 ) تبارك الذي نزل...
" تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا " ( قوله عزّ وجلّ ) تبارك ( تفاعل من البركة قيل : معناه جاء لكل بركة وخير وقيل معناه تعظيم ) الذي نزل الفرقان ( أي القرآن سماه فرقاناً لأنه فرق بين الحق , والباطل والحلال والحرام وقيل لأنه نزل مفرقاً في أوقات كثيرة ولهذا قال نزل بالتشديد لتكثير التفريق ) على عبده ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليكن للعالمين ( أي للإنس والجن ) نذيراً ( قيل هو القرآن وقيل النذير هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) الذي له ملك السموات والأرض ( أي هو المتصرف فيهما كيف يشاء ) ولم يتخذ ولداً ( أي هو الفرد في وحدانيته , وفيه رد على النصارى ) ولم يكن له شريك في الملك ( يعني هو المنفرد بالإلهية , وفيه رد على الثنوية وعباد الأصنام ) وخلق كل شيء ( مما تطلق عليه صفة المخلوق ) فقدره تقديراً ( أي سواه هيأه لما يصلح له لا خلل فيه ولا تفاوت , وقيل : قدر كل شيء تقديراً من الأجل والرزق فجرت المقادير على ما خلق.
)
الفرقان : ( 3 - 8 ) واتخذوا من دونه...
" واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " ( قوله تعالى : ( واتخذوا ( يعني عبدة الأوثان ) من دونه آلهة ( يعني الأصنام ) لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ( يعني دفع ضر ولا جر نفع ) ولا يملكون موتاً ( أي إماتة ) ولا حياة ( أي إحياء ) ولا نشوراً ( أي بعثاً بعد الموت ) وقال الذين كفروا ( يعني النصر بن الحارث وأصحابه ) إن هذا ( أي ما هذا القرآن ) إلا إفك ( أي كذب ) افتراه ( أي اختلقه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأعانه عليه قوم آخرين ( قيل : هم اليهود وقيل عبيد بن الخضر الحبشي الكاهن , وقيل جبر ويسار وعداس بن عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب , فزعم المشركون أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يأخذ منهم قال الله تعالى ) فقد جاؤوا ( يعني قائلي هذه المقالة ) ظلماً وزوراً ( أي بظلم وزور , وهو تسميتهم كلام الله بالإفك والافتراء ) وقالوا أساطير الأولين اكتتبها ( يعني النضر بن الحارث كان يقول : إن هذا القرآن ليس من الله وإنما هو مما سطره الأولون
(5/93)
صفحة رقم 94
مثل حديث رستم واسفنديار ومعنى اكتتبها انتسخها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من جبر ويسار وعداس وطلب أن تكتب له لأنه كان لا يكتب ) فهي تملى عليه ( أي تقرأ عليه ليحفظها لأنه لا يكتب ) بكرة وأصيلاً ( يعني غدوة وعشية قال الله تعالى رداً عليهم ) قل ( يا محمد ) أنزله ( يعني القرآن ) الذي يعلم السر ( أي الغيب ) في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً ( أي لولا ذلك لعاجلهم بعذابه ) وقالوا مال هذا الرسول ( يعنون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) يأكل الطعام ( أي كما نأكل نحن ) ويمشي في الأسواق ( أي يلتمس المعاش كما نمشي نحن وإذا كان كذلك فمن أين له الفضل علينا , ولا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة وكانوا يقولون له لست بملك لأنك بشر مثلنا , والملك لا يأكل ولا يملك لأن الملك لا يتسوق وأنت تتسوق وتبتذل وما قالوه فاسد لأن أكله الطعام لكونه آدمياً , ولم يدع أنه ملك ومشيه في الأسواق لتواضعه وكان ذلك صفته في التوراة ولم يكن سخاباً في الأسواق وليس شيء من ذلك ينافي النبوة ولأنه لم يدع أنه ملك من الملوك ) لولا أنزل إليه ملك ( أي يصدقه ويشهد له ) فيكون معه نذيراً ( أي داعياً ) أو يلقى إليه كنز ( أي ينزل عليه كنز من السماء ينفقه فلا يحتاج إلى التصرف في طلب المعاش ) أو تكون له جنة ( يعني بستان ) يأكل منها ( أي هو فلا أقل من ذلك إن لم يكن له كنز ) وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ( يعني مخدوعاً وقيل مصروفاً عن الحق.
)
الفرقان : ( 9 - 17 ) انظر كيف ضربوا...
" انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل " ( ) انظر ( يا محمد ) كيف ضربوا لك الأمثال ( أي الأشباه التي لا فائدة لها فقالوا مسحور محتاج ) فضلوا ( أي عن الحق ) فلا يستطيعون سبيلاً ( إلى الهدى ومخرجاً عن الضلالة.
قوله تعالى ) تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك ( أي من الذي قالوا : وأفضل من البستان الذي ذكروا وقال ابن عباس يعني خيراً من المشي في الأسواق والتماس المعاش ثم بين ذلك الخير فقال ) جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً ( أي بيوتاً مشيدة عن أبي أمامة أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( عرض عليَّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً قلت لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً أو قال ثلاثاً أو نحو هذا , فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك ) عن عائشة قالت : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لو شئت لسارت معي جبال مكة ذهباً جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول : إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً فنظرت إلى جبريل فأشار إلي أن ضع نفسك , فقلت : نبياً عبداً قالت فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ذلك لا يأكل متكئاً يقول : أنا عبد آكل كما
(5/94)
صفحة رقم 95
يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد ) ذكر هذين الحديثين البغوي بسنده.
قوله تعالى : ( بل كذبوه بالساعة ( أي القيامة ) وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً ( أي ناراً مسعرة ) إذا رأتهم من مكان بعيد ( قيل : من مسيرة عام وقيل من مسيرة مائة عام.
فإن قلت : كيف تتصور الرؤية من النار وهو قوله إذا رأتهم.
قلت يجوز أن يخلق الله لها حياة وعقلاً ورؤية وقيل : معناه رأتهم زبانيتها ) سمعوا لها تغيظاً ( أي غلياناً كالغضبان إذا غلى صدره من الغضب ) وزفيراً ( أي صوتاً فإن قلت كيف يسمع التغليظ.
قلت : رأوا وعلموا لها تغيظاً وسمعوا لها زفيراً كما قال الشاعر :
ورأيت زوجك في الوغى
متقلداً سيفاً ورمحاً
" أي وحاملاً رمحاً , وقيل : سمعوا لها صوت التغيظ من التلهب والتوقد , وقال عبيد بن عمير : تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب , ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه ) وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً ( قال ابن عباس تضيق عليه كما يضيق الزج في الرمح ) مقرنين ( أي مصفودين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال , وقيل : مقرنين مع الشياطين في السلاسل ) دعوا هنالك ثبوراً ( قال ابن عباس : ويلاً وقيل هلاكاً وفي الحديث ( إن أول من يكسى حلة من النار إبليس , فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول يا ثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فينادي يا ثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم فيقال لهم ) لا تدعو اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً ( ) هكذا ذكره البغوي بغير سند , وقيل معناه هلاككم أكثر
(5/95)
صفحة رقم 96
من أن تدعوا مرة واحدة فادعوا أدعية كثيرة.
قوله عز وجل ) قل أذلك خير ( أي الذي ذكرت منه صفة النار وأهلها ) أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاءً ومصيراً ( أي ثواباً ومرجعاً لهم قال تعالى ) لهم فيها ما يشاؤون ( أي أن جميع المرادات لا تحصل إلا في الجنة , لا في غيرها.
فإن قلت : قد يشتهي الإنسان شيئاً , وهو لا يحصل في الجنة كأن يشتهي الولد ونحوه وليس هو في الجنة قلت إنّ الله يزيل ذلك الخاطر عن أهل الجنة , بل كان واحد من أهل الجنة مشتغل بما هو فيه من اللذات الشاغلة عن الالتفات إلى غيره ) خالدين ( أي في نعيم الجنة ومن تمام النعيم أن يكون دائماً , إذ لو انقطع لكان مشوباً بضرب من الغم وأنشد في المعنى :
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
) كان على ربك وعداً مسؤولاً ( أي مطلوباً , وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا ) ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ( " وقالوا ) ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ( يقول كان إعطاء الله المؤمنين جنة وعداً , وعدهم على طاعتهم إياه في الدنيا ومسألتهم إياه ذلك الوعد وقيل الطلبة من الملائكة للمؤمنين وذلك قولهم ) ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم (
قوله تعالى ) ويوم نحشر وما يعبدون من دون الله ( يعني من الملائكة والإنس والجن مثل عيسى والعزير , وقيل يعني الأصنام ثم يخاطبهم ) فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل ( أي أخطؤوا الطريق.
)
الفرقان : ( 18 - 23 ) قالوا سبحانك ما...
" قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " ( ) قالوا ( يعني المعبودين ) سبحانك ( نزهوا الله سبحانه وتعالى من أن يكون معه آلهة ) ما ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ( يعني ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك , بل أنت ولينا من دونهم وقيل معناه , ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك ونحن عبيدك ) ولكن متعتهم وآباءهم ( أي بطول العمر والصحة والنعمة في الدنيا ) حتى نسوا الذكر ( معناه تركوا المواعظ والإيمان بالقرآن وقيل تركوا ذكرك وغفلوا عنه ) وكانوا قوماً بوراً ( معناه هلكى أي غلب عليهم الشقاء والخذلان ) فقد كذبوكم ( هذا خطاب مع المشركين أي كذبكم المعبودون ) بما تقولون ( يعني أنهم آلهة ) فما يستطيعون ( أي الآلهة ) صرفاً ( أي صرف العذاب عن أنفسهم ) ولا نصراً ( يعني ولا نصر أنفسهم وقيل لا ينصرونكم أيها العابدون بدفع العذاب عنكم ) ومن يظلم منكم ( يعني يشرك ) نذقه عذاباً كبيراً (.
قوله عز وجل ) وما أرسلنا قبلك ( أي يا محمد ) من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام
(5/96)
صفحة رقم 97
ويمشون في الأسواق ( قال ابن عباس : لما عير المشركون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا ) ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ( " أنزل الله تعالى على هذه الآية والمعنى أن هذه عادة مستمرة من الله تعالى على رسله فلا وجه لهذا الطعن ) وما أنا إلا رسول ( " ) وما كنت بدعاً من الرسل ( " وهم كانوا بشراً مثلي , يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ( أي بلية قال ابن عباس أي جعلنا بعضكم بلاء بعض , لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا أنتم الهدى , قيل : نزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم رأى الوضيع , قد أسلم قبله فأنف وقال : أسلم بعده فيكون له السابقة والفضل علي فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام فذلك افتتان بعضهم ببعض وقيل : نزلت في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل السهمي والنضر بن الحارث وذلك أنهم رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار بن ياسر وبلالاً , وصهيباً وعامر بن فهيرة وذويهم , قد أسلموا قبلهم فقالوا : نسلم فنكون مثل هؤلاء وقيل : نزلت في ابتلاء فقراء المسلمين بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من موالينا وأراذلنا فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين ) أتصبرون ( أي على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى وقيل إن الغني فتنة الفقير يقول ما لي لم أكل مثله والصحيح فتنة المريض والشريف فتنة الوضيع ) وكان ربك بصيراً ( أي بمن صبر وبمن جزع
( ق ) عن أبي هريرة يبلغ به النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه بالمال والجسم فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم ) لفظ البخاري ولمسلم ( انظروا إلى من هو أسفل منكم , ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ).
قوله تعالى ) وقال الذين لا يرجون لقاءنا ( أي يخافون البعث والرجاء , بمعنى الخوف لغة تهامة ) لولا أنزل علينا الملائكة ( فتخبرنا أن محمداً صادق ) أو نرى ربنا ( فيخبرنا بذلك ) لقد استكبروا ( أي تعظموا ) في أنفسهم ( بهذه المقالة ) وعتوا عتواً كبيراً ( أي طغوا وقيل عتواً في القول وهو أشد الكفر والفحش وعتوهم , طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به.
قوله تعالى ) يوم يرون الملائكة ( أي عند الموت وقيل يوم القيامة ) لا بشرى يومئذٍ للمجرمين ( وذلك أن الملائكة يبشرون المؤمنين , يوم القيامة ويقولون للكفار :
(5/97)
صفحة رقم 98
لا بشرى لكم وقيل : لا بشارة لهم بالجنة كما بشر المؤمن ) ويقولون حجراً محجوراً ( قال ابن عباس تقول الملائكة حراماً محرماً أن يدخل الجنة , إلا من قال لا إله الله محمد رسول الله , وقيل : إذا خرج الكفار من قبورهم تقول لهم الملائكة حراماً محرماً عليكم أن تكون لكم البشرى وقيل هذا قول : الكفار للملائكة وذلك أن العرب كانت إذا نزلت بهم شدة ورأوا ما يكرهون قالوا حجراً محجوراً فهم يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة.
قوله عز وجل ) وقدمنا إلى ما عملوا من عمل ( يعني من أعمال البر التي عملوها في حال الكفر ) فجعلناه هباء منثوراً ( أي باطلاً لا ثواب له لأنهم لم يعملوه لله عز وجل ومنه الحديث الصحيح ( كل عمل ليس عليه أمرنا , فهو رد ) والهباء هو ما يرى في الكوة كالغبار , إذا وقعت الشمس فيها فلا يمس بالأيدي , ولا يرى في الظل والمنثور المفرق قال ابن عباس هو ما تسقيه الرياح , وتذريه من التراب كحطام الشجر وقيل هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير من الغبار.
)
الفرقان : ( 24 - 29 ) أصحاب الجنة يومئذ...
" أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا " ( قوله تعالى : ( أصحاب الجنة يومئذٍ ( أي يوم القيامة ) خير مستقراً ( أي من هؤلاء المشركين المستكبرين ) وأحسن مقيلاً ( أي موضع القائلة , وذلك أن أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر من أول النهار إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة قال ابن مسعود لا يتنصف النهار يوم القيامة حتى يقبل أهل الجنة في الجنة , وأهل النار في النار والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم لأن الله تعالى قال ) وأحسن مقيلاً ( والجنة لا نوم فيها قال ابن عباس الحساب في ذلك اليوم في أوله , ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون , كما بين العصر إلى غروب الشمس.
قوله تعالى ) يوم تشقق السماء بالغمام ( أي عن تشقق الغمام وهو غمام أبيض مثل الضبابة , ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم ) ونزل الملائكة تنزيلاً ( قال ابن عباس تشقق السماء الدنيا فينزل أهلها , وهم أكثر ممن في الأرض من الإنس والجن ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس ثم كذلك حتى تتشق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي تليها ثم تنزل الكروبيون
(5/98)
صفحة رقم 99
ثم حملة العرش ) الملك يومئذٍ الحق للرحمن ( أي الملك الذي هو الملك حقاً ملك الرحمن يوم القيامة , قال ابن عباس : يريد أن يوم القيامة لا ملك يقضي غيره ) وكان يوماً على الكافرين عسيراً ( أي شديد وفيه دليل على أنه لا يكون على المؤمنين عسيراً وجاء في الحديث ( أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ).
قوله تعالى ) ويوم يعض الظالم على يديه ( أراد بالظالم عقبة بن أبي معيط , وذلك أنه كان لا يقدم من سفر , إلا صنع طعاماً ودعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( فقدم ذات يوم من سفر , فصنع طعاماً ودعا الناس إليه ودعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما قرب الطعام , قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله , وإني رسول الله فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فأكل رسول الله صلى الله علي وسلم من طعامه.
وكان عقبة صديقاً لأبيّ بن خلف , فلما أخبر أبيّ بن خلف , قال له : يا عقبة صبأت , قال لا والله ما صبأت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له , فاستحييت أن يخرج من بيتي , ولم يطعم فشهدت له فطعم , فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً إلا أن تأتيه فتبزق في وجهه , ففعل ذلك عقبة فقال عليه الصلاة والسلام , لا أراك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف , فقتل عقبة يوم بدر صبراً وأما أبيّ بن خلف فقتله النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) بيده يوم أُحد ) , وقيل لما بزق عقبة في وجه النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) عاد بزاقه في وجهه , فاحترق خداه فكان أثر ذلك في وجهه , حتى قتل وقيل كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف , فأسلم عقبة فقال له أمية : وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمداً فكفر وارتد , فأنزل الله فيه ) ويوم يعض الظالم ( يعني عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف , على يديه , أي ندماً وأسفاً على ما فرط في جنب الله , وأوبق نفسه بالمعصية والكفر لطاعة خليله الذي صده عن سبيل ربه , قال عطاء : يأكل يديه حتى مرفقيه ثم ينبتان , ثم يأكلهما هكذا كلما نبتت يده أكلها على ما فعل , تحسراً وندامة ) يقول يا ليتني اتخذت ( أي في الدنيا ) مع الرسول سبيلاً ( أي ليتني اتبعت محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) واتخذت معه طريقاً
(5/99)
صفحة رقم 100
إلى الهداية ) يا ويلتى ( دعا على نفسه بالويل ) ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً ( قيل يعني أبي بن خلف ) لقد أضلني عن الذكر ( أي عن الإيمان والقرآن ) بعد إذ جاءني ( يعني الذكر مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم ) وكان الشيطان ( وهو كل متمرد عات صد عن سبيل الله من الجن والإنس ) للإنسان خذولاً ( أي كثير الخذلان يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب به وحكم الآية عام في كل خليلين , ومتحابين اجتمعا على معصية الله
( ق ) عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك أما أن يحذيك , وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيباً ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك , وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) أخرجه أبو داود والترمذي.
ولهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم ( لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي ).
)
الفرقان : ( 30 - 40 ) وقال الرسول يا...
" وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا " ( قوله عز وجل : ( وقال الرسول ( يعني ويقول الرسول في ذلك اليوم ) يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ( أي متروكاً وأعرضوا عنه , ولم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه وقيل جعلوه بمنزلة الهجر وهو السيىء من القول فزعموا أنه سحر وشعر , والمعنى أن محمداً صلّي الله عليه وسلّم , يشكو قومه إلى الله عز وجل يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً , فعزاه الله تعالى فقال ) وكذلك جعلنا ( أي وكما جعلت لك أعداء من مشركي مكة , وهم قومك كذلك جعلنا ) لكل نبي عدواً من المجرمين ( أي المشركين و المعنى لا يكبرن عليك ذلك فإن الأنبياء قبلك قد لقوا هذا من قومهم , فصبروا فاصبر أنت كما صبروا فإني ناصرك , وهاديك وهو قوله تعالى ) وكفى بربك هادياً ونصيراً ( قوله تعالى ) وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ( أي كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود صلوات الله عليهم أجمعين قال الله ) كذلك ( فعلنا ذلك ) لنثبت به فؤادك ( أي أنزلناه مفرقاً لنقوي به قلبك , فتعيه وتحفظه فإن الكتب المتقدمة نزلت على أنبياء , يكتبون ويقرؤون وأنزلنا
(5/100)
صفحة رقم 101
القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ , ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور تحدث في أوقات مختلفة ففرقناه ليكون أوعى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم , وأيسر على العامل به ) ورتلناه ترتيلاً (.
قال ابن عباس : وبيناه بياناً والترتيل التبيين في ترسل وتثبت وقيل فرقناه تفريقاً آية بعد آية ) ولا يأتونك ( يعني يا محمد هؤلاء المشركون ) بمثل ( يعني يضربونه لك في إبطال أمرك ) إلا جئناك بالحق ( أي بما ترد به ما جاؤوا به من ما يوردون المثل , وتبطله فسمي ما يوردون من الشبه مثلاً , وسمي ما يدفع به الشبه حقاً ) وأحسن تفسيراً ( يعني أحسن بياناً وتفصيلاً ثم ذكر ما لهؤلاء المشركين فقال تعالى ) الذين ( يعني هم الذين ) يحشرون ( أي يساقون ويجرون ) على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكاناً ( يعني منزلاً ومصيراً ) وأضل سبيلاً ( أي أخطأ طريقاً.
قوله تعالى ) ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً ( أي معيناً وظهيراً ) فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا ( يعني القبط ) فدمرناهم ( فيه إضمار أي فكذبوهما فدمرناهم ) تدميراً ( يعني أهلكناهم إهلاكاً ) وقوم نوح لما كذبوا الرسل ( يعني رسولهم ومن كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع الرسل فلذلك ذكره بلفظ الجمع ) أغرقناهم وجعلناهم للناس أية ( أي عبرة لمن بعدهم ) وأعتدنا للظالمين ( في الآخرة ) عذاباً أليماً ( يعني سيرى ما حل بهم من عاجل العذاب في الدنيا ) وعاداً وثمود ( أي أهكلنا عاداً وثمود ) وأصحاب الرس ( قال وهب بن منبه كان أهل بئر الرس نزولاً عليها , وكانوا أصحاب مواش يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيباً , يدعوهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وآذوا شعيباً فبينما هم حول البئر في منازلهم , انهارت البئر وخسف بهم وبديارهم ورباعهم وقيل : الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فأهلكهم الله.
وقال سعيد بن جبير : كان لهم نبي يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فأهلكهم الله وقيل الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار هم الذين ذكرهم الله في سورة ( يس ) وقيل هم أصحاب الأخدود والرس الأخدود ) وقروناً بين ذلك كثيراً ( أي
(5/101)
صفحة رقم 102
وأهلكنا قروناً كثيراً بين عاد وثمود وأصحاب الرس ) وكلاًّ ضربنا له الأمثال ( أي الأشباه في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار ) وكلاًّ تبرنا تتبيراً ( أي أهلكناهم إهلاكاً قوله تعالى ) ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ( يعني الحجارة وهي قريات قوم لوط , وهي خمس قرى أهلك الله منها أربعاً ونجت واحدة.
وهي أصغرها وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث ) أفلم يكونوا يرونها ( يعني إذا مروا بها في أسفارهم فيعتبروا ويتعظوا لأن مدائن قوم لوط كانت على طريقهم في ممرهم إلى الشام ) بل كانوا لا يرجون نشوراً ( يعني لا يخافون بعثاً.
)
الفرقان : ( 41 - 48 ) وإذا رأوك إن...
" وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا " ( قوله تعالى : ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً ( نزلت في أبي جهل كان إذا مر مع أصحابه قال مستهزئاً ) أهذا الذي بعث الله رسولاً إن كان ليضلنا ( يعني قد قارب أن يضلنا ) عن ( عبادة ) آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ( يعني على عبادتها والمعنى لو لم نصبر عليها لصرفنا عنها ) وسوف يعلمون حين يرون العذاب ( أي في الآخرة عياناً ) من أضل سبيلاً ( أي أخطأ طريقاً ) أرأيت من اتخذ إلهه هواه ( وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد حجراً , فإذا رأى حجراً أحسن منه رماه وأخذ الأحسن منه وعبده وقال ابن عباس : أرأيت من ترك عبادة الله خالقه ? ثم هوى حجراً فعبده ما حاله عندي وقيل الهوى إله يعبد ) أفأنت تكون عليه وكيلاً ( أي حافظاً تحفظه من اتباع الهوى وعبادة ما يهواه من دون الله والمعنى لست كذلك وقال الكلبي نسختها آية القتال ) أم تحسب أن أكثرهم يسمعون ( أي ما تقول سماع طالب الإفهام ) أو يعقلون ( يعني ما يعاينون من الحجج والأعلام وهذه المذمة أعظم من التي تقدمت , لأنهم لشدة عنادهم لا يسمعون القول وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه , فكأنهم لا سمع لهم ولا عقل البتة فعند ذلك شبههم بالأنعام فقال تعالى ) إن هم ( أي ما هم إلا كالأنعام أي في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكير ثم قال تعالى ) بل هم أضل سبيلاً ( لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها الذي يتعاهدونها , وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم لأن الأنعام تسجد وتسبح والكفار لا يفعلون ذلك.
قوله تعال ) ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ( هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس جعله ممدوداً , لأنه ظل لا شمس معه ) ولو شاء لجعله ساكناً ( يعني دائماً ثابتاً لا يزول ولا تذهبه الشمس
(5/102)
صفحة رقم 103
) ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ( معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل , ولولا النور لما عرفت الظلمة , والأشياء تعرف بضدها ) ثم قبضناه ( يعني الظل ) إلينا قبضاً يسيراً ( يعني بالشمس التي تأتي عليه والمعنى أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس فإذا طلعت الشمس قبض الله الظل جزأ فجرأ قبضاً خفيفاً ) وهو الذي جعل لكم الليل لباساً ( يعني ستراً تسترون به والمعنى أن الظلمة الليل تغشى كل شيء كاللباس , الذي يشتمل على لابسه ) والنوم سباتاً ( يعني راحة لأبدانكم وقطعاً لأعمالكم ) وجعل النهار نشوراً ( يعني يقظة وزماناً تنتشرون فيه لابتغاء رزقكم وطلب الاشتغال ) وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته ( يعني المطر ) وأنزلنا من السماء ماء طهوراً ( الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره فهو اسم لما يتطهر به بدليل ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
وأراد به المطهر والماء المطر لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة فثبت أن التطهير مختص بالماء وذهب أصحاب الرأي إلى أن الطهور وهو الطاهر حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة مثل الخل والريق ونحوها , ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها وذهب بعضهم إلى أن الطهور ما تكرر منه التطهير , وهو قول مالك حتى جوز الوضوء بالماء إذا توضىء به مرة , وإن وقع في الماء شيء غير طعمه أو لونه أو ريحه هل تزول طهوريته نظر إن كان الواقع شيئاً لا يمكن صون الماء عنه ? كالطين والتراب وأوراق الأشجار فتجوز الطهارة به كما لو تغير بطول المكث في قراره , وكذلك لو وقع فيه ما لا يختلط كالدهن يصب فيه فيتروح الماء برائحته تجوز الطهارة به لأن تغيره للمجاورة لا للمخالطة , وإن كان شيئاً يمكن صون الماء عنه , ومخالطته كالخل والزعفران ونحوهما تزل طهوريته فلا يجوز الوضوء به وإن لم يتغير أحد أوصافه نظر إن كان الواقع شيئاً طاهراً لا يزيل طهوريته يجوز الوضوء به سواء كان الماء قليلاً أو كثيراً , وإن كان الواقع شيئاً نجساً نظر فيه فإن كان الماء , أقل من قلتين نجس الماء وإن كان قدر قلتين فأكهر فهو طاهر يجوز الوضوء به والقلتان خمسمائة رطل بالبغدادي يدل عليه ما روي عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن الماء يكون في الفلاة , ترده السباع والذئاب فقال : ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ) أخرجه أبو داود والترمذي.
وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث , أن الماء إذا بلغ هذا الحد لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه , وذهب جماعة إلى أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه , وهذا قول الحسن وعطاء والنخعي والزهري واحتجوا بما روي عن أبي سعيد الخدري قال : ( قيل يا رسول الله إنه يستقى لك من بئر بضاعة ويلقى فيها لحوم الكلام وخرق الحيض وعذر النساء , فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) وفي رواية قال ( قلت يا رسول الله أيتوضأ من بئر بضاعة , وهي بئر تطرح فيها خرق الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الماء طهور
(5/103)
صفحة رقم 104
لا ينجسه شيء ) )
الفرقان : ( 49 - 57 ) لنحيي به بلدة...
" لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا " ( وقوله تعالى : ( لنحيي به ( أي بالمطر ) بلدة ميتاً ( قيل : أراد به موضع البلدة ) ونسقيه مما خلقنا ( أي نسقي من ذلك الماء ) أنعاماً وأناسيّ كثيراً ( أي بشراً كثيراً والأناسي جمع إنسي وقي لجمع إنسان قوله عز وجل ) ولقد صرفناه بينهم ( يعني المطر مرة ببلدة ومرة ببلدة أخرى وقال ابن عباس ما عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه في الأرض وقرأ هذه الآية ? وهذا كما روي مرفوعاً ( ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء ) وروي عن ابن مسعود يرفعه , قال : ليس من سنة بأمطر من سنة أخرى ولكن الله عزّ وجلّ قسم هذه الأرزاق فجعلها في هذه السماء الدنيا في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم , ووزن معلوم وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم وإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك المطر إلى الفيافي والبحار , وقيل : المراد من تصريف المطر تصريفه وابلاً وطشاً ورذاذاً ونحوها وقيل التصريف راجع إلى الريح ) ليذكروا ( أي ليتذكروا ويتفكروا في قدرة الله تعالى ) فأبى أكثر الناس إلى كفوراً ( أي جحوداً في كفرهم هو أنهم إذا مطروا قالوا أمطرنا بنوء كذا
( ق ) عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : صلّى بنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء من الليل , فلما انصرف أقبل على الناس فقال ( هل تدرون ماذا قال ربكم
(5/104)
صفحة رقم 105
قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح عن عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بن مؤمن بالكواكب ).
قوله تعالى : ( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً ( أي رسولاً ينذرهم ولكن بعثناك إلى القرى كلها وحملناك ثقل النذارة لتستوجب بصبرك ما أعددنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة ) فلا تطع الكافرين ( فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم ) وجاهدهم به ( أي بالقرآن ) جهاداً كبيراً ( أي شديداً.
قوله تعالى : ( وهو الذي مرج البحرين ( أي خلطهما وأفاض أحدهما على الآخر وقيل أرسلهما في مجاريهما ) هذا عذب فرات ( أي شديد العذوبة يميل إلى الحلاوة ) وهذا ملح أجاج ( أي شديد الملوحة وقيل مر ) وجعل بينهما برزخاً ( أي حاجزاً بقدرته فلا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب ) وحجراً محجوراً ( أي ستراً ممنوعاً فلا يبغي أحدهما على الآخر ولا يفسد الملح العذب.
قوله تعالى : ( وهو الذي خلق من الماء ( أي من النطقة ) بشراً فجعله نسباً وصهراً ( أي جعله ذا نسب وصهر وقيل النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل نكاحه والنسب ما يوجب الحرمة والصهر ما لا يوجبها وقيل النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح وقد حرم الله بالنسب سبعاً وبالسبب سبعاً ويجمعها قوله ) حرمت عليكم أمهاتكم ( " الآية وقد تقدم تفسير ذلك وبيانه في تفسير النساء ) وكان ربك قديراً ( على ما أراد حيث خلق من النطفة الواحدة نوعين من البشر الذكر والأنثى ) ويعبدون من دون الله ( يعني هؤلاء المشركين ) ما لا ينفعهم ( أي إن عبدوه ) ولا يضرهم ( أي إن تركوه ) وكان الكافر على ربه ظهيراً ( أي معيناً أعان الشيطان على ربه بالمعاصي لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان وقيل معنى ظهيراً هيناً ذليلاً من قولك ظهرت بفلان إذا جعلته وراء ظهرك ولم تلتفت إليه وقيل أراد بالكافر أبا جهل والأصح أنه عام في كل كافر.
وقوله تعالى : ( وما أرسلناك إلا مبشراً ( أي بالثواب على الإيمان والطاعة ) ونذيراً ( منذراً بالعقاب على الكفر والمعصية ) قل ( يا محمد ) ما أسألكم عليه ( أي على تبليغ الوحي ) من أجر ( فتقولون إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعوننا إليه فلا نتبعه
(5/105)
صفحة رقم 106
) إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً ( معناه لكن من شاء أن يتخذ بإنفاق ماله سبيلاً إلى ربه فعلى هذا يكون المعنى لا أسألكم لنفسي أجراً , ولكن أمنع من إنفاق المال إلا في طلب مرضاة الله , واتخاذ السبيل إلى جنته.
)
الفرقان : ( 58 - 64 ) وتوكل على الحي...
" وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " ( قوله عز وجل : ( وتوكل على الحي الذي لا يموت ( معناه أنه سبحانه وتعالى لما أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يطلب منهم أجراً البتة أمره أن يتوكل عليه في جميع أموره , وإنما قال على الحي الذي لا يموت لأن من توكل على حي يموت انقطع توكله عليه بموته , وأما الله سبحانه وتعالى فإنه حي لا يموت فلا ينقطع توكل من توكل عليه , ولا يضيع البتة ) وسبح بحمده ( أي صل له شكراً على نعمه وقيل : معناه قل سبحان الله والحمد لله ) وكفى به بذنوب عباده خبيراً ( يعني أنه تعالى علام بجميع ذنوب عباده فيجازيهم بها.
وقيل : معناه أنه لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير عالم قادر على مكافأتهم وفيه وعيد شديد , كأنه إذا قدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة.
قوله تعالى الذي ) خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً ( أي فاسأل الخبير بذلك , يعني بما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش.
وقيل : أيها الإنسان لا ترجع في طلب العلم , بهذا إلى غيري وقيل معناه فاسأل عنه خبيراً وهو الله تعالى وقيل : هو جبريل عليه السلام ) وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ( أي ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسليمة الكذاب كانوا يسمونه رحمان اليمامة ) أنسجد لما تأمرنا ( أنت يا محمد ) وزادهم ( يعني قول القائل اسجدوا للرحمن ) نفوراً ( يعني عن الإيمان والسجود.
فصل
وهذه السجدة من عزائم السجدات فيسن للقارىء , والمستمع أن يسجدا عند سماعها وقراءتها.
قوله تعالى ) تبارك الذي جعل في السماء بروجاً ( قيل : البروج هي النجوم الكبار سميت بروجاً لظهورها , وقيل : البروج قصور فيها الحرس.
وقال ابن عباس : هي البروج الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة , وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت سميت بالبروج , التي هي القصور
(5/106)
صفحة رقم 107
العالية لأنها للكواكب كالمنازل لسكانها ) وجعل فيها سراجاً ( يعني الشمس ) وقمراً منيراً وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ( قال ابن عباس معناه خلفاً , وعوضاً يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر.
قال شقيق : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب.
قال فاتتني الصلاة الليلة قال أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك , فإنّ الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر.
وقيل جعل كل واحد منهما مخالفاً لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض وقيل يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب هذا جاء هذا فهماً يتعقبان في الضياء , والظلمة والزيادة والنقصان ) لمن أراد أن يذكر ( أي يتذكر ويتعظ ) أو أراد شكوراً ( يعني شكر نعمة ربه عليه فيهما.
قوله عز وجل ) وعباد الرحمن ( قيل هذه الإضافة للتخصيص , والتفضيل وإلا فالخلق كلهم عباد الله ) الذين يمشون على الأرض هوناً ( يعني بالسكينة والوقار متواضعين غير أشرين , ولا مرحين ولا متكبرين بل علماء حكماء , أصحاب وقار وعفة ) وإذا خاطبهم الجاهلون ( يعني السفهاء بما يكرهونه ) قالوا سلاماً ( يعني سداداً من القول يسلمون فيه لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا ولم يجهلوا وليس المراد منه السلام المعروف وقيل هذا قبل أن يؤمروا بالقتال ثم نسختها آية القتال ويروى عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال : هذا وصف نهارهم ثم إذا قرأ ) والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ( قال هذا وصف ليلهم , والمعنى يبيتون لربهم في الليل بالصلاة سجداً على وجوههم وقياماً على أقدامهم.
قال ابن عباس , من صلّى بعد العشاء الأخيرة ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجداً وقائماً ( م ) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه : قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة كان
(5/107)
صفحة رقم 108
كقيام ليلة ).
)
الفرقان : ( 65 - 70 ) والذين يقولون ربنا...
" والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما والذين لا يدعون مع الله إلها
(5/108)
صفحة رقم 109
آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما " ( قوله عز وجل : ( والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً ( أي ملحاً دائماً لازماً غير مفارق من عذب من الكفار.
قال محمد بن كعب القرظي : سأل الله الكفار ثمن نعمته فلم يؤدوه فأغرمهم فبقوا في النار , وقال كل غريم مفارق غريمه إلا جنهم.
وقيل : الغرام الشر اللازم والهلاك الدائم ) إنها ( يعني جهنم ) ساءت ( بئست ) مستقراً ومقاماً ( أي موضع قرار وإقامة ) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ( قيل الإسراف النفقة في معصية الله , وإن قلت والإقتار منع حقوق الله تعالى وهو قول ابن عباس.
وقيل : الإسراف مجاوزة الحد في الإنفاق , حتى يدخل في حد التبذير والإقتار التقصير عما لا بد منه وهو أن لا يجيع عياله ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف ) وكان بين ذلك قواماً ( أي قصداً وسطاً بين الإسراف والإقتار وحسنة بين السيئتين قيل : هذه الآية في صفة أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا لا يأكلون الطعام للتنعم واللذة لا يلبسون ثوباً للجمال , ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ومن الثياب ما يسترون به العورة , ويقيهم من الحر والبرد.
قال عمر بن الخطاب كفى سرفاً أن لا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله ) والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر (
( ق ) عن ابن عباس ( أن أناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : إن الذين تقول وتدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل ) والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ( ونزل ) قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ( ) ق ) عن عبدالله بن مسعود قال : قال رجل ) يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله : قال : تدعوا لله نداً وهو خلقك , قال : ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك.
قال : ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك , فأنزل الله تعالى تصديقه , والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم إلا بالحق ولا يزنون ( ) ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ( أي ومن يفعل شيئاً من ذلك يلق أثاماً قال ابن عباس إنما يريد جزاء الإثم , وقيل عقوبة وقيل : الأثام واد في جهنم ويروى في الحديث ) أن الغي والأثام بئران في جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار ( ) يضاعف له العذاب يوم القيامة ( وسبب تضعيف العذاب , أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك يضاعف له العذاب على شركه ومعصيته ) ويخلد فيه مهاناً ( أي ذليلاً.
قوله تعالى : ( إلا من تاب ( أي عن ذنبه ) وآمن ( يعني بربه ) وعمل عملاً صالحاً ( أي فيما بينه وبين ربه روي عن ابن عباس رضي الله عنه عنهما قال : قرأناها على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سنين والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر الآية ثم نزلت إلا من تاب فما رأيت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فرح بشيء قط مثل ما فرح بها وفرحه بإنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ).
وقوله تعالى ) فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ( قال ابن عباس : يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام فيبدلهم بالشرك إيماناً , وبقتل المؤمنين قتل المشركين , وبالزنا عفة وإحصاناً وقيل يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات يوم القيامة ( م ) عن أبي ذر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة , وآخر أهل النار خروجاً منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغارها فيقال له : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر , وهو شفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا فقال فلقد رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ضحك حتى بدت نواجذه وقيل إن الله تعالى يمحو بالندم جميع السيئات ثم ثبت مكان كل سيئة حسنة ).
(5/109)
صفحة رقم 110
)
الفرقان : ( 71 - 77 ) ومن تاب وعمل...
" ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما " ( ) ومن تاب وعمل صالحاً ( قيل هذا في التوبة من غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا ومعناه , ومن تاب من الشرك وعمل صالحاً يعني أدّى الفرائض ممن لم يقتل ولم يزن ) فإنه يتوب إلى الله ( أي يعود إليه بعد الموت ) متاباً ( أي حسناً يفضل على غيره ممن قتل وزنى فالآية الأولى وهي قوله : ومن تاب رجوع عن الشرك والثانية رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.
وقيل : هذه الآية أيضاً في التوبة عن جميع اليسئات ومعناه من أراد التوبة , وعزم عليها فليتب إلى الله فقوله يتوب إلى الله خبر بمعنى الأمر أي تب إلى الله وقيل معناه فليعلم أن توبته ومصيره إلى الله تعالى.
قوله تعالى ) والذين لا يشهدون الزور ( يعني الشرك وقيل هي شهادة الزور
( ق ) عن أبي بكر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا : بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين , وكان متكئاً فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة , ويسخم وجهه ويطوف به في الأسواق وقيل : لا يشهدون الزور يعني أعياد المشركين وقيل : الكذب وقيل : النوح وقيل لا يساعد أهل الباطل على باطلهم وقيل الزور اللهو واللعب والغناء.
قال ابن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع.
وأصل الزور حقيقة تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق ) وإذا مرو باللغو ( هو كل ما يجب أن يلغى ويترك ) مروا كراماً ( يعني إذا سمعوا من الكافر الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا فعلى هذا التفسير , تكون الآية منسوخة بآية القتال.
وقيل : اللغو المعاصي كلها , والمعنى إذا مروا بمجالس اللهو والباطل مروا كراماً أي مسرعين معرضين , وهو أن ينزه المرء نفسه ويكرمها عن هذه المجالس السيئة ) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً ( قيل : معناه أنه ليس فيه نفي الخرور إنما هو إثبات له ونفي الصمم والعمى والمعنى إذا ذكروا بها أكبوا على استماعها بأذان واعية وأقبلوا على المذكر بها بعيون مبصرة راعية.
وقيل : معناه لم يخروا أي لم يسقطوا ولم يقعوا عليها صماً وعمياناً , كأنهم بآذانهم صمم وبأعينهم عمى بل يسمعون ما يذكرون به , فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه.
قوله عز وجل ) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ( يعني أبراراً فيقرون أعيننا بذلك قيل : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته , وأولاده مطيعين لله عز وجل فيطمع أن يحلوا معه في الجنة فيتم سروره , وتقر عينه بذلك وقيل : إن العرب تذكر قرة العين عند السرور والفرح وسخنة العين عند الغم والحزن.
ويقال : دمع العين عند السرور والفرح بارد وعند الحزن حار وقيل معنى قرة العين
(5/110)
صفحة رقم 111
أن يصادف قلبه من يرضاه , فتقر عينه به عن النظر إلى غيره ) واجعلنا للمتقين إماماً ( يعني يقتدون في الخير بنا.
وقيل : معناه تقتدي بالمتقين وتقتدي بنا المتقون وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هدى وقيل : معناه أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعات المبلغ الذي يشار إليهم فيه ويقتدي بهم.
قال بعضهم : فيه دليل على أن الرياسة في الدين مطلوبة مرغوب فيها وقيل هذا من المقلوب معناه , واجعل المتقين لنا إماماً واجعلنا مقتدين مؤتمين بهم ) أولئك يجزون ( أي يثابون ) الغرفة ( الدرجة العالية الرفيعة في الجنة وقيل : يريد غرف الدر والزبرجد واللؤلؤ والياقوت في الجنة ) بما صبروا ( يعني على طاعة الله تعالى وأوامره وعلى أذى المشركين وقيل : بما صبروا عن الشهوات ) ويلقون فيها تحية ( أي ملكاً وقيل بقاء دائماً ) وسلاماً ( أي يسلم بعضهم على بعض أو يرسل الرب عز وجل إليهم السلام وقيل سلاماً أي سلامة من الآفات.
قوله تعالى ) خالدين فيها حسن مستقراً ومقاماً ( أي موضع قرار وإقامة.
قوله تعالى ) قل ما يعبأ بكم ربي ( أي ما يصنع ما يفعل بكم فوجودكم وعدمكم سواء , وقيل : معناه أي وزن مقدار لكم عنده ) لولا دعاؤكم ( إياه.
قيل معناه لولا عبادتكم إياه وقيل : لولا إيمانكم وقيل لولا دعاؤه إياكم إلى الإيمان فإذا آمنتم ظهر لكم عنده قدر.
وقيل : معناه ما يعبأ أي ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة.
وقيل معناه ما خلقتكم ولي إليكم حاجة إلا أن تسألوني , فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم ) فقد كذبتم ( أيها الكافرون يخاطب أهل مكة يعني أن الله دعاكم إلى توحيده وعبادته على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكذبتم الرسول ولم تجيبوه إلى الإيمان
(5/111)
صفحة رقم 112
) فسوف يكون لزاماً ( هذا تهديد لهم أي يكون تكذيبهم لزاماً قال ابن عباس : موتاً وقيل هلاكاً وقيل : قتالاً والمعنى يكون التكذيب لازماً لمن كذب فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله.
وقيل : معناه عذاباً دائماً وهلاكاً لازماً لمن كذب مفنياً يلحق بعضكم بعضاً وقيل : هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون وهو قول عبدالله بن مسعود وأبي بن كعب , يعني أنهم قتلوا يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازماً لهم
( ق ) عن عبدالله بن مسعود قال ( خمس قد مضين الدخان واللزام والروم والبطشة والقمر وفي رواية الدخان والقمر والروم واللزام والبطشة ) والله سبحانه وتعالى أعلم.
سورة الشعراء
( تفسير سورة الشعراء ) وهي مكية إلا أربع آيات من آخر السورة من قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون ' وهي مائتان وسبع وعشرون آية وألف ومائتان وتسع وسبعون كلمة وخمسة آلاف وخمسمائة وأربعون حرفاً روى عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ' أعطيت طه والطواسين من ألواح موسى عليه السلام '.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
الشعراء : ( 1 - 2 ) طسم
" طسم تلك آيات الكتاب المبين " ( قوله عز وجل ) طسم ( قال ابن عباس : عجزت العلماء عن علم تفسيرها وفي رواية أخرى عنه أنه قسم , وهو من أسماء الله تعالى و قيل اسم من أسماء القرآن , وقيل اسم السورة وقيل أقسم بطوله وسنائه وملكه ) تلك آيات ( أي هذه الآيات آيات ) الكتاب المبين ( قيل لما كان القرآن فيه دلائل التوحيد , والإعجاز الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ودلائل الأحكام أجمع ثبت بذلك أن آيات القرآن كافية مبينة لجميع الأحكام.
)
الشعراء : ( 3 - 8 ) لعلك باخع نفسك...
" لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين " ( ) لعلك باخع نفسك ( أي قاتل نفسك ) ألا يكونوا مؤمنين ( أي إن لم يؤمنوا وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك وكان يحرص على إيمانهم , فأنزل الله عز وجل هذه الآية ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( أي لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلون منها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله سبحانه وتعالى.
وقيل : معناه لو شاء الله لأراهم أمراً من أمره لا يعمل أحد منهم بعده معصية.
(5/112)
صفحة رقم 113
فإن قلت : كيف صح مجيء خاضعين خبراً عن الأعناق.
قلت أصل الكلام فظلوا لها خاضعين , فأقحمت ا لأعناق لبيان الخضوع وترك الكلام على أصله أو لما , وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خاضعين.
وقيل : أعناق الناس رؤساؤهم ومقدموهم أي فظلت كبراؤهم لها خاضعين وقيل أراد بالأعناق الجماعات , يقال جاء عنق من الناس أي جماعة قوله تعالى ) وما يأتيهم من ذكر من الرحمن ( أي وعظ وتذكير ) محدث ( أي محدث إنزاله فهو محدث التنزيل وكلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول ) إلا كانوا عنه معرضين ( أي عن الإيمان به ) فقد كذبوا فسيأتيهم ( أي فسوف يأتيهم ) أنباء ( أي أخبار وعواقب ) ما كانوا به يستهزئون أولم يروا إلى الأرض ( يعني المشركين ) كم أنبتنا فيها ( أي بعد أن لم يكن فيها نبات ) من كل زوج كريم ( أي جنس ونوع وصنف حسن من النبات مما يأكل الناس والأنعام , قال الشعبي : الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم ) إن في ذلك ( أي الذي ذكر ) لآية ( تدل على أنه واحد أي دلالة على كمال قدرتنا وتوحيدنا كما قيل :
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
و ) وما كان أكثرهم مؤمنين ( أي سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون ولا يصدقون.
)
الشعراء : ( 9 - 19 ) وإن ربك لهو...
" وإن ربك لهو العزيز الرحيم وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " ( ) وإن ربك لهو العزيز ( أي المنتقم من أعدائه ) الرحيم ( ذو الرحمة لأوليائه.
قوله تعالى ) وإذ نادى ( أي واذكر يا محمد إذ نادى ) ربك موسى ( أي حين رأى الشجرة والنار ) أن ائت القوم الظالمين ( يعني الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي وظلموا بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب ) قوم فرعون ( يعني القبط ) ألا يتقون ( أي يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته والإيمان به ) قال ( يعني موسى ) رب ( أي يا رب ) إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ( أي بتكذيبهم إياي ) ولا ينطلق لساني ( أي للعقدة التي كانت على لسانه ) فأرسل إلى هارون ( ليوازرني ويعينني على تبليغ الرسالة ) ولهم عليَّ ذنب ( أي دعوى ذنب وهو قتله القبطي ) فأخاف أن يقتلون ( أي به ) قال ( الله تعالى ) كلا ( أي لن يقتلوك ) فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ( أي سامعون ما تقولون وما يقال لكم.
فإن قلت : كيف ذكرهم بلفظ الجمع في قوله معكم وهما
(5/113)
صفحة رقم 114
اثنان.
قلت : أجراهما مجرى الجماعة , وهو جائز في لغة العرب ) فائتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ( فإن قلت هلا ثنى الرسول كما في قوله : فائتياه فقولا إنا رسولا ربك.
قلت : الرسول قد يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة فجعله ثم بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته , وجعله هنا بمعنى الرسالة فجازت التسوية فيه , إذا وصف به الواحد والتثنية والجمع والمعنى أنا ذو رسالة كما قال كثير :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم
بشيء ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة وقيل إنهما لاتفاقهما في الرسالة , والشريعة والإخوة فصارا كأنهما رسول واحد وقيل كل واحد منا رسول رب العالمين ) أن أرسل معنا بني إسرائيل ( أي خلهم وأطلقهم معنا إلى أرض فلسطين , ولا تستعبدهم وكان فرعون قد استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفاً , فانطلق موسى برسالة ربه إلى مصر وهارون بها فأخبره بذلك , وفي القصة أن موسى رجع إلى مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصاه والمكتل معلق في رأس العصا , وفيه زاده فدخل دار نفسه وأخبر هارون أن الله قد أرسلني إلى فرعون وأرسل إليك ندعو فرعون إلى الله تعالى فخرجت أمهما فصاحت وقالت : إن فرعون يطلبك ليقتلك فإذا ذهبت إليه , قتلك فلم يمتنع لقولها وذهبا إلى باب فرعون وذلك بالليل فدقا الباب ففزع البوابون , وقالوا : من بالباب فقال أنا موسى رسول رب العالمين فذهب البوابون إلى فرعون وقالوا إن مجنوناً بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين فترك حتى أصبح ثم دعاهما وقيل إنهما انطلقا جميعاً إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول , ثم دخل البواب فقال لفرعون ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين فقال فرعون : ائذن له لعلنا نضحك منه فدخلا على فرعون وأديا رسالة الله تعالى فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته ف ) قال ( له ) ألم نريك فينا وليداً ( يعني صبياً ) ولبثت فينا من عمرك سنين ( أي ثلاثين سنة ) وفعلت فعلتك التي فعلت ( يعني قتلت القبطي ) وأنت من الكافرين ( قال أكثر المفسرين من الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي يقول ربيناك فينا فكافأتنا أن قتلت منا نفساً , وكفرت نعمتنا وهي رواية عن ابن عباس قال إن فرعون لم يكن يعلم الكافر بالربوبية ولأن الكفر غير جائز على الأنبياء لا قبل النبوة , ولا
(5/114)
صفحة رقم 115
بعدها وقيل معناه وأنت من الكافرين بفرعون وإلهيته ) قال ( يعني موسى ) فعلتها إذاً وأنا من الضالين ( أي من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله لأن فعل الوكزة على وجه التأديب لا على وجه القتل وقيل من الضالين عن طريق الصواب وقيل من المخطئين ) ففررت منكم ( اي إلى مدين ) لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً ( يعني النبوة وقيل العلم والفهم ) وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ( أي اتخذتهم عبيداً قيل : عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه لم يقتله كما قتل ولدان بني إسرائيل , ولم يستعبده كما استعبد بني اسرائيل فيكون معنى الآية , وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني اسرائيل وتركتني فلم تستعبدني , وقيل هو على طريق الإنكار ومعنى الآية أو تلك نعمة على طريق الاستفهام , فحذف الألف كما قال عمر بن عبدالله بن ربيعة : لم أنس يوم الرحيل وقفتها
وطرفها من دموعها غرق
وقولها والركاب واقفة
تتركني هكذا وتنطلق
أي أتتركني , والمعنى أتمن علي أن ربيتني , وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملات القبيحة أو يريد كيف تمن علي بالتربية , وقد استعبدت قومي ومن أهين قومه فقد ذل فتعبد بني إسرائيل قد أحبط حسناتك إلي , ولو لم تستعبدهم ولم تقتل أولادهم لم أرفع إليك تربيني وتكلفني , ولكان لي من أهلي من يربيني ولم يلقوني في اليم.
الشعراء : ( 20 ) قال فعلتها إذا...
" قال فعلتها إذا وأنا من الضالين )
الشعراء : ( 21 - 22 ) ففررت منكم لما...
" ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " ( ) وإن ربك لهو العزيز ( أي المنتقم من أعدائه ) الرحيم ( ذو الرحمة لأوليائه.
قوله تعالى ) وإذ نادى ( أي واذكر يا محمد إذ نادى ) ربك موسى ( أي حين رأى الشجرة والنار ) أن ائت القوم الظالمين ( يعني الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي وظلموا بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب ) قوم فرعون ( يعني القبط ) ألا يتقون ( أي يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته والإيمان به ) قال ( يعني موسى ) رب ( أي يا رب ) إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ( أي بتكذيبهم إياي ) ولا ينطلق لساني ( أي للعقدة التي كانت على لسانه ) فأرسل إلى هارون ( ليوازرني ويعينني على تبليغ الرسالة ) ولهم عليَّ ذنب ( أي دعوى ذنب وهو قتله القبطي ) فأخاف أن يقتلون ( أي به ) قال ( الله تعالى ) كلا ( أي لن يقتلوك ) فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ( أي سامعون ما تقولون وما يقال لكم.
فإن قلت : كيف ذكرهم بلفظ الجمع في قوله معكم وهما اثنان.
قلت : أجراهما مجرى الجماعة , وهو جائز في لغة العرب ) فائتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ( فإن قلت هلا ثنى الرسول كما في قوله : فائتياه فقولا إنا رسولا ربك.
قلت : الرسول قد يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة فجعله ثم بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته , وجعله هنا بمعنى الرسالة فجازت التسوية فيه , إذا وصف به الواحد والتثنية والجمع والمعنى أنا ذو رسالة كما قال كثير :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بشيء ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة وقيل إنهما لاتفاقهما في الرسالة , والشريعة والإخوة فصارا كأنهما رسول واحد وقيل كل واحد منا رسول رب العالمين ) أن أرسل معنا بني إسرائيل ( أي خلهم وأطلقهم معنا إلى أرض فلسطين , ولا تستعبدهم وكان فرعون قد استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفاً , فانطلق موسى برسالة ربه إلى مصر وهارون بها فأخبره بذلك , وفي القصة أن موسى رجع إلى مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصاه والمكتل معلق في رأس العصا , وفيه زاده فدخل دار نفسه وأخبر هارون أن الله قد أرسلني إلى فرعون وأرسل إليك ندعو فرعون إلى الله تعالى فخرجت أمهما فصاحت وقالت : إن فرعون يطلبك ليقتلك فإذا ذهبت إليه , قتلك فلم يمتنع لقولها وذهبا إلى باب فرعون وذلك بالليل فدقا الباب ففزع البوابون , وقالوا : من بالباب فقال أنا موسى رسول رب العالمين فذهب البوابون إلى فرعون وقالوا إن مجنوناً بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين فترك حتى أصبح ثم دعاهما وقيل إنهما انطلقا جميعاً إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول , ثم دخل البواب فقال لفرعون ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين فقال فرعون : ائذن له لعلنا نضحك منه فدخلا على فرعون وأديا رسالة الله تعالى فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته ف ) قال ( له ) ألم نريك فينا وليداً ( يعني صبياً ) ولبثت فينا من عمرك سنين ( أي ثلاثين سنة ) وفعلت فعلتك التي فعلت ( يعني قتلت القبطي ) وأنت من الكافرين ( قال أكثر المفسرين من الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي يقول ربيناك فينا فكافأتنا أن قتلت منا نفساً , وكفرت نعمتنا وهي رواية عن ابن عباس قال إن فرعون لم يكن يعلم الكافر بالربوبية ولأن الكفر غير جائز على الأنبياء لا قبل النبوة , ولا بعدها وقيل معناه وأنت من الكافرين بفرعون وإلهيته ) قال ( يعني موسى ) فعلتها إذاً وأنا من الضالين ( أي من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله لأن فعل الوكزة على وجه التأديب لا على وجه القتل وقيل من الضالين عن طريق الصواب وقيل من المخطئين ) ففررت منكم ( اي إلى مدين ) لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً ( يعني النبوة وقيل العلم والفهم ) وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ( أي اتخذتهم عبيداً قيل : عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه لم يقتله كما قتل ولدان بني إسرائيل , ولم يستعبده كما استعبد بني اسرائيل فيكون معنى الآية , وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني اسرائيل وتركتني فلم تستعبدني , وقيل هو على طريق الإنكار ومعنى الآية أو تلك نعمة على طريق الاستفهام , فحذف الألف كما قال عمر بن عبدالله بن ربيعة :
لم أنس يوم الرحيل وقفتها
وطرفها من دموعها غرق
وقولها والركاب واقفة تتركني هكذا وتنطلق
أي أتتركني , والمعنى أتمن علي أن ربيتني , وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملات القبيحة أو يريد كيف تمن علي بالتربية , وقد استعبدت قومي ومن أهين قومه فقد ذل فتعبد بني إسرائيل قد أحبط حسناتك إلي , ولو لم تستعبدهم ولم تقتل أولادهم لم أرفع إليك تربيني وتكلفني , ولكان لي من أهلي من يربيني ولم يلقوني في اليم.
)
الشعراء : ( 23 - 41 ) قال فرعون وما...
" قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين " ( ) قال فرعون وما رب العالمين ( يقول أي شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله أي يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه , وهو سؤال عن جنس الشيء , والله تعالى منزه عن الجنسية والماهية فلهذا عدل موسى عن جوابه , وأجابه بذكر أفعاله وآثار قدرته التي تعجز الخلائق عن الإتيان بمثلها ) قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ( أنه خالقهما فاعرفوا أنه لايمكن تعريفه إلا بما ذكرته لكم , فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا أنه لا جواب لكم عن هذا السؤال إلا ما ذكرته من الجواب , وقال أهل المعاني أي كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينونها , فأيقنوا أن إله الخلق هو الله تعالى الذي خلقها وأوجدها فلما قال ذلك موسى تحير فرعون في جواب
(5/115)
صفحة رقم 116
موسى ) قال لمن حوله ( أي من أشراف قومه قال ابن عباس : كانوا خمسمائة رجل عليه الأسورة ) ألا تستمعون ( وإنما قال فرعون : ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى , يعني أني إنما أطلب منها الماهية وخصوصية الحقيقة وهو يجيبني بأفعاله وآثاره وقيل : إنهم كانوا يعتقدون إن آلهتهم ملوكهم ثم زادهم موسى في البيان ) قال ربكم ورب آبائكم الأولين ( يعني أن موسى ذكر ما هو أقرب فقال ربكم يعني أنه خالقكم وخالق آبائكم الأولين ) قال ( يعني فرعون ) إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ( يعني المقصود من السؤال طلب الماهية , وهو يجيب بالآثار الخارجة وهذا لا يفيد البتة فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه , ويتكلم بكلامه لا نقبله ولا نعرف صحته , وكان عندهم أن من لا يعتقد ما يعتقدون ليس بعاقل فزاد في البيان ) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ( فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني , ومعنى إن كنتم تعقلون قد عرفتم أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت ) قال ( فرعون حين لزمته الحجة , وانقطع عنه الجواب تكبراً عن الحق ) لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين ( قيل كان سجن فرعون أشد من القتل , لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان يهوي فيه إلى الأرض وحده فرداً لا يسمع ولا يبصر فيه ) قال ( له موسى حين توعده بالسجن ) أولو جئتك بشيء مبين ( أي بآية بينة والمعنى أتفعل ذلك , ولو جئتك بحجة بينة وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بالبيان ) قال ( يعني فرعون ) فأت به ( أي إنا لن نسجنك حينئذٍ ) إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين قيل إنها لما صارت حية ارتفعت في السماء , قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون فقال : بالذي أرسلك ألا أخذتها فأخذها موسى , فعادت عصاً كما كانت فقال وهل غيرها قال نعم وأراه يده في أدخلها في جيبه ثم أخرجها , فإذا هي بيضاء من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس وهو قوله ) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ( فعند ذلك ) قال ( فرعون ) للملأ حوله إن هذا ( يعني موسى ) لساحر عليم ( وكان زمان السحر فلهذا روج فرعون هذا القول على قومه ثم قال ) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره ( قال هذا القول على سبيل التنفير لئلا يقبلوا قول موسى ) فما تأمرون ( يعني ما رأيكم فيه وما الذي أعمله فعند ذلك ) قاله أرجه وأخاه ( أي أخره وأخاه ) وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم ( قيل إن فرعون أراد قتل موسى فقالوا لا تفعل فإنك إن قتلته دخلت الناس شبهة في أمره ولكن أخره , واجمع له سحرة ليقاوموه ولا تثبت له عليك حجة.
قوله تعالى ) فجمع السحرة لميقات يوم معلوم ( يعني يوم الزينة قال ابن عباس وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة , وهو يوم النيروز ) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون ( أي لتنظروا ما يفعل الفريقان , ولمن تكون
(5/116)
صفحة رقم 117
الغلبة ) لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ( لموسى قيل أراد بالسحرة موسى وهارون وقالوا : ذلك على طريقة الاستهزاء ) فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين ( طلبوا من فرعون الجزاء , وهو بذل المال والجاه فبذل لهم ذلك كله.
)
الشعراء : ( 42 - 61 ) قال نعم وإنكم...
" قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون " ( وقوله : ( قال نعم وإنكم لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون ( أي بعظمة فرعون ) إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ( أي ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم قيل : إن عصى موسى صارت حية وابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم ثم أخذها موسى فإذا هي كما كانت أول مرة ) فألقي السحرة ساجدين ( قيل إنهم لما رأوا ما جاوز حد السحر علموا أنه ليس بسحر , ثم لم يتمالكوا أن خروا ساجدين ثم إنهم ) قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ( وإنما قالوا رب موسى وهارون , لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله ) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون ( فيه وعيد مطلق وتهديد شديد ثم بين ذلك الوعيد فقال ) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلا ربنا منقلبون ( أي لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا , لأنا نتقلب ونصير إلى ربنا في الآخرة مؤمنين مؤملين غفرانه وهو قولهم ) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا ( أي الكفر والسحر ) أن ( أي لأن ) كنا أو المؤمنين ( أي من أهل زماننا وقيل أول المؤمنين أي من الجماعة الذين حضروا ذلك الجمع.
قوله تعالى ) وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون ( أي يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج , قيل : أوحى الله إلى موسى أن اجمع بني إسرائيل , كل أهل أربعة أبيات في بيت ثم اذبحوا أولاد الضأن فاضربوا بدمائها على أبوابكم فإني سآمر الملائكة فتقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وآمرهم أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم , ثم اخبزوا فطيراً فإنه أسرع لكم ثم اسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر , فيأتيك أمري ففعل ذلك موسى , ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيداً فاستعاروا منهم حليهم , ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جهة البحر فلما سمع فرعون ذلك , قال : هذا عمل موسى وقومه قتلوا أبكارنا في أنفسنا وأخذوا أموالنا ) فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ( يعني الشرط يحشرون الجيش قيل : كانت المدائن ألف مدينة واثني عشر ألف قرية , فأرسل فرعون في أثر موسى وقومه ألف ألف وخمسمائة ألف , وخرج فرعون في الكرسي العظيم في مائتي ألف ملك مسورين مع كل ملك ألف فلذلك قال ) إن هؤلاء لشرذمة قليلون ( قال أهل التفسير كانت الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل , لم يعدوا دون العشرين وفوق الستين سنة وقال ابن مسعود كانت ستمائة ألف وسبعين ألفاً , ولا يحصى عدد أصحاب فرعون.
(5/117)
صفحة رقم 118
) وإنهم لنا لغائظون ( الغيظ الغضب يعني أنهم أغضبونا بمخالفتهم فينا وقتلهم أبكارنا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها , وخروجهم من أرضنا بغير إذن منا ) وإنا لجميع حاذرون ( أي خائفون من شرهم وقرىء حذرون , أي ذوو قوة وأداة شاكوا السلاح وقيل الحاذر الذي يحذرك الآن بالتحقيق من المتلبس بحمل السلاح , والحذر الذي لا تلقاه إلا خائفاً ) فأخرجناهم من جنات وعيون ( قيل : كانت البساتين ممتدة في حافتي النيل فيها عيون وأنهار جارية ) وكنوز ( يعني الأموال الظاهرة من الذهب والفضة , وسماها كنوزاً لأنه لم يؤد حق الله منها وكل مال لم يعط , ولم يؤد حق الله منه فهو كنز وإن كان ظاهراً قيل كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق , في عنق كل فرس طوق من ذهب قال الله تعالى ) ومقام كريم ( أي مجلس حسن قيل : أراد مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت لهم وقيل إنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف من قومه والأمراء وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب والمعنى أنا أخرجناهم من بساتينهم التي فيها العيون وأموالهم ومجالسهم الحسنة ) كذلك ( أي كما وصفنا ) وأورثناها بني إسرائيل ( وذلك أن الله عز وجل رد بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون , وقومه فأعطاهم جميع ما كان لفرعون , وقومه من الأموال والأماكن الحسنة ) فأتبعوهم مشرقين ( أي لحق فرعون وقومه موسى , وأصحابه وقت شروق الشمس وهو إضاءتها ) فلما تراءى الجمعان ( يعني تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه ) قال أصحاب موسى إنا لمدركون ( أي سيدركنا فرعون وقومه ولا طاقة لنا بهم.
)
الشعراء : ( 62 - 81 ) قال كلا إن...
" قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين " ( ) قال ( أي موسى لثقته وعد الله تعالى إياه ) كلا ( أي لن يدركونا ) إن معي ربي سيهدين ( يعني يدلني على طريق النجاة ) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ( أي فضربه فانشق ) فكان كل فرق ( أي قطعة من الماء ) كالطود ( أي الجبل ) العظيم ( قيل لما انتهى موسى ومن معه إلى البحر هاجت الرياح فصار البحر يرمي بموج كالجبال , قال يوشع : يا كليم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون من خلفنا , والبحر أمامنا قال موسى , ها هنا فخاض يوشع الماء لا يواري حافر دابته , وقال : الذي يكتم إيمانه يا كليم الله أين أمرت قال : ها هنا فكبح فرسه فصكه بلجامه حتى طار الزبد من شدقه , ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء وذهب القوم يصنعون مثل ذلك فلم يقدروا فجعل
(5/118)
صفحة رقم 119
موسى لا يدري كيف يصنع فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق , فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل سرجه ولا لبده ) وأزلفنا ثم الآخرين ( يعني قربنا فرعون وجنوده إلى البحر وقدمناهم إلى الهلاك وقيل إن جبريل كان بين بني إسرائيل , وبين قوم فرعون يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم أولكم , ويقول للقبط رويداً ليلحق آخركم أولكم , فكان بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل , وكان قوم فرعون يقولون ما رأينا أحسن دعة من هذا الرجل ) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين ( يعني أنه تعالى جعل البحر يبساً حتى خرج موسى وقومه , منه وأغرق فرعون وقومه , وذلك أنهم لما تكاملوا في البحر انطبق عليهم فأغرقهم ) إن في ذلك لآية ( يعني ما حدث في البحر من انفلاقه آية من الآيات العظام الدالة على قدرته ومعجزة لموسى عليه السلام ) وما كان أكثرهم مؤمنين ( يعني أهل مصر قيل : لم يؤمن منهم إلا آسية امرأة فرعون , وحزقيل مؤمن آل فرعون , ومريم ابنة مامويا التي دلت على قبر يوسف حين أخرجه موسى من البحر ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( قوله تعالى ) واتل عليه نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ( يعني أي شيء تعبدون وإنما قال إبراهيم ذلك مع علمه بأنهم عبدة لأصنام , ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء ) قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين ( يعني نقيم على عبادتها وإنما قالوا : نظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل ) قال هل يسمعونكم ( يعني يسمعون دعاءكم ) إذ تدعون أو ينفعونكم ( يعني بالرزق ) أو يضرون ( يعني إن تركتم عبادتهم وإذا كان كذلك , فكيف يستحقون العبادة ؟ فلما لزمتهم الحجة القاطعة ) قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ( المعنى أنها لا تسمع قولاً ولا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً ولكن أقتدينا بآبائنا في ذلك , وفي الآية دليل على إبطال التقليد في الدين وذمه ومدح الأخذ بالاستدلال ) قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون ( أي الأولون ) فإنهم عدو لي ( أي أعداء لي وإنما وحده على إرادة الجنس.
فإن قلت : كيف وصف الأصنام بالعداوة ؟ وهي جمادات لا تعقل.
قلت : معناه فإنهم عدو لي يوم القيامة لو عبدتهم في الدنيا وقيل : إن الكفار لما عبدوها ونزلوها منزلة الأحياء العقلاء أطلق إبراهيم لفظ العداوة عليها وقيل : هو من المقلوب أراد فإني عدو لهم لأن من عاديته
(5/119)
صفحة رقم 120
فقد عاداك ) إلا رب العالمين ( أي ولكن رب العالمين , فإنه ربي وولي وقيل إنهم كانوا يبعدون الأصنام مع الله تعالى فقال إبراهيم كل ما تعبدون أعداء لي إلا رب العالمين ثم وصف معبوده الذي يستحق العبادة فقال ) الذي خلقني فهو يهدين ( إلى طريق النجاة ) والذي هو يطعمني ويسقين ( أي يرزقني ويغذيني بالطعام والشراب ) وإذا مرضت ( أصابني مرض أضاف المرض إلى نفسه استعمالاً للأدب وإن كان المرض والشفاء من الله ) فهو يشفين ( أي يبرئني ويعافيني من المرض ) والذي يميتني ثم يحيين ( أي يميتني في الدنيا ثم يحييني في الآخرة.
)
الشعراء : ( 82 - 102 ) والذي أطمع أن...
" والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين " ( ) والذي أطمع ( أي أرجو ) أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ( أي يوم الجزاء والحساب قيل : خطيئته كذباته الثلاث وتقدم الكلام عليها ( م ) عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم , ويطعم المسكين أكان ذلك نافعا له ؟ قال ( لا ينفعه إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ) وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه , أنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال ) رب هب لي حكماً ( قال ابن عباس : معرفة حدود الله وأحكامه وقيل : العلم والفهم ) وألحقني بالصالحين ( أي بمن سلف قبلي من الأنبياء في المنزلة والدرجة العالية ) واجعل لي لسان صدق في الآخرين ( أي ثناءً حسناً وذكراً جميلاً وقبولاً عاماً في الأمم التي تجيء بعدي , فأعطاه الله ذلك وجعل كل الأديان يتولونه , ويثنون عليه ) واجعلني من ورثة جنة النعيم ( أي ممن تعطيه جنة النعيم لأنها السعادة الكبرى ) واغفر لأبي إنه كان من الضالين ( قيل دعا لأبيه على رجاء أن يسلم فيغفر له فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) ولا تخزني ( ولا تفضحني ) يوم يبعثون ( وهو يوم القيامة ) يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من آتى الله بقلب سليم ( أي خالص من الشرك والشك فأما الذنوب فلا يسلم منها أحد قال سعيد بن المسيب القلب السليم هو الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض وقيل : القلب السليم هو الخالي
(5/120)
صفحة رقم 121
من البدعة المطمئن إلى السنة ) وأزلفت الجنة ( أي قربت ) للمتقين وبرزت الجحيم ( أي أظهرت ) للغاوين ( أي للكافرين ) وقيل لهم ( يعني يوم القيامة ) أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم ( أي يمنعونكم من عذاب الله ) أو ينتصرون ( لأنفسهم ) فكبكبوا ( قال ابن عباس جمعوا وقيل قذفوا وطرحوا بعضهم على بعض وقيل : ألقوا على رؤوسهم ) فيها ( أي في جهنم ) هم والغاوون ( يعني الآلهة والعابدين وقيل : الجن والكافرين ) وجنود إبليس أجمعون ( يعني أتابعه ومن أطاعه من الإنس والجن وقيل ذريته ) قالوا وهم فيها يختصمون ( يعني العابدين والمعبودين ) تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم ( أي نعدلكم ) برب العالمين ( فنعبدكم ) وما أضلنا ( يعني دعانا إلى الضلال ) إلا المجرمون ( يعني من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس , وقيل : الأولون الذي اقتدينا بهم وقيل يعني إبليس وابن آدم من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس , وقيل : الأولون الذي اقتدينا بهم وقيل يعني إبليس وابن آدم الأول وهو قابيل , وهو أو من سن القتل وأنواع المعاصي ) فما لنا من شافعين ( يعني من يشفع لنا يعني كما أن للمؤمنين شافعين من الملائكة والأنبياء ) ولا صديق حميم ( أي قريب يشفع لنا , يقول ذلك الكفار حين يشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون , والصديق هو الصادق في المودة مع موافقة الدين عن جابر بن عبدالله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول : ( إن الرجل يقول في الجنة ما فعل بصديقي فلان وصديقه في الجحيم , فيقول الله عز وجل أخرجوا له صديقه إلى الجنة , فيقول من بقي فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) رواه البغوي بإسناد الثعلبي.
وقال الحسن : استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة ) فلو أن لنا كرة ( أي رجعة إلى الدنيا ) فنكون من المؤمنين ( أي أنهم تمنوا الرجعة حين لا رجعة لهم.
)
الشعراء : ( 103 - 129 ) إن في ذلك...
" إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون " ( ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( أي مع هذه الدلائل والآيات ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( أي المنتقم الذي لا يغالب وهو في وصف عزته رحيم.
قوله عز وجل ) كذب قوم نوح المرسلين ( اي كذبت جماعة قوم نوح , قيل : القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة.
فإن قلت : كيف قال المرسلين وإنما هو رسول واحد وكذلك باقي القصص.
قلت : لأن دين الرسل واحد وإن الآخر منهم جاء بما جاء به
(5/121)
صفحة رقم 122
الأول فمن كذب واحد من الأنبياء فقد كذب جميعهم ) إذ قال لهم أخوهم نوح ( أي أخوهم في النسب لا في الدين ) ألا تتقون ( أي ألا تخافون فتتركوا الكفر والمعاصي ) إني لكم رسول أمين ( أي على الوحي , وكان معروفاً عندهم بالأمانة ) فاتقوا الله ( أي بطاعته وعبادته ) وأطيعون ( أي فيما أمرتكم به من الإيمان والتوحيد ) وما أسألكم عليه من أجر ( أي من جعل وجزاء ) إن أجري ( أي ثوابي ) إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون ( قيل : كرره ليؤكده عليهم ويقرره في نفوسهم وقيل ليس فيه تكرار معنى الأول ألا تتقون الله في مخالفتي وأنا رسول الله ومعنى الثاني ألا تتقون الله في مخالفتي وإني لست آخذ منكم أجراً ) قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ( أي السفلة قال ابن عباس : يعني القافة وقيل هم الحاكة والأساكفة ) قال ( يعني نوحاً ) وما علمي بما كانوا يعملون ( أي وما أعلم أعمالهم وصنائعهم , وليس علي من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء إنما كلفت أن أدعوهم إلى الله تعالى , وما لي إلا ظواهر أمرهم وقال الزجاج الصناعات لا تضر في الديانات وقيل : معناه إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويوفقهم ويخذلهم ) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون ( أي لو تعلمون ذلك ما عيرتموهم بصنائعهم ) وما أنا بطارد المؤمنين ( أي عني وقد آمنوا ) إن أنا إلا نذير مبين ( معناه أخوف من كذبني فمن آمن فهو القريب مني , ومن لم يؤمن فهو البعيد عني ) قالوا لئن لم تنته يا نوح ( أي عما تقول ) لتكونن من المرجومين ( أي من المقتولين بالحجارة وهو أسوأ القتل وقيل من المشتومين ) قال رب إن قومي كذبون فافتح ( أي احكم ) بيني وبينهم فتحاً ( أي حكماً ) ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ( أي الموقر المملوء من الناس والطير والحيوان ) ثم أغرقنا بعد الباقين ( أي بعد إنجاء نوح ومن معه ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( قوله تعالى ) كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين ( أي أمين على الرسالة فكيف تتهمونني اليوم ) فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع ( قال ابن عباس : أي بكل شرف وفي رواية عنه بكل طريق , وقيل : هو الفج بين الجبلين وقيل : المكان المرتفع ) آية ( أي علامة وهي العلم ) تعبثون ( يعني بمن مر بالطريق والمعنى , أنهم كانوا : يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم , وقيل إنهم بنوا بروج الحمام فأنكر عليهم
(5/122)
صفحة رقم 123
هود باتخاذها , ومعنى تعبثون تلعبون بالحمام ) وتتخذون مصانع ( قال ابن عباس أبنية وقيل قصوراً مشيدة وحصوناً مانعة , وقيل مآخذ الماء يعني الحياض ) لعلكم تخلدون ( أي كأنكم تبقون فيها خالدين لا تموتون.
)
الشعراء : ( 130 - 155 ) وإذا بطشتم بطشتم...
" وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون في ما ها هنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا إنما أنت من المسحرين ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم " ( ) وإذا بطشتم ( أي وإذا أخذتم وسطوتم ) بطشتم جبارين ( أي قتلاً بالسيف وضرباً بالسوط والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب , وهو مذموم في وصف البشر ) فاتقوا الله وأطيعون ( فيه زيادة زجر عن حب الدنيا والشرف والتفاخر ) واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ( أي أعطاكم من الخير ما تعلمون ثم ذكر ما أعطاهم فقال ) أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون ( فيه التنبيه على نعمة الله تعالى عليهم ) إني أخاف عليكم ( قال ابن عباس إن عصيتموني ) عذاب يوم عظيم ( فكان جوابهم أن ) قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ( أي أنهم أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه , واستخفافهم بما أورده من المواعظ والوعظ كلام يلين القلب يذكر الوعد والوعيد ) إن هذا إلا خلق الأولين ( قرىء بفتح الخاء أي اختلاق الأولين وكذبهم وقرىء خلق بضم الخاء , واللام أي عادة الأولين من قبلنا أنهم يعيشون ما عاشوا ثم يموتون ولا بعث ولا حساب وقولهم ) وما نحن بمعذبين ( أين أنهم أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكارهم المعاد ) فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( قوله تعالى ) كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون فيما ها هنا آمنين ( أي في الدنيا من العذاب ) في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها ( أي ثمرها الذي يطلع منها ) هضيم ( قال ابن عباس : لطيف وعنه يانع نضيج وقيل : هو اللين الرخو.
وقيل : متهشم يتفتت إذا مس.
وقيل : الهضيم هو الذي دخل بعضه في بعض من النضج أو النعومة وقيل هو المدرك ) وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين ( وقرىء فرهين قيل : الفاره الحاذق بنحتها والفره قال ابن عباس : الأشر والبطر وقيل : معناه
(5/123)
صفحة رقم 124
متجبرين فرحين معجبين بصنعكم ) فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين ( قال ابن عباس : أي المشركين وقيل يعني التسعة الذين عقروا الناقة ) الذين يفسدون في الأرض ( أي بالمعاصي ) ولا يصلحون ( أي لا يطعيون الله فيما أمرهم ) قالوا إنما أنت من المسحرين ( أي المسحورين المخدوعين وقال ابن عباس : من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ) ما أنت إلا بشر مثلنا ( والمعنى أنت بشر مثلنا ولست بملك ) فأت بآية ( يعني على صحة ما تقول ) إن كنت من الصادقين ( يعني أنك رسول إلينا ) قال هذه ناقة لها شرب ( أي حظ من الماء ) ولكم شرب يوم معلوم (.
)
الشعراء : ( 156 - 188 ) ولا تمسوها بسوء...
" ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين
(5/124)
صفحة رقم 125
فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون " ( ) ولا تمسوها بسوء ( أي بعقر ) فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين ( أي على عقرها لما رأوا العذاب ) فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( قوله عز وجل ) كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلى على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين ( يعني نكاح الرجال من بني آدم ) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم ( يعني أتتركون العضو المباح من النساء وتميلون إلى أدبار الرجال ) بل أنتم قوم عادون ( أي معتدون مجاوزون الحلال إلى الحرام ) قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ( أي من قريتنا ) قال إني لعملكم من القالين ( أي من التاركين المبغضين ) رب نجني وأهلي مما يعملون ( أي من العمل الخبيث قال الله تعالى ) فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزاً ( أي امرأته ) في الغابرين ( أي بقيت في المهلكين ) ثم دمرنا الآخرين ( أي أهلكناهم ) وأمطرنا عليهم مطراً ( يعني الكبريت والنار ) فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( قوله عز وجل ) كذب أصحاب الأيكة المرسلين ( أي الغيضة الملتفة من الشجر وقيل هو اسم البلد ) إذ قال لهم شعيب ( لم يقل لهم أخوهم لأنه لم يكن منهم وإنما كان من مدين وأرسل إليهم ) ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( إنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء فيما حكي عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على تقوى الله وطاعته , والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة , ) أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ( أي الناقصين لحقوق الناس في الكيل والوزن ) وزنوا بالقسطاس ( أي بالميزان العدل ) المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين ( يعني الخليقة والأمم المتقدمة ) قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فاسقط علينا كسفاً ( يعني قطعاً ) من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون ( يعني من نقصان الكيل والوزن وهو مجازيكم بأعمالكم , وليس العذاب إلي وما علي إلا الدعوة والتبليغ.
)
الشعراء : ( 189 - 214 ) فكذبوه فأخذهم عذاب...
" فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين " ( ) فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ( وذلك أنهم أصابهم حر شديد فكانوا يدخلون الأسراب , فيجدونها أحر من ذلك فيخرجون فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( وقد تقدم الكلام على هذه القصص في سورة الأعراف وهود فأغنى عن الإعادة هنا والله أعلم بمراده قوله عز وجل ) وإنه ( يعني القرآن ) لتنزيل رب العالمين ( يعني أن فيه من أخبار الأمم الماضية ما يدل على أنه من رب العالمين ) نزل به الروح الأمين ( يعني جبريل عليه السلام سماه زوجاً لأنه خلق من الروح وسماه أميناً , لأنه مؤتمن على وحيه لأنبيائه ) على قلب ( يعني على قلبك حتى تعيه وتفهمه ولا تنساه وإنما خص القلب لأنه هو المخاطب في الحقيقة , وأنه موضع التمييز والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له ويدل عليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) أخرجاه في الصحيحين.
ومن المعقول أن موضع الفرح والسرور , والغم والحزن هو القلب , فإذا فرح القلب أو حزن تغير حال سائر الأعضاء فكأن القلب كالرئيس لها , ومنه أن موضع العقل هو القلب على الصحيح من القولين فإذا ثبت ذلك كان القلب هو الأمير المطلق , وهو المكلف والتكليف مشروط بالعقل والفهم.
قوله تعالى ) لتكون من المنذرين ( أي المخوفين ) بلسان عربي مبين ( قال ابن عباس بلسان قريش ليفهموا ما فيه ) وإنه ( يعني القرآن وقيل ذكر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصفته ونعته ) لفي زبر الأولين ( أي كتب الأولين ) أولم يكن لهم آية ( يعني أولم يكن لهؤلاء المتكبرين علامة ودلالة على صدق
(5/125)
صفحة رقم 126
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أن يعلمه ( يعني يعلم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) علماء بني إسرائيل (.
قال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا إن هذا لزمانه وإنا نجد في التوراة نعته وصفته فكان ذلك آية على صدقه ( صلى الله عليه وسلم ) قيل كانوا خمسة عبدالله بن سلام وابن يامين وثعلبة وأسد وأسيد.
قوله تعالى ) ولو نزلناه ( يعني القرآن ) على بعض الأعجمين ( جمع أعجمي وهو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية , وإن كان عربياً في النسب ومعنى الآية , وأنزلنا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان ) فقرأه عليهم ( يعني القرآن ) ما كانوا به مؤمنين ( أي لقالوا لا نفقه قولك وقيل معناه لما آمنوا به أنفه من اتباع من ليس من العرب ) كذلك سلكناه ( قال ابن عباس : يعني أدخلنا الشرك والتكذيب ) في قلوب المجرمين لا يؤمنون به ( آي القرآن ) حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون ( أي لنؤمن ونصدق وتمنوا الرجعة ولا رجعة لهم ) أفبعذابنا يستعجلون ( قيل لما وعدهم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب , فأنزل الله أفبعذابنا يستعجلون ) أفرأيت إن متعناهم سنين ( أي كفار مكة في الدنيا ولم نهلكهم ) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ( يعني العذاب ) ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ( أي في تلك السنين الكثيرة والمعنى أنهم وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا , فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتع شيئاً ويكونوا كأنهم لم يكونوا في نعيم قط ) وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ( أي رسل ينذرونهم ) ذكرى ( أي تذكره ) وما كنا ظالمين ( أي في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم ) وما تنزلت به الشياطين ( يعني أن المشركين كانوا يقولون : إن الشياطين يلقون القرآن على قلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ) وما ينبغي لهم ( أن ينزلوا بالقرآن ) وما يستطيعون ( أي ذلك , ثم إنه تعالى ذكر سبب ذلك فقال ) إنهم عن السمع لمعزولون ( أي محجوبون بالرمي بالشهب فلا يصلون إلى استراق السمع ) فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره لأنه معصوم من ذلك.
قال ابن عباس : يحذر بهم غيره يقول أنت أكرم الخلق علي , ولو اتخذت إلهاً غيري لعذبتك.
قوله تعالى
(5/126)
صفحة رقم 127
) وأنذر عشيرتك الأقربين ( روى محمد بن إسحاق بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( لما نزلت هذه الآية على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال : يا محمد أن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك فاصنع لنا طعاماً واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن ثم اجمع لي بن عبدالمطلب حتى أبلغهم ما أمرت به , ففعلت ما أمرني به , ثم دعوتهم له وكانوا يومئذٍ نحو أربعين رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعت فجئت به , فتناول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال : خذوا باسم الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة وايم الله أن كان الرجل الواحد ليأكل , مثل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعاً , وأيم الله أن كان الرجل الواحد ليشرب مثله فلما أراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال : سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الغد يا : علي فإن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم , فاعدد لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم أجمعهم ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته , ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه سلم فقال : يا بني عبدالمطلب إني قد جئتكم بخبري الدنيا والآخرة , وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا , ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعاً , وأنا أحدثهم سناً فقلت أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي , ثم قال هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فقام القوم يضحكون , ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيعه )
( ق ) عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) على الصفا فجعل ينادي : ( يا بني فهر يا بني عدي لبطون من قريش , حتى اجتمعوا فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش
(5/127)
صفحة رقم 128
فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذباً قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ).
فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتتنا فنزلت ) تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب ( " وفي رواية قد تب وفي رواية للبخاري , ( لما نزلت ) وانذر عشيرتك الأقربين ( ورهطك منهم المخلصين خرج سول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه ) , فقالوا من هذا واجتمعوا إليه وذكر نحوه
( ق ) عن أبي هريرة قال قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين أنزل الله تعالى ) وأنذر عشيرتك الأقربين ( وقال يا معشر قريش أو كلمة نحوها ( اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً , يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئاً , ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت رسول الله سليني ماشئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً ) ( م ) عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو قالا لما نزلت ) وأنذر عشيرتك الأقربين ( انطلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى رضمة جبل فعلا أعلاها حجراً ثم نادى ( يا بني عبد مناف إني نذير لكم إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه , فجعل يهتف يا صباحاه ) ومعنى الآية أن الإنسان إذا بدأ بنفسه أولاً وبالأقرب فالأقرب من أهله ثانياً لم يكن لأحد عليه طعن البتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع.
(5/128)
صفحة رقم 129
)
الشعراء : ( 215 - 227 ) واخفض جناحك لمن...
" واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ( ) واخفض ( اي ألن ) جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ( فإن قلت ما معنى التبعيض في قوله ) من المؤمنين ( وقلت : معناه لمن اتبعك من المؤمنين المصدقين بقلوبهم وألسنتهم دون المؤمنين بألستنهم وهم المنافقون ) فإن عصوك ( يعني فيما تأمرهم به ) فقل إني بريء مما تعملون ( يعني من الكفر والمخالفة ) وتوكل على العزيز الرحيم ( التوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره , ويقدر على نفعه وضره وهو الله تعالى العزيز الذي يقهر أعداءك , بعزته الرحيم الذي ينصرك عليهم برحمته ) الذي يراك حين تقوم ( إلى صلاتك وقيل يراك أينما كنت وقيل يراك حين تقوم لدعائك ) وتقلبك في الساجدين ( قال ابن عباس : ويرى تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك وقيل مع المصلين في الجماعة يقول يراك إذا صليت وحدك ومع الجماعة , وقيل : معناه يرى تقلب بصرك في المصلين فإنه كان ( صلى الله عليه وسلم ) يبصر من خلفه كما يبصر من قدامه عن أبي هريرة أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( هل ترون قبلتي ها هنا فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري ) وقيل : معناه يرى تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين.
قيل : تصرفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك وقال ابن عباس أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة ) إنه هو السميع ( يعني لقولك ودعائك ) العليم ( يعني بنيتك وعملك قل يا محمد ) هل أنبئكم ( يعني أخبركم ) على من تنزل الشياطين ( هذا جواب لقولهم ينزل عليه شيطان ثم بين على من تنزل الشياطين فقال تعالى ) تنزل على كل أفاك ( يعني كذاب ) أثيم ( يعني فاجر وهم الكهنة وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع , ثم يلقون ذلك إلى أوليائهم من الإنس وهو قوله تعالى ) يلقون السمع ( يعني ما يسمعون من الملائكة فيلقونه إلى الكهنة ) وأكثرهم كاذبون ( لأنهم يخلطون به كذباً كثيراً ) والشعراء يتبعهم الغاوون ( قال أهل التفسير أراد شعراء الكفار والذي كانوا يهدون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منهم عبدالله بن الزبعرى السهمي , وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عمرو بن عبدالله الجمحي وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب , والباطل وقالوا نحن نقول مثل ما يقول محمد وقالوا الشعر , واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) , وأصحابه وكانوا يروون عنهم قولهم فلذلك قوله ) يتبعهم الغاوون ( فهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين , وقيل الغاوون هم الشياطين وقيل هم السفهاء الضالون وفي رواية أن الرجلين أحدهما من الأنصار تهاجيا على
(5/129)
صفحة رقم 130
عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومع كل واحد غواة من قومه , وهم السفهاء فنزلت هذه الآية ) ألم تر أنهم في كل وادٍ ( من أودية الكلام ) يهيمون ( يعني حائرين وعن طريق الحق حائدين , والهائم الذاهب على وجهه لا مقصد له وقال ابن عباس في كل لغو يخوضون , وقيل يمدحون بالباطل ويهجون بالباطل وقيل أنهم يمدحون الشيء ثم يذمونه لا يطلبون الحق والصدق , فالوادي مثل لفنون الكلام والغوص في المعاني والقوافي ) وأنهم يقولون ما لا يفعلون ( أي أنهم يكذبون في شعرهم وقيل إنهم يمدحون الجود والكرم ويحثون عليه وهم لا يفعلونه ويذمون البخل ويصرون عليه ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم
( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلىء شعراً ) ثم استثنى شعراء المسلمين الذي كانوا يجتنبون شعر الكفار , ويهجون وينافحون عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه منهم حسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك فقال تعالى ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( روي أن كعب بن مالك قال للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إن الله أنزل في الشعر ما أنزل فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول :
خلو بني الكفار عن سبيله
اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
(5/130)
صفحة رقم 131
فقال عمر يا ابن رواحة بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي حرم الله تقول الشعر ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح النبل ( أخرجه الترمذي والنسائي.
وقال الترمذي : وقد روي في غير هذا الحديث أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه , وهذا أصح عند بعض أهل الحديث لأن عبدالله بن رواحة قتل يوم مؤتة , وكانت عمرة القضاء بعد ذلك قلت الصحيح , هو الأول لأن عمرة القضاء كانت سنة سبع ويوم مؤتة سنة ثمان والله أعلم
( ق ) عن البراء أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم قريظة لحسان : ( أهج المشركين فإن جبريل معك (
( خ ) عن عائشة قالت ) كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وينافح ويقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله ( ( م ) عن عائشة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال أهجهم فهجاهم فلم يرضى فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه حسان : قال : قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال : والذي بعث بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها , وإن لي فيهم نسباً حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان ثم رجع فقال : يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق نبياً لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين ( قالت عائشة : فسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لحسان : ( إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله ( قالت وسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ) هجاهم حسان فشفى واشتفى ( فقال حسان :
هجوت محمداً فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمداً براً تقياً
رسول الله شيمته الوفاء
(5/131)
صفحة رقم 132
فإن أبي ووالدتي وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
ثكلت بنيتي إن لمم تروها
تثير النقع موعدها كداء
يبارين الأعنة مصعدات
على أكنافها الأسل الظماء
تظل جيادها متمطرات
تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتم عنا اعتمرنا
وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لضراب يوم
يعز الله فيه من يشاء
وقال الله قد أرسلت عبداً
يقول الحق ليس به خفاء
وقال الله قد سيرت جنداً
هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد
سباب أو قتال أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا
وروح القدس ليس له كفاء
فصل في مدح الشعر
( خ ) عن أبي بن كعب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن من الشعر لحكمة ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجعل يتكلم بكلام فقال ( إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً ) أخرجه أبو داود عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : ( ردفت وراء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء , قلت نعم قال : هيه : فأنشدته بيتاً فقال : هيه ثم أنشدته بيتاً قال : هيه حتى أنشدته مائة بيت ) زاد في رواية ( لقد كان يسلم شعره ) عن جابر بن سمره قال : ( جالست النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية , وهو ساكت وربما تبسم معهم ) أخرجه الترمذي.
وقال حديث حسن صحيح.
وقالت عائشة : الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ منه الحسن ودع منه القبيح.
وقال الشعبي : كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان علي أشعر منهما وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر ويستنشده في المسجد , فيروى أنه دعا عمر بن ربيعة المخزومي , فاستنشده القصيدة التي قالها فقال :
آمن آل نعمٍ أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر
فأنشده القصيدة إلى آخرها , وهي قريب من تسعين بيتاً ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها , وكان حفظها بمرة واحدة.
قوله تعالى ) وذكروا الله كثيراً ( أي لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ) وانتصروا من بعد ما ظلموا ( أي انتصروا من المشركين لأنهم بدؤوا بالهجاء , ثم أوعد شعراء المشركين فقال تعالى ) وسيعلم الذين ظلموا ( أي أشركوا وهجوا رسول لله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الطاهر المطهر من الهجاء ) أي منقلب ينقلبون ( أي أيَّ مرجع يرجعون إليه بعد الموت قال ابن عباس : إلى جهنم وبئس المصير والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
(5/132)
صفحة رقم 133
سورة النمل
تفسير سورة النمل
مكية وهي ثلاث وتسعون آية وألف وثلاثمائة وسبع عشرة كلمة وأربعة آلاف وتسعة وتسعون حرفا.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
النمل : ( 1 - 3 ) طس تلك آيات...
" طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون " ( قوله عز وجل ) طس تلك آيات القرآن ( أي هذه آيات القرآن ) وكتاب مبين ( أي وآيات كتاب مبين ) هدى وبشرى للمؤمنين ( أي هو هدى من الضلالة , وبشرى لهم بالجنة ) الذين يقيمون الصلاة ( أي الخمس بشرائطها ) ويؤتون الزكاة ( أي إذا وجبت عليهم طيبة بها أنفسهم ) وهم بالآخرة هم يوقنون ( يعني أن هؤلاء الذين يعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة.
)
النمل : ( 4 - 10 ) إن الذين لا...
" إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون " ( ) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم ( أي القبيحة حتى رأوها حسنة وقيل : إن التزين هو أن يخلق الله العلم في القلب بما فيه المنافع واللذات ولا يخلق العمل بما فيه المضار والآفات ) فهم يعمهون ( أي يترددون فيها متحيرين ) أولئك الذين لهم سوء العذاب ( أي أشده وهو القتل والأسر ) وهم في الآخرة هم الأخسرون ( أي أنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وساورا إلى النار.
قوله تعالى ) وإنك لتلقى القرآن ( أي تؤتاه وتلقنه حياً ) من لدن حكيم عليم ( أي حكيم عليم بما أنزل إليك.
فإن قلت : ما الفرق بين الحكمة والعلم.
قلت : الحكمة هي العلم بالأمور العلمية فقط والعلم أعم منه لأنه العلم قد يكون علماً , وقد يكون نظراً والعلوم النظرية أشرف ) إذ قال ( أي واذكر يا محمد إذ قال ) موسى لأهله ( أي في مسيره بأهله من مدين إلى مصر ) إني آنست ( أي أبصرت ) ناراً سآتيكم منها بخبر ( أي امكثوا مكانكم سآتيكم بخبر عن الطريق , وقد كان ضل عن الطريق ) أو آتيكم بشهاب قبس ( الشهاب شعلة النار والقبس النار المقبوسة منها , وقيل : القبس هو العود الذي في أحد طرفيه نار ) لعلكم تصطلون ( يعني تستدفئون من البرد كان في شدة الشتاء ) فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ( يعني بورك على من في النار وقيل : البركة راجعة إلى موسى والملائكة والمعنى من في طلب النار وهو موسى ) ومن حولها ( وهم الملائكة الذين حول النار وهذه تحية من الله عز وجل لموسى بالبركة , وقيل : المراد من النار النور وذكر بلفظ النار لأن موسى حسبه ناراً من النار هم الملائكة وذلك أن النور الذي رآه موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس , ومن حولها موسى , لأنه كان بالقرب منها وقيل البركة راجعة إلى النار , وقال ابن عباس : معناه بوركت النار والمعنى بورك من في النار ومن حولها وهم الملائكة وموسى وروي عن ابن عباس في قوله بورك من في النار قدس من في النار وهو الله تعالى عنى به نفسه على معنى أنه نادى موسى وأسمعه من جهتها كما روي أنه مكتوب في التوراة جاء الله من سيناء , وأشرف من ساعين واستعلى من جبال فاران ومعنى مجيئه
(5/133)
صفحة رقم 134
من سيناء بعثه موسى منه , ومن ساعين بعثة المسيح ومن جبال فاران بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفاران اسم مكة , وقيل كانت النار بعينها وهي إحدى حجب الله عز وجل كما صح في الحديث ( حجابة النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) ثم نزه الله سبحانه وتعالى نفسه , وهو المنزه من كل سوء وعيب فقال تعالى ) وسبحان الله رب العالمين ( ثم تعرف إلى موسى بصفاته فقال : الله يا موسى ) إنه أنا الله العزيز الحكيم ( قيل معناه أن موسى قال : من المنادي قال : إنه أنا الله وهذا تمهيد لما أراد الله أن يظهره على يده من المعجزات , والمعنى أن القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية وهو قوله ) وألق عصاك ( تقديره فألقاها فصارت حية ) فلما رآها تهتز ( أي تتحرك ) كأنها جان ( وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها ) ولى مدبراً ( يعني هرب من الخوف ) ولم يعقب ( يعني لم يرجع , ولم يلتفت قال الله تعالى ) يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ( يريد إذا أمنتهم لا يخافون أما الخوف الذي هو شرط الإيمان , فلا يفارقهم قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا أخشاكم لله ).
)
النمل : ( 11 - 16 ) إلا من ظلم...
" إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين " ( ) إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم ( قيل : هو ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل والصغيرة وقيل يحتمل أن يكون المراد منه التعريض بما وجد من موسى من قتل القبطي وهو من التعريضات اللطيفة وسماه ظلماً لقول موسى ) إني ظلمت نفسي ( " ثم إنه خاف من ذلك فتاب قال : ( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له ( " قال ابن جريح : قال الله تعالى لموسى إنما أخفتك لقتلك النفس , ومعنى الآية لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم فإن أصابه أخافه حتى يتوب , فعلى هذا التأويل يكون صحيحاً وتناهى ا لخبر عن الرسل عند قوله إلا من ظلم ثم ابتدأ الخبر عن
(5/134)
صفحة رقم 135
حالة من ظلم من الناس كافة وفي الآية متروك استغنى عن ذكره لدلالة الكلام عليه تقديره : فمن ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم وقيل ليس هذا الاستثناء من المرسلين , لأنه لا يجوز عليهم الظلم بل هو استثناء من المتروك ومعناه : لا يخاف لدي المرسلون إنما الخوف عليهم من الظالمين وهذا الاستثناء المنقطع معناه لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف فإن تاب وبدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم أي أغفر له وأزيل خوفه وقيل : إلا هنا بمعنى ولا معناه ولا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم , ثم بدل حسناً بعد سوء يعني تاب من ظلمه فإني غفور رحيم ثم إن الله تعالى أراه آية أخرى فقال تعالى ) وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء ( قيل كانت عليه مدرعة صوف لا كمَّ لها , ولا أزرار فأدخل يده في جيبها وأخرجها فإذا هي تبرق مثل شعاع الشمس أو البرق ) من غير سوء ( يعني من غير برص ) في تسع آيات ( يعني آية مع تسع آيات أنت مرسل بهن فعلى هذا تكون الآيات إحدى عشرة العصا واليد البيضاء والفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم , والنقصان في مزارعهم , وقيل : في بمعنى من أي من تسع آيات فتكون اليد البيضاء من التسع ) إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوماً فاسقين ( يعني خارجين عن الطاعة ) فلما جاءتهم آياتنا مبصرة ( يعني بينة واضحة يبصرونها ) قالوا هذا ( يعني الذي نراه ) سحر مبين ( يعني ظاهر ) وجحدوا بها ( يعني أنكروه الآيات , ولم يقروا أنها من عند الله ) واستيقنتها أنفسهم ( يعني علموا أنها من عند الله والمعنى أنهم جحدوا بها بألسنتهم واستيقنوها بقلوبهم وضمائرهم ) ظلماً وعلواً ( أي شركاً وتكبراً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى ) فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ( يعني الغرق.
قوله تعالى ) ولقد آتينا داود وسليمان علماً ( يعني علم القضاء والسياسة وعلم داود تسبيح الطير , والجبال وعلم سليمان منطق الطير والدواب ) وقالا الحمد لله الذي فضلنا ( يعني بالنبوة والكتاب والملك وتسخير الجن والإنس ) على كثير من عباده المؤمنين ( أراد الكثير الذي فضلا عليهم من لم يؤت علماً أو لم يؤت مثل علمهما , وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وقيل إنهما لم يفضلا أنفسهما على الكل , وذلك يدل على حسن التواضع.
قوله تعالى ) وورث سليمان داود ( يعني نبوته وعلمه , وملكه دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابناً وأعطي سليمان ما أعطي
(5/135)
صفحة رقم 136
داود وزيد له تسخير الريح , والجن والشياطين قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكاً من داود , وأقضى منه وكان داود أشد تعبداً من سليمان كان سليمان شاكراً لنعم الله تعالى ) وقال ( يعني سليمان ) يا أيها الناس علمنا منطق الطير ( سمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه , وروي عن كعب الأحبار قال : صاح ورشان عند سليمان , فقال : أتدرون ما يقول هذا ؟ قالوا : لا قال إنه يقول لدوا للموت وابنوا للخراب وصاحت فاختة فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا لا قال إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا وصاح طاووس فقال أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : إنه يقول كما تدين تدان وصاح هدهد فقال : أتدرون ما يقول هذا ؟ قالوا : لا قال : إنه يقول من لا يرحم لا يرحم وصاح صرد فقال : أتدرون ما يقول هذا ؟ قالوا : لا قال إنه يقول استغفوا ربكم يا مذنبين وصاحت طيطوى فقال أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا قال : فإنها تقول كلي حي ميت وكل جديد بال وصاح خطاف فقال : أتدرون ما يقول قالوا : لا قال إنه يقول قدموا خيراً تجدوه وهدرت حمامة قال : أتدرون ما تقول قالوا : لا قال : إنها تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه وصاح قمري قال أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال إنه يقول سبحان ربي الدائم قال والغراب يدعو على العشار والحدأة تقول كل شيء هالك إلا وجهه , والقطاة تقول من سكت سلم والببغاء تقول : ويل لمن كانت الدنيا همه.
والضفدع يقول سبحان ربي القدوس والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكل لسان.
وعن مكحول قال صاح دراج عند سليمان فقال : أتدرون ما يقول قالوا : لا قال إنه يقول الرحمن على العرش استوى وقال فرقد مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه , ويميل ذنبه فقال : لأصحابه أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا الله ونبيه أعلم قال إنه يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء وروي أن جماعة من اليهود قالوا لابن عباس : إنا سائلوك عن سبعة أشياء إن أخبرتنا آمنا وصدقنا قال : سلوا تفقهاً لا تعنتاً قالوا أخبرنا ما تقول القنبرة في صفيرها والديك في صعيقه , والضفدع في نقيقه والحمار في نهيقه , والفرس في صهيله وماذا يقول الزرزور والدراج قال نعم أما القنبر فإنه يقول : اللهم العن مبغض محمد وآل محمد والديك يقول اذكروا الله يا غافلين وأما الضفدع , فإنه يقول سبحان الله المعبود في البحار
(5/136)
صفحة رقم 137
وأما الحمار فإنه يقول اللهم العن العشار وأما الفرس , فإنه يقول إذا التقى الجمعان سبوح قدوس رب الملائكة والروح وأما الزرزور , فإنه يقول اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق وأما الدراج فإنه يقول الرحمن على العرش استوى , فأسلم هؤلاء اليهود وحسن إسلامهم وروي عن جعفر الصادق عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم , قال : إذا صاح النسر قال : يا ابن آدم عشت ما شئت آخره الموت , وإذا صاح العقاب قال البعد من الناس أنس , وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي محمد وآل محمد وإذا صاح الخطاف قال الحمد لله رب العالمين ويمد العالمين كما يمد القارىء.
وقوله تعالى ) وأوتينا من كل شيء ( أي مما أوتي الأنبياء , والملوك قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة وقيل النبوة والملك وتسخير الرياح والجن والشياطين ) إن هذا لهو الفضل المبين ( يعني الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا وروي أن سليمان أعطي مشارق الأرض ومغاربها فملك ذلك أربيعن سنة فملك جميع الدنيا من الجن والإنس والشياطين والطير , والدواب والسباع وأعطي مع هذا منطق الطير ومنطق كل شيء وفي زمنه صنعت الصنائع العجيبة.
)
النمل : ( 17 - 20 ) وحشر لسليمان جنوده...
" وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " ( ) وحشر ( أي جمع ) لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ( من الأماكن في مسير له ) فهم يوزعون ( أي يحبسون حتى يرد أولهم على آخرهم , قيل : كان على جنوده وزعة من النقباء ترد أولها على آخرها لئلا يتقدموا في المسير قال محمد بن كعب القرظي كان معسكر سليمان مائة فرسخ خمسة وعشرون منها للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش , وخمسة وعشرون للطير والفرسخ اثنا عشر ألف خطوة فالبريد ثمانية وأربعون ألف خطوة لأنه أربع فراسخ فجملة ذلك خمسة وعشرون بريداً وقيل نسجت الجن له بساطاً من ذهب وحرير , فرسخاً في فرسخ وكان يوضع كرسيه في وسطه , فيقعد وحوله كراسي الذهب والفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة , والناس حوله والجن والشياطين حول الناس والوحوش حولهم وتظله الطيور بأجنحتها , حتى لا تقع عليه الشمس وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة يعني حرة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به وأوحى الله إليه , وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح وأخبرتك به.
قوله عز وجل ) حتى إذا أتوا على وادي النمل ( أي أشرفوا على وادي النمل روي عن كعب الأحبار قال : كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه , وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد والقدور العظام تسع كل قدر على عشرة من الإبل , فيطبخ الطباخون
(5/137)
صفحة رقم 138
ويخبز الخبازون وهو بين السماء والأرض واتخذ ميادين للدواب فتجري بين يديه والريح تهوي به فسار من اصطخر يريد اليمن فسلك على مدينة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال سليمان : هذه دار هجرة نبي يكون في آخر الزمان طوبى لمن آمن به , وطوبى لمن اتبعه ولما وصل مكة رأى حول البيت , أصناماً تعبد فجاوزه سليمان فلما جاوزه بكى البيت فأوحى الله إليه ما يبكيك قال يا رب أبكاني هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا علي , ولم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله إليه لا تبك , فإني سوف أملؤك وجوهاً سجداً وأنزل فيك قرآناً جديداً , وأبعث منك نبياً في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي , وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني , وأفرض عليهم فريضة يزفون إليك زفيف النسر إلى وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها , وأطهرك من الأوثان والأصنام والشيطان ثم مضى سليمان حتى مر بوادي السدير وادٍ من الطائف فأتى على وادي النمل كذا قال كعب الأحبار.
وقيل : إنه بالشأم هو واد يسكنه الجن وذلك النمل مراكبهم.
وقيل : إن ذلك النمل الذباب.
وقيل كالبخاتي والمشهور أنه النمل الصغير ) قالت نملة ( قيل : كانت عرجاء وكانت ذات جناحين وقيل اسمها طاخية وقيل جرمى ) يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ( ولم يقل ادخلن لأنه جعل لهم عقولاً كالآدميين فخوطبوا خطاب الآدميين وهذا ليس بمستعبد أن يخلق الله فيها عقلاً ونطقاً فإنه قادر على ذلك ) لا يحطمنكم ( أي لا يكسرنكم ) سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ( قال أهل التفسير.
علمت النملة أن سليمان نبي ليس فيه جبروتية ولا ظلم , ومعنى الآية أنكم لو لم تدخلوا وطؤوكم , ولم يشعروا فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال وكان لا يتكلم أحد بشيء إلا حملته الريح حتى تلقيه إلى مسامع سليمان , فلما بلغ وادي النمل حبس جنوده حتى دخلوا بيوتهم.
فإن قلت : كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وهو فوق البساط على متن الريح , قلت كأنهم أرادوا النزول عند منقطع الوادي , فلذلك قالت نملة : لا يحطمنكم سليمان وجنوده لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم ) فتبسم ضاحكاً من قولها ( قيل أكثر ضحك الأنبياء تبسم وقيل معنى ضاحكاً متبسماً , وقيل : كان أوله التبسم وآخره الضحك
( ق ) عن عائشة
(5/138)
صفحة رقم 139
رضي الله عنها قالت : ( ما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم ) عن عبدالله بن الحارث بن جزء قال ( ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ) أخرجه الترمذي.
فإن قلت : ما كان سبب ضحك سليمان.
قلت شيئان : أحدهما ما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم , وذلك قولها وهم لا يشعرون يعني أنهم لو شعروا ما يفعلون.
الثاني سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً من إدراك سمعه , ما قالته النملة وقيل : إن الإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به تعجب وضحك , ثم إن سليمان حمد ربه على ما أنعم به عليه ) وقال رب أوزعني ( أي ألهمني ) أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ( أي أدخلني في جملتهم , وأثبت اسمي مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم.
قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين وقيل : أدخلني الجنة مع عبادك الصالحين.
قوله عز وجل ) وتفقد الطير ( أي طلبها وبحث عنها والمعنى أنه طلب ما فقد من الطير ) فقال ما لي لا أرى الهدهد ( وكان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه إخلاله بالنوبة , وذلك أن سليمان كان إذا نزل منزلاً تظله وجنده الطير من الشمس , فأصابته الشمس من موضع الهدهد فنظر فرآه خالياً.
وروي عن ابن عباس أنه كان دليله على الماء وكان يعرف موضع الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة , ويعرف قربه من بعده فينقر الأرض فتجيء الشياطين فيحفرونه ويستخرجون الماء منه قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا , قال نافع بن الأزرق بأوصاف , انظر ما تقول إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب , فيجيء بالهدهد , وهو لا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه , فقال له ابن عباس ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب , وعمي البصر فنزل سليمان منزلاً واحتاج إلى الماء , فطلبوه فلم يجدوه فتفقد الهدهد ليدله على الماء فقال ما لي لا أرى الهدهد على تقدير أنه مع جنوده , وهو لا يراه ثم إنه أدركه الشك فقال ) أم كان من الغائبين ( أي أكان وقيل بل
(5/139)
صفحة رقم 140
كان من أهل الغائبين , ثم أوعده على غيبته.
)
النمل : ( 21 - 22 ) لأعذبنه عذابا شديدا...
" لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين " ( قال : ( لأعذبنه عذاباً شديداً ( قيل هو أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطاً لا يمتنع من النمل ولا من غيره وقيل لأودعنه القفص ولأحبسنه مع ضده , وقيل لأفرقنَّ بينه وبين إلفه ) أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ( أي بحجة بينة على غيبته وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكر العلماء أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس , عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب جنوده من الجن والإنس , والطير والوحش فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام ما شاء الله أن يقيم , وكان في كل يوم ينحر حول مقامه خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة وقال لمن يحضر من أشراف قومه إن هذا المكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا و كذا , يعطى النصرة على جميع من ناوأه وتبلغ هيبته مسيرة شهر , القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه من الله لومة لائم قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله ؟ قال : بدين الحنيفية فطوبى لمن أردكه وآمن به قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله قال مقدار ألف سنة فليبلغ الشاهد الغائب , فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل قال فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة صباحاً , وسار نحو اليمن فوافى صنعاء زوالاً أي وقت الزوال , وذلك مسيرة شهر فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها فأحب النزول بها ليصلي ويتغذى فلما نزل قال الهدهد : اشتغل سليمان بالنزول فارتفع نحو السماء لينظر إلى الدنيا , وعرضها فبينما هو ينظر يميناً وشمالاً رأى بستاناً لبلقيس فنزل إليه فإذا هو بهدهد آخر وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن يعفير , فقال يعفير ليعفور : من أين أقبلت وأين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود قال ومن سليمان بن داود ؟ قال : ملك الإنس والجن والشياطين , والطير والوحش والرياح فمن أين أنت يا يعفير قال أنا من هذه البلاد قال : ومن ملكها ؟ قال : امرأة يقال لها بلقيس وإن لصاحبك ملكاً عظيماً , ولكن ليس ملك بلقيس دونه , فإنها تملك اليمن وتحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل , ولها ثلاثمائة وزير يديرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد مع كل
(5/140)
صفحة رقم 141
قائد اثنا عشر ألف مقاتل , فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء قال الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة.
قال فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها , وأما سليمان فإنه نزل على غير ماء فسأل عن الماء الإنس والجن فلم يعلموا فتفقد الهدهد فلم يره فدعا بعريف الطير , وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو , وما أرسلته إلى مكان فغضب سليمان وقال لأعذبنه الآية ثم دعا العقاب وهو أشد الطير , فقال له عليّ بالهدهد هذه الساعة فرفع العقاب في الهواء حتى رأى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم , ثم التفت يميناً وشمالاً فرأى الهدهد مقبلاً من نحو اليمن فانقض العقاب بريده , فعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال له بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني , ولم تتعرض لي بسوء فتركه العقاب وقال ويحك ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك , أو أن يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهيا إلى العسكر تلقاه النسر والطير , فقالوا : ويلك إين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال سليمان.
فقال الهدهد : أو ما استثنى نبي الله قالوا بلى ولكنه قال أو ليأتيني بسلطان مبين.
قال نجوت إذاً فانطلق به العقاب : حتى أتيا سليمان وكان قاعداً على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً لسليمان , فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه.
وقال له : أين كنت لأعذبنك عذاباً شديداً فقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه , ثم قال ما الذي أبطأك عني فقال الهدهد ما أخبر الله عنه بقوله تعالى ) فمكث غير بعيد ( معناه أي غير طويل ) فقال أحطت بما لم تحط به ( أي عملت ما لم تعلم وبلغت ما لم تبلغ أنت ولا جنودك ألهم الله الهدهد هذا الكلام فكافح سليمان تنبيهاً على أن أدنى خلق الله قد أحاط علماً بما لم يحط به ليكون لطفاً له في ترك الإعجاب.
والإحاطة بالشيء علماً أن يعلمه من جميع جهاته حتى لا يخفى عليه من معلوم ) وجئتك من سبأ ( قيل : هو اسم للبلد وهي مأرب والأصح أنه اسم رجل وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان , وقد جاء في الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم
(5/141)
صفحة رقم 142
سئل عن سبأ فقال : ( رجل له عشرة من النبين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة ) ) بنبأ ( أي بخبر ) يقين ( فقال سليمان وما ذاك.
)
النمل : ( 23 - 28 ) إني وجدت امرأة...
" إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون " ( قال : ( إني ( أي الهدهد ) وجدت امرأة تملكهم ( هي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب من قحطان , وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكاً هو آخرهم , وكان يملك أرض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤاً لي وأبى أن يتزوج منهم فخطب إلى الجن فزوجوه منهم امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن.
قيل في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب منهم , أنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن , وهم على صورة الضباء فيخلي عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقاً , فخطب ابنته فزوجه إياها وقيل إنه خرج متصيداً فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء , وقد ظهرت السوداء على البيضاء , فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت , وأطلقها فلما رجع إلى داره وجلس وحده منفرداً , فإذا معه شاب جميل فخاف منه , قال : لا تخاف أنا الحية البيضاء التي أحييتني والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا , وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال : المال لا حاجة لي به.
ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها فزوجه ابنته , فولدت له بلقيس وجاء في الحديث ( إن أحد أبوي بلقيس كان جنياً : فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك وطلبت قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون , وملكوا عليهم رجلاً آخر يقال : إنه ابن أخي الملك وكان خبيثاً سيء السيرة في أهل مملكته , حتى كان يمد يده إلى حريم رعيته , ويفجر بهن فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت بلقيس ذلك , أدركتها الغيرة فأرسلت إليه فعرضت نفسها عليه فأجابها الملك وقال : ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك فقالت لا أرغب عنك لأنك كفوء كريم , فاجمع رجال أهلي واخطبني منهم , وخطبها فقالوا لا نراها تفعل فقال : بلى إنها قد رغبت فيّ فذكروا ذلك لها فقالت : نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت في ملأ كثير من خدمها وحشمها , فلما دخلت به سقته الخمر حتى سكر ثم قتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها من الليل , فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم وقالت أما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته , ثم أرتهم إياه قتيلاً وقالت اختاروا رجلاً تملكونه عليكم فقالوا لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكراً وخديعة منها
( خ ) عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن أهل فارس
(5/142)
صفحة رقم 143
قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال ( لن يفلح قوم ملكوا عليهم امرأة ) قوله تعالى ) وأوتيت من كل شيء ( يعني ما تحتاج إليه الملوك من المال والعدة ) ولها عرش عظيم ( أي سرير ضخم عال.
فإن قلت : كيف استعظم الهدهد عرشها على ما رأى من عظمة ملك سليمان.
قلت : يحتمل أنه استعظم ذلك بالنسبة إليها , ويحتمل أنه لم يكن لسليمان مع عظم ملكه مثله وكان عرش بلقيس من الذهب مكللاً بالدر , والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر , وقوائمه من الياقوت والزمرد , وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق قال ابن عباس : كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعاً , في ثلاثين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً.
وقيل كان طوله ثمانين في ثمانين وعلوه ثمانون وقيل : كان طوله ثمانين وعرضه أربعين وارتفاعه ثلاثون ذراعاً.
قوله عز وجل إخباراً عن الهدهد ) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ( وذلك أنهم كانوا يعبدون الشمس , وهم مجوس ) وزين لهم الشيطان أعمالهم ( المزين هو الله لأنه الفعل لما يريد , وإنما ذكر الشيطان لأنه سبب الإغواء ) فصدهم عن السبيل ( أي عن طريق الحق الذي هو دين الإسلام ) فهم لا يهتدون ( أي إلى الصواب ) ألا يسجدوا ( قرىء بالتخفيف ومعناه ألا يا أيها الناس اسجدوا وهو أمر من الله مستأنف , وقرىء بالتشديد ومعناه وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا ) لله الذي يخرج الخبء ( يعني الخفي المخبأ ) في السموات والأرض ( قيل خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات ) ويعلم ما تخفون وما تعلنون ( والمقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وغيرها , من دون ا لله لأنه لا يستحق العبادة إلا من هو قادر على من في السموات والأرض , عالم بجميع المعلومات ) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ( أي هو المستحق للعبادة والسجود لا غيره.
فصل
وهذه السجدة من عزائم السجود , يستحب للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءتها.
فإن قلت : قد وقف عرش بلقيس بالعظم وعشر الله بالعظم , فما الفرق بينهما.
قلت وصف عرش بلقيس بالعظم بالنسبة إليها وإلى أمثالها من ملوك الدنيا وأما عرش الله تعالى فهو بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض , فحصل الفرق بينهما فلما فرغ الهدهد من كلامه ) قال ( سليمان ) سننظر أصدقت ( أي فيما أخبرت ) أم كنت من الكاذبين ( ثم إن الهدهد
(5/143)
صفحة رقم 144
دلهم على الماء فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب , ثم إن سليمان كتب كتاباً : من عبدالله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ ( بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى , أما بعد أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين قيل لم يزد على ما نص الله في كتابه , وكذلك الأنبياء كانوا يكتبون جملاً , لا يطيلون ولا يكثرون فلما كتب سليمان الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه , وقال للهدهد ) اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ( إنما قال : إليهم بلفظ الجمع لأنه جعله جواباً لقول الهدهد وجدتها وقومها يسجدون للشمس فقال : فألقه إلى الذين هذا دينهم ) ثم تول عنهم ( أي تنح عنهم فقف قريباً منهم ) فانظر ماذا يرجعون ( أي يردون من الجواب وقيل : تقدير الآية فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنه , أي انصرف إلي فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به بلقيس وكانت بأرض مأرب من اليمن على ثلاث مراحل من صنعاء , فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلقت الأبواب , ووضعت المفاتيح تحت رأسها وكذلك كانت تفعل إذا رقدت فآتى الهدهد وألقى الكتاب على نحرها وقيل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على المرأة وحولها القادة والوزراء والجنود , فرفرف ساعة والناس ينظرون فرفعت بلقيس رأسها فألقى الكتاب على حجرها وقال وهب بن منبه : كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد , وسد الكوة بجناحيه فارتفعت الشمس , ولم تعلم فلما استبطأت الشمس قامت تنظر , فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب , وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت , وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد وجاءت هي حتى قعدت على سرير ملكها , وجمعت الملأ من قومها وهم الأشراف وقال ابن عباس كان مع بلقيس مائة قيل مع كل قيل مائة ألف والقيل ملك دون الملك الأعظم وقيل كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً , كل رجل منهم على عشرة آلاف فلما جاؤوا وأخذوا مجالسهم.
)
النمل : ( 29 - 35 ) قالت يا أيها...
" قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون قالوا نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون " ( ) قالت ( لهم بلقيس ) يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ( قيل سمته كريماً لأنه كان مختوماً , روى ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه سلم قال ( كرامة الكتاب ختمه )
(5/144)
صفحة رقم 145
وقال ابن عباس : كريم أي شريف لشرف صاحبه , ثم بينت ممن الكتاب فقالت ) إنه من سليمان ( قرأت المكتوب فيه فقالت ) وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( فإن قلت لم قدم إنه من سليمان على بسم الله.
قلت : ليس هو كذلك بل ابتدأ سليمان ببسم الله الرحمن الرحيم وإنما ذكرت بلقيس , أن هذا الكتاب من سليمان ثم ذكرت ما في الكتاب فقالت : وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) ألا تعلوا علي ( قال ابن عباس : لا تتكبروا علي.
والمعنى لا تمتنعوا من الإجابة فإن ترك الإجابة , من العلو والتكبر ) وأتوني مسلمين ( أي طائعين مؤمنين وقيل من الاستسلام وهو الانقياد ) قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ( أي أشيروا علي فيما عرض علي ) ما كنت قاطعة أمراً ( أي قاضية وفاصلة ) حتى تشهدون ( أي تحضرون ) قالوا ( يعني الملأ مجيبين لها ) نحن أولو قوة ( أي في الجسم على القتال ) وأولو بأس شديد ( أي عند الحرب وقيل أرادوا بالقوة كثرة العدد والبأس والشجاعة وهذا تعريض منهم بالقتال أي إن أمرتهم بذلك قالوا ) والأمر إليك ( أيتها الملكة أي في القتال وتركه ) فانظري ماذا تأمرين ( أي تجدين مطيعين لأمرك ) قالت ( بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال وما يؤول إليه أمره ) إن الملوك إذا دخلوا قرية ( أي عنوة ) أفسدوها ( أي خربوها ) وجعلوا أعزة أهلها أذلة ( أي أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر تحذرهم بذلك مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم ثم تناهى الخبر عنها هنا , وصدق الله قولها فقال تعالى ) وكذلك يفعلون ( أي كما قالت هي يفعلون وقيل هو من قولها وهو للتأكيد لما قالت ثم قالت ) وإني مرسلة إليهم بهدية ( يعني إلى سليمان وقومه أصانعه بها على ملكي , وأختبره بها أملك هو أم نبي فإن كان ملكاً قبل الهدية ورجع , وإن كان نبياً لم يقبل الهدية , ولم يرضه منا إلا أن نتبعه في دينه وهو قولها ) فناظرة بم يرجع المرسلون ( وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة عاقلة قد ساست الأمور , وجربتها فأهدت وصفاء ووصائف.
قال ابن عباس : مائة وصيف ومائة وصيفة قال وهب وغيره عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية , فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق , وألبست الغلمان لبس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب , وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة , وشنوفاً مرصعات بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة , والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجواهر , وأغشية الديباج وبعثت إليه لبنات من الذهب ولبنات من الفضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت , وأرسلت بالمسك والعنبر والعود اليلنجوج
(5/145)
صفحة رقم 146
وعمدت إلى حق جعلت فيه درة بقيمة ثمينة غير مثقوبة , وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلاً من أشراف قومها يقال له : المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالاً من قومها أصحاب عقل ورأي وكتبت مع المنذر كتاباً تذكر فيه الهدية , وقالت : إن كنت نبياً ميز بن الوصفاء والوصائف , وأخبرنا بما في الحق قبل أن تفتحه واثقب الدرة ثقباً مستوياً وأدخل في الخرزة خيطاً من غير علاج إنس ولا جن , وأمرت بلقيس الغلمان فقالت : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء , وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال , ثم قالت للرسول انظر إذا دخلت , فإن نظر إليك نظراً فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك أمره ومنظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشاً لطيفاً فافهم أنه نبي فتفهم قوله ورد الجواب فانطلق الرسول بالهدايا , وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان , فأخبره فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبناً من الذهب والفضة , ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار تسعة فراسخ وأن يفرشوا لبن الذهب والفضة , وأن يخلوا مقدار تلك اللبنات التي معهم وأن يعملوا حائطاً شرفه من الذهب والفضة , ففعلوا ثم قال أي دواب البر والبحر أحسن فقالوا يا نبي الله ما رأينا أحسن من دابة من دواب البحر يقال لها كذا وكذا مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص , قال : علي بها الساعة فأتوا بها قال شدوها بين يمين الميدان وشماله ثم قال للجن علي بأولادكم , فاجتمع منهم خلاق كثير فأقامهم على يمين الميدان , وعلى شماله وأمر الإنس والجن والشياطين , والوحوش والطير والسباع فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله , فلما دنا القوم إلى الميدان ونظروا إلى ملك سليمان رأوا أول الأمر الدواب , التي لا يرى مثلها تروث في لبنات الذهب والفضة , فلما رأوا ذلك تقاصرت أنفسهم وخبؤوا ما معهم من الهدايا وقيل إن سليمان فرش الميدان بلبنات الذهب والفضة , وترك على طريقهم موضعاً على قدر ما معهم من اللبن في ذلك الموضع فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً خافوا أن يتهموا بذلك , فوضعوا ما معهم من اللبن في ذلك الموضع فلما رأوا الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا فقالت لهم الشياطين جوزوا لا بأس عليكم , فكانوا يمرون على كراديس الإنس والجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان , فأقبل عليهم بوجه طلق وتلقاهم تلقياً حسناً , وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا فيه وأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه , وقال أين الحق ؟ فأتى به فحركه فجاءه جبريل
(5/146)
صفحة رقم 147
فأخبره بما فيه , فقال لهم : أن فيه درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة معوجة الثقب قال الرسول : صدقت فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة فقال سليمان : من لي بثقبها وسأل الإنس والجن , فلم يكن عندهم علم ثم سأل الشياطين فقالوا : نرسل إلى الأرضة فلما جاءت الأرضة أخذت شعرة في فيها ودخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال سليمان ما حاجتك قالت : تصير رزقي في الشجر.
فقال : لك ذلك ثم قال من لي بهذه الخرزة فقالت دودة بيضاء أنا لها يا نبي الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر.
فقال لها سليمان : ما حاجتك فقالت يكون رزقي في الفواكة قال : لك ذلك ثم ميز بن الغلمان والجواري , بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها , تضرب بها الآخرى وتغسل وجهها والغلام يأخذ الماء بيديه ويغسل به وجهه , وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها والغلام على ظاهره فميز بين الغلمان والجواري , ثم رد سليمان الهدية كما أخبر الله تعالى.
)
النمل : ( 36 - 39 ) فلما جاء سليمان...
" فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين " ( فقال تعالى : ( فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله ( أي ما أعطاني من الدين والنبوة والحكمة والملك ) خير ( أي أفضل ) مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ( معناه أنتم أهل مفاخرة ومكاثرة بالدنيا تفرحون بإهداء بعضكم إلى بعض , وأما أنا فلا أفرح بالدنيا وليست الدنيا من حاجتي لأن الله قد أعطاني منها ما لم يعط أحداً ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة , ثم قال للمنذر بن عمرو أمير
(5/147)
صفحة رقم 148
الوفد ) ارجع إليهم ( أي بالهدية ) فلنأتينهم بجنود لا قبل ( أي لا طاقة ) لهم بها ولنخرجنهم منها ( أي من أرض سبأ ) أذلة وهم صاغرون ( أي إن لم يأتوني مسلمين قال وهب وغيره من أهل الكتاب : لما رجعت رسل بلقيس إليها أي من عند سليمان , وبلغوها ما قال سليمان قالت والله لقد عرفت ما هذا بملك وما لنا به من طاقة.
فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك , وما الذي تدعو إليه من دينك , ثم أمرت بعرشها فجعلته في آخر سبعة أبيات بعضها داخل بعض ثم أغلقت عليه سبعة أبواب , ووكلت به حراساً يحفظونه ثم قالت لمن خلفت على ملكها احتفظ بما قبلك وسرير ملكي لا يخلص إليه أحد , ثم أمرت منادياً ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل , وشخصت إلى سليمان في أثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن كل قيل تحت يده ألوف كثيرة , قال ابن عباس : وكان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه.
فخرج يوماً فجلس على سريره فرأى رهجاً قريباً منه قال ما هذا ؟ قالوا : بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان وكان على مسيرة فرسخ من سليمان فأقبل سليمان على جنوده ) قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرضها قبل أن يأتوني مسلمين ( قال ابن عباس يعني طائعين وقيل مؤمنين.
قيل : غرض سليمان في إحضار عرشها ليريها قدرة الله تعالى وإظهار معجزة دالة على نبوته , وقيل أراد أن ينكره ويغيره قبل مجيئها ليختبر بذلك عقلها وقيل : إن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه لأنه أعجبه وصفه , لما وصفه له الهدهد وقيل أراد أن يعرف قدر ملكها لأن السرير على قدر المملكة ) قال عفريت من الجن ( وهو المارد القوي , وقال ابن عباس العفريت الداهية قال وهب : اسمه كوذي.
وقيل : ذكوان.
وقيل : هو صخر المارد وكان مثل الجبل يضع قدمه عند منتهى طرفه ) أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ( أي مجلس قضائك قال ابن عباس : وكان له في الغداة مجلس يقضي فيه إلى متسع النهار وقيل نصفه ) وإني عليه ( أي على حمله ) لقوي أمين ( أي على ما فيه من الجواهر وغيرها قال سليمان : أريد أسرع من ذلك.
)
النمل : ( 40 - 44 ) قال الذي عنده...
" قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " ( ) قال الذين عنده علم من الكتاب ( قيل هو جبريل.
وقيل : هو ملك أيد الله به سليمان وقيل هو آصف بن برخيا
(5/148)
صفحة رقم 149
وكان صديقاً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وقيل هو سليمان نفسه لأنه أعلم بني إسرائيل بالكتاب وكان الله قد آتاه علماً وفهماً , فعلى هذه يكون المخاطب العفريت الذي كلمه فأراد سليمان إظهار معجزة , فتحداهم أولاً ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتأتى للعفريب قيل : كان الدعاء الذي دعا به : يا ذا الجلال والإكرام وقيل : يا حي يا قيوم.
وروي ذلك عن عائشة وروي عن الزهري قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب : يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت , ائتني بعرشها , وقال ابن عباس : إن آصف قال لسليمان حين صلى مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمين ودعا آصف , فبعث الله الملائكة فحملوا السرير يجرون به تحت الأرض , حتى نبع من بين يدي سليمان وقيل : خر سليمان ساجداً ودعا باسم الله الأعظم فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر كرسي سليمان فقال : ما قال ) أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ( قال سليمان : هات قال أنت النبي ابن النبي وليس أحد عند الله أوجه منك فإن دعوت الله كان عندك : قال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت ) فلما رآه ( يعني رأى سليمان العرش ) مستقراً عنده ( أي محولاً إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف ) قال هذا من فضل ربي ليبلوني ( يعني لتمكن من حصول المراد ) أأشكر ( أي نعمته علي ) أم أكفر ( فلا أشكرها ) ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ( أي يعود نفع شكره إليه وهو أن يستوجب به تمام النعمة , ودوامها لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة ) ومن كفر فإن ربي غني ( أي عن شكره لا يضره ذلك الكفران ) كريم ( يعني بالإفضال عليه لا يقطع نعمة عنه بسبب إعراضه عن الشكر وكفران النعمة ) قال نكروا لها عرشها ( يعني غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته قيل : هو أن يزاد فيه أو ينقص منه وقيل : إنما يجعل أسفله أعلاه ويجعل مكان الجواهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر ) ننظر أتهتدي ( إلى معرفة عرشها ) أم تكون من الذين لا يهتدون ( إلى معرفته , وإنما حمل سليمان على ذلك ما قال وهب ومحمد بن كعب , وغيرهما أن الشياطين خافت
(5/149)
صفحة رقم 150
أن يتزوجها سليمان فتفتشي إليه أسرار الجن , لأن أمها كانت جنية وإذا ولدت ولداً لا ينفكون من تسخير سليمان وذريته من بعده فاساءوا اثناء عليها ليزهدوه فيها , وقالوا : إن في عقلها شيئاً وأن رجلها كحافر الحمار , وإنها شعراء الساقين فأراد سليمان , أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح ) فلما جاءت قيل ( لها ) أهكذا عرشك قالت كأنه هو ( قيل : إنها عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها , وقيل : إنها كانت حكيمة لم تقل نعم خوفاً من الكذب ولا قالت : لا خوفاً من التكذيب أيضاً فقالت : كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها بحيث لم تقر ولم تنكر اشتبه عليها أمر العرش , لأنها تركته في بيت عليه سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها قيل فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب ثم قالت ) وأوتينا العلم من قبلها ( يعني من قبل الآية في العرش ) وكنا مسلمين ( يعني منقادين مطيعين خاضعين لأمر سليمان وقيل : قوله تعالى وأوتينا العلم أي بالله وبصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبلها أي من قبل الآية في العرش , وكنا مسلمين أو معناه وأوتينا العلم بالله , وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة وكنا مسلمين ويكون الغرض من هذا شكر نعمة الله عليه أن خصه بمزيد العلم , والتقدم في الإسلام وقيل معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها طائعة وكنا مسلمين لله.
قوله تعالى ) وصدها ما كانت تعبد من دون الله ( يعني منعتها عبادة الشمس عن التوحيد وعبادة الله وقيل معناه صدها سليمان , عما كانت تعبد من دون الله وحال بينها وبينه ) إنها كانت من قوم كافرين ( أخبر الله أنها كانت من قوم يعبدون الشمس , فنشأت بينهم ولم تعرف إلا عبادة الشمس ) قيل لها ادخلي الصرح ( وذلك أن سليمان لما اختبر عقلها بتنكير العرش وأراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفهما لما أخبرته الجن أن رجليها كحافر حمار , وهي شعراء الساقين أمر الشياطين , فعملوا لها قصراً من الزجاج الأبيض كالماء وقيل : الصرح صحن الدار وأجرى تحته الماء , وألقى فيه السمك والضفادع وغيرهما من
(5/150)
صفحة رقم 151
دواب البحر ثم وضع سريره في صدر المجلس وجلس عليه وقيل إنما عمل الصرح ليختبر به فهمها كما فعلت في الوصفاء والوصائف.
فلما جلس على السرير دعا بلقيس , ولما جاءت قيل لها ادخلي الصرح ) فلما رأته حسبته لجة ( أي ماء عظيماً ) وكشفت عن ساقيها ( لتخوض الماء إلى سليمان , فإذا هي أحسن النساء ساقاً وقدماً إلا أنها كانت شعراء الساقين فلما نظر سليمان ذلك صرف بصره عنها ) قال إنه صرح ممرد ( أي مملس ) من قوارير ( زجاج وليس بماء فحينئذٍ سترت ساقيها وعجبت من ذلك وعلمت أن ملك سليمان من الله تعالى واستدلت بذلك على التوحيد والنبوة ) قالت ربي إني ظلمت نفسي ( بعبادة غيرك ) وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ( أي أخلصت له التوحيد والعبادة , وقيل : إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت : في نفسها إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا لما تبين لها خلاف ذلك قالت : رب إني ظلمت نفسي بذلك الظن.
واختلفوا في أمر بلقيس بعد إسلامها , فقيل انتهى أمرها إلى قولها أسلمت لله رب العالمين ولا عمل لأحد وراء ذلك , لأنه لم يذكر في الكتاب ولا في خبر صحيح وقال بعضهم : تزوجها سليمان وكره ما رأى من كثرة شعر ساقيها , فسأل الإنس عما يذهب ذلك فقالوا الموسى.
فقالت المرأة إني لم يمسني حديد قط فكره سليمان الموسى وقال : إنها تقطع ساقيها فسأل الجن فقالوا لا ندري فسأل الشياطين.
فقالوا : نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة , والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذٍ.
فلما تزوجها سليمان أحبها حباً شديداً , وأقرها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعاً وحسناً , وهي سلحين وبيسنون وغمدان ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة , ويقيم عندها ثلاثة أيام يبكر من الشام إلى اليمن ومن إلى الشام وولدت له ولداً ذكراً.
وقال وهب : زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلاً من قومك حتى أزوجك إياه , فقالت : ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال وقد كان لي من قومي الملك والسلطان , قال : نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله قالت : فإن كان ولا بد فزوجني ذا تبع
(5/151)
صفحة رقم 152
ملك همدان فزوجها إياه وذهب بها إلى اليمن , وملك زوجها ذا تبع على اليمن , ودعا زوبعة ملك الجن وقال له اعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم يزل يعمل له ما أراد إلى أن مات سليمان وحال الحول , وعلم الجن موت سليمان , فأقبل رجل منهم حتى بلغ جوف اليمن وقال بأعلى صوته : يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك سليمان وملك ذي تبع وملك بلقيس , وبقي الملك لله الواحد القهار قيل إن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
)
النمل : ( 45 - 49 ) ولقد أرسلنا إلى...
" ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون " ( قوله عز وجل : ( ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا الله ( أي وحدوه لا تشركوا به شيئاً ) فإذا هم فريقان ( أي مؤمن وكافر ) يختصمون ( أي في الدين كل فريق يقول الحق معنا ) قال ( يعني صالحاً للفريق المكذب ) يا قوم لم تستعجلون بالسيئة ( أي بالبلاء والعقوبة ) قبل الحسنة ( أي العافية الرحمة ) لولا ( أي هلا ) تستغفرون الله ( أي بالتوبة إليه من الكفر ) لعلكم ترحمون ( أي لا تعذبون في الدنيا ) قالوا اطيرنا ( أي تشاءمنا ) بك وبمن معك ( قيل : إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم وقيل : الإمساك القطر عنهم قالوا إما أصابنا هذا الضر والشدة من شؤمك وشؤم أصحابك ) قال طائركم عند الله ( أي ما يصيبكم من الخير والشر بأمر الله مكتوب عليكم , سمي طائراً لأنه لا شيء أسرع من نزول القضاء المحتوم وقال ابن عباس الشؤم الذي أتاكم من عند الله بكفركم وقيل طائركم أي عملكم , عند الله , سمي طائراً لسرعة صعوده إلى السماء ) بل أنتم قوم تفتنون ( قال ابن عباس تختبرون بالخير والشر وقيل معناه تعذبون.
قوله تعالى ) وكان في المدينة ( يعني مدينة ثمود وهي الحجر ) تسعة رهط ( يعني من أبناء أشرافهم ) يفسدون في الأرض ( أي بالمعاصي ) ولا يصلحون ( أي لا يطعيون وهم غواة قوم صالح الذي اتفقوا على عقر الناقة ورأسهم قدار بن سالف ) قالوا تقاسموا بالله ( يعني يقول بعضهم لبيعض احلفوا بالله أيها القوم ) لنبيتنه ( أي لنقتلنه ليلاً ) وأهله ( يعني قومه الذين آمنوا معه ) ثم لنقولن لوليه ( أي لولي دمه ) ما شهدنا ( يعني ما حضرنا ) مهلك أهله ( أي ما ندري من قتله ولا هلاك أهله ) وإنا لصادقون ( يعني قولنا ما شهدنا ذلك.
)
النمل : ( 50 - 63 ) ومكروا مكرا ومكرنا...
" ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أم من جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون " ( ) ومكروا مكراً ( أي غدروا غدراً حين قصدوا تبيت صالح وأهله ) ومكرنا مكراً ( يعني جازيناهم على مكرهم بتعجيل العذاب ) وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم ( يعني أهلكناهم
(5/152)
صفحة رقم 153
أي التسعة قال ابن عباس : أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتت التسعة دار صالح شاهرين سلاحهم , فرمتهم الملائكة بالحجارة وهم يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم وأهلك الله جميع القوم بالصيحة ) وقومهم أجمعين , فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ( أي بظلمهم وكفرهم ) إن في ذلك لآية ( أي لعبرة ) لقوم يعلمون ( أي قدرتنا ) وأنجينا الذي آمنوا , وكانوا يتقون ( يقال إن الناجين كانوا أربعة آلاف.
قوله تعالى ) ولوطاً إذ قال لقومه : أتأتون الفاحشة ( أي الفعلة القبيحة ) وأنتم تبصرون ( أي تعلمون أنها فاحشة هو من بصر القلب وقيل : معناه يبصر بعضكم بعضاً وكانوا لا يستترون عتواً منهم ) أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون ( فإن قلت إذا فسر تبصرون بالعلم وقد قال : بعده ) قوم تجهلون ( فيكون العلم جهلاً.
قلت : معناه تفعلون فعل الجاهلين وتعلمون أنه فاحشة.
وقيل : تجهلون العاقبة وقيل أراد بالجهل السفاهة التي كانوا عليها ) فلما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ( يعني من أدبار الرجال ) فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين ( أي قضينا عليها بأن جعلناها من الباقين في العذاب ) وأمطرنا عليهم مطراً ( أي الحجارة ) فساء ( أي فبئس ) مطر المنذرين ( قوله عز وجل ) قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ( هذا خطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية , وقيل : يحمده على جميع نعمه وسلام على عباده الذين اصطفى يعني الأنبياء والمرسلين وقال ابن عباس : هم أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين ) الله خير أما يشركون ( فيه تبكيت للمشركين وإلزام الحجة عليهم بعد هلاك الكفار.
والمعنى آلله خير لمن عبده أم الأصنام لمن عبدها فإن الله خير لمن عبده وآمن به لإغنائه عنه من الهلاك والأصنام , لم تغن شيئاً عن عابديها عند نزول العذاب , ولهذا السبب ذكر أنواعاً تدل على وحدانيته وكما قدرته.
فالنوع الأول قوله تعالى : ( أمن خلق السموات والأرض ( ذكر أعظم الأشياء المشاهدة الدالة على عظيم قدرته.
والمعنى الأصنام خير أم الذي خلق السموات والأرض ثم ذكر نعمه فقال ) وأنزل لكم من السماء ماء ( يعني المطر ) فأنبتنا به حدائق ( أي بساتين جمع حديقة , وهو البستان المحيط عليه فإن لم يكن عليه حائط فليس
(5/153)
صفحة رقم 154
بحديقة ) ذات بهجة ( أي ذات منظر حسن والبهجة الحسن يبتهج به من يراه ) ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ( يعني ما ينبغي لكم , لأنكم لا تقدرون على ذلك لأن الإنسان قد يقول : أنا المنبت للشجرة بأن أغرسها وأسقيها الماء فأزال هذه الشبهة بقوله ) ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ( لأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف , والطعوم والروائح المختلفة والزروع تسقى بماء واحد , لا يقدر عليه إلا الله تعالى ؛ ولا يتأتى لأحد وإن تأتى ذلك لغيره محال ) أإله مع الله ( يعني هل معه معبود أعانه على صنعه ) بل ( يعني ليس معه إله ولا شريك ) هم قوم ( يعني كفار مكة ) يعدلون ( يشركون وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر إلى الباطل.
النوع الثاني قوله عز وجل ) أمن جعل الأرض قراراً ( أي دحاها وسواها للاستقرار عليها , وقيل لا تميد بأهلها ) وجعل خلالها أنهاراً ( أي وسطها بأنهار تطرد بالمياه ) وجعل لها رواسي ( أي جبالاً ثوابت ) وجعل بين البحرين ( يعني العذاب والملح ) حاجزاً ( أي مانعاً لا يختلط أحدهما بالآخر ) أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ( أي توحيد ربهم وقدرته وسلطانه.
النوع الثالث قوله تعالى ) أمن يجب المضطر ( أي المكروب المجهود , وقيل : المضرور بالحاجة المحوجة من مرض أو نازلة من نوازل الدهر يعني إذا نزلت بأحد بادر إلى الالتجاء والتضرع إلى الله تعالى وقيل : هو المذنب إذا استغفر ) إذا دعاه ( يعني فيكشف ضره ) ويكشف السوء ( أي الضر لأنه لا يقدر على تغيير حال من فقر إلى غنى , ومن مرض إلى صحة ومن ضيق إلى سعة إلا القادر , الذي لا يعجز والقاهر الذي لا يغلب ولا ينازع ) ويجعلكم خلفاء الأرض ( أي سكانها , وذلك أنه ورثهم سكانها والتصرف فيها قرناً بعد قرن وقيل يجعل أولادكم خلفاء لكم وقيل : جعلكم خلفاء الجن في الأرض ) أإله مع الله قليلاً ما تذكرون ( أي تتعظون.
النوع الرابع قوله عز وجل ) أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ( أي يهديكم بالنجوم والعلامات إذا جن عليكم الليل مسافرين في البر والبحر ) ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته ( أي قدام المطر ) أإله مع الله تعالى عما يشركون (
)
النمل : ( 64 - 78 ) أم من يبدأ...
" أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم " ( النوع الخامس قوله تعالى : ( أمن يبدأ الخلق ( أي نطفاً في الأرحام ) ثم يعيده ( بعد الموت ) ومن يررقكم من السماء والأرض ( أي من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات ) إإلهة مع الله قل هاتوا برهانكم ( أي حجتكم على قولكم إن مع الله إلهاً آخر ) إن كنتم صادقين ( قوله تعالى ) قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ( نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن وقت الساعة.
والمعنى أن الله هو الذي يعلم الغيب وحده ويعلم متى تقوم الساعة ) ما يشعرون أيان يبعثون ( يعني أن من في السموات وهم الملائكة ومن في الأرض وهم بنو آدم لا يعلمون متى يبعثون والله تعالى تفرد بعلم ذلك ) بل ادارك علمهم ( أي بلغ ولحق علمهم ) في الآخرة ( هو ما جهلوه في الدنيا
(5/154)
صفحة رقم 155
وسقط عنهم علمه.
وقيل بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا فيه وعلموا عنه في الدنيا وهو قوله تعالى ) بل هم في شك منها ( أي هم اليوم في شك من الساعة ) بل هم منها عمون ( جمع عم وهو أعمى القلب وقيل معنى الآية أن الله أخبر عنهم إذا بعثوا يوم القيامة يستوي علمهم في الآخرة , وما وعدوا فيها من الثواب والعقاب وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا.
قوله تعالى ) وقال الذين كفروا ( أي مشركو مكة ) أإذا كنا تراباً وآباؤنا أإنا لمخرجون ( أي من قبورنا أحياء ) لقد وعدنا هذا ( أي هذا البعث ) نحن وآباؤنا من قبل ( أي من قبل محمد صلى الله عليه سلم وليس ذلك بشيء ) إن هذا ( أي ما هذا ) إلا أساطير الأولين ( أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها ) قيل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن عليهم ( أي بتكذيبهم إياك وإعراضهم عنك.
) ولا تكن في ضيق مما يمكرون ( نزلت في المستهزئين الذي اقتسموا عقاب مكة ) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف ( أي دنا وقرب ) لكم ( وقيل معناه ردفكم ) بعض الذي تستعجلون ( أي من العذاب فحل بهم ذلك يوم بدر.
قوله عز وجل ) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم ( أي تخفى ) وما يعلنون ( أي من عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وما من غائبة ( أي من جملة غائبة من مكتوم سر وخفي أمر وشيء غائب ) في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ( يعني في اللوح المحفوظ ) إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل ( أي يبين لهم ) أكثر الذين هم فيه يختلفون ( أي من أمر الدين , وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزاباً يطعن بعضهم على بعض فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه ) وإنه ( يعني القرآن ) لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم (
(5/155)
صفحة رقم 156
أي يفصل بينهم ويحكم بين المختلفين في الدين يوم القيامة ) بحكمة ( أي الحق ) هو العزيز ( الممتنع الذي لا يرد له أمر ) العليم ( أي بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء منها.
)
النمل : ( 79 - 82 ) فتوكل على الله...
" فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " ( ) فتوكل على الله ( أي فثق به ) إنك على الحق المبين ( أي البين ) إنك لا تسمع الموتى ( يعني موتى القلوب وهم الكفار ) ولا تسمع الصم الدعاء , فإذا ولو مدبرين ( أي معرضين.
فإن قلت ما معنى مدبرين والأصم لا يسمع صوتاً سواء أقبل أو أدبر ؟.
قلت : هو تأكيد ومبالغة وقيل : إن الأصم إذا كان حاضراً قد يسمع برفع الصوت , أو يفهم بالإشارة فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم.
ومعنى الآية إنه لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت الذي لا سبيل إلى سماعه , وكلأصم الذي لا يسمع ولا يفهم ) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ( معناه ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان ) إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ( إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله ) فهم مسلمون ( أي مخلصون.
قوله تعالى : ( وإذا وقع القول عليهم ( يعني إذا وجب عليهم العذاب وقيل : إذا غضب الله عليهم وقيل إذا وجبت الحجة عليهم , وذلك أنهم لم يأمروا بالمعروف , ولم ينهوا عن المنكر وقيل إذا لم يرج صلاحهم وذلك في آخر الزمان قبل قيام الساعة ) أخرجنا لهم دابة الأرض (.
( م ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( بادروا بالأعمال قبل ست : طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخويصة أحدكم وأمر العامة ) ( م ) عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى , وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم ( تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن وتخطم أنف الكافر بالخاتم : حتى إن أهل الحق ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر ) أخرجه الترمذي.
وقال حديث حسن , وروى البغوي بإسناده عن الثعلبي عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية لا يدخل ذكرها القرية , يعني مكة ثم تمكث زمناً طويلاً , ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشوا ذكرها بالبادية , ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم بينا الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمة , وأكرمها على الله يعني المسجد الحرام لم يرعهم , إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو , كذا قال عمر وما بين الركب الأسود إلى باب بني مخزوم , عن يمين الخارج في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وتثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله , فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية , ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى أن الرجل , ليقوم فيعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه , فيتجاور الناس في ديارهم ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال يعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر ) وبإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان ذكر رسول الله صلى لله عليه وسلم الدابة قلت : يا رسول الله من أين تخرج قال ( من أعظم المساجد حرمة على الله فبينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض , وينشق الصفا مما يلي
(5/156)
صفحة رقم 157
المسعى وتخرج الدابة من الصفا أول ما يخرج منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها الطالب , ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمناً وكافراً ؛ فأما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن ؛ وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه كافر ) وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال : إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه وعن ابن عمر قال تخرج الدابة ليلة جمع الناس ويسيرون إلى منى , وعن أبي هريرة عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( بئس الشعب شعب أجياد مرتين أو ثلاثاً قيل : ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال : تخرج منه الدابة تصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين ) وروي عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير , وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر , وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعاً.
وعن عبدالله بن عمرو قال : تخرج الدابة من شعب أجياد فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض وروي عن علي قال : ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية وقال وهب : وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من رآها أن أهل مكة , كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون ) تكلمهم ( أي بكلام فصيح قيل تقول هذا مؤمن وهذا كافر.
وقيل : تقول ما أخبر الله تعالى ) إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ( تخبر الناس عن أهل مكة أنهم لم يؤمنوا بالقرآن والبعث.
وقرىء تكلمهم بتخفيف اللام من الكلم , وهو الجرح وقال ابن الجوزي : سئل
(5/157)
صفحة رقم 158
ابن عباس عن هذه الآية تكلمهم فقال : كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر.
)
النمل : ( 83 - 87 ) ويوم نحشر من...
" ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاؤوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين " ( قوله تعالى : ( ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ( أي نحشر من كل قرن جماعة ) ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون ( أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعون ثم يساقوا إلى النار ) حتى إذا جاؤوا ( يعني يوم القيامة ) قال ( الله تعالى لهم ) أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً ( أي ولم تعرفوها حق معرفتها ) أم ماذا كنتم تعملون ( أي حين لم تتفكروا فيها وقيل : معنى الآية أكذبتم بآياتي غير عالمين بها ولم تتفكروا في صحتها بل كنتم بها جاهلين ) ووقع القول ( أي وجب العذاب ) عليهم بما ظلموا ( أي بما أشركوا ) فهم لا ينطقون ( أي بحجة قيل إن أفواههم مختومة ) ألم يروا أنا جعلنا ( أي
(5/158)
صفحة رقم 159
أنا خلقنا ) الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ( أي مضيئاً يبصر فيه.
وفي الآية دليل على البعث بعد الموت لأن القادر على قلب الضياء ظلمة , والظلمة ضياء قادر على الإعادة بعد الموت ) إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( أي يصدقون فيعتبرون.
قوله تعالى ) ويوم ينفخ في الصور ( هو قرن ينفخ فيه إسرافيل قال الحسن : الصور هو القرن ومعنى كلامه إن الأرواح تجتمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب في الأجساد فتحيا بها الأجساد ) ففزع ( أي فصعق ) من في السموات ومن في الأرض ( أي ماتوا.
والمعنى أنه يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا.
وقيل ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات , نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين ) إلا من شاء الله ( روى أبو هريرة أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن قوله تعالى ) إلا من شاء الله ( قال ( هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش ) وقال ابن عباس : هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل إليهم الفزع.
وقيل : يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل فلا يبقى بعد النفخة إلا هؤلاء الأربعة ويروى أن الله تعالى يقول لملك الموت خذ نفس إسرافيل فيأخذ نفسه ثم يقول : من بقي يا ملك الموت فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام , وجهك الباقي الدائم بقي جبريل وميكائيل , وملك الموت فيقول : خذ نفس ميكائيل.
فيأخذ نفس ميكائيل فيقع , كالطود العظيم فيقول من بقي من خلقي : فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل , وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول يا جبريل من بقي فيقول : تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام بقي وجهك الدائم الباقي وجبريل , الميت الفاني فيقول الله : يا جبريل لا بد من موتك فيقع ساجداً يخفق بجناحيه.
فيروى أن فضل خلقه على ميكائيل كفضل الطود العظيم على ظرب من الظراب.
ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش ثم روح ملك الموت , فإذا لم يبق أحد إلا الله تبارك وتعالى طوى السماء كطي السجل للكتاب ثم يقول الله ( أنا الجبار لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول الله تعالى : لله الواحد القهار )
( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى , فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى أخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أكان ممن استثنى الله
(5/159)
صفحة رقم 160
عز وجل أم رفع رأسه قبلي , ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ) وقيل الذين استثنى الله هم رضوان والحور ومالك والزبانية.
وقوله تعالى ) وكل ( أي وكل الذي أحيوا بعد الموت ) أتوه ( أي جاؤوه ) داخرين ( أي صاغرين.
)
النمل : ( 88 - 93 ) وترى الجبال تحسبها...
" وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون " ( قوله تعالى ) وترى الجبال تحسبها جامدة ( أي قائمة واقفة ) وهي تمر مر السحاب ( أي تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جسم كبير وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمه وبعد ما بين أطرافه فهو في حساب الناظر واقف وهو سائر كذلك سير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه ) صنع الله الذي أتقن كل شيء ( يعني أنه تعالى , لما قدم هذه الأشياء كلها التي لا يقدر عليها غيره جعل ذلك الصنع من الأشياء التي أتقنها وأحكمها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب ) إنه خبير بما تفعلون (.
قوله تعالى ) من جاء بالحسنة ( أي بكلمة الإخلاص , وهي شهادة أن لا إله إلا الله وقيل الإخلاص في العمل , وقيل الحسنة كل طاعة عملها الله عز وجل ) فله خير منها ( قال ابن عباس فيها يصل إلى الخير بمعنى أن له من تلك الحسنة خير يوم القيامة وهو الثواب والأمن من العذاب أما من يكون له شيء خير من الإيمان فلا , لأنه لا شيء خير من لا إله إلا الله , وقيل : هو جزاء الأعمال والطاعات الثواب والجنة وجزاء الإيمان والإخلاص رضوان الله والنظر إليه لقوله ) ورضوان من الله ( " وقيل : معنى خير منها الأضعاف أعطاه الله بالواحدة عشر أضعافها , لأن الحسنة استحقاق العبد والتضعيف تفضيل الرب تبارك وتعالى ) وهم من فزع يومئذٍ آمنون ( فإن قلت كيف نفى الفزع هنا وقد قال قبله ففزع من في السموات ومن في الأرض.
قلت : إن الفزع الأول هو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع وهول يفجأ من رعب وهيبة وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه فأما الفزع الثاني فهو الخوف من العذاب فهم آمنون منه.
وأما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد ) ومن جاء بالسيئة ( يعني بالشرك ) فكبت وجوههم في النار ( عبر بالوجه عن جميع البدن كأنه قال كبوا وطرحوا جميعهم في النار ) هل تجزون إلا ما كنتم تعملون (
(5/160)
صفحة رقم 161
أي تقول لهم خزنة جهنم ) هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ( في الدنيا من الشرك.
وقوله تعالى ) إنما أمرت ( يعني يقول الله تعالى لرسوله قل إنما أمرت ) أن أعبد رب هذه البلدة ( يعني أمرت أن أخص بعبادتي وتوحيدي الله الذي هو رب هذه البلدة يعني مكة , وإنما خصها من بين سائر البلاد بالذكر لأنها مضافة إليه وأحب البلاد وأكرمها عليه , وأشار إليها إشارة تعظيم لأنها موطن نبيه ومهبط وحيه ) الذي حرمها ( أي جعلها الله حرماً آمناً لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاله ولا يدخلها إلا محرم , وإنما ذكر أنه هو الذي حرمها لأن العرب كانوا معترفين بفضلية مكة , وأن تحريمها من الله لا من الأصنام ) وله كل شيء ( أي خلقاً وملكاً ) وأمرت أن أكون من المسلمين ( لله المطيعين له ) وأن أتلوا القرآن ( أي أمرت أن أتلو القرآن ولقد قام ( صلى الله عليه وسلم ) بكل ما أمر به أتم قيام على ما أمر به ) فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ( أي نفع اهتدائه يرجع إليه ) ومن ضل ( أي عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى ) فقل إنما أنا من المنذرين ( أي من المخوفين , وما علي إلا البلاغ نسختها آية القتال ) وقل الحمد لله ( أي على جميع نعمه , وقيل : على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة والإنذار ) سيريكم الآية ( الباهرة ودلائله القاهرة قيل : هو يوم بدر وهو ما أراهم من القتل والسبي وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وقيل : آياته في السموات والأرض وفي أنفسكم ) فتعرفونها ( أي فتعرفون الآيات والدلالات ) وما ربك بغافل عما تعملون ( فيه وعيد بالجزاء على أعمالهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
سورة القصص
( تفسير سورة القصص ) وهي مكية إلا قوله تعالى ' واللذين آتيناهم الكتاب ' إلى قوله ' لا نبتغى الجاهلين ' وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة وهي قوله ' إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ' وهي ثمان وثمانون آية وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة وخمسة آلاف وثمانمائة حرف.
بسم الله الرحمن الرحيم قوله عز وجل )
القصص : ( 1 - 2 ) طسم
" طسم تلك آيات الكتاب المبين " ( قوله عز وجل ) طسم تلك ( إشار إلى آيات السورة ) آيات الكتاب المبين ( قيل هو اللوح المحفوظ وقيل هو الكتاب الذي أنزله على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ووصفه بأنه مبين لأنه بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام.
)
القصص : ( 3 - 7 ) نتلوا عليك من...
" نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " ( ) نتلو عليك من نبأ ( أي خبر ) موسى وفرعون بالحق ( أي بصدق ) لقوم يؤمنون ( أي يصدقون بالقرآن ) إن فرعون علا ( أي تجبر وتكبر ) في الأرض ( أي أرض مصر ) وجعل أهلها شيعاً ( أي فرقاً في أنواع الخدمة والتسخير ) يستضعف طائفة منهم ( يعني بني إسرائيل ) يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ( سمى هذا استضعافاً لأنهم عجزوا
(5/161)
صفحة رقم 162
وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم ) إنه كان من المفسدين ( أي بالقتل والتجبر في الأرض ) ونريد أن نمن ( أي ننعم ) على الذين استضعفوا في الأرض ( يعني بني إسرائيل ) وجعلهم أئمة ( أي قادة في الخير يقتدى بهم وقيل ولادة ملوكاً ) وجعلهم الوارثين ( يعين أملاك فرعون , وقومه بأن نجعلهم في مساكنهم ) ونمكن لهم في الأرض ( أي نوطن لهم أرض مصر والشام , ونجعلها لهم سكناً ) ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ( أي يخافون وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل وكانوا على حذر منه فأراهم الله ما كانوا يحذرون.
قوله تعالى ) وأوحينا إلى أم موسى ( هو وحي إلهام , وذلك بأن قذف في قلبها واسمها يوحانذ من نسل لاوي بن يعقوب ) أن أرضعيه ( قيل أرضعته ثمانية أشهر وقيل أربعة وقيل ثلاثة كانت ترضعه , وهو لا يبكي ولا يتحرك في حجرها ) فإذا خفت عليه ( أي الذبح ) فألقيه في اليم ( أي في البحر وأراد نيل مصر ) ولا تخافي ( أي عليه من الغرق وقيل الضيعة ) ولا تحزني ( أي على فراقه ) إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ( قال ابن عباس إن بني إسرئيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس , وعملوا بالمعاصي ولم يأمروا بالمعروف , ولم ينهوا عن المنكر فسلط القبط فاستضعفوهم إلى أن اجازهم الله على يد نبيه موسى عليه الصلاة والسلام.
ذكر القصة في ذلك
قال ابن عباس : إن أم موسى لما تقاربت ولادتها , كانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى فلما ضربها الطلق أرسلت إليها , وقالت لها : قد نزل بي ما نزل فلينفعني حبك إياي اليوم , فعالجت قبالها فلما وقع موسى بالأرض هالها نور عيني موسى
(5/162)
صفحة رقم 163
فارتعش كل مفصل فيها , ودخل حب موسى قلبها ثم قالت لها يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني إلا مرادي قتل ولدك , ولكن وجدت لولدك حباً ما وجدت حب شيء مثل حبه فاحفظي ابنك , فإني أراه عدونا فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاؤوا إلى بابها ليدخلوا إلى أم موسى , فقالت أخته : يا أماه هذا الحرس بالباب فلفته بخرقة وألقته في التنور وهو مسجور , وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع قال فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى ولم يتغير لها لون , ولم يظهر لها لبن فقالوا ما أدخل القابلة قالت هي مصافية لي فدخلت علي زائرة , فخرجوا من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخته فأين الصبي ؟ فقالت : لا أدري فسمعت بكاء الصبي في التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً فاحتملته , قال : ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها , فقذف الله في قلبها أن تتخذ تابوتاً له ثم تقذف التابوت في النيل فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون , فاشترت منه تابوتاً صغيراً فقال النجار ما تصنعين بهذا التابوت ؟ فقالت : ابن لي أخبئه في التابوت , وكرهت الكذب قال ولم تقل أخشى عليه كيد فرعون , فلما اشترت التابوت وحملته , وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه , فلم يطلق الكلام وجعل يشير بيديه فلم تدر الأمناء ما يقول , فلما أعياهم أمره قال كبيرهم : اضربوه فضربوه وأخرجوه فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم فانطلق أيضاً يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم
(5/163)
صفحة رقم 164
فأخذ لسانه وبصره فلم يطق الكلام , ولم يبصر شيئاً فضربوه وأخرجوه , وبقي حيران فجعل لله عليه إن رد عليه لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه فيحفظه , حيثما كان فعرف الله صدقه فرد عليه لسانه وبصره فخر لله ساجداً فقال يا رب : دلني على هذا العبد الصالح فدله عليه فآمن به وصدقه وقال وهب لما حملت أم موسى بموسى , كتمت أمرها عن جميع الناس فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله تعالى , وذلك شيء ستره الله تعالى لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل فلما كانت السنة التي ولد فيها , بعث فرعون القوابل وتقدم الأمين ففتش النساء تفتيشاً لم يفتش قبل ذلك مثله , وحملت بموسى ولم يتغير لونها ولم ينب بطنها فكانت القوابل لا تتعرض لها فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم وأوحى الله إليها ) أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ( فكتمته ثلاثة أشهر فلما خافت عليه عملت تابوتاً , مطبقاً , ثم ألقته في اليم وهو البحر ليلاً.
قال ابن عباس وغيره : كان لفرعون يومئذ بنت ولم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس عليه وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إليه وكان لها برص شديد كان فرعون قد جمع الأطباء والسحرة فنظروا في أمرها فقالوا : أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في ساعة كذا حين تشرق الشمس فلما كان ذلك اليوم غداً فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطىء البحر مع جاوريها تلاعبهن وتنضح المساء على وجوههن إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج فقال فرعون : إن هذا الشيء في البحر قد تعلق بالشجر أئتوني به فابتدروه بالسفن من كل ناحية حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه.
فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في التابوت وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمص منه لبناً فألقى الله محبته في قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه.
وأقبلت بنت فرعون فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت إلى ما يسيل من أشداقه من ريقه فلطخت به برصها فبرأت ثم قبلته وضمته إلى صدرها فقالت : الغواة من قوم فرعون أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا رمي به في البحر فزعاً منك فهم فرعون بقتله فقالت آسية : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أي فنصيب منه خيراً أو نتخذه ولداً وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها.
وقال فرعون : أما أنا فلا حاجة لي فيه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو قال يومئذٍ قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها الله ) فقيل لآسية سميه فقالت سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر لأن موسى هو الماء وهو الشجر.
)
القصص : ( 8 - 12 ) فالتقطه آل فرعون...
" فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه
(5/164)
صفحة رقم 165
عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون " ( قوله تعالى : ( فالتقطه آل فرعون ( الالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب ) ليكون لهم عدواً وحزناً ( أي عاقبة أمرهم إلى ذلك لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً ) إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ( أي آثمين وقيل : هو من الخطأ ومعناه أنهم لم يشعروا أنه الذي يذهب بملكهم ) وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ولا يشعرون ( قال وهب لما نظر إليه فرعون قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك وقال كيف أخطأ هذا الغلام الذبح وكانت آسية امرأة فرعون من خيار النساء ومن بنات الأنبياء.
وكانت اماً للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه هذا الوليد أكبر من ابن سنة وأنت أمرت أن تذبح ولدان هذه السنة فدعه يكون عندي.
وقيل : إنها قالت إنه أتانا من أرض أخرى وليس هو من بني إسرائيل فاستحياه فرعون وألقى الله محبته عليه قال ابن عباس لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية عسى أن ينفعنا لنفعه الله ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه قوله تعالى ) وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً ( أي خالياً من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه وقيل معناه ناسياً للوحي الذي أوحى الله عز وجل إليه حين أمرها أن تلقيه في اليم ولا تخاف ولا تحزن والعهد الذي عهد إليها أن يرده إليها ويجعله من المرسلين , فجاءها الشيطان وقال كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله وألقيته في البحر وأغرقته.
ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت إنه قد وقع في يد عدوه الذي فررت منه فأنساه عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها ) إن كادت لتبدي به ( أي لتصرح بأنه ابنها من شدة وجلها.
قال ابن عباس كادت تقول وا ابناه وقيل لما رأت التابوت ترفعه موجة وتحطه أخرى خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شدة شفقتها عليه.
وقيل كادت تظهر أنه ابنها حين سمعت الناس يقولون موسى ابن فرعون فشق عليها ذلك وكادت تقول هو ابني وقيل كادت تبدي بالوحي الذي أوحى إليها ) لولا أن ربطنا على قلبها ( أي بالعصمة والصبر والتثبت ) لتكون من المؤمنين ( أي من المصدقين بوعد الله إياها ) وقالت لأخته ( أي لمريم أخت موسى ) قصيه ( أي اتبعي أثره حتى تعطي خبره ) فبصرت به عن جنب ( أي عن بعد قيل كانت تمشي جانباً وتنظره اختلاساً ترى أنها لا تنظره ) وهم لا يشعرون ( أنها أخته وأنها ترقبه ) وحرمنا عليه المراضع ( المراد به المنع قيل مكث موسى ثمان ليال لا يقبل ثدياً قال ابن عباس إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد من ترضعه كلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها وهم في طلب من يرضعه لهم ) من قبل ( أي قبل مجيء أم موسى وذلك لما رأته أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلب
(5/165)
صفحة رقم 166
ذلك ) فقالت ( يعني أخت موسى ) هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم ( أي يضمونه ويرضعونه وهي امرأة قتل ولدها فأحب ما تدعى إليه أن تجد صغيراً ترضعه ) وهم له ناصحون ( أي لا يمنعونه ما ينفعه من تربيته وغذائه والنصح إخلاص العمل من شوائب الفساد.
قيل لما قالت وهم له ناصحون قالوا : إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله قالت ما أعرفه ولكن قلت وهم للملك ناصحون وقيل : إنها قالت إنما قلت ذلك رغبة في سرور الملك واتصالنا به.
وقيل قالوا من هم قالت أمي قالوا ولأمك ولد قالت نعم هارون وكان هارون ولد في السنة التي لا يقتل فيها قالوا صدقت فأتينا بها فانطلقت إليها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه رياً قيل كانوا يعطونها كل يوم ديناراً.
)
القصص : ( 13 - 18 ) فرددناه إلى أمه...
" فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين " ( قوله تعالى : ( فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ( أي برد موسى إليها ) ولا تحزن ( أي لئلا تحزن ) ولتعلم أن وعد الله حق ( أي برده إليها ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( أن الله وعدها أن يرده إليها ) ولما بلغ أشده ( قيل الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين سنة وقيل الأشد ثلاث وثلاثون سنة ) واستوى ( أي بلغ أربعين سنة قاله ابن عباس : وقيل انتهى شبابه وتكامل ) آتيناه حكماً وعلماً ( أي عقلاً وفهماً في الدين فعلم وحكم موسى قبل أن يبعث نبياً ) وكذلك نجزي المحسنين ( قوله تعالى ) ودخل المدينة ( يعني موسى والمدينة قيل هي منف من أعمال مصر وقيل هي قرية يقال لها حابين على رأس فرسخين من مصر وقيل هي مدينة شمس ) على حين غفلة من أهلها ( قيل هي نصف النهار واشتغال الناس بالقيلولة وقيل دخلها ما بين المغرب والعشاء وقيل سبب دخول المدينة في ذلك الوقت أن موسى كان يسمى ابن فرعون وكان يركب في مراكب فرعون ويلبس لباسه فركب فرعون يوماً وكان موسى غائباً فلما جاء قيل له إن فرعون قد ركب فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها وليس في أطرافها أحد.
وقيل كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالقهم في دينه حتى أنكروا ذلك منه وخافوه وخافهم فكان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً على حين غفلة من أهلها.
وقيل لما ضرب موسى فرعون بالعصا في صغره فأراد فرعون
(5/166)
صفحة رقم 167
قتله قالت امرأته هو صغير فتركه وأمر بإخراجه من مدينته فأخرج منه فلم يدخل عليهم حتى كبر وبلغ أشده فدخل على حين غفلة من أهلها يعني عن ذكر موسى ونسيانهم خبره ولبعد عهدهم به.
وعن علي أنه كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم ) فوجد فيها رجلين يقتتلان ( أي يتخاصمان ويتنازعان ) هذا من شعيته ( أي من بني إسرائيل ) وهذا من عدوه ( يعني من القبط وقيل هذا مؤمن وهذا كافر وقيل الذي كان من الشيعة هو السامري والذي من عدوه هو طباخ فرعون واسمه فاتون وكان القبطي يريد أن يأخذ الإسرائيلي يحمله الحطب.
وقال ابن عباس : لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم فوجد موسى رجلين يقتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط ) فاستغاثه الذي من شيعته ( يعني الإسرائيلي ) على الذي من عدوه ( يعني الفرعوني والاستغاثة طلب الغوث والمعنى أنه سأله أن يخلصه منه وأن ينصره عليه فغضب موسى واشتد غضبه لأنه أخذه وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة فقال موسى للفرعوني : خلِّ سبيله فقال : إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فنازعه فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة ) فوكزه موسى ( يعني ضربه بجميع كفه وقيل الوكز الضرب في الصدر وقيل الوكز الدفع بأطراف الأصابع ) فقضى عليه ( يعني قتله وفرغ من أمره فندم موسى عليه ولم يكن قصد القتل فدفنه في الرمل ) قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ( يعني بين الضلالة وقيل في قوله هذا إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه , والمعنى أن عمل هذا المقتول من عمل الشيطان والمراد منه بيان كونه مخالفاً لله سبحانه وتعالى مستحقاً للقتل وقيل هذا إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه ) قال رب إني ظلمت نفسي ( يعني بقتل القبطي من غير أمر وقيل هو على سبيل الاتضاع لله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإن لم يكن هناك ذنب.
وقوله ) فاغفر لي ( يعني ترك هذا المندوب وقيل يحتمل أن يكون المراد ) رب إن ظلمت نفسي ( حيث فعل هذا فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به فقال أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون ) فغفر له ( أي فستره عن الوصول إلى فرعون ) إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما ( أي بالمغفرة
(5/167)
صفحة رقم 168
والستر الذي ) أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين ( معناه فأنا لا أكون معاوناً لأحد من المجرمين قال ابن عباس الكافرين وفيه دليل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافراً.
قال ابن عباس لم يستثن فابتلي في اليوم الثاني أي لم يقل فلم أكن إن شاء الله ظهيراً للمجرمين ) فأصبح في المدينة ( أي التي قتل فيها القبطي ) خائفاً يترقب ( أي ينتظر سوءاً والترقب انتظار المكروه وقيل ينتظر متى يؤخذ به ) فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ( أي يستغيث به من بعد.
قال ابن عباس : أتي فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلاً فخذ لنا بحقنا فقال اطلبوا قاتله ومن يشهد عليه فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذ مر موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً فاستغاثه على الفرعوني وكان موسى قد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي ) قال له موسى ( للإسرائيلي ) إنك لغوي مبين ( أي ظاهر الغواية قاتلت رجلاً بالأمس فقتلته بسببك وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه.
)
القصص : ( 19 - 24 ) فلما أن أراد...
" فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " ( ) فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ( وذلك أن موسى أخذته الغيرة والرقة للإسرائيلي فمد يده ليبطش بالقبطي فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لما رأى من غضب موسى وسمع قوله إنك لغوي مبين ) قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ( معناه أنه لم يكن علم أحد من قوم فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي حتى أفشى عليه الإسرائيلي ذلك فسمعه القبطي فأتى فرعون فأخبره بذلك ) إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض ( أي بالقتل ظلماً وقيل الجبار هو الذي يقتل ويضرب ولا ينظر في العواقب وقيل هو الذي يتعاظم ولا يتواضع لأمر الله تعالى ) وما تريد أن تكون من المصلحين ( ولما فشا أن موسى قتل القبطي أمر فرعون بقتله فخرجوا في طلبه وسمع بذلك رجل من شيعة موسى يقال إنه مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وقيل شمعون وقيل سمعان وهو قوله تعالى ) وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى ( أي يسرع في مشيه وأخذ طريقاً قريباً حتى سبق إلى موسى وأخبره وأنذره بما سمع ) قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ( يعني يتشاورون فيك ) ليقتلوك ( وقيل يأمر بعضهم بعضاً بقتلك ) فاخرج ( يعني من المدينة ) إني لك من الناصحين ( يعني في الأمر بالخروج ) فخرج منها ( يعني موسى ) خائفاً ( على نفسه من آل فرعون ) يترقب ( يعني ينتظر الطلب هل يلحقه فيأخذه ثم لجأ إلى الله تعالى لعلمه أنه لا ملجأ
(5/168)
صفحة رقم 169
إلا إليه ) قال رب نجني من القوم الظالمين ( يعني الكافرين.
وقوله تعالى ) ولما توجه تلقاء مدين ( يعني قصد نحوها ماضياً قيل إنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأن أهل مدين من ولد إبراهيم وموسى من ولد إبراهيم ومدين هو مدين بن إبراهيم سميت البلد باسمه وبين مدين ومصر مسيرة ثمانية أيام , قيل خرج موسى خائفاً بلا ظهر ولا زاد ولا أحد ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض حتى رأى خضرته في بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه قال ابن عباس وهو أول ابتلاء من الله لموسى ) قال ( يعني موسى ) عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ( يعني قصد الطريق إلى مدين وذلك أنه لم يكن يعرف الطريق إليها قيل لما دعا موسى جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين.
قوله عز وجل ) ولما ورد ماء مدين ( هو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم ) وجد عليه ( يعني على الماء ) أمة ( يعني جماعة ) من الناس يسقون ( يعني مواشيهم ) ووجد من دونهم ( يعني سوى الجماعة وقيل بعيداً من الجماعة ) امرأتين تذودان ( أي تحبسان وتمنعان أغنامهما عن أن تند وتذهب والقول الأول لما بعده وهو قوله ) قال ( يعني موسى للمرأتين ) ما خطبكما ( أي ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس ) قالتا لا نسقي ( يعني أغنامنا ) حتى يصدر الرعاء ( أي حتى يرجع الرعاء من الماء والمعنى أنا امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا نحن مواشينا من فضل ما بقي منهم من الحوض ) وأبونا شيخ كبير ( أي لا يقدر أن يسقي مواشيه فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم , قيل أبوهما هو شعيب عليه الصلاة السلام.
وقيل هو بيرون ابن أخي شعيب وكان شعيب قد مات بعدما كف بصره وقيل هو رجل ممن آمن بشعيب فلما سمع موسى كلامهما رق لهما ورحمهما فاقتلع صخرة من على رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس.
وقيل زاحم القوم ونحاهم كلهم عن البئر وسقى لهما الغنم وقيل لما فرغ الرعاء من السقي غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر فجاء موسى فرفع الحجر ونزع دلواً واحداً فيه بالبركة وسقى الغنم فرويت فذلك قوله
(5/169)
صفحة رقم 170
) فسقى لهما ثم تولى إلى الظل ( يعني عدل إلي رأس الشجرة فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع ) فقال رب لما أنزلت إلي من خير فقير ( معناه أنه طلب الطعام لجوعه واحتياجه إليه.
قال ابن عباس : إن موسى سأل الله فلقة خبز يقيم بها صلبة وعن ابن عباس قال : لقد قال موسى : ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ( وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة وقيل ما سأل إلا الخبز فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما ما أعجلكما ؟ قالتا وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا أغنامنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه إلي.
)
القصص : ( 25 - 28 ) فجاءته إحداهما تمشي...
" فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل " ( قال الله تعالى : ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ( قيل هي الكبرى واسمها صفوراء وقيل صفراء وقيل بل هي الصغرى واسمها ليا وقيل صفيراء وقال عمر بن الخطاب ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء وقيل استحيت منه لأنها دعته لتكافئه وقيل لأنها رسول أبيها ) قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ( قيل لما سمع موسى ذلك كره أن يذهب معها ولكن كان جائعاً فلم يجد بداً من الذهاب فمشت المرأة ومشى موسى خلفها فكان الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها فكره موسى أن يرى ذلك منها فقال امشي خلفي ودليني على الطريق إذا أخطأت ففعلت ذلك فلما دخل موسى على شعيب إذ هو بالعشاء مهيئاً فقال : اجلس يا فتى فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذاك ألست جائع ؟ قال بلى ولكني أخاف أن يكون هذا عوضاً من الدنيا فقال له شعيب : لا والله يا فتى لكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس وأكل فذلك قوله عز وجل ) فلما جاءه ( أي موسى ) وقص عليه القصص ( أي أخبره بأمره أجمع من خبر ولادته وقتله القبطي وقصد فرعون قتله ) قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ( يعني من فرعون وقومه وإنما قال ذلك لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين ) قالت إحداهما يا أبت استأجره ( أي اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا ) إن خير من استأجرت القوي الأمين ( يعني إن خير من استعملت من قوي على العمل وأدى الأمانة فقال لها أبوها ما أعلمك بقوته وأمانته ؟ قالت أما قوته فإنه رفع الحجر من على رأس البئر ولا يرفعه إلا عشرة.
وقيل أربعون رجلاً وأما أمانته فإنه قال لي امشي خلفي حتى
(5/170)
صفحة رقم 171
لا تصف الريح بدنك ) قال ( شعيب عند ذلك ) إني أريد أن أنكحك ( أي أزوجك ) إحدى ابنتي هاتين ( قيل زوجه الكبرى وقال الأكثرون إنه زوجه الصغرى منها واسمها صفوراء وهي التي ذهبت في طلب موسى ) على أن تأجرني ثمان حجج ( أي تكون لي أجيراً ثمان سنين ) فإن أتممت عشراً فمن عندك ( أي فإن أتممت العشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع ليس بواجب عليك ) وما أريد أن أشق عليك ( أي ألزمك تمام العشر إلا أن تتبرع ) ستجدني إن شاء الله من الصالحين ( أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت وقيل يريد بالصلاح حسن المعاملة ولين الجانب وإنما قال إن شاء الله للاتكال على توفيقه ومعونته ) قال ( يعني موسى ) ذلك بيني وبينك ( يعني ما شرطت علي فلك وما شرطت من تزوج إحداهما فلي والأمر بيننا على ذلك ) أيما الأجلين قضيت ( أي أيّ الأجلين أتممت وفرغت منه الثمانية أو العشرة ) فلا عدوان علي ( أي لا ظلم علي بأن أطالب بأكثر منه ) والله على ما نقول وكيل ( قال ابن عباس شهيد بيني وبينك
( خ ) عن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت لا أدري حتى أقدم على خير العرب فاسأله فقدمت فسألت ابن عباس : فقال قضى أكثرهما وأطيبهما لأن رسول الله إذا قال فعل وروي عن أبي ذر مرفوعاً : ( إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأبرهما وإذا سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما وهي التي جاءت فقالت يا أبت استأجره فتزوج صغراهما وقضى أوفاهما ).
وقال وهب أنكحه الكبرى وروى شداد بن أوس مرفوعاً بكى شعيب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حتى عمي فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره فقال الله له : ما هذا البكاء أشوقاً إلى الجنة أم خوفاً من النار فقال : لا يا رب ولكن شوقاً إلى لقائك فأوحى الله إليه إن يكن ذلك فهنيئاً لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك كليمي موسى ولما تعاقدا هذا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصاه يدفع بها السباع عن غنمة قيل كانت من آس الجنة حملها آدم معهه فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته فصارت من آدم إلى نوح ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى.
ثم إن موسى لما قضى الأجل سلم شعيب إليه ابنته فقال لها موسى اطلبي من أبيك
(5/171)
صفحة رقم 172
أن يجعل لنا بعض الغنم فطلبت من أبيها ذلك فقال لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها وقيل إن شعيباً أراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراماً وصلة لا بنته فقال له : إني قد وهبت لك ولد أغنامي كل أبلق وبلقاء في هذه السنة فأوحى الله تعالى إلى موسى في النوم أن أضرب بعصاك الماء , ثم اسق الأغنام منه ففعل ذلك فما أخطأت واحدة إلا وضعت حملها مابين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن هذا رزق ساقه الله إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه وأعطاه الأغنام.
)
القصص : ( 29 - 35 ) فلما قضى موسى...
" فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون " ( قوله عز وجل : ( فلما قضى موسى الأجل ( أي أتمه وفرغ منه ) وسار بأهله ( قيل مكث موسى بعد الأجل عند شعيب عشر سنين أخرى ثم استأذنه في العود إلى مصر فأذن له فسار بأهله أي زوجته قاصداً إلى مصر ) آنس ( أي أبصر ) من جانب الطور ناراً ( وذلك أنه كان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق ) قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر ( أي عن الطريق لأنه كان قد أخطأ الطريق ) أو جذوة من النار ( أي قطعة وشعلة من النار وقيل : الجذوة العود الذي اشتعل بعضه ) لعلكم تصطلون ( أي تستدفئون ) فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن ( يعني من جانب الوادي الذي عن يمين موسى ) في البقعة المباركة ( جعلها الله مباركة لأن الله تعالى كلم موسى هناك وبعثه نبياً وقيل يريد البقعة المقدسة ) من الشجرة ( يعني من ناحية الشجرة قال ابن مسعود : كانت سمرة خضراء تبرق وقيل كانت غوسجة وقيل كانت من العليق وعن ابن عباس إنها العناب ) أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ( قيل إن موسى لم رأى النار في الشجرة الخضراء علم أنه لا يقدرعلى الجمع بين النار وخضرة
(5/172)
صفحة رقم 173
الشجرة إلا الله تعالى فعلم بذلك أن المتكلم هو الله تعالى.
وقيل : إن الله تعالى خلق في نفس موسى علماً ضرورياً بأن المتكلم هو الله وأن ذلك الكلام كلام الله تعالى.
وقيل : إنه قيل لموسى كيف عرفت أنه نداء الله قال إني سمعته بجميع أجزائي فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء علم بذلك أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى ) وأن ألق عصاك ( يعني فألقاها ) فلما رآها تهتز ( يعني تتحرك ) كأنها جان ( هي الحية الصغيرة والمعنى أنها في سرعة حركتها كالحية السريعة الحركة ) ولى مدبراً ( يعني هارباً منها ) ولم يعقب ( يعني ولم يرجع قال وهب إنها لم تدع شجرة , ولا صخرة إلا بلعتها حتى إن موسى سمع صرير أسنانها وقعقعة الشجر والصخر في جوفها فحينئذ ولى مدبراً ولم يعقب فنودي عند ذلك ) يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين (.
قوله عز وجل ) اسلك يدك ( يعني أدخل يدك ) في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ( يعني برص والمعنى أنه أدخل يده فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس ) واضمم إليك جناحك من الرهب ( يعني من الخوف والمعنى إذا هالك أمر يدك وما تراه من شعاعها فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى وقال ابن عباس : أمر الله موسى أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية وما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده صدره زال خوفه.
وقيل المراد من ضم الجناح السكون أي سكن روعك واخفض عليك جناحك لأن من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه.
وقيل الرهب الكم بلغة حمير ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من كمك لأنه تناول العصا ويده في كمه ) فذانك ( يعني العصا واليد البيضاء ) برهانان ( يعني آيتان ) من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوماً فاسقين ( يعني خارجين عن الحق ) قال رب إني قتلت منهم نفساً ( يعني القبطي ) فأخاف أن يقتلون ( يعني به ) وأخي هارون هو أفصح مني لساناً ( يعني بياناً وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه ) فأرسله معي ردءاً ( يعني عوناً ) يصدقني ( يعني فرعون وقيل تصديق هارون هو أن يخلص الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل الكفار فهذا هو التصديق المفيد ) إني أخاف أن يكذبون ( يعني فرعون وقومه ) قال سنشد عضدك بأخيك ( يعني سنقويك به وكان هارون بمصر ) ونجعل لكما سلطاناً ( يعني حجة
(5/173)
صفحة رقم 174
وبرهاناً ) فلا يصلان إليكما ( أي بقتل ولا سوء ) بآياتنا ( قيل معناه نعطيكما من المعجزات فلا يصلون إليكما ) أنتما ومن اتبعكما الغالبون ( يعني لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه.
)
القصص : ( 36 - 45 ) فلما جاءهم موسى...
" فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين " ( ) فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات ( يعني واضحات ) قالوا ما هذا إلا سحر مفترى ( يعني مختلق ) وما سمعنا بهذا ( يعني بالذي تدعونا إليه ) في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ( يعني أنه يعلم المحق من المبطل ) ومن تكون له عاقبة الدار ( يعني العقبى المحمودة في الدار الآخرة ) إنه لا يفلح الظالمون ( يعني الكافرون ) وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ( فيه إنكار لما جاء به موسى من توحيد الله وعبادته ) فأوقد لي يا هامان على الطين ( يعني اطبخ لي الآجر قيل إنه أول من اتخذ آجراً وبنى به ) فاجعل لي صرحاً ( أي قصراً عالياً وقيل منارة.
قال أهل السير لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان المال والفعلة حتى اجتمع عنده خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير , وأمر بالبناء فبنوه ورفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد من الخلق وأراد الله أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه , وأمر نشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دماً فقال : قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعده راكباً على البراذين فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعه منه على عسكره فقتلت منه ألف رجل ووقعت قطعه منه في البحر وقطعة في المغرب فلم يبق أحد عمل شيئاً فيه إلا هلك فذلك قوله ) لعلي أطلع إلى إله موسى ( يعني أنظر إليه وأقف على حاله ) وإني لأظنه ( يعني موسى ) من الكاذبين ( يعني في زعمه أن للأرض والخلق إلهاً غيري وأنه أرسله ) واستكبر هو وجنوده في الأرض ( يعني تعظموا عن الإيمان ولم ينقادوا للحق بالباطل والظلم ) بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ( يعني للحساب والجزاء ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ( يعني فألقيناهم في البحر وهو القلزم ) فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ( يعني حين صاروا إلى الهلاك ) وجعلناهم أئمة ( يعني قادة ورؤساء ) يدعون إلى النار ( أي الكفر والمعاصي التي يستحقون به النار لأن من أطاعهم ضل ودخل النار ) ويوم القيامة لا ينصرون ( يعني لا يمنعون من العذاب ) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ( يعني خزياً وبعداً وعذاباً ) ويوم القيامة هم من المقبوحين ( يعني المبعدين وقيل المهلكين.
وقال ابن عباس من المشوهين بسواد الوجوه وزرقة
(5/174)
صفحة رقم 175
العيون.
وقوله عز وجل ) ولقد آتينا موسى الكتاب ( يعني التوراة ) من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ( يعني قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ممن كانوا قبل موسى ) بصائر للناس ( ليبصروا ذلك فيهتدوا به ) وهدى ( يعني من الضلالة لمن عمل به ) ورحمة ( يعني لمن آمن به ) لعلهم يتذكرون ( يعني بما فيه من المواعظ ) وما كنت ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي وما كنت يا محمد ) بجانب الغربي ( يعني بجانب الجبل الغربي قال ابن عباس يريد حيث ناجى موسى ربه ) إذ قضينا إلى موسى الأمر ( يعني عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون ) وما كنت من الشاهدين ( يعني الحاضرين ذلك المقام الذي أوحينا إلى موسى فيه فتذكره من ذات نفسك ) ولكنا أنشأنا قروناً ( يعني خلقنا بعد موسى أمماً ) فتطاول عليهم العمر ( يعني طالت عليهم المدة فنسوا عهد الله وتركوا أمره وذلك أن الله عهد إلى موسى وقومه عهوداً في محمد والإيمان به فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها ) وما كنت ثاوياً ( أي مقيماً ) في أهل مدين ( أي كمقام موسى وشعيب فيهم ) تتلوا عليهم آياتنا ( يعني تذكرهم بالوعد والوعيد وقيل معناه لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ) ولكنا كنا مرسلين ( أي أرسلناك رسولاً وأنزلنا إليك كتاباً فيه هذه الأخبار لتتلوها عليه ولولا ذلك لما علمتها أنت ولم تخبرهم بها.
)
القصص : ( 46 - 53 ) وما كنت بجانب...
" وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين " ( ) وما كنت بجانب الطور ( أي بناحية الجبل الذي كلم الله موسى عليه ) إذ نادينا ( أي موسى خذ الكتاب بقوة وقال وهب قال موسى : يا رب أرني محمداً وأمته قال إنك لن تصل إلى ذلك ولكن إن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم قال بلى يا رب قال الله تعالى : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم.
وقال ابن عباس قال الله تعالى : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء والأرحام أي أرحام الأمهات لبيك اللهم لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
قال الله تعالى : يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عقابي قد أعطيتكم قبل أن تسألوني وقد أجبتكم قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم قبل أن تستغفروني ومن جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي دخل الجنة وإن
(5/175)
صفحة رقم 176
كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر ) ولكن رحمة من ربك ( أي رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك ) لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك ( يعني أهل مكة ) لعلهم يتذكرون ( اعلم أن الله تعالى لما بين قصة موسى عليه الصلاة والسلام لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فجمع بين هذه الأحوال الثلاثة العظيمة التي اتفقت لموسى ؛ فالمراد بقوله : ( إذ قضينا إلى موسى الأمر ) هو إنزال التوراة عليه حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله ) وما كنت ثاوياً في أهل مدين ( " أول أمر موسى والمراد بقوله إذ نادينا ليلة المناجاة فهذه أعظم أحوال موسى ولما بينها لرسوله ولم يكن في هذه الأحوال حاضراً بين الله أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال الدالة على نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) ومعجزته كأنه قال في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة دلالة ظاهرة على نبوتك.
قوله تعالى : ( ولولا أن تصيبهم مصيبة ( أي عقوبة ونقمة ) بما قدمت أيديهم ( يعني من الكفر والمعاصي ) فيقولوا ربنا لولا ( أي هلاّ ) أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ( ومعنى الآية لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة على كفرهم وقيل معناه لما بعثناك إليهم رسولاً ولكنا بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) فلما جاءهم الحق من عندنا ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) قالوا ( يعني كفار مكة ) لولا ( أي هلا ) أوتي ( محمد ) مثل ما أوتي موسى ( يعني من الآيات كالعصا واليد البيضاء.
وقيل : أوتي كتاباً جملة واحدة كما أوتي موسى التوراة قال الله تعالى ) أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ( قيل إن اليهود أرسلوا إلى قريش أن يسألوا محمداً مثل ما أوتي موسى فقال الله تعالى : ( أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ( يعني اليهود الذي استخرجوا هذا السؤال ) قالوا سحران تظاهرا ( يعني التوراة والقرآن يقوي كل واحد منهما الآخر وقيل ساحران يعني محمداً وموسى.
وقيل إن مشركي مكة بعثوا على رؤوس اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود فقالوا ساحران تظاهرا ) وقالوا إنا بكل كافرون ( يعني بالتوراة والقرآن وقيل بمحمد وموسى ) قال ( يا محمد ) فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما ( يعني من التوراة والقرآن ) أتبعه ( يعني الكتاب الذي تأتون به من عند الله وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله ) إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك ( أي فإن لم يأتوا بما طلبت ) فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ( يعني أن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه وإنما آثروا أتباعهم ما هم عليه من الهوى ) ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( قوله عز وجل ) ولقد وصلنا لهم القول ( قال ابن عباس : بينا وقيل أنزلنا آيات
(5/176)
صفحة رقم 177
القرآن يتبع بعضها بعضاً , وقيل بينا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم , وقيل وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا ) لعلهم يتذكرون ( أي يتعظون ) الذين آتيناهم الكتاب من قبلة ( أي من قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل من قبل القرآن ) هم به يؤمنون ( نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وهم أربعون رجلاً قدموا مع جعفر بن أبي طالب فلما رأوا ما بالمسلمين من الحاجة والخاصة قالوا : يا رسول الله إن لنا أموالاً فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا فواسوا بها المسلمين.
فنزلت هذه الآيات إلى قوله ) ومما رزقناهم ينفقون ( " وقال ابن عباس : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب وأربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام ثم وصفهم الله تعالى فقال ) وإذا يتلى عليهم ( يعني القرآن ) قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا ( وذلك أن ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ) إنا كنا من قبله مسلمين ( أي من قبل القرآن مخلصين لله التوحيد ومؤمنين بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) إنه نبي حق.
)
القصص : ( 54 - 61 ) أولئك يؤتون أجرهم...
" أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين " ( ) أولئك يؤتون أجرهم مرتين ( يعني بإيمانهم بالكتاب الأول والكتاب الآخر ) بما صبروا ( أي على دينهم وعلى أذى المشركين
( ق ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها ثم تزوجها فله أجران ) ) ويدرؤون بالحسنة السيئة ( قال ابن عباس : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله وقيل يدفعون ما سمعوا من أذى المشركين وشتمهم بالصفح والعفو ) ومما رزقناهم ينفقون ( أي في الطاعة ) وإذ سمعوا اللغو ( أي القول القبيح ) أعرضوا عنه ( وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل
(5/177)
صفحة رقم 178
مكة ويقولون تباً لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم ) وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ( أي لنا ديننا ولكم دينكم ) سلام عليكم ( ليس المراد منه التحية ولكن سلام المتاركة والمعنى سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم ) لا نبتغي الجاهلين ( يعني لا نحب دينكم الذي أنتم عليه.
وقيل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال ثم نسخ ذلك بالقتال.
قوله تعالى ) إنك لا تهدي من أحببت ( أي هدايته وقيل أحببته لقرابته ) ولكن الله يهدي من يشاء ( وذلك أن الله تعالى يقذف في القلب نور الهداية فينشرح الصدر للإيمان ) وهو أعلم بالمهتدين ( أي بمن قدر له الهدى ( م ) عن أبي هريرة قال ( إنك لا تهدي من أحببت , نزلت في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حيث راود عمه أبا طالب على الإسلام وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأبي طالب عند الموت : ( ياعم قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة قال لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك ( ثم أنشد :
ولقد علمت بأن دين محمد
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
ولكن على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف ثم مات فأنزل الله هذه الآية ) وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ( يعني نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرض مكة قال الله تعالى ) أو لم نمكن لهم حرما آمناً ( وذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضاً وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم.
ومن المعروف أنه كان تأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة ) يجبى إليه ( يعني يجلب ويجمع إليه ويحمل إلى الحرم من الشام ومصر والعراق واليمن ) ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ( يعني أن أكثر أهل مكة لا يعلمون ذلك.
قوله عز وجل ) وكم أهلكنا من قرية ( يعني من أهل قرية ) بطرت معيشتها ( أي أشرت وطغت وقيل عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام ) فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً ( قال ابن عباس : لم يسكنها إلا المسافرون سكوناً قليلاً وقيل لم يعمروا منها إلا أقلها وأكثرها
(5/178)
صفحة رقم 179
خراب ) وكنا نحن الوارثين ( يعني لم يخلفهم فيها أحد بعد هلاكهم وصار أمرها إلى الله تعالى لأنه الباقي بعد فناء الخلق ) وما كان ربك مهلك القرى ( يعني الكافرة أهلها ) حتى يبعث في أمها رسولاً ( ينذرهم وخص الأم ببعثة الرسول لأنه يبعث إلى الأشراف وهم سكان المدن وقيل حتى يعبث في أمر القرى وهي مكة رسولاً يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه خاتم الأنبياء ) يتلو عليهم آياتنا ( أي أنه يؤدي إليهم ويبلغهم وقيل يخبرهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا ) وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ( أي مشركون.
قوله عز وجل ) وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها ( أي تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء ) وما عند الله خير وأبقى ( لأن منافع الآخرة خالصة عن الشوائب وهي دائماً غير منقطعة ومنافع الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر العظيم ) أفلا تعقلون ( أي أن الباقي خير من الفاني وقيل من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل.
ولهذا قال الشافعي : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بطاعة الله تعالى ) أفمن وعدناه وعداً حسناً ( يعني الجنة ) فهو لاقيه ( أي مصيبه وصائر إليه ) كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ( أي وتزول عنه عن قريب ) ثم هو يوم القيامة من المحضرين ( أي في النار , قيل هذا من المؤمن والكافر وقيل نزلت في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبي جهل , وقيل في علي وحمزة وأبي جهل وقيل في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة.
)
القصص : ( 62 - 75 ) ويوم يناديهم فيقول...
" ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون " ( قوله عز وجل : ( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ( أي في الدنيا أنهم من شركائي ) قال الذين حق عليم القول ( أي وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة ) ربنا هؤلاء الذي أغوينا ( أي دعوناهم إلى الغي وهم الأتباع ) أغويناهم كما غوينا ( أي أضللناهم كما ضللنا ) تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ( معناه تبرأ بعضهم من بعض وصاروا أعداء ) وقيل ( يعني الكفار ) ادعوا شركاءكم ( أي الأصنام لتخلصكم من العذاب ) فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ( أي لم يجيبوهم ) ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ( معناه لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة ) ويوم يناديهم ( أي يسأل الكفار ) فيقول ما أجبتم المرسلين ( أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين ) فعميت عليهم ( أي خفيت واشتبهت عليهم ) الأنباء ( يعني الأخبار والأعذار والحجج ) يومئذ ( فلم يكن لهم عذر ولا حجة ) فهم لا يتساءلون ( أي لا يجيبون ولا
(5/179)
صفحة رقم 180
يحتجون وقيل يسكتون فلا يسأل بعضهم بعضاً ) فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين ( أي من السعداء الناجين وعسى من الله واجب.
قوله تعالى ) وربكم يخلق ما يشاء ويختار ( نزلت هذه الآية جواباً للمشركين حين قالوا ) لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( " يعني الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم لأنه المالك المطلق وله أن يخص ما يشاء بما يشاء لا اعتراض البتة ) ما كان لهم الخيرة ( أي ليس لهم الاختيار , أو ليس لهم أن يختاروا على الله.
وقيل معناه ويختار الله ما كان هو الأصلح والخير لهم فيه , ثم نزه الله تعالى نفسه فقال ) سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن ( أي تخفي ) صدورهم وما يعلنون ( أي يظهرون ) وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة ( أي يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الآخرة في الجنة ) وله الحكم ( أي فصل القضاء بين الخلق وقال ابن عباس يحكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاوة ) وإليه ترجعون ( قوله عز وجل ) قل ( أي قل يا محمد لأهل مكة ) أرأيتم ( يعني أخبروني ) إن جعل الله عليكم الليل سرمداً ( أي دائماً ) إلى يوم القيامة ( لا نهار فيه ) من إله غير الله يأتيكم بضياء ( أي بنهار تطلبون فيه المعيشة ) أفلا تسمعون ( أي سماع فهم وقبول ) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة ( أي لا ليل فيه ) من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ( أي ما أنتم عليه من الخطأ قيل إن من نعمة الله تعالى على الخالق أن جعل الله والنهار يتعاقبان لأن المرء في حال الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى التعب ليحصل ما يحتاج إليه ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار ولأجله يحصل الاجتماع فتمكن المعاملات ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالراحة والسكون بالليل فلا بد منهما فأما من الجنة فلا تعب ولا نصب فلا حاجة بهم إلى الليل ولذلك يدوم لهم الضياء أبداً فبين الله تعالى أنه القادر على ذلك ليس غيره فقال ) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار ( أي يتعاقبان بالظلمة والضياء ) لتسكنوا فيه ( أي في الليل ) ولتبتغوا من فضله ( أي بالنهار ) ولعلكم تشكرون ( أي نعم الله فيهما ) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ( كرر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ ) ونزعنا ( يعني أخرجنا وقيل ميزنا ) من كل أمة شهيداً ( يعني رسولهم يشهد عليهم بأنه بلغهم رسالة ربهم ونصح لهم ) فقلنا ( يعني للأمم المكذبة لرسلهم ) هاتوا برهانكم ( أي حجتكم بأن معي شريكاً ) فعلموا أن الحق لله ( أي التوحيد لله ) وضل عنهم ما كانوا يفترون ( أي يختلقون
(5/180)
صفحة رقم 181
في الدنيا من الكذب على الله.
)
القصص : ( 76 - 79 ) إن قارون كان...
" إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم " ( قوله عز وجل : ( إن قارون كان من قوم موسى ( قيل كان ابن عم موسى لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وموسى بن عمران بن قاهث.
وقيل كان عم موسى ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ منه للتوراة ولكنه نافق كما نافق السامري ) فبغى عليهم ( قيل كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل فظلمهم وبغى عليهم وقيل بغى عليهم بكثرة ماله وقيل زاد في طول ثيابه شراً
( ق ) عن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثيابه خيلاء ) أخرجاه في الصحيحين وقيل بغى عليهم بالكبر والعلو ) وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه ( جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب وقيل مفاتحه يعني خزائنه ) لتنوء بالعصبة أولي القوة ( معناه لثقلهم وتميل بهم إذا حملوها لتثقلها.
قيل العصبة ما بين العشرة إلى الخمسة عشر وقال ابن عباس : ما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى الأربعين.
وقيل إلى السبعين قال ابن عباس : كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال وقيل كان قارون أينما ذهب تحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلما كثرت وثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت لجعلها من جلود البقر كل مفتاح على قدر الأصبح وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلاً ) إذ قال له قومه لا تفرح ( يعني لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح ) إن الله لا يحب الفرحين ( يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم قيل إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح ولقد أحسن من قال :
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ( يعني اطلب فيما أعطاك الله من الأموال الجنة وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله ) ولا تنس نصيبك من الدنيا ( أي لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل فيها للآخرة بالصدقة وصلة الرحم وقيل لا تنسى صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة.
عن عمر بن ميمون الأزدي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لرجل وهو يعظه : ( اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل
(5/181)
صفحة رقم 182
شغلك وحياتك قبل موتك ) هذا حديث مرسل وعمرو بن ميمون لم يلق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأحسن كما أحسن الله إليك ( أي أحسن بطاعة الله كما أحسن إليك بنعمته وقيل أحسن إلى الناس ) ولا تبغ ( أي ولا تطلب ) الفساد في الأرض ( وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض ) إن الله لا يحب المفسدين قال ( يعني قارون ) إنما أوتيته على علم عندي ( أي على فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلاً لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره.
وقيل هو علم الكيمياء وكان موسى يعلمه فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه , فكان يصنع من الرصاص فضة ومن النحاس ذهباً وكان ذلك سبب كثرة أمواله وقيل كان علمه حسن التصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب قال الله عز وجل ) ألم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ( أي للأموال ) ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ( قيل معناه أن الله تعالى إذا أراد عقاب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم لأنه عالم بحالهم وقيل لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال توبيخ وتقريع وقيل لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم.
قوله عز وجل ) فخرج على قومه في زينته ( قيل : خرج هو وقومه وهم سبعون ألفاً عليهم الثياب الحمر والصفر والمعصفرات وقيل خرج على براذين بيض عليها سرج الأرجوان.
وقيل : خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب وعليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثمائة جارية بيضاء عليهم الحلي والثياب الحمر وهن على البغال الشهب ) قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ( أي من المال.
)
القصص : ( 80 - 82 ) وقال الذين أوتوا...
" وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون " ( ) وقال الذين أوتوا العلم ( أي بما وعد الله في الآخرة وقال ابن عباس : يعني الأحبار من بني إسرائيل للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون ) ويلكم ثواب الله ( أي ما عند الله من الثواب والخير ) خير لمن آمن ( أي صدق بتوحيد الله ) وعمل صالحاً ( أي ذلك خير مما أوتي قارون في الدنيا
(5/182)
صفحة رقم 183
) ولا يلقاها إلا الصابرين ( أي لا يؤتى الأعمال الصالحة إلا الصابرون وقيل لا يؤتى هذه الكلمة وهي قوله ) ويلكم ثواب الله خير ( ) إلا الصابرون ( أي على طاعة الله وعن زينة الدنيا.
قوله تعالى ) فخسفنا به وبداره الأرض (.
ذكر قصة قارون
:
قال أهل العلم بالأخبار والسير : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم.
وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة في كل طرف خيطاً أخضر كلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي.
فقال موسى : يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً فإن بني إسرائيل تستصغر هذه الخيوط فقال له ربه يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير فدعاهم موسى فقال إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطاً كلون السماء لكي تذكروا ربكم إ ذا رأيتموها ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى واستكبر قارون فلم يطعه وقال : إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون , وهي رئاسة المذبح فكان بنو إسرائيل يأتون بقربانهم إلى هارون فيضعها على المذبح فنزل نار من السماء فتأكله فوجد قارون من ذلك في نفسه فأتى إلى موسى فقال له موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك , وأنا أقرأ التوراة لا صبر لي على هذا فقال أما أنا ما جعلتها لهارون بل الله جعلها له فقال له قارون : والله لا أصدقك حتى تريني بيانه فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال هاتوا عصيكم فحزمها وألقاها في قبته التي يتعبد فيها وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر و كانت من شجر اللوز فقال موسى يا قارون ترى
(5/183)
صفحة رقم 184
هذا فقال له قارون والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر واعتزل قارون موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه كل وقت ولا يزيد إلا عتواً وتجبراً ومعاداة لموسى حتى بنى داراً وجعل لها باباً من الذهب.
وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه.
قال ابن عباس : فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه على كل ألف دينار عنها دينار وعلى كل ألف درهم عنها درهم وكل ألف شاة عنها شاة وكذلك سائر الأشياء ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده شيئاً كثيراً فلم تسمح نفسه بذلك فجمع بني إسرائيل وقال لهم إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت قال آمركم أن تجيئوا فلانة البغي وتجعلوا عليكم لها جعلاً على أن تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل فرفضوه فدعوها فجعل لها قارون ألف دينار وألف درهم.
وقيل طستاً من ذهب وقيل قال لها قارون أنزلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً وإذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال : إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم فخرج إليهم موسى وهم في مرج من الأرض فقام فيهم فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة ومن زنى وله امرأة رجمناه إلى أن يموت فقال قارون وإن كنت أنت ؟ قال : وأن كنت أنا قال فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي قال : ادعوها فلما جاءت قال لها موسى : بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت فتداركها الله بالتوفيق فقالت في نفسها أحدث توبة أفضل من أن أوذي رسول الله فقالت لا والله ولكن قارون جعل لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي فخرّ موسى ساجداً يبكي.
ويقول : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله إليه أني أمرت الأرض أن تعطيك فمرها بما شئت فقال موسى : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا فلم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى يا أرض خذيهم فأخذتهم بأقدامهم.
وقيل كان على سرير وفرشه فأخذته الأرض حتى غيبت سريره ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وأصحابه في ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشده قارون الله والرحم , حتى قيل إنه ناشده أربعين
(5/184)
صفحة رقم 185
مرة.
وقيل سبعين مرة وموسى في ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ثم قال يا أرض خذيهم فأطبقت عليهم الأرض فأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك يستغيث بك قارون سبعين مرة فلم تغثه أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثته وفي بعض الآثار لا أجعل الأرض بعدك طوعاً لأحد.
قال قتادة خسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة وأصبح بنو إسرائيل يقولون فيما بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض فذلك قوله تعالى ) فما كان له من فئة ( يعني جماعة ) ينصرونه من دون الله ( يعني يمنعونه من الله ) وما كان من المنتصرين ( من الممتنعين مما نزل به من الخسف ) وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس ( يعني صار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من الأموال والزينة يندمون على ذلك التمني ) يقولون ويكأن الله ( ألم تعلم وقيل ألم تر.
وقيل هي كلمة تقرير معناها أما ترى صنع الله وإحسانه وقيل ويك , بمعنى ويلك اعلم أن الله.
وروي أن وي مفصوله من كأن والمعنى أن القوم ندموا فقالوا متندمين على ما سلف منهم وي وكأن معناها أظن وأقدر أن الله ) يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ( قال ابن عباس أي يوسع لمن يشاء ويضيق على من يشاء ) لولا أن من الله علينا ( أي بالإيمان ) لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون (.
)
القصص : ( 83 - 88 ) تلك الدار الآخرة...
" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " ( قوله عز وجل : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الأرض ( أي استكباراً عن الإيمان وقيل علواً واستطالة على الناس وتهاوناً بهم وقيل يطلبون الشرف والعز عند ذي سلطان وعن علي أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل المقدرة ) ولا فساداً ( قيل الذين يدعون إلى غير عبادة الله تعالى وقيل أخذ أموال الناس بغير حق وقيل العمل بالمعاصي ) والعاقبة للمتقين ( أي العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب نواهيه وقيل عاقبة المتقين الجنة ) من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ( تقدم تفسيره.
قوله تعالى ) إن الذي فرض
(5/185)
صفحة رقم 186
عليك القرآن ( أي أنزل عليك القرآن وقيل معناه أوجب عليك العمل بالقرآن ) لرادك إلى معاد ( قال ابن عباس إلى مكة.
أخرجه البخاري عنه قال القتيبي : معاد الرجل بلده لأنه ينصرف فيعود إلى بلده وذلك أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لما خرج من الغار مهاجراً إلى المدينة سار على غير الطريق مخالفة الطلب فلما أمن رجع في الطريق ونزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : أتشتاق إلى بلدك ؟ قال نعم قال : فإن الله تعالى يقول الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد وهذه الآية نزلت بالجحفة ليست بمكية ولا مدنية.
وقال ابن عباس أيضاً لرادك إلى الموت وقيل إلى القيامة , وقيل إل الجنة ) قل ربي أعلم من جاء بالهدى ( هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إنك لفي ضلال مبين فقال الله تعالى لهم ) ربي أعلم من جاء بالهدى ( يعني نفسه ) ومن هو في ضلال مبين ( يعني المشركين ومعناه هو أعلم بالفريقين.
قوله عز وجل ) وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ( أي يوحى إليك القرآن ) إلا رحمة من ربك ( فأعطاك القرآن ) فلا تكونن ظهيراً ( أي معيناً ) للكافرين ( على دينهم ذلك حين دعوه إلى دين آبائه فذكره نعمه عليه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه ) ولا يصدنك عن آيات الله ( يعني القرآن ) بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ( إلى معرفته وتوحيده ) ولا تكونن من المشركين ( قال ابن عباس : الخطاب في الظاهر للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به أهل دينه أي ولا تظاهر الكفار ولا توافقهم ) ولا تدع مع الله إلهاً آخر ( معناه أنه واجب على الكل إلا أنه خاطبه به مخصوصاً لأجل التعظيم.
فإن قلت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) كان معصوماً من أن يدعو مع الله إلهاً آخر فما فائدة هذا النهي.
قلت الخطاب معه والمراد به غيره وقيل معناه لا تتخذ غيره وكيلاً على أمورك كلها ولا تعتمد على غيره ) لا إله إلا هو كل شيء هالك ( أي فانٍ ) إلا وجهه ( أي إلا هو والوجه يعبر به عن الذات وقيل معناه إلا ما إريد به وجهه لأن عمل كل شيء أريد به غير الله فهو هالك ) له الحكم ( أي فصل القضاء بين الخلق ) وإليه ترجعون ( أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم والله أعلم بمراده.
(5/186)
صفحة رقم 187
سورة العنكبوت
( تفسير سورة العنكبوت وهي مكية ).
وآياتها تسع وستون آية وكلماتها تسعمائة وثمانون كلمة وحروفها أربعة آلاف ومائة وخمسة وستون حرفا )
العنكبوت : ( 1 - 8 ) الم
" الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " ( قوله عز وجل ) الم أحسب الناس ( أي أظن الناس ) أن يتركوا ( أي بغير اختبار وابتلاء ) أن ( أي بأن ) يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ( أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم كلا لنختبرنهم لنبين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب.
قيل : نزلت هذه الآية في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لا يقبل منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتبعهم المشركون فقاتلهم الكفار , فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزل الله هاتين الآيتين.
وقال ابن عباس : أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم.
وقيل في عمار كان يعذب في الله تعالى وقيل في مهجع بن عبد الله مولى عمر وكان أول من قتل من المسلمين يوم بدر فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : ( سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة ) فجزع أبواه وامرأته فأنزل الله هذه الآية ثم عزاهم فقال تعالى ) ولقد فتنا الذين قبلهم ( يعني الأنبياء فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب ) فليعلمن الله الذين صدقوا ( أي في قولهم ) وليعلمن الكاذبين ( والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار ومعنى الآية فليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه.
وقيل إن آثار أفعال الحق صفة يظهر فيها كل ما يقع وما هو واقع.
قوله تعالى ) أم حسب الذين يعملون السيئات ( يعني الشرك ) أن يسبقونا ( أي يعجزونا فلا نقدر على الانتقام منهم ) ساء ما يحكمون من كان يرجو لقاء الله ( قال ابن عباس من كان يخشى العبث والحساب وقيل من كان يطمع في ثواب الله ) فإن أجل الله لآت ( يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب.
وقيل يوم القيامة لكائن
(5/187)
صفحة رقم 188
والمعنى أن من يخشى الله ويؤمله فليستعد له وليعمل لذلك اليوم ) وهو السميع العليم ( أي يعلم ما يعمل العباد من الطاعة والمعصية فيثيبهم أو يعاقبهم أو يعفو.
قوله تعالى ) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ( أي له ثوابه وهذا بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق فإن الكريم إذا وعد وفى والجهاد هو الصبر على الأعداء والشدة وقد يكون في الحرب وقد يكون على مخالفة النفس ) إن الله لغني عن العالمين ( أي عن أعمالهم وعبادتهم وفيه بشارة وتخويف أما البشارة فلأنه إذا كان غنياً عن الأشياء فلو أعطي جميع ما خلقه لعبد من عبيده لا شيء عليه لاستغنائه عنه.
وهذا يوجب الرجاء التام وأما التخويف فلأن الله إذا كان غنياً عن العالمين فلو أهلكهم بعذابه فلا شيء عليه لاستغنائه عنهم ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ( أي لنطلبنها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل والتكفير إذهاب السيئة بالحسنة ) ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ( أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة وقيل يعطيهم أكثر مما عملوا.
قوله عز وجل ) ووصينا الإنسان بوالديه حسناً ( معناه براً بهما وعطفاً عليهم والمعنى ووصينا الإنسان بوالديه أن يفعل بهما ما يحسن نزلت هذه الآية والتي في سورة لقمان والأحقاف في سعد بن أبي وقاص.
وقال ابن إسحاق : سعد بن مالك الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان باراً بأبيه.
قالت له أمه : ما هذا الذي أحدثت والله ما آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ويقال يا قاتل أمه ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل فأصبحت وقد جهدت ثم مكثت كذلك يوماً آخر وليلة فجاءها فقال : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية وأمره بالبر والإحسان إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك فذلك قوله تعالى ) وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ( وفي الحديث ( لا طاعة لمخلوق في معصية الله ) ثم أوعد بالمصير إليه فقال ) إلي مرجعكم فأنبئكم ( أي فأخبركم ) بما كنتم تعملون ( أي بصالح أعمالكم وسيئاتها أي فأجازيكم عليها.
( بسم الله الرحمن الرحيم )
)
العنكبوت : ( 9 - 18 ) والذين آمنوا وعملوا...
" والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين " ( ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ( أي في زمرة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء وقيل في مدخل الصالحين وهو الجنة.
قوله تعالى ) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي ( يعني أصابه بلاء من الناس افتتن ) في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ( أي جعل أذى الناس
(5/188)
صفحة رقم 189
وعذابهم كعذاب الله في الآخرة والمعنى أنه جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه وهو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر ) ولئن جاء نصر من ربك ( أي فتح ودولة للمؤمنين ) ليقولن ( أي هؤلاء المنافقون للمؤمنين ) إنا كنا معكم ( أي على عدوكم وكنا مسلمين وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فأكذبهم الله تعالى فقال ) أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ( أي من الإيمان والنفاق ) وليعلمن الله الذين آمنوا ( أي صدقوا فثبتوا على الإيمان والإسلام عند البلاء.
) وليعلمن المنافقين ( أي بترك الإسلام عند البلاء قيل نزلت هذه الآية في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا.
وقال ابن عباس : نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر وهم الذين نزلت فيهم ) الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ( " وقيل هذه الآيات العشر من أول السورة إلى ها هنا مدنية وباقي السورة مكية ) وقال الذين كفروا ( يعني من أهل مكة قيل قاله أبو سفيان ) للذين آمنوا ( أي من قريش ) اتبعوا سبيلنا ( يعني ديننا وملة آبائنا ونحن الكفلاء بكل تبعة من الله تصيبكم فذلك قوله ) ولنحمل خطاياكم ( أي أوزاركم والمعنى إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم فأكذبهم الله عز وجل بقوله ) وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ( في قولهم نحمل خطاياكم ) وليحملن أثقالهم ( أي أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم ) وأثقالاً مع أثقالهم ( أي أوزار من أضلوا وصدوا عن سبيل الله مع أوزار أنفسهم.
فإن قلت قد قال أولاً وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء وقال ها هنا وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم فكيف الجمع بينهما.
قلت : معناه إنهم لا يرفعون عنهم خطيئة بل كل واحد يحمل خطيئة نفسه ورؤساء الضلال يحملون أوزارهم ويحملون أوزاراً بسبب إضلال غيرهم فهو كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) رواه مسلم ) وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ( أي سؤال توبيخ وتقريع لأنه تعالى عالم بأعمالهم وافترائهم.
قوله تعالى ) ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث ( أي فأقام ) فيهم ( يدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده ) ألف سنة إلا خمسين عاماً ( فإن قلت فما فائدة هذا الاستثناء وهلا قال تسعمائة وخمسين سنة قلت فيه فائدتان إحداهما : أن الاستثناء يدل على التحقيق
(5/189)
صفحة رقم 190
وتركه قد يظن به التقريب فهو كقول القائل عاش فلان مائة سنة فقد يتوهم السائل أنه يقول مائة سنة تقريباً لا تحقيقاً فإن قال مائة سنة إلا شهراً أو إلا سنة زال ذلك التوهم وفهم منه التحقيق.
الفائدة الثانية : هي لبيان أن نوحاً صبر على أذى قومه صبراً كثيراً وأعلى مراتب العدد ألف سنة.
وكان المراد التكثير فلذلك أتى بعقد الألف لأنه أعظم وأفخم هذه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث أعلم أن الأنبياء قد ابتلوا قبله وأن نوحاً لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم فصبر في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة من آمن بك.
قال ابن عباس : بعث نوح لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس فكان عمره ألفاً وخمسين عاماً.
وقيل في عمره غير ذلك.
قوله تعالى ) فأخذهم الطوفان ( أي فأغرقهم ) وهم ظالمون ( قال ابن عباس مشركون ) فأنجيناهم وأصحاب السفينة ( يعني من الغرق ) وجعلناهم ( يعني السفينة ) آية ( أي عبرة ) للعالمين ( قيل إنها بقيت على الجودي مدة مديدة وقيل جعلنا عقوبتهم بالغرق عبرة.
قوله تعالى ) وإبراهيم ( أي وأرسلنا إبراهيم ) إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ( أي أطيعوا الله وخافوه ) ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( أي ما هو خير لكم مما هو شر لكم ولكنكم لا تعلمون ) إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً ( أي تقولون كذباً وقيل تصنعون أصناماً بأيديكم وتسمونها آلهة ) إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً ( أي لا يقدرون أن يرزقوكم ) فابتغوا ( أي فاطلبوا ) عند الله الرزق ( فإنه القادر على ذلك ) واعبدوه ( أي وحدوه ) واشكروا له ( لأنه المنعم عليكم الرزق ) إليه ترجعون ( أي في الآخرة ) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ( أي مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم فأهلكهم الله ) وما على الرسول إلا البلاغ المبين (.
)
العنكبوت : ( 19 - 29 ) أو لم يروا...
" أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين " ( قوله تعالى : ( أولم يروا ( قيل هذه الآيات إلى قوله فما كان جواب قومه يحتمل أن تكون من تمام قول إبراهيم لقومه وقيل إنها وقعت معترضة في قصة إبراهيم وهي في تذكير أهل مكة وتحذيرهم ومعنى أو لم يروا أو لم يعلموا ) كيف يبدىء الله الخلق ( أي يخلقهم نطفة ثم علقة ثم مضغة ) ثم يعيده ( أي في الآخرة عند البعث ) إن ذلك على الله يسير ( أي الخلق الأول والخلق الثاني ) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ( أي انظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ) ثم الله ينشىء النشأة الآخرة ( أي ثم إن الله الذي خلقهم ينشئهم نشأة ثانية بعد الموت والمعنى فكما لم يتعذر عليه إحداثهم مبدئاً كذلك لا يتعذر عليه إنشاؤهم معيداً بعد الموت ثانياً ) إن الله على كل شيء قدير ( أي من البداءة والإعادة ) يعذب من يشاء ( عدلاً منه ) ويرحم من يشاء ( تفضلاً ) وإليه تقلبون ( أي تردون ) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ( قيل معناه
(5/190)
صفحة رقم 191
ولا من في السماء بمعجزين والمعنى أنه لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء وقيل معنى قوله ولا في السماء لو كنتم فيها ) وما لكم من دون الله من ولي ( أي يمنعكم مني ) ولا نصير ( أي ينصركم من عذابي ) والذين كفروا بآيات الله ( يعني القرآن ) ولقائه ( أي البعث ) أولئك يئسوا من رحمتي ( يعني الجنة ) وأولئك لهم عذاب أليم ( فهذا آخر الآيات في تذكير أهل مكة ثم عاد إلى قصة إبراهيم عليه السلام فقال تعالى ) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو احرقوه ( قال ذلك بعضهم لبعض وقيل قال الرؤساء للأتباع ) اقتلوه أو حرقوه ( ) فأنجاه الله من النار ( أي بأن جعلها برداً وسلاماً قيل إن في ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار ) إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( يصدقون ) وقال ( يعني إبراهيم لقومه ) إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ( أي ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة وقيل معناه إنكم تتوادون على عبادتها وتتواصلون عليها في الدنيا ) ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ( تتبرأ الأوثان من عابديها وتتبرأ القادة من الأتباع ويلعن الأتباع القادة ) ومأواكم النار ( يعني العابدين والمعبودين جميعاً ) وما لكم من ناصرين ( أي مانعين من عذابه ) فآمن له لوط ( أي صدقه برسالته لما رأى معجزاته وهو أو من صدق إبراهيم وأما في أصل التوحيد فإنه كان مؤمناً لأن الأنبياء لا يتصور فيهم الكفر ) وقال ( يعني إبراهيم ) إني مهاجر إلى ربي ( إلى حيث أمرني ربي فهاجر من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم هاجر إلى الشام ومعه لوط وامرأته سارة وهو أول من هاجر إلى الله تعالى وترك بلده وسار إلى حيث أمره الله بالمهاجرة إليه.
قيل هاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة ) إنه هو العزيز ( أي الذي لا يغلب والذي يمنعني من أعدائي ) الحكيم ( الذي لا يأمرني إلا بما يصلحني.
قوله تعالى ) ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ( يقال إن الله تعالى لم يبعث نبياً بعد إبراهيم إلا من نسله ) وآتيناه أجره في الدنيا ( هو الثناء الحسن فكل أهل الأديان يتولونه ويحبونه ويحبون الصلاة عليه والذرية الطيبة والنبوة
(5/191)
صفحة رقم 192
من نسله هذا له في الدنيا ) وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس مثل آدم ونوح.
قوله عز وجل ) ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ( أي الفعلة القبيحة ) ما سبقكم بها من أحد من العالمين ( أي لم يفعلها أحد من قبلكم ثم فسر الفاحشة فقال ) أئنكم لتأتون الرجال ( يعني أنكم تقضون الشهوة من الرجال ) وتقطعون السبيل ( وذلك أنهم كانوا يأتون الفاحشة بمن مر بهم من المسافرين فترك الناس الممر بهم لأجل ذلك وقيل معناه تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء ) وتأتون في ناديكم المنكر ( أي مجالسكم والنادي مجلس القوم ومتحدثهم عن أم هانىء بنت أبي طالب عن النبي صلى الله عليه سلم في قوله وتأتون في ناديكم المنكر قال ( كانوا يحذفون أهل الأرض ويسخرون منهم ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب الحذف هو رمي الحصى بين الأصابع قيل إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه قال : أنا أولى به وقيل : إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم وقيل إنهم كانوا يجامعون بعضهم بعضاً في مجالسهم وقيل إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم وعن عبدالله بن سلام كان يبزق بعضهم على بعض.
وقيل كان أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصفير والحذف والرمي بالجلاهق واللوطية ) فما كان جواب قومه ( أي لما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح ) إلا أن قالوا ( أي استهزاء ) ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ( أي إن العذاب نازل بنا.
)
العنكبوت : ( 30 - 40 ) قال رب انصرني...
" قال رب انصرني على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " ( ) قال رب انصرني على القوم المفسدين ( أي بتحقيق قولي إن العذاب نازل بهم.
قوله عز وجل ) ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ( أي من الله بإسحاق ويعقوب ) قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية ( أي قوم لوط والقرية سدوم ) إن أهلها كانوا ظالمين قال ( يعني إبراهيم إشفاقاً على لوط وليعلم حاله ) إن فيها لوطاً قالوا ( أي قالت الملائكة ) نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ( أي من الباقين في العذاب ) ولما أن جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم ( أي ظنهم من الإنس فخاف عليهم ومعناه أنه جاءه ما ساءه ) وضاق بهم ذرعاً ( أي عجز عن تدبير أمرهم فحزن لذلك ) وقالوا لا تخف ( أي من قومك ) ولا تحزن ( علينا ) إنا منجوك وأهلك ( أي إنا مهلكوهم ومنجوك وأهلك
(5/192)
صفحة رقم 193
) إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً ( أي عذاباً ) من السماء ( قيل هو الخسف والحصب بالحجارة ) بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها ( أي من قريات لوط ) آية بينة ( أي عبرة ظاهرة ) لقوم يعقلون ( يعني أفلا يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول قال ابن عباس الآية البينة آثار منازلهم الخربة وقيل هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الأمة.
وقيل هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض.
قوله تعالى ) وإلى مدين ( أي وأرسلنا إلى مدين ؛ ومدين اسم رجل وقيل اسم المدينة ؛ فعلى القول الأول يكون المعنى وأرسلنا إلى ذرية مدين وأولاده ؛ وعلى القول الثاني وأرسلنا إلى أهل مدين ) أخاهم شعيباً فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخرة ( أي افعلوا فعل من يرجو اليوم الآخر وقيل معناه اخشوا اليوم الآخر وخافوه ) ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبه فأخذتهم الرجفة ( أي الزلزلة وذلك أن جبريل صاح فرجفت الأرض رجفة ) فأصبحوا في دارهم جاثمين ( أي باركين على الركب ميتين ) وعاداً وثمود ( أي وأهلكنا عاداً وثمود ) وقد تبين لكم ( يا أهل مكة ) من مساكنهم ( أي منازلهم بالحجر واليمن ) وزين لهم الشيطان أعمالهم ( أي عبادتهم لغير الله ) فصدهم عن السبيل ( أي عن سبيل الحق ) وكانوا مستبصرين ( أي عقلاء ذوي بصائر.
وقيل كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم يحسبون أنهم على هدى وهم على باطل وضلالة والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين ) وقارون وفرعون وهامان ( أي أهلكنا هؤلاء ) ولقد جاءهم موسى بالبينات ( أي بالدلالات الواضحات ) فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ( أي فائتين من عذابنا ) فكلاًّ أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ( وهم قوم لوط رموا بالحصباء وهي الحصى الصغار ) ومنهم من أخذته الصيحة ( يعني ثمود ) ومنهم من خسفنا به الأرض ( يعني قارون وأصحابه ) ومنهم من أغرقنا ( يعني قوم نوح وفرعون وقومه ) وما كان الله ليظلمهم ( أي بالهلاك ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( أي بالإشراك.
)
العنكبوت : ( 41 - 45 ) مثل الذين اتخذوا...
" مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون " ( قوله تعالى : ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء ( يعني الأصنام يرجون نصرها ونفعها ) كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ( لنفسها تأوي إليه وإن بيتها في غاية الضعف والوهن لا يدفع عنها حراً ولا برداً فكذلك الأوثان لا تملك لعابدها نفعاً ولا ضراً.
وقيل معنى هذا المثل أن المشرك الذي يعبد الأصنام بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل العنكبوت تتخذ بيتاً من نسجها بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً بآجر وجص
(5/193)
صفحة رقم 194
أو نحته من صخر فكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت فكذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان لأنها لا تضر ولا تنفع ) وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ( أشار إلى ضعفه فإن الريح إذا هبت عليه أو لمسه لامس فلا يبقى له عين ولا أثر فقد صح أن أوهن البيوت لبيت العنكبوت وقد تبين أن دينهم أوهن الأديان ) لو كانوا يعلمون ( أي أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بلغ هذه الغاية من الوهن ) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء ( هذا توكيد للمثل وزيادة عليه يعني إن الذي يدعون من دونه ليس بشيء ) وهو العزيز الحكيم ( معناه كيف يجوز للعاقل أن يترك عبادة الله العزيز الحكيم القادر على كل شيء ويشتغل بعبادة من ليس بشيء أصلاً ) وتلك الأمثال ( أي الأشباه يعني أمثال القرآن التي شبه بها أحوال الكفار من هذه الأمة بأحوال كفار الأمم السابقة ) نضربها ( أي نبينها ) للناس ( أي لكفار مكة ) وما يعقلها إلا العالمون ( يعني ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله عز وجل.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تلا هذه الآية.
) وتلك الأمثال نضربها للناس ومايعقلها إلا العالمون ( قال : ( العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه ) ) خلق الله السموات والأرض بالحق ( أي للحق وإظهار الحق ) إن في ذلك لآية ( أي دلالة ) للمؤمنين ( على قدرته وتوحيده.
وقوله تعالى ) اتل ما أوحي إليك من الكتاب ( يعني القرآن ) وأقم الصلاة ( فإن قلت : لم أمر بهذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة فقط ؟ قلت لأن العبادة المختصة بالعبد ثلاثة : قلبية وهي الإعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية وهي العمل الصالح , لكن الإعتقاد لا يتكرر فإن اعتقد شيئاً لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمراً فبقي الذكر العبادة البدنية وهما ممكنا التكرار فلذلك أمر بهما ) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء ( أي ما قبح من الأعمال ) والمنكر ( أي ما لا يعرف في الشرع.
قال ابن مسعود وابن عباس في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله , فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم تزده صلاته من الله إلا بعداً.
وقال الحسن وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه وقيل من داوم على الصلاة جره ذلك إلى ترك المعاصي والسيئات كما روي عن أنس قال : ( كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم لم يدع من الفواحش شيئاً إلا ركبه فذكر ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إن صلاته ستنهاه يوماً فلم يلبث أن تاب وحسن حاله ) وقيل : معنى الآية أنه ما دام في صلاته فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر ومنه قوله : ( إن في الصلاة لشغلاً ) وقيل أراد بالصلاة القرآن وفيه ضعف لتقدم ذكر القرآن على هذا يكون معناه أن القرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر كما روي عن جابر قال : قال رجل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن رجل يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق قال ستنهاه
(5/194)
صفحة رقم 195
قراءته ) وفي رواية ( أنه قيل يا رسول الله إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال إن صلاته لتردعه ) وعلى كل حال فإن المراعي للصلاة لا بد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها ) ولذكر الله أكبر ( أي أنه أفضل الطاعات.
عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال بذكر الله ) أخرجه الترمذي وله عن أبي سعيد الخدري قال : ( إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال الذاكرون الله كثيراً قالوا يا رسول الله والغازي في سبيل الله ؟ فقال لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختصب في سبيل الله دماً لكان الذاكرون الله كثيراً أفضل منه درجة ) ( م ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات ) يروي المفردون بتشديد الراء وتخفيفها والتشديد أتم يقال فرد الرجل بتشديد الراء إذا تفقه واعتزل الناس وحده مراعياً للأمر والنهي وقيل هم المتخلفون عن الناس بذكر الله لا يخلطون به غيره
( خ ) عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ) وروي ( أن أعرابياً قال يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله ) وقال ابن عباس : معنى ولذكر الله أكبر ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه ويروى ذلك مرفوعاً عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه سلم وقال ابن عطاء
(5/195)
صفحة رقم 196
ولذكر الله أكبر أي لن تبقى معه معصية ) والله يعلم ما تصنعون ( يعني لا يخفى عليه شيء من أمركم.
)
العنكبوت : ( 46 - 53 ) ولا تجادلوا أهل...
" ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون " ( قوله عز وجل : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب ( أي ولا تخاصموهم ) إلا بالتي هي أحسن ( أي القرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه وأراد بهم من قبل الجزية منهم ) إلا الذين ظلموا منهم ( يعني أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب فافجؤوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ومعنى الآية إلا الذين ظلموكم لأن جميعهم ظالم بالكفر وقيل هم أهل الحرب ومن لا عهد له.
وقيل الآية منسوخة بآية السيف ) وقولوا ( أي للذين قبلوا الجزية إذا حدثوكم بشيء مما في كتبكم ) آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (
( خ ) عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربيه لأهل الإسلام فقال النبي صلى الله عليه سلم : ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ) الآية.
قوله عز وجل ) وكذلك ( أي كما أنزلنا إليهم الكتاب ) أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ( يعني مؤمني أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وأصحابه ) ومن هؤلاء ( يعني أهل مكة ) من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ( وذلك أن اليهود عرفوا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نبي والقرآن حق فجحدوا والجحود إنما يكون بعد المعرفة ) وما كنت تتلو ( يا محمد ) من قبله من كتاب ( معناه من كتب أي من قبل ما أنزلنا إليك الكتاب ) ولا تخطه بيمينك ( يعني ولا تكتبه والمعنى لم تكن تقرأ ولم تكتب قبل الوحي ) إذاً لارتاب المبطلون ( معناه لو كنت تكتب أو تقرأ قبل الوحي إليك لارتاب المشركون من أهل مكة , وقالوا إنه يقرأه من كتب الأولين أو ينسخه منها
(5/196)
صفحة رقم 197
وقيل المبطلون هم اليهود ومعناه أنهم إذاً لشكوا فيه واتهموك وقالوا إن الذي نجد نعته في التوراة لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت ) بل هو آيات بينات ( يعني القرآن ) في صدور الذين أوتوا العلم ( يعني المؤمنين الذي حملوا القرآن وقال ابن عباس يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدون نعته وصفته في كتبهم ) وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ( يعني اليهود ) وقالوا ( يعني كفار مكة ) لولا أنزل عليه آية من ربه ( أي كما أنزل على الأنبياء من قبل وقيل : أراد بالآيات معجزات الأنبياء مثل ناقة صالح ومائدة عيسى ونحو ذلك ) قل إنما الآيات عند الله ( أي هو القادر على إنزالها إن شاء أنزلها ) وإنما أنا نذير مبين ( إي إنما كلفت الإنذار وليس إنزال الآيات بيدي ) أولم يكفهم أنا أنزلنا ( هذا جواب لقولهم لولا أنزل عليه آية من ربه قال أول يكفهم أن أنزلنا ) عليكم الكتاب يتلى عليهم ( معناه أن القرآن معجزة أتم من معجزة من تقدم من الأنبياء لأن معجزة القرآن تدوم على ممر الدهور والزمان ثابتة لا تضمحل كما نزول كل آية بعد كونها ) إن في ذلك ( يعني القرآن ) لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ( أي تذكيراً وعظة لمن آمن به وعمل صالحاً ) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً ( قال ابن عباس معناه يشهد لي أني رسوله والقرآن كتابه ويشهد عليكم بالتكذيب , وشهادة الله إثبات المعجزة له بإنزال الكتاب عليه ) يعلم ما في السموات والأرض ( أي هو المطلع على أمري وأمركم ويعلم حقي وباطلكم لا تخفى عليه خافية ) والذين آمنوا بالباطل ( قال ابن عباس : بغير الله وقيل بعبادة الشيطان وقيل بما سوى الله لأن ما سوى الله باطل ) وكفروا بالله (.
فإن قلت من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد.
قلت نعم فائدته أن ذكر الثاني لبيان قبح الأول فهو كقول القائل أتقول الباطل وتترك الحق لبيان أن الباطل قبيح ) أولئك هم الخاسرون ( أي المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
قوله عز وجل ) ويستعجلونك بالعذاب ( نزلت في النضر بن الحارث حيث قال ) فأمطر علينا حجارة من السماء ( ) ولولا أجل مسمى ( قال ابن عباس ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة وقيل مدة أعمارهم لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب وقيل يوم بدر ) لجاءهم العذاب وليأتينهم ( يعني العذاب , وقيل الأجل ) بغتة وهم لا يشعرون ( بإتيانه.
)
العنكبوت : ( 54 - 60 ) يستعجلونك بالعذاب وإن...
" يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم
(5/197)
صفحة رقم 198
ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " ( ) يستعجلونك بالعذاب ( أعادة تأكيداً ) وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ( أي جامعة لهم لا يبقى منهم أحد إلا دخلها ) يوم يغشاهم العذاب ( أي يصيبهم ) من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون ( أي جزاء ما كنتم تعملون.
قوله تعالى ) يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ( قيل نزل في ضعفاء مسلمي أهل مكة يقول الله تعالى إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة فإنها واسعة آمنة , وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة وقالوا نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة فأنزل الله تعالى هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج وقيل المعنى فهاجروا فيها أي فجاهدوا فيها.
وقال سعيد بن جبير : إذا علموا في الأرض بالمعاصي فاهربوا منها فإن أرضي واسعة وقيل إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيه بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى بلد تتهيأ له فيها العبادة وقيل معنى إن أرضي واسعة يعني رزقي لكم واسع فاخرجوا ) كل نفس ذائفة الموت ( يعني كل أحد ميت خوفهم بالموت لتهون الهجرة عليهم فلا يقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت ) ثم إلينا ترجعون ( فنجزيكم بأعمالكم.
قوله تعالى ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً ( أي علالي جمع غرفة وهي العلية ) تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين ( أي لله بطاعته ) الذين صبروا ( على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم وقيل صبروا على الهجرة ومفارقة الأوطان وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب وعلى الطاعات وعن المعاصي ) وعلى ربهم يتوكلون ( أي يعتمدون على الله في جميع أمورهم.
قوله عز وجل ) وكأين من دابة لا تحمل رزقها ( وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون ( هاجروا إلى المدينة ) فقالوا كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا بها ويسقينا فأنزل الله : وكأين من دابة لا تحمل رزقها أي لا ترفع رزقها معها لضعفها ولا تدخر شيئاً لغد مثل البهائم والطير ) الله يرزقها وإياكم ( حيث كنتم ) وهو السميع ( أي لأقوالكم ) العليم ( بما في قلوبكم عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( لو أنكم تتوكلون على الله
(5/198)
صفحة رقم 199
حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن ومعناه أنها تذهب أول النهار جياعاً ضامرة البطون وتروح آخر النهار إلى أوكارها شباعاً ممتلئة البطون ولا تدخر شيئاً قال سفيان بن عيينة ليس شيء من خلق الله يخبأ إلا الإنسان والفأرة والنملة.
عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( أيها الناس ليس من شيء يقاربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي ) الروح : بضم الراء وبالعين المهملة هو القلب والعقل وبفتح الراء هو الخوف قال تعالى ) فلما ذهب عن إبراهيم الروع ( " أي الخوف ( أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته ).
)
العنكبوت : ( 61 - 69 ) ولئن سألتهم من...
" ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " ( قوله عز وجل : ( ولئن سألتهم ( يعني كفار مكة ) من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ( ذكر أمرين أحدهما : إشارة إلى اتحاد الذات والثاني إشارة إلى اتحاد الصفات وهي الحركة في الشمس والقمر ) ليقولن الله فأنى يؤفكون ( قيل معناه أنهم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة الله مع إقرارهم أنه خلق السموات والأرض ) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ( لما ذكر الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الخلق بالزرق والله تعالى هو المتفضل بالرزق على الخلق فله الفضل والإحسان والطول والامتنان ) ويقدر له ( أي يضيق عليه إذا شاء ) إن الله بكل شيء عليم ( أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق ) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ( ذكر سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله تعالى ) قل الحمد لله ( أي على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله تعالى : وقيل قل الحمد لله على إقرارهم ولزوم الحجة عليهم بأنه خالق لهم ) بل أكثرهم لا يعقلون ( أي أنهم ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه خالق هذه الأشياء.
قوله تعالى ) وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ( اللهو هو الاستمتاع بلذة الدنيا وقيل هو الاشتغال بما لا يعنيه وما لا يهمه واللعب هو العبث وفي هذا تصغير للدنيا وازدراء بها ومعنى الآية أن سرعة زوال الدنيا عن
(5/199)
صفحة رقم 200
أهلها وتقلبهم فيها وموتهم عنها كما يلعب الصبيان ساعة ثم ينصرفون ) وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ( أي الحياة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها ) لو كانوا يعلمون ( فناء الدنيا وبقاء الآخرة لما آثروا الفاني على الباقي.
قوله عز وجل ) فإذا ركبوا في الفلك ( معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك وخافوا الغرق ) دعوا الله مخلصين له الدين ( أي تركوا الأصنام ولجأوا إلى الله تعالى بالدعاء ) فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ( أي عادوا إلى ما كانوا عليه من الشرك والعناد.
وقيل : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا الأصنام فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب ) ليكفروا بما آتيناهم ( أي ليجحدوا نعمة الله في إجابته إياهم ومعناه التهديد والوعيد ) وليتمتعوا ( معناه لا فائدة لهم في الإشراك إلا التمتع بما يستمتعون به في العاجلة ولا نصيب لهم في الآخرة ) فسوف يعلمون ( يعني عاقبة أمرهم ففيه تهديد ووعيد : قوله عز وجل ) أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطلف الناس من حولهم ( يعني العرب يسبي بعضهم بعضاً وأهل مكة آمنون ) أفبالباطل ( يعني الشيطان والأصنام ) يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ( أي بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والإسلام يكفرون ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( أي فزعم أن له شريكاً فإنه منزه عن الشركاء ) أو كذب بالحق ( أي بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن ) لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ( معناه أما لهذه الكافر المكذب مأوى في جهنم.
قوله عز وجل ) والذين جاهدوا فينا ( معناه جاهدوا المشركين لنصر ديننا ) لنهدينهم سبلنا ( لنثيبنهم ما قاتلوا عليه.
وقيل لنزيدنهم هدى وقيل لنوفينهم لإصابة الطرق المستقيمة وهي التي توصل إلى رضا الله تعالى.
قال سفيان بن عيينة : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإن الله تعالى يقول : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ( وقيل المجاهدة الصبر على الطاعات ومخالفة الهوى وقال الفضيل بن عياض والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العلم والعمل به وقال سهل بن عبدالله والذين جاهدوا فينا بإقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة.
وقال ابن عباس : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا ) وإن الله لمع المحسنين ( أي بالنصرة والمعونة في دنياهم والمغفرة في عقباهم في الآخرة وثوابهم الجنة والله أعلم.
(5/200)
صفحة رقم 201
سورة الروم
تفسير سورة الروم وهي مكية وهي ستون آية وثمانمائة وتسع عشرة كلمة وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
الروم : ( 1 - 3 ) الم
" الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون " ( قوله عز وجل ) الم غلبت الروم في أدنى الأرض ( سبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم لأن فارساً كانوا مجوساً أميين والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليهم رجلاً يقال له شهرمان وبعث قيصر رجالاً وجيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى بخين فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي آدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق عليهم وفرح به كفار مكة , وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وفارس أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم فإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم فأنزل الله هذه الآيات فخرج أبو بكر الصديق إلى كفار مكة فقال : فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فوالله ليظهرن الروم على الفرس.
أخبرنا بذلك نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إليه أبي بن خلف الجمحي فقال كذبت : فقال أنت أكذب يا عدو الله فقال : اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه والمناحبة بالحاء المهملة القمار والمراهنة أراهنك على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإذا ظهرت فارس على الروم غرمت وإذا ظهرت الروم على فارس غرمت ففعلوا وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره بذلك قبل تحريم القمار.
فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر
(5/201)
صفحة رقم 202
ومادده في الأجل فخرج أبو بكر فلقي أبيّاً فقال لعلك ندمت فقال لا فتعال أزايدك في الخطر وأماددك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين فقال قد فعلت فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه ولزمه وقال : إني أخالف أن تخرج من مكة فأقم لي ضماناً كفيلاً فكفله ابنه عبدالله بن أبي بكر فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبدالله بن أبي بكر فلزمه وقال والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثم خرج إلى أحد قال : ثم رجع أبي بن خلف إلى مكة ومات بها من جراحته التي جرحه النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس سبع سنين ومن مناحبتهم وقيل كان يوم بدر وربطت الروم خيولهم بالمدائن وبنوا بالعراق مدينة وسموها رومية فقمر أبو بكر أبيّاً وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك قبل أن يحرم القمار فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) تصدق به ) كان سبب غلبة الروم فارساً على ما قال عكرمة وغيره : أن شهرمان لما غلب الروم لم يزل يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج فبينا أخوه فرحان جالس ذات يوم قال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى فبلغت كلمته كسرى فكتب إلى شهرمان إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس أخيك فرحان فكتب إليه أيها الملك إنك لم تجد مثل فرحان إن له لنكاية وصولة في العدو , فلا تفعل فكتب إليه إن في رجال فارس خلفاً عنه فعجل إليَّ برأسه فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه وبعث بريداً إلى أهل فارس إني قد عزلت عنكم شهرمان واستعملت عليكم فرحان ثم بعث مع البريد صحيفة صغيرة وأمره فيها بقتل شهرمان.
وقال إذا ولي فرحان الملك وانقاد له أخوه فأعطه الصحيفة , فلما وصل البريد إلى شهرمان عرض عليه كتاب كسرى فلما قرأه قال : سمعاً وطاعة ونزل عن سرير الملك وأجلس عليه أخاه فرحان فدفع البريد الصحيفة إلى فرحان فلما قرأها : استدعى بأخيه شهرمان وقدمه ليضرب عنقه فقال له لا تعجل حتى أكتب وصيتي قال نعم فدعا بسفط ففتحه وأعطاه ثلاث صحائف منه وقال كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت تريد قتلي بكتاب واحد فرد فرحان الملك إلى أخيه شهرمان فكتب إلى قيصر ملك الروم ؛ أما بعد إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف فالقني في خمسين رومياً حتى ألقاك في خمسين فارسياً فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق مخافة أن يريد أن يمكر به حتى أتاه عيونه فأخبروا أنه ليس معه إلا خمسون فارسياً , فلما التقيا ضرب
(5/202)
صفحة رقم 203
لهما فيها ديباج فدخلاها ومع كل واحد سكين ودعوا بترجمان يترجم بينهما فقال شهرمان : إن الذي خرب بلادك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا وإن كسرى حسدنا وأراد أن يقتل أخي فأبيت عليه ثم أمر أخي بقتلي فأبى عليه , وقد خلعناه جميعاً ونحن نقاتله معك فقال : قد أصبتما وأشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوزهما فشا.
فقتلا الترجمان معاً بسكينيهما فأديلت الروم على فارس عند ذلك وغلبوهم وقتلوهم ومات كسرى جاء الخبر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الحديبية ففرح ومن كان معه من المسلمين بذلك فذلك قوله عز وجل ) الم غلبت الروم في أدنى الأرض ( يعني أقرب أرض الشام إلى فارس وقيل هي أذرعات وقيل الأردن وقيل الجزيرة ) وهم من بعد غلبهم ( أي فارس لهم ) سيغلبون ( أي الروم لفارس.
)
الروم : ( 4 - 7 ) في بضع سنين...
" في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " ( ) في بضع سنين ( البضع ما بين الثلاث إلى السبع وقيل إلى التسع وقيل ما دون العشر ) لله الأمر من قبل ومن بعد ( أي من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها فمن غلب فهو بأمر الله تعالى وقضائه وقدره ) ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ( أي الروم على فارس وقيل فرح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر وفرحوا بظهور أهل الكتاب على أهل الشرك ) بنصر من يشاء ( أي بيده النصر ينصر من يشاء ) وهو العزيز ( الغالب ) الرحيم ( أي بالمؤمنين قوله تعالى ) وعد الله ( أي وعد الله وعداً بظهور الروم على فارس ) لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( أي أن الله لا يخلف وعده ؛ ثم قال تعالى ) يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ( يعني معاشهم كيف يكسبون ويتجرون ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون وقال الحسن إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه لا يخطىء وهو لا يحسن يصلي.
وقيل : لا يعلمون الدنيا بحقيقتها إنما يعلمون ظاهرها وهو ملاذها وملاعبها ولا يعلمون باطنها وهو مضارها ومتاعبها.
وقيل يعلمون وجودها الظاهر ولا يعلمون فناءها ) وهم عن الآخرة هم غافلون ( أي ساهون عنها لا يتفكرون فيها ولا يعلمون بها.
)
الروم : ( 8 - 18 ) أو لم يتفكروا...
" أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون " ( قوله عز وجل : ( أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ( يعني لإقامة الحق ) وأجل مسمى ( أي لوقت معلوم إذا انتهت إليه فنيت وهو يوم القيامة ) وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون أولم يسيروا في الأرض ( أي يسافروا فيها ) فينظرو كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ( أي ينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم فيعتبروا ) كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض ( أي حرثوها
(5/203)
صفحة رقم 204
وقلبوها للزراعة ) وعمروها ( يعني الأمم الخالية ) أكثر مما عمروها ( يعني أهل مكة ) وجاءتهم رسلهم بالبينات ( أي فلم يؤمنوا فأهلكهم الله ) فما كان الله ليظلمهم ( أي بنقص حقوقهم ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( أي ببخس حقوقهم ) ثم كان عاقبة الذين أساءوا ( أي أساءوا العمل فاستحقوا ) السوأى ( يعني الخلة التي تسوءهم وهي النار وقيل السوء اسم لجهنم , ومعنى الآية أن عاقبة الذين عملوا السوء النار ) أن كذبوا ( أي لأنهم كذبوا وقيل معنى الآية ثم كان عاقبة المسيئين أن حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا ) بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ( قوله تعالى ) الله يبدأ الخلق ثم يعيده ( أي خلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء ) ثم إليه يرجعون ( أي فيجزيهم بأعمالهم ) ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ( قيل : معناه أنهم ييأسون من كل خير وقيل : ينقطع كلامهم وحججهم وقيل يفتضحون ) ولم يكن لهم من شركائهم ( يعني أصنامهم التي عبدوها ) شفعاء ( أي يشفون لهم ) وكانوا بشركائهم كافرين ( أي جاحدين متبرئين يتبرؤون منها وتتبرأ منهم ) ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ( أي يتميز أهل الجنة من أهل النار.
وقيل يتفرقون بعد الحساب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار فلا يجتمعون أبداً فهو قوله تعالى ) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة ( أي في جنة وقيل الروضة البستان الذي هو في غاية النضارة ) يحبرون ( قال ابن عباس يكرمون وقيل يتنعمون ويسرون والحبرة السرور.
وقيل في معنى يحبرون : هو السماع في الجنة.
قال الأوزاعي : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم وقال : إذا أخذ السماع فلا يبقى في الجنة شجرة إلا وردته , وسأل أبا هريرة رجل : هل لأهل الجنة من سماع ؟ فقال : نعم شجرة أصلها من ذهب وأغصانها من فضة وثمارها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت يبعث الله ريحاً فيجاوب بعضها بعضاً فما يسمع أحد أحسن منه ) وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ( أي البعث يوم القيامة ) فأولئك في العذاب محضرون ( قوله تعالى ) فسبحان الله ( أي فسبحوا الله ومعناه صلوا لله ) حين تمسون ( أي تدخلون في المساء وهي صلاة المغرب والعشاء ) وحين تصبحون ( أي تدخلون في الصباح وهي صلاة الصبح ) وله الحمد في السموات
(5/204)
صفحة رقم 205
والأرض ( قال ابن عباس يحمده أهل السموات والأرض ويصلون له ) وعشيّاً ( أي وصلوا لله عشيّاً يعني صلاة العصر ) وحين تظهرون ( أي تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر.
قال نافع ابن الأزرق لابن عباس : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال : نعم وقرأ هاتين الآيتين وقال : جمعتا الصلوات الخمس ومواقيتها.
واعلم أنه خص هذه الأوقات بالتسبيح لأن أفضل الأعمال أدومها والإنسان لا يقدر أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لأنه محتاج إلى ما يعيشه من مأكول ومشروب وغير ذلك فخفف الله عنه العبادة في غالب الأوقات وأمره بها في أول النهار وفي أول الليل وآخره فإذا صلى العبد ركعتي الفجر فكأنما سبح قدر ساعتين وكذلك باقي الركعات وهي سبع عشرة ركعة مع ركعتي الفجر فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس في أوقاتها فكأنما سبح الله سبع عشرة ساعة من الليل والنهار بقي عليه سبع ساعات في جميع الليل والنهار وهي مقدار النوم والنائم مرفوع عنه القلم فيكون قد صرف جميع أوقاته في التسبيح والعبادة.
فصل في فضل التسبيح
عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قال سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ) وعنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زيد عليه ) أخرجهما الترمذي وقال فيهما حسن صحيح
( ق ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ) وهذا الحديث أخرجه في صحيح البخاري ( م ) عن جويرية بنت الحارث زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رضي الله عنها : ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج ذات غداة من عندها وهي في مسجدها فرجع بعدما تعالى النهار فقال مازلت في مجلسك هذا مذ خرجت بعد ؟ قالت نعم فقال : لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرار لو وزنت بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ) ( م ) عن سعد بن أبي وقاص قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه سلم
(5/205)
صفحة رقم 206
فقال ( أيعجز أحدكم أن يكتسب كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه قال كيف يكتسب ألف حسنة ؟ قال : يسبح الله مائة تسبيحة فيكتف له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة ) وفي رواية غير مسلم ( يحط عنه أربعين ألفاً ).
)
الروم : ( 19 - 27 ) يخرج الحي من...
" يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون وله من في السماوات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم " ( قوله تعالى : ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ( أي يخرج النطفة من الحيوان ويخرج الحيوان من النطفة.
وقيل : يخرج الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة.
وقيل يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن ) ويحيي الأرض بعد موتها ( أي بالمطر وإخراج النبات منها ) وكذلك تخرجون ( أي مثل إخراج النبات من الأرض تخرجون من القبور للبعث والحساب ) ومن آياته خلقكم من تراب ( أي خلق أصلكم وهو آدم من تراب ) ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ( أي تنبسطون في الأرض ) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً ( أي جنسكم من بني آدم وقيل خلق حواء من ضلع آدم ) لتسكنوا إليها ( أي لتميلوا للأزواج وتألفوهن ) وجعل بينكم مودة ورحمة ( أي جعل بين الزوجين المودة والرحمة فهما يتوادان ويتراحمان من غير سابقة معرفة ولا قرابة ولا سبب يوجب التعاطف وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير تراحم بينهما إلا الزوجان ) إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( أي في عظمة الله وقدرته ) ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم ( أي اختلاف اللغات العربية والعجمية وغيرهما وقيل أراد أجناس النطق وأشكاله خالف بينهما حتى لا تكاد تسمع منطقين حتى لو تكلم جماعة من وراء حائط يعرف كل منهم بنطقه ونغمته لا يشبه صوت أحد صوت الآخر ) وألوانكم ( أي أسود وأبيض وأشقر وأسمر وغير ذلك من اختلاف الألوان وأنتم بنو رجل واحد ومن أصل واحد وهو آدم عليه السلام.
الحكمة في اختلاف الأشكال والأصوات للتعارف أي ليعرف كل واحد بشكله وحليته وصوته وصورته فلو اتفقت الأصوات والصور وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة وليعرف صاحب الخلق من غيره والعدو من الصديق والقريب من البعيد فسبحان من خلق الخلق على ما أراد وكيف أراد.
وفي ذلك دليل على سعة القدرة وكمال العظمة ) إن في ذلك لآيات للعالمين ( أي لعموم العلم فيهما ) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ( أي منامكم الليل للراحة وابتغاءكم من فضله وهو طلب أسباب المعيشة بالنهار ) إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ( أي سماع تدبر واعتبار ) ومن آياته يريكم البرق خوفاً ( أي للمسافر ليستعد للمطر ) وطمعاً ( أي للمقيم ليستعد المحتاج إليه من أجل الزرع وتسوية طرق المصانع ) وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لأيات لقوم يعقلون ( أي قدرة الله وأنه القادر عليه ) ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ( قال ابن عباس وابن مسعود قامتا على غير عمد وقيل يدوم قيامهما بأمره ) ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض ( قال ابن عباس من القبور ) إذا أنتم تخرجون ( أي منها وقيل معنى الآية ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون من الأرض
(5/206)
صفحة رقم 207
) وله من في السموات والأرض كل له قانتون ( مطيعون قال ابن عباس كل له مطعيون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة ) وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ( أي يخلقهم أولاً ثم يعيدهم بعد الموت للبعث ) وهو أهون عليه ( أي هو هين عليه وما من شيء عليه بعزيز وقيل معناه وهو أيسر عليه فإن الذي يقع في عقول الناس أن الإعادة تكون أهون من الإنشاء وقيل : هو أهون على الخلق وذلك لأنهم يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن يصيروا رجالاً ونساء.
وهو رواية عن ابن عباس ) وله المثل الأعلى ( أي الصفة العليا قال ابن عباس : ليس كمثله شيء وقيل هو الذي لا إله إلا هو ) في السموات والأرض وهو العزيز ( أي في ملكه ) الحكيم ( في خلقه.
)
الروم : ( 28 - 33 ) ضرب لكم مثلا...
" ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون " ( قوله عز وجل : ( ضرب لكم مثلاً ( أي بين لكم شبهاً بحالكم ذلك المثل ) من أنفسكم ( ثم بين المثل فقال تعالى ) هل لكم من ما ملكت أيمانكم ( أي عبيدكم وإمائكم ) من شركاء فيما رزقناكم ( أي من المال ) فأنتم فيه سواء ( يعني هل يشارككم عبيدكم في أموالكم التي أعطيناكم ) تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ( أي تخافون أن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم كما يخاف الحر من شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه بأمره دون شريكه ويخاف الرجل شريكه في الميراث وهو يحب أن ينفرد به.
قال ابن عباس : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً فإذا لم تخافوا هذا من مماليككم ولا ترضوه لأنفسكم فكيف ترضون أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي ) كذلك نفصل الآيات ( أي الدلالات والبراهين والأمثال ) لقوم يعقلون ( أي ينظرون في هذه الدلائل والأمثال بعقولهم ) بل اتبع الذين ظلموا ( يعني أشركوا بالله ) أهواءهم ( أي في الشرك ) بغير علم ( جهلاً بما يجب عليهم ) فمن يهدي من أضل الله ( أي عن طريق الهدى ) وما لهم من ناصرين ( أي مانعين يمنعونهم عن عذاب الله.
قوله تعالى ) فأقم وجهك للدين ( يعني أخلص دينك لله وقيل سدد عملك والوجه ما يتوجه إلى الله
(5/207)
صفحة رقم 208
تعالى به الإنسان ودينه وعمله مما يتوجه إليه ليسدده قوله تعالى ) حنيفاً ( أي مائلاً إليه مستقيماً عليه ) فطرة الله ( أي دين الله والمعنى الزموا فطرة ) الله التي فطر الناس عليها ( قال ابن عباس خلق الناس عليها والمراد بالفطرة الدين وهو الإسلام
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم قال اقرؤوا ) فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ( زاد البخاري ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسن فيها من جدعاء ) ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا فطرة الله الآية ولهما في رواية ( قالوا : يا رسول الله أفرأيت من يموت صغيراً قال الله أعلم بما كانوا عاملين ) قوله : ( ما من مولود يولد إلا على الفطرة ) يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله ) ألست بربكم قالوا بلى ( " فكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي وضعت الخلقة عليها وإن عبد غير الله قال الله تعالى ) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ( " ولكن لا اعتبار بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ألا ترى ألى قوله : ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه ) فهو مع وجود الإيمان الفطري فإنه محكوم له بحكم أبويه الكافرين وهذا معنى قول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث آخر ( يقول الله عز وجل : إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم ) وحكي عن عبدالله بن المبارك أنه قال : معنى الحديث أن كل مولود يولد على فطرته أي خلقته التي خلقه الله عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه على اعتقاد دينهما.
وقيل معناه أن كل مولود في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهيىء لقبول الدين , فلو ترك عليها لاستمرت على لزومها لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول السليمة وإنما يعدل عنه من عدل إلى غيره لأنه من آفات التقليد ونحوه فمن سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره.
ثم تمثل لأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك عن الفطرة السليمة والحجة المستقيمة بقوله ( كما تنتج بهيمة جمعاء ).
أي كما تلد البهيمة بهيمة مستوية لم يذهب من بدنها شيء وقوله ( هل تحسون فيها
(5/208)
صفحة رقم 209
من جدعاء يعني هل تشعرون أو تعلمون فيها من جدعاء وهي المقطوعة الأذن والأنف.
قوله عز وجل ) لا تبديل لخلق الله ( أي لا تبدلوا دين الله وقيل معنى الآية الزموا فطرة الله ولا تبدلوا التوحيد بالشرك.
وقيل معنى لا تبديل لخلق الله هو جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة فلا يصير السعيد شقياً ولا الشقي سعيداً.
وقيل الآية في تحريم إخصاء البهائم ) ذلك الدين القيم ( أي المستقيم ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( قوله عز وجل ) منيبين إليه ( أي فأقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه لأن خطاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يدخل فيه الأمة والمعنى راجعين إلى الله تعالى بالتوبة مقبلين إليه بالطاعة ) واتقوه ( أي ومع ذلك خافوه ) وأقيموا الصلاة ( أي داوموا على أدائها في أوقاتها ) ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ( أي صاروا فرقاً مختلفة وهم اليهود والنصارى وقيل هم أهل البدع من هذه الأمة ) كل حزب بما لديهم فرحون ( أي راضون بما عندهم.
وقوله تعالى ) وإذا مس الناس ضر ( أي قحط وشدة ) دعوا ربهم منيبين إليه ( أي مقبلين إليه بالدعاء ) ثم إذا أذاقهم منه رحمة ( أي خصباً ونعمة ) إذا فريق منهم بربهم يشركون (.
)
الروم : ( 34 - 40 ) ليكفروا بما آتيناهم...
" ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون " ( ) ليكفروا بما آتيناهم ( ليجحدوا نعمة الله عليهم ) فتمعتوا ( فيه تهديد ووعيد خاطب به الكفار ) فسوف تعلمون ( أي حالكم هذه في الآخرة ) أم أنزلنا عليهم سلطاناً ( قال ابن عباس حجة وعذراً وقيل كتاباً ) فهو يتكلم ( أي ينطق ) بما كانوا به يشركون ( أي بشركهم ويأمرهم به ) وإذا أذقنا الناس رحمة ( أي الخصب وكثرة المطر ) فرحوا بها ( أي فرحوا وبطروا ) وإن تصبهم سيئة ( أي جدب وقلة مطر وقيل خوف وبلاء ) بما قدمت أيديهم ( من السيئات إذا ) هم يقنطون ( أي ييأسون من رحمة الله وهذا خلاف وصف المؤمن فإنه يشكر ربه عند النعمة ويرجوه عند الشدة ) أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( تقدم تفسيره.
قوله عز وجل ) فآت ذا القربى حقه ( أي من البر والصلة ) والمسكين ( أي حقه وهو التصدق عليه ) وابن السبيل ( أي المسافر وقيل الضيف ) ذلك خير للذين يريدون وجه الله ( أي يطلبون ثواب الله بما كانوا يعملون ) وأولئك هم المفلحون ( قوله عز وجل ) وما آتيتم ( أي أعطيتم ) من ربا
(5/209)
صفحة رقم 210
ليربوا في أموال الناس ( أي في اجتلاب أموال الناس واجتذابها قيل في معنى الآية هو الرجل يعطي غيره العطية ليثيبه أكثر منها فهو جائز حلال ولكن لا يثاب عليها في القيامة وهذا قوله ) فلا يربو عند الله ( وكان هذا حراماً على النبي خاصة لقوله تعالى ) ولا تمنن تستكثر ( " أي لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيت وقيل هو الرجل يعطي صديقه أو قريبه ليكثر ماله لا يريد به وجه الله.
وقيل : هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل ربح ماله لا لتماس عونه لا لوجه الله تعالى فلا يربو عند الله لأنه لم يرد بعمله وجه الله ) وما آتيتم من زكاة ( أي أعطيتم من صدقة ) تريدون وجه الله ( أي بتلك الصدقة ) فأولئك هم المضعفون ( أي يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات.
قوله تعالى ) الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون ( تقدم تفسيره.
قوله تعالى ) ظهر الفساد في البر والبحر ( أي بسبب الشرك والمعاصي ظهر قحط المطر وقلة النبات في البراري والبوادي والمفاوز والقفار والبحر.
قيل المدائن والقرى التي هي على المياه الجارية والعرب تسمي المصر بحراً تقول : أجدب البر وانقطعت مادة البحر وقيل البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها والبحر هو المعروف وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر بخلو أجواف الأصداف من اللؤلؤ وذلك لأن الصدف إذا جاء المطر ترتفع على وجه الماء وتفتح أفواهها فما وقع فيه من المطر صار لؤلؤاً ) بما كسبت أيدي الناس ( أي بسبب شؤم ذنوبهم وقال ابن عباس الفساد في البر قتل أحد ابني آدم أخاه وفي البحر غصب الملك الجائر السفينة.
قيل كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان البحر عذباً وكان لا يقصد البقر الغنم فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحاً زعافاً وقصد الحيوان بعضها بعضاً.
وقيل : إن الأرض امتلأت ظلماً وضلالة قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما بعث رجع راجعون من الناس وقيل أراد
(5/210)
صفحة رقم 211
بالناس كفار مكة ) ليذيقهم بعض الذي عملوا ( يعني عقوبة الذي عملوا من الذنوب ) لعلهم يرجعون ( يعني عن الكفر وأعمالهم الخبيثة ) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ( أي لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية ) كان أكثرهم مشركين ( يعني فأهلكوا بكفرهم.
الروم : ( 41 ) ظهر الفساد في...
" ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )
الروم : ( 42 ) قل سيروا في...
" قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين " ( ) ليكفروا بما آتيناهم ( ليجحدوا نعمة الله عليهم ) فتمعتوا ( فيه تهديد ووعيد خاطب به الكفار ) فسوف تعلمون ( أي حالكم هذه في الآخرة ) أم أنزلنا عليهم سلطاناً ( قال ابن عباس حجة وعذراً وقيل كتاباً ) فهو يتكلم ( أي ينطق ) بما كانوا به يشركون ( أي بشركهم ويأمرهم به ) وإذا أذقنا الناس رحمة ( أي الخصب وكثرة المطر ) فرحوا بها ( أي فرحوا وبطروا ) وإن تصبهم سيئة ( أي جدب وقلة مطر وقيل خوف وبلاء ) بما قدمت أيديهم ( من السيئات إذا ) هم يقنطون ( أي ييأسون من رحمة الله وهذا خلاف وصف المؤمن فإنه يشكر ربه عند النعمة ويرجوه عند الشدة ) أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( تقدم تفسيره.
قوله عز وجل ) فآت ذا القربى حقه ( أي من البر والصلة ) والمسكين ( أي حقه وهو التصدق عليه ) وابن السبيل ( أي المسافر وقيل الضيف ) ذلك خير للذين يريدون وجه الله ( أي يطلبون ثواب الله بما كانوا يعملون ) وأولئك هم المفلحون ( قوله عز وجل ) وما آتيتم ( أي أعطيتم ) من ربا ليربوا في أموال الناس ( أي في اجتلاب أموال الناس واجتذابها قيل في معنى الآية هو الرجل يعطي غيره العطية ليثيبه أكثر منها فهو جائز حلال ولكن لا يثاب عليها في القيامة وهذا قوله ) فلا يربو عند الله ( وكان هذا حراماً على النبي خاصة لقوله تعالى ) ولا تمنن تستكثر ( " أي لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيت وقيل هو الرجل يعطي صديقه أو قريبه ليكثر ماله لا يريد به وجه الله.
وقيل : هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل ربح ماله لا لتماس عونه لا لوجه الله تعالى فلا يربو عند الله لأنه لم يرد بعمله وجه الله ) وما آتيتم من زكاة ( أي أعطيتم من صدقة ) تريدون وجه الله ( أي بتلك الصدقة ) فأولئك هم المضعفون ( أي يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات.
قوله تعالى ) الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون ( تقدم تفسيره.
قوله تعالى ) ظهر الفساد في البر والبحر ( أي بسبب الشرك والمعاصي ظهر قحط المطر وقلة النبات في البراري والبوادي والمفاوز والقفار والبحر.
قيل المدائن والقرى التي هي على المياه الجارية والعرب تسمي المصر بحراً تقول : أجدب البر وانقطعت مادة البحر وقيل البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها والبحر هو المعروف وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر بخلو أجواف الأصداف من اللؤلؤ وذلك لأن الصدف إذا جاء المطر ترتفع على وجه الماء وتفتح أفواهها فما وقع فيه من المطر صار لؤلؤاً ) بما كسبت أيدي الناس ( أي بسبب شؤم ذنوبهم وقال ابن عباس الفساد في البر قتل أحد ابني آدم أخاه وفي البحر غصب الملك الجائر السفينة.
قيل كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان البحر عذباً وكان لا يقصد البقر الغنم فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحاً زعافاً وقصد الحيوان بعضها بعضاً.
وقيل : إن الأرض امتلأت ظلماً وضلالة قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما بعث رجع راجعون من الناس وقيل أراد بالناس كفار مكة ) ليذيقهم بعض الذي عملوا ( يعني عقوبة الذي عملوا من الذنوب ) لعلهم يرجعون ( يعني عن الكفر وأعمالهم الخبيثة ) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ( أي لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية ) كان أكثرهم مشركين ( يعني فأهلكوا بكفرهم.
)
الروم : ( 43 - 54 ) فأقم وجهك للدين...
" فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير " ( قوله عز وجل : ( فأقم و جهك للدين القيم ( يعني لدين الإسلام ) من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ( يعني يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الخلق ) يومئذ يصدعون ( يعني يتفرقون ثم ذكر الفريقين فقال تعالى ) من كفر فعليه كفره ( يعني وبال كفره ) ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون ( أي يوطئون المضاجع ويسوونها في القبور ) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله ( قال ابن عباس : ليثيبهم الله ثواباً أكثر من أعمالهم ) إنه لا يحب الكافرين ( فيه تهديد ووعيد لهم.
قوله تعالى ) ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ( أي تبشر بالمطر ) وليذيقكم من رحمته ( أي بالمطر وهو الخصب ) ولتجري الفلك ( أي بهذه الرياح ) بأمره ولتبتغوا من فضله ( معناه لتطلبوا رزقه بالتجارة في البحر ) ولعلكم تشكرون ( أي هذه النعم.
قوله تعالى ) ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤهم بالبينات ( أي بالدلالات الواضحات على صدقهم ) فانتقمنا من الذين أجرموا ( يعني أنا عذبنا الذين كذبوهم ) وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ( أي مع أنجائهم من العذاب ففيه تبشير للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالظفر في العاقبة والنصر على الأعداء عن أبي الدرداء قال : سمعت النبي صلى الله عليه سلم يقول : ( ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا من كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم لقيامة ؛ ثم تلا هذه الآية : وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) أخرجه الترمذي ولفظه : ( من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة ) وقال حديث حسن.
قوله عز وجل ) والله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً ( يعني تنشره ) فيبسطه في السماء كيف يشاء ( يعني مسيرة يوم أو يومين أو أكثر على ما يشاء ) ويجعله كسفاً ( أي قطعاً متفرقة ) فترى الودق ( أي المطر ) يخرج من خلاله ( أي من وسطه ) فإذا أصاب به ( يعني الودق ) من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون ( يعني يفرحون بالمطر ) وإن كانوا ( أي وقد كانوا ) من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ( يعني آيسين
(5/211)
صفحة رقم 212
) فانظر إلى آثار رحمة الله ( يعني المطر والمعنى انظر حسن تأثيره في الأرض وهو قوله تعالى ) كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى ( يعني إن الذين أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى ) وهو على كل شيء قدير ولئن أرسلنا ريحاً فرآه مصفراً ( أي الزرع بعد الخضرة ) لظلموا من بعده ( أي من بعد اصفرار الزرع ) يكفرون ( أي يجحدون ما سلف من النعمة والمعنى أنهم يفرحون عند الخصب ولو أرسلت عذاباً على زرعهم لجحدوا سالف نعمتي ) فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولو مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ( تقدم تفسيره.
قوله تعالى ) الله الذي خلقكم من ضعف ( أي بدأكم وأنشأكم على ضعف وقيل من ماء ذي ضعف وقيل هو إشارة إلى أحوال الإنسان كان جنيناً ثم طفلاً مولوداً ومفطوماً فهذه أحوال الضعف ) ثم جعل من بعد ضعف قوة ( يعني من بعض ضعف الصغر شباباً وهو وقت القوة ) ثم جعل من بعد قوة ضعفاً ( يعني هرماً ) وشيبة ( وهو تمام النقصان ) يخلق ما يشاء ( أي من الضعف والقوة والشباب والشيبة وليس ذلك من أفعال الطبيعة بل بمشيئة الله وقدرته ) وهو العليم ( بتدبير خلقه ) القدير ( على ما يشاء.
)
الروم : ( 55 - 60 ) ويوم تقوم الساعة...
" ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون " ( قوله تعالى : ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ( أي يحلف المشركون ) ما لبثوا ( أي في الدنيا ) غير الساعة ( معناه أنهم استقلوا أجل الدنيا لما عاينوا الآخرة وقيل معناه ما لبثوا في قبورهم غير ساعة ) كذلك كانوا يؤفكون ( يعني يصرفون عن الحق في الدنيا وذلك أنهم كذبوا في قولهم ما لبثوا غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا يبعثوا.
والمعنى أن الله أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء تبين لأهل الجمع أنهم كاذبون فيه وكان ذلك بقضاء الله وقدره ثم ذكر إنكار المؤمن عليهم كذبتهم فقال تعالى ) وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله يوم البعث ( أي فيما كتب الله لكم في سابق عمله من اللبث في القبور وقيل معنى الآية وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان يعني الذين يقيمون كتاب الله قالوا للمنكرين قد لبثتم إلى يوم البعث أي في قبوركم ) فهذا يوم البعث ( أي الذي كنتم تنكرونه في الدنيا ) ولكنكم كنتم لا تعلمون ( أي وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن
(5/212)
صفحة رقم 213
بدليل قوله تعالى ) فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون ( أي لا تطلب منهم العتبى والرجوع في الآخرة وقيل لا تطلب منهم التوبة التي تزيل الجريمة لأنها لا تقبل منهم.
قوله تعالى ) ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ( فيه إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار ) ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون ( يعني ما أنتم إلا على باطل وذلك على سبيل العناد.
فإن قلت ما معنى توحيد الخطاب في قوله : ولئن جئتهم والجمع في قوله : إن أنتم إلا مبطلون.
قلت فيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال ولئن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل ويمكن أن يقال معناه أنكم كلكم أيها الرسل مبطلون ) كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ( أي توحيد الله ) فاصبر إن وعد الله حق ( أي في نصرك وإظهارك على عدوك ) ولا يستخفنك ( يعني لا يحملنك على الجهل وقيل لا يستخفن رأيك ) الذين لا يوقنون ( يعني بالبعث والحساب , والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.
سورة لقمان
( تفسير سورة لقمان مكية ) ( وهي أربع وثلاثون آية وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة وألفان ومائة وعشرة أحرف.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
لقمان : ( 1 - 6 ) الم
" الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين " ( قوله عز وجل ) الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين ( يعني الذين يعملون الحسنات , ثم ذكرهم فقال ) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (.
قوله تعالى ) ومن الناس من يشتري لهو الحديث ( الآية قيل : نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة وكان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشاً ويقول إن محمداً يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن.
فأنزل الله هذه الآية وقيل هو شراء القينات والمغنين , ومعنى الآية ومن الناس من يشتري ذات لهو أو ذا لهو الحديث ؛ وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام ) وفي مثل ذلك نزلت هذه
(5/213)
صفحة رقم 214
الآية ) ومن الناس من يشتري لهو ليضل عن سبيل الله ( وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله له شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت أخرجه الترمذي وهذا لفظه عن أبي أسامة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام ) وفي مثل هذا نزلت ) ومن الناس من يشتري لهو الحديث ( الآية وعن أبي هريرة ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن ثمن الكلب وكسب المزمار ) وقال مكحول من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيماً عليه حتى يموت لم أصل عليه إن الله تعالى يقول : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ( الآية وعن أبي مسعود وابن عباس والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا لهو الحديث هو الغناء والآية نزلت فيه ومعنى تشتري يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن.
وقال أبو الصهباء : سألت ابن مسعود عن هذه الآية فقال هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات وقال إبراهيم النخعي الغناء ينبت النفاق وقيل : هو كل لهو ولعب وقيل : هو الشرك ) ليضل عن سبيل الله ( يعني عن دين الإسلام وسماع القرآن ) بغير علم ( يعني يفعله عن جهل وحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق ) ويتخذها هزواً ( أي يتخذ آيات الله مزحاً ) أولئك ( يعني الذين هذه صفتهم ) لهم عذاب مهين (.
)
لقمان : ( 7 - 15 ) وإذا تتلى عليه...
" وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " ( ) وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً ( أي لا يعبأ بها ولا يرفع رأساً ) كأن لم يسمعها ( أي يشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع ) كأن في أذنيه وقراً ( أي ثقلاً ولا وقر فيهما ) فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقاً ( يعني وعدهم الله ذلك وعداً حقاً وهو لا يخلف المعياد ) وهو العزيز الحكيم ( قوله تعالى ) خلق السموات بغير عمد ( قيل إن السماء خلقت مبسوطة كصفحة مستوية وهو قول المفسرين وهي في الفضاء والفضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس ذلك إلا بقدره قادر مختار وإليه الإشارة بقوله بغير عمد ) ترونها ( أي ليس لها شيء يمنعها الزوال من موضعها وهي ثابتة لا تزول وليس ذلك إلا بقدرة الله تعالى.
وفي قوله ترونها وجهان : أحدهما أنه راجع إلى السموات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد.
الوجه الثاني أنه راجع إلى العمد ومعناه بغير عمد مرئية ) وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ( أي لئلا تتحرك بكم ) وبث فيها ( أي في الأرض ) من كل دابة ( أي يسكنون فيها ) وأنزلنا من السماء ماء ( يعني المطر وهو من إنعام الله على عباده وفضله ) فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (
(5/214)
صفحة رقم 215
أي من كل صنف حسن ) هذا ( يعني الذي ذكرت مما تعاينون ) خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ( أي آلهتكم التي تعبدونها ) بل الظالمون في ضلال مبين ( قوله عز وجل ) ولقد آتينا لقمان الحكمة ( قيل هو لقمان بن باعوراء بن ناحور بن تارخ وهو آزر.
وقيل كان ابن أخت أيوب.
وقيل كان ابن خالته.
وقيل إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود وقيل إنه كان قاضياً في بني إسرائيل.
واتفقت العلماء على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً إلا عكرمة فإنه قال : كان نبياً وقيل خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة.
وروي أنه كان نائماً نصف الليل فنودي يا لقمان هل لك أن نجعلك خليفة في الأرض فتحكم بين الناس فأجاب الصوت فقال إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعاً وطاعة وإني أعلم أن الله إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني فقالت الملائكة بصوت لا يراهم لم يا لقمان ؟ قال إن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها يغشاها الظلم من كل مكان إن عدل فبالحرى أن ينجو وإن أخطأ الطريق أخطأ طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً , ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولم يصب الآخرة فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها ثم نودي داود بعده , فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرة كل ذلك يعفو الله عنه وكان لقمان يوازر داود لحكمته وقيل كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً وقيل كان خياطاً وقيل كان راعي غنم فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال ألست فلاناً الراعي قال : بلى قال فبم بلغت ما بلغت ؟ قال بصدق الحديث وأداء الأمانة , وترك ما لا يعنيني , وقيل كان عبداً أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين وقيل : خير السودان بلال بن رباح ومهجع مولى عمر ولقمان والنجاشي رابعهم أوتي الحكمة والعقل والفهم وقيل العلم والعمل به ولا يسمى الرجل حكيماً حتى يجمعها وقيل الحكمة المعرفة والإصابة في الأمور وقيل : الحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوره كما ينور البصر فيدرك المبصر.
وقوله ) أن أشكر الله ( وذلك لأن المراد من العلم العمل به والشكر عليه ) ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ( أي عليه يعود نفع ذلك وكذلك كفرانه ) ومن كفر ( عليه يعود وبال كفره ) فإن الله غني ( أي غير محتاج إلى شكر الشاكرين ) حميد ( أي هو حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد.
وقوله تعالى ) وإذ قال لقمان لابنه ( قيل اسمه أنعم وقيل أشكم ) وهو يعظه ( وذلك لأن أعلى مراتب الإنسان أن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره فقوله ) ولقد آتينا لقمان الحكمة أن أشكر لله ( إشارة إلى الكمال وقوله وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه إشارة إلى التكميل لغيره وبدأ بالأقرب إليه وهو ابنه وبدأ في وعظه بالأهم وهو المنع من الشرك وهو قوله ) يا بني لا تشرك
(5/215)
صفحة رقم 216
بالله إن الشرك لظلم عظيم ( لأن التسوية بين من يستحق العبادة وبين من لا يستحقها ظلم عظيم لأنه وضع العبادة في موضعها.
قوله عز وجل ) ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن ( قال ابن عباس شدة بعد شدة وقيل إن المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والتعب والمشقة وذلك لأن الحمل ضعف والطلق ضعف والوضع ضعف والرضاعة ضعف ) وفصاله في عامين ( أي فطامه في سنتين ) أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير ( لما جعل الله بفضله للوالدين صورة التربية الظاهرة وهو الموجد والمربي في الحقيقة جعل الشكر بينهما فقال اشكر لي ولوالديك ثم فرق فقال إلي المصير يعني أن نعمتهما مختصة بالدنيا ونعمتي عليك في الدنيا والآخرة وقيل لما أمر بشكره وشكر الوالدين قال الجزاء على وقت المصير إلي , قال سفيان بن عيينة في هذه الآية من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين ) وإن جاهداك على أن تشرك بين ما ليس لك به علم فلا تطعهما ( قال النخعي : يعني أن طاعتهما واجبة فان أفضى ذلك إلى الإشراك بي فلا تطعهما في ذلك لأن لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق ) وصاحبهما في الدنيا معروفاً ( أي بالمعروف وهو البر والصلة والعشرة الجميلة ) واتبع سبيل من أناب إلي ( أي اتبع دين من أقبل إلى طاعتي وهو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه وقيل من أناب إلي يعني أبا بكر الصديق قال ابن عباس : وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وقالوا له قد صدقت هذا الرجل وآمنت به قالت نعم إنه صادق فآمنوا به ثم حملهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أسلموا فهؤلاء لهم سابقة الإسلام أسلما بإرشاد أبي بكر ) ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (.
)
لقمان : ( 16 - 20 ) يا بني إنها...
" يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير " ( ) يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ( وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله ؟ قال يا بني إنها أي الخطيئة إن تك مثقال حبة من خردل أي في الصغر ) فتكن ( أي من صغرها ) في صخرة ( قال ابن عباس : صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار وخضرة السماء منها وقيل خلق الله الأرض على حوت وهو النون والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك وقيل على ظهر ثور وهو على صخرة وهي التي ذكر لقمان ليست في الأرض ولا
(5/216)
صفحة رقم 217
في السماء فلذلك قال ) أو في السموات أو في الأرض ( والصخرة على متن الريح والريح على القدرة ) يأت بها الله ( معناه الله عالم بها قادر على استخراجها وهو قوله ) إن الله لطيف ( أي باستخراجها ) خبير ( أي بمكانها ومعنى الآية الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها قيل إن هذه الكلمة آخر كلمة قالها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها وعظمتها فمات ) يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ( من الأذى ) إن ذلك من عزم الأمور ( يعني إقامة الصلاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى من الأمور الواجبة التي أمر الله بها ) ولا تصعر ( وقرىء تصاعر ) خدك للناس ( قال ابن عباس لا تتكبر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك وقيل هو الرجل يكون بينك وبينه محبة فيلقاك فتعرض عنه وقيل هو الذي إذا سلم عليه ولوى عنقه تكبراً وقيل معناه لا تحتقر الفقراء فليكن الفقير والغني عندك سواء ) ولا تمش في الأرض مرحاً ( أي خيلاء ) إن الله لا يحب كل مختال ( في مشيه ) فخور ( أي على الناس ) واقصد في مشيك ( أي ليكن في مشيتك قصد بين الإسراع والتأني أما بالإسراع فهو من الخيلاء وأما التأني فهو أن يرى في نفسه الضعف تزهداً وكلا الطرفين مذموم بل ليكن مشيك بين السكينة والوقار ) واغضض ( أي اخفض وقيل وانقص ) من صوتك إن أنكر ( أي أقبح ) الأصوات لصوت الحمير ( لأن أوله زفير وآخره شهيق وهما صوت أهل النار وعن الثوري في هذه الآية قال صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار وقيل معنى الآية هو العطسة القبيحة المنكرة قال وهب : تكلم لقمان باثني عشر ألف باب من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم ومن حكمته قيل : إنه كان عبداً حبشياً فدفع إليه مولاه شاة وقال له : اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها فاتاه باللسان والقلب ثم دفع إليه أخرى وقال له اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب فسأله مولاه فقال ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا وقال لقمان ليس مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس.
وقيل للقمان أي الناس شر قال الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً.
قوله عز وجل ) ألم ترو أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ ( أي أتم وأكمل ) عليكم نعمه
(5/217)
صفحة رقم 218
ظاهرة وباطنة ( قال ابن عباس النعمة الظاهرة الإسلام والقرآن والباطنة ما ستر عليكم من الذنوب ولم يعجل عليكم بالنقمة ؛ وقيل الظاهرة تسوية الأعضاء وحسن الصورة والباطنة الإعتقاد بالقلب وقيل الظاهرة الرزق والباطنة حسن الخلق وقيل الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة الشفاعة وقيل الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الامداد بالملائكة وقيل الظاهرة اتباع الرسول والباطنة محبته ) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ( نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وأمية بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه سلم في الله وفي صفاته بغير علم ) ولا هدى ولا كتاب منير (.
)
لقمان : ( 21 - 32 ) وإذا قيل لهم...
" وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور " ( ) وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه أباءنا ( قال الله تعالى ) أولو كان الشيطان يدعوهم ( معناه أفيتبعونهم وإن كان الشيطان يدعوهم ) إلى عذاب السعير ( قوله عز وجل ) ومن يسلم وجهه إلى الله ( أي يخلص لله دينه ويفوض إليه أمره ) وهو محسن ( أي في عمله ) فقد استمسك بالعروة الوثقى ( أي اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخلف عهده ولا يخاف انقطاعه ويرتقي بسببه إلى أعلى المراتب والغايات ) وإلى الله عاقبة الأمور ( أي مصير جميع الأشياء إليه ) ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور ( أي لا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم.
قوله تعالى ) نمتعهم قليلاً ( أي نمهلهم ليتمتعوا بنعيم الدنيا إلى انقضاء آجالهم ) ثم نضطرهم ( أي نلجئهم ونردهم ) إلى عذاب غليظ ( إلى النار في الآخرة ) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد الله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السموات والأرض إن الله هو الغني الحميد ( تقدم تفسيره.
قوله تعالى ) ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ( قال المفسرون لما نزلت بمكة ) ويسألونك عن الروح ( " الآية وهاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة أتاه أحبار اليهود وقالوا ( يا محمد بلغنا أنك تقول ) وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( أتعنينا أم قومك فقال عليه الصلاة والسلام كلا قد عنيت قالوا ألست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شيء فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هي في علم الله قليل وقد أتاكم الله بما إن علمتم به انتفعتم به قالوا كيف تزعم هذا وأنت تقول ) ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ( فكيف يجتمع علم قليل مع خير كثير ) فأنزل الله هذه الآية فعلى هذا تكون
(5/218)
صفحة رقم 219
هذه الآية مدنية وقيل إن اليهود أمروا وفد قريش أن يسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويقولوا له ذلك وهو بمكة وقيل إن المشركين قالوا إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع فأنزل الله تعالى ) ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ( أي بريت أقلاماً وقيل بعدد كل شجرة قلم ) والبحر يمده ( أي يزيده وينصب إليه ) من بعده سبعة أبحر ( أي مداداً والخلائق يكتبون به كلام الله ) ما نفدت كلمات الله ( لأنها لا نهاية لها ) إن الله عزيز حكيم (.
قوله تعالى ) ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ( أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء ) إن الله سميع ( أي لأقوالكم ) بصير ( بأعمالكم ) ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق ( يعني ذلك الذي هو قادر على هذه الأشياء التي ذكرت هو الحق المستحق للعبادة ) وأن ما يدعون من دونه الباطل ( يعني لا يستحق العبادة ) وأن الله هو العلي ( يعني في صفاته له الصفات العليا والأسماء الحسنى ) الكبير ( في ذاته أنه أكبر من كل كبير.
قوله تعالى ) ألم تر أن الفلك ( يعني السفن والمراكب ) تجري في البحر بنعمة الله ( يعني ذلك من نعمة الله عليكم ) فيريكم من آياته ( يعني من عجائب صنائعه ) إن في ذلك لآيات لكل صبار ( يعين على ما أمر الله ) شكور ( لإنعامه ) وإذا غشيهم موج كالضلل ( يعني كالجبال وقيل كالسحاب شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها ) دعو الله مخلصين له الدين ( معناه أن الإنسان إذا وقع في شدة ابتهل إلى الله بالدعاء وترك كل من عداه ونسي جميع ما سواه فاذا نجا من تلك الشدة فمنهم من يبقى على تلك الحالة وهو المقتصد وهو قوله تعالى ) فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ( يعني عدل موفٍ في البر بما عاهد عليه الله في البحر من التوحيد والثبوت على الإيمان وقيل نزلت في عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمة : لئن أنجانا الله من هذا لأرجعن إلى محمد صلى الله عليه سلم ولأضعن يده في يدي فسكت الريح ورجع عكرمة إلى مكة وأسلم وحسن إسلامه ومنهم من لم يوف بما
(5/219)
صفحة رقم 220
عاهد وهو المراد بقوله ) وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار ( يعني غدار ) كفور ( يعني جحود لأنعمنا عليه.
.
.
)
لقمان : ( 33 - 34 ) يا أيها الناس...
" يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير " ( قوله تعالى : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ( يعني خافوا ربكم ) وأخشوا ( يعني وخافوا ) يوماً لا يجزي ( يعني لا يقضي ولا يغني ) والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً ( قيل معنى الآية إن الله ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد فنبه بالأعلى على الأدنى وبالأدنى على الأعلى فالوالد يجزي عن ولده لكمال شفقته عليه والولد يجزي عن والده لما له من حق التربية وغيرها فإذا كان يوم القيامة فكل إنسان يقول نفسي ولا يهتم بقريب ولا بعيد كما قال ابن عباس كل امرىء تهمه نفسه ) إن وعد الله حق ( قيل إنه تحقيق اليوم معناه اخشوا يوماً هذا شأنه وهو كائن بوعد الله به ووعده حق وقيل الآية تحقيق بعدم الجزاء يعني لا يجزي والد عن ولده في ذلك اليوم والقول الأول أحسن وأظهر ) فلا تغرنكم الحياة الدنيا ( يعني لأنها فانية ) ولا يغرنكم بالله الغرور ( يعني الشيطان : قال سعيد بن جبير يعمل بالمعاصي ويتمنى المغفرة.
قوله تعالى ) إن الله عنده علم الساعة الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن حارثة بن حفصة من أهل البادية أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسأله عن الساعة ووقتها وقال إن أرضنا أجدبت فقل لي متى ينزل الغيث وتركت امرأتي حبلى فمتى تلد ولقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت فأنزل الله هذه الآية
( ق ) عن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( مفاتيح الغيب خمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) ومعنى الآية إن الله عنده علم الساعة فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة أو أي شهر أو أي يوم ليلاً أو نهاراً ) وينزل الغيث ( فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلاً أو نهاراً إلا الله ) ويعلم ما في الأرحام ( أذكر أم أنثى أحمر أم أسود تام الخلقة أم ناقص ) وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ( من خير أو شر ) وما تدري نفس بأي أرض تموت ( يعني ليس أحد من الناس يعلم أين مضجعه من الأرض في بر أو بحر في سهل أو جبل ) إن الله عليم ( يعني بهذه الأشياء وبغيرها ) خبير ( أي ببواطن الأشياء كلها ليس علمه محيطاً بالظاهر فقط بل علمه محيط بالظاهر والباطن قال ابن عباس : هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مصطفى فمن ادعى أنه يعلم شيئاً من هذه الأمور فإنه كفر بالقرآن لأنه خالفه والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.
سورة السجدة
( تفسير سورة السجدة وهي مكية )
قال عطاء إلا ثلاث آيات من قوله أفمن كان مؤمنا وهي تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية وثلثمائة وثمانون كلمة وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا.
( بسم الله الرحمن الرحيم )
(5/220)
صفحة رقم 221
)
السجدة : ( 1 - 5 ) الم
" الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " ( قوله عز وجل ) الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه ( يعني لا شك في أنه ) من رب العالمين أم يقولون ( يعني بل يقولون يعني المشركين ) افتراه ( يعني اختلقه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من تلقاء نفسه ) بل هو الحق ( يعني القرآن ) من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك ( يعني العرب كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليه سلم.
فإن قلت إذا لم يأتهم رسول لم تقم عليهم حجة.
قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا من جهة الرسل فلا وأما قيام الحجة بمعرفة الله وتوحيده فنعم لأن معهم أدلة العقل الموصلة إلى ذلك في كل زمان ) لعلهم يهتدون ( يعني تنذرهم راجياً اهتداءهم ) الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ( تقدم تفسيره.
قوله تعالى ) يدبر الأمر ( يعني يحكم الأمر وينزل القضاء والقدر وقيل ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام ) من السماء إلى الأرض ثم يعرج ( يعني يصعد ) إليه ( جبريل بالأمر ) في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ( يعني مسافة ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة فيكون مقدار نزوله إلى الأرض ثم صعوده إلى السماء في مقدار ألف سنة لو ساره أحد من بني آدم وجبريل ينزل ويصعد في مقدار يوم من أيام الدنيا وأقل من ذلك وكذلك الملائكة كلهم أجمعون وقيل معنى الآية أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج إليه أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدينا وانقطاع أمر الآمر وحكم الحاكم في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة.
فإن قلت قال في موضع آخر : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فكيف الجمع بينهما.
قلت أراد بقوله خمسين ألف سنة مدة المسافة بين الأرض وسدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام يقول يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا.
وقيل كلها في القيامة فيكون على بعضهم مثل ألف سنة وعلى بعضهم خمسين ألف سنة وهذا في حال الكفار وأما على المؤمنين فدون ذلك كما جاء في الحديث : ( إنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ) قال إبراهيم التيمي : لا يكون على المؤمنين إلا كما يكون ما بين الظهر
(5/221)
صفحة رقم 222
والعصر وقيل يحتمل أن يكون هذا أخباراً عن شدته وهوله ومشقته وقال ابن أبي مليكة : دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان على ابن عباس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية وعن مقدار خمسين ألف سنة.
فقال ابن عباس : رضي الله عنهما أيام سماها الله تعالى لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم.
)
السجدة : ( 6 - 14 ) ذلك عالم الغيب...
" ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون " ( ) ذلك عالم الغيب والشهادة ( يعني الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض هو عالم الغيب والشهادة أي ما غاب عن خلقه لا تخفى عليه خافية والشهادة بمعنى ما حضر وظهر ) العزيز ( أي الممتنع المنتقم من أعدائه ) الرحيم ( بأوليائه وأهل طاعته.
قوله تعالى ) الذي أحسن كل شيء خلقه ( قال ابن عباس أتقنه وأحكمه وقيل علم كيف يخلق كل شيء وقيل خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في صورته حسن في شكله وكل عضو من أعضائه مقدر على ما يصلح به معاشه وقيل معناه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه وعلمهم إياه.
وقيل معناه أحسن إلى كل خلقه ) وبدأ خلق الإنسان من طين ( يعني آدم ) ثم جعله نسله ( يعني ذريته ) من سلالة ( أي من نطفة تنسل من الإنسان ) من ماء مهين ( أي ضعيف ) ثم سواه ( أي سوى خلقه ) ونفخ فيه من روحه ( أضاف إليه الروح إضافة تشريف كبيت الله وناقة الله ثم ذكر ما يترتب على نفخ الروح في الجسد فقال ) وجعل لكم ( أي خلق بعد أن كنتم نطفاً مواتاً ) السمع والأبصار والأفئدة ( قيل قدم السمع لأن الإنسان يسمع أولاً كلاماً فينظر إلى قائله ليعرفه ثم يتفكر بقلبه في ذلك الكلام ليفهم معناه ووحد السمع لأن الإنسان يسمع الكلام من اي جهة كان ) قليلاً ما تشكرون ( يعني أنكم لا تشكرون رب هذه النعمة فتوحدوه إلا قليلا.
قوله تعالى ) وقالوا ( يعني منكري البعث ) أئذا ضللنا ( هلكنا ) في الأرض ( والمعنى صرنا تراباً ) أئنا لفي خلق جديد ( استفهام إنكاري قال الله تعالى : ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ( بالبعث بعد الموت ) قل يتوفاكم ( أي يقبض أرواحكم حتى لا يبقى أحد ممن كتب عليه الموت ) ملك الموت ( وهو عزرائيل عليه السلام ) الذي وكل بكم ( أي أنه لا يغفل عنكم وإذا جاء أجل أحدكم لا يؤخر ساعة ولا شغل له إلا ذلك.
روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة , فهو يقبض أرواح الخلائق من مشارق الأرض ومغاربها وله أعوان من الملائكة ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
وقال ابن عباس إن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب , وقال مجاهد :
(5/222)
صفحة رقم 223
جعلت له الأرض مثل الطست يتناول منها حيث يشاء , وقيل إن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فتنزع أعوانه روح الإنسان , فإذا بلغ ثغره نحره قبضه ملك الموت.
عن معاذ بن جبل قال : إن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب , وهو يتصفح وجوه الناس فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين , فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة وقال له الآن تنزل بك سكرات الموت.
وقوله ) ثم إلى ربكم ترجعون ( أي تصيرون إلى ربكم أحياء فيجزيكم بأعمالكم.
قوله عز وجل ) ولو ترى إذ المجرمون ( أي المشركون ) ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ( أي يطأطئونها حياء من ربهم وندماً على ما فعلوا عند ربهم يقولون ) ربنا أبصرنا ( أي ما كنا به مكذبين ) وسمعنا ( يعني منك تصديق ما أتتنا به رسلك وقيل أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فيها ) فارجعنا ( أي فارددنا إلى الدنيا ) نعمل صالحاً إنا موقنون ( أي في الحال آمنا ولكن لا ينفع ذلك الإيمان ) ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ( أي رشدها وتوفيقها للإيمان ) ولكن حق القول مني ( أي وجب القول مني ) لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( أي من كفار الجن والإنس ) فذوقوا ( يعني فإذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة ذوقوا ) بما نسيتم لقاء يومكم ( أي تركتم الإيمان في الدنيا ) هذا إنا نسيناكم ( يعني تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعل بالناس قطعاً لرجائكم ) وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ( أي من الكفر والتكذيب.
)
السجدة : ( 15 - 16 ) إنما يؤمن بآياتنا...
" إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون " ( قوله تعالى : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها ( أي وعظوا بها ) خروا سجداً ( يعني سقطوا على وجوههم ساجدين ) وسبحو بحمد ربهم ( يعني صلوا بأمر ربهم وقيل قالوا سبحان الله وبحمده ) وهم لا يستكبرون ( يعني عن الإيمان به والسجود له
( ق ) عن ابن عمر قال ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ويسجدون حتى ما يجد أحدنا مكاناً لوضع جبهته في غير وقت الصلاة ).
( م ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلنا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة , وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ) وهذه من عزائم سجود القرآن فتسن للقارىء وللمستمع.
قوله تعالى ) تتجافى جنوبهم ( يعني ترتفع وتنبو ) عن المضاجع ( جمع مضجع وهو الموضع الذي يضطجع عليه يعني الفرش , وهم المتهجدون بالليل الذي يقيمون
(5/223)
صفحة رقم 224
الصلاة , وقال أنس نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
عن أنس في قوله ) تتجافى جنوبهم عن المضاجع ( نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة أخرجه الترمذي وقال الحديث حسن غريب صحيح.
وفي رواية أبي داود عنه قال كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء أي يصلون , وهو قول أبي حازم ومحمد بن المنكدر وقيل هي صلاة الأوابين.
روي عن ابن عباس قال : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوابين وقال عطاء : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الأخيرة والفجر في جماعة بدليل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله ) أخرجه مسلم من حديث عثمان بن عفان.
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا ) وأشهر الأقاويل أن المراد منه صلاة الليل وهو قول الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي وجماعة.
فصل : في فضل قيام الليل والحث عليه
عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه وهو يسير , فقلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار.
قال ( سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه , تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت , ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل , ثم قرأ ) تتجافى جنوبهم عن المضاجع ( حتى بلغ ) جزاء بما كانوا يعملون ( , ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت بلى يا رسول الله.
قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد , ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؛ قلت بلى يا رسول الله قال فأخذ بلسانه وقال اكفف عليك هذا.
فقلت يا رسول الله وإنما لمؤاخذون بما نتكلم فقال : ثكلتك أمك يا معاذ , وهل يكب الناس في النار على وجهوهم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) أخرجه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم وتكفير السيئات ومنهاة عن الآثام ومطردة الداء عن الجسد ) أخرجه الترمذي.
عن ابن مسعود
(5/224)
صفحة رقم 225
قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( عجب ربنا من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي , ورجل غزا في سبيل الله وانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه.
فيقول الله تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه ) أخرجه الترمذي بمعناه ( م ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل )
( ق ) عن عائشة قالت ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقوم الليل حتى تورمت قدماه فقلت لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبداً شكوراً ) عن علي قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن في الجنة غرفاً يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها أعدها الله لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام ) أخرجه الترمذي.
( خ ) عن الهيثم بن أبي سنان أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه في قصة يذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن أخاً لكم لا يقول الرفث ) يعني بذلك ابن رواحة قال :
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات ما إذا قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
(5/225)
صفحة رقم 226
أخرجه البخاري وليس للهيثم بن سنان.
عن أبي هريرة في الصحيحين غير هذا الحديث.
وقوله ) يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ( قال ابن عباس خوفاً من النار وطمعاً في الجنة ) ومما رزقناهم ينفقون ( قيل أراد به الصدقة المفروضة وقيل بل هو عام في الواجب والتطوع.
)
السجدة : ( 17 - 26 ) فلا تعلم نفس...
" فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون " ( قوله عز وجل : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ( أي مما تقربه أعينهم فلا يلتفتون إلى غيره قال ابن عباس هذا مما لا تفسير له وقيل أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم ) جزاء بما كانوا يعملون ( أي من الطاعات في دار الدنيا
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرؤوا إن شئتم : فلا تعلم نفس ما أخفي لم من قرة أعين ) قوله تعالى ) أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ( نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط , كان بينهما تنازع وكلام في شيء , فقال الوليد لعلي اسكت فانك صبي وأنا شيخ وإني أبسط منك لساناً , وأحد منك سناناً وأشجع منك جناباً وأملأ منك حشواً في الكتيبة , فقال له علي اسكت فانك فاسق , فأنزل الله هذه الآية وقوله لا يستوون أراد جنس المؤمنين وجنس الفاسقين ولم يرد مؤمناً واحداً ولا فاسقاً واحداً ) أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى ( أي التي يأوي إليها المؤمنون ) نزلاً ( هو ما يهيأ للضيف عند نزوله ) بما كانوا يعملون ( يعني من الطاعات في دار الدنيا ) وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (.
قوله تعالى : ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ( أي سوى العذاب الأكبر , قال ابن عباس العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها , وعنه أنه الحدود وقيل هو الجوع بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب سبع سنين , وقال ابن مسعود هو القتل بالسيف يوم بدر والأكبر هو عذاب جهنم ) لعلهم يرجعون ( إي إلى الإيمان يعني من بقي منهم بعد القحط وبعد بدر ) ومن أظلم ( أي لا أحد أظلم ) ممن ذكر بآيات ربه ( أي بدلائل وحدانيته وإنعامه عليه ) ثم أعرض عنها ( أي ترك الإيمان بها ) إنا من المجرمين ( يعني المشركين
(5/226)
صفحة رقم 227
) منتقمون ( معناه أنهم لما لم يرجعوا بالعذاب الأدنى فانا منهم منتقمون بالعذاب الأكبر.
قوله تعالى ) ولقد آتينا موسى الكتاب ( أي التوراة ) فلا تكن في مرية ( أي في شك ) من لقائه ( أي من لقاء موسى ليلة المعراج , قاله ابن عباس
( ق ) عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( رأيت ليلة أسري بي موسى رجلاً آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى رجلاً مربوعاً مربوع الخلق إلى الحمرة وإلى البياض سبط الشعر , ورأيت مالكاً خازن النار , والدجال في آيات أراهن الله أياه فلا تكن في مرية من لقائه ) ( م ) عن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أتيت على موسى ليلة المعراج ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره ) فإن قلت قد صح في حديث المعراج أنه رآه في السماء السادسة عند مراجعته في الصلوات فكيف الجمع بين هذين الحديثين.
قلت يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر , كان قبل صعوده إلى السماء وذلك في طريقه إلى بيت المقدس , ثم لما صعد على السماء السادسة وجده هناك قد سبقه لما يريد الله عز وجل وهو على كل شيء قدير.
فإن قلت كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في دار الآخرة وليست دار عمل.
وكذلك رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جماعة من الأنبياء وهم يحجون فما الجواب عن هذا ؟ قلت يجاب عنه بأجوبة أحدها : أن الأنبياء كالشهداء بل هم أفضل منهم والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون , فلا يبعد أن يحجوا أو يصلوا كما صح في الحديث وأن يتقربوا إلى الله بما استطاعوا وإن كانوا قد ماتوا لأنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل , إلى أن تفنى ثم يرحلون إلى دار الجزاء التي هي الجنة.
الجواب الثاني : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) رأى حالهم الذي كانوا عليه في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم.
الجواب الثالث : أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع , قال الله تعالى ) دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام ( " وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ) فالعبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما كان يعبده في الدنيا وكيف لا يكون ذلك وقد صار حاله مثل حال الملائكة والذين قال الله في حقهم ) يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( " غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي على مقتضى الطبع والله أعلم , وقيل في قوله ) فلا تكن في مرية من لقائه ( أي تلقى موسى كتاب الله بالرضا والقبول ) وجعلناه ( أي الكتاب ) هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم ( أي من بني إسرائيل ) أئمة ( أي قادة للخير يقتدى بهم وهم الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل وقيل هم أتباع الأنبياء ) يهدون بأمرنا ( يعني يدعون الناس إلى طاعتنا ) لما صبروا ( يعني على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر ) وكانوا بآياتنا يوقنون ( يعني أنها من الله تعالى ) إن ربك هو يفصل ( أي يقضي ويحكم ) بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( قيل هم الأنبياء وأممهم وقيل هم المؤمنون والمشركون قوله تعالى ) أو لم يهد لهم (
(5/227)
صفحة رقم 228
أي نبين لهم ) كم أهلكنا ( يعني كثرة من أهلكنا ) من قبلهم من القرون ( يعني الأمم الخالية ) يمشون في مساكنهم ( يعني أهل مكة يسيرون في بلادهم ومنازلهم إذا سافروا ) إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون ( يعني آيات الله ومواعظة فيتعظون بها.
)
السجدة : ( 27 - 30 ) أولم يروا أنا...
" أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون " ( قوله عز وجل : ( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز ( أي الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها قال ابن عباس هي أرض باليمن وقيل هي أبين ) فنخرج به ( أي بذلك الماء ) زرعاً تأكل منه أنعامهم ( يعني العشب والتبن ) وأنفسهم ( أي من الحبوب والأقوات ) أفلا يبصرون ( يعني فيعتبروا.
قوله تعالى ) ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ( قيل أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم والقضاء بين العباد , وذلك أن أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا للكفار إن لنا يوماً ننعم فيه ونستريح ويحكم فيه بيننا وبينكم.
فقال الكفار استهزاء متى هذا الفتح أي القضاء والحكم , وقيل هو فتح مكة وقيل يوم بدر , وذلك أن أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يقولون للكفار إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فيقولون متى هذا الفتح ) قل يوم الفتح ( يعني يوم القيامة ) لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ( يعني لا يقبل منهم الإيمان ومن حمل يوم الفتح على فتح مكة أو القتل يوم بدر , قال معناهم لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا ) ولا هم ينظرون ( يعني يمهلون ليتوبوا ويعتذروا ) فأعرض عنهم ( قال ابن عباس نسختها آية السيف ) وانتظر ( يعني موعدي لك بالنصر عليهم ) إنهم منتظرون ( أي بك حوادث الزمان وقيل معناه انتظر عذابنا إياهم فهم منتظرون ذلك.
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرآ في الفجر يوم الجمعة الم تنزيل الكتاب وهل أتى على الإنسان ) عن جابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كان لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل الكتاب وتبارك لذي بيده الملك ) أخرجه الترمذي.
وقال طاوس تفضلان عن كل سورة في القرآن بسبعين حسنة أخرجه الترمذي.
والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.
سورة الأحزاب
( تفسير سورة الأحزاب ) مدنية وهي ثلثا وسبعون آية وألف ومائتان وثمانون كلمة وخمسة الآف وسبعمائة حرفا.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
الأحزاب : ( 1 - 4 ) يا أيها النبي...
" يا أيها النبي اتق الله
(5/228)
صفحة رقم 229
ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل " ( قوله عز وجل ) يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ( نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور وعمر بن سفيان السلمي , وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبدالله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد , وقد أعطاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الأمان على أن يكلموه فقام معهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده عمر بن الخطاب ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة , وقل إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك , فشق ذلك على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عمر يا رسول الله ائذن لي في قتلهم , فقال ( إني أعطيتهم الأمان ) فقال عمر اخرجوا في لعنة الله وغضبه فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عمر أن يخرجهم من المدينة.
فأنزل الله تعالى ) يا أيها النبي اتق الله ( أي دم على التقوى وقيل معناه اتق الله و لاتنقض العهد بينك وبينهم وقيل الخطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به أمته ولا ) تطع الكافرين ( يعني من أهل مكة يعني أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور والمنافقين يعني من أهل المدينة عبدالله بن أبي وعبدالله بن سعد وطعمة ) إن الله كان عليماً ( أي بخلقه قبل أن يخلقهم ) حكيماً ( أي فيما دبره لهم ) واتبع ما يوحى إليك من ربك ( يعني من وفاء العهد وترك طاعة الكافرين والمنافقين ) إن الله كان بما يعملون خبيراً وتوكل على الله ( أي ثق بالله وكل أمرك إليه ) وكفى بالله وكيلاً ( يعني حافظاً لك وقيل كفيلاً برزقك.
قوله تعالى ) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ( نزلت في أبي معمر جميل بن معمر الفهري , وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع فقالت قريش ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان , وكان يقول إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد , فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه في يده والأخرى في رجله , فقال له يا أبا معمر ما حال الناس.
فقال انهزموا فقال له فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك.
فقال أبو معمر ما شعرت إلا أنهما في رجلي.
فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده.
وعن أبي ظبيان قال : قلنا لابن عباس أرأيت قول الله ) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ( ما عنى بذلك ؟ قال ( قام نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً يصلي فخطر خطرة.
فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترون أن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم فأنزل الله ) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ( ) أخرجه الترمذي.
وقال حديث حسن قوله خطر خطرة يريد الوسوسة التي تحصل للإنسان في صلاة.
قيل في معنى الآية أنه لما قال الله تعالى ) يا أيها النبي اتق الله ( فكان ذلك أمراً بالتقوى.
فكأنه قال ومن حقها أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله , فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي الله بأحدهما وبالآخر غيره , وقيل إن هذا مثل ضربه الله تعالى للمظاهر من امرأته وللمتبني ولد غيره , فكما لا يكون لرجل قلبان لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب , فالآخر فضله عليه محتاج إليه , وإما أن يفعل بهذا ما لا يفعل بذاك , فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً عالماً جاهلاً موقناً شاكاً في حالة
(5/229)
صفحة رقم 230
واحدة , وهما حالتان متنافيتان فكذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمان ولا يكون ولد واحد ابن رجلين.
قوله تعالى ) وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ( وصورة الظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي , يقول الله وما جعل نساءكم التي تقولون لهن هذا في التحريم كأمهاتكم , ولكنه منكم منكر وزور وفيه كفارة , وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في سورة المجادلة.
قوله تعالى ) وما جعل أدعياءكم ( يعني الذين تتبنونهم ) أبناءكم ( وفيه نسخ التبني , وذلك أن الرجل كان في الجاهلية يتبنى الرجل فيجعله كالابن المولود يدعوه إليه الناس ويرث ميراثه , وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وتبناه قبل الوحي , وآخى بينه وبين حمزة بن عبدالمطلب , فلما تزوج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة , قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية ونسخ بها التبني ) ذلكم قولكم بأفواهكم ( أي لا حقيقة له يعني قولهم زيد بن محمد وادعاء النسب لا حقيقة له ) والله يقول الحق ( يعني قوله الحق ) وهو يهدي السبيل ( يعني يرشد إلى سبيل الحق.
)
الأحزاب : ( 5 - 6 ) ادعوهم لآبائهم هو...
" ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا " ( ) ادعوهم لآبائهم ( يعني الذين ولدوهم فقولوا زيد بن حارثة ) هو أقسط عند الله ( يعني أعدل عند الله
( ق ) عن ابن عمر قال : إن زيد بن حارثة مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل ) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ( الآية ) فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ( يعني فهم إخوانكم ) ومواليكم ( أي كانوا محررين وليسوا ببنيكم أي فسموهم بأسماء إخوانكم في الدين , وقيل معنى مواليكم أولياؤكم في الدين ) وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ( أي قبل النهي فنسبتموه إلى غير أبيه ) ولكن ما تعمدت قلوبكم ( أي من دعائهم إلى غير آبائهم بعد النهي وقيل فيما أخطأتم به أن
(5/230)
صفحة رقم 231
تدعوه إلى غير أبيه وهو يظن أنه كذلك ) وكان الله غفوراً رحيماً (.
( ق ) عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) قوله عز وجل ) النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ( يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه , عليهم ووجوب طاعته وقال ابن عباس إذا دعاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أولى بهم من طاعة أنفسهم , وهذا صحيح لأن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم , ورسول الله صلى الله عليه سلم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم , وقيل هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه , وقيل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخرج إلى الجهاد فيقول قوم نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا , فنزل الآية.
( ق ) عن أبي هريرة قال إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة , واقرؤوا إن شئتم ) النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ( فأيما مؤمن ترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه ) عصبة الميت من يرثه سوى من له فرض مقدر وقوله أو ضياعاً أي عيالاً وأصله مصدر ضاع يضيع ضياعاً , وإن كسرت الضاد كان جمع ضائع.
قوله تعالى ) وأزواجه أمهاتهم ( يعني أمهات المؤمنين في تعظيم الحرمة وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن والخلوة بهن , فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لأخوانهن وأخواتهن هن أخوال المؤمنين وخالاتهم.
قال الشافعي تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر وهي أخت عائشة أم المؤمنين ولم يقل هي خالة المؤمنين , وقيل إن أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كن أمهات المؤمنين والمؤمنات الرجال والنساء وقيل كن أمهات الرجال دون النساء , بدليل ما روي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة يا أمه.
فقالت لست لك بأم أنا أم رجالكم.
فبان بذلك أن معنى الأمومة إنما هو تحريم نكاحهن ) وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ( يعني في الميراث قيل كان المسلمون يتوارثون بالهجرة , وقيل آخرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين الناس فكان يواخي بين الرجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته , حتى نزلت ) وأولي الأرحام بعضهم أولى ببعض (
(5/231)
صفحة رقم 232
وقيل في معنى الآية لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر ) في كتاب الله ( أي في حكم الله ) من المؤمنين ( الذين آخى رسول الله صلى الله عليه سلم بينهم ) والمهاجرين ( يعني أن ذوي القرابات أولى بعضهم ببعض فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت الموارثة بينهم بالقرابة ) إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ( يعني الوصية للذين يتولونه من المعاقدين , وذلك أن الله تعالى لما نسخ التوارث بالخلف والإخاء والهجرة , أباح أن يوصي لمن يتولاه بما أحب من ثلث ماله , وقيل أراد بالمعروف النصر وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة , وقيل معناه إلا أن توصوا إلى قرابتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ) كان ذلك ( أي الذي ذكر من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ) في الكتاب ( أي في اللوح المحفوظ وقيل في التوراة ) مسطوراً ( أي مكتوباً مثبتاً.
)
الأحزاب : ( 7 - 9 ) وإذ أخذنا من...
" وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا " ( قوله تعالى : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ( أي على الوفاء بما حلموا وأن يصدق بعضهم بعضاً ويبشر بعضهم ببعض , وقيل على أن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته وينصحوا لقومهم ) ومنك ( يعني محمد ) ومن نوح وأبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ( خص هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولوا العزم من الرسل , وقدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الذكر تشريفاً له وتفضيلاً.
لما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه سلم قال ( كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم بالبعث ) قال قتادة وذلك قول الله ) وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ( فبدأ به ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً ( أي عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا من تبليغ الرسالة ) ليسأل الصادقين عن صدقهم ( يعني أخذ ميثاقهم لكي يسأل الصادقين يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم مع علمه سبحانه وتعالى صادقون تبكيت من أرسلوا إليهم وقيل ليسأل الصادقين عن صدقهم عن عملهم لله عز وجل
(5/232)
صفحة رقم 233
وقيل ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم ) وأعد للكافرين عذاباً أليماً ( قوله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ( وذلك حين حوصر المسلمون مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة أيام الخندق ) إذ جاءتكم جنود ( يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير ) فأرسلنا عليهم ريحاً ( يعني الصبا قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل.
فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا
( ق ) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) وقيل الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا ذهب حزنه , قوله تعالى ) وجنوداً لم تروها ( يعني الملائكة , ولم تقاتل ملائكة يومئذ فبعث الله عز وجل تلك الليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط وأطفأت النيران وأكفأت القدور وما جاءت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم , حتى كان سيد كل حي يقول يا نبي فلان النجاء النجاء هلموا إلي فإذا اجتمعوا عنده قال النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله عليهم من الرعب ) وكان الله بما تعملون بصيراً (.
ذكر غزوة الخندق وهي الأحزاب
قال : البخاري قال موسى بن عقبة : كانت في شوال سنة أربع من الهجرة.
وروي محمد بن إسحاق عن مشايخه قال : دخل حديث بعضهم في بعض أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهو ابن قيس وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل , وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه سلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة , فدعوهم إلى حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله , فقالت لهم قريش يا معشر اليهود أنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد , فديننا خير أم دينه ؟ قالوا دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم ) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ( " إلى قوله ) وكفى بجهنم سعيراً ( " قال فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه سلم.
فاجتمعوا على
(5/233)
صفحة رقم 234
ذلك ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان وقيساً وغيلان فاجتمعوا على ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه , وإن قريشاً قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم وخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب , وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة , والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة , ومسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع.
فلما سمع بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة , كان الذي أشار على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالخندق سلمان الفارسي وكان أو مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه سلم وهو يومئذ حر.
فقال يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا ضربنا خندقاً علينا , فعمل فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون حتى أحكموه.
وروي ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خط الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعاً فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي , وكان رجلاً قوياً فقال المهاجرون سلمان منا وقال الأنصار سلمان منا فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سلمان من أهل البيت ).
قال عمرو بن عوف كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً فحفرنا , حتى إذا كنا تحت أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة حتى كسرت حديدنا وشقت علينا , فقلنا يا سلمان ارق إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره بخبر هذه الصخرة , فإما أن يعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها أمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه , قال ( فرقي سلمان إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو ضارب عليه قبة تركية , فقال يا رسول الله خرجت لنا صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجبنا منها شيء قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك , فهبط رسول الله صلى الله عليه سلم مع سلمان إلى الخندق واستند على شق الخندق وأخذ عليه الصلاة والسلام المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها يعني المدينة , حتى كأنه مصباح في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تكبير فتح وكبر المسلمون معه , ثم ضربها رسول الله صلى الله
(5/234)
صفحة رقم 235
عليه وسلم الثانية فبرق منها برق حتى أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم , فكبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تكبير فتح وكبر المسلمون معه ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه سلم فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تكبير فتح وكبر المسلمون معه وأخذ بيد سلمان ورقي فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى القوم وقال : أرأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم يا رسول الله قال : ضربت ضربتي الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها , ثم ضربت الثانية فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور قيصر من أرض الروم , كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها , ثم ضربت الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاء لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا ) فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا قال : فنزل القرآن : ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } " وأنزل الله : ( قل اللهم مالك الملك } " الآية
( ق ) عن أنس قال ( خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم , فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال ) اللهم إن العيش عيش الآخرة ؛ فاغفر للأنصار المهاجرة ( فقالوا مجيبين له :
نحن الذين بايعوا محمدا
على الجهاد ما حيينا أبدا
عن البراء بن عازب قال ( رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ينقل التراب وهو يقول :
والله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع بها صوته.
) وفي رواية قد وارى التراب بياض إبطيه ( رجعنا إلى حديث ابن إسحاق قال ) لما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجمتع
(5/235)
صفحة رقم 236
الأسيال من دومة من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة , وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نعمى إلى جانب أحد , وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون معه حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين , فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم وأمر بالذراري والنساء فرفعوا إلى الآطامن وخرج عدو الله حييّ بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وكان قد واعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على وقومه وعاهده على ذلك , فلما سمعت صوت ابن أخطب أغلق دونه حصته فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له , فناداه حييّ يا كعب افتح لنا فقال : ويحك يا حييّ إنك امرؤ مشؤوم إني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقاً فقال : ويحك افتح أكلمك قال : ما أنا بفاعل.
قال : والله إن أغلقت دوني إلا خوفاً أن آكل معك فأحفظ الرجل ففتح له فقال ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وبحر طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نعمى إلى جانب أحد قد عاهودني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه.
فقال : له كعب جئتني والله بذلّ الدهر وبجام قد يهرق ماؤه ويرعد ويبرق ليس فيه شيء دعني ومحمداً وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاء.
فلم يزل حييّ بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه من الله عهداً ميثاقاً لئن رجعت قريش ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك.
فنقض كعب بن أسد العهد وبرىء مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
فلما أنتهى الخبر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإلى المسلمين بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل , وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة وهو يومئذ سيد الخزرج , ومعهما عبدالله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف.
فقال : ( انطلقوا حتى تنظروا ما بلغنا عن هؤلاء القوم أحق أم لا فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه , ولا تفتوا أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا للناس ) , فخرجوا حتى أتوهم فوجدهم
(5/236)
صفحة رقم 237
على أخبث ما بلغهم عنهم ونالوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : لا عقد بيننا وبينه ولا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلاً عنده حده , فقال له سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسلموا وقالوا : عضل والقارة لغدر , عضل والقارة بأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه.
فقال : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين ) , وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين , حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً.
وقال : أوس بن قيظي أحد بني حارثة يا رسول الله إن بيوتنا لعورة من العدو , وذلك على الملأ من رجال قومه , فأذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنها خارجة من المدينة , فأقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , وأقام المشركون عليها بعضاً وعشرين ليلة قريباً من شهر ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى , فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه , فجرى بينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة فذكر ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما فيه.
فقالا : يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم أمر تحبه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا.
قال ( بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت ان أكسر عنكم شوكتهم ) فقال : له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأصنام لا نعبد الله ولا نعرفه ولا يطمعن أن يأكلوا منا تمرة واحدة إلا قرى أو بيعاً فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه
(5/237)
صفحة رقم 238
وسلم أنت وذاك فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال ليجهدوا علينا فأقام رسول الله صلى الله عليه سلم والمسلمون وعدوهم محاصروهم ولم يكن بينهم قتال , إلا أن فوارس من قريش عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبدالله بن ضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم , فمروا على بني كنانة فقالوا تهيؤوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان , ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا عليه فلما رأوه قالوا والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها , ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً وضربوا خيولهم فاقتحمت منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع , وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليه الثغرة التي اقتحموا منها وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم , وكان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحداً , فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه فلما وقف هو وخيله , قال علي يا عمرو إنك كنت تعاهد الله لا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما.
قال : أجل قال له علي : فإني أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام قال لا حاجة لي بذلك.
قال : إني أدعوك إلى النزال قال : ولم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك.
فقال علي : لكني والله أحب أن أقتلك فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل علي علي فتناولا وتجاولا فقتله علي وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة , وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبدالدار أصابه سهم فمات بمكة
(5/238)
صفحة رقم 239
ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة.
فقال : يا معشر العرب قتله أحسن من هذه فنزل إليه علي فقتله فغلب المسلمون على جسده فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يبيعهم جسده فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا حاجة لنا في جسدهم وثمنه فشأنكم به ) فخلى بينهم وبينه قالت عائشة أم المؤمنين : كنا يوم الخندق في حصن بني حارثة وكان من أحرز حصون المدينة و كانت أم سعد بن معاذ معنا في الحصن , وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمر سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها وفي يده حربة وهو يقول :
89 ( لا بأس بالموت إذا حان الأجل ) 89
فقالت : له أمه الحق يا بني فقد والله أجزت.
قالت عائشة : يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت اسبغ مما هي وخفت عليه حيث أصاب السهم منه.
قالت : فرمي سعد يومئذ بسهم فقطع منه الأكحل رماه خباب بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة.
قال سعد : عرق الله وجهك في النار , ثم قال سعد : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فابقني لها فإنه لا قوم أحب لي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة , وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية.
قال محمد بن إسحاق : فيما بلغه أن صفية بنت عبد المطلب كانت في فارع حصن حسان بن ثابت قالت وكان حسان معنا مع النساء والصبيان ,
(5/239)
صفحة رقم 240
قالت صفية : فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , والمسلمون في نحر عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آتٍ , قالت : فقلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من اليهود وقد شغل عنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه فانزل إليه فاقتله.
فقال : يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب , والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
قلت فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئاً اعتجرت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته , فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن.
فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل , قال : ما لي بسلبه حاجة يا بنت عبد المطلب قالوا : وأقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم , ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فأمرني بما شئت.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة ) فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان نديماً لهم في الجاهلية.
فقال لهم : يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بين و بينكم , قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشاً وغطفان جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره وإن
(5/240)
صفحة رقم 241
قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره إن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها , وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين هذا الرجل والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به , إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً حتى تناجزوه , قالوا لقد أشرت برأي ونصح ثم خرج حتّى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً فقد بلغني أمر رأيت حقاً على أن أبلغكم نصحاً لكم فاكتموا علي.
قالوا نفعل.
قال : تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فنضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم.
فأرسل إليهم أن نعم.
فإن بعث إليكم يهود يلتمسون رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني.
قالوا : صدقت قال فاكتموا علي.
قالوا نفعل فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم مثلما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس وكان ممن صنع الله لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان.
فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً.
وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابهم ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً فإننا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمد , فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان تعلمن والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحقّ فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك شمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم , فأرسلوا إلى قريش وغطفان إن والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً فأبوا عليهم.
وخذل الله عز وجل بينهم وبعث عليهم الريح في ليل شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم فلما انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل قوم ليلاً.
وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي وروى غيره عن إبراهيم التيمي عن أبيه قالا قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة
(5/241)
صفحة رقم 242
بن اليمان يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصحبتموه قال نعم يا ابن أخي.
قال : كيف كنتم تصنعون قال والله لقد كنا نجهد.
قال الفتى والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه وفعلنا معه وفعلنا فقال حذيفة : يا ابن أخي لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( من يذهب إلى هؤلاء القوم فيأتنا بخبرهم أدخله الله الجنة ) فما قام منا رجل ثم صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هوناً من الليل ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم وما قام منا رجل ثم صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هوناً من الليل ثم إلتفت إلينا فقال : ( هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة ) ؟ فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا حذيفة ولم يكن لي بد من القيام حين دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : لبيك يا رسول الله , وقمت حتى أتيته فأخذني بيدي ومسح رأسي ووجهي ثم قال ( ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئاً حتى ترجع إلي.
ثم قال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته ) فأخذت سهمي وشددت على أسلابي انطلقت أمشي نحوهم كأنما أمشي في حمام فذهبت فدخلت في القوم وقد أرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء قال وأبو سفيان قاعد يصطلي فأخذت سهماً فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ولو رميته لأصبته فذكرت قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا تحدثن حدثاً حتى ترجع , فرددت سهمي في كنانتي , فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء قام فقال يا معشر قريش ليأخذ كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو ؟ فأخذت بيد جليسي فقلت : من أنت ؟ ؟ فقال سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بني قريظة وبلغنا عنه الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل : ثم قال إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم.
قال : فرجعت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي فلما سلم أخبرته فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل , فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفء فأدفأني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنامني عند رجليه وألقى عليَّ طرف ثوبه وألصق صدري ببطن قدميه , فلم أزل نائماً حتى أصبحت فلما أصبحت , قال : قم يا نومان.
)
الأحزاب : ( 10 ) إذ جاؤوكم من...
" إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا " ( قوله عز وجل : ( إذ جاؤوكم من فوقكم ( أي من فوق الوادي من قبل المشرق وهم أسد وغطفان وعليهم مالك بن عوف النصري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود قريظة ) ومن أسفل منكم ( يعني من بطن الوادي من قبل المغرب وهم قريش وكنانة عليهم أبو سفيان بن حرب من قريش ومن تبعه , وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بني النضير من ديارهم ) وإذا زاغت الأبصار ( أي مالت وشخصت من الرعب وقيل مالت عن كل شيء فلم تنظر إلى عدوها ) وبلغت القلوب الحناجر ( أي زالت عن أماكنها
(5/242)
صفحة رقم 243
حتى بلغت الحلوق من الفزع والحنجرة جوف الحلقوم , وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف , وقيل معناه أنهم جبنوا وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته وإذا انتفخت رئته رفعت القلب إلى الحنجرة فلهذا يقال : للجبان انتفخ سحره ) وتظنون بالله الظنونا ( أي اختلفت الظنون بالله فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم.
)
الأحزاب : ( 11 - 18 ) هنالك ابتلي المؤمنون...
" هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا " ( ) هنالك ابتلي المؤمنون ( أي عند ذلك اختبر المؤمنون بالحصر والقتال ليتبين المخلصون من المنافقين ) وزلزلوا زلزالاً شديداً ( أي حركوا حركة شديدة ) وإذ يقول المنافقون ( يعني معتب بن قشير وقيل عبد الله بن أبيّ وأصحابه ) والذين في قلوبهم مرض ( أي شك وضعف اعتقاد ) ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ( هو قول أهل النفاق يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا هو الغرور.
قوله تعالى ) وإذ قالت طائفة منهم ( أي من المنافقين وهم أوس بن قيظي وأصحابه ) يا أهل يثرب ( يعني يا أهل المدينة وقيل يثرب اسم الأرض ومدينة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في ناحية منها سميت يثرب باسم رجل من العماليق كان قد نزلها في قديم الزمان وفي بعض الأخبار أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى أن تسمى المدينة يثرب وقال هي طيبة كأنه كره هذه اللفظة لما فيها من التثريب وهو التقريع والتوبيخ ) لا مقام لكم ( أي لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه ) فارجعوا ( أي إلى منازلكم وقيل عن اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل عن القتال ) ويستأذن فريق منهم النبي ( يعني بني حارثة وبني سلمة ) يقولون إن بيوتنا عورة ( أي خالية ضائعة وهي مما يلي العدو ونخشى عليها السراق فكذبهم الله تعالى بقوله ) وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً ( أي أنهم لا يخافون ذلك إنما يريدون الفرار من القتال ) ولو دخلت عليهم في أقطارها ( يعني لو دخل هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحزاب من نواحي المدينة وجوانبها ) ثم سئلوا الفتنة ( أي الشرك ) لأتوها ( أي لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام ) وما تلبثوا بها ( أي ما احتبسوا عن الفتنة ) إلا يسيرا ( أي لأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة به نفوسهم , وقيل معناه وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا.
(5/243)
صفحة رقم 244
قوله عز وجل ) ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل ( أي من قبل غزوة الخندق ) لا يولون الأدبار ( أي لا ينهزمون , قيل هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة , فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها , وقيل هم أناس غابوا عن وقعة بدر فلما رأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن فساق الله إليهم ذلك ) وكان عهد الله مسؤولاً ( أي عنده في الآخرة ) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ( أي الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل لا بد من ذلك ) وإذاً لا تمتعون ( أي بعد الفرار ) إلا قليلاً ( أي مدة آجالكم وهي قليل ) قل من ذا الذي يعصمكم ( أي يمنعكم ) من الله إن أراد بكم سوءاً ( أي هزيمة ) أو أراد بكم رحمة ( أي نصراً ) ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً ( أي ناصراً يمنعهم ) قد يعلم الله المعوقين منكم ( أي المثبطين الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ( أي ارجعوا إلينا ودعوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك , قيل هم أناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويقولون لهم ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحماً لالتهمهم أي ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك.
وقيل نزلت في المنافقين وذلك أن اليهود أرسلت إليهم ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه , فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحداً وإنا نشفق عليكم فأنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا فأقبل عبد الله بن إبيّ ابن سلول وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه , وقالوا لئن قدر اليوم عليكم لم يستبق منك أحداً أما ترجعون عن محمد ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا ها هنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود , فلم يزدد المؤمنين بقول المنافقين إلا إيماناً واحتساباً وقوله تعالى ) ولا يأتون البأس ( يعني الحرب ) إلا قليلاً ( أي رياس و سمعة من غير
(5/244)
صفحة رقم 245
احتساب ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيراً.
)
الأحزاب : ( 19 - 23 ) أشحة عليكم فإذا...
" أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " ( ) أشحة عليكم ( أي بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة وصفهم الله بالبخل والجبن ) فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم ( أي في رؤوسهم من الخوف والجبن ) كالذي يغشى عليه من الموت ( أي كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيه أسبابه فإنه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف ) فإذا ذهب الخوف ( أي زال ) سلقوكم ( أي آذوكم.
ورموكم في حالة الأمن ) بألسنة حداد ( أي ذربة تفعل كفعل الحديد قال ابن عباس معناه عضوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة , وقيل بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون أعطونا فإنا شهدنا معكم القتال فلستم بأحق بالغنيمة منا فهم عند الغنيمة أشجع قوم وعند الحرب أجبن قوم ) أشحة على الخير ( أي يشاحون المؤمنين عند الغنيمة فعلى هذا المعنى يكون المراد بالخير المال ) أولئك لم يؤمنوا ( أي لم يؤمنوا حقيقة الإيمان وإن أظهروا الإيمان لفظاً ) فأحبط الله أعمالهم ( أي التي كانوا يأتون بها مع المسلمين قيل هي الجهاد وغيره ) وكان ذلك على الله يسيراً ( أي إحباط أعمالهم مع أن كل شيء على الله يسير.
قوله تعالى ) يحسبون ( يعني هؤلاء المنافقين ) الأحزاب ( يعني قريشاً وغطفان واليهود ) لم يذهبوا ( أي لم ينصرفوا عن قتالهم جبناً وفرقاً وقد انصرفوا عنهم ) وإن يأت الأحزاب ( أي يرجعوا إليهم للقتال بعد الذهاب ) يودوا لو أنهم بادون في الأعراب ( أي يتمنون لو أنهم كانوا في بادية مع الأعراب من الجبن والخوف ) يسألون عن أنبائكم ( أي عن أخباركم وما آل إليه أمركم ) ولو كانوا فيكم ( يعني هؤلاء المنافقين ) ما قاتلوا إلا قليلاً ( يعني يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم فيقولون قد قاتلنا معكم وقيل هو الرمي بالحجارة وقيل رياء من غير احتساب.
قوله عز وجل ) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ( أي قدوة صالحة أي اقتدوا به اقتداء حسناً وهو أن تنصروا دين الله وتؤازروا رسوله ولا تتخلفوا عنه وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ قد كسرت رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه وأوذي بضروب الأذى فصبر وواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك أيضاً واستنوا بسنته ) لمن كان يرجوا الله ( يعني أن الأسوة برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمن كان يرجو الله قال ابن عباس يرجو ثواب الله ) واليوم الآخر ( يعني ويخشى يوم البعث الذي فيه الجزاء ) وذكر الله كثيراً (
(5/245)
صفحة رقم 246
أي في المواطن على السراء والضراء ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال تعالى ) ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ( أي قالوا ذلك تسليماً لأمر الله وتصديقاً بوعده ) وصدق الله ورسوله ( أي فيما وعدا وهو مقابلة قول المنافقين ) ما وعدنا الله إلا غروراً ( " وقولهم ) وصدق الله ورسوله ( ليس إشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله ورسوله قبل الوقوع , وإنما هو إشارة إلى البشارة في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس , وقيل إنهم وعدوا أن تلحقهم شدة وبلاء فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا هذه ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ) وما زادهم إلا إيماناً ( أي تصديقاً لله ) وتسليماً ( أي لأمره.
قوله تعالى ) من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ( أي قاموا بما جاهدوا الله عليه ووفوا به ) فمنهم من قضى نحبه ( أي فرغ من نذره ووفى بعهده وصبر على الجهاد حتّى استشهد , وقيل قضى نحبه يعني أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه , وقيل قضى نحبه أي بذل جهده في الوفاء بالعهد وقيل قضى نحبه استشهد يوم بدر وأحد ) ومنهم من ينتظر ( يعني من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين إما الشهادة أو النصر على الأعداء ) وما بدلوا ( يعني عهدهم ) تبديلاً (
( ق ) عن أنس قال غاب
(5/246)
صفحة رقم 247
عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون قال اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين , ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ , فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحاً من دون أحد فقال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : من المؤمنين رجال صدقوا ما عدهوا الله عليه إلى آخر الآية.
( ق ) عن خباب بن الأرت قال ( هاجرنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نلتمس وجه الله.
فوقع أجرنا على الله فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة وكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجليه بدت رأسه , فأمرنا رسول الله صلى الله عليه سلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه من الأذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها ) النمرة كساء ملون من صوف , وقوله ومنا من أينعت أي أدركت ونضجت له ثمرته , وهذه استعارة لما فتح الله لهم من الدنيا , وقوله يهدبها أي يجتنيها ويقطعها.
عن أبي موسى بن طلحة قال ( دخلت على معاوية فقال ألا أبشرك سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : طلحة ممن قضى نحبه ) أخرجه الترمذي.
وقال هذا حديث غريب
( خ ) عن قيس ابن أبي حازم قال ( رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد ).
)
الأحزاب : ( 24 - 26 ) ليجزي الله الصادقين...
" ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا " ( قوله عز وجل : ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ( أي جزاء صدقهم وصدقهم هو الوفاء بالعهد ) ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم ( أي فيهديهم إلى الإيمان ويشرح له صدورهم ) إن الله كان غفوراً رحيماً ورد الله الذين كفروا ( يعني قريش وغطفان ) بغيظهم ( أي لم يشف صدروهم بنيل ما أرادوا ) لم ينالوا خيراً ( أي ظفراً ) وكفى الله المؤمنون القتال ( أي الملائكة والريح ) وكان الله قوياً ( أي في ملكه ) عزيزاً ( أي في انتقامه.
قوله تعالى ) وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب ( أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى المسلمين وهم بنو قريظة ) من صياصيهم ( أي من حصونهم ومعاقلهم واحدها
(5/247)
صفحة رقم 248
صفحة فارغة.
(5/248)
صفحة رقم 249
صفحة فارغة.
(5/249)
صفحة رقم 250
صيصية ) وقذف في قلوبهم الرعب ( أي الخوف ) فريقاً تقتلون ( يعني الرجال يقال كانوا ستمائة ) وتأسرون فريقاً ( يعني النساء والذراري يقال كانوا سبعمائة قيل وخمسين.
)
الأحزاب : ( 27 - 29 ) وأورثكم أرضهم وديارهم...
" وأورثكم أرضهم وديارهم
(5/250)
صفحة رقم 251
وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما " ( ) وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤوها ( يعني بعد قيل هي خيبر ويقال إنها مكة وقيل فارس والروم وقيل هي كل أرض تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة ) وكان الله على كل شيء قديراً (.
قيل كانت في آخر ذي القعدة سنة خمس
. وعلى قول البخاري المتقدم في غزوة الخندق عن موسى بن عقبة أنها كانت في سنة أربع.
قال العلماء بالسير إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما أصبح في الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم انصرف ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ووضعوا السلاح , فلما كان الظهر أتى جبريل عليه السلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متعمماً بعمامة من إستبرق على بغلة بيضاء عليها رحالة وعليها من قطيفة من ديباج , ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه فقال جبريل يا رسول الله قد وضعت السلاح ؟ قال : ( نعم قال : جبريل عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة وما رجعت الآن إلا من طلب القوم ) وروى أنه كان الغبار على وجه جبريل وفرسه فجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يمسح الغبار عن وجهه ووجه فرسه فقال إن الله تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إلى بني قريظة فانهز إليهم فإني قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال , فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منادياً فأذن أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة , وقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرهم الناس , وسار علي حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرجع حتى لقي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالطريق فقال : يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث.
قال : ( أظنك سمعت لي منهم أذى قال : نعم يا رسول الله قال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً فلما دنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من حصونهم قال ) يا أخوان القردة قد أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته (.
قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولاً ؛ ومر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال ) هل مر بكم أحد ؟ ( فقالوا : يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة على بغلة بيضاء عليها رحاله وعليها قطيفة ديباج.
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ) ذاك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم فلما أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية أموالهم وتلاحق به الناس فأتاه رحال بعد صلاة العشاء الأخيرة ولم يصلوا العصر لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) ( فصلو العصر بها بعد العشاء الأخيرة فما عابهم الله بذلك ولا عنفهم به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال العلماء : حاصرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار , وقذف الله في قلوبهم الرعب كان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ووفى لكعب بن أسد بما كان عاهده , فلما أيقنوا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد يا معشر يهود إنكم قد نزل من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم.
قالوا : وما هن ؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتؤمنون على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم.
فقالوا :
(5/251)
صفحة رقم 252
لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره.
قال : فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف ولا نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد , فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئاً نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء.
قالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما في العيش بعدهم خير.
قال : فإن أبيتم هذه الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فانزلوا فلعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة.
قالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من قبلنا إلا ما قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك.
قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه حازماً ليلة من الدهر ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه سلم أن ابعث لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بن عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا.
فأرسله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم.
فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم.
فقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح , قال أبو لبابة فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت النبي صلى الله عليه سلم حتى ربط في المسجد إلى عمود من عمده وقال والله لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله لا يطأ أرض بني قريظة أبداً ولا يراني الله في بلد قد خنت الله ورسوله فيه أبداً.
فلما بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خبره وأبطأ عليه قال ( أما لو قد جاءني لاستغفرت له فأما إذا فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه , ثم إن الله أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يضحك فقلت : مم ضحكت يا رسول الله أضحك الله سنك ؟ قال : تيب على أبي لبابة.
فقلت : ألا أبشره بذلك يا رسول الله قال بلى إن شئت ) قال فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب.
فقالت : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك.
قال : فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله هو الذين يطلقني بيده فلما مر عليه خارجاً إلى الصبح أطلقه.
قال : ثم إن ثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم من فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وخرج في تلك الليلة عمرو بن السعدي القرظي فمر بحرس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعليهم محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة , فلما رآه قال : من هذا قال : عمرو بن السعدي كان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال لا أغدر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أبداً فقال محمد بن مسلمة اللهم لا تحرمني من عثرات الكرام , فخلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله فذكر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شأنه فقال ( ذاك رجل نجاه الله بوفائه ) ؛ وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأصبحت برمته ملقاة ولا يدري أين ذهب.
فقال : فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تلك المقالة فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتواثب الأوس وقالوا يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت.
وقد كان رسول الله صلى الله
(5/252)
صفحة رقم 253
عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه.
فسأله إياهم عبد الله بن أبي سلول فوهبهم له.
فلما كلمه الأوس قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا بلى.
قال : فذلك إلى سعد بن معاذ ) وكان سعد جعله رسول الله صلى الله عليه سلم في مسجده في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة وكانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق ( اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب ) , فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه سلم في بني قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطئوا له وسادة من أدم وكان رجلاً جسيماً ثم أقبلوا معه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه.
قال : ( قد آن لسعد أن تأخذه في الله لومة لائم ) فرجع بعض من كان معه من قومه إلا دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه , فلما انتهى سعد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال قوموا إلى سيدكم فأنزلوه فقاموا إليه وقالوا : يا أبا عمر إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد ولاك مواليك فتحكم فيهم.
فقال سعد عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم ما حكمت.
قالوا : نعم قال وعلى من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , وهو معرض عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إجلالاً له فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نعم.
قال سعد : فاني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لسعد ) لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ( ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في دار بنت الحارث من نساء بني النجار ثم خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق يخرج بهم أرسالاً وفيهم عدو الله ورسوله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر لهم يقول : كانوا بين الثمانمائة إلى التسعمائة وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أرسالاً يا كعب ما ترى ما يصنع بنا قال أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وأن من يذهب به منكم لا يرجع هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأتى بحيي بن أخطب عدو الله وعليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه وروي عن عائشة قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهراً وبطناً ورسول الله صلى الله عليه سلم يقتل رجالهم بالسيف إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة قالت أنا والله قلت ويلك مالك قالت أقتل قلت ولم قالت حدثا أحدثته قالت فانطلق بها فضرب عنقها وكانت عائشة تقول ما أنسى عجباً منها طيب نفس وكثرة ضحك وقد عرفت أنها تقتل قال الواقدي وكان اسم المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي وكانت قتلت خلاد بن سويد قال وكان
(5/253)
صفحة رقم 254
علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس هناك.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطا القرظي ويكنى أبا عبد الرحمن كان مّنَّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجلية يوم بعاث أخذه فجز ناصيته ثم خلى سبيله فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني قال وهل يجهل مثلي مثلك قال إني أريد أن أجزيك بيدك عندي قال إن الكريم يجزي الكريم قال ثم أتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه سلم فقال يا رسول الله قد كان الزبير عندي يد وله عليَّ منة وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هو لك ) فأتاه فقال له إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد وهب لي دمك قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة فأتى ثابت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله أهله وأولاده فقال ( هم لك ) فأتاه فقال إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعطاني امرأتك وولدك فهم لك فقال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتى ثابت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ما له يا رسول الله قال ( هو لك ) فأتاه فقال إن رسول الله صلى لله عليه وسلم قد أعطاني مالك فهو لك فقال أي ثابت ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتراءى فيه عذارى الحي كعب بن أسد قال قتل قال فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا كررنا عزال بن شموال قال قتل قال فما فعل المجلسان يعني بني كعب وبني قريظة بني عمرو بن قريظة قال قتلوا قال فإني أسألك بيد عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضربت عنقه فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله حتى يلقى الأحبة قال يلقاهم والله في نار جهنّم خالداً أبداً قال وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد أمر بقتل من أنبت منهم ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم على المسلمين وأغنم في ذلك اليوم سهمين للخيل وسهماً للرجال فكان للفارس ثلاثة أسهم سهمان للفرس ولفارسه سهم وللراجل من ليس له فرس سهم وكانت الخيل ستة وثلاثين فرساً وكان أول يوم وقع فيه السهمان ثم بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سعد بن زيد الأنصاري أخا بني الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهه بهم خيلا وسلاحاً كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة فكانت عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى توفي عنها وفي في ملكه وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحرص على أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب.
فقالت : يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها , وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية فعزلها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ووجد في نفسه بذلك من أمرها.
فبينما هو بين أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة , فجاءه فقال : يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك فلما قضي شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال اللهم إنك علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئاً فأبقني له وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك فانفجر كلمه فرجعه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد.
قالت : عائشة فحضره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وعمر فو الذي نفس محمد بيده
(5/254)
صفحة رقم 255
إني لأعرف بكاء عمر وبكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي.
قالت : وكانوا كما قال الله تعالى ) رحماء بينهم ( ) خ ) عن سلمان بن صرد قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول حين أجلى الأحزاب ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم )
( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه سلم كان يقول ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعز جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده ).
قوله تعالى ) يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن ( أي متعة الطلاق ) وأسرحكن سراحاً جميلاً ( أي من غير ضرر ) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ( سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سألنه من عرض الدنيا شيئاً وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وآلى أن لا يقربهن شهراً , ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق الله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نساءه.
فقال عمر : لأعلمن لكم شأنه قال فدخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : ( يا رسول الله أطلقتهن قال : ( لا ( قلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن.
قال : ( نعم إن شئت ( فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نساءه ونزلت هذه الآية ) ولو رده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ( فكنت أنا استنبطت هذا الأمر ) وأنزل الله آية التخيير وكان تحت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تسع نسوة خمسة من قريش وهو : عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة , وأربع من غير قرشيات وهن زينب بن جحش الأسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية , فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعائشة , وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , وتابعتها على ذلك فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن
(5/255)
صفحة رقم 256
فقال تعالى ) لا يحل لك النساء من بعد ( ) م ) عن جابر بن عبد الله قال : ( دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم , فأذن لأبي بكر فدخل , ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد رسول الله صلى الله عليه سلم جالساً وحوله نساؤه واجماً ساكتاً.
فقال : لأقولن شيئاً أضحك به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : يا رسول الله لقد رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها كلاهما يقول : تسألن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما ليس عنده قلن والله لا نسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً أبداً ليس عنده ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين حتى نزلت هذه الآية ) يا أيها النبي قلت لأزواجك إن كنتن ( حتى بلغ : ( للمحسنات منكن أجراً عظيماً ( قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت : وما هو يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتلا عليها الآية قالت أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت : قال : لا تسألني امرأة منهن إلى أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً ) قوله واجماً أي مهتماً , والواجم الذي أسكته الهم وعلته الكآبة وقيل الوجوم الحزن.
قولهم فوجأت عنقها أي دققته وقوله لم يبعني معنتاً العنت المشقة والصعوبة ( م ) عن الزهري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة قالت : ( لما مضت تسع وعشرون ليلة أعدهن دخل علي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بدأ بي فقلت : يا رسول الله , أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت من تسع وعشرين ؛ أعدهن قال : إن الشهر تسع وعشرين ).
فصل في حكم الآية
اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن , حتى يقع بنفس الاختيار أم لا فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم , إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما خيرهن على أنهن إذ اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى ) فتعالين أمتعكن وأسرحكن ( بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور , وأنه قال لعائشة : ( لا تعجلي حتى تستشيري أبويك ) وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور , وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً.
التفريع على حكم الآية اختلف أهل العلم في حكم التخيير , فقال عمر وابن مسعود , وابن عباس : إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء وإن اختارت نفسها يقع طلقة واحدة , وهو قول
(5/256)
صفحة رقم 257
عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن عند أصحاب الرأي يقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها وعند الآخرين رجعية وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدة وإذا اختارت نفسها فثلاث وهو قول الحسن به قال مالك.
وروي عن علي أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة واحدة , وإذا اختارت نفسها فطلقة بائنة وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا شيء
( ق ) عن مسروق قال : ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو الفاً بعد أن تختارني , ولقد سألت عائشة رضي الله عنها , فقالت خيرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فما كان طلاقاً وفي رواية فاخترناه فلم يعد ذلك شيئاً.
)
الأحزاب : ( 30 - 32 ) يا نساء النبي...
" يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا " ( قوله تعالى : ( يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة ( أي بمعصية ظاهرة قيل : هو كقوله ) لئن أشركت ليحبطن عملك ( " أي لأن منهن من أتت بفاحشة , فإن الله تعالى صان أزواج الأنبياء عن الفاحشة وقال ابن عباس المراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق ) يضاعف لها العذاب ضعفين ( أي مثلين وسبب تضعيف العقوبة , لهن لشرفهن كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة وذلك لأن نسبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى غيره من الرجال كنسبة الحرة إلى الأمة ) وكان ذلك على الله يسيراً ( أي عذابها ) ومن يقنت منكن لله ورسوله ( أي تطع الله ورسوله ) وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين ( أي مثلي أجر غيرها قيل : الحسنة بعشرين حسنة وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين ) وأعتدنا لها رزقاً كريماً ( أي الجنة.
قوله تعالى ) يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ( قال ابن عباس : يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات , أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي ) إن اتقيتن ( أي الله فأطعتنه فإن الأكرم عند الله هو الأتقى ) فلا تخضعن بالقول ( أي لا تلن بالقول للرجال ولا ترققن الكلام
(5/257)
صفحة رقم 258
) فيطمع الذي في قلبه مرض ( أي فجور وشهوة وقيل نفاق والمعنى لا تقلن قولاً يجد المنافق والفاجر به سبيلاً إلى الطمع فيكن والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقال إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع فيهن ) وقلن قولاً معروفاً ( أي يوجبه الدين والإسلام عند الحاجة إليه , ببيان من غير خضوع وقيل القول المعروف ذكر الله تعالى.
)
الأحزاب : ( 33 - 35 ) وقرن في بيوتكن...
" وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما " ( قوله عز وجل : ( وقرن في بيوتكن ( أي الزمن بيوتكن وقيل هو أمر من الوقار أي كن أهل وقار وسكون ) ولا تبرجن تبرج ( قيل : هو التكسر والتغنّج والتبختر وقيل : هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال ) الجاهلية الأولى ( قيل الجاهلية الأولى هو ما بين عيسى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : هو زمن داود وسليمان عليهما السلام كانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين , فيرى خلفها منه وقيل كان في زمن نمرود الجبار كانت المرأة , تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي به وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال وقال ابن عباس : الجاهلية الأولى ما بين نوح وإدريس , وكانت ألف سنة وقيل : إن بطنين من ولد آدم عليه السلام كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكانت رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجره نفسه وكان يخدمه واتخذ شيئاً مثل الذي يرمز به الرعاة فجاء بصوت لم يسمع الناس مثمله فبلغ ذلك من حولهم فأتوهم يستعمون إليه , واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن , وأن رجلاً من أهل الجبل , هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن , فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم وظهرت الفاحشة فيهن فذلك قوله تعالى ) ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ( وقيل الجاهلية الأولى ما قبل الإسلام والجاهلية الأخرى , قوم يفعلون مثل فعلهم آخر الزمان وقيل قد تذكر الأولى وإن لم تكن لها أخرى ) وأقمن الصلاة ( أي الواجبة ) وآتين الزكاة (
(5/258)
صفحة رقم 259
أي المفروضة ) وأطعن الله ورسوله ( أي فيما أمر وفيما نهى ) إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ( أي الإثم الذي نهى الله النساء عنه.
وقال ابن عباس : يعني عمل الشيطان وما ليس الله فيه رضا , وقيل : الرجس الشك وقيل السوء ) أهل البيت ويطهركم تطهيراً ( هم نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنهن في بيته وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس وتلا قوله تعالى ) واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ( وهو قول عكرمة ومقاتل وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة وغيرهم إلى أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم , يدل عليه ما روي عن عائشة أم المؤمنين قالت ( خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن فأدخله فيه , ثم جاء الحسين فأدخله فيه ثم قال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجل أهل البيت ويطهركم تطهيراً ( أخرجه مسلم.
المرط الكساء والمرحل بالحاء المنقوش عليه صور الرجال , وبالجيم المنقوش عليه صور الرجال , عن أم سلمة قالت : ( إن هذه الآية نزلت في بيتها , ) إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيراً ( قالت وأنا جالسة عند الباب فقلت يا رسول الله ألست من أهل البيت فقال : إنك إلى خير أنت من أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : وفي البيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلي وفاطمة وحسن وحسين فجللهم بكساء وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنه الرجس وطهرهم تطهيراً ( أخرجه الترمذي.
وقال حديث صحيح غريب عن أنس بن مالك ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر , إذا خرج إلى صلاة الفجر يقولالصلاة يا أهل البيت إنما يريد لله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت , ويطهركم تطهيراً ( أخرجه الترمذي.
وقال حديث حسن غريب وقال زيد بن أرقم أهل البيت من حرم الصدقة بعده آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس.
قوله تعالى ) واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله ( يعني القرآن ) والحكمة ( قيل هي السنة السنة وقيل هي أحكام القرآن ومواعظه ) إن الله كان لطيفاً ( يعني بأوليائه وأهل طاعته ) خبيراً ( أي بجيمع خلقه.
قوله عز وجل ) إن المسلمين والمسلمات ( الآية وذلك أن أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قلن يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن , ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير تذكر به إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة فأنزل الله هذه الآية.
عن أم عمارة الأنصارية قالت : أتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت مالي أرى كل شيء إلى الرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت ) إن المسلمين والمسلمات ( أخرجه الترمذي.
وقال حديث غريب وقيل إن إم سلمة بنت أبي أمية وأنيسة بنت
(5/259)
صفحة رقم 260
كعب الأنصارية قالتا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما بال ربنا يذكر الرجال , ولا يذكر النساء في شيء في كتابه ونخشى أن لا يكون فيهن خير فنزلت هذه الآية وروي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب , فدخلت على نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت هل نزل فينا شيء من القرآن قلن لا فأتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت يا رسول الله : إن النساء لفي خيبة وخسار قال ( ومم ذلك ) قالت لأنهن لم يذكرن بخير كما ذكر الرجال فأنزل الله إن المسلمين والمسلمات فذكر لهن عشر مراتب مع الرجال , فمدحهن بها معهم الأولى والإسلام وهو الانقياد لأمر الله تعالى وهو قوله : إن المسلمين والمسلمات , الثانية الإيمان بما يراد به أمر الله تعالى وهو تصحيح الإعتقاد وموافقة الظاهر للباطن , وهو قوله ) والمؤمنين والمؤمنات ( الثالثة الطاعة وهو قوله ) والقانتين والقانتات ( الرابعة الصدق في الأقوال والأفعال وهو قوله ) والصادقين والصادقات ( الخامسة الصبر على ما أمر الله وفيما ساء وسر وهو قوله ) والصابرين والصابرات ( السادسة الخشوع في الصلاة وهو أن لا يلتفت وقيل : هو التواضع وهو قوله ) والخاشعين والخاشعات ( السابعة الصدقة مما رزق الله وهو قوله ) والمتصدقين والمتصدقات ( الثامنة المحافظة على الصوم وهو قوله ) والصائمين والصائمات ( التاسعة العفة وهو قوله ) والحافظين فروجهم ( يعني عما لا يحل ) والحافظات ( العاشرة كثرة الذكر وهو قوله ) والذاكرين الله كثيراً والذاكرات ( وقيل لا يكون العبد منهم حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً , وروي عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال ( سبق المفردون قالوا : يا رسول الله وما المفردون قال الذاكرون الله كثيراً والذاكرات ) وقال عطاء بن أبي رباح من فوّض أمره إلى الله , فهو داخل في قوله إن المسلمين والمسلمات ومن أقر بأن الله ربه ومحمداً رسوله , ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله والمؤمنين والمؤمنات ومن أطاع الله في الفرض والرسول في السنة , فهو داخل في قوله والقانتين والقانتات , ومن صان قوله عن الكذب , فهو داخل في قوله والصادقين والصادقات , ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية , فهو داخل في قوله الصابرين والصابرات , ومن صلى , فلم يعرف من عن يمينه وعن شماله , فهو داخل في قوله والخاشعين والخاشعات ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم , فهو داخل في قوله والمتصدقين والمتصدقات ومن صام في كل شهر أيام البيض , وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله والصائمين والصائمات , ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله والحافظين فروجهم والحافظات ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو
(5/260)
صفحة رقم 261
داخل في قوله والذاكرين الله كثيراً والذاكرات ) أعد الله لهم مغفرة ( أي بمحو ذنوبهم ) وأجراً عظيماً ( يعني الجنة.
)
الأحزاب : ( 36 - 37 ) وما كان لمؤمن...
" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا " ( قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ( نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد الله بن جحش , وأمهما أمية بن عبد المطلب عمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خطب زينب لمولاه زيد بن حارثة وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اشترى زيداً في الجاهلية بعكاظ وأعتقه , وتبناه , فلما خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد بن حارثة أبت وقالت : أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي , وكانت بيضاء جميلة وفيها حدة وكذلك كره أخوها ذلك فأنزل الله ) وما كان لمؤمن ( يعني عبد الله بن جحش ) ولا مؤمنة ( يعني أخته زينب ) إذا قضى الله ورسوله أمراً ( يعني نكاح زيد لزينب ) أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ( أي الاختيار على ما قضى , والمعنى أن يريد غير ما أراد الله أو يمتنع مما أمر الله ورسوله به ) ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ( أي أخطأ خطأ ظاهراً فلما سمعت بذلك زينب وأخوها رضيا وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله صلى الله عليه سلم , فأنكحها زيداً ودخل بها وساق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليهما عشرة دنانير وستين درهماً وخماراً , ودرعاً وملحفة وخمسين مداً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر.
قوله عز وجل ) وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك ( الآية نزلت في زينب , وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما زوجها من زيد مكثت عنده حيناً , ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتى زيداً ذات يوم لحاجة فأبصر زينب في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة , ذات خلق من أتم نساء قريش وقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال ( سبحان الله مقلب القلوب وانصرف فلما جاء زيد ذكرت له ذلك ففطن زيد وألقى في نفسه كراهيتها في الوقت وأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي فقال له مالك أرابك منها شيء قال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها تتعظم علي بشرفها وتؤذيني بلسانها فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمسك عليك زوجك واتق الله في أمرها ) ثم إن زيداً طلقها فذلك قوله عز وجل ) وإذ تقول للذي أنعم الله عليه ( أي بالإسلام ) وأنعمت عليه (
(5/261)
صفحة رقم 262
أي بالإعتاق وهو زيد بن حارثة مولاه ) أمسك عليك زوجك ( يعني زينب بن جحش ) واتق الله ( أي فيها ولا تفارقها ) وتخفي في نفسك ( أي تسر وتضمر في نفسك ) ما الله مبديه ( أي مظهره قيل كان في قلبه لو فارقها تزوجها قال ابن عباس : حبها وقيل ود أنه طلقها ) وتخشى الناس ( قال ابن عباس تستحييهم وقيل تخاف لائمتهم أن يقولوا أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها ) والله أحق أن تخشاه ( قال عمر وابن مسعود وعائشة : ما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آية هي أشد من هذه الآية , وعن عائشة قالت : لو كتم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ( أخرجه الترمذي.
وقال حديث حسن غريب.
فصل
فإن قلت : ما ذكروه في تفسير هذه الآية , وسبب نزولها من وقوع محبتها في قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عندما رآها وإرادته طلاق زيد لها فيه أعظم الحرج , وما لا يليق بمنصبه ( صلى الله عليه وسلم ) من مد عينيه لما نهى عنه من زهرة الحياة الدنيا.
قلت : هذا إقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبفضله وكيف يقال رآها فأعجبته وهي بنت عمته ولم يزل يراها منذ ولدت ولا كان النساء يحتجبن منه ( صلى الله عليه وسلم ) وهو زوجها لزيد , فلا يشك في تنزيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أن يأمر زيداً بإمساكها , وهو يحب تطليقه إياها ذكر عن جماعة من المفسرين.
وأصح ما في هذا الباب ما روي عن سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال : سألني زين العابدين بن علي بن الحسين قال ما يقول الحسن في قوله تعالى ) وتخفي في نفسك ما لله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ( قلت : يقول لما جاء زيد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله إني إريد أن أطلق زينب أعجبه ذلك , وقال أمسك عليك زوجك واتق الله فقال علي بن الحسين ليس كذلك فإن الله عز وجل , قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها فلما جاء زيد قال : إني أريد أن أطلقها قال له : أمسك عليك زوجك فعاتبه الله تعالى وقال لم قلت أمسك عليك زوجك
(5/262)
صفحة رقم 263
وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبيدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال تعالى ) زوجناكها ( فلو كان الذي أضمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه , ولا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجته وإنما أخفى ذلك استحياء أن يخبر زيداً أن التي تحتك وفي نكاحك ستكون زوجتي وهذا قول حسن مرضي , وكم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحي من اطلاع الناس عليه وهو في نفسه مباح متسع , وحلال مطلق لا مقال فيه ولا عيب عند الله وربما كان الدخول في ذلك المباح سلماً إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين هو إنما جعل الله طلاق زيد لها , وتزويج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إياها لإزالة حرمة التبني وإبطال سنته كما قال الله تعالى ) وما كان محمد أبا أحد من رجالكم ( " وقال ) لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم ( فإن قلت فما الفائدة في أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) زيداً بإمساكها.
قتل : هو أن الله تعالى أعلم نبيه أنها زوجته فنهاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) , عن طلاقها وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به فلما طلقها زيد خشي قول الناس يتزوج امرأة ابنه فأمره الله تعالى بزواجها ليباح مثل ذلك لأمته , وقيل : كان في أمره بإمساكها قمعاً للشهوة ورداً للنفس عن هواها وهذا إذا جوزنا القول المتقدم الذي ذكره المفسرون وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها زيد , ومثل ذلك لا يقدح في حال الأنبياء , مع أن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء , وأنه رآها فجأة فاستحسنها ومثل هذه لا نكرة فيه لما طبع عليه البشر من استحسان الحسن , ونظرة الفجأة معفو عنها ما لم يقصد مأثماً لأن الود وميل النفس من طبع البشر والله أعلم.
وقوله ) أمسك عليك زوجك واتق الله ( أمر بالمعروف , وهو حسن لا إثم فيه وقوله ) والله أحق أن تخشاه ( لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه الصلاة والسلام , قد قال أنا أخشاكم لله وأتقاكم له ولكنه لما ذكر الخشية من الناس , ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال في جميع الأشياء.
قوله عز وجل ) فلما قضى زيد منها وطراً ( أي حاجته منها , ولم يبق له فيها أرب وتقاصرت همته عنها وطابت عنها نفسه وطلقها , وانقضت عدتها وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجته المتبني تحل بعد الدخول بها ) زوجناكها ( قال أنس : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تقول : زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سموات , وقال الشعبي : ( كانت زينب تقول للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إني لأدل عليك بثلاث ما من امرأة من نسائك تدل بهن جدي وجدك واحد وإني أنكحنيك الله في السماء وإن السفير جبريل عليه السلام ) ( م ) عن أنس قال لما انقضت عدة زينب , قال رسول
(5/263)
صفحة رقم 264
الله ( صلى الله عليه وسلم ) , لزيد : اذهب فاذكرها على قال فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت يا زينب أرسل رسول الله يذكرك قالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , فدخل عليها بغير إذن قال : فلقد رأيتنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار فخرج الناس , وبقي أناس يتحدثون في البيت بعد الطعام فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واتبعته فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن يا رسول الله كيف وجدت أهلك قال : فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أم غيري قال فانطلق حتى دخل البيت , وذهبت لأدخل معه فألقى الستر بيني وبينهم ونزل الحجاب
( ق ) عن أنس قال ما أولم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على شيء من نسائه , ما أولم على زينب أولم بشاة وفي رواية أكثر وأفضل , ما أولم على زينب قال ثابت : بم أولم قال أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه.
قوله عز وجل ) لكيلا يكون على المؤمنين حرج ( أي إثم ) في إزواج أدعيائهم ( جمع الدعي وهو المتبني ) إذا قضوا منهن وطراً ( يقول : يقول زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي كنت تبنيته , ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبني وإن كان قد دخل بها المتبني بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب ) وكان أمر الله مفعولاً ( أي قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه سلم.
)
الأحزاب : ( 38 - 44 ) ما كان على...
" ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما " ( قوله تعالى : ( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ( أي فيما أحل الله له من النكاح , وغيره ) سنة الله في الذين خلوا من قبل ( معناه سن الله سنة في الأنبياء , وهو أن لا حرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح , وغيره فإنه كان لهم الحرائر والسراري فقد كان لداود عليه السلام مائة امرأة , ولسليمان ثلثمائة امرأة وسبعمائة سرية فكذلك سن لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) التوسعة عليه كما سن لهم ووسع عليهم ) وكان أمر الله قدراً مقدوراً ( يعني قضاء مقضياً أن لا حرج على أحد فيما أحل له ثم أثنى الله على الأنبياء بقوله ) الذين يبلغون رسالات الله ( يعني فرائض الله وسننه وأوامره ونواهيه إلى من أرسلوا إليهم ) ويخشونه ( يعني يخافونه ) ولا يخشون أحداً إلا الله ( يعني لا يخافون قالت : الناس ولائمتهم فيما أحل لهم وفرض عليهم ) وكفى بالله حسيباً ( أي حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبهم.
قوله عز وجل ) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ( وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما تزوج زينب قال : الناس
(5/264)
صفحة رقم 265
إن محمداً تزوج امرأة ابنه فأنزل الله ) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ( يعني زيد بن حارثة والمعنى أنه لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة , حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح.
فإن قلت : قد كان له أبناء القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم وقال الحسن : : إن ابني هذا سيد.
قلت : قد أخرجوا من حكم النفي بقوله من رجالكم وهؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال وقيل : أراد بالرجال الذي لم يلدهم ) ولكن رسول الله ( أي إن كل رسول هو أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه ) وخاتم النبيين ( ختم الله به النبوة فلا نبوة بعده أي ولا معه قال ابن عباس : يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً ويكون بعده نبياً وعنه قال : إن الله لما حكم أن لا نبي بعده , لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً ) وكان الله بكل شيء عليماً ( أي دخل في علمه أنه لا نبي بعده.
فإن قلت : قد صح أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان بعده وهو نبي قلت إن عيسى عليه السلام ممن نبيء قبله وحين ينزل في آخر الزمان ينزل عاملاً بشريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومصلياً إلى قبلته كأنه بعض أمته
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي , كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون ويتعجبون له , ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة , وأنا خاتم النبيين ) وعن جابر نحوه وفيه جئت فختمت الأنبياء
( ق ) عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله الكفر بي وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي , وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي ) وقد سماه الله رؤوفاً رحيماً ( م ) عن أبي موسى قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يسمي , لنا نفسه أسماء فقال ( أنا محمد وأنا أحمد وأنا المقفي وأنا الماحي ونبي التوبة ونبي الرحمة ) المقفي هو المولى الذاهب , يعني آخر الأنبياء المتبع لهم فإذا قفي فلا نبي بعده.
قوله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً ( قال ابن عباس : لم يفرض الله عز وجل على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر , فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله , وأمرهم به في الأحوال كلها فقال تعالى ) فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم ( " وقال تعالى ) اذكروا الله ذكراً كثيراً ( يعني بالليل والنهار في البر والبحر وفي الصحة والسقم وفي السر والعلانية , وقيل الذكر
(5/265)
صفحة رقم 266
الكثير أن لا ينساه أبداً ) وسبحوه ( معناه إذا ذكرتموه ينبغي لكم أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء ) بكرة وأصيلاً ( فيه إشارة إلى المداومة لأن ذكر الطرفين يفهم منه الوسط أيضاً وقيل : معناه صلوا له بكرة صلاة الصبح وأصيلاً يعني صلاة العصر وقيل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء , وقيل : معنى سبحوه قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله زاد في نسخه العلي العظيم فعبر بالتسبيح عن أخواته والمراد بقوله : كثيراً هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والحائض والمحدث ) هو الذي يصلي عليكم وملائكته ( الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين وقيل الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده والثناء عليه قال أنس : لما نزلت ) إن الله وملائكته يصلون على النبي ( " قال أبو بكر : ما خصك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فأنزل الله هذه الآية ) ليخرجكم من الظلمات إلى النور ( يعني أنه برحمته وهدايته , ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ) وكان بالمؤمنين رحيماً ( فيه بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن قوله يصلي عليكم غير مختص بالسامعين , وقت الوحي بل هو عام لجميع المسلمين ) تحيتهم ( يعني تحية المؤمنين ) يوم يلقونه ( أي يرون الله يوم القيامة ) سلام ( أي يسلم الرب تعالى عليهم ويسلمهم من جميع الآفات وروي عن البراء بن عازب قال ) تحيتهم يوم يلقونه سلام ( يعني يلقون ملك الموت , لا يقبض روح مؤمن إلا يسلم عليه عن ابن مسعود قال إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال رب يقرئك السلام وقيل : تسلم عليهم الملائكة حين يخرجون من قبورهم تبشرهم ) وأعد لهم أجراً كريماً ( يعني الجنة.
)
الأحزاب : ( 45 - 50 ) يا أيها النبي...
" يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما " ( قوله عز وجل : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ( أي للرسل بالتبليغ وقيل شاهداً على الخلق كلهم يوم القيامة ) ومبشراً ( أي لمن آمن بالجنة ) ونذيراً ( أي لمن كذب بالنار ) وداعياً إلى الله ( أي إلى توحيده وطاعته ) بإذنه ( أي بأمره ) وسراجاً منيراً ( سماه سراجاً منيراً لأنه جلا منه ظلمات الشرك واهتدى به الضالون كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير , وقيل معناه أمد الله بنور نبوته نور البصائر كما يمد بنور السراج نور الأبصار ووصفه بالإنارة لأن من السراج ما لا يضيء.
فإن قلت لم سماه سراجاً , ولم يسمه شمساً والشمس أشد إضاءة من السرج وأنور.
قلت : نور الشمس لا يمكن أن يؤخذ منه شيء بخلاف نور السراج فإنه يؤخذ منه أنوار كثيرة ) وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً ( أي ما تفضل به عليهم زيادة على الثواب وقيل : الفضل هو الثواب وقيل هو تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم ) ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم ( قال ابن عباس :
(5/266)
صفحة رقم 267
اصبر على أذاهم لا تجازهم عليه وهذا منسوخ بآية القتال ) وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً ( أي حافظاً.
قوله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ( أي تجامعوهن , ففي الآية دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح حتى لو قال لامرأة أجنبية إذا نكحتك فأنت طالق , أو قال : كل امرأة أنكحها فهي طالق فنكح لا يقع الطلاق , وهذا قول علي وابن عباس وجابر ومعاذ وعائشة وبه قال سعيد بن المسيب وعروة وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وطاوس , الحسن وعكرمة وعطاء وسليمان بن يسار , ومجاهد والشعبي وقتادة وأكثر أهل العلم , وبه قال الشافعي وروي عن ابن مسعود أنه يقع الطلاق , وهو قول إبراهيم النخعي وأصحاب الرأي وقال ربيعة ومالك والأوزاعي : إن عين امرأة وقع وإن عمم فلا يقع وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : كذبوا على ابن مسعود , وإن كان قالها فزلة من عالم الرجل يقول إن تزوجت فلانة فهي طالق والله يقول ) إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ( ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن , روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا طلاق فيما لا تملك ولا عتق فيما لا تملك ولا بيع فيما لا تملك ) أخرجه أبو داود والترمذي بمعناه
( خ ) عن ابن عباس قال : جعل الله الطلاق بعد النكاح أخرجه الترمذي في ترجمة باب بغير إسناد عن جابر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا طلاق قبل النكاح ) ) فما لكم عليهم من عدة تعتدونها ( أي تحصونها بالأقراء والأشهر , أجمع العلماء أنه إذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة , فلا عدة وذهب أحمد إلى أن الخلوة توجب العدة والصداق ) فمتعوهن ( أي أعطوهن ما يستمتعن به قال ابن عباس : هذا إذا لم يكن سمى لها صداقاً فلها المتعة وإن كان قد فرض لها صداقاً فلها نصف الصداق , ولا متعة لها وقال قتادة هذه الآية منسوخة بقوله ) فنصف ما فرضتم ( " وقيل : هذا أمر ندب فالمتعة مستحبة لها مع نصف المهر وقيل : إنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية ) وسرحوهن سراحاً جميلاً ( أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير إضرار بهن.
قوله عز وجل ) يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزاوجك اللاتي آتيت أجورهن ( أي مهورهن ) وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ( أي من السبي فتملكها مثل صفية وجويرية , وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له إبراهيم ) وبنات عمك وبنات عماتك ( يعني نساء قريش ) وبنات خالك وبنات خالاتك ( يعني نساء بني زهرة
(5/267)
صفحة رقم 268
) اللاتي هاجرن معك ( إلى المدينة فمن لم تهاجر , منهن لم يجز له نكاحها عن أم هانىء بنت أبي طالب قالت : خطبني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله ) إنا أحللنا لك أزواجك ( الآية قالت : فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر كنت من الطلقاء أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل ) وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ( أي أحللنا لك امرأة مؤمنة , وهبت نفسها لك بغير صداق فأما غير المؤمنة , فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه وهل تحل الكتابية بالمهر , فذهب جماعة إلى أنها لا تحل له لقوله ) وامرأة مؤمنة ( فدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة , وكان من خصائصه ( صلى الله عليه وسلم ) أن النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر لقوله ) خالصة لك من دون المؤمنين ( والزيادة على أربع ووجوب تخيير النساء واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج , وهو قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء وبه قال ربيعة ومالك والشافعي : وقال إبراهيم النخعي وأهل الكوفة , ينعقد بلفظ التمليك والهبة , ومن قال بالقول الأول اختلفوا في نكاح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) بلفظ الهبة , لقوله تعالى ) خالصة لك من دون المؤمنين ( وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج , كما في حق سائر الأمة لقوله تعالى ) إن أراد النبي أن يستنكحها ( وكان اختصاصه في ترك المهر لا في لفظ النكاح واختلفوا في التي وهبت نفسها للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) , وهل كانت عنده امرأة منهم فقال ابن عباس ومجاهد : لم يكن عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) امرأة وهبت نفسها منه ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد النكاح , أو بملك يمين وقوله ) إن وهبت نفسها ( على سبيل الفرض والتقدير , وقال آخرون : بل كانت عنده موهوبة , واختلفوا فيها فقال الشعبي هي زينب بنت خزيمة الأنصارية الهلالية أم المساكين , وقال قتادة هي ميمونة بنت الحارث وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل هي أم شريك بن جابر : من بني أسد وقال عروة بن الزبير : هي خولة بنت
(5/268)
صفحة رقم 269
حكيم من بني سليم.
وقوله تعالى ) قد علمنا ما فرضنا عليهم ( أي أوجبنا على المؤمنين ) في أزواجهم ( أي من الأحكام وهو أن لايتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر ) وما ملكت أيمانهم ( أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ) لكيلا يكون عليك حرج ( وهذا يرجع إلى أول الآية معناه أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لكي لا يكون عليك ضيق ) وكان الله غفوراً ( أي للواقع في الحرج ) رحيماً ( أي بالتوسعة على عباده.
)
الأحزاب : ( 51 - 52 ) ترجي من تشاء...
" ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا " ( قوله تعالى ) ترجي ( يعني تؤخر ) من تشاء منهن وتؤوي إليك ( أي تضم عليك ) من تشاء ( قيل هذا للقسم بينهن وذلك أن التسوية بينهن في القسم كانت واجبة عليه ( صلى الله عليه وسلم ) , فلما نزلت هذه الآية سقط عنه الوجوب وصار الاختيار إليه فيهن , وقيل نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وطلب بعضهن زيادة النفقة فهجرهن شهراً حتى نزلت آية التخيير فأمره الله تعالى أن يخيرهن فمن اختارت الدنيا فارقها , ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين , لا ينحكهن أبداً وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ويرجي من يشاء فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم أو قسم لبعضهن , دون بعض , أو فضل بعضهن في النفقة والكسوة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط.
واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن من القسم فقال بعضهم : لم يخرج أحداً بل كان ( صلى الله عليه وسلم ) مع ما جعل الله له من ذلك يسوي بينهن في القسم , إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم , وجعلت يومها لعائشة وقيل : أخرج بعضهن.
روي عن أبي رزين , قال : لما نزل التخيير أشفقن أن يطلقن فقلن يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت , ودعنا على حالنا فأرجى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعضهن , وآوى إليه بعضهن فكان ممن آوى عليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينت , وكان يقسم بينهن سواء وأرجى منهن خمساً أم حبيبة وميمونة وسودة وجويرة وصفية , فكان يقسم لهن ما يشاء وقال ابن عباس تطلق من تشاء
(5/269)
صفحة رقم 270
منهن , وتمسك من تشاء وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من النساء قال وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلى الله وعليه وسلم وقيل تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها
( ق ) عن عروة قال : كانت خولة بنت حكيم من اللاتي , وهبن أنفسهن للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت عائشة أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت ترجي من تشاء منهن قلت يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك ) ومن ابتغيت ممن عزلت ( أي طلبت أن تؤدي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسمة ) فلا جناح عليك ( أي لا إثم عليك فأباح الله له ما ترك القسم , لهن , حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن من نوبتها ويطأ من يشاء منهم في غير نوبتها ويرد إلى فراشه من عزل منهن , تفضيلاً له على سائر الرجال ) ذلك أدنى أن تقرأ أعينهن ولا يحزن ( أي ذلك التخيير الذي خبرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن , وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله تعالى ) ويرضين بما آتيتهن ( أي أعطيتهن ) كلهن ( من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء ) والله يعلم ما في قلوبكم ( أي من أمر النساء إلى بعضهن ) وكان الله عليماً ( أي مما في ضمائركم ) حليماً ( أي عنكم.
قوله تعالى ) لا يحل لك النساء من بعد ( أي من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما خيرهن فاخترن الله ورسوله شكر الله لهن ذلك وحرم عليه النساء سواهن , ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن , قاله ابن عباس : واختلفوا هل أبيح له النساء بعد ذلك فروي عن عائشة أنها قالت ( ما مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أحل له النساء ) أخرجه الترمذي.
وقال حديث حسن صحيح , وللنسائي عنها ( حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما يشاء ) وقال أنس ( مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على التحريم ) وقيل لأبي بن كعب لو مات نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكان يحل له أن يتزوج قال : وما يمنعه من ذلك قيل له قوله تعالى ) لا يحل لك النساء من بعد ( قال : إنما أحل له ضرباً من النساء فقال تعالى ) يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك ( " الآية ثم قال ) لا تحل لك النساء من بعد ( وقيل معنى الآية لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ) ولا أن تبدل بهن من أزواج (
(5/270)
صفحة رقم 271
أي بالمسلمات غيرهن من الكتابيات , لأنه لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية إلا ما ملكت يمينك أي من الكتابيات فتسري بهن وقيل في قوله ) ولا تبدل بهن أزواج ( كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم , يقول الرجل للرجل انزل لي عن امرأتك وأنزل عن امرأتي فأنزل الله تعالى ) ولا أن تبدل بهن من أزواج ( أي تبادل بهن من أزواج أي تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته فحرم ذلك ) إلا ما ملكت يمينك ( أي لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت , فأما الحرائر فلا ) ولو أعجبك حسنهن ( يعني ليس لك أن تطلق أحد من نسائك , وتنكح بدلها أخرى , ولو أعجبك جمالها , قال ابن عباس : يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب لما استشهد جعفر أراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يخطبها فنهي عن ذلك ) إلا ما ملكت يمينك ( قال ابن عباس : ملك بعد هؤلاء مارية ) وكان الله على كل شيء رقيباً ( أي حافظاً وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء , ويدل عليه ما روى عن جابر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل ) أخرجه أبو داود.
( م ) عن أبي هريرة ( أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً ( قال الحميدي : يعني هو الصغر عن المغيرة بن شعبة قال : ( خطبت امرأة فقال لي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هل نظرت إليها قلت : لا قال فانظر إليها فانه أحرى أن يؤدم بينكما ( أخرجه الترمذي : وقال حديث حسن.
)
الأحزاب : ( 53 ) يا أيها الذين...
" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما " ( قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ( الآية قال أكثر المفسرين نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بن جحش حين بنى لها
(5/271)
صفحة رقم 272
رسول الله صلى الله عليه سلم
( ق ) عن أنس بن مالك : أنه كان ابن عشر سنين مقدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة , قال فكانت أم هانىء تواظبني على خدمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , فخدمته عشر سنين وتوفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا ابن عشرين سنة , وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل , وكان أول ما نزل في مبتنى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بزينب بنت جحش حين أصبح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا , وبقي رهط عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأطالوا المكث فقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة ثم ظن أنهم قد خرجوا , فرجع ورجعت معه حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس ولم يقوموا فرجع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورجعت , حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة , وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بيني وبينه بالستر وأنزل الحجاب زاد في رواية قال دخل يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) البيت وأرخى الستر , وإني لفي الحجرة وهو يقول ) يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ( إلى قوله ) والله لا يستحيي من الحق (
( ق ) عن عائشة ( أن أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كن يخرجن بالليل , إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح , وكان عمر رضي الله عنه يقول للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) , احجب نساءك فلم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل , فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فنادها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب ) المناصع المواضع الخالية , لقضاء الحاجة من البول أو الغائط والصعيد وجه الأرض والأفيح الواسع
( ق ) , عن أنس وابن عمر أن عمر قال ( وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزل ) واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ( " وقلت : يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت الآية الحجاب واجتمع نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن فنزلت كذلك.
وقال ابن عباس : إنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيدخلون عليه قبل الطعام قبل أن يدرك ثم يأكلون , ولا يخرجون وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتأذى بهم , فنزلت الآية ) يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ( يعني إلا أن تدعوا ) إلى طعام ( فيؤذن لكم فتأكلون ) غير ناظرين إناه ( يعني منتظرين نضجه ووقت
(5/272)
صفحة رقم 273
إدراكه ) ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم ( أي أكلتم الطعام ) فانتشروا ( أي فاخرجوا من منزله وتفرقوا ) ولا مستأنسين لحديث ( أي لا تطيلوا الجلوس ليستأنس بعضكم بحديث بعض , وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون فنهوا عن ذلك ) إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم ( أي فيستحيي من إخراجكم ) والله لا يستحيي من الحق ( أي لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياء ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال , وقيل : لا يستحيي من الحق بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم وهذا أدب أدب الله به الثقلاء , وقيل : بحسبك من الثقلاء أن الله لم يحتملهم ) وإذا سألتموهن متاعاً ( أي وإذا سألتم نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حاجة ) فاسألوهن من وراء حجاب ( أي من وراء ستر فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متنقبة كانت أو غير متنقبة ) ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ( أي من الريب ) وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ( أي ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء ) ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً ( نزلت في رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم , قال إذا : قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلأنكحن عائشة.
قيل هو طلحة بن عبيد الله فأخبر الله أن ذلك محرم , وقال ) إن ذلك كان عند الله عظيماً ( أي ذنباً عظيماً وهذا من إعلام تعظيم الله لرسوله الله ( صلى الله عليه وسلم ) , وإيجاب حرمته حياً وميتاً وإعلامه بذلك مما طيب نفسه وسر قلبه واستفرغ شكره فإن من الناس من تفرط غيرته على حرمه حتى يتمنى لها الموت قبله لئلا تنكح بعده.
)
الأحزاب : ( 54 - 56 ) إن تبدوا شيئا...
" إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " ( ) إن تبدوا شيئاً ( أي من أمر نكاحهن على ألسنتكم ) أو تخفوه ( أي في صدوركم ) فإن الله كان بكل شيء عليماً ( أي يعلم سركم وعلانيتكم , نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : قال رجل من الصحابة ما بالنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا , فنزلت هذه الآية , ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله , ونحن أيضاً
(5/273)
صفحة رقم 274
يا رسول الله نكلمهن من وراء حجاب فأنزل الله عز وجل ) لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ( أي لا إثم عليهن في ترك الحجاب عن هؤلاء الأصناف من الأقارب ) ولا نسائهن ( قيل أراد به النساء المسلمات , حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلى الله عليه سلم وقيل هو عام في المسلمات والكتابيات وإنما قال ولا نسائهن لأنهن من أجناسهن ) ولا ما ملكت أيمانهن ( اختلفوا في أن عبد المرأة هل يكون محرماً لها أم لا فقال قوم بل يكون محرماً لقوله تعالى ولا ما ملكت أيمانهن , وقال قوم العبد كالأجانب والمراد من الآية الإماء دون العبيد ) واتقين الله ( أي أن يراكن أحد غير هؤلاء ) إن الله كان على كل شيء ( أي من أعمال العباد ) شهيداً ( قوله عز وجل ) إن الله وملائكته يصلون على النبي ( قال ابن عباس : أراد أن الله يرحم النبي , والملائكة يدعون له وعنه أيضاً يصلون يتبركون وقيل الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار فصلاته ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء ) يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه ( أي ادعوا له بالرحمة ) وسلموا تسليماً ( أي حيوه بتحية الإسلام.
فصل في صفة الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفضلها
اتفق العلماء على وجوب الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم اختلفوا فقيل تجب في العمر مرة وهو الأكثر , وقيل : تجب في كل صلاة في التشهد الأخير وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وقيل : تجب كلما ذكر واختاره الطحاوي من الحنفية والحليمي من الشافعية والواجب اللهم صل على محمد وما زاد سنة
( ق ) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج علينا فقلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك ؟ قال : ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد , كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد )
( ق ) عن أبي حميد الساعدي
(5/274)
صفحة رقم 275
قال : قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك قال ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته , كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته , كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد ) ( م ) عن أبي مسعود البدري ؛ قال أتانا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك , فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين , إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم ) ( م ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً ) عن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً , وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات ) أخرجه الترمذي وله عن أبي طلحة ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جاء ذات يوم والبشر في وجهه فقلت إنا لنرى البشر في وجهك قال : أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشراً , ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشراً ) وله عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن لله ملائكة سياحين في الأرض , يبلغوني عن أمتي السلام ) عن ابن مسعود أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم على صلاة ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
وله عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( البخيل الذي ذكرت عنده فلم يصل علي ) أخرجه الترمذي : وقال حديث حسن غريب صحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صلي على محمد النبي الأمي , وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد ) أخرجه أبو داود.
)
الأحزاب : ( 57 - 67 ) إن الذين يؤذون...
" إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " ( قوله عز وجل : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً ( قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون فأما اليهود فقالوا : عزير ابن الله ويد الله مغلولة وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وأما النصارى فقالوا المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وأما المشركون فقالوا : الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه
( خ )
(5/275)
صفحة رقم 276
عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله عز وجل كذبني ابن آدم , ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني , وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي , فقوله اتخذ ولداً وأنا الأحد الصمد لم يلد , ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد )
( ق ) عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قال الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي أقلب الليل والنهار ) معنى هذا الحديث : أنه كان من عادة العرب في الجاهلية أن يذموا الدهر ويسبوه عند النوازل , لاعتقادهم أن الذي يصيبهم من أفعال الدهر فقال الله تعالى أنا الدهر أي أنا الذي أحل بهم النوازل , وأنا فاعل لذلك الذي تنسبونه إلى الدهر في زعمكم , وقيل معنى يؤذون الله يلحدون في أسمائه وصفاته وقيل : هم أصحاب التصاوير
( ق ) عن أبي هريرة قال سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
يقول ( قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة أو شعيرة ) وقيل : يؤذون الله أي يؤذون أولياء الله , كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( قال الله تعالى من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) وقال تعالى : ( من أهان ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) ومعنى الأذى هو مخالفة أمر الله تعالى وارتكاب المعاصي , ذكر ذلك على ما يتعارفه الناس بينهم لأن الله تعالى منزه عن أن يلحقه أذى من أحد , وأما إيذاء الرسول فقال ابن عباس هو أنه شج وجهه وكسرت رباعيته وقيل ساحر شاعر معلم مجنون ) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ( أي من غير أن عملوا ما أوجب أذاهم وقيل يقعون فيهم ويرمونهم بغير جرم ) فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً ( قيل إنها نزلت في علي بن أبي طالب كانوا يؤذونه , ويشتمونه وقيل نزلت في شأن عائشة وقيل نزلت في الزناة الذين يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء , إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيتبعون المرأة فإن سكتت تبعوها , وإن زجرتهم انتهوا عنها ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحداً تخرج الحرة والأمة في درع وخمار فشكوا ذلك إلى أزواجهن , فذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت ) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات ( الآية , ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء , فقال تعالى , ) يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين (.
أن يرخين ويغطين ) عليهن من جلابيبهن ( جمع جلباب وهو الملاءة التي
(5/276)
صفحة رقم 277
تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار , وقيل الملحفة وكل ما يستتر به من كساء , وغيره.
قال ابن عباس : أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدة ليعلم أنهن حرائر وهو قوله تعالى ) ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ( أي لا يتعرض لهن ) وكان الله غفوراً رحيماً ( أي لما سلف منهن قال أنس : مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة فعلاها بالدرة , وقال يالكاع اتتشبهين بالحرائر ألق القناع.
لكاع كلمة تقال لمن يستحقر به مثل العبد والأمة والخامل والقليل العقل مثل قولك يا خسيس.
قوله تعالى ) لئن لم ينته المنافقون ( أي عن نفاقهم ) والذين في قلوبهم مرض ( أي فجور وهم الزناة ) والمرجفون في المدينة ( أي بالكذب وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلى لله عليه وسلم يوقعون في الناس أنهم قد قتلوا وهزموا ويقولون : قد أتاكم العدو ونحو هذا من الأراجيف , وقيل : كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وتفشوا الأخبار ) لنغرينك بهم ( يعني لنحرشنك بهم ولنسلطنك عليهم ) ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ( أي لا يساكنونك في المدينة إلا قليلاً أي حتى يخرجوا منها وقيل لنسلطنك عليهم حتى تقتلهم وتخلي منهم المدينة ) ملعونين ( أي مطرودين ) أينما ثقفوا ( أي وجدوا وأدركوا ) أخذوا وقتلوا تقتيلاً ( أي الحكم فيهم هذا على الأمر به ) سنة الله ( أي كسنة الله ) في الذين خلوا من قبل ( أي في المنافقين والذين فعلوا مثل ما فعل هؤلاء أن يقتلوا حيثما ثقفوا ) ولن تجد لسنة الله تبديلاً ( قوله عز وجل ) يسألك الناس عن الساعة ( قيل إن المشركين كانوا يسألون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , عن وقت قيام الساعة استعجالاً على سبيل الهزء وكان اليهود يسألونه عن الساعة امتحاناً , لأن الله تعالى عمى عليهم علم وقتها في التوراة فأمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجيبهم بقوله ) قل إنما علمها عند الله ( يعني إن الله تعالى قد استأثر به ولم يطلع عليه نبياً ولا ملكاً ) وما يدريك ( أي أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قيامها ) لعل الساعة تكون قريباً ( أي إنها قريبة الوقوع وفيه تهديد للمستعجلين , وإسكات للممتحنين ) إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً يوم تقلب وجوههم في النار ( أي تتقلب ظهر البطن حين يسحبون عليها ) يقولون يا ليتنا أطعنا الرسولا ( أي في الدنيا ) وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا ( يعني رؤوس الكفر الذي لقنوهم الكفر , وزينوه لهم ) فأضلونا السبيلا ( يعني سبيل الهدى.
)
الأحزاب : ( 68 - 73 ) ربنا آتهم ضعفين...
" ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما " ( ) ربنا آتهم ( يعنون السادة والكبراء ) ضعفين من العذاب ( يعني ضعفي عذاب غيرهم ) والعنهم لعناً كبيراً ( يعني لعنا متتابعا.
(5/277)
صفحة رقم 278
قوله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين أذوا موسى فبرأه الله مما قالوا ( يعني فطهره الله مما قالوا فيه ) وكان عند الله وجيهاً ( يعني كريماً ذا جاه وقد قال ابن عباس كان حظياً عند الله لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه , وقيل كان مستجاب الدعوة وقيل كان محببا مقبولاً واختلفوا فيما أوذي به موسى , فروى أبو هريرة إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل , وحده فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجمع موسى , بأثره يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا : والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضرباً ) قال أبو هريرة والله إن بالحجر ندباً ستة أو سبعة من ضرب موسى الحجر أخرجه البخاري ومسلم وللبخاري , قال قال رسول الله صلى الله عليه سلم ( إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى شيء من جسده استحياء منه , فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده , إما برص وإما أدرة وإما آفة وأن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى فخلا يوماً وحده , فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر عدا بثوبه , فأخذ موسى العصا وطلب الحجر وجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل , ورأوه عرياناً أحسن ما خلق الله , وبرأة مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه ولبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه فوالله إن بالحجر لندبا من أثر الضرب ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً ) فذلك قوله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً ( الأدرة عظم الخصية لنفخة فيها , وقوله فجمع أي أسرع وقوله ثوبي حجر أي دع ثوبي يا حجر قوله وطفق أي جعل يضرب الحجر , وقوله ندباً هو بفتح النون والدال وهو الأصح وأصله أثر الجرح , إذا لم يرتفع عن الجلد فشبه به الضرب , بالحجر , المحدثون يقولون ندبا بسكون الدال وقيل في معنى الآية أن أذاهم إياه , أنه لما مات هارون في التيه ادعوا على موسى أنه قتله فأمر الله تعالى الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله فبرأه الله مما قالوا : وقيل إن قارون استأجر بغياً لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمها الله , وبرأ موسى من ذلك وأهلك قارون
( ق ) عن عبد الله بن مسعود قال ( لما كان يوم حنين آثر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك وأعطى ناساً من أشراف العرب وآثرهم في القسمة فقال رجل والله إن هذه القسمة ما عدل فيها , وما أريد بها وجه الله فقلت والله لأخبرن رسول لله ( صلى الله عليه وسلم ) قال فأتيته فأخبرته بما قال : فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال ) فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال : يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ( الصرف بكسر الصاد
(5/278)
صفحة رقم 279
صبغ أحمر يصبغ به الأديم.
قوله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً (.
قال ابن عباس صواباً وقيل : عدلاً وقيل صدقاً وقيل قول هو لا إله إلا الله ) يصلح لكم أعمالكم ( قال ابن عباس : يتقبل حسناتكم ) ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ( أي ظفر بالخير العظيم.
قوله عز وجل ) إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال ( الآية قال ابن عباس : أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إذا أدوها أثابهم , وإن ضيعوها عذبهم وقال ابن مسعود : الأمانة أداء الصلوات وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وصدق الحديث , وقضاء الدين والعدل في المكيال والميزان وأشد من هذا كله الودائع وقيل : جميع ما أمروا به ونهوا عنه وقيل هي الصوم وغسل الجنابة وما يخفى من الشرائع , وقال عبد الله بن عمرو بن العاص أول ما خلق الله من الإنسان الفرج وقال : هذه الأمانة استودعكها فالفرج أمانة والأذن أمانة والعين أمانة واليد أمانة والرجل أمانة , ولا إيمان لمن لا أمانة له , وفي رواية عن ابن عباس هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً , ولا معاداً في شيء لا في قليل ولا كثير فعرض الله تعالى هذه الأمانة على أعيان السموات ولأرض والجبال وهذا قول جماعة من التابعين وأكثر السلف فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة بما فيها قلن وما فيها قال : إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن قلن يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لدين الله تعالى : أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة لأمره , وكان العرض عليهم تخييراً لا إلزاماً , ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل , مطيعة لأمره ساجدة له قال بعض أهل العلم ركب الله تعالى فيهن العقل والفهم حين عرض عليهم الأمانة , حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن وقيل المراد من العرض على السموات والأرض , هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها , والقول الأول أصح وهو قول العلماء
(5/279)
صفحة رقم 280
) فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ( أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب ) وحملها الإنسان ( يعني آدم قال الله عز وجل لآدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها , فهل أنت آخذها بما فيها قال يا رب , وما فيها قال : إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم فقال : بين أذني وعاتقي قال الله أما إذا تحملت فسأعينك وأجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن لا تنظر إلى ما لا يحل فارخ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلاقاً فإذا خشيت فأغلقه , واجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد فما كان بين أن تحملها , وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر وقيل إن ما كلف الإنسان حمله بلغ من عظمه , وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله تعالى من الإجرام , وأقواه وأشده أن يحتمله ويستقبل به فأبى حمله وأشفق منه وحمله الإنسان على ضعفه وضعف قوته ) إنه كان ظلوماً جهولاً (.
قال ابن عباس : إنه كان ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر ربه وما تحمل من الأمانة وقيل ظلوماً حين عصى ربه جهولاً أي لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة وقيل ظلوماً جهولاً حيث حمل الأمانة , ثم لم يف بها وضمنها ولم يف بضمانها وقيل في تفسير الآية أقوال أخر , وهو أن الله تعالى ائتمن السموات والأرض والجبال على كل شيء , وائتمن آدم وأولاده على شيء فالأمانة في حق الأجرام العظام هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له , وقوله فأبين أن يحملنها أي أدين الأمانة ولم يخن فيها وأما الأمانة في حق بني آدم , فهي ما ذكر من الطاعة والقيام بالفرائض وقوله وحملها الإنسان أي خان فيها , وعلى هذا القول حكي عن الحسن أنه قال الإنسان هو الكافر والمنافق حملا الأمانة وخانا فيها , والقول الأول هو قول السلف وهو الأولى.
فصل
في الأمانة
( ق ) عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حديثين قد رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر حدثنا ( إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال , ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ) ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال : ( ينام الرجل النومة فتقبض
(5/280)
صفحة رقم 281
الأمانة من قلبه , فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام الرجل النومة , فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً , وليس فيه شيء ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله , فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال : إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال : للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى على زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردنه على دينه , ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه على ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً ) قوله : نزلت الأمانة في جذر قلوب الرجال جذر الشيء أصله والوكت الأثر اليسير , كالنقطة في الشيء من غير لونه , والمجل غلظ الجلد من أثر العمل وقيل إنما هو النفطات في الجلد , وقد فسره الحديث والمنتبر المنتفخ وليس فيه شيء
( خ ) عن أبي هريرة قال ( بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مجلس يحدث القوم فجاء أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحدث فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال : ( أين السائل عن الساعة قال : ها أنا يا رسول الله قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال : كيف إضاعتها يا رسول الله قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ( وعنه قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ( أخرجه أبو داود والترمذي.
وقال حديث حسن غريب.
قوله تعالى ( ليعذب الله اغلمنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ) أي بما خانوا من الأمانة ونقضوا العهد ( ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات ) أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة وقيل عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب عليه أي يعود عليه بالرحمة والمغفرة فإن حصل منه تقصير في بعض للطاعات ( وكان الله غفورا رحيما ) والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
سورة سبإ
( تفسي سورة سبأ )
مكية وهي أربع وخمسون آية وثمانمائة وثلاثة وثلاثون كلمة وألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
سبأ : ( 1 - 4 ) الحمد لله الذي...
" الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم " ( قوله عز وجل : ( الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض ( معناه أن كل نعمة من الله , فهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجلها , ولما قال : الحمد لله وصف ملكه فقال : الذي له ما في السموات وما في الأرض أي ملكاً وخلقاً ) وله الحمد في الآخرة ( أي كما هو له في الدنيا لأن النعم في الدارين كلها منه , فكما أنه المحمود على نعم الدنيا فهو المحمود على نعم الآخرة وقيل : الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما ورد ( يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس ) ) وهو الحكيم ( أي الذي أحكم أمور الدارين ) الخبير ( أي بكل ما كان وما يكون ) يعلم ما يلج في الأرض ( أي من المطر والكنوز والأموات ) وما يخرج منها ( أي من النبات والشجر والعيون والمعادن والأموات إذا بعثوا ) وما ينزل من السماء ( أي من المطر والثلج والبرد , وأنواع البركات والملائكة ) وما يعرج فيها ( أي في السماء من الملائكة وأعمال العباد ) وهو الرحيم الغفور ( أي للمفرطين في أداء ما وجب عليهم من شكر نعمه قوله تعالى ) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة ( معناه أنهم أنكروا البعث وقيل : استبطؤوا ما وعدوه من قيام الساعة على سبيل اللهو والسخرية ) قل بلى وربي لتأتينكم ( يعني الساعة ) عالم الغيب ( أي لا يفوت علمه شيء من الخفيات وإذا
(5/281)
صفحة رقم 282
كان كذلك اندرج في علمه , وقت قيام الساعة وأنها أتية ) لا يعزب عنه ( أي لا يغيب عنه ) مثقال ذرة ( يعني وزن ذرة ) في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ( أي من الذرة ) ولا أكبر إلا من كتاب مبين ( يعني في اللوح المحفوظ ) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ( أي لذنوبهم ) ورزق كريم ( يعني الجنة.
)
سبأ : ( 5 - 12 ) والذين سعوا في...
" والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير " ( ) والذين سعوا في آياتنا ( يعني في ابطال أدلتنا معجزين يعني يحسبون أنهم يفوتوننا ) أولئك لهم عذاب من رجز أليم ( قيل الرجز سوء العذاب ) ويرى الذين أوتوا العلم ( يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه , وقيل هم أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) الذي أنزل إليك من ربك ( يعني القرآن ) وهو الحق ( يعني أنه من عند الله ) ويهدي ( أي القرآن ) إلى صراط العزيز الحميد ( أي إلى دين الإسلام ) وقال الذين كفروا ( أي المنكرين للبعث المتعجبين منه ) هل ندلكم ( أي قال بعضهم لبعض هل ندلكم ) على رجل ينبئكم ( يعنون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) معناه يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب وهي أنكم ) إذا مزقتم كل ممزق ( أي قطعتم كل تقطيع وفرقتم كل تفريق , وصرتم تراباً ) إنكم لفي خلق جديد ( أي يقول إنكم تبعثون وتنشئون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً ) أفترى على الله كذباً ( أي أهو مفتر على الله كذباً فيما ينسب إليه من ذلك ؟ ) أم به جنة ( أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه قال الله تعالى : رداً عليهم ليس بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الافتراء والجنون شيء وهو مبرأ منهما ) بل الذين لا يؤمنون بالآخرة ( يعني منكري البعث ) في العذاب والضلال البعيد ( أي عن الحق في الدنيا ) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ( أي فيعلموا أنهم حيث كانوا في أرضي وتحت سمائي , فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها , وأنا قادر عليهم ) إن نشأ نخسف بهم الأرض ( أي كما خسفنا بقارون ) أو نسقط عليهم كسفاً من السماء ( أي كما فعلنا بأصحاب الأيكة ) إن في ذلك ( أي فبما ترون في السماء والأرض ) لآية ( أي تدل على قدرتنا على البعث بعد الموت ) لكل عبد منيب ( أي تائب راجع إلى الله تعالى بقلبه.
قوله عز وجل ) ولقد آتينا داود منا فضلاً ( يعني النبوة والكتاب.
وقيل الملك وقيل هو جميع ما أوتي من حسن الصوت , وغير ذلك مما خص به
(5/282)
صفحة رقم 283
) يا جبال أوبي معه ( أي وقلنا يا جبال سبحي معه إذا سبح وقيل : رجعي معه إذا رجع ونوحي معه إذا ناح ) والطير ( أي وأمرنا الطير أن تسبح معه فكان داود إذا نادى بالتسبيح أو بالناحية أجابته الجبال بصداها , وعكفت الطير عليه من فوقه وقيل كان داود إذا لحقه ملل أو فتور أسمعه الله تعالى تسبيح الجبال فينشط له ) وألنا له الحديد ( يعني كان الحديد في يده كالشمع أو كالعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة قيل سبب ذلك أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج إلى الناس متنكراً فإذا رأى إنسانا لا يعرفه تقدم إليه , وسأله عن داود فيقول له ما تقول في داود وإليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيرا فقيض الله له ملكا في صورة آدمي , فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله فقال الملك : نعم الرجل هو لولا خصلة فيه فراع داود عليه الصلاة والسلام , ذلك , وقال ما هي يا عبد الله قال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع وأنه أول من اتخذها , وكانت قبل ذلك صفائح وقيل إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف فيأكل منها , ويطعم عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين وقد صح في الحديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قال كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده ) ) أن اعمل سابغات ( أي دروعاً كوامل واسعات طوالاً تسحب في الأرض قيل : كان يعمل كل يوم درعاً ) وقدر في السرد ( أي ضيق في نسخ الدرع وقيل قدر المسامير في حلق الدرع ولا تجعل المسامير دقاقا فتفلت ولا تثبت , ولا غلاظاً فتكسر الحلق وقيل قدر في السرد أي اجعله على القصد وقدر الحاجة ) واعملوا صالحاً ( يريد داود وآله ) إني بما تعملون بصير (.
قوله تعالى ) ولسليمان الريح ( أو وسخرنا لسليمان الريح ) غدوها شهر ورواحها شهر ( معناه أن مسير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر ومسير رواحها مسيرة شهر فكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين , قيل كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة
(5/283)
صفحة رقم 284
شهر , ثم يروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل إنه كان يتغذى بالري ويتعشى بسمرقندى ) وأسلنا له عين القطر ( أي أذبنا له عين النحاس قال أهل التفسير : أجريب له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء , وكان بأرض اليمن وقيل أذاب الله لسليمان النحاس كما ألان لداود الحديد ) ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ( أي بأمر ربه قال ابن عباس سخر الله الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام , وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به ) ومن يزغ ( أي يعدل ) منهم ( من الجن ) عن أمرنا ( أي الذي أمرنا به من طاعة سليمان ) نذقه من عذاب السعير ( قيل هذا في الآخرة وقيل : في الدنيا وذلك أن الله تعالى وكل بهم ملكاً بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ضربه بذلك السوط ضربة أحرقته.
)
سبأ : ( 13 - 14 ) يعملون له ما...
" يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين " ( ) يعملون له ما يشاء من محاريب ( أي مساجد وقيل : هي الأبنية المرتفعة والقصور والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال , كان مما عملوا له بيت المقدس وذلك أن داود عليه الصلاة والسلام ابتدأه ورفعه قامة رجل , فأوحى الله إليه لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي إتمامه على يديه فلما توفي داود عليه السلام واستخلف سليمان عليه الصلاة والسلام أحب إتمام بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال , وخص كل طائفة بعمل فارسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والبلور من معادنهما وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح وجعلها اثني عشر ربضا وأنزل على كل ربض منها سبطاً من الأسباط , فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقاً منهم من يستخرج الذهب والفضة من معادنهما , ومنهم من يستخرج الجواهر واليواقيت والدر الصافي من أماكنها , ومنهم من يأتيه بالمسك والعنبر والطيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء كثير لا يحصيه إلا الله تعالى ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الأحجار وتصييرها ألواحاً وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين البلور الصافي وسقفه بأنواع الجواهر الثمينة , وفصص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن على وجه تلك الأرض يومئذ بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد فكان يضيء في الظلمة , كالقمر ليلة البدر فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل , وأعلمهم أنه بناه لله
(5/284)
صفحة رقم 285
تعالى وأن كل شيء فيه خالص له واتخذ ذلك اليوم عيداً.
روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل , حكماً يوافق حكمه فأوتيه وسأل الله تعالى ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه , وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا أخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه ) أخرجه النسائي ولغير النسائي , ( سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنتين , وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة ) وذكر نحوه قوله لا ينهزه أي لا ينهضه إلا الصلاة قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه الصلاة والسلام حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة , وهدم المسجد وأخذ ما فيه من الذهب والفضة وسائر أنواع الجواهر , وحمله إلى دار ملكه بالعراق وبنى الشياطين لسليمان باليمن قصوراً وحصوناً عجيبة من الصخر.
وقوله عز وجل ) وتماثيل ( أي ويعملون له تماثيل أي صوراً من نحاس ورخام وزجاج قيل كانوا يصورون السباع والطيور وغيرها , وقيل كانوا يصورون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة قيل : يحتمل أن اتخاذ الصور كان مباحاً في شريعتهم وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع , لأنه ليس من الأمور القبيحة في العقل كالقتل والظلم والكذب , ونحوها مما يقبح في كل الشرائع قيل : عملوا له أسدين تحت كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط له الأسدان ذراعيهما , وإذا جلس أظله النسران بأجنحتهما وقيل : عملوا له الطواويس والعقبان والنسور على درجات سريره وفوق كرسيه لكي يهابه من أراد الدنو منه ) وجفان ( أي قصاع ) كالجواب ( أي كالحياض التي يجبى فيها الماء أي يجتمع قيل كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها ) وقدور راسيات ( أي ثابتات على أثافيها لا تحرك , ولا تنزل عن أماكنها لعظمهن وكان يصعد إليها بالسلالم وكان باليمن ) اعلموا آل داود شكراً ( أي وقلنا يا آل داود واعملوا بطاعة الله تعالى شكراً على نعمه قيل : المراد من آل داود نفسه وقيل داود وسليمان وأهل بيته قال ثابت البناني كان داود نبي الله عليه الصلاة والسلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ليل أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي ) وقليل من عبادي الشكور ( أي قليل العامل بطاعتي شكراً لنعمتي.
قوله تعالى ) فلما قضينا عليه الموت ( أي على
(5/285)
صفحة رقم 286
سليمان قال : العلماء : كان سليمان يتجرد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين , وأقل من ذلك وأكثر فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابهم فدخله المرة التي مات فيها وكان سبب ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا وقد نبتت في محرابه ببيت المقدس شجرة فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول : كذا وكذا فيقول لأي شيء خلقت ؟ فتقول : لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع.
فإن كانت لغرس أمره بها فغرست وإن كانت لدواء كتب ذلك حتى نبتت الخروبة فقال : لها ما أنت قالت أنا الخروبة قال ولأي شيء نبت قالت لخراب مسجدك , قال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس , ثم نزعها وغرسها في حائط له ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب , وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب شيئاً , ويعلمون ما في غد ثم دخل المحراب وقام يصلي على عادته متكئاً على عصاه فمات قائماً , وكان للمحراب كوى من بين يديه , ومن خلقه فكان الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياة سليمان , وينظرون إليه ويحسبون أنه حي ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته , وانقطاعه قبل ذلك فمكثوا يدأبون بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان , فخر ميتاً فعلموا بموته قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب فذلك قوله تعالى ) ما دلهم على موته إلا دابة الأرض ( يعني الأرضة ) تأكل منسأته ( قال البخاري يعني عصاه ) فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ( معناه علمت الجن وأيقنت أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في التعب والشقاء مسخرين لسليمان , وهو ميت ويظنونه حياً أراد الله تعالى بذلك أن يعلم الجن أنه لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا يظنون ذلك لجهلهم وقيل في معنى الآية أنه ظهر أمر الجن وانكشف للانس أنهم لا يعلمون الغيب لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ذكر أهل التاريخ أن سليمان ملك , وهو ابن ثلاث عشرة سنة , وبقي في الملك مدة أربعين سنة وشرع في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه , وتوفي وهو ابن ثلاث وخمسين.
)
سبأ : ( 15 - 16 ) لقد كان لسبإ...
" لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل " ( وقوله عز وجل : ( لقد كان لسبأ
(5/286)
صفحة رقم 287
في مسكنهم آية ( عن فروة بن مسيك المرادي قال : ( لما أنزل في سبأ ما أنزل قال رجل يا رسول الله : وما سبأ أرض أو امرأة قال : ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة , وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار , فقال رجل : يا رسول الله وما أنمار ؟ قال الذين منهم خثعم وبجيلة ) أخرجه الترمذي مع زيادة.
وقال حديث حسن غريب وسبأ هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان في مسكنهم أي بمأرب من أرض اليمن , آية أي دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ثم فسر الآية فقال تعالى ) جنتان ( أي بستانان ) عن يمين وشمال ( يعني عن يمين الوادي وشماله وقيل عن يمين من أتاهما وشماله وقيل كان لهم واد قد أحاطت بهم الجنتان ) كلوا ( أي قيل لهم كلوا ) من رزق ربكم ( أي من ثمار الجنتين قيل كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلىء المكتل من أنواع الفواكه من غير أن تمس بيدها شيئاً ) واشكروا له ( أي على ما رزقكم من النعمة واعملوا بطاعته ) بلدة طيبة ( أي أرض مأرب , وهي سبأ بلدة طيبة فسيحة , ليست بسبخة وقيل : لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا حية , ولا عقرب وكان الرجل يمر ببلدتهم , وفي ثيابه القمل فيموت القمل من طيب الهواء ) ورب غفور ( قال وهب أي وربكم إن شكرتم على ما رزقكم رب غفور لمن شكره.
قوله عز وجل : ( فأعرضوا ( قال وهب : أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى الله تعالى وذكروهم بنعمه عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا ما نعرف الله علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع فذلك إعراضهم ) فأرسلنا عليهم سيل العرم ( العرم الذي لا يطاق قيل : كان ماء أحمر أرسله الله تعالى عليهم من حيث شاء وقيل : العرم السكر الذي يحبس الماء وقيل : العرم الوادي.
قال ابن عباس : ووهب وغيرهما , كان لهم سد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم , فأمرت بواديهم فسد بالصخر والقار بين الجبلين وجعلت لهم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض , وبنت دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً
(5/287)
صفحة رقم 288
على عدة أنهار هم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء , وإذا اسغنوا عنه سدوها فإذا جاءهم المطر اجتمع إليهم ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه إلى البركة , فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة , فكانت تقسمه بينهم على ذلك فبقيوا بعدها مدة , فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذاً يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جناتهم وأخرب أرضهم وقال وهب رأوا فيما يزعمون ويجدون في علمهم أن الذي يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمان ما أراد الله تعالى بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرار فساورتها , حتى استأخرت عنها الهرة فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد , وحفرت حتى أوهنت المسيل وهم لا يعلمون بذلك فلما جاء السيل وجد خللاً فدخل منه حتى اقتلع السد , وفاض الماء حتى علا أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا ومزقوا كل ممزق , حتى صاروا مثلاً عند العرب يقولون ذهبوا أيدي سبأ , وتفرقوا أيادي سبا فذلك قوله تعالى فأرسلنا عليهم سيل العرم ) وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ( قيل هو شجر الأراك وثمره البربر وقيل : كل نبت أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله , فهو خمط وقيل هو ثمر شجرة يقال له فسوة الضبع على صور الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به ) وأثل ( قيل هو الطرفاء وقيل شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه ) وشيء من سدر قليل ( هو شجر معروف ينتفع بورقة في الغسل وثمره النبق ولم يكن السدر الذي بدلوه مما ينتفع به بل كان سدراً برياً لا يصلح لشيء قيل : كان شجر القوم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بأعمالهم.
)
سبأ : ( 17 - 22 ) ذلك جزيناهم بما...
" ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير " ( قوله تعالى : ( ذلك جزيناهم بما كفروا ( أي ذلك فعلنا بهم جزاء كفرهم ) وهل نجازي إلا الكفور ( أي هل يكافأ بعمله إلا الكفور لله في نعمه , قيل المؤمن يجزي ولا يجزى يجازى بحسناته , ولا يكافأ بسيئاته ) وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها ( أي بالماء والشجر , وهي قرى الشام ) قرى ظاهرة ( أي متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها قيل : كان متجرهم من اليمن إلى الشام فكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من سبأ
(5/288)
صفحة رقم 289
إلى الشام , وقيل : كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام ) وقدرنا فيها السير ( أي قدرنا سيرهم بين هذه القرى فكان سيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم , فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى القرية ذات مياه وأشجار , فكان مابين اليمن والشام كذلك ) سيروا ( أي وقلنا لهم سيروا ) فيها ليالي وأياماً ( أي في أي وقت شئتم ) آمنين ( أي لا تخافون عدواً ولا جوعاً ولا عطشاً فبطروا النعمة , وسئموا الراحة وطغوا ولم يصبروا على العافية فقالوا : لو كانت جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيها وطلبوا الكد والتعب في الأسفار ) فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ( وقرىء باعد بين أسفارنا أي اجعل بيننا وبين الشام مفاوز وفلوات لنركب فيها الرواحل , ونتزود الأزواد فلما تمنوا ذلك عجل الله لهم الإجابة ) وظلموا أنفسهم ( أي بالبطر والطغيان ) فجعلناهم أحاديث ( أي عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ) ومزقناهم كل ممزق ( أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق قيل : لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد فأما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة ومر الأوس والخزرج إلى يثرب , وكان الذين قدم منهم المدينة عمرو بن عامر , وهو جد الأوس والخزرج ولحق آل خزيمة بالعراق ) إن في ذلك لآيات ( أي لعبراً ودلالات ) لكل صبار ( أي عن المعاصي ) شكور ( أي لله على نعمه قيل , من المؤمن صابر على البلاء شاكر للنعماء وقيل : المؤمن إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر.
قوله عز وجل ) ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ( قيل على أهل سبأ وقيل على الناس كلهم ) فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ( قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني المؤمنين كلهم لأنهم لم يتبعوه في أصل الدين , وقيل هو خاص بالمؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه , قال ابن قتيبة : إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره الله قال لأغوينهم ولأضلنهم ولم يكن مستيقناً وقت هذه المقالة
(5/289)
صفحة رقم 290
أن ما قاله فيهم يتم وإنما قاله ظناً فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم وقال الحسن إنه لم يسل عليهم سيفاً , ولا ضربهم بسوط إنما وعدهم ومناهم فاغتروا ) وما كان له عليهم من سلطان ( يعني ما كان تسليطنا إياه عليهم ) إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك ( يعني لنرى ونميز المؤمن من الكافر وأراد علم الوقوع , والظهور إذا كان معلوماً عنده لأنه عالم الغيب ) وربك على كل شيء حفيظ ( يعني رقيب وقيل حفيظ بمعنى حافظ.
قوله تعالى ) قل ( يعني قل يا محمد لكفار مكة ) ادعوا الذين زعمتم ( يعني أنهم آلهة ) من دون الله ( والمعنى ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع , ثم وصف عجز الآلهة فقال تعالى ) لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ( يعني من خير وشر ونفع وضر ) وما لهم ( يعني للآلهة ) فيهما ( يعني في السموات , الأرض ) من شرك ( يعني من شركة ) وما له ( يعني لله ) منهم ( يعني من الآلهة ) من ظهير ( عون.
)
سبأ : ( 23 - 31 ) ولا تنفع الشفاعة...
" ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين " ( ) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ( يعني أذن الله له في الشفاعة قاله تكذيباً للكفار حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله وقيل : يجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له ) حتى إذا فزع عن قلوبهم ( معناه كشف الفزع وأخرج عن قلوبهم قيل هم الملائكة وسبب ذلك من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله تعالى
( خ ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها ) فإذا فزع عن قلوبهم ) قالوا ماذا قال ربكم قالوا ( الذي قال ) الحق وهو العلي الكبير ( وللترمذي ( إذا قضى الله في السماء أمراً ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاً لقوله كأنه سلسة على صفوان , فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) قال الترمذي حديث حسن صحيح قوله : خضعاً جمع خاضع وهو المنقاد المطمئن والصفوان الحجر الأملس عن ابن مسعود رضي الله عنه قال ( إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجر السلسلة على الصفاة , فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبريل ماذا قال ربك ؟ فيقول الحق فيقولون الحق ) أخرجه أبو داود.
الصلصلة صوت الأجراس الصلبة بعضها على بعض , وقيل : إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة , قيل كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة أو ستمائة , لم تسمع الملائكة فيها صوت وحي فلما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كلم جبريل بالرسالة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلما سمعت الملائكة ظنوا
(5/290)
صفحة رقم 291
أنها الساعة , لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) , عند أهل السموات من أشراط الساعة , فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة فلما انحدر جبريل جعل يمر بأهل كل سماء , فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم : قالوا الحق يعني الوحي وهو العلي الكبير وقيل : الموصوفون بذلك هم المشركون وقيل إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند نزول الموت قالت الملائكة لهم ماذا قال ربكم في الدنيا لإقامة الحجة عليهم ؟ قالوا : الحق فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار وهو العلي الكبير أي ذو العلو والكبرياء.
قوله عز وجل ) قل من يرزقكم من السموات والأرض ( يعني المطر والنبات ) قل الله ( يعني إن لم يقولوا إن رزاقنا هو الله فقل : أنت إن رازقكم هو الله ) وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ( معناه ما نحن وأنتم على أمر واحد بل أحد الفريقين مهتد والآخر ضال , وهذا ليس على طريق الشك بل جهة الإلزام والإنصاف في الحجاج , كما يقول القائل أحدنا كاذب , وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن اتبعه على الهدى ومن خالفه في ضلال فكذبهم من غير أن يصرح بالتكذيب ومنه بيت حسان :
أتهجوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
وقيل أو بمعنى الآية إنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين ) قل لا تسألون عما أجرمنا ( أي تؤاخذون به ) ولا نسأل عما تعملون ( أي من الكفر والتكذيب وقيل أراد بالإجرام الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن وبالعمل الكفر والمعاصي العظام ) قل يجمع بيننا ربنا ( أي يوم القيامة ) ثم يفتح ( يعني يقضي ويحكم ) بيننا بالحق ( يعني بالعدل ) وهو الفتاح ( يعني القاضي ) العليم ( يعني بما يقضي ) قل أروني ( أعلموني ) الذين ألحقتم به ( يعني بالله ) شركاء ( يعني الأصنام التي أشركوها معه في العبادة هل يخلقون أو يرزقون وأراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله ) كلا ( كلمة ردع لهم عن مذهبهم والمعنى أرتدعوا فإنهم لا يخلقون ولا يرزقون ) بل هو العزيز ( أي الغالب على أمره ) الحكيم ( أي تدبير خلقه فأنى يكون له شريك في ملكه.
قوله عز وجل ) وما أرسلناك إلا كافة للناس ( يعني للناس كلهم عامة
(5/291)
صفحة رقم 292
أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم وقيل الرسالة عامة لهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد
( ق ) عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي , نصرت بالرعب مسيرة شهر , وجعلت لي الأرض مسجداً وطهور , فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي , وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ) في الحديث بيان الفضائل التي خص الله بها نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) دون سائر الأنبياء , وأن هذه الخمسة لم تكن لأحد ممن كان قبله من الأنبياء , وفيه اختصاصه بالرسالة العامة لكافة الخلق الإنس والجن وكان النبي قبله يبعث إلى قومه أو إلى أهل بلده فعمت رسالة نبينا صلى الله عليه سلم , جميع الخلق وهذه درجة خص بها دون سائر الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام , وقيل في المعنى كافة أي كافأتكفهم عما هم عليه من الكفر فتكون الهاء للمبالغة ) بشيراً ( أي لمن آمن بالجنة ) ونذيراً ( أي لمن كفر بالنار ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( يعني يوم القيامة ) قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون ( معناه لا تتقدمون على يوم القيامة وقيل : عن يوم الموت ولا تتأخرون عنه بأن يزاد في آجالهم أو ينقص منها ) وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ( يعني التوراة والإنجيل ) ولو ترى ( أي يا محمد ) إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول ( معناه ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب ) يقول الذين استضعفوا ( وهم الأتباع ) للذين استكبروا ( وهو القادة والأشراف ) لولا أنتم لكنا مؤمنين ( يعني أنتم منعتمونا عن الإيمان بالله ورسوله.
)
سبأ : ( 32 - 39 ) قال الذين استكبروا...
" قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين " ( ) قال الذين استكبروا ( أي أجاب المتبوعون في الكفر ) للذين استضعفوا أنحن صددناكم ( أي منعناكم ) عن الهدى ( أي عن الإيمان ) بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ( أي بترك الإيمان ) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار ( أي مكركم بنا في الليل والنهار وقيل مكر الليل والنهار هو طول السلام في الدنيا وطول الأمل فيها ) إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً ( أي هو قول القادة للأتباع إن ديننا الحق وإن محمد كذاب ساحر وهذا تنبيه للكفار أن تصير طاعة بعضهم لبعض في الدنيا سبب عداوتهم في الآخرة ) وأسروا الندامة ( أي أظهروها وقيل : أخفوها وهو من الأضداد ) لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا ( أي في النار الأتباع والمتبوعين جميعاً ) هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ( أي من الكفر والمعاصي في الدنيا.
قوله عز وجل ) وما أرسلنا
(5/292)
صفحة رقم 293
في قرية من نذير إلا قال مترفوها ( أي رؤساؤها وأغنياؤها ) إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا ( يعني المترفين والأغنياء للفقراء الذين آمنوا ) نحن أكثر أموالاً وأولاداً ( يعني لو لم يكن الله راضياً بما نحن عليه من الدين والعمل الصالح لم يخولنا أموالاً ولا أولاداً ) وما نحن بمعذبين ( أي إن الله قد أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد فلا يعذبنا في الآخرة ) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ( يعني أنه تعالى يبسط الرزق ابتلاء وامتحاناً ولا يدل البسط على رضا الله تعالى ولا التضييق على سخطه ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( أي إنها كذلك ) وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ( أي بالتي تقربكم عندنا تقريباً ) إلا ( أي لكن ) من آمن وعمل صالحاً ( قال ابن عباس يريد إيمانه وعلمه يقربه مني ) فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا ( أي يضعف الله لهم حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشر إلى سبعمائة ) وهم في الغرفات آمنون والذين يسعون في آياتنا ( أي يعملون في إبطال حججنا ) معاجزين ( أي معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتنا ) أولئك في العذاب محضرون (.
قوله تعالى عز وجل ) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ( أي يعطي خلفه إذا كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه ويعوضه لا معوض سواه إما عاجلاً بالمال أو بالقناعة التي هي كنز لا ينفد , وإما بالثواب في الاخرة الذي كل خلف دونه , وقيل ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم من خير فهو يخلفه على المنفق.
قال مجاهد : من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد , فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل , وهو ينفق نفقة الموسع عليه فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقره , ولا يتأولن وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه فإن هذا في الآخرة ومعنى الآية ما كان من خلف فهو منه
( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قال الله تبارك وتعالى : أنفق ينفق عليك ) ولمسلم ( يا ابن آدم أنفق أنفق عليك )
( ق ) عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً , ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً ) ( م ) عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع لله إلا رفعه الله ) ) وهو خير الرازقين ( أي خير من يعطي ويرزق لأن
(5/293)
صفحة رقم 294
كل ما رزق غيره من سلطان يرزق جنده أو سيد يرزق مملوكه أو رجل يرزق عياله فهو من رزق الله أجراه الله على أيدي هؤلاء وهو الرزاق الحقيقي الذي لا رازق سواه.
)
سبأ : ( 40 - 49 ) ويوم يحشرهم جميعا...
" ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " ( قوله تعالى : ( ويوم نحشرهم جميعاً ( يعني هؤلاء الكفار ) ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ( أي في الدنيا وهذا استفهام تقريع وتقرير للكفار فتتبرأ الملائكة منهم من ذلك وهو قوله تعالى ) قالوا سبحانك ( أي تنزيها لك ) أنت ولينا من دونهم ( أي نحن نتولاك ولا نتولاهم فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم ) بل كانوا يعبدون الجن ( يعني الشياطين.
فان قلت قد عبدوا الملائكة فكيف وجه قوله بل كانوا يعبدون الجن.
قلت أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة فأطاعوهم في ذلك فكانت طاعتهم للشياطين عبادة لهم وقيل صوروا لهم صوراً وقالوا لهم هذه صور الملائكة فاعبدها فعبدوها وقيل كانوا يدخلون في أجواف الأصنام فيعبدون بعبادتها ) أكثرهم بهم مؤمنون ( يعني مصدقون للشياطين قال الله تعالى ) فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ( أي شفاعة ) ولا ضراً ( أي بالعذاب يريد أنهم عاجزون ولا نفع عندهم ولا ضر ) ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل ( يعنون محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ) يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى ( يعنون القرآن ) وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين وما آتيناهم ( يعني هؤلاء المشركين ) من كتب يدرسونها ( أي يقرؤونها ) وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير ( أي لم يأت العرب قبلك نبي ولا أنزل إليهم كتاب ) وكذب الذين من قبلهم ( أي من الأمم السالفة رسلنا ) وما بلغوا ( يعني هؤلاء المشركين ) معشار ( أي عشر ) ما آتيناهم ( أي أعطينا الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول الأعمار ) فكذبوا رسلي فكيف كان نكير ( أي إنكاري عليهم يحذر بذلك كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية.
قوله عز وجل ) قل إنما أعظكم ( أي آمركم وأوصيكم ) بواحدة ( أي بخصلة واحدة ثم بين تلك
(5/294)
صفحة رقم 295
الخصلة فقال تعالى ) أن تقوموا لله ( أي لأجل الله ) مثنى ( أي اثنين ) وفرادى ( أي واحداً واحداً ) ثم تتفكروا ( أي تجتعوا جميعاً فتنظروا وتتحاوروا وتتفكروا في حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فتعلموا أن ) ما بصاحبكم من جنة ( ومعنى الآية إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي أن تقوموا لله وليس المراد به القيام على القدمين ولكن هو الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة فتقوموا لوجه الله خالصاً ثم تتفكروا في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما جاء به أمان الاثنان فيتفكران , ويعرض كل منهما محصول فكره على صاحبه لينظرا فيه نظر متصادقين متناصفين لا يميل بهما اتباع الهوى وأما الفرد فيفكر في نفسه أيضاً بعدل ونصفة هل رأينا في هذا الرجل جنوناً قط أو جربنا عليه كذباً قط وقد علمتم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما به من جنة بل قد علمتم أنه من أرجح قريش عقلاً وأوزنهم حلماً وأحدهم ذهناً وأرصنهم رأياً وأصدقهم قولاً وأزكاهم نفساً , وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحونه به وإذا علمتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بآية وإذا جاء بها تبين أنه نبي نذير مبين صادق فيما جاء به وقيل : تم الكلام عند قوله : تتفكروا أي في السموات والأرض فتعلموا أنه خالقها واحد لا شريك له ثم ابتدأ فقال ما بصاحبكم من جنة ) إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد قل ما سألتكم ( أي على تبليغ الرسالة ) من أجر ( أي جعل ) فهل لكم ( أي لم أسألكم شيئاً ) إن أجري ( أي ثوابي ) إلا على الله وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف بالحق ( أي يأتي بالوحي من السماء فيقذفه إلى الأنبياء ) علام الغيوب ( أي خفيات الأمور ) قل جاء الحق ( أي القرآن والإسلام ) وما يبدىء الباطل وما يعيد ( أي ذهب الباطل وزهق فلم تبق منه بقية تبدىء شيئاً أو تعيده وقيل الباطل هو إبليس والمعنى لا يخلق إبليس أحداً ابتداء ولا يبعثه إذا مات وقيل الباطل الأصنام.
)
سبأ : ( 50 - 54 ) قل إن ضللت...
" قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب " ( ) قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي ( وذلك أن كفار مكة كانوا يقولون له إنك قد ضللت حين تركت دين آبائك فقال الله تعالى قل إن ضللت فيما تزعمون أنتم فإنما أضل على نفسي أي إثم ضلالتى على نفسي ) وإن اهتديت فبما يوحي إليَّ ربي ( أي في القرآن والحكمة ) إنه سميع قريب ( قوله عز وجل ) ولو ترى ( أي يا محمد ) إذ فزعوا ( أي عند البعث أي حين يخرجون من قبورهم وقيل عند الموت ) فلا فوت ( أي لا يفوتوننا ولا نجاة لهم ) وأخذوا من مكان قريب ( قيل من تحت أقدامهم , وقيل أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها حيثما كانوا فإنهم من الله قريب لا يفوتونه , ولا يعجزونه وقيل : من مكان قريب يعني عذاب الدنيا وهو القتل
(5/295)
صفحة رقم 296
يوم بدر وقيل : هو خسف بالبيداء ومعنى الآية ولو ترى إذ فزعوا لرأيت أمراً تعتبر به ) وقالوا آمنا به ( أي حين عاينوا العذاب قيل هو عند اليأس وقيل هو عند البعث ) وأنى لهم التناوش ( أي التناول والمعنى كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريباً منهم في الدنيا فضيعوه وقال ابن عباس يسألون الرد إلى الدنيا فيقال وأنى لهم الرد إلى الدنيا ) من مكان بعيد ( أي من الآخرة إلى الدنيا ) وقد كفروا به من قبل ( أي القرآن وقيل بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) من قبل أن يعاينوا العذاب وأهوال القيامة ) ويقذفون بالغيب من مكان بعيد ( قيل هو الظن لأن علمه غاب عنهم والمكان البعيد بعدهم عن علم ما يقولون , والمعنى يرمون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون وهو قولهم إنه شاعر ساحر كاهن لا علم له بذلك وقيل يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار ) وحيل بينهم وبين ما يشتهون ( أي الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا ونعيمها وزهرتها ) كما فعل بأشياعهم ( أي بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار ) من قبل ( أي لم تقبل منهم التوبة في وقت اليأس ) إنهم كانوا في شك ( أي من البعث ونزول العذاب بهم ) مريب ( أي موقع الريبة والتهمة , والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
سورة فاطر
( تفسير سورة فاطر ) وهي خمس وأربعون آية وتسعمائة وسبعون كلمة وثلاثة آلف ومائة وثلاثون حرفاً.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
فاطر : ( 1 - 2 ) الحمد لله فاطر...
" الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق
(5/296)
صفحة رقم 297
ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم " ( قوله عز وجل ) الحمد لله فاطر السموات والأرض ( أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق ) جاعل الملائكة رسلاً ( أي إلى الأنبياء ) أولي أجنحة ( أي ذوي أجنحة ) مثنى وثلاث ورباع ( أي بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة أجنحة وبعضهم له أربعة ) يزيد في الخلق ما يشاء ( أي يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء.
قال عبد الله بن مسعود في قوله ) لقد رأى من آيات ربه الكبرى ( " قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح , وقيل في قوله ) يزيد في الخلق ما يشاء ( هو حسن الصوت وقيل حسن الخلق وتمامه وقيل هو الملاحة في العينين وقيل هو العقل والتمييز ) إن الله على كل شيء قدير ( أي مما يريد أن يخلقه.
قوله تعالى ) ما يفتح الله للناس من رحمة ( قيل المطر وقيل من خير ورزق ) فلا ممسك لها ( أي لا يستطيع أحد حبسها ) وما يمسك فلا مرسل له من بعده ( أي لا يقدر أحد على فتح ما أمسك ) وهو العزيز ( يعني فيما أمسك ) الحكيم ( أي فيما أرسل ( م ) عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول في دبر كل صلاة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير , اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) والجد الغنى والبخت أي لا ينفع المبخوت والغني حظه وغناه لأنهما منك إنما ينفعه الإخلاص والعمل بطاعتك.
)
فاطر : ( 3 - 10 ) يا أيها الناس...
" يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور " ( قوله عز وجل : ( يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم ( قيل الخطاب لأهل مكة ونعمة الله عليهم إسكانهم الحرم ومنع الغارات عنهم ) هل من خالق غير الله ( أي لا خالق إلا الله وهو استفهام تقرير وتوبيخ ) يرزقكم من السماء ( أي المطر ) والأرض ( أي النبات ) لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ( أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث وأنتم مقرون بأن الله خالقكم ورازقكم ) وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ( يعزي نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) وإلى الله ترجع الأمور ( أي فجزي المكذب من الكفار بتكذيبه.
قوله تعالى ) يا أيها الناس إن وعد الله حق ( أي وعد القيامة ) فلا تغرنكم الحياة الدنيا ( أي لا تخد عنكم بلذاتها وما فيها عن عمل الآخرة وطلب ما عند الله ) ولا يغرنكم بالله الغرور ( أي لا يقل لكم اعملوا ما شئتم فان الله يغفر كل ذنب وخطيئة ثم بين الغرور من هو فقال تعالى ) إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً ( أي عادوه بطاعة الله ولا تطيعوه فيما يأمركم به من الكفر والمعاصي ) إنما يدعوا حزبه ( أي أشياعه وأولياءه ) ليكونوا من أصحاب السعير ( ثم بين حال موافقيه ومخالفته فقال تعالى ) الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير (.
قوله عز وجل ) أفمن زين له سوء عمله ( قال ابن عباس نزلت في أبي جهل ومشركي مكة وقيل نزلت في أصحاب الأهواء والبدع ومنه الخوارج الذي يستحلون دماء المسلمين وأموالهم وليس أصحاب الكبائر من الذنوب منهم لأنهم لا يستحلونها ويعتقدون تحريمها مع ارتكابهم إياها ومعنى زين له شبه له وموه عليه قبيح عمله ) فرآه حسناً ( وفي الآية حذف مجازه أفمن زين له سوء عمله فرأي الباطل
(5/297)
صفحة رقم 298
حقاً كمن هداه الله فرأى الحق حقاً والباطل باطلاً ) فان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ( وقيل مجاز الآية أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ( فان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء والحسرة شدة الحزن على ما فات والمعنى لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إن لم تؤمنوا ) إن الله عليم بما يصنعون ( فيه وعيد العقاب على سوء صنيعهم ) والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً ( أي تزعجه من مكانه وقيل تجمعه وتجيء به ) فسقناه ( أي فنسوقه ) إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ( أي مثل إحياء الموات نشور الأموات روى ابن الجوزي في تفسيره عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه فقال ( هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضراً قلت نعم قال كذلك يحيي الله الموتى وتلك آيتة في خلقه ) قوله تعالى ) من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً ( قيل معناه من كان يريد أن يعلم لمن العزة فلله العزة جميعاً وقيل معناه من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله هو دعاء إلى طاعة من له العزة أي فليطلب العزة من عند الله بطاعته , وذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزز , فبين الله أن لا عزة إلا لله ولرسوله ولأوليائه المؤمنين ) إليه ( يعني إلى الله ) يصعد الكلم الطيب ( قيل هو لا إله إلا الله وقيل هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر روى البغوي باسناده عن ابن مسعود قال ( إذا حدثتكم حديثاً أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عز وجل ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله , إلا أخذهن ملك تحت جناحه ثم يصعد بهن فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها وجه رب العالمين , ومصداقه من كتاب الله قوله : إليه يصعد الكلم الطيب ) هذا حديث موقوف على ابن مسعود وفي إسناد الحجاج بن نصير ضعيف , وقيل الكلم الطيب ذكر الله تعالى وقيل معنى إليه يصعد أي يقبل الكلم الطيب ) والعمل الصالح يرفعه ( قال ابن عباس أي يرفع العمل الصالح الكلم الطيب , وقيل الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء الفرائض فمن ذكر الله , ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني وليس بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال فمن قال حسناً وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ومن قال حسناً وعمل صالحاً يرفعه العمل ذلك بأن
(5/298)
صفحة رقم 299
الله يقول إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وجاء في الحديث ( لا يقبل الله قولاً إلا بعمل ولا عملاً إلا بنية ) وقيل الهاء في يرفعه راجعة إلى العمل الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يقبل عملا إلا أن يكون صادراً عن توحيد وقيل معناه العمل الصالح يرفعه الله وقيل العمل الصالح هو الخالص , وذلك أن الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال ) والذين يمكرون السيئات ( أي يعملون السيئات أي الشرك وقيل يعني الذين مكروا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في دار الندوة وقيل هم أصحاب الرياء ) لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور ( أي يبطل ويهلك في الآخرة.
)
فاطر : ( 11 - 19 ) والله خلقكم من...
" والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير وما يستوي الأعمى والبصير " ( قوله عز وجل : ( والله خلقكم من تراب ( يعني آدم ) ثم من نطفة ( يعني ذريته ) ثم جعلكم أزواجاً ( يعني أصنافاً ذكراناً واناثاً وقيل زوج بعضكم بعضاً ) وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ( يعني لا يطول عمر أحد ) ولا ينقص من عمره ( يعني عمر آخر , وقيل ينصرف إلى الأول قال سعيد بن جبير , مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة , ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان , ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره , وقيل معناه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب قال كعب الأحبار حين حضرت عمر الوفاة والله لو دعا عمر به أن يؤخر أجله لأخر , فقيل له إن الله تعالى يقول ) فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( " قال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد ذلك وقرأ هذه الآية ) إلا في كتاب ( يعني اللوح المحفوظ ) إن ذلك على الله يسير ( أي كتابة الآجال والأعمال على الله هين.
قوله تعالى ) وما يستوي البحران ( يعني العذب والمالح ثم وصفهما فقال ) هذا عذب فرات ( أي طيب يكسر العطش ) سائغ شرابه ( أي سهل في الحلق هنيء مريءٍ ) وهذا ملح أجاج ( أي شديد الملوحة يحرق الحلق بملوحته وقيل هو المر ) ومن كل ( يعني من البحرين ) تأكلون لحماً طرياً ( يعني السمك ) وتستخرجون ( يعني من الملح دون العذب ) حلية تلبسونها ( يعني اللؤلؤ والمرجان وقيل نسب اللؤلؤ إليهما لأنه
(5/299)
صفحة رقم 300
يكون في البحر المالح عيون عذبة فتمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ منهما ) وترى الفلك فيه مواخر ( يعني جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة ) لتبتغوا من فضله ( يعني بالتجارة ) ولعلكم تشكرون ( يعني تشكرون الله على نعمه ) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ( يعني الأصنام ) ما يملكون من قطمير ( هو لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة التي تكون على النواة ) إن تدعوهم ( يعني الأصنام ) لا يسمعوا دعاءكم ( يعني أنهم جماد ) ولو سمعوا ( أي على سبيل الفرض والتمثيل ) ما استجابوا لكم ( أي ما أجابوكم وقيل ما نفعوكم ) يوم القيامة يكفرون بشرككم ( أي يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها ) ولا ينبئك مثل خبير ( يعني نفسه أي لا ينبئك أحد مثلي لأني عالم بالأشياء قوله تعالى ) يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ( يعني إلى فضله وإحسانه والفقير المحتاج إلى من سواه والخلق كلهم محتاجون إلى الله فهم الفقراء ) والله هو الغني ( عن خلقه لا يحتاج إليهم ) الحميد ( يعني المحمود في إحسانه إليهم المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه ) إن يشأ يذهبكم ( لاتخاذكم أنداداً وكفركم بآياته ) ويأت بخلق جديد ( يعني يخلق بعدكم من يعبده ولا يشرك به شيئاً ) وما ذلك على الله بعزيز ( أي يمتنع ) ولا تز وازرة وزر أخرى ( يعني أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الي اقترفته لا تؤاخذ بذنب غيرها فان قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم.
قلت هذه الآية في الضالين وتلك في المضلين أنهم يحملون أثقال من أضلوه من الناس مع أثقال أنفسهم وذلك كله من كسبهم ) وإن تدع مثقلة إلى حملها ( معناه وإن تدع نفس مثقلة بذنوبها إلى حمل ذنوب غيرها ) ولا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ( يعني ولو كان المدعو ذا قرابة كالأب والأم والابن والأخ قال ابن عباس يعلق الأب والأم بالابن فيقول يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي ما علي ) إنما تنذر الذي يخشون ربهم بالغيب ( يعني يخافون ربهم ) بالغيب ( يعني لم يروه والمعنى وإنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب ) وأقاموا الصلاة ومن تزكى ( يعني أصلح وعمل خيراً ) فانما يتزكى لنفسه ( يعني لها ثوابه ) وإلى الله المصير وما يستوي الأعمى والبصير ( يعني الجاهل والعالم وقيل الأعمى عن الهدى وهو الشرك والبصير بالهدى وهو المؤمن.
)
فاطر : ( 20 - 32 ) ولا الظلمات ولا...
" ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير " ( ) ولا الظلمات ولا النور ( يعني الكفر والإيمان ) ولا الظل ولا الحرور ( يعني الجنة والنار وقال ابن عباس : الحرور الريح الحارة بالليل والسموم بالنهار ) وما يستوي الأحياء ولا الأموات ( يعني المؤمنين والكفار وقيل
(5/300)
صفحة رقم 301
العلماء والجهال ) إن الله يسمع من يشاء ( يعني حتى يتعظ ويجيب ) وما أنت بمسمع من في القبور ( يعني الكفار شبههم بالأموات في القبور لأنهم لا يجيبون إذا دعوا ) إن أنت إلا نذير ( أي ما أنت إلا منذر تخوفهم النار ) إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ( يعني بشيراً بالثواب لمن آمن ونذيراً بالعقاب لمن كفر ) وإن من أمة ( أي من جماعة كثيرة فيما مضى ) إلا خلا ( أي سلف ) فيها نذير ( أي نبي منذر.
فان قلت كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يخل فيها نذير.
قلت : إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلا أن تندرس , وحين اندرست آثار رسالة عيسى عليه السلام بعث الله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآثار نذارته باقية إلى يوم القيامة لأنه لا نبي بعده ) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات ( أي بالمعجزات الدالة على نبوتهم ) وبالزبر ( أي الصحف ) وبالكتاب المنير ( أي الواضح قيل أراد بالكتاب التوراة والإنجيل والزبور وقيل ذكر الكتاب بعد الزبر تأكيداً ) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ( يعني المطر ) فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ( يعني أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب والرطب ونحوها وقيل يعني ألوانها في الحمرة والصفرة والخضرة وغير ذلك مما لا يحصر ولا يعد ) ومن الجبال جدد بيض وحمر ( يعني الخطط والطرق في الجبال ) مختلف ألوانها ( يعني منها ما هو أبيض ومنها ما هو أحمر ومنها ما هو أصفر ) وغرابيب سود ( يعني شديدة السواد كما يقال أسود غربيب تشبيهاً بلون الغراب ) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه ( يعني خلق مختلف ألوانه ) كذلك ( يعني كاختلاف الثمرات والجبال وتم الكلام ها هنا , ثم ابتدأ فقال تعالى ) إنما يخشى الله من عباده العلماء ( قال ابن عباس يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني وقيل : عظموه وقدروا قدره وخشوه حق خشيته ومن ازداد به علماً ازداد به خشية
( ق ) عن عائشة قالت صنع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فخطب فحمد الله ثم قال ( ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية ) قولها فرخص فيه أي لم يشدد فيه قولها فتنزه عن أقوام أي تباعد عنه وكرهه قوم
( ق ) عن أنس قال خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطبة ما سمعت مثلها قط فقال ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) فغطى أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , وجوههم لهم خنين الخنين بالخاء المعجمة , هو البكاء مع غنة وانتشاق الصوت من الأنف وقال مسروق كفى بخشية الله علماً وكفى بالاغترار بالله جهلاً وقال
(5/301)
صفحة رقم 302
رجل للشعبي أفتني أيها العالم فقال الشعبي إنما العالم من خشي الله عز وجل وقال مقاتل أشد الناس خشية لله أعلمهم به , وقال الربيع بن أنس : من لم يخش الله فليس بعالم ) إن الله عزيز ( أي من ملكه ) غفور ( يعني لذنوب عباده وهو تعليل لوجوب الخشية لأنه المثيب المعاقب وإذا كان كذلك فهو أحق أن يخشى ويتقى.
قوله عز وجل ) إن الذين يتلون كتاب الله ( أي يداومون على قراءته ويعلمون ما فيه ويعملون به ) وأقاموا الصلاة ( أي ويقيمون الصلاة في أوقاتها ) وأنفقوا مما رزقناهم ( يعني في سبيل الله ) سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ( يعني لن تفسد ولن تهلك والمراد من التجارة ما وعد الله من الثواب ) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ( قال ابن عباس سوى الثواب يعني مما لم تر عين ولم تسمع أذن ) إنه غفور شكور ( قال ابن عباس : يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم ) والذي أوحينا إليك من الكتاب ( يعني القرآن ) هو الحق مصدقاً لما بين يديه ( يعني من الكتب ) إن الله بعباده لخبير بصير (.
قوله تعالى ) ثم أورثنا الكتاب ( يعني أوحينا إليك الكتاب وهو القرآن ثم أورثناه يعني حكمنا بتوريثه وقيل أورثناه بمعنى نورثه ) الذين اصطفينا من عبادنا ( قال ابن عباس يريد أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) , لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم واختصهم بكرامته بأن جعلهم أتباع سيد الرسل وخصهم بحمل أفضل الكتب ثم قسمهم ورتبهم فقال تعالى ) فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ( روي عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كلهم من هذه الأمة ) ذكره البغوي بغير سند وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه
(5/302)
صفحة رقم 303
وسلم قال في هذه الآية ( ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا , فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد , ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ( قال هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة ) أخرجه الترمذي.
وقال حديث حسن غريب.
وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ( فقال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له ) قال أبو قلابة أحد رواته فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه أخرجه البغوي بسنده وروي بسنده عن ثابت ( أن رجلاً دخل المسجد فقال اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي وسق إلي جليساً صالحاً فقال أبو الدرداء لئن كنت صادقاً لأنا أسعد بك منك سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ( قال أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً وأما ظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة ثم قرأ هذه الآية ) الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ( وقال عقبة بن صهبان : سألت عائشة عن قول الله عز وجل ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ( الآية.
فقالت : يا بني كلهم في الجنة أما السابق فمن مضى على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشهد له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالجنة وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به , وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم , فجعلت نفسها معنا ( وقال ابن عباس السابق المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر , نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال ) جنات عدن يدخلونها ( " وقيل الظالم هم أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة , والسابق هم السابقون المقربون من الناس كلهم وقيل : السابق من رجحت حسناته على سيئاته , والمقتصد من استوت سيئاته وحسناته والظالم من رجحت سيئاته على حسناته وقيل الظالم من كان ظاهرة خيراً من باطنه والمقتصد الذي استوى ظاهره وباطنه والسابق الذي باطنه خير من ظاهره وقيل الظالم التالي للقرآن ولم يعمل به والمقتصد التالي له العامل به والسابق القارىء له العالم به العامل بما فيه وقيل الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر والسابق الذي لم يرتكب صغيرة ولا كبيرة وقيل الظالم الجاهل , والمقتصد المتعلم والسابق العالم.
فان قلت لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق.
قلت : قال جعفر الصادق بدأ بالظالمين إخباراً بأنه لا يتقرب
(5/303)
صفحة رقم 304
إليه إلا بكرمه , وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ثم ثنى بالمقتصدين , لأنهم بين الخوف والرجاء ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره , وكلهم في الجنة وقيل رتبهم الترتيب على مقامات الناس , لأن أحوال العباد ثلاثة معصية وغفلة ثم توبة , ثم قربة فإذا عصى الرجل دخل في حيز الظالمين , فاذا تاب دخل جملة المقتصدين فاذا صحت توبته وكثرت عبادته ومجاهدته دخل في عداد السابقين , وقيل قدم الظالم لكثرة الظلم وغلبته ثم المقتصد قليل بالاضافة إلى الظالمين , والسابق أقل من القليل فلهذا أخرهم ومعنى سابق بالخيرات أي بالأعمال الصالحة إلى الجنة , أو إلى رحمة الله ) بإذن الله ( أي بأمر الله وإرادته ) ذلك هو الفضل الكبير ( يعني إيراثهم لكتابن واصطفاءهم ثم أخبر بثوابهم
)
فاطر : ( 33 - 35 ) جنات عدن يدخلونها...
" جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " ( فقال تعالى : ( جنات عدن يدخلونها ( يعني الأصناف الثلاثة ) يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير ( تقدم تفسيره ) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ( قال ابن عباس حزن النار وقيل حزن الموت وقيل حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات وأنهم لا يدرون ما يصنع بهم وقيل حزن زوال النعم وتقليب القلوب وخوف العاقبة وقيل حزن أهوال يوم القيامة وهموم الحصر والمعيشة في الدنيا وقيل ذهب عن أهل الجنة كل حزن كان لمعاش أو معاد.
روى البغوي بسنده عن ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ) ) إن ربنا لغفور شكور ( يعني غفر العظيم من الذنوب وشكر القليل من الأعمال ) الذي أحلنا ( يعني أنزلنا ) دار المقامة ( أي الإقامة ) من فضله ( أي لا بأعمالنا ) لا يمسنا فيها نصب ( أي لا يصيبنا فيها عناء ولا مشقة ) ولا يمسنا فيها لغوب ( أي إعياء من التعب.
)
فاطر : ( 36 - 43 ) والذين كفروا لهم...
" والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا " ( قوله تعالى : ( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ( أي فيستريحوا مما هم فيه ) ولا يخفف عنهم من عذابها ( أي من عذاب النار ) كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون ( أي يستغيثون ويصيحون ) فيها ( يقولون ) ربنا أخرجنا ( أي من النار ) نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ( أي في الدنيا
(5/304)
صفحة رقم 305
من الشرك والسيئات فيقول الله تعالى توبيخاً لهم ) أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ( قيل : هو البلوغ وقيل ثمان عشرة سنة وقيل أربعون سنة وقال ابن عباس ستون سنة ويروى ذلك عن علي وهو العمر الذي أعذر الله تعالى لابن آدم
( خ ) عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أعذر الله إلى كل امرىء آخر أجله حتى بلغ ستين سنة ) عنه بإسناد الثعلبي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين ) ) وجاءكم النذير ( يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالقرآن قاله ابن عباس : وقيل هو الشيب والمعنى أو لم نعمركم حتى شبتم.
ويقال الشيب : نذير الموت وفي الأثر ( ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها استعدي فقد قرب الموت ) ) فذقوا ( أي يقال لهم ذوقوا العذاب ) فما للظالمين من نصير ( أي لهم من مانع يمنعهم من عذابه ) إن الله عالم غيب السموات والأرض إنه عليم بذات الصدور ( يعني إنه إذا علم ذلك هو أخفى ما يكون , فقد علم غيب كل شيء في العالم.
قوله تعالى ) هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ( أي يخلف بعضكم بعضاً وقيل جعلكم أمة خلفت من قبلها من الأمم ورأت ما ينبغي أن يعتبر بهن وقيل جعلكم خلفاء في أرضه وملككم منافعها مقاليد التصرف فيها لتشكروه بالتوحيد والطاعة ) فمن كفر ( أي جحد هذه النعمة وغطمها ) فعليه كفره ( أي وبال كفره ) ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً ( يعني غضباً وقيل المقت أشد البغض ) ولا يزيد الكافرين كفرم إلا خساراً ( يعني في الآخرة ) قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله ( يعني الأصنام جعلتموها شركاء بزعمكم ) أروني ماذا خلقوا من الأرض ( يعني أي جزء استبدوا بخلقه من الأرض ) أم لهم شرك في السموات ( أي خلق في السموات والأرض ) أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه ( أي على حجة وبرهان من ذلك ) بل إن يعد الظالمون بعضهم ( يعني الرؤساء ) بعضاً إلا غروراً ( يعني قولهم هؤلاء الأصنام شفعاؤنا عند الله.
قوله عز وجل ) إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ( يعني لكي لا تزولا فيمنعهما من الزوال والوقوع وكانتا جديرتين بأن تزولا وتهدهد العظم كلمة الشرك ) ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ( يعني ليس يمسكهما
(5/305)
صفحة رقم 306
أحد سواه ) إنه كان حليماً غفوراً ( يعني غير معاجل بالعقوبة حيث أمسكهما وكانتا قد همتا بعقوبة الكفار لولا حلمه وغفرانه ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( يعني كفار مكة وذلك لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله لو جاءنا نذير لنكونن أهدى ديناً منهم وذلك قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما بعث محمد كذبوه فأنزل الله هذه الآية ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( ) لئن جاءهم نذير ( يعني رسول ) ليكونن أهدى من إحدى الأمم ( يعني اليهود والنصارى ) فلما جاءهم نذير ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما زادهم ( مجيئه ) إلا نفوراً ( يعني تباعدا عن الهدى ) استكباراً في الأرض ( يعني عتواً وتكبراً عن الإيمان به ) ومكر السيىء ( يعني عمل القبيح وهو اجتماعهم على الشرك وقيل هو مكرهم برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله ( يعني لا يحل ولا يحيط إلا بأهله فقتلوا يوم بدر قال ابن عباس عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك ) فهل ينظرون ( أي ينظرون ) إلا سنة الأولين ( يعني أن ينزل العذاب بهم كما نزل بمن مضى من الكفار ) فلن تجد لسنة الله تبديلاً ( أي تغييراً ) ولن تجد لسنة الله تحويلاً ( أي تحويل العذاب عنهم إلى غيرهم.
)
فاطر : ( 44 - 45 ) أو لم يسيروا...
" أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا " ( ) أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين قبلهم ( معناه أنهم يعتبرون بمن مضى وبآثارهم وعلامات هلاكهم ) وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه ( أي ليفوت عنه ) من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ( أي من الجرائم ) ما ترك على ظهرها ( أي ظهر الأرض ) دابة ( أي من نسمة تدب عليها يريد بني آدم وغيرهم كما أهلك من كان في زمن نوح بالطوفان إلا من كان في السفينة ) ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ( يعني يوم القيامة ) فإذا جاء أجلهم فان الله كان بعباده بصيراً ( قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد أهل طاعته وأهل معصيته وقيل بصيراً بمن يستحق العقوبة وبمن يستحق الكرامة والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.
تم الجزء الخامس من تفسير الخازن
ويليه الجزء السادس وأوله سورة يس عليه الصلاة والسلام.
(5/306)
صفحة رقم 2
سورة يس
تفسير سورة يس عليه الصلاة والسلام مكية
وهي ثلاث وثمانون آية وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة وثلاثة آلاف حرف عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ' إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ' ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي اسناده شيخ مجهول وعن معقل بن يسار قال : قال رسول الله ' اقرؤا على موتاكم يس ' أخرجه أبو داود وغيره.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
يس : ( 1 - 6 ) يس
" يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون " ( قول عز وجل : ( يس ( قال ابن عباس : هو قسم , وعنه أن معناه يا إنسان بلغة طيىء يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) , وقيل يا سيد البشر وقيل هو اسم للقرآن ) والقرآن الحكيم ( أي ذي الحكمة لأنه دليل ناطق بالحكمة وهو قسم وجوابه ) إنك لمن المرسلين ( أي أقسم بالقرآن أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لمن المرسلين وهو رد على الكفار حيث قالوا لست مرسلاً ) على صراط مستقيم ( معناه وإنك على صرط مستقيم , وقيل معناه إنك لمن المرسلين الذين هم على طريقة مستقيمة ) تنزيل العزيز الرحيم ( يعني القرآن تنزيل العزيز في ملكه الرحيم بخلقه ) لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم ( يعني لم تنذر آباؤهم لأن قريشاً لم يأتهم نبي قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) , وقيل معناه لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم من العذاب ) فهم غافلون ( أي عما يراد بهم من الإيمان والرشد.
)
يس : ( 7 - 11 ) لقد حق القول...
" لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم " ( ) لقد حق القول ( أي وجب العذاب.
) على أكثرهم فهم لا يؤمنون ( فيه إشارة إلى إرادة الله تعالى السابقة فيهم فهم لا يؤمنون لما سبق لهم من القدر بذلك.
قوله عز وجل : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ( نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين وذلك أن
(6/2)
صفحة رقم 3
أبا جهل حلف لئن رأى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي ليرضخن رأسه بالحجارة فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه به فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه ولزق الحجر , بيده فلما رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر فقال له رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله تعالى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه , فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له ما صنعت فقال : ما رأيته ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني.
فأنزل الله تعالى ) إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ( قيل هذا على وجه التمثيل , ولم يكن هناك غل , أراد منعناهم عن الإيمان بموانع , فجعل الأغلال مثلاً لذلك , وقيل حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله بموانع كالأغلال , وقيل إنها موانع حسية منعت كما يمنع الغل , وقيل إنها وصف في الحقيقة وهي ما سينزله الله عز وجل بهم في النار ) فهي ( يعني الأيدي ) إلى الأذقان ( جمع ذقن وهو أسفل اللحيين لأن الغل بجمع اليد إلى العنق ) فهم مقمحون ( يعني رافعو رؤوسهم مع غض البصر وقيل أراد أن الأغلال رفعت رؤوسهم فهم مرفعوا الرؤوس برفع الأغلال لها ) وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً ( معناه منعناهم عن الإيمان بموانع فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد , وقيل حجبناهم بالظلمة عن أذى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قوله تعالى : ( فأغشيناهم ( يعني فأعميناهم ) فهم لا يبصرون ( يعني سبيل الهدى ) وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( يعني من يرد الله إضلاله لم ينفعه الإنذار ) إنما تنذر من اتبع الذكر ( يعني إنما ينفع إنذارك من اتبع القرآن فعمل بما فيه ) وخشي الرحمن بالغيب ( أي خافه في السر والعلن ) فبشره بمغفرة ( يعني لذنوبه ) وأجر كريم ( يعني الجنة.
)
يس : ( 12 - 13 ) إنا نحن نحيي...
" إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون " ( قوله تعالى : ( إنا نحن نحيي الموتى ( يعني للبعث ) ونكتب ما قدموا ( أي من الأعمال من خير وشر ) وآثارهم ( أي ونكتب ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة ( م ) عن جرير بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سنَّ في الإسلام سنة حسنة
(6/3)
صفحة رقم 4
فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء , ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) وقيل نكتب خطاهم إلى المسجد , عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال ( كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية ) إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم ( فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إن آثاركم تكتب فلم ينتقلوا ( أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب
( خ ) عن أنس رضي الله عنه قال : أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد فكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن تعرى المدينة فقال : ( يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم ؟ ( فأقاموا.
قوله تعرى يعني تخلى فتترك عراء وهو الفضاء من الأرض الخالي الذي لا يستره شيء ( م ).
عن جابر قال خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم : ( بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد ( فقالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال : ( بني سلمة دياركم تكتب آثاركم ( فقالوا ما يسرنا إذا تحولنا.
قوله بني سلمة أي يا بني سلمة وقوله : دياركم أي الزموا دياركم
( ق ) .
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى , والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام (.
قوله تعالى : ( وكل شيء أحصيناه ( أي حفظناه وعددناه وأثبتناه ) في إمام مبين ( يعني اللوح المحفوظ.
قوله عز وجل : ( واضرب لهم مثلاً ( يعني صف لهم شبهاً مثل حالهم من قصة ) أصحاب القرية ( يعني أنطاكية ) إذ جاءها المرسلون ( يعني رسل عيسى عليه الصلاة والسلام.
(6/4)
صفحة رقم 5
( ذكر القصة في ذلك ) قال العلماء بأخبار الأنبياء بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين إلى أهل إنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب ياسين فسلما عليه فقال الشيخ لهما من أنتما فقالا رسولا عيسى عليه الصلاة والسلام ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال الشيخ لهما أمعكما آية قالا نعم نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله قال الشيخ إن لي ابناً مريضاً منذ سنين قالا : فانطلق بنا نطلع على حاله فأتى بهما إلى منزله فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحاً ففشا الخبر في المدينة وشفى الله تعالى على أيديهما كثيراً من المرضى , وكان لهم ملك يعبد الأصنام اسمه انطيخس وكان من ملوك الروم فانتهى خبرهما إليه فدعا بهما , وقال : من أنتما قالا : رسولا عيسى عليه الصلاة والسلام , قال : وفيم جئتما قالا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر فقال ولنا إله دون آلهتنا قالا نعم الذي أوجدك وآلهتك قال لهما : قوما حتى أنظر في أمركما فتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما وقال وهب بعث عيسى عليه السلام هذين الرجلين إلى أنطاكية فأتياها فلم يصلا إلى ملكها وطالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكرا الله تعالى فغضب الملك وأمر بهما فحبسا وجلد كل واحد منهما مائتي جلدة فلما كذبا وضربا بعث عيسى عليه الصلاة والسلام رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما ليبصرهما , فدخل شمعون البلد متنكراً فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه وأنس به وأكرمه ورضي عشرته فقال للملك ذات يوم : بلغني أنك حبست رجلين وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما , فقال : حال الغضب بيني وبين ذلك.
قال فإن راى الملك دعاهما حتى نطلع على ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون فصفاه وأوجزا قالا إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فقال شمعون وما آيتكما قال ما تتمناه فأمر الملك حتى جاءوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر فأخذ بندقتين من طين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك فقال شمعون للملك إن أنت سألت إلهك حتى يصنع لك الشرف ولالهك فقال له الملك ليس لي عنك سر مكتوم فإن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع وكان شمعون يدخل مع الملك على الصنم ويصلي ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم فقال الملك للرسولين إن قدر إلهكما الذي تعبد إنه على احياء ميت آمنا به وبكما قالا إلهنا قادر على كل شيء فقال الملك إن ها هنا ميتا قد مات منذ سبعة أيام ابن دهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا فجاؤا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وشمعون يدعو ربه
(6/5)
صفحة رقم 6
سرا فقام الميت وقال إني ميت منذ سبعة أيام ووجدت مشركا فأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم عليه فآمنوا بالله ثم قال فتحت أبواب السماء فنظرت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة قال الملك ومن الثلاثة قال شمعون وهذان وأشار بيده غلى صاحبيه فعجب الملك من ذلك فلما علم شمعوهن أن قوله قد أثر يفي الملك أخبره بالحال ودعاه فآمن الملك وآمن معه قوم وكفر آخرون وقبل بل كفر الملك وأجمع على قتل الرسل هو وقومه فبلغ ذلك حبيبا وهوعلى باب المدينة فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين فذلك قوله تعالى )
يس : ( 14 - 20 ) إذ أرسلنا إليهم...
" إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين " ( قوله تعالى : ( إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما ( قال وهب اسمهما يوحنا وبولس وقال كعب صادق وصدوق ) فعززنا بثالث ( يعني قوينا برسول ثالث وهو شمعون وقيل شلوم وإنما أضاف الله تعالى الإرسال إليه لأن عيسى عليه الصلاة والسلام إنما بعثهم بإذن الله عز وجل ) فقالوا ( يعني لم يرسل رسولاً ) إن أنتم إلا تكذبون ( يعني فيما تزعمون ) قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ( يعني وإن كذبتمونا ) وما علينا إلا البلاغ المبين ( أي بالآيات الدالة على صدقنا ) قالوا إنا تطيرنا بكم ( أي تشاءمنا منكم وذلك لأن المطر حبس عنهم فقالوا أصابنا ذلك بشؤمكم ) لئن لم تنتهوا ( أي تسكتوا عنا ) لنرجمنكم ( يعني لنقتلنكم وقيل بالحجارة ) وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم ( يعني شؤمكم معكم بكفركم وتكذيبكم يعني أصابكم الشؤم من قبلكم وقال ابن عباس حظكم من الخير والشر ) أئن ذكرتم ( معناه اطيرتم لأن ذكرتم ووعظتم ) بل أنتم قوم مسرفون ( أي في ضلالكم وشرككم متمادون في غيكم.
قوله عز وجل : ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ( هو حبيب النجار وقيل كان قصاراً وقال وهب كان يعمل الحرير وكان سقيماً قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المسجد وكان مؤمناً ذا صدقة يجمع كسبه فإذا أمسى قسمه نصفين نصف لعياله ويتصدق بنصفه فلما بلغه أن قومه كذبوا الرسل وقصدوا قتلهم جاءهم ) قال يا قوم اتبعوا المرسلين ( وقيل كان في غار يعبد ربه فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقال لهم أتسألون على هذا أجراً قالوا لا فأقبل على قومه وقال يا قوم اتبعوا المرسلين.
)
يس : ( 21 - 27 ) اتبعوا من لا...
" اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " ( ) اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون ( أي لا تخسرون معهم شيئاً من دنياكم وتربحون صحة دينكم فيحصل لكم
(6/6)
صفحة رقم 7
خير الدنيا والآخرة فلما قال ذلك قالوا له أو أنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم فقال ) ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ( قيل أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم لأن الفطرة أثر النعمة وكانت عليه أظهر والرجوع فيه معنى الزجر فكان بهم أليق وقيل معناه وأي شيء بي إذا لم أعبد خالقي وإليه تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم ) أأتخذ من دونه آلهة ( أي لا أتخذ من دونه آلهة ) إن يردن الرحمن بضر ( أي بسوء ومكروه ) لا تغن عني ( أي لا تدفع عني ) شفاعتهم شيئاً ( أي لا شفاعة لها فتغني عني ) ولا ينقذون ( أي من ذلك المكروه وقيل من العذاب ) إني إذاً لفي ضلال مبين ( أي خطأ ظاهر ) إني آمنت بربكم فاسمعون ( أي فاشهدوا لي بذلك قيل هو خطاب للرسل وقيل هو خطاب لقومه فلما قال ذلك وثب القوم عليه وثبة رجل واحد فقتلوه.
قال ابن مسعود ووطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره وقيل كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول اللهم اهد قومي حتى أهلكوه وقبره بأنطاكية فلما لقي الله تعالى : ( قيل ( له ) ادخل الجنة ( فلما أفضى إلى الجنة ورأى نعيمها ) قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ( تمنى أن يعلم قومه أن الله تعالى غفر له وأكرمه ليرغبوا في دين الرسل فلما قتل غضب الله عز وجل له فعجَّل لهم العقوبة فأمر جبريل عليه الصلاة والسلام فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم.
)
يس : ( 28 - 32 ) وما أنزلنا على...
" وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون " ( قوله تعالى : ( وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء ( يعني الملائكة ) وما كنا منزلين ( أي ما كنا لنفعل هذا بل الأمر في إهلاكهم كان أيسر مما تظنون ثم بيَّن عقوبتهم فقال تعالى : ( إن كانت إلا صيحة واحدة ( قال المفسرون أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة واحدة ) فإذا هم خامدون ( أي ميتون ) يا حسرة على العباد ( يعني يا لها حسرة وندامة وكآبة على العباد والحسرة أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية له حتى يبقى قلبه حسيراً , قيل تحسروا على أنفسهم لما عاينوا من العذاب حيث لم يؤمنوا بالرسل الثلاثة فتمنوا الإيمان حيث لم ينفعهم وقيل تتحسر عليهم الملائكة حيث لم يؤمنوا بالرسل وقيل يقول الله تعالى يا حسرة على العباد يوم القيامة حيث لم يؤمنوا بالرسل ثم بين سبب تلك
(6/7)
صفحة رقم 8
الحسرة فقال تعالى : ( ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ( قوله تعالى : ( ألم يروا ( أي ألم يخبروا خطاب لأهل مكة ) كم أهلكنا قبلهم من القرون ( أي من الأمم الخالية من أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود ) أنهم إليهم لا يرجعون ( أي لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعتبرون بهم ) وإن كل لما جميع لدينا محضرون ( يعني أن جميع الأمم يحضرون يوم القيامة.
)
يس : ( 33 - 42 ) وآية لهم الأرض...
" وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " ( ) وآية لهم ( يعني تدلهم على كمال قدرتنا على إحياء الموتى ) الأرض الميتة أحييناها ( أي بالمطر ) وأخرجنا منها ( أي من الأرض ) حباً ( يعني الحنطة والشعير وما أشبههما ) فمنه يأكلون ( أي من الحب ) وجعلنا فيها ( يعني في الأرض ) جنات ( يعني بساتين ) من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره ( يعني من الثمر الحاصل بالماء ) وما عملته أيديهم ( يعني من الزرع والغرس الذي تعبوا فيه وقرئ عملت بغير هاء , وقيل ما للنفي والمعنى ولم تعمله أيديهم وليس من صنيعهم بل وجدوها معمولة وقيل أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد خلق مثل النيل والفرات ودجلة ) أفلا يشكرون ( يعني نعمة الله تعالى ) سبحان الذي خلق الأزواج كلها ( يعني الأصناف كلها ) مما تنبت الأرض ( أي من الأشجار والثمار والحبوب ) ومن أنفسهم ( يعني الذكر والأنثى ) ومما لا يعلمون ( يعني مما خلق الله تعالى من الأشياء في البر والبحر من الدواب.
قوله عز وجل : ( وآية لهم ( يعني تدلهم على قدرتنا ) الليل نسلخ ( أي ننزع ونكشط ) منه النهار فإذا هم مظلمون ( يعني فإذا هم في الظلمة وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة ) والشمس تجري لمستقر لها ( يعني إلى مستقر لها قيل إلى انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة وقيل تسير في منازلها حتى تنتهي إلى مستقرها , الذي لا تجاوزه ثم ترجع إلى أول منازلها وهو أنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع فذلك مستقرها وقيل مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء.
وقرأ ابن مسعود والشمس تجري لا مستقر لها أي لا قرار ولا وقوف فهي جارية أبداً إلى يوم القيامة وقد صح
(6/8)
صفحة رقم 9
عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه أبو ذر قال ( سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله والشمس تجري لمستقر لها قال مستقرها تحت العرش ) وفي رواية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي ذر حين غربت الشمس ( أتدري أين تذهب الشمس ) قال الله ورسوله أعلم قال ( إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ) فذلك قوله تعالى : ( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ( أخرجاه في الصحيحين , قال الشيخ محيي الدين النووي اختلف المفسرون فيه فقال جماعة بظاهر الحديث.
قال الواحدي فعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع , وقيل تجري إلى وقت لها وأصل لا تتعداه وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وأما سجود الشمس فهو تمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها والله أعلم ) ذلك ( يعني الذي ذكر من جرى الشمس على ذلك التقدير والحساب الذي يكل النظر عن استخراجه وتتحير الأفهام عن استنباطه ) تقدير العزيز ( يعني الغالب بقدرته على كل شيء مقدور ) العليم ( يعني المحيط علماً بكل شيء.
قوله تعالى ( والقمر قدرناه منازل ) يعني قدرنا له منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل كل ليلة ف منزل منها لا يتعداه يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ثم يستنر ليلتين أو ليلة إذا نقض فإذا كان في آخر منازله رق ونفوس فذلك قوله تعالى ( حتى عاد كالعرجون القديم ) وهو العود الذي عليه شماريخ العذق إلى منبته من النخلة والقديم الذي أتى عليه الحول فإذا قدم عنق ويبس وتقوس واصفر فشبه القمر به عند انتهائه إلى آخر منازله ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ) يعني لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه وهو قوله تعالى ( ولا الليل سابق النهار ) يعني هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجئ أحدهما قبل وقته وقيل لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر فلا تطلع الشمس بالليل ولا يطلعع القمر بالنهار وله ضوء فإذا اجتمعا وأدرك أحدهما صاحبه قامت القيامة وقيل معناه أن الشمس لا تجتمع مع القمر في فلك واحد ولا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل ( وكل في فلك يسبحون ) أي الشمس والقمر في فلك يسيرون.
قوله عز وجل ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم ) يعني أولادهم
(6/9)
صفحة رقم 10
( في الفلك المشحون ) يعني المملوء ( وخلقنا لهم من مثله ) يعني مثل الفلك ( ما يركبون ) يعنهي من الإبل وهي سفائن البر وقيل أراد بالفلك المشحون سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ومعنى الآية أن الله عز وجل حمل آباءهم الأقدمين في أصلاب الذين كانوا في السفينة فكانوا ذرية لهم ومنه قول العباس
بل نظفة تركطب السين وقد
ألجم نسرا وأهله الغرق
وإنما ذكر ذريتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأبلغ في التعجب من قدرته فعلى هذا القول يكون قوله من مثله أي من مثل ذلك الفلك ما يركبون أي من السفن والزوارق في الأنهار الكبار والصغار )
يس : ( 43 - 49 ) وإن نشأ نغرقهم...
" وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا من ما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون " ( ) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ( يعني لا مغيث لهم ) ولا هم ينقذون ( يعني ينجون من الغرق قال ابن عباس ولا أحد ينقذهم من عذابي ) إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين ( يعني إلا أن يرحمهم الله ويمتعهم إلى انقضاء آجالهم ) وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم ( قال ابن عباس ) ما بين أيديكم ( يعني الآخرة فاعملوا لها ) وما خلفكم ( يعني الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها.
وقيل ) ما بين أيديكم ( يعني وقائع الله تعالى بمن كان من قبلكم من الأمم ) وما خلفكم ( يعني الآخرة ) لعلكم ترحمون ( أي لتكونوا على رجاء الرحمة وجواب إذا محذوف تقديره وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا ويدل على الحذف قوله تعالى : ( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم ( أي دلالة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلا كانوا عنها معرضين ( قوله عز وجل : ( وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم ( أي مما أعطاكم ) الله ( نزلت في كفار قريش وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله تعالى من أموالكم وهو ما جعلوه لله من حروثهم وأنعامهم ) قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم ( أي أنرزق ) من لو يشاء الله أطعمه ( أي رزقه قيل كان العاص بن وائل السهمي إذا سأله المسكين قال له اذهب إلى ربك فهو أولى مني بك , ويقول قد منعه أفأطعمه أنا ومعنى الآية أنهم قالوا لو أراد الله أن يرزقهم لرزقهم فنحن نوافق مشيئة الله فيهم فلا نطعم من لم يطعمه وهذا مما يتمسك به البخلاء , يقولون لا نعطي من حرمه الله وهذا الذي يزعمون باطل لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء فمنع الدنيا من الفقير لا بخلاً وأعطى الدنيا الغني لا استحقاقاً وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن
(6/10)
صفحة رقم 11
ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له من مال الغني ولا اعتراض لأخذ في مشيئة الله وحكمته في خلقه والمؤمن يوافق أمر الله تعالى وقيل قالوا هذا على سبيل الاستهزاء ) إن أنتم إلا في ضلال مبين ( قيل هو من قول الكفار للمؤمنين ومعناه ما أنتم إلا في خطأ بيِّن باتباعكم محمداً وترك ما نحن عليه , وقيل هو من قول الله تعالى للكفار لما ردوا من جواب المؤمنين ) ويقولون متى هذا الوعد ( يعني يوم القيامة والبعث ) إن كنتم صادقين ( قال الله تعالى : ( ما ينظرون ( أي ينتظرون ) إلا صيحة واحدة ( قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد النفخة الأولى ) تأخذهم وهم يخصمون ( أي في أمر الدنيا من البيع والشراء ويتكلمون في الأسواق والمجالس وفي متصرفاتهم فتأتيهم الساعة أغفل ما كانوا عنها , وقد صح في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال )
يس : ( 50 - 55 ) فلا يستطيعون توصية...
" فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " ( قوله تعالى : ( فلا يستطيعون توصية ( أي لا يقدرون على الإيصاء بل أعجلوا عن الوصية فماتوا ) ولا إلى أهلهم يرجعون ( يعني لا يقدرون على الرجوع إلى أهلهم لأن الساعة لا تمهلهم بشيء ) ونفخ في الصور ( هذه النفخة الثانية وهي نفخة البعث وبين النفختين أربعون سنة
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما بين النفختين أربعون , قالوا يا أبا هريرة أربعين يوماً قال أبيت , قالوا أربعين شهراً قال أبيت , قالوا أربعين سنة قال أبيت ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة ) ) فإذا هم من الأجداث ( أي القبور ) إلى ربهم ينسلون ( أي يخرجون منها أحياء ) قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ( قال ابن عباس إنما يقولون هذا لأن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد الثانية وعاينوا أهوال القيامة دعوا بالويل.
وقيل إذا عاين الكفار جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم فقالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ) هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ( أقروا حين لا ينفعهم الإقرار.
وقيل قالت
(6/11)
صفحة رقم 12
لهم الملائكة ذلك , وقيل يقول الكفار من بعثنا من مرقدنا فيقول المؤمنون هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ) إن كانت إلا صيحة واحدة ( يعني النفخة الأخيرة ) فإذا هم جميع لدينا محضرون ( أي للحساب ) فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ( قوله تعالى : ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل ( قال ابن عباس في افتضاض الأبكار وقيل في زيارة بعضهم بعضاً وقيل في ضيافة الله تعالى , وقيل في السماع وقيل شغلوا بما في الجنة من النعيم عما فيه أهل النار من العذاب الأليم ) فاكهون ( قال ابن عباس فرحون وقيل ناعمون وقيل معجبون بما هم فيه.
)
يس : ( 56 - 60 ) هم وأزواجهم في...
" هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين " ( ) هم وأزواجهم في ظلال ( يعني أكنان القصور ) على الأرائك ( يعني السرر في الحجال ) متكئون ( يعني ذوو اتكاء تحت تلك الظلال ) لهم فيها فاكهة ( أي في الجنة ) ولهم ما يدعون ( يعني ما يتمنون ويشتهون والمعنى أن كل ما يدعون أي أهل الجنة يأتيهم ) سلام قولاً من رب رحيم ( يعني يسلم الله عز وجل عليهم روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله عز وجل ) سلام قولاً من رب رحيم ( ينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم ) وقيل تسلم الملائكة عليهم من ربهم وقيل تدخل الملائكة على أهل الجنة من كل باب يقولون سلام عليكم من ربكم الرحيم وقيل يعطيهم السلامة يقول اسلموا السلام الأبدية ) وامتازوا اليوم أيها المجرمون ( يعني اعتزلوا وانفردوا وتميزوا اليوم من المؤمنين الصالحين وكونوا على حدة , وقيل إن لكل كافر في النار بيتاً فيدخل ذلك البيت ويردم بابه فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى فعلى هذا القول يمتاز بعضهم عن بعض.
قوله عز وجل : ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم ( أي ألم آمركم وأوصيكم يا بني آدم ) أن لا تعبدوا الشيطان ( يعني لا تطيعوه فيما يوسوس ويزين لكم
(6/12)
صفحة رقم 13
من معصية الله ) إنه لكم عدو مبين ( أي ظاهر العداوة.
)
يس : ( 61 - 65 ) وأن اعبدوني هذا...
" وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " ( ) وأن اعبدوني ( أي أطيعوني ووحدوني ) هذا صراط مستقيم ( أي لا صراط أقوم منه قوله تعالى : ( ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً ( أي خلقاً كثيراً ) أفلم تكونوا تعقلون ( يعني ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس ويقال لهم لما دنوا من النار ) هذه جهنم التي كنتم توعدون ( يعني بها في الدنيا ) اصلوها ( يعني ادخلوها ) اليوم بما كنتم تكفرون ( قوله تعالى : ( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ( معنى الآية أن الكفار ينكرون ويجحدون كفرهم وتكذيبهم الرسل , ويقولون والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتنطق جوارحهم ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت عوناً لهم على المعاصي صارت شاهدة عليهم وذلك أن إقرار الجوارح أبلغ من إقرار اللسان.
فإن قلت ما الحكمة في تسمية نطق اليد كلاماً ونطق الرجل شهادة ؟
قلت إن اليد مباشرة والرجل حاضرة وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى وقول الفاعل إقرار على نفسه بما فعل ( م ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ( سأل الناس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال : هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة قالوا لا يا رسول الله قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة قالوا لا قال فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما قال فيلقى العبد ربه فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب , فيقول أفظننت أنك ملاقي , فيقول لا فيقول اليوم أنساك كما نسيتني , ثم يلقى الثاني فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول اليوم أنساك كما نسيتني , ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول هاهنا إذا قال ثم يقول له الآن نبعث شاهدنا عليك فيتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليَّ فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه
(6/13)
صفحة رقم 14
بعمله وذلك الذي يسخط الله عليه ) قوله أي فل يعني يا فلان قوله وأسودك أي أجعلك سيداً قوله وأذرك ترأس أي تتقدم على القوم بأن تصير رئيسهم وتربع أي تأخذ المرباع وهو ما يأخذه رئيس الجيش لنفسه من الغنائم وهو ربعها , وروى ترتع بتاءين أي تتنعم وتنبسط من الرتع قوله وذلك ليعذر من نفسه أي ليقيم الحجة عليها بشهادة أعضائه عليه ( م ) عن أنس بن مالك قال )
يس : ( 66 - 69 ) ولو نشاء لطمسنا...
" ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين " ( ) ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ( أي أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق والمعنى ولو نشاء لأعمينا أعينهم الظاهرة كما أعمينا قلوبهم ) فاستبقوا الصراط ( أي فبادروا إلى الطريق ) فأنى يبصرون ( أي كيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم والمعنى ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى وتركناهم عمياً يترددون فكيف يبصرون الطريق حينئذ وقال ابن عباس يعني لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون ولم نفعل ذلك بهم ) ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم ( يعني ولو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير في منازلهم وقيل لجعلناهم حجارة لا أرواح فيها ) فما استطاعوا مضياً ( أي لا يقدرون أن يبرحوا ) ولا يرجعون ( أي إلى ما كانوا عليه وقيل لا يقدرون على الذهاب ولا الرجوع ) ومن نعمره ننكسه في الخلق ( أي نرده إلى أرذل العمر شبه الصبي في أول الخلق وقيل نضعف جوارحه بعد قوتها وننقصها بعد زيادتها وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان في ضعف من جسده وخلو من عقل وعلم في حال صغره ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال إلى أن بلغ أشده واستكمل قوته وعقله وعلم ما له وما عليه فإذا انتهى إلى الغاية واستكمل النهاية رجع ينقص حتى يرد إلى ضعفه الأول فذلك نكسه في الخلق ) أفلا يعقلون (
(6/14)
صفحة رقم 15
أي فيعتبرون ويعلمون أن الذي قدر على تصريف أحوال الإنسان قادر على البعث بعد الموت قوله عز وجل : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ( قيل إن كفار قريش قالوا إن محمداً شاعر وما يقوله شعر فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم وما علمناه الشعر وما ينبغي له أي ما يسهل له ذلك وما يصلح منه بحيث لو أراد نظم شعر لم يتأت له ذلك كما جعلناه أمياً لا يكتب ولا يحسب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض قال العلماء ما كان يتزن له بيت شعر وإن تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً كما روي عن الحسن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتمثل بهذا البيت : كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً , فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا نبي الله إنما قال الشاعر : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً : أشهد أنك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما علمناه الشعر وما ينبغي له ( هذا حديث مرسل وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وقد قيل لها ) هل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتمثل بشيء من الشعر قالت كان يتمثل بشعر ابن رواحة ويقول : وياتيك بالأخبار من لم تزود (.
أخرجه الترمذي وفي رواية لغيره ) أن عائشة رضي الله تعالى عنها سئلت هل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتمثل بشيء من الشعر قالت كان الشعر أبغض الحديث إليه ولم يتمثل إلا بيت أخي بني قيس طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت
جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم يزود
فجعل يقول ويأيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس هطذا يا رسول الله فقال إني لست بشاعر ول ينبغي لي.
فإن قلت قد صح من حديث جندب بن عبد الله قال بينما نحن منع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أصابعه حجر فدمت أصبعه فقال :
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
أخرجاه في الصحيحين ولهمتا من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال
اللهم إن العيش عيش الآخرة
فأكرم الأنصار والمهاجرة
وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :
0 أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
قلت ما هذا إلا من كلامه الذي يرمي به من غير صنعة فيه ولا تكلف له إلا أنه اتفق كذلك من غير قصد إليع وإن جاء موزونا كما يتفق في كثير من إنشاآت الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوارتهم كلام موزون يدخل في وزن البحور ومع ذلك فإن الخليل لم يعد المشطور من الرجز
(6/15)
صفحة رقم 16
شعرا ولما نفى أ ، يكون القرآن من جنس الشعر قال تعالى ) إن هو إلا ذكر ( يعني ما هو إلا ذكر من الله تعالى يعظ بع الإنس والجن ليس بشعر لأنه ليس على أساليب الشعر ولا يدخل في بحوره ) وقرآ ، مبين ( أي إنه كتاب سماوي يقرأ في المحاريب ويتلي يفي المتعبدات وينال بتلاوته الثواب والدرجات وفيه بيان الحدود والأحكام وبيان الحلال والحرام فكم من بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين ووأقاويل الشعراء الكاذبين )
يس : ( 70 - 78 ) لينذر من كان...
" لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم " ( ) لتنذر ( أي يا محمد وقرىء بالياء أي القرآن ) من كان حياً ( يعني مؤمناً حي القلب لأن الكافر كالميت الذي لا يتدبر ولا يتفكر ) ويحق القول ( أي وتجب حجة العذاب ) على الكافرين ( قوله عز وجل : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا ( أي تولينا خلقه بإبداعنا له من غير إعانة أحد في إنشائه كقول القائل عملت هذا بيدي إذا تفرد به ولم يشاركه فيه أحد وقيل عملناه بقوتنا وقدرتنا وإنما قال ذلك لبدائع الفطرة التي لا يقدر عليها إلا هو ) أنعاماً ( إنما خص الأنعام بالذكر وإن كانت الأشياء كلها من خلق الله تعالى وإيجاده لأن النعم أكثر أموال العرب والنفع بها أعم ) فهم لها مالكون ( أي خلقناها لأجلهم فملكناهم إياها يتصرفون فيها تصرف الملاك.
وقيل معناه فهم لها ضابطون قاهرون ومنه قول بعضهم :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا
أملك رأس البعير إن نفرا
أي لا أضبط رأس البعير والمعنى لم تخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل خلقناها مذللة مسخرة لهم وهو قوله تعالى : ( وذللناها لهم فمنها ركوبهم ( أي الإبل ) ومنها يأكلون ( أي الغنم ) ولهم فيها منافع ( أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها ونسلها ) ومشارب ( أي من ألبانها ) أفلا يشكرون ( أي رب هذه النعم ) واتخذوا من دون الله آلهة ( يعني الأصنام ) لعلهم ينصرون ( أي لتمنعهم من عذاب الله ولا يكون ذلك قط ) لا يستطيعون نصرهم ( قال ابن عباس لا تقدر الأصنام على نصرهم ومنعهم من العذاب ) وهم لهم جند محضرون ( أي الكفار جند الأصنام يغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تستطيع لهم نصراً وقيل هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله ومعه أتباعه الذين عبدوه في الدنيا كأنهم جند محضرون في النار ) فلا يحزنك قولهم ( يعني قول كفار مكة في تكذيبك يا محمد ) إنا نعلم ما يسرون ( أي في ضمائرهم من التكذيب ) وما يعلنون ( أي من عبادة الأصنام وقيل ما يعلنون بألسنتهم من الأذى.
قوله تعالى : ( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة ( أي من نطفة قذرة خسيسة ) فإذا هو خصيم مبين ( أي جدل بالباطل بين الخصومة والمعنى العجب من جهل هذا المخاصم مع مهانة أصله كيف يتصدى لمخاصمة الجبار ويبرز لمجادلته في إنكاره البعث , وكيف لا يتفكر في بدء خلقه وأنه من نطفة قذرة ويدع الخصومة , نزلت في أبي بن خلف الجمحي خاصم
(6/16)
صفحة رقم 17
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في إنكار البعث وأتاه بعظم قد رم وبلي ففتته بيده وقال أترى يحيي الله هذا بعد ما رم فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نعم ويبعثك ويدخلك النار ) فأنزل الله تعالى هذه الآيات ) وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه ( أي بدأ أمره ) قال من يحيي العظام وهي رميم ( أي بالية والمعنى وضرب لنا مثلاً في إنكار البعث بالعظم البالي حين فتته بيده وتعجب ممن يقول إن الله تعالى يحييه ونسي أول خلقه وأنه مخلوق من نطفة.
)
يس : ( 79 - 83 ) قل يحييها الذي...
" قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون " ( ) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ( أي خلقها أول مرة وابتدأ خلقها ) وهو بكل خلق ( أي من الابتداء والإعادة ) عليم ( أي يعلم كيف يخلق لا يتعاظمه شيء من خلق المبدأ أو المعاد ) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً ( قال ابن عباس رضي الله عنهما هما شجرتان يقال لإحداهما المرخ بالراء والخاء المعجمة والأخرى العفار بالعين المهملة فمن أراد النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار فتخرج منهما النار بإذن الله تعالى , تقول العرب في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثر منها وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر ناراً وقال الحكماء في كل شجر نار إلا العناب ) فإذا أنتم منه توقدون ( أي تقدحون فتوقدون النار من ذلك الشجر ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال تعالى : ( أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى ( أي هو القادر على ذلك ) وهو الخلاق ( يعني يخلق خلقاً بعد خلق ) العليم ( أي بجميع ما خلق ) إنما أمره إذا أراد شيئاً ( أي إحداث شيء وتكوينه ) أن يقول له كن ( أن يكونه من غير توقف ) فيكون ( أي فيحدث ويوجد لا محالة ) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ( أي هو مالك كل شيء والمتصرف فيه ) وإليه ترجعون ( أي تردون بعد الموت والله أعلم.
سورة الصافات
( تفسير سورة الصافات مكية )
وهي مائة واثنتان وثمانون آية وثمانمائة وستون كلمة وثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفاً.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
الصافات : ( 1 - 6 ) والصافات صفا
" والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب " ( قوله عز وجل : ( والصافات صفاً ( قال ابن عباس هم الملائكة يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة ( م ) عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا تصفون كما
(6/17)
صفحة رقم 18
تصف الملائكة عند ربهم قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم قال يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف ) لفظ أبي داود , وقيل هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد وقيل أراد بالصافات الطير تصف أجنحتها في الهواء ) فالزاجرات زجراً ( يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه وقيل هي زواجر القرآن تنهى وتزجر عن القبيح ) فالتاليات ذكراً ( يعني الملائكة يتلون ذكر الله تعالى وقيل هم قرَّاء القرآن وهذا كله قسم أقسم الله عز وجل بهذه الأشياء وقيل فيه إضمار تقديره ورب الصافات والزاجرات والتاليات وجواب القسم قوله تعالى : ( إن إلهكم لواحد ( وذلك أن كفار مكة قالوا أجعل الآلهة إلهاً واحداً فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على شرف ذواتها وكمال مراتبها والرد على عبدة الأصنام في قولهم ثم وصف نفسه فقال تعالى : ( رب السموات والأرض وما بينهما ( يعني أنه المالك القادر العالم المنزه عن الشريك.
وقوله ) ورب المشارق ( قيل أراد والمغارب فاكتفى بأحدهما قال السدي المشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً وكذلك المغارب فإن الشمس تطلع كل يوم في مشرق وتغرب في مغرب.
فإن قلت قد قال في موضع آخر رب المشرق ورب المغربين وقال رب المشرق والمغرب فكيف وجه الجمع بين هذه الآيات.
قلت أراد بالمشرق والمغرب الجهة التي تطلع فيها الشمس وتغرب وأراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء , وبالمغربين مغرب الصيف ومغرب الشتاء وبالمشارق والمغارب ما تقدم من قول السدي وقيل كل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه فهو مغرب وقيل أراد مشارق الكواكب.
قوله تعالى : ( إنا زينا السماء الدنيا ( يعني التي تلي الأرض وهي أدنى السموات إلى الأرض ) بزينة الكواكب ( قال ابن عباس بضوء الكواكب لأن الضوء والنور من أحسن الصفات وأكملها ولو لم تحصل هذه الكواكب في السماء لكانت شديدة الظلمة عند غروب الشمس , وقيل زينتها أشكالها المتناسبة والمختلفة في الشكل كشكل الجوزاء وبنات نعش وغيرها.
وقيل إن الإنسان إذا نظر في الليلة المظلمة إلى السماء ورأى هذه الكواكب الزواهر مشرقة متلألئة على سطح أزرق نظر غاية الزينة.
)
الصافات : ( 7 - 11 ) وحفظا من كل...
" وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب " ( ) وحفظاً من كل شيطان مارد ( أي وحفظنا السماء من كل شيطان متمرد عات يرمون بالشهب ) لا يسمعون
(6/18)
صفحة رقم 19
إلى الملأ الأعلى ( يعني إلى الملائكة والكتبة لأنهم سكان السماء وذلك أن شياطين يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة فيخبرون به أولياءهم الإنس ويوهمون بذلك أنهم يعلمون الغيب فمنعهم الله من ذلك بهذه الشهب وهو قوله تعالى : ( ويقذفون ( أي يرمون بها ) من كل جانب ( أي آفاق السماء ) دحوراً ( أي يبعدونهم عن مجالس الملائكة ) ولهم عذاب واصب ( أي دائم ) إلا من خطف الخطفة ( أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة ) فأتبعه ( أي لحقه ) شهاب ثاقب ( أي كوكب مضيء قوي لا يخطئه بل يقتله ويحرقه أو يخبله.
وقيل سمي النجم الذي ترمى به الشياطين ثاقباً لأنه يثقبهم.
فإن قلت كيف يمكن أن تذهب الشياطين إلى حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم ثم يعودون إلى مثل ذلك.
قلت إنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم أنهم لا يصلون إليه طمعاً في السلامة ورجاء نيل المقصود كراكب البحر يغلب على ظنه حصول السلامة.
وقوله عز وجل : ( فاستفتهم ( يعني سل أهل مكة ) أهم أشد خلقاً أم من خلقنا ( يعني من السموات والأرض والجبال وهو استفهام تقرير أي هذه الأشياء أشد خلقاً , وقيل ) أم من خلقنا ( يعني من الأمم الخالية والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بذنوبهم فما الذي يؤمن هؤلاء من العذاب.
ثم ذكر مم خلقوا فقال الله تعال : ( إنا خلقناهم من طين لازب ( يعني آدم من طين جيد حر لاصق لزج يعلق باليد وقيل من طين نتن.
)
الصافات : ( 12 - 19 ) بل عجبت ويسخرون
" بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون " ( ) بل عجبت ( قرىء بالضم على إسناد التعجب إلى الله تعالى وليس هو كالتعجب من الآدميين لأن العجب من الناس محمول على إنكار الشيء وتعظيمه والعجب من الله تعالى محمول على تعظيم تلك الحالة فإن كانت قبيحة فيترتب عليها العقاب وإن كانت حسنة فيترتب عليها الثواب , وقيل قد يكون بمعنى الإنكار والذم وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث ( عجب ربكم من شاب ليست له صبوة ) وفي حديث آخر ( عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم ) , وقوله من إلكم الإل أشد القنوط وقيل هو رفع الصوت بالبكاء.
وسئل الجنيد رحمه الله تعالى عن هذه الآية فقال إن الله لا يعجب من شيء ولكن وافق رسوله ولما عجب رسوله قال : ( وإن تعجب فعجب قولهم ( " أي هو كما تقوله وقرئ بفتح التاء على أنه خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي عجبت من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك وقيل عجب نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن وسخروا منه ولم يؤمنوا به عجب
(6/19)
صفحة رقم 20
من ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الله تعالى ) بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون ( أي وإذا وعظوا لا يتعظون ) وإذا رأوا آية ( قال ابن عباس يعني انشقاق القمر ) يستسخرون ( أي يستهزئون.
وقيل يستدعي بعضهم بعضاً إلى أن يسخر ) وقالوا إن هذا إلا سحر مبين ( أي بيِّن ) أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون ( أي صاغرون ) فإنما هي زجرة واحدة ( أي صيحة واحدة وهي نفخة البعث ) فإذا هم ينظرون ( يعني أحياء.
)
الصافات : ( 20 - 26 ) وقالوا يا ويلنا...
" وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون " ( ) وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين ( يعني يوم الحساب والجزاء ) هذا يوم الفصل ( أي القضاء وقيل بين المحسن والمسيء ) الذي كنتم به تكذبون ( أي في الدنيا ) احشروا ( أي اجمعوا ) الذين ظلموا ( أي أشركوا وقيل هو عام في كل ظالم ) وأزواجهم ( أي أشباههم وأمثالهم فكل طائفة مع مثلها فأهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنا مع أهل الزنا وقيل أزواجهم أي قرناءهم من الشياطين يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة وقيل أزواجهم المشركات ) وما كانوا يعبدون من دون الله ( أي في الدنيا يعني الأصنام والطواغيت وقيل إبليس وجنوده ) فاهدوهم إلى صراط الجحيم ( قال ابن عباس أي دلوهم إلى طريق النار ) وقفوهم ( أي احبسوهم ) إنهم مسؤولون ( لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط للسؤال قال ابن عباس عن جميع أقوالهم وأفعالهم ويروى عنه عن لا إله إلا الله وروى عن أبي برزة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه ) وفي رواية.
( عن شبابه فيما أبلاه ) أخرجه الترمذي وله عن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قال ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً يوم القيامة لازماً به لا يفارقه وإن دعا رجل رجلاً ) ثم قرأ ) وقفوهم إنهم مسؤولون ما لكم لا تناصرون ( أي تقول لهم خزنة جهنم توبيخاً لهم ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً وهذا جواب لأبي جهل حيث قال يوم بدر نحن جميع منتصر قال الله تعالى : ( بل هم اليوم مستسلمون ( قال
(6/20)
صفحة رقم 21
ابن عباس خاضعون.
وقيل منقادون والمعنى هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم.
)
الصافات : ( 27 - 37 ) وأقبل بعضهم على...
" وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين " ( ) وأقبل بعضهم على بعض ( يعني الرؤساء والأتباع ) يتساءلون ( يعني يتخاصمون ) قالوا ( يعني الرؤساء للأتباع ) إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ( يعني من قبل الدين فتضلوننا وتروننا أن الدين ما تضلوننا به.
وقيل كان الرؤساء يحلفون لهم أن الدين الذي يدعونهم إليه هو الحق والمعنى أنكم حلفتم لنا فوثقنا بأيمانكم وقيل عن اليمين أي عن العزة والقدرة والقول الأول أصح ) قالوا ( يعني الرؤساء للأتباع ) بل لم تكونوا مؤمنين ( يعني لم تكونوا على حق حتى نضلكم عنه بل كنتم على الكفر ) وما كان لنا عليكم من سلطان ( يعني من قوة وقدرة فنقهركم على متابعتنا ) بل كنتم قوماً طاغين ( يعني ضالين ) فحق علينا ( يعني وجب علينا جميعاً ) قول ربنا ( يعني كلمة العذاب وهي قوله ) لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( ) إنا لذائقون ( يعني أن الضال والمضل جميعاً في النار ) فأغويناكم ( فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه ) إنا كنا غاوين ( أي ضالين قال الله تعالى : ( فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون ( يعني الرؤساء والأتباع ) إنا كذلك نفعل بالمجرمين ( قال ابن عباس الذين جعلوا لله شركاء ثم بين تعالى أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب باستكبارهم عن التوحيد فقال تعالى : ( إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ( أي يتكبرون عن كلمة التوحيد ويمتنعون منها ) ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ( يعنون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) قال الله تعالى رداً عليهم ) بل جاء بالحق وصدق المرسلين ( يعني أنه أتى بما أتى به المرسلون قبله من الدين والتوحد ونفي الشرك.
)
الصافات : ( 38 - 49 ) إنكم لذائقوا العذاب...
" إنكم لذائقوا العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون " ( ) إنكم لذائقوا العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ( أي في الدنيا من الشرك والتكذيب ) إلا ( أي لكن وهو استثناء منقطع ) عباد الله المخلصين ( أي الموحدين ) أولئك لهم رزق معلوم ( يعني بكرة وعشياً وقيل حين يشتهونه يؤتون به وقيل إنه معلوم الصفة من طيب طعم ولذة ورائحة وحسن منظر ثم وصف ذلك الرزق فقال تعالى : ( فواكه ( جمع فاكهة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها وكل طعام يؤكل للتلذذ لا للقوت.
وقيل إن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأن أجسادهم خلقت للأبد فكل ما يأكلونه على سبيل التلذذ ثم إن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم كما قال تعالى : ( وهم مكرمون ( أي بثواب الله تعالى ثم وصف مساكنهم فقال تعالى : ( في جنات النعيم على سرر متقابلين ( يعني لا يرى بعضهم قفا بعض ثم وصف شرابهم فقال
(6/21)
صفحة رقم 22
تعالى : ( يطاف عليهم بكأس من معين ( كل إناء فيه شراب يسمى كأساً وإذا لم يكن فيه شراب فهو إناء وقد تسمى الخمر نفسها كأساً قال الشاعر :
89 ( وكأساً شربت على لذة ) 89
ومعنى معين أي من خمر جارية في الأنهار ظاهرة تراها العيون ) بيضاء ( يعني أن خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن ) لذة ( أي لذيذة ) للشاربين لا فيها غول ( أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها وقيل لا إثم فيها ولا وجع البطن ولا صداع وقيل الغول فساد يلحق في خفاء وخمر الدنيا يحصل منها أنواع من الفساد ومنها السكر وذهاب العقل ووجع البطن وصداع الرأس والبول والقيء والخمار والعربدة وغير ذلك ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة ) ولا هم عنها ينزفون ( أي لا تغلبهم على عقولهم ولا يسكرون وقيل معناه لا ينفد شرابهم ثم وصف أزواجهم فقال تعالى : ( وعندهم قاصرات الطرف ( أي حابسات الأعين غاضات العيون قصرن أعينهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ) عين ( أي حسان الأعين عظامها ) كأنهن بيض مكنون ( أي مصون مستور شبههن ببيض النعام لأنها تكنها بالريش من الريح والغبار فيكون لونها أبيض في صفرة ويقال هذا من أحسن ألوان النساء وهو أن تكون المرأة بيضاء مشوبة بصفرة والعرب تشبه المرأة ببيض النعامة وتسميهن ببيضات الخدور.
)
الصافات : ( 50 - 62 ) فأقبل بعضهم على...
" فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم " ( قوله عز وجل : ( فأقبل بعضهم على بعض ( يعني أهل الجنة في الجنة ) يتساءلون ( أي يسأل بعضهم بعضاً عن حاله في الدنيا ) قال قائل منهم ( أي من أهل الجنة ) إني كان لي قرين ( أي في الدنيا ينكر البعث قيل كان قرينه شيطاناً وقيل كان من الإنس قيل كانا أخوين وقيل كانا شريكين أحدهما كافر اسمه قطروس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وهما اللذان قص الله عز وجل خبرهما في سورة الكهف في قوله : ( واضرب لهم مثلاً رجلين ( " يقول أئنك لمن المصدقين ( أي بالبعث ) أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون ( أي مجزيون ومحاسبون وهذا استفهام إنكاري ) قال ( الله تعالى لأهل الجنة ) هل أنتم مطلعون ( أي إلى النار وقيل يقول المؤمن لإخوانه من أهل الجنة هل أنتم مطلعون أي لننظر كيف منزلة أخي في النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به منا ) فاطلع ( أي المؤمن قال ابن عباس إن في الجنة كوى ينظر منها أهلها إلى النار ) فرآه في سواء الجحيم ( أي فرأى قرينه في وسط النار سمي وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب
(6/22)
صفحة رقم 23
منه ) قال تالله إن كدت لتردين ( أي والله لقد كدت أن تهلكني وقيل تغويني ومن أغوى إنساناً فقد أرداه وأهلكه ) ولولا نعمة ربي ( أي رحمة ربي وإنعامه علي بالإسلام ) لكنت من المحضرين ( أي معك في النار ) أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى ( أي في الدنيا ) وما نحن بمعذبين ( قيل يقول هذا أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت فتقول الملائكة لهم لا فيقولون ) إن هذا لهو الفوز العظيم ( وإنما يقولونه على جهة التحدث بنعمة الله عليهم في أنهم لا يموتون ولا يعذبون ليفرحوا بدوام النعيم لا على طريق الاستفهام لأنهم قد علموا أنهم ليسوا بميتين ولا معذبين ولكن أعادوا الكلام ليزدادوا سروراً بتكراره وقيل يقوله المؤمن لقرينه على جهة التوبيخ بما كان ينكره قال الله تعالى : ( لمثل هذا ( أي المنزل والنعيم الذي ذكره في قوله : ( أولئك لهم رزق معلوم ( ) فليعمل العاملون ( هذا ترغيب في ثواب الله تعالى وما عنده بطاعته.
قوله تعالى : ( أذلك ( أي الذي ذكره لأهل الجنة من النعيم ) خير نزلاً أي رزقاً ) أم شجرة الزقوم ( التي هي نزل أهل النار والزقوم شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم يكره أهل النار على تناولها فهم يتزقمونه على أشد كراهة وقيل هي شجرة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر.
)
الصافات : ( 63 - 74 ) إنا جعلناها فتنة...
" إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلا عباد الله المخلصين " ( ) إنا جعلناها فتنة للظالمين ( أي للكافرين وذلك أنهم قالوا كيف تكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر , وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش إن محمداً يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان بربر الزبد والتمر , وقيل هو بلغة أهل اليمن فأدخلهم أبو جهل بيته وقال يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال أبو جهل تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد فقال الله تعالى : ( إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ( أي في قعر النار وأغصانها ترتفع إلى دركاتها ) طلعها ( أي ثمرها سمي طلعاً لطلوعه ) كأنه رؤوس الشياطين ( قال ابن عباس هم الشياطين بأعيانهم شبهها لقبحهم عند الناس.
فإن قلت قد شبهها بشيء لم يشاهد فكيف وجه التشبيه.
قلت إنه قد استقر في النفوس قبح الشياطين وإن لم يشاهدوا فكأنه قيل إن أقبح الأشياء في الوهم والخيال رؤوس الشياطين فهذه الشجرة تشبهها في قبح المنظر والعرب إذا رأت منظراً قبيحاً قالت كأنه رأس شيطان قال امرؤ القيس :
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
شبَّه سنان الرمح بأنياب الغول ولم يرها وقيل إن بين مكة واليمن شجرة قبيحة منتنة تسمى رؤوس الشياطين فشبهها بها وقيل أراد بالشياطين الحيات والعرب تسمي الحية القبيحة المنظر شيطاناً ) فإنهم لآكلون منها ( أي من ثمرها ) فمالئون منها البطون ( وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم
(6/23)
صفحة رقم 24
) ثم إن لهم عليها لشوباً ( أي خلطاً ومزاجاً ) من حميم ( أي من ماء شديد الحرارة يقال إنهم إذا أكلوا الزقوم وشربوا عليه الحميم شاب الحميم الزقوم في بطونهم فصار شوباً لهم ) ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ( وذلك أنهم يردون إلى الجحيم بعد شراب الحميم ) إنهم ألفوا ( أي وجدوا ) آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون ( أي يسرعون وقيل يعملون مثل عملهم ) ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ( أي من الأمم الخالية ) ولقد أرسلنا فيهم منذرين ( أي وأرسلنا فيهم رسلاً منذرين ) فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ( أي الكافرين وكانت عاقبتهم العذاب ) إلا عباد الله المخلصين ( أي الموحدين نجوا من العذاب والمعنى انظر كيف أهلكنا المنذرين إلا عباد الله المخلصين.
)
الصافات : ( 75 - 91 ) ولقد نادانا نوح...
" ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون " ( قوله عز وجل : ( ولقد نادانا نوح ( أي دعا ربه على قومه وقيل دعا ربه أن ينجيه من الغرق ) فلنعم المجيبون ( نحن أي دعانا فأجبناه وأهلكنا قومه ) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم ( أي من الغم الذي لحق قومه وهو الغرق ) وجعلنا ذريته هم الباقين ( يعني أن الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام قال ابن عباس لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم , عن سمرة بن جندب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قول الله عز وجل ) وجعلنا ذريته هم الباقين ( قال ( هم سام وحام ويافث ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وفي رواية أخرى سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم وقيل سام أبو العرب وفارس والروم وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك ) وتركنا عليه في الآخرين ( أي أبقينا له حسناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة ) سلام على نوح في العالمين ( أي سلام عليه منا في العالمين وقيل تركنا عليه في الآخرين أن يصلي عليه إلى يوم القيامة ) إنا كذلك نجزي المحسنين ( أي جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين , ) إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين ( يعني الكفار.
قوله عز وجل : ( وإن من شيعته ( أي من شيعة نوح ) لإبراهيم ( يعني أنه على دينه وملته ومنهاجه وسنته ) إذ جاء ربه بقلب سليم ( أي مخلص من الشرك والشك وقيل من الغل والغش والحقد والحسد يحب للناس ما يحب لنفسه ) إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ( استفهام توبيخ ) أئفكاً آلهة دون الله تريدون ( أي أتأفكون إفكاً وهو أسوأ الكذب وتعبدون آلهة سوى الله تعالى : ( فما ظنكم برب العالمين ( يعني إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره أنه يصنع بكم ) فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ( قال ابن عباس كان قومه
(6/24)
صفحة رقم 25
يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا يتعاطون ويتعاملون به لئلا ينكروا عليه , وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة , وكان لهم من الغد عيد ومجمع فكانوا يدخلون على أصنامهم ويقربون لهم القرابين ويضعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم وزعموا التبرك عليه فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه فقالوا لإبراهيم ألا تخرج معنا إلى عيدنا فنظر في النجوم فقال إني سقيم قال ابن عباس أي مطعون وكانوا يفرون من المطعون فراراً عظيماً وقيل مريض وقيل معناه متساقم وهو من معاريض الكلام وقد تقدم الجواب عنه في سورة الأنبياء وقيل إنه خرج معهم إلى عيدهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي ) فتولوا عنه مدبرين ( أي إلى عيدهم فدخل إبراهيم عليه الصلاة والسلام على الأصنام فكسرها وهو قوله تعالى : ( فراغ ( أي مال ) إلى آلهتهم ( ميلة في خفية ) فقال ( أي للأصنام استهزاء بها ) ألا تأكلون ( يعني الطعام الذي بين أيديكم.
)
الصافات : ( 92 - 99 ) ما لكم لا...
" ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين " ( ) ما لكم لا تنطقون فراغ ( أي مال ) عليهم ضرباً باليمين ( أي ضربهم بيده اليمنى لأنها أقوى من الشمال في العمل.
وقيل بالقوة والقدرة عليهم وقيل أراد باليمين القسم وهو قوله تعالى ) وتالله لأكيدن أصنامكم ( ) فأقبلوا إليه ( يعني إلى إبراهيم ) يزفون ( أي يسرعون وذلك أنهم أخبروا بصنع إبراهيم بآلهتهم فأسرعوا إليه ليأخذوه ) قال ( لهم إبراهيم على وجه الحجاج ) أتعبدون ما تنحتون ( أي بأيديكم من الأصنام ) والله خلقكم وما تعملون ( أي وعملكم.
وقيل وخلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام وفي الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ) قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم ( قيل إنهم بنوا له حائطاً من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملؤوه من الحطب وأوقدوا عليه النار وطرحوه فيها وهو قوله تعالى : ( فأرادوا به كيداً ( أي شراً وهو أن يحرقوه ) فجعلناهم الأسفلين ( يعني المقهورين حيث سلم الله إبراهيم ورد كيدهم ) وقال ( يعني إبراهيم ) إني ذاهب إلى ربي ( أي مهاجر إلى ربي وأهجر دار الكفر قاله بعد خروجه
(6/25)
صفحة رقم 26
من النار ) سيهدين ( أي إلى حيث أمرني بالمصير إليه وهو أرض الشام فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد.
)
الصافات : ( 100 - 103 ) رب هب لي...
" رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين " ( ) رب هب لي من الصالحين ( يعني هب لي ولداً صالحاً ) فبشرناه بغلام حليم ( قيل غلام في صغره حليم في كبره وفيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش وينتهي في السن حتى يوصف بالحلم.
قوله تعالى : ( فلما بلغ معه السعي ( قال ابن عباس يعني المشي معه إلى الجبل وعنه أنه لما شبَّ حتى بلغ سعيه سعى مع إبراهيم , والمعنى بلغ أن يتصرف معه ويعينه في عمله وقيل السعي العمل لله تعالى وهو العبادة قيل كان ابن ثلاث عشرة سنة وقيل سبع سنين ) قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ( قيل إنه لم ير في منامه أنه ذبحه وإنما أمر بذبحه.
وقيل بل رأى أنه يعالج ذبحه ولم ير إراقة دمه ورؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئاً فعلوه واختلف العلماء من المسلمين في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم بذبحه على قولين مع اتفاق أهل الكتابين على أنه إسحاق , قال قوم هو إسحاق وإليه ذهب من الصحابة عمر وعلي وابن مسعود والعباس ومن التابعين , ومن بعدهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي واختلفت الروايات عن ابن عباس فروى عنه أنه إسحاق وروي أنه إسماعيل , ومن ذهب إلى أنه إسحاق قال كانت هذه القصة بالشأم وروي عن سعيد بن جبير قال رأى إبراهيم ذبح إسحاق في المنام وهو بالشأم فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر من منى فلما أمره الله بذبح الكبش ذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة طويت له الأودية والجبال , والقول الثاني أنه إسماعيل وإليه ذهب عبد الله بن سلام والحسن وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي ورواية عطاء بن أبي رباح ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال المفدي إسماعيل , وكلا القولين يروى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واحتج من ذهب إلى أن الذبيح إسحاق بقوله تعالى : ( فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي ( أمر بذبح من بشر به وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحاق كما قال تعالى في سورة هود : ( فبشرناه بإسحاق ( " وقوله ) وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين ( " بعد قصة الذبح يدل على أنه تعالى إنما بشره بالنبوة لما تحمل من الشدائد في قصة الذبح فثبت بما ذكرناه أن أول الآية وآخرها يدل على أن إسحاق هو الذبيح وبما ذكر أيضاً في كتاب يعقوب إلى ولده يوسف لما كان بمصر من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
واحتج من ذهب إلى أن الذبيح هو إسماعيل بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصة الذبيح فقال تعالى : ( وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين ( " فدل على أن المذبوح غيره وأيضاً فإن الله تعالى قال في سورة هود ) فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( " فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة وهو يعقوب بعده ووصف إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله ) وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ( " وهو صبره على الذبح ووصفه بصدق الوعد بقوله : ( إنه كان صادق الوعد ( " لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى له بذلك وقال القرطبي سأل عمر بن عبد العزيز رجلاً من علماء اليهود وكان أسلم وحسن إسلامه أي ابني إبراهيم أمره الله تعالى بذبحه فقال إسماعيل ثم قال يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك ولكن يحسدونكم يا معشر العرب على أن يكون أباكم هو الذي أمر الله تعالى بذبحه ويدعون أنه إسحاق أبوهم ومن الدليل أيضاً أن قرني الكبش كانا معلقين
(6/26)
صفحة رقم 27
على الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت في زمن ابن الزبير.
قال الشعبي رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة.
وقال ابن عباس : والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة وقد وحش يعني يبس وقال الأصمعي سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل ؟ فقال يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة إنما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه والله تعالى أعلم.
( ذكر الإشارة إلى قصة الذبح )
قال العلماء بالسير وأخبار الماضين لما دعا إبراهيم ربه فقال : رب هب لي من الصالحين وبشر به قال هو إذاً لله ذبيح , فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له أوفِ بنذرك.
هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بالذبح فقال لإسحاق انطلق نقرب لله قرباناً فأخذ سكيناً وحبلاً وانطلق معه حتى ذهب بين الجبال فقال الغلام يا أبت أين قربانك فقال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى , قال يا أبت افعل ما تؤمر.
وقال محمد بن إسحاق كان إبراهيم عليه السلام إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يؤمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته أمر في المنام بذبحه وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلما أصبح تروى في نفسه أي فكر من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان ؟ فمن ثم سمي ذلك اليوم يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانياً فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى فسمي ذلك اليوم يوم عرفة.
وقيل رأى ذلك ثلاث ليال متتابعات فلما عزم على نحره سمي ذلك اليوم يوم النحر فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه فقال يا بني إني
(6/27)
صفحة رقم 28
أرى في المنام أني أذبحك ) فانظر ماذا ترى ( أي في الرأي على وجه المشاورة.
فإن قلت : لم شاوره في أمر قد علم أنه حتم من الله تعالى وما الحكمة في ذلك.
قلت لم يشاوره ليرجع إلى رأيه وإنما شاوره ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله تعالى وليعلم صبره على أمر الله وعزيمته على طاعته ويثبت قدمه ويصبره إن جزع ويراجع نفسه ويوطنها ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله.
فإن قلت لم كان ذلك في المنام دون اليقظة وما الحكمة في ذلك ؟ قلت إن هذا الأمر كان في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح.
فورد في المنام كالتوطئة له ثم تأكد حال النوم بأحوال اليقظة فإذا تظاهرت الحالتان كان أقوى في الدلالة ورؤيا الأنبياء وحي وحق ) قال يا أبت افعل ما تؤمر ( يعني قال الغلام لأبيه افعل ما أمرت به قال ابن إسحاق وغيره لما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق إلى هذا الشعب نحتطب فلما خلا إبراهيم بابنه في الشعب أخبره بما أمر الله به فقال افعل ما تؤمر ) ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( إنما علق ذلك بمشيئة الله تعالى على سبيل التبرك وأنه لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمة الله تعالى ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ) فلما أسلما ( يعني انقادا وخضعا لأمر الله وذلك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أسلم ابنه وأسلم الابن نفسه ) وتله للجبين ( يعني صرعه على الأرض قال ابن عباس أضجعه على جبينه على الأرض فلما فعل ذلك قال له ابنه يا أبت أشدد رباطي كيلاً أضطرب واكفف عن ثيابك حتى لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن واستحد شفرتك وأسرع مرَّ السكين على حلقي ليكون أهون عليّ فإن الموت شديد , وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني , فقال إبراهيم عليه السلام : نعم العون أنت يا بني على أمر الله ففعل إبراهيم ما أمره به ابنه ثم أقبل عليه يقبله وهو يبكي وقد ربطه
(6/28)
صفحة رقم 29
والابن يبكي ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تحك شيئاً.
ثم إنه حدها مرتين أو ثلاثاً بالحجر كل ذلك لا يستطيع أن يقطع شيئاً.
قيل ضرب الله تعالى صفيحة من نحاس على حلقه والأول أبلغ في القدرة وهو منع الحديد عن اللحم , قالوا فقال الابن عند ذلك : يا أبت كبني لوجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله تعالى وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع منها ففعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت ونودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
)
الصافات : ( 104 - 106 ) وناديناه أن يا...
" وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين " ( ) وناديناه ( أي فنودي من الجبل ) أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ( أي حصل المقصود من تلك الرؤيا حيث ظهر منه كمال الطاعة والانقياد لأمر الله تعالى وكذلك الولد.
فإن قلت كيف قيل قد صدقت الرؤيا وكان قد رأى الذبح ولم يذبح وإنما كان تصديقها لو حصل منه الذبح.
قلت جعله مصدقاً لأنه بذل وسعه ومجهوده وأتى بما أمكنه وفعل ما يفعله الذابح فقد حصل المطلوب وهو إسلامهما لأمر الله تعالى وانقيادهما لذلك , فلذلك قال له قد صدقت الرؤيا ) إنا كذلك نجزي المحسنين (
(6/29)
صفحة رقم 30
يعني جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ولده والمعنى إنا كما عفونا عن ذبح ولده كذلك نجزي المحسنين في طاعتنا ) إن هذا لهو البلاء المبين ( أي الاختبار الظاهر حيث اختبره بذبح ولده.
)
الصافات : ( 107 - 116 ) وفديناه بذبح عظيم
" وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين " ( ) وفديناه بذبح عظيم ( قيل نظر إبراهيم فإذا هو بجبريل ومعه كبش أملح أقرن فقال هذا فداء ابنك فاذبحه دونه فكبر إبراهيم وكبر جبريل وكبر الكبش , فأخذه إبراهيم وأتى به المنحر من منى فذبحه قال أكثر المفسرين كان هذا الذبح كبشاً رعى في الجنة أربعين خريفاً وقال ابن عباس الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قربه ابن آدم قيل حق له أن يكون عظيماً وقد تقبل مرتين وقيل سمي عظيماً لأنه من عند الله تعالى.
وقيل لعظمه في الثواب وقيل لعظمه وسمنه وقال الحسن ما فدى إسماعيل إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير ) وتركنا عليه في الآخرين ( أي تركنا له ثناء حسناً فيمن بعده ) سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ( قوله تعالى : ( وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين ( أي بوجود إسحاق وهذا على قول من يقول إن الذبيح هو إسماعيل ومعناه أنه بشر بإسحاق بعد هذه القصة جزاءً لطاعته وصبره ومن جعل الذبيح هو إسحاق قال معنى الآية وبشرناه بنبوة إسحاق.
وكذا روى عن ابن عباس قال بشر به مرتين حين ولد وحين نبىء ) وباركنا عليه ( يعني على إبراهيم في أولاده ) وعلى إسحاق ( أي يكون أكثر الأنبياء من نسله ) ومن ذريتهما محسن ( أي مؤمن ) وظالم لنفسه ( أي كافر ) مبين ( أي ظاهر الكفر , وفيه تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن.
قوله عز وجل : ( ولقد مننا على موسى وهارون ( أي أنعمنا عليهما بالنبوة والرسالة ) ونجيناهما وقومهما ( يعني بني إسرائيل ) من الكرب العظيم ( يعني الذي كانوا فيه من استبعاد فرعون إياهم وقيل هو إنجاؤهم من الغرق ) ونصرناهم ( يعني موسى وهارون وقومهما ) فكانوا هم الغالبين ( أي على القبط.
)
الصافات : ( 117 - 123 ) وآتيناهما الكتاب المستبين
" وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين وإن إلياس لمن المرسلين " ( ) وآتيناهما الكتاب ( يعني التوراة ) المستبين ( المستنير ) وهديناهما الصراط المستقيم ( أي دللناهما على طريق الجنة ) وتركنا عليهما في الآخرين ( أي الثناء الحسن ) سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين ( قوله عز وجل : ( وإن الياس لمن المرسلين ( روي عن ابن مسعود أنه قال إلياس هو إدريس وكذلك هو في مصحفه وقال أكثر المفسرين هو نبي من أنبياء بني إسرائيل قال ابن عباس هو ابن عم اليسع وقال محمد
(6/30)
صفحة رقم 31
بن إسحاق هو الياس بن بشر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.
( ذكر الإشارة إلى القصة )
قال محمد بن إسحاق وعلماء السير والأخبار لما قبض الله عز وجل حزقيل النبي عليه الصلاة والسلام عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك ونصبوا الأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل , فبعث الله عز وجل إليهم إلياس نبياً وكان الأنبياء يبعثون من بعد موسى عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل بتجديد ما نسوا من أحكام التوراة وكان يوشع لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل وإن سبطاً منهم حصل في قسمته بعلبك ونواحيها وهم الذين بعث إليهم إلياس وعليهم يومئذ ملك اسمه آجب وكان قد أضل قومه وجبرهم على عبادة الأصنام وكان له صنم من ذهب طوله عشرون ذراعاً وله أربعة وجوه اسمه بعل وكانوا قد فتنوا به وعظموه وجعلوا له أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء فكان الشيطان يدخل في جوف بعل
(6/31)
صفحة رقم 32
ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها عنه ويبلغونها الناس وهم أهل بعلبك وكان إلياس يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل وهم لا يسمعون له ولا يؤمنون به إلا ما كان من أمر الملك فإنه آمن به وصدقه , فكان إلياس يقوم بأمره ويسدده ويرشده وكان للملك امرأة جبارة وكان يستخلفها على ملكه إذا غاب فغصبت من رجل مؤمن جنينة كان يتعيش منها فأخذتها وقتلته فبعث الله سبحانه وتعالى إلياس إلى الملك وزوجته وأمره أن يخبرهما أن الله عز وجل قد غضب لوليه حين قتل ظلماً وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ويرد الجنينة على ورثة المقتول أهلكهما في جوف الجنينة ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها ولا يتمتعان فيها إلا قليلاً , فجاء إلياس فأخبر الملك بما أوحى الله إليه في أمره وأمر امرأته والجنينة فلما سمع الملك ذلك غضب واشتد غضبه عليه وقال يا إلياس والله ما أرى ما تدعونا إليه إلا باطلاً , وهمَّ بتعذيب إلياس وقتله فلما أحس إلياس بالشر رفضه وخرج عنه هارباً ورجع الملك إلى
(6/32)
صفحة رقم 33
عبادة بعل ولحق إلياس بشواهق الجبال فكان يأوي إلى الشعاب والكهوف فبقي سبع سنين على ذلك خائفاً مستخفياً يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه وقد وضعوا عليه العيون والله يستره منهم : فلما طال الأمر على إلياس وسكنى الكهوف في الجبال وطال عصيان قومه ضاق بذلك ذرعاً فأوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه ألست أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي سلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم , قال يا رب تميتني وتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني فأوحى الله تعالى إليه يا إلياس ما هذا باليوم الذي أعرى منك الأرض وأهلها وإنما صلاحها وقوامها بك وبأشباهك وإن كنتم قليلاً ولكن سلني أعطك فقال إلياس إن لم تمتني فأعطني ثأري من بني إسرائيل قال الله عز وجل وأي شيء تريد أن أعطيك , قال تملكني خزائن السماء سبع سنين فلا تسير عليهم سحابة إلا بدعوتي ولا تمطر عليهم قطرة إلا بشفاعتي
(6/33)
صفحة رقم 34
فإنه لا يذلهم إلا ذلك قال الله عز وجل يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين , قال فست سنين قال أنا أرحم بخلقي من ذلك قال فخمس سنين قال أنا أرحم بخلقي ولكن أعطيك ثأرك ثلاث سنين أجعل خزائن المطر بيدك قال إلياس فبأي شيء أعيش يا رب قال أسخر لك جيشاً من الطير ينقل لك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط قال إلياس قد رضيت فأمسك الله عز وجل عنهم المطر حتى هلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الناس جهداً شديداً وإلياس على حاله مستخفياً من قومه يوضع له لرزق حيث كان وقد عرف قومه ذلك.
قال ابن عباس أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر إلياس بعجوز فقال لها أعندك طعام قالت نعم شيء من دقيق وزيت قليل قال فدعا به ودعا فيه بالبركة
(6/34)
صفحة رقم 35
ومسه حتى ملأ جرابها دقيقاً وملأ خوابيها زيتاً فلما رأوا ذلك عندها قالوا من أين لك هذا قالت مر بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته فعرفوه وقالوا ذلك إلياس فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ثم إنه آوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل ولها ابن يقال له اليسع بن أخطوب بن ضر فآوته وأخفت أمره فدعا لابنها فعوفي من الضر الذي كان به واتبع اليسع إلياس وآمن به وصدقه ولزمه وذهب معه حيثما ذهب.
وكان إلياس قد كبر وأسن واليسع غلام شاب ثم إن الله تعالى أوحى إلى إلياس إنك قد أهلكت كثيراً من الخلق ممن لم يعص من البهائم والدواب والطير والهوام بحبس المطر , فيزعمون أن إلياس قال : يا رب دعني أكن أنا الذي أدعو لهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم يرجعون عما هم فيه ينزعون عن عبادة غيرك فقيل له نعم.
فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال إنكم قد هلكتم جوعاوجهداوهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم وإنكم على باطل فإ ، كنتم تحبون أن تعملوا ذلك فاخرجوا بأصنامكم فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله تعالى بالفرج ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء فقالوا أنصفت فخرجوا بأوثانهم ودعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء فقالوا يا إلياس إنا قد أهلكنا فادع الله لنا فدعا إلياس ومعه اليسع بالفرج فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله عز وجل عليهم المطر وأغاثهم وحبيب بلادهم فلما كشف الله تعالى عنهم الضر نقضوا العهد ولم ينزعوا عن كفرهم وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا وكذا فاخرج إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه فخرج الياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي أمر به أقبل فرس من نار وقيل لونه كالنار حتى وقف بين يدي الياس فوثب عليه ' انطلق به الفرس فناداه اليسع يا الياس ما تأمرني فقذف إليه إلياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي أمر به اقبل فرس من نار وقيل لونه كالنار حتى وقف بين يدي الياس بكسائه من الحو الأعلى فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل وكان ذلك آخر العهد به ورفع الله تعالى الياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا وسلط الله عزوجل على آجب الملك وقومه عدوا لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم فقتل آجب وامرألأته أزبيل في الجنينة التي اغتصبتها امرأة الملك من ذلك المؤمن فلم تزل جثتاها ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عطلمهما وتبأ الله سبحانه وتعالى اليسع وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل وأوحى إليه وأيده فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.
روى السدي عن يحيى بن عبد العزيز عن أبي رواد قال إلياس والخضر يصومان رمضان ببيت المقدس ويوفيان الموسم ويوفيان في كل عام وقيل إن الياس موكل بالفيافي
(6/35)
صفحة رقم 36
والخضر موكل بالبحار فذلك قوله تعالى وإن إلياس لمن المرسلين )
الصافات : ( 124 - 128 ) إذ قال لقومه...
" إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين " ( ) إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلاً ( يعني أتعبدون بعلاً وهو صنم كان لهم يعبدونه ولذلك سميت مدينتهم بعلبك قيل البعل الرب بلغة أهل اليمن ) وتذرون ( أي وتتركون عبادة ) أحسن الخالقين ( فلا تعبدونه ) الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون ( أي في النار ) إلا عباد الله المخلصين ( أي من قومه الذين آمنوا به فإنهم نجوا من العذاب.
)
الصافات : ( 129 - 143 ) وتركنا عليه في...
" وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين " ( ) وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين ( قرىء آل ياسين بالقطع قيل أراد آل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل آل القرآن لأن ياسين من أسماء القرآن وفيه بعد وقرىء الياسين بالوصل ومعناه إلياس وأتباعه من المؤمنين ) إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ( قوله تعالى : ( وإن لوطاً لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزاً في الغابرين ( أي الباقين في العذاب ) ثم دمرنا ( أي أهلكنا ) الآخرين وإنكم ( أي أهل مكة ) لتمرون عليهم ( أي على آثارهم ومنازلهم ) مصبحين ( أي في وقت الصباح ) وبالليل ( أي وبالليل في أسفاركم ) أفلا تعقلون ( أي فتعتبرون بهم.
قوله عز وجل : ( وإن يونس لمن المرسلين ( أي من جملة رسل الله تعالى ) إذ أبق ( أي هرب ) إلى الفلك المشحون ( أي المملوء قال ابن عباس ووهب كان يونس وعد قومه العذاب فتأخر عنهم فخرج كالمستور منهم فقصد البحر فركب السفينة فاحتبست السفينة فقال الملاحون هاهنا عبد آبق من سيده فاقترعوا فوقعت على يونس فاقترعوا ثلاثاً وهي تقع على يونس فقال أنا الآبق وزجَّ نفسه في الماء.
وقيل إنه لما وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب فأراد أن يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب وذهب المركب وجاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر وجاء ذئب فأخذ الابن الأصغر فبقي فريداً فجاء مركب فركبه وقعد ناحية من القوم فلما مرت السفينة في البحر ركدت فقال الملاحون إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل وقوف السفينة فيما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر فاقترعوا فمن خرج سهمه نغرقه فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل فاقترعوا فخرج سهم يونس فذلك قوله تعالى :
(6/36)
صفحة رقم 37
) فساهم ( أي فقارع ) فكان من المدحضين ( يعني من المقرعين المغلوبين في سورة يونس والأنبياء ) فالتقمه الحوت ( أي ابتلعه ) وهو مليم ( أي آت بما يلام عليه ) فلولا أنه كان من المسبحين ( أي من الذاكرين الله عز وجلّ قبل ذلك وكان كثير الذكر وقال ابن عباس من المصلحين وقيل من العابدين.
قال الحسن ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملاً صالحاً فشكر الله تعالى له طاعته القديمة قال بعضهم اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة فإن يونس كان عبداً صالحاً ذاكراً لله تعالى فلما وقع في الشدة في بطن الحوت شكر الله تعالى له ذلك فقال ) فلولا أنه كان من المسبحين (.
)
الصافات : ( 144 - 147 ) للبث في بطنه...
" للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " ( ) للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ( وقيل لولا أنه كان يسبح في بطن الحوت بقوله ) لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ( للبث في بطنه إلى يوم يبعثون أي لصار بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة.
قوله عز وجل : ( فنبذناه ( أي طرحناه إنما أضاف النبذ إلى نفسه وإن كان الحوت هو النابذ لأن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى : ( بالعراء ( أي بالأرض الخالية عن الشجر والنبات.
وقيل بالساحل ) وهو سقيم ( أي عليل كالفرخ الممعط وقيل كان قد بلي لحمه ورق عظمه ولم تبق له قوة قيل إنه لبث في بطن الحوت ثلاثة أيام وقيل سبعة وقيل عشرين يوماً وقيل أربعين وقيل التقمه ضحى ولفظه عشية ) وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ( يعني القرع قيل إن كان نبت يمتد وينبسط على وجه الأض كالقرع والقثاء والبطيخ ونحوه فهو يقطين , قيل أنبتها الله تعالى له ولم تكن قبل ذلك وكانت معروشة ليحصل له الظل وفي شجر القرع فائدة وهي أن الذباب لا يجتمع عندها فكان يونس يستظل بتلك الشجرة ولو كانت منبسطة على الأرض لم يكن أن يستظل بها قيل وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشية حتى اشتد لحمه ونبت شعره وقوي فنام نومة ثم استيقظ وقد يبست الشجرة وأصابه حر الشمس فحزن حزناً شديداً وجعل يبكي فأرسل الله تعالى إليه جبريل وقال أتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف من أمتك قد أسلموا وتابوا ) وأرسلناه إلى مائة ألف ( قيل أرسله إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه والمعنى وكنا أرسلناه إلى مائة ألف فلما خرج من بطن الحوت أمر أن يرجع إليهم ثانياً وقيل كان إرساله إليهم بعد خروجه من بطن الحوت وقيل يجوز أن يكون إرساله إلى قوم آخرين غير القوم الأولين ) أو يزيدون ( قال ابن عباس معناه
(6/37)
صفحة رقم 38
ويزيدون وقيل معناه بل يزيدون وقيل أو على أصلها والمعنى أو يزيدون في تقدير الرائي إذا رآهم قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على ذلك فالشك على تقدير المخلوقين والأصح هو قول ابن عباس الأول.
وأما الزيادة فقال ابن عباس كانوا عشرين ألفاً , ويعضده ما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال ( سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله تعالى ) وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ( قال يزيدون عشرين ألفاً ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وقيل يزيدون بضعاً وثلاثين ألفاً وقيل سبعين ألفاً.
)
الصافات : ( 148 - 160 ) فآمنوا فمتعناهم إلى...
" فآمنوا فمتعناهم إلى حين فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " ( ) فآمنوا ( يعني الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينة العذاب ) فمتعناهم إلى حين ( أي إلى انقضاء آجالهم.
قوله عز وجل : ( فاستفتهم ( أي فسل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ ) ألربك البنات ولهم البنون ( وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله.
والمعنى جعلوا لله البنات ولهم البنين وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنات والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف ينسب للخالق ) أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ( أي حاضرون خلقنا إياهم ) ألا إنهم من إفكهم ( أي من كذبهم ) ليقولون ولد الله ( أي في زعمهم ) وإنهم لكاذبون ( أي فيما زعموا ) أصطفى البنات ( أي في زعمكم ) على البنين ( وهو استفهام توبيخ وتقريع ) ما لكم كيف تحكمون ( أي بالبنات لله ولكم بالبنين ) أفلا تذكرون ( أي أفلا تتعظون ) أم لكم سلطان مبين ( أي برهان بين على أن لله ولداً ) فأتوا بكتابكم ( يعني الذي لكم فيه حجة ) إن كنتم صادقين ( أي في قولكم ) وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ( قيل أراد بالجنة الملائكة سموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار.
قال ابن عباس هم حي من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس قالوا هم بنات الله فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فمن أمهاتهم قالوا سروات الجن.
وقيل معنى النسب أنهم أشركوا في عبادة الله تعالى.
وقيل هو قول الزنادقة الخير من الله والشر من الشيطان ) ولقد علمت الجنة إنهم ( يعني قائلي هذا القول ) لمحضرون ( أي في النار ) سبحان الله عما يصفون ( نزه الله تعالى نفسه عما يقولون ) إلا عباد الله المخلصين ( هذا استثناء من المحضرين والمعنى أنهم لا يحضرون.
)
الصافات : ( 161 - 171 ) فإنكم وما تعبدون
" فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين " ( ) فإنكم ( يعني يا أهل مكة ) وما تعبدون ( أي من الأصنام ) ما أنتم عليه ( أي على ما تعبدون ) بفاتنين ( أي بمضلين أحداً ) إلا من هو صال الجحيم ( أي إلا من سبق له في علم الله تعالى الشقاوة وأنه سيدخل النار.
قوله تعالى إخباراً عن حال
(6/38)
صفحة رقم 39
الملائكة ) وما منا إلا له مقام معلوم ( يعني أن جبريل قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما منا معشر الملائكة ملك إلا له مقام معلوم يعبد ربه فيه.
وقال ابن عباس ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح.
وروى أبو ذر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أطت السماء وحق لها أن تئط والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً ) أخرجه الترمذي.
وهو طرف من حديث قيل الأطيط أصوات الأقتاب وقيل أصوات الإبل وحنينها , ومعنى الحديث ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت وهذا مثل مؤذن بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط وقيل معنى إلا له مقام معلوم أي في القرب والمشاهدة وقيل يعبد الله على مقامات مختلفة كالخوف والرجاء والمحبة والرضا ) وإنا لنحن الصافون ( يعني الملائكة صفوا أقدامهم في عبادة الله تعالى كصفوف الناس في الصلاة في الأرض ) وإنا لنحن المسبحون ( أي المصلون لله تعالى وقيل المنزهون لله تعالى عن كل سوء يخبر جبريل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين كما زعمت الكفار قوله عز وجل : ( وإن كانوا ليقولون ( يعني كفار مكة قبل بعثة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لو أن عندنا ذكراً من الأولين ( يعني كتاباً مثل كتاب الأولين ) لكنا عباد الله المخلصين ( أي لأخلصنا العبادة لله ) فكفروا به ( أي فلما أتاهم الكتاب كفروا به ) فسوف يعلمون ( فيه تهديد لهم قوله عز وجل : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( يعني تقدم وعدنا لعبادنا المرسلين بنصرهم.
)
الصافات : ( 172 - 182 ) إنهم لهم المنصورون
" إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين " ( ) إنهم لهم المنصورون ( أي بالحجة البالغة ) وإن جندنا ( أي حزبنا المؤمنين ) لهم الغالبون ( أي لهم النصرة في العاقبة ) فتول ( أي أعرض ) عنهم حتى حين ( قال ابن عباس يعني الموت وقيل إلى يوم بدر وقيل حتى آمرك بالقتال وهذه الآية منسوخة بآية القتال وقيل إلى أن يأتيهم العذاب ) وأبصرهم ( أي إذا نزل بهم العذاب ) فسوف يبصرون ( أي ذلك فعند ذلك قالوا متى هذا العذاب قال الله عز وجل : ( أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل ( يعني العذاب ) بساحتهم ( أي بحضرتهم وقيل بفنائهم ) فساء صباح المنذرين ( أي فبئس صباح الكافرين الذين أنذروا العذاب
( ق ) عن أنس رضي الله عنه ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غزا خيبر فلما دخل القرية قال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا أنزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاث مرات ) ثم كرر
(6/39)
صفحة رقم 40
ذكر ما تقدم تأكيداً لوعيد العذاب فقال تعالى : ( وتولى عنهم حتى حين ( وقيل المراد من الآية الأولى ذكر أحوالهم في الدنيا وهذه ذكر أحوالهم في الآخرة فعلى هذا القول يزول التكرار ) وأبصر ( أي العذاب إذا نزل بهم ) فسوف يبصرون ( ثم نزه نفسه فقال تعالى : ( سبحان ربك رب العزة ( أي الغلبة والقدرة وفيه إشارة إلى كمال القدرة وأنه القادر على جميع الحوادث ) عما يصفون ( أي عن اتخاذ الشركاء والأولاد ) وسلام على المرسلين ( أي الذين بلغوا عن الله عز وجل التوحيد والشرائع لأن أعلى مراتب البشر أن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا جرم يجب على كل أحد الاقتداء بهم والاهتداء بهداهم ) والحمد لله رب العالمين ( أي على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء وقيل الغرض من ذلك تعليم المؤمنين أن يقولوه ولا يخلوا به ولا يغفلوا عنه لما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال ( من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ) والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
سورة ص
( تفسير سورة ص ) ويقال لها سورة داود عليه السلام وهي مكية وهي ست وقيل ثمان وثمانون آية وسبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة وثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفاً.
( بسم الله الرحمن الرحيم ) )
ص : ( 1 - 3 ) ص والقرآن ذي...
" ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص " ( قوله عز وجل : ( ص ( قيل هو قسم وقيل اسم للسورة وقيل مفتاح اسمه الصمد وصادق الوعد والصبور وقيل معناه صدق الله وعن ابن عباس صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والقرآن ذي الذكر ( قال ابن عباس أي ذي البيان وقيل ذي الشرف وهو قسم قيل وجوابه قد تقدم وهو قوله تعالى : ( ص ( أقسم الله سبحانه وتعالى بالقرآن إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لصادق وقيل جواب القسم محذوف تقديره والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما تقول الكفار دل على هذا المحذوف , قوله تعالى : ( بل الذين كفروا ( وقيل بل الذين كفروا موضع القسم وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره بل الذين كفروا ) في عزة وشقاق ( والقرآن ذي الذكر وقيل جوابه ) إن كل إلا كذب الرسل ( " وقيل جوابه ) إن هذا لرزقنا ( " وقيل ) إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ( " وهذا ضعيف لأنه تخلل بين القسم وهذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة وقيل بل لتدارك كلام ونفي آخر
(6/40)
صفحة رقم 41
ومجاز الآية أن الله تعالى أقسم بص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا من أهل مكة في عزة أي حمية وجاهلية وتكبر عن الحق وشقاق أي خلاف وعداوة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) كم أهلكنا من قبلهم من قرن ( يعني من الأمم الخالية ) فنادوا ( أي استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة ) ولات حين مناص ( أي ليس الحين حين فرار وتأخر قال ابن عباس : كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض مناص أي اهربوا وخذوا حذركم فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا مناص فأنزل الله عز وجل : ( ولات حين مناص ( أي ليس الحين حين هذا القول.
)
ص : ( 4 - 8 ) وعجبوا أن جاءهم...
" وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب " ( ) وعجبوا ( يعني كفار مكة ) أن جاءهم منذر منهم ( يعني رسولاً من أنفسهم ينذرهم ) وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ( قوله عز وجل : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً ( وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلاً أكبرهم سناً الوليد بن المغيرة امشوا إلى أبي طالب فأتوا إلى أبي طالب وقالوا له أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنما أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فأرسل إليه أبو طالب فدعا به فلما أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليه قال له يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وماذا يسألونني ) قالوا ارفض آلهتنا وندعك وإلهك فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ) فقال أبو جهل لله أبوك لنعطينكها وعشرة أمثالها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قولوا لا إله إلا الله ) فنفروا من ذلك وقالوا أجعل الآلهة إلهاً واحداً كيف يسمع
(6/41)
صفحة رقم 42
الخلق إله واحد ) إن هذا لشيء عجاب ( أي عجب ) وانطلق الملأ منهم ( أي من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب ) أن امشوا ( أي يقول بعضهم لبعض امشوا ) واصبروا على آلهتكم ( أي اثبتوا على عبادة آلهتكم ) إن هذا لشيء يراد ( أي لأمر يراد بنا وذلك أن عمر رضي الله عنه لما أسلم وحصل للمسلمين قوة بمكانه قالوا إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لشيء يراد بنا وقيل يراد بأهل الأرض وقيل يراد بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يملك علينا ) ما سمعنا بهذا ( أي بالذي يقوله محمد من التوحيد ) في الملة الآخرة ( قال ابن عباس يعنون النصرانية لأنها آخر الملل وإنهم لا يوحدون الله بل يقولون ثالث ثلاثة وقيل يعنون ملة قريش وهي دينهم الذي هم عليه ) إن هذا إلا اختلاق ( أي كذب وافتعال ) أأنزل عليه الذكر ( أي القرآن ) من بيننا ( أي يقول أهل مكة ليس هو بأكبرنا ولا أشرفنا قال الله تعالى : ( بل هم في شك من ذكري ( أي وحيي وما أنزلت ) بل لما يذوقوا عذاب ( أي لو ذاقوه لما قالوا هذا القول.
)
ص : ( 9 - 12 ) أم عندهم خزائن...
" أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد " ( ) أم عندهم خزائن رحمة ربك ( يعني مفاتيح النبوة يعطونها من شاؤوا ) العزيز ( أي في ملكه ) الوهاب ( الذي وهب النبوة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما ( أي ليس لهم ذلك ) فليرتقوا في الأسباب ( يعني إن ادعوا شيئاً من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصهلم إلى السماء ليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون.
وقيل أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وهذا أمر توبيخ وتعجيز ) جند ما هنالك ( أي هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند ما هنالك ) مهزوم ( أي مغلوب ) من الأحزاب ( يعني أن قريشاً من جملة الأجناد الذين تجمعوا وتحزبوا على الأنبياء بالتكذيب فقهروا وأهلكوا أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر وهناك إشارة إلى مصارعهم ببدر ثم قال عز وجل معزياً لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد ( قال ابن عباس : ذو البناء المحكم.
وقيل ذو الملك الشديد الثابت والعرب تقول هو في عز ثابت الأوتاد يريدون بذلك أنه دائم شديد وقال الأسود
(6/42)
صفحة رقم 43
بن يعفر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
في طل ملك ثابت الأوتاد
وقيل ذو قوة وأصل هذا أن بيوتهم تثبت بالأوتاد , وقيل ذو القوة والبطش.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما والجنود والجموع الكثيرة يعني أنهم يقرون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء وسميت الأجناد أوتاداً لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم وقيل الأوتاد جمع الوتد وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها , فكان إذا غضب على أحد مده مستلقياً بين أربعة أوتاد يشد كل طرف منه إلى وتد فيتركه حتى يموت.
وقيل يرسل عليه العقارب والحيات.
وقيل كانت له أوتاد وأحبال وملاعب يلعب عليها بين يديه.
)
ص : ( 13 - 17 ) وثمود وقوم لوط...
" وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب " ( ) وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب ( أي الذين تحزبوا على الأنبياء فأعلم الله تعالى أن مشركي قريش حزب من أولئك الأحزاب ) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ( أي إن أولئك الطوائف والأمم الخالية لما كذبوا أنبياءهم وجب عليهم العذاب فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين إذا نزل بهم العذاب وفي الآية زجر وتخويف للسامعين ) وما ينظر ( أي ينتظر ) هؤلاء ( أي كفار مكة ) إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ( أي رجوع والمعنى أن تلك الصيحة التي هي ميعاد عذابهم إذا جاءت لم ترد ولم تصرف ) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا ( أي حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول وقيل نصيبنا من العذاب قاله النضر بن الحارث استعجالاً منه بالعذاب وقال ابن عباس يعني كتابنا والقط الصحيفة التي حصرت كل شيء قيل لما نزلت في الحاقة ) فأما من أوتي كتابه بيمينه وأما من أوتي كتابه بشماله ( قالوا استهزاء عجل لنا كتابنا في الدنيا ) قبل يوم الحساب ( وقيل قطنا أي حسابنا يقال لكتاب الحساب قط وقيل القط كتاب الجوائز , قال الله عز وجل لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) اصبر على ما يقولون ( أي على ما يقول الكفار من التكذيب ) واذكر عبدنا داود ذا الأيد (
(6/43)
صفحة رقم 44
قال ابن عباس ذا القوة في العبادة
( ق ) عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ) وقيل معناه ذا القوة في الملك ) إنه أواب ( أي رجاع إلى الله عز وجل بالتوبة عن كل ما يكره وقال ابن عباس مطيع لله عز وجل وقيل مسبح بلغة الحبشة.
)
ص : ( 18 - 20 ) إنا سخرنا الجبال...
" إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " ( ) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن ( أي بتسبيحه إذا سبح ) بالعشي والإشراق ( أي غدوة وعشية والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها وفسره ابن عباس بصلاة الضحى وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس في قوله ) بالعشي والإشراق ( قال كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى فقال ( يا أم هانىء إن هذه صلاة الإشراق ) قلت والذي أخرجاه في الصحيحين من حديث أم هانىء في صلاة الضحى , قالت أم هانىء : ( ذهبت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة بنته تستره بثوب فسلمت عليه فقال من هذه قلت أم هانىء بنت أبي طالب فقال مرحباً يا أم هانىء فلما فرغ من غسله قام وصلى ثمان ركعات ملتحفاً بثوب قالت أم هانىء وذلك ضحى ) ولهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ( ما حدثنا أحد أنه رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي الضحى غير أم هانىء فإنها قالت إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمان ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود ).
قوله تعالى : ( والطير ( أي وسخرنا له الطير ) محشورة ( أي مجموعة إليه تسبح معه ) كل له أواب ( أي رجاع إلى طاعته مطيع له بالتسبيح معه ) وشددنا ملكه ( أي قويناه بالحرس والجنود , قال ابن عباس كان أشد ملوك الأرض سلطاناً كان يحرس محراباً كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل.
وروي عن ابن عباس أن رجلاً من بني إسرائيل ادعى على رجل من عظمائهم , عند داود عليه الصلاة والسلام فقال هذا غصبني بقرة فسأله داود فجحده فسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى الله إلى داود في منامه أن اقتل المدعى عليه فقال هذه رؤيا ولست أعجل عليه حتى أتثبت فأوحي إليه مرة أخرى فلم يفعل فأوحي إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل إليه داود فقال إن الله عز وجل أوحى إليّ أن أقتلك فقال تقتلني بغير بينة فقال داود نعم والله لأنفذن أمر الله فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله , قال لا تعجل حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أوخذت فأمر به
(6/44)
صفحة رقم 45
داود فقتل فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود واشتد به ملكه فذلك قوله تعالى ) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة ( يعني النبوة والإصابة في الأمور ) وفصل الخطاب ( قال ابن عباس يعني بيان الكلام وقال ابن مسعود علم الحكم والتبصر بالقضاء وقال علي بن أبي طالب هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به.
وقال أبيّ بن كعب فصل الخطاب الشهود والأيمان وقيل إن فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله تعالى والثناء عليه أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر وأول من قاله داود عليه الصلاة والسلام.
)
ص : ( 21 - 22 ) وهل أتاك نبأ...
" وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط " ( قوله عز وجل : ( وهل أتاك ( أي وقد أتاك يا محمد ) نبأ الخصم ( أي خبر الخصم فاستمع له نقصصه عليك.
وقيل ظاهره الاستفهام ومعناه الدلالة على أنه من الأخبار العجيبة والتشويق إلى استماع كلام الخصماء والخصم يقع على الواحد والجمع ) إذ تسوروا المحراب ( أي صعدوا وعلوا المحراب أي بالبيت الذي كان يدخل فيه داود يشتغل بالطاعة والعبادة والمعنى أنهم أتوا المحراب من سوره وهو أعلاه , وفي الآية قصة امتحان داود عليه الصلاة والسلام.
واختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب ذلك وسأذكر ما قاله المفسرون ثم أتبعه بفصل فيه ذكر نزاهة داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق بمنصبه ( صلى الله عليه وسلم ) لأن منصب النبوة أشرف المناصب وأعلاها فلا ينسب إليها إلا ما يليق بها ؛ وأما ما قال المفسرون إن داود عليه الصلاة والسلام تمنى يوماً من الأيام منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وذلك أنه كان قد قسم الدهر ثلاثة أيام يوم يقضي فيه بين الناس , ويوم يخلو فيه لعبادة ربه عز وجل ويوم لنسائه وأشغاله.
وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب , فقال يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي , فأوحى الله تعالى إليه أنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها ابتلي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنمرود وذبح ابنه , وابتلي إسحاق بالذبح وبذهاب بصره وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف.
فقال داود عليه الصلاة والسلام رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم صبرت أيضاً فأوحى الله عز وجلّ إنك مبتلى في شهر كذا في
(6/45)
صفحة رقم 46
يوم كذا فاحترس.
فلما كان اليوم الذي وعده الله به دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور فبينما هو كذلك إذ جاءه الشيطان وقد تمثل له في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وجناحاها من الدر والزبرجد فوقعت بين رجليه فأعجبه حسنها فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل لينظروا إلى قدرة الله تعالى فلما قصد أخذها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة فذهب ليأخذها فطارت من الكوة فنظر داود أين تقع فيبعث من يصيدها له , فأبصر امرأة في بستان على شاطىء بركة تغتسل وقيل رآها تغتسل على سطح لها فرآها من أجمل النساء خلقاً فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها فزاده ذلك إعجاباً بها فسأل عنها فقيل هي تشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود فكتب داود إلى ابن أخته أن أبعث أوريا إلى موضع كذا وقدمه قبل التابوت وكان من قدم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأساً فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأساً فبعثه فقتل في المرة الثالثة فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود فهي أم سليمان عليه الصلاة والسلام.
وقيل إن داود أحب أن يقتل أوريا فيتزوج امرأته فهذا كان ذنبه وقال ابن مسعود : كان ذنب ابن داود أنه التمس من الرجل أن ينزل له عن امرأته وقيل كان ذلك مباحا لهم غير أن الله عزوجل لم يرض لداود ذلك لأنه رغبة في الدنيا وازياد من النساء وقد أغناه الله تعالى عنها بما أعطاه من غيرها وقيل في سبب امتحان داود أنه كان جزأ الدهر أجزاء يوما لنسائه ويوما للعبادة ويوما للحكم من بني إسرائيل ويوما يذاكرهم ويذاكرونه ويبكهم ويبكونه فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا فأضمر داود
(6/46)
صفحة رقم 47
في نفسه أنه سيطيق ذلك وقيل إنهم ذكروا فتنة النساء فأضمر داود في نفسه أنه إن ابتلى اعتصم فلما كان يوم عبادته أغلق عليه الأبواب وأمر لا يدخل عليه أحد وأركب على قراءة اعتصم فلما كان دخل بالمرأة لم يلبث إلا التوراة فبينما هو يقرأ إذا دخلت خمامة وذكر نحو ما تقدم فلما دخل بالمرأة لم يلبث يسيرا حتى بعث الله عز وجل الملكين إليه وقيل إن داود عليه السلام وما زال يجتهد في العبادة حتى برز له حافظاه من الملائكة فكانوا يصلون معه فلما استأنس منهم قال أخبروني بأي شيء أنتم موكلون قالوا نكتب صالح أ ' مالك ونوافقك ونصرف عنك وتصرف عنك السوء فقال في نفسه ليت شعري كيف أكون لو خلوني ونفسي وتمنى ذلك ليعلم كيف يكون فأوحى الله تعالى إلى الملكين أن يعتزلاه ليعلم أنه لا غنى له عن الله تعالى فلما فقدهم جد واجنهد في العبادة إلى أن ظن أنه قد غلب نفسه فأراد الله تعالى أن يعرفه ضعفه فأرسل طائرا من طيور الجنة وذكر نحو ما تقدم وقيل إن داود قال لبني إسرائل لأعدلن بينكم ولم يسئن فابتلى وقيل أنه أعجبه عمله فابتلى فبعث الله إليه ملكين يفي صورة رجلين وذلك في يوم عبادته فطلبا أن يدخلا عليه فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب فما شعر إلا وهما بين يديه جالسان وهو يصلي يقال كانا جبريل وميكائيل فذلك قوله عز وجل " 0 وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ( إذا دخلوا على داود ففزع منهم أ يخاف منهما حين هجما عليه في محرابه بغير إذنه فقال لهما من أدخلكما على ) قالوا لا نخف خصمان ( أي نحن خصمان ) بغى بعضنا على بعض ( أي تعدى وخرج عن الحد جئناك لتقضي بيننا.
فإن قلت إذا جعلتهما ملكين فكيف يتصور البغي منهما والملائكة لا يبغي بعضهم على بعض ؟ قلت هذا من معاريض الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما والمعنى رأيت خصمين يعني أحدهما على الآخر ) فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط ( أي لا تجر في حكمك ) واهدنا إلى سواء الصراط ( أي أرشدنا إلى طريق الحق والصواب فقال لهما داود تكلما فقال أحدهما
)
ص : ( 23 ) إن هذا أخي...
" إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب " ( ) إن هذا أخي ( على ديني وطريقتي لا من جهة النسب ) له تسع وتسعون نعجة ( يعني امرأة ) ولي نعجة واحدة ( أي امرأة واحدة والعرب تكني بالنعجة عن المرأة وهذا على سبيل التعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي ) فقال أكفلنيها ( قال ابن عباس أي أعطنيها وقيل معناه انزل عنها وضمها إلي واجعلني كافلها والمعنى طلقها لأتزوجها ) وعزني في الخطاب ( يعني غلبني وقهرني في القول لأنه أفصح مني في الكلام وإن حارب كان أبطش مني لقوة
(6/47)
صفحة رقم 48
ملكه والمعنى أن الغلبة كانت له عليّ لضعفي في يده وإن كان الحق وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة ولأوريا امرأة واحدة فضمها داود إلى نسائه.
)
ص : ( 24 - 25 ) قال لقد ظلمك...
" قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " ( ) قال ( داود ) لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ( أي بضمها إلى نعاجه.
فإن قلت كيف قال داود لقد ظلمك ولم يكن سمع قول الآخر قلت معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك وقيل إنما قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول ) وإن كثيراً من الخلطاء ( أي الشركاء ) ليبغي بعضهم على بعض ( أي يظلم بعضهم بعضاً ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( فإنهم لا يظلمون أحداً ) وقليل ما هم ( أي هم قليل وما صلة.
والمعنى أن الصالحين الذين لا يظلمون قليل فلما قضى داود بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه وضحك وصعد إلى السماء فعلم داود أن الله تعالى ابتلاه فذلك قوله تعالى : ( وظن داود ( أي أيقن وعلم ) أنما فتناه ( أي ابتليناه وامتحناه وقال ابن عباس : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحولا في صورتهما وعرجا وهما يقولان قضى الرجل على نفسه فعلم داود أنه إنما عنى به.
وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول إن داود النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين نظر إلى المرأة فهم ففظع على بني إسرائيل أوصى صاحب البعث فقال إذا حضر العدو فقرب فلاناً بين يدي التابوت وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به ومن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو يهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة ونزل الملكان يقصان عليه قصته ففطن داود فسجد فمكث أربعين ليلة ساجداً حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبهته وهو يقول في سجوده : رب
(6/48)
صفحة رقم 49
زل داود زلة أبعد ما بين المشرق والمغرب رب إن لم ترحم ضعف داود ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلق من بعده.
فجاء جبريل من بعد أربعين ليلة فقال يا داود إن الله تعالى قد غفر لك الهم الذي هممت به فقال داود : إن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به وقد عرفت أن الله عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال رب دمي الذي عند داود , فقال جبريل ما سألت ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن قال نعم فعرج جبريل وسجد داود ما شاء الله تعالى ثم نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال قل لداود إن الله تعالى يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب لي دمك الذي عند داود فيقول : هو لك يا رب فيقول الله تعالى فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضاً عن دمك فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود.
( فصل في تنزيه داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق به وما ينسب إليه )
اعلم أن من خصه الله تعالى بنبوته وأكرمه برسالته وشرفه على كثير من خلقه وائتمنه على وحيه وجعله واسطة بينه وبين خلقه لا يليق أن ينسب إليه ما لو نسب إلى آحاد الناس لاستنكف أن يحدث به عنه فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء والصفوة الأمناء ذلك.
روى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة وهو حد الفرية على الأنبياء.
وقال القاضي عياض : لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك ولا ورد في حديث صحيح والذي نص عليه الله في قصة داود وظن داود أن ما فتناه وليس في قصة
(6/49)
صفحة رقم 50
داود وأوريا خبر ثابت ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داود.
قال الإمام فخر الدين حاصل القصة يرجع إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته وكلاهما منكر عظيم فلا يليق بعاقل أن يظن بداود عليه الصلاة والسلام.
هذا وقال غيره إن الله تعالى أثنى على داود قبل هذه القصة وبعدها وذلك يدل على استحالة ما نقوله من القصة فكيف يتوهم عاقل أن يقع بين مدحين ذم ولو جرى ذلك من بعض الناس في كلامه لاستهجنه العقلاء وقالوا أنت في مدح شخص كيف تجري ذمه أثناء مدحك والله تعالى منزه عن مثل هذا في كلامه القديم.
فإن قلت في الآية ما يدل على صدور الذنب منه وهو قوله تعالى وظن داود إنما فتناه وقوله فاستغفر ربه وقوله وأناب وقوله فغفرنا له ذلك.
قلت ليس في هذه الألفاظ شيء مما يدل على ذلك وذلك لأن مقام النبوة أشرف المقامات وأعلاها فيطالبون بأكمل الأخلاق والأوصاف وأسناها فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشرية عاتبهم الله تعالى على ذلك وغفره لهم كما قيل ( حسنات الأبرار سيئآت المقربين ).
فإت قلت فعلى هذا القول والاحتمال فما معنى الامتحان في الآية ؟
قلت ذهب المحققون من علماء التفسير وغيرهم في هذه القصة إلى أن داود عليه الصلاة والسلام ما زاد على أن قال للرجل.
انزل لي عن امرأتك واكفلنيها , فعاتبه الله تعالى على ذلك ونبهه عليه وأنكر عليه شغله بالدنيا وقيل إن داود تمنى أن تكون امراة أو رياله فاتفق أن أوريا هلك في الحرب فلما بلغ داود قتله لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ثم تزوج امرأته , فعاتبه الله تعالى على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله تعالى.
وقيل إن أوريا كان قد خطب تلك المراة ووطَّن نفسه عليها فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت نفسها منه لجلالته فاغتمَّ لذلك أوريا فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسعة وتسعون امرأة ويدل على صحة هذا الوجه قوله وعزني في الخطاب فدل هذا على أن الكلام كان بينهما في الخطبة ولم يكن قد تقدم تزوج أوريا لها ، فعوتب داود بسببين أحدهما : خطبته على خطبة أخيه والثاني : إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه.
وقيل إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس هو بسبب أوريا والمرأة وإنما هو بسبب الخصمين وكونه قضى لأحدهما قبل سماع كلام الآخر وقيل هو قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فحكم على خصمه بكونه ظالماً بمجرد الدعوى فلما كان هذا الحكم مخالفاً للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه الصلاة والسلام مما نسب إليه والله أعلم.
وقوله عز وجل : ( فاستغفر ربه ( أي سأل ربه الغفران ) وخر راكعاً ( أي ساجداً , عبَّر بالركوع عن السجود لأن كل واحد منهما فيه انحناء.
وقيل معناه وخرَّ ساجداً بعد ما كان راكعاً والله تعالى أعلم بمراده.
( فصل )
اختلف العلماء في سجدة ص هل هي من عزائم السجود , فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنها ليست من عزائم سجود التلاوة قال : لأنها توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة.
وقال
(6/50)
صفحة رقم 51
أبو حنيفة : هي من عزائم سجود التلاوة واستدل بهذه الآية على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجود التلاوة , وعن أحمد : في سجدة ص روايتان وقد ثبت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سجد فيها
( خ ) .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سجدة ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سجد فيها قال مجاهد قلت لابن عباس أسجد في ص فقرأ ومن ذريته داود وسليمان حتى أتى فبهداهم اقتده فقال نبيكم ممن أمر أن يقتدى بهم فسجدها داود فسجدها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وللنسائي ( عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سجد في ص وقال سجدها داود توبة فنسجدها شكراً ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ( قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سورة ص وهو على المنبر فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشوف الناس لسجوده فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشوفتم فنزل وسجد وسجدوا ) أخرجه أبو داود قوله تشوف الناس يعني تهيؤا وتأهبوا واستعدوا للسجود وعن ابن عباس قال ( جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول اللهم اكتب لي بها أجراً وحطّ عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه الصلاة والسلام ).
قال ابن عباس : ( سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ سجدة ثم سجد فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة ) أخرجه الترمذي قال المفسرون سجد داود أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجداً تمام أربعين يوماً لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة وكان من دعائه في سجوده سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء سبحان خالق النور سبحان الحائل بين القلوب سبحان خالق النور إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي سبحان خالق النور إلهي أنت خلقتني وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر سبحان خالق النور إلهي الويل لداود يوم يكشف عنه الغطاء , فيقال هذا داود الخاطئ سبحان خالق النور إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي , سبحان خالق النور إلهي بأي قدم أقوم أمامك يوم القيامة يوم تزل أقدام الخاطئين , سبحان خالق النور إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلا من عند سيده سبحان خالق النور , إلهي أنا لا أطيق حر شمسك فكيف أطيق حر نارك سبحان خالق النور إلهي أنا لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم سبحان خالق النور إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصابه سبحان خالق النور إلهي كيف تستر الخطاؤون بخطاياهم دونك وأنت تشاهدهم حيث كانوا , سبحان خالق النور إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي سبحان خالق النور إلهي اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواني سبحان خالق النور إلهي أعوذ بوجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني سبحان خالق النور إلهي فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين سبحان خالق النور وقيل مكث داود أربعين يوماً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتى غطى رأسه فنودي يا داود أجائع انت فتطعم أظمآن أنت فتسقى أمظلوم أنت فتنصر فأجيب في غير ما طلب ولم يجب في ذكر خطيئته بشيء فحزن حتى هاج ما حوله من العشب فاحترق من حرجوفه ثم أنزل الله تعالى له التوبة والمغفرة.
قال وهب : إن داود أتاه نداء أني قد غفرت لك قال يا رب كيف وأنت لا تظلم أحداً قال اذهب إلى قبر أوريا فناده
(6/51)
صفحة رقم 52
وأنا أسمعه نداءك فتحلل منه , قال فانطلق داود وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره ثم نادى يا أوريا فقال من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني قال أنا داود قال ما جاء بك يا نبي الله قال أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك قال وما كان منك إليّ قال عرضتك للقتل قال بل عرضتني للجنة فأنت في حل فأوحى الله تعالى إليه يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالغيب ألا أعلمته إنك قد تزوجت امرأته , قال فرجع فناداه فأجابه فقال من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني قال أنا داود قال ما جاء بك يا نبي الله أليس قد عفوت عنك قال نعم ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها قال فسكت ولم يجبه ودعاه مرة فلم يجبه وعاوده فلم يجبه فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى الويل لداود ثم الويل الطويل لداود إذا وضعت الموازين بالقسط سبحان خالق النور الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار سبحان خالق النور فأتاه نداء من السماء يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك قال يا رب كيف وصاحبي لم يعف عني قال يا داود أعطيه يوم القيامة من الثواب ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه فأقول له رضيت عبدي فيقول يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي , فأقول هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي قال يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي فذلك قوله فاستغفر ربه وخرَّ راكعاً ) وأناب ( أي رجع ) فغفرنا له ذلك ( أي الذنب ) وإن له عندنا ( أي يوم القيامة بعد المغفرة ) لزلفى ( أي لقربة ومكانة ) وحسن مآب ( أي حسن مرجع
(6/52)
صفحة رقم 53
ومنقلب.
قال وهب بن منبه إن داود عليه الصلاة والسلام لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا يرقأ دمعه ليلاً ولا نهاراً وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام يوم للقضاء بين بني إسرائيل , ويوم لنسائه ويوم يسيح في الجبال والفيافي والساحل ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك , فإذا كان يوم سياحته يخرج إلى الفيافي ويرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ثم يجيء إلى الجبال ويرفع صوته ويبكي فتبكي معه الجبال والحجارة والطير والدواب حتى تسيل من بكائهم الأودية ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته ويبكي فتبكي معه الحيتان ودواب البحر وطين الماء فإذا أمسى رجع فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه إن اليوم يوم نوح داود على نفسه فليحضره من يساعده ويدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط فيها ثلاث فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ويجيء أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب ثم يرفع داود عليه الصلاة والسلام صوته بالبكاء والنوح على نفسه ويرفع الرهبان معه أصواتهم فلا يزال يبكي حتى يغرق الفرش من دموعه ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله ويأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ويمسح بها وجهه ويقول يا رب اغفر ما ترى فلو عادل بكاء داود بكاء أهل الدنيا لعدله.
)
ص : ( 26 - 28 ) يا داود إنا...
" يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار " ( قوله عز وجل : ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ( أي لتدبر
(6/53)
صفحة رقم 54
أمر الناس بأمر نافذ الحكم فيهم ) فاحكم بين الناس بالحق ( أي بالعدل ) ولا تتبع الهوى ( أي لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله تعالى ) فيضلك عن سبيل الله ( أي عن دين الله وطريقه ) إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ( أي بما تركوا الإيمان بيوم الحساب.
وقيل بتركهم العمل بذلك اليوم وقيل بترك العدل في القضاء.
قوله تعالى : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ( قال ابن عباس : لا لثواب ولا لعقاب.
وقيل معناه ما خلقناهما عبثاً لا لشيء ) ذلك ظن الذين كفروا ( يعني أهل مكة هم الذين ظنوا أنما خلقناهم لغير شيء وأنه لا بعث ولا حساب ) فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ( قيل إن كفار قريش قالوا للمؤمنين إنما نعطي في الآخرة من الخير ما تعطون فنزلت هذه الآية ) أم نجعل المتقين ( يعني الذين اتقوا الشرك وهم أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) كالفجار ( يعني الكفار والمعنى لا نجعل الفريقين سواء في الآخرة.
)
ص : ( 29 - 32 ) كتاب أنزلناه إليك...
" كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب " ( ) كتاب أنزلناه إليك ( أي هذا كتاب يعني القرآن أنزلناه إليك ) مبارك ( أي كثير خيره ونفعه ) ليدبروا آياته ( أي ليتدبروا ويتفكروا في أسراره العجيبة ومعانيه اللطيفة وقيل تدبر آياته اتباعه في أوامره ونواهيه ) وليتذكر ( أي وليتعظ ) أولوا الألباب ( أي ذوو العقول والبصائر.
قوله تعالى : ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ( قيل إن سليمان عليه الصلاة والسلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ما أصاب وهو ألف فرس وقيل ورثها من أبيه وقيل إنها كانت خيلاً من البحر لها أجنحة فصلى سليمان عليه الصلاة والسلام الصلاة الأولى التي هي الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه فعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتمَّ لذلك وقال ردّوها عليّ فأقبل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف تقرباً إلى الله تعالى وطلباً لمرضاته حيث اشتغل بها عن طاعته وكان ذلك مباحاً له وإن كن حراماً علينا وبقي منها مائة فرس فالذي في أيدي الناس من الخيل يقال إنه من نسل تلك المائة فلما عقرها الله تعالى أبدله الله تعالى خيراً منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف شاء , وقوله تعالى : ( إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ( قيل هي الخيل القائمة على ثلاث قوائم مقيمة الرابعة على طرف الحافر
(6/54)
صفحة رقم 55
من رجل أو يد وقيل الصافن القائم وجاء في الحديث ( من سرَّه أن يقوم له الناس صفوفاً فليتبوأ مقعده من النار ) أي قياماً الجياد : أي الخيار السراع في الجري واحده جواد قال ابن عباس يريد الخيل السوابق ) فقال إني أحببت حب الخير ( أي آثرت حب الخير وأراد بالخير الخيل سميت به لأنه معقود في نواصيها الخير الأجر والغنيمة وقيل حب الخير يعني المال ومنه الخيل التي عرضت عليه ) عن ذكر ربي ( يعني صلاة العصر ) حتى توارت ( أي استترت الشمس ) بالحجاب ( أي ما يحجبها من الأبصار يقال إن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه.
)
ص : ( 33 - 34 ) ردوها علي فطفق...
" ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب " ( ) ردوها علي ( أي ردوا الخيل علي ) فطفق مسحاً بالسوق ( جمع ساق ) والأعناق ( أي جعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف , هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين وكان ذلك مباحاً له لأن نبي الله سليمان لم يكن ليقدم على محرم ولم يكن ليتوب عن ذنب وهو ترك الصلاة بذنب آخر وهو عقر الخيل , وقال محمد بن إسحاق : لم يعنفه الله تعالى على عقره الخيل إذ كان ذلك أسفاً على ما فاته من فريضة ربه عز وجلَّ , وقيل إنه ذبحها وتصدق بلحومها.
وقيل معناه إنه حبسها في سبيل الله تعالى وكوى سوقها وأعناقها بكي الصدقة.
وحكي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال : معنى ردوها عليّ يقول بأمر الله تعالى للملائكة الموكلين بالشمس ردوها عليّ فردوها عليه فصلى العصر في وقتها قال الإمام فخر الدين بل التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن أن نقول إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما أنه كذلك في ديننا ثم إن سليمان عليه الصلاة والسلام احتاج إلى غزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه وهو المراد بقوله عن ذكر ربي ثم إنه عليه الصلاة والسلام أمر بإعدائها وإجرائها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر برد الخيل إليه وهو قوله ردوها عليّ فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور الأول تشريف لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو الثاني أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والمملكة يبلغ إلى أنه يباشر الأمور بنفسه الثالث أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها من غيره فكان يمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزمنا شيء من تلك المنكرات والمحظورات والعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة فإن قيل فالجمهور قد فسروا الآية بتلك الوجوه فما قولك فيه , فنقول : لنا هاهنا مقامات المقام الأول
(6/55)
صفحة رقم 56
أن يدعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي ذكروها وقد ظهروا الحمد لله أن الأمر كما ذكرنا ظهوراً لا يرتاب عاقل فيه , المقام الثاني : أن يقال هب أن لفظ الآية يدل عليه إلا أنه كلام ذكره الناس وأن الدلائل الكثيرة قد قامت على عصمة الأنبياء ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات.
قوله عزَّ وجلَّ : ( ولقد فتنا سليمان ( أي اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه وكان سبب ذلك ما ذكر عن وهب بن منبه قال : سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون وبها ملك عظيم الشأن ولم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر وكان الله تعالى قد أتى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر إنما يركب إليه الريح فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وسبى ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتاً لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسناً وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه وأحبها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها فشقَّ ذلك على سليمان , فقال لها ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ , قالت : إني أذكر أبي وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك فقال سليمان : فقد أبدلك الله ملكاً هو أعظم من ملكه وسلطاناً أعظم من سلطانه وهداك إلى الإسلام وهو خير من ذلك قالت إن ذلك كذلك ولكني إذ ذكرته أصابني ما تراه من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا لي صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشياً لرجوت أن يذهب ذلك حزني وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي فأمر سليمان الشياطين , فقال : مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئاً فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه فعمدت إليه حين
(6/56)
صفحة رقم 57
صنعوه فألبسته ثياباً مثل ثيابه التي كان يلبسها , ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو إليه في ولائدها فتسجد له ويسجدن معها كما كانت تصنع في ملكه وتروح في كل عشية بمثل ذلك وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحاً.
وبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صديقاً له وكان لا يرد على أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل حاضراً سليمان أو غائباً , فأتاه فقال : يا نبي الله كبر سني ورق عظمي ونفد عمري وقد حان مني الذهاب وقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله تعالى وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير أمرهم.
فقال : افعل فجمع له سليمان الناس , فقام فيهم خطيباً فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى وأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضله الله تعالى به حتى انتهى إلى سليمان فقال : ما كان أحكمك في صغرك وأورعك في صغرك وأفضلك في صغرك وأحكم أمرك في صغرك وأبعدك عن كل ما يكره الله تعالى في صغرك ثم انصرف , فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتى ملئ غضباً فلما دخل سليمان داره دعاه فقال : يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله تعالى فأثنيت عليهم خيراً في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم فلما ذكرتني جعلت تثني علي خيراً في صغري وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر عمري ؟ قال آصف : إنَّ غير الله يعبد في دارك منذ أربعين صباحاً في هوى امرأة , فقال سليمان في داري ؟ قال : في دارك قال : فإنا لله وإنا إليه راجعون قد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك.
ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة وولائدها ثم أمر بثياب الظهيرة فأتى بها وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار ولا ينسجها إلا الأبكار ولا يغسلها إلا الأبكار لم تمسها يد امرأة قد رأت الدم فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده وأمر برماد ففرش له ثم أقبل تائباً إلى الله تعالى حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك به في ثيابه تذللاً إلى الله تعالى وتضرعاً إليه يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره فلم يزل كذلك
(6/57)
صفحة رقم 58
يومه حتى أمسى ثم رجع إلى داره وكانت له أم ولد يقال لها أمينة كان إذا دخل الخلاء أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر وكان لا يمسّ خاتمه إلا وهو طاهر وكان ملكه في خاتمه فوضعه يوماً عندها ثم دخل مذهبه , فأتاها شيطان اسمه صخر المارد في صورة سليمان لا تنكر منه شيئاً فقال : خاتمي أمينة فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الطير والوحش والجن والإنس وخرج سليمان فأتى أمينة وقد تغيرت حالته وهيأته عند كل من رآه فقال : يا أمينة خاتمي قالت من أنت قال سليمان بن داود فقالت كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سرير ملكه فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول : أنا سليمان بن داود فيحثون عليه التراب ويقولون انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان.
فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب السوق ويعطونه كل يوم سمكتين فإذ أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة ويشوي الأخرى فيأكلها.
فمكث على ذلك أربعين صباحاً عدة ما كان يعبد الوثن في داره ثم إن آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حكم عدو الله الشيطان في تلك المدة فقال آصف يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيتم قالوا نعم فقال أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن هل أنكرن من خاصة أمره ما أنكرنا في عامة الناس وعلانيتهم فدخل على نسائه فقال : ويحكن هل أنكرتن من ابن داود ما أنكرنا ؟ فقلن : أشده ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من الجنابة , فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال الحسن : ما كان الله
(6/58)
صفحة رقم 59
سبحانه وتعالى ليسلط الشيطان على نساء نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) قال وهب : ثم إن آصف خرج على بني إسرائيل فقال ما في الخاصة أشد مما في العامة فلما مضى أربعون صباحاً طار الشيطان عن مجلسه ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان صدر يومه فلما أمسى أعطاه سمكتيه فباع سليمان إحداهما بأرغفة وبقر بطن الأخرى ليشويها , فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه وجعله في يده ووقع لله ساجداً وعكفت عليه الطير والجن وأقبل الناس عليه وعرف الذي كان دخل عليه لما كان أحدث في داره فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين أن يأتوه بصخر فطلبوه حتى أخذوه فأتي به فأدخله في جوف صخرة وسدَّ عليه بأخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم أمر به فقذفوه في البحر.
وقيل في سبب فتنة سليمان عليه الصلاة والسلام أن جرادة كانت أبرَّ نسائه عنده وكان يأتمنها على خاتمه , فقالت له يوماً إن أخي بينه وبين فلان خصومة فأحب أن تقضي له فقال نعم ولم يفعل فابتلي بقوله نعم وذكروا نحو ما تقدم.
وقيل إن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده فأعاده في يده فسقط وكان فيه ملكه فأيقن سليمان بالفتنة فأتاه آصف فقال : إنك مفتون بذلك والخاتم لا يتماسك في يدك ففرَّ إلى الله تعالى تائباً فإني أقوم مقامك وأسير بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك.
ففر سليمان إلى الله تعالى تائباً وأعطى آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت في يده فأقام آصف في ملك سليمان بسيرته أربعة عشر يوماً إلى أن رد الله تعالى على سليمان ملكه وتاب عليه فرجع إلى ملكه وجلس على سريره وأعاد الخاتم في يده فثبت فهو الجسد الذي ألقي على كرسيه.
وروي عن سعيد بن المسيب قال : احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي فابتلاه الله تعالى وذكر نحو ما تقدم من حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه , قال القاضي عياض وغيره من المحققين : لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبيه الشيطان به وتسليطه على ملكه وتصرفه في أمته بالجور في حكمه وإن الشياطين لا يسلطون على مثله هذا وقد عصم الله تعالى الأنبياء من مثل هذا , والذي ذهب إليه المحققون أن سبب فتنته ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ' قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وأيم الله الذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعين ' وفي رواية لأطوفن بمائة امرا فقال له الملك قل إن شاء الله فلم يقل ونسى قال العلماء والشق هو الجدسد الذي ألقى على كرسيه وهي عقوبته ومحنته لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص وزغلب عليه من التمني وقيل نسي أن بستثني كما صح في الحديث لينفذ أمر الله ومراده فيه وقيل إن المراد بالجسد الذي ألقى على كرسيه أنه ولد له ولده فاجتمعت الشاطين وقال بعضهم لبعض إن عاش له ولد لم تنفك من البلاء فسبيلنا أن تقتل ولده أو نخلبه فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب فحمله فكان يريبه في السحاب خوفا من الشياطين فينما هو مشتغل في بعض مهماته إذا ألأقى ذلك الولد ميتا على كرسيه فعاتبه الله على خوفه من الشاطين ولم يتوكل عليه في ذلك ، فتنبه لخطته
(6/59)
صفحة رقم 60
فاستغفر ربه فلذلك قوله عز وجل ) لاوألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ( أي رجع إلى ملكه بعد الأربعين يوما وقيل أناب إلى الاستغفار وهو قوله )
ص : ( 35 ) قال رب اغفر...
" قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب " ( ) قال رب اغفر لي ( أي سأل ربه المغفرة ) وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ( أي لا يكون لأحد من بعدي وقيل لا تسلبنيه في باقي عمري وتعطيه غيري كما سلبته مني فيما مضى من عمري ) إنك أنت الوهاب ( فإن قلت قول سليمان لا ينبغي لأحد من بعدي مشعر بالحسد والحرص على الدنيا.
قلت لم يقل ذلك حرصاً على طلب الدنيا ولا نفاسة بها ولكن كان قصده في ذلك أن لا يسلط عليه الشيطان مرة أخرى وهذا على قول من قال إن الشيطان استولى على ملكه.
وقيل سأل ذلك ليكون علماً وآية لنبوته ومعجزة دالة على رسالته ودلالة على قبول توبته حيث أجاب الله تعالى دعاءه وردَّ ملكه إليه وزاده فيه وقيل كان سليمان ملكاً ولكنه أحب أن يخص بخاصية كما خص داود بإلانة الحديد وعيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فسأل شيئاً يختص به كما روى في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان : ( رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ( فرددته خاسئاً ) )
ص : ( 36 - 42 ) فسخرنا له الريح...
" فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " ( ) فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء ( أي لينة ليست بعاصفة ) حيث أصاب ( أي حيث أراد ) والشياطين ( أي وسخرنا له الشياطين ) كل بناء ( أي يبنون له ما يشاء ) وغواص ( يعني يستخرجون له اللالىء من البحر وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر ) وآخرين ( أي وسخرنا له آخرين وهم مردة الشياطين ) مقرنين في الأصفاد ( أي مشدودين في القيود سخروا له حتى قرنهم في الأًصفاد ) هذا عطاؤنا ( أي قلنا له هذا عطاؤنا ) فامنن ( أي أحسن إلى من شئت ) أو أمسك ( أي عمن شئت ) بغير حساب ( أي لا حرج عليك فيما أعطيت ولا فيما أمسكت قال الحسن : ما أنعم الله تعالى على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان فإنه إن أعطى أجر وإن لم يعط لم تكن عليه تبعة وقيل هذا في أمر الشياطين يعني هؤلاء الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم فخل عنه وأمسك أي احبس من شئت منهم في العمل وقيل في الوثاق لا تبعة عليك فيما تتعاطاه ) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ( لما
(6/60)
صفحة رقم 61
ذكر الله تعالى ما أنعم به عليه في الدنيا أتبعه بما أنعم به عليه في الآخرة.
قوله عز وجل : ( واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب ( أي بمشقة ) وعذاب ( أي ضر وذلك في المال والجسد وقد تقدمت قصة أيوب ) اركض ( يعني أنه لما انقضت مدة ابتلائه قيل له اركض أي اضرب ) برجلك ( يعني الأرض ففعل فنبعت عين ماء عذب ) هذا مغتسل بارد ( أمره الله تعالى أن يغتسل منه ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فركض برجله الأرض مرة أخرى فنبعت عين ماء عذب أخرى فشرب منه فذهب كل داء كان في باطنه فذلك قوله عز وجل : ( وشراب (.
)
ص : ( 43 - 52 ) ووهبنا له أهله...
" ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب جنات عدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب وعندهم قاصرات الطرف أتراب " ( ) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا ( أي إنما فعلنا ذلك معه على سبيل التفضل والرحمة لا على اللزوم ) وذكرى لأولي الألباب ( يعني سلَّطنا البلاء عليه فصبر , ثم أزلناه عنه وكشفنا ضره فشكر فهو موعظة لذوي العقول والبصائر ) وخذ بيدك ضغثاً ( أي ملء كفك من حشيش أو عيدان أو ريحان ) فاضرب به ولا تحنث ( وكان قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط فشكر الله حسن صبرها معه فأفتاه في ضربها وسهل له الأمر وأمره بأن يأخذ ضغثاً يشتمل على مائة عود صغار فيضربها به ضربة واحدة ففعل ولم يحنث في يمينه وهل ذلك لأيوب خاصة أم لا ؟ فيه قولان أحدهما أنه عام.
وبه قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والثاني أنه خاص بأيوب.
قاله مجاهد واختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده مائة سوط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة.
فقال مالك والليث بن سعيد وأحمد لا يبر.
وقال أبو حنيفة والشافعي إذا ضربه ضربة واحدة فأصابه كل سوط على حدة فقد بر واحتجوا بعموم هذه الآية ) إنا وجدناه صابراً ( أي على البلاء الذي ابتليناه به ) نعم العبد إنه أواب ( قوله تعالى : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب ( أي اذكر صبرهم فإبراهيم ألقي في النار فصبر وإسحاق أضجع للذبح في قول فصبر ويعقوب ابتلي بفقد ولده وذهاب بصره فصبر : ( أولي الأيدي ( قال ابن عباس أولي القوة في طاعة الله تعالى : ( والأبصار ( أي في المعرفة بالله تعالى , وقيل : المراد باليد أكثر الأعمال وبالبصر أقوى الإدراكات فعبر بهما عن العمل باليد وعن الإدراك بالبصر وللإنسان قوتان عالمية وعاملية وأشرف ما يصدر عن القوة العالمية معرفة الله تعالى وأشرف ما يصدر عن القوة العاملية طاعته وعبادته فعبر عن هاتين القوتين بالأيدي والأبصار ) إنا أخلصناهم ( أي اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين ) بخالصة ذكرى الدار ( قيل معناه أخلصناهم بذكرى الآخرة فليس لهم ذكرى غيرها , وقيل نزعنا من قلوبهم حبَّ الدنيا وذكراها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكراها وقيل كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله تعالى , وقيل أخلصوا بخوف الآخرة وهو الخوف الدائم في القلب وقيل أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة
(6/61)
صفحة رقم 62
) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ( يعني من الذين اختارهم الله تعالى واتخذهم صفوة وصفاهم من الأدناس والأكدار ) واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل ( أي اذكرهم بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم ) وكل من الأخيار ( قوله عز وجل : ( هذا ذكر ( أي الذي يتلى عليكم ذكر وقيل شرف وقيل جميل تذكرون به ) وإن للمتقين لحسن مآب ( أي حسن مرجع ومنقلب يرجعون وينقلبون إليه في الآخرة ثم ذكر ذلك فقال تعالى : ( جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ( قيل تفتح أبوابها لهم بغير فتح لها بيد بل بالأمر يقال لها انفتحي انغلقي ) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب وعندهم قاصرات الطرف أتراب ( أي مستويات الأسنان والشباب والحسن بنات ثلاث وثلاثين سنة وقيل متآخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن ولا يتحاسدن.
)
ص : ( 53 - 60 ) هذا ما توعدون...
" هذا ما توعدون ليوم الحساب إن هذا لرزقنا ما له من نفاد هذا وإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار " ( ) هذا ما توعدون ليوم الحساب ( أي قيل للمؤمنين هذا ما توعدون , وقيل هذا ما يوعد به المتقون ) إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ( أي دائم ما له من نفاد وانقطاع بل هو دائم كلما أخذ منه شيء عاد مثله في مكانه.
قوله تعالى : ( هذا ( أي الأمر الذي ذكرناه ) وإن للطاغين ( يعني الكافرين ) لشر مآب ( يعني لشر مرجع يرجعون إليه ثم بينه فقال تعالى : ( جهنم يصلونها ( أي يدخلونها ) فبئس المهاد ( أي الفراش ) هذا فليذوقوه حميم وغساق ( معناه هذا حميم وهو الماء الحار وغساق.
قال ابن عباس : هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها وقيل هو ما يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة وقيل الغساق عين في جهنم وقيل هو البارد المنتن والمعنى هذا حميم وغساق فليذوقوه ) وآخر من شكله ( أي مثل الحميم والغساق ) أزواج ( أي أصناف أخر من العذاب ) هذا فوج مقتحم معكم ( قال ابن عباس هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة هذا فوج يعني جماعة الأتباع مقتحم معكم النار أي داخلوها كما دخلتموها أنتم قيل إنهم يضربون بالمقامع حتى يقتحموها بأنفسهم خوفاً من تلك المقامع قالت القادة ) لا مرحباً بهم ( أي الأتباع ) إنهم صالوا النار ( أي داخلوها كما
(6/62)
صفحة رقم 63
صليناها نحن ) قالوا ( أي قال الأتباع للقادة ) بل أنتم لا مرحباً بكم ( أي لا رحبت بكم الأرض والعرب تقول مرحباً وأهلاً وسهلاً أي أتيت رحباً وسعة ) أنتم قدمتموه لنا ( يعني وتقول الأتباع للقادة أنتم بدأتم بالكفر قبلنا وشرعتموه لنا وقيل معناه أنتم قدمتم لنا هذا العذاب بدعائكم إيانا إلى الكفر ) فبئس القرار ( أي فبئس دار القرار جهنم.
)
ص : ( 61 - 67 ) قالوا ربنا من...
" قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار إن ذلك لحق تخاصم أهل النار قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار قل هو نبأ عظيم " ( ) قالوا ( يعني الأتباع ) ربنا من قدم لنا هذا ( أي شرعه وسنه لنا ) فزده عذاباً ضعفاً في النار ( أي ضعف عليه العذاب في النار.
قال ابن عباس حيات وأفاعي ) وقالوا ( يعني كفار قريش وصناديدهم وأشرافهم وهم في النار ) ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم ( أي في الدنيا ) من الأشرار ( يعنون بذلك فقراء المؤمنين مثل عمار وخباب وصهيب وبلال وسليمان وإنما سموهم أشراراً لأنهم كانوا على خلاف دينهم ) أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار ( يعني أن الكفار إذا دخلوا النار نظروا فلم يروا فيها الذين كانوا يسخرون منهم فقالوا ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتخذناهم سخرياً لم يدخلوا معنا النار أم دخلوها فزاغت عنهم الأبصار أي أبصارنا فلم نرهم حين دخلوا.
وقيل معناه أم هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا وقيل معناه أم كانوا خيراً منا ونحن لا نعلم فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئاً ) إن ذلك ( أي الذي ذكر ) لحق ( ثم بين ذلك فقال تعالى : ( تخاصم أهل النار ( أي في النار وإنما سماه تخاصما لأن قول القادة للأتباع لأمر حبا بكم وقول الأتباع للقادة بل أنتم لا مرحباً بكم من باب الخصومة.
قوله عز وجل : ( قل ( أي يا محمد لمشركي مكة ) إنما أنا منذر ( أي مخوف ) وما من إله إلا الله الواحد ( يعني الذي لا شريك له في ملكه ) القهار ( أي الغالب وفيه شعار بالترهيب والتخويف ثم أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب فقال تعالى : ( رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ( فكونه رباً يشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود وكونه غفاراً يشعر بأنه يغفر الذنوب وإن عظمت ويرحم ) قل هو نبأ عظيم ( يعني القرآن قاله ابن عباس وقيل يعني القيامة.
)
ص : ( 68 - 75 ) أنتم عنه معرضون
" أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين " ( ) أنتم عنه معرضون ( أي لا تتفكرون فيه فتعلمون صدقي في نبوتي وأن ما جئت به لم أعلمه إلا بوحي من الله تعالى : ( ما كان لي من علم بالملأ الأعلى ( يعني الملائكة ) إذ يختصمون ( يعني في شأن آدم حين قال الله تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( " فإن قلت كيف يجوز أن يقال إن الملائكة اختصموا بسبب قولهم ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( "
(6/63)
صفحة رقم 64
والمخاصمة مع الله تعالى لا تليق ولا تمكن.
قلت لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة وهو علة لجواز المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة ) إن يوحى إليّ ( أي إنما علمت هذه المخاصمة بوحي من الله تعالى إليّ ) إلا أنما أنا نذير مبين ( يعني إلا أنما أنا نبي أنذركم وأبين لكم ما تأتونه وتجتنبونه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتاني ربي في أحسن صورة قال أحسبه قال في المنام فقال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو قال في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض قال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت نعم في الكفارات والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجمعات وإسباغ الوضوء على المكاره ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه وقال يا محمد إذا صليت فقل : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون قال والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام ) وفي رواية ( فقلت لبيك وسعديك في المرتين ) وفيها ( فعلمت ما بين المشرق والمغرب ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
( فصل : في الكلام على معنى هذا الحديث )
وللعلماء في هذا الحديث وفي أمثاله من أحاديث الصفات مذهبان أحدهما وهو مذهب السلف إمراره كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والإيمان به من غير تأويل له والسكوت عنه وعن أمثاله مع الإعتقاد بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
المذهب الثاني : هو تأويل الحديث , وقيل الكلام على معنى الحديث نتكلم على إسناده فنقول قال البيهقي : هذا حديث مختلف في إسناده فرواه زهير بن محمد عن يزيد بن يزيد عن جابر عن خالد بن الحلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورواه جهضم بن عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي عن مالك بن عامر عن معاذ بن جبل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) , ورواه موسى بن خلف العمي عن يحيى عن زيد عن جده ممطور وهو أبو سلام عن ابن السكسكي عن مالك بن يخامر وقيل فيه غير ذلك , ورواه أبو أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس وقال فيه أحسبه قال في المنام , ورواه قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن الحلاج عن ابن عباس قال البخاري عبد الرحمن بن عائش الحضرمي له حديث واحد إلا أنهم يضطربون فيه وهو حديث الرؤية.
قال البيهقي وقد روى من طرق كلها ضعاف وفي ثبوته نظر وأحسن طريق فيه رواية جهضم بن عبد الله ثم رواية موسى بن خلف وفيهما ما يدل على أن ذلك كان في المنام.
فأما تأويله فإن الصورة هي التركيب والمصور هو المركب ولا يجوز أن يكون الباري تبارك وتعالى مصوراً ولا أن يكون له صورة لأن الصور مختلفة والهيئات متضادة ولا يجوز إضافة ذلك إليه سبحانه وتعالى فاستحال أن يكون مصوراً وهو الخالق الباري المصور فقوله أتاني ربي في أحسن صورة يحتمل وجهين أحدهما وأنا في أحسن صورة كأنه زاده جمالاً وكمالاً وحسناً عند رؤيته وفائدة ذلك تعريفه لنا أن الله تعالى زين خلقته وحسن صورته عند رؤيته لربه وإنما التغيير وقع بعد لشدة الوحي وثقله.
الوجه الثاني : أن الصورة بمعنى الصفة ويرجع ذلك إلى الله تعالى والمعنى أنه رآه في أحسن صفاته من الإنعام عليه والإقبال والاتصال إليه وأنه
(6/64)
صفحة رقم 65
تلقاه بالإكرام والإعظام والإجلال.
وقد يقال في صفات الله تعالى إنه جميل ومعناه أنه مجمل في أفعاله وذلك نوع من الإحسان والإكرام فذلك من حسن صفة الله تعالى وقد يكون حسن الصورة أيضاً يرجع إلى صفاته العلية من التناهي في العظمة والكبرياء والعلو والعز والرفعة حتى لا منتهى ولا غاية وراءه , ويكون معنى الحديث على هذا تعريفنا ما تزايد من معارفه ( صلى الله عليه وسلم ) عند رؤية ربه عزَّ وجلَّ فأخبر عن عظمته وعزته وكبريائه وبهائه وبعده عن شبه الخلق وتنزيهه عن صفات النقص وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي ) فتأويله أن المراد باليد النعمة والمنة والرحمة وذلك شائع في لغة العرب فيكون معناه على هذا الإخبار بإكرام الله تعالى إياه وإنعامه عليه بأن شرح صدره ونور قلبه وعرفه ما لا يعرفه أحد حتى وجد برد النعمة والمعرفة في قلبه وذلك لما نور قلبه وشرح صدره فعلم ما في السموات وما في الأرض بإعلام الله تعالى إياه وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون إذ لا يجوز على الله تعالى ولا على صفات ذاته مماسة أو مباشرة أو نقص وهذا هو أليق بتنزيهه وحمل الحديث عليه وإذا حملنا الحديث على المنام وأن ذلك كان في المنام فقد زال الإشكال وحصل الغرض ولا حاجة بنا إلى التأويل.
)
ص : ( 76 - 88 ) قال أنا خير...
" قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين " ( ) قال أنا خير منه ( يعني لو كنت مساوياً له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له فكيف وأنا خير منه.
ثم بين كونه خيراً منه فقال ) خلقتني من نار وخلقته من طين ( والنار أشرف من الطين وأفضل منه وأخطأ إبليس في القياس لأن مآل النار إلى الرماد الذي لا ينتفع به والطين أصل كل ما هو نام ثابت كالإنسان والشجرة المثمرة ومعلوم أن الإنسان والشجرة المثمرة خير من الرماد وأفضل.
وقيل : هب أن النار خير من الطين بخاصية فالطين خير منها وأفضل بخواص وذلك مثل رجل شريف نسيب لكنه عار عن كل فضيلة فإن نسبه يوجب رجحانه بوجه واحد , ورجل ليس بنسيب ولكنه فاضل عالم فيكون أفضل من ذلك النسيب بدرجات كثيرة ) قال فاخرج منها ( أي من الجنة وقيل من السماء.
وقيل من الخلقة التي كان فيها وذلك لأن إبليس تجبر وافتخر بالخلقة فغير الله تعالى خلقته فاسود
(6/65)
صفحة رقم 66
وقبح بعد حسنه ونورانيته ) فإنك رجيم ( أي مطرود ) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ( فإن قلت إذا كان الرجم بمعنى الطرد وكذلك اللعنة لزم التكرار فما الفرق.
قلت الفرق أن يحمل الرجم على الطرد من الجنة أو السماء وتحمل اللعنة على معنى الطرد من الرحمة فتكون أبلغ وحصل الفرق وزال التكرار.
فإن قلت كلمة إلى لانتهاء الغاية وقوله إلى يوم الدين يقتضي انقطاع اللعنة عنه عند مجيء يوم الدين.
قلت معناه أن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا كان يوم القيامة زيد له مع اللعنة من أنواع العذاب ما ينسى بذلك اللعنة فكأنها انقطعت عنه ) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ( يعني النفخة الأولى ) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول ( أي أنا أقول الحق وقيل الأول قسم يعني فبالحق وهو الله تعالى أقسم بنفسه ) لأملأن جهنم منك ( أي بنفسك وذريتك ) وممن تبعك منهم أجمعين ( يعني من بني آدم ) قل ما أسألكم عليه ( أي على تبليغ الرسالة ) من أجر ( أي جعل ) وما أنا من المتكلفين ( أي المتقولين القرآن من تلقاء نفسي وكل من قال شيئاً من تلقاء نفسه فقد تكلف له
( ق ) عن مسروق قال : دخلنا على ابن مسعود فقال يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ( لفظ البخاري ) إن هو ( يعني القرآن ) إلا ذكر ( أي موعظة ) للعالمين ( أي للخلق أجمعين ) ولتعلمن ( يعني أنتم يا أهل مكة ) نبأه ( أي خبر صدقه ) بعد حين ( قال ابن عباس : بعد الموت ، وقيل يوم القيامة وقيل من بقي علم بذلك إذا ظهر أمره وعلا ومن مات علمه بعد الموت.
وقال الحسن بن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.
سورة الزمر
تفسير سورة الزمر
نزلت بمكة إلا قوله تعالى ' قل لعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ' وقولع تعالى ' الله نزل أحسن الحديث ' وقيل : ' قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم ' عو ضا عن قوله ' الله نزل أحسن الحديث ' وقيل فيها ثلاث آيات مدنيات من قوله ' قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ' إلى قوله ' لا تشعرون ' وهي اثنتان وقيل خمس وسبعون آية وألف ومائة واثنتان وسبعون كلمة وأربعة آلاف وتسعمائة وثمانية أحرف.
(6/66)
صفحة رقم 67
( بسم الله الرحمن الرحيم ) : (
الزمر : ( 1 - 4 ) تنزيل الكتاب من...
" تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار " ( قوله عز وجل : ( تنزيل الكتاب ( أي هذا الكتاب وهو القرآن تنزيل ) من الله العزيز الحكيم ( أي لا من غيره ) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ( أي لم ننزله باطلاً لغير شيء ) فاعبد الله مخلصاً له الدين ( أي الطاعة ) ألا لله الدين الخالص ( أي شهادة أن لا إله إلا الله , وقيل لا يستحق الدين الخالص إلا الله وقيل يعني الخالص من الشرك وما سوى الخالص ليس بدين الله الذي أمر به لأن رأس العبادات الإخلاص في التوحيد واتباع الأوامر واجتناب النواهي ) والذين اتخذوا من دونه ( أي من دون الله ) أولياء ( يعني الأصنام ) ما نعبدهم ( أي قالوا ما نعبدهم ) إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( يعني قربة وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من خلقكم وخلق السموات والأرض ومن ربكم قالوا الله فقيل لهم فما معنى عبادتكم الأصنام فقالوا ليقربونا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده ) إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون ( أي من أمر الدين ) إن الله لا يهدي ( أي لا يرشد لدينه ) من هو كاذب ( أي من قال إن الآلهة تشفع له ) كفار ( أي باتخاذه الآلهة دون الله تعالى ) لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى ( أي لاختار ) مما يخلق ما يشاء ( يعني الملائكة ثم نزه نفسه فقال تعالى : ( سبحانه ( أي تنزيهاً له عن ذلك وعما لا يليق بطهارة قلبه ) وهو الواحد ( أي في ملكه الذي لا شريك له ولا ولد ) القهار ( أي الغالب الكامل القدرة.
)
الزمر : ( 5 - 7 ) خلق السماوات والأرض...
" خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور " ( قوله تعالى : ( خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ( يعني يغشى هذا هذا , وقيل يدخل أحدهما على الآخر وقيل ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر فما نقص من الليل زاد في النهار وما نقص من النهار زاد في الليل ومنتهى النقصان تسع ساعات ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة وقيل الليل والنهار عسكران عظيمان يكرّ أحدهما على الآخر وذلك بقدرة قادر عليهما قاهر لهما ) وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ( يعني إلى يوم القيامة ) ألا هو العزيز الغفار ( معناه أن خلق هذه الأشياء العظيمة يدل على كونه سبحانه وتعالى عزيزاً كامل القدرة مع أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان ) خلقكم من نفس واحدة ( يعني آدم ) ثم جعل منها زوجها ( يعني حواء , ولما ذكر الله تعالى قدرته في خلق السموات والأرض وتكوير الليل على النهار ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان عقبه بذكر خلق الحيوان فقال تعالى : ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ( يعني الإبل والبقر والغنم والمعز
(6/67)
صفحة رقم 68
والمراد بالأزواج الذكر والأنثى من هذه الأصناف , وفي تفسير الإنزال وجوه.
قيل إنه هنا بمعنى الإحداث والإنشاء وقيل إن الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وهو ينزل من السماء فكان التقدير أنزل الماء الذي تعيش به الأنعام وقيل إن أصول هذه الأصناف خلقت في الجنة ثم أنزلت إلى الأرض ) يخلقكم في بطون أمهاتكم ( لما ذكر الله تعالى أصل خلق الإنسان ثم أتبعه بذكر الأنعام عقبه بذكر حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات وإنما قال في بطون أمهاتكم لتغليب من يعقل ولشرف الإنسان على سائر الخلق ) خلقاً من بعد خلق ( يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة ) في ظلمات ثلاث ( قال ابن عباس ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وقيل ظلمة الصلب وظلمة الرحم وظلمة البطن ) ذلكم الله ربكم ( أي الذي خلق هذه الأشياء ربكم ) له الملك ( أي لا لغيره ) لا إله إلا هو ( أي لا خالق لهذا الخلق ولا معبود لهم إلا الله تعالى : ( فأنى تصرفون ( أي عن طريق الحق بعد هذا البيان.
قوله عز وجل : ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ( يعني أنه تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه نفعاً أو ليدفع عن نفسه ضرراً وذلك لأنه تعالى غني عن الخلق على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ولأنه لو كان محتاجاً لكان ذلك نقصاناً والله تعالى منزه عن النقصان فثبت بما ذكرنا أنه غني عن جميع العالمين فلو كفروا وأصروا عليه فإن الله تعالى غني عنهم ثم قال الله تعالى : ( ولا يرضى لعباده الكفر ( يعني أنه تعالى وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفر إلا أنه لا يرضى لعباده الكفر قال ابن عباس لا يرضى لعباده المؤمنين بالكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم : (
الزمر : ( 8 - 10 ) وإذا مس الإنسان...
" وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " ( ) وإذا مس الإنسان ضر ( أي بلاء وشدة ) دعا ربه منيباً ( أي راجعاً ) إليه ( مستغيثاً به ) ثم إذا خوله ( أي أعطاه ) نعمة منه نسي ( أي ترك ) ما كان يدعو إليه من قبل ( والمعنى نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه ) وجعل لله أنداداً ( يعني الأصنام ) ليضل عن سبيله ( أي ليرد عن دين الله تعالى ) قل ( أي لهذا الكافر ) تمتع بكفرك قليلاً ( أي في الدنيا إلى انقضاء أجلك ) إنك من أصحاب النار ( قيل نزلت في عتبة
(6/68)
صفحة رقم 69
بن ربيعة وقيل في أبي حذيفة المخزومي وقيل هو عام في كل كافر ) أمن هو قانت ( قيل فيه حذف مجازه كمن هو غير قانت , وقيل مجازه الذي جعل لله أنداداً أخير أم من هو قانت.
وقيل معنى الآية تمتع بكفرك إنك من أصحاب النار ويا من هو قانت أنت من أصحاب الجنة.
قال ابن عباس : نزلت في أبي بكر وعمر.
وعن ابن عمر : أنها نزلت في عثمان.
وقيل : إنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان وقيل : الآية عامة في كل قانت وهو المقيم على الطاعة , وقال ابن عمر : القنوت قراءة القرآن وطول القيام , وقيل : القانت القائم بما يجب عليه ) آناء الليل ( أي ساعات الليل أوله ووسطه وآخره ) ساجداً وقائماً ( أي في الصلاة وفيه دليل على ترجيح قيام الليل على النهار وأنه أفضل منه وذلك لأن الليل أستر فيكون أبعد عن الرياء ولأن ظلمة الليل تجمع الهم وتمنع البصر عن النظر إلى الأشياء , وإذا صار القلب فارغاً عن الاشتغال بالأحوال الخارجية رجع إلى المطلوب الأصلي وهو الخشوع في الصلاة ومعرفة من يصلى له , وقيل لأن الليل وقت النوم ومظنَّة الراحة فيكون قيامه أشقّ على النفس فيكون الثواب فيه أكثر ) يحذر ( أي يخاف ) الآخرة ويرجوا رحمة ربه ( قيل المغفرة وقيل الجنة وفيه فائدة وهي أنه قال في مقام الخوف يحذر الآخرة فلم يضف الحذر إليه تعالى , وقال في مقام الرجاء ويرجو رحمة ربه وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأولى أن ينسب إلى الله تعالى ويعضد.
هذا ما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على شاب وهو في الموت فقال له كيف نجدك قال أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله تعالى ما يرجو منه وآمنه مما يخاف ) أخرجه الترمذي ) قل هل يستوي الذين يعلمون ( أي ما عند الله من الثواب والعقاب ) والذين لا يعلمون ( ذلك , وقيل : الذين يعلمون عمار وأصحابه.
والذين لا يعلمون أبو حذيفة المخزومي وقيل افتتح الله الآية بالعمل وختمها بالعلم لأن العمل من باب المجاهدات والعلم من باب المكاشفات وهو النهاية فإذا حصل للإنسان دل ذلك على كماله وفضله ( إنما يتذكر أولوا الألباب ) قوله تعالى ) قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم ( أي بطاعنه واجتناب معاصيه ) للذين أحسنوا في هذ 1 ه الدنيا حسنة ( يعني للذين آمنوا وحسنوا العمل حسنة يعني الجنة وقيل الصحة والعافية يفي هذه الدنيا ) وأرض الله واسعة ( قال ابن عباس يعني ارتحلوا من مكة وفيه حث على الهجرة من البلد الذيب يظهر فيه المعاصي وقيل من أمر بالمعاصي في بلد فليهرب منه وقيل نزلت في مهاجري الحبشة وقيل نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما نزل بهم البلاء وصيروا وهاجروا ) إنما يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب " قال علي بن أبي طالب كل
(6/69)
صفحة رقم 70
مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابرين فإنه لا يحثي وروى أنه يؤتي بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغي رحساب حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما يذهب به أهل البلاء من الفضل )
الزمر : ( 11 - 16 ) قل إني أمرت...
" قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون " ( قوله عز وجل : ( قل ( يا محمد ) إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ( أي مخلصاً له التوحيد أي لا أشرك به شيئاً ) وأمرت لأن أكون أول المسلمين ( أي من هذه الأمة قيل أمره أولاً بالإخلاص وهو من عمل القلب ثم أمره ثانياً بعمل الجوارح لأن شرائع الله تعالى لا تستفاد إلا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو المبلغ فكان هو أول الناس شروعاً فيها فخص الله سبحانه وتعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا الأمر لينبه على أن غيره أحق بذلك فهو كالترغيب لغيره ) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما حملك على هذا الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وقومك فتأخذ بها فأنزل الله تعالى هذه الآيات ومعنى الآية زجر الغير عن المعاصي لأنه مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته ومنصب نبوته إذا كان خائفاً حذراً من المعاصي فغيره أولى بذلك ) قل الله أعبد مخلصاً له ديني ( فإن قلت ما معنى التكرار في قوله ) قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ( وفي قوله ) قل الله أعبد مخلصاً له ديني (.
قلت هذا ليس بتكرار لأن الأول الإخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالإتيان بالعبادة والإخلاص , والثاني أنه إخبار بأنه أمر أن يخص الله تعالى وحده بالعبادة ولا يعبد أحداً غيره مخلصاً له دينه , لأن قوله ) أمرت أن أعبد الله ( لا يفيد الحصر وقوله : ( الله أعبد ( يفيد الحضر والمعنى الله أعبد ولا أعبد أحداً غيره ثم أتبعه بقوله ) فاعبدوا ما شئتم من دونه ( ليس أمراً بل المراد منه الزجر والتهديد والتوبيخ ثم بين كمال الزجر بقوله ) قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ( يعني أزواجهم وخدمهم ) يوم القيامة ( قال ابن عباس : وذلك أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلاً وأهلاً في الجنة فمن عمل بطاعة الله تعالى كان ذلك المنزل والأهل ومن عمل بمعصية الله تعالى دخل النار وكان ذلك المنزل والأهل لغيره ممن عمل بطاعة الله تعالى فخسر نفسه وأهله ومنزله وقيل خسران النفس بدخول النار وخسران الأهل بأن يفرق بينه وبين أهله ) ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ( أي أطباق وسرادقات ) ومن تحتهم ظلل ( أي فراش ومهاد وقيل أحاطت النار بهم من جميع الجهات والجوانب.
فإن قلت الظلة ما فوق الإنسان فكيف سمي ما تحته بالظلة , قلت فيه وجوه الأول أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر.
الثاني أن الذي تحته من النار يكون ظلة لآخر تحته في النار لأنها دركات.
الثالث أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة
(6/70)
صفحة رقم 71
للظلة الفوقانية في الإيذاء والحرارة سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة ) ذلك يخوف الله به عباده ( أي المؤمنين لأنهم إذا سمعوا حال الكفار في الآخرة خافوا فأخلصوا التوحيد والطاعة لله عز وجل وهو قوله تعالى : ( يا عباد فاتقون ( أي فخافون.
)
الزمر : ( 17 - 21 ) والذين اجتنبوا الطاغوت...
" والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب " ( ) والذين اجتنبوا الطاغوت ( يعني الأوثان ) أن يعبدوها وأنابوا إلى الله ( أي رجعوا إلى عبادة الله تعالى بالكلية وتركوا ما كانوا عليه من عبادة غيره ) لهم البشرى ( أي في الدنيا وفي الآخرة أما في الدنيا فالثناء عليهم بصالح أعمالهم وعند نزول الموت وعند الوضع في القبر , وأما في الآخرة فعند الخروج من القبر وعند الوقوف للحساب وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة وفي الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البشارة بنوع من الخير والراحة والروح والريحان ) فبشر عبادي الذين يستمعون القول ( يعني القرآن ) فيتبعون أحسنه ( أي أحسن ما يؤمرون به فيعملون به وهو أن الله تعالى ذكر في القرآن الانتصار من الظالم وذكر العفو عنه والعفو أحسن الأمرين وقيل ذكر العزائم والرخص فيتبعون الأحسن وهو العزائم وقيل يستمعون القرآن وغيره من الكلام فيتبعون القرآن لأنه كله حسن وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أسلم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه جاءه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزلت فيهم ) فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ( وقيل نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله وهم زيد بن عمرو وأبو ذر وسلمان الفارسي ) أولئك الذين هداهم الله ( أي إلى عبادته وتوحيده ) وأولئك هم أولوا الألباب أفمن حق عليه كلمة العذاب ( قال ابن عباس : سبق في علم الله تعالى أنه في النار وقيل كلمة العذاب قوله ) لأملأن جهنم ( وقيل قوله هؤلاء في النار ولا أبالي ) أفأنت تنقذ من في النار ( أي لا تقدر عليه , قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أبا لهب وولده ) لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية ( أي منازل في الجنة رفيعة وفوقها منازل هي أرفع منها ) تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ( أي وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعداً لا يخلفه
( ق ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم فقالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ) قوله الغابر أي
(6/71)
صفحة رقم 72
الباقي في الأفق أي في ناحية المشرق أو المغرب.
قوله تعالى : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ( أي أدخل ذلك الماء ) ينابيع في الأرض ( أي عيوناً وركايا ومسالك ومجاري في الأرض كالعروق في الجسد قال الشعبي كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ) ثم يخرج به ( أي بالماء ) زرعاً مختلفاً ألوانه ( أي مثل أصفر وأخضر وأحمر وأبيض وقيل أصنافه مثل البر والشعير وسائر أنواع الحبوب ) ثم يهيج ( أي ييبس ) فتراه ( أي بعد خضرته ونضرته ) مصفراً ثم يجعله حطاماً ( أي فتاتاً متكسراً ) إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب (
)
الزمر : ( 22 - 23 ) أفمن شرح الله...
" أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد " ( ) أَفمن شرح الله صدره ( أي وسعه ) للإسلام ( وقبول الحق كمن طبع الله تعالى على قلبه فلم يهتد ) فهو على نور من ربه ( أي على يقين وبيان وهداية.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود قال ( تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه قلنا يا رسول الله كيف انشراح صدره قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا يا رسول الله فما علامات ذلك قال الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت ) ) فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ( القسوة جمودة وصلابة تحصل في القلب.
فإن قلت كيف يقسو القلب عن ذكر الله وهو سبب لحصول النور والهداية ؟
قلت إنهم كلما تلي ذكر الله على الذين يكذبون به قست قلوبهم عن الإيمان به وقيل إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن قبول الحق فإن سماعها لذكر الله لا يزيدها إلا قسوة , وكدورة كحر الشمس يلين الشمع ويعقد الملح فكذلك القرآن يلين قلوب المؤمنين عن سماعه ولا يزيد الكافرين إلا قسوة قال مالك بن ديار ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب , وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة ) أولئك في ضلال مبين ( قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفي أبي بن خلف , وقيل : في علي وحمزة وفي أبي لهب وولده وقيل في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي أبي جهل.
قوله عز وجل : ( الله نزل أحسن الحديث ( يعني القرآن وكونه أحسن الحديث لوجهين أحدهما من جهة اللفظ والآخر من جهة المعنى , أما الأول فلأن القرآن من أفصح الكلام وأجزله وأبلغه وليس هو من جنس الشعر ولا من جنس الخطب والرسائل بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه , وأما الوجه الثاني وهو كون القرآن من أحسن الحديث لأجل المعنى فلأنه كتاب منزه عن التناقض والاختلاف مشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين وعلى أخبار الغيوب الكثيرة وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار ) كتاباً متشابهاً ( أي يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً ) مثاني ( أي يثني فيه ذكر الوعد والوعيد والأمر والنهي والأخبار والأحكام ) تقشعر ( أي تضطرب وتشمئز ) منه جلود الذين يخشون ربهم ( والمعنى تأخذهم قشعريرة وهي تغيير يحدث في جلد
(6/72)
صفحة رقم 73
الإنسان عند ذكر الوعيد والوجل والخوف.
وقيل المراد من الجلود القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم ) ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ( أي لذكر الله تعالى قيل إذا ذكرت آيات الوعيد والعذاب اقشعرت جلود الخائفين لله وإذا ذكرت آيات الرعد والرحمة لانت جلودهم وسكنت قلوبهم وقيل حقيقة المعنى أن جلودهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء.
روى عن العباس بن المطلب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ' إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالىتحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها ' وفي رواية ' حرمة الله تعالى على النار ' قال بعض العارفين السيارون في بيداء جلال اله إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإذا لاح لهم جمال من عالم الجمال عاشوا وقال قتادة هذا نعت أولياء الله الذي نعتهم الله با ، تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان وروى عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال قلت ' قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كيف كان أصحاب رسول يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه قالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وروى أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مر برجل من أهل العراق ساقط فقال ما بال هذا قالوا إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط فقال ابن عمر إنا لنخشى الله وما نسقط وقال ابن عمر إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذكر عن ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن فقال بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق.
فإن قلت لما ذكرت الجلود وحدها أولا في جانب أولا فيء جانب الخوف ثم قرنت معها القلوب ثانيا في الرجاء : قلت لما إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب اقشعرت الجلود من ذكر آيات الوعيد في أول وهلة وإذا ذكر الله ومبني أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشقريرة لينا في جلودهم وقيل إن النمكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها يفي مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات والخوف ليس بمطلوب وإذا حصل الخوف اقشعر منه الجلد وإذا حصل الرجاء اطمأن
(6/73)
صفحة رقم 74
إليه القلب ولان الجلد ( ذلك ) أي القرآن الذي هوة أحسن الحديث ) هدى الله يهدي به من يشاء ( أي هو الذي يشرح الله به صدره لقبول الهداية ) ومن يضلل الله ( أي يجعل قلبه قاسيا منافيا لقبول الهداية ) فماله من هاد ( أي يهديه.
قوله عز وجل )
الزمر : ( 24 - 26 ) أفمن يتقي بوجهه...
" أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون " ( ) أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب ( أي شدته ) يوم القيامة ( قيل يجر على وجه في النار وقيل يرمى به في النار منكوساً فأول شيء تمسه النار وجهه , وقيل هو الكافر يرمى به منكوساً في النار مغلولة يداه إلى عنقه وفي عنقه صخرة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشعل النار في تلك الصخرة وهي في عنقه فحرها ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه ومعنى الآية أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن العذاب ) وقيل للظالمين ( أي تقول لهم الخزنة ) ذوقوا ما ( أي وبال ما ) كنتم تكسبون ( أي في الدنيا من المعاصي ) كذب الذين من قبلهم ( أي من قبل كفار مكة كذبوا الرسل ) فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ( يعني وهم غافلون آمنون من العذاب ) فأذاقهم الله الخزي ( أي العذاب والهوان ) في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (
)
الزمر : ( 27 - 31 ) ولقد ضربنا للناس...
" ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " ( ) ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ( أي يتعظون ) قرآناً عربياً ( أي فصيحاً أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته ) غير ذي عوج ( أي منزهاً عن التناقض , وقال ابن عباس : غير مختلف.
وقيل : غير ذي لبس وقيل : غير مخلوق ويروى ذلك عن مالك بن أنس وحكي عن سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين إن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق ) لعلهم يتقون ( أي الكفر والتكذيب
فإن قلت ما الحكمة في تقديم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية.
قلت سبب تقديم التذكر أن الإنسان إذا تذكر وعرف ووقف على فحوى الشيء واختلط بمعناه واتقاه واحترز منه.
قوله تعالى :
) ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ( أي متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم والشكس السيء الخلق المخالف للناس لا يرضى بالإنصاف ) ورجلاً سلماً لرجل ( أي خالصاً له فيه ولا منازع ؛ والمعنى واضرب يا محمد لقومك مثلاً وقل لهم ما تقولون في رجل مملوك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع كل واحد يدعي أنه عبده وهم يتجاذبونه في مهن شتى فإذا عنت لهم حاجة يتدافعونه فهو متحير في أمره لا يدري أيهم يرضي بخدمته وعلى أيهم يعتمد في حاجاته وفي رجل آخر مملوك قد سلم لمالك واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك السيد يعين خادمه في حاجاته فأي هذين العبدين أحسن حالاً وأحمد شأناً , وهذا مثل ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتى والمؤمن الذي يعبد الله وحده فكان حال المؤمن الذي يعبد إلهاً واحداً أحسن وأصلح من حال الكافر الذي يعبد آلهة شتى وهو قوله تعالى : ( هل يستويان مثلاً (
(6/74)
صفحة رقم 75
وهذا استفهام إنكار أي لا يستويان في الحال والصفة قال تعالى : ( الحمد لله ( أي لله الحمد كله وحده دون غيره من المعبودين , وقيل لما ثبت أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الحق بالدلائل الظاهرة والأمثال الباهرة قال : الحمد لله على حصول هذه البينات وظهور هذه الدلالات ) بل أكثرهم لا يعلمون ( أي المستحق للعبادة هو الله تعالى وحده لا شريك له.
قوله تعالى ( إنك ميت ) أي ستموت ) وإنهم ميتون ( أي سيموتون وذلك أنهم كانوا يتربصون برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) موته فأخبر الله تعالى أن الموت يعمهم جميعا فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني وقيل نعى إلي نبيه نفسه وإليكم أنفسكم والمعني أنك ميت وأنهم ميتون وإن كنتم أحياء فإنكم في عداد الموتى ) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ( قال ابن عباس يعني الحق والباطل والظالم والمظلوم عن عبد الله بن الزبير قال لما نزلت ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قال الزبير يا رسول الله أتكون علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال نعم فقال إن الأمر إذا لشديد أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وقال ابن عمر رضي الله عنهما عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي ا ل الكتابين ثم أنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلنا كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها فينا نزلت وعن أبي سعيد الخدري وفي هذه الآية كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيف قلنا نعم هو هذا وعن إبراهيم لما نزلت هذه الآية ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قالوا كيف نختصم ونحن إخوان فلما قتل عثمان قالوا هذه خصومتنا
( خ ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ' من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه ' ( م ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
(6/75)
صفحة رقم 76
عليه وسلم
قال ' أتدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قاتل إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أ ، يقضي ما عليه أخذت من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار )
الزمر : ( 32 - 36 ) فمن أظلم ممن...
" فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد " ( ) فمن أظلم ممن كذب على الله ( فزعم أن له ولداً أو شريكاً ) وكذب بالصدق إذ جاءه ( أي بالقرآن وقيل بالرسالة إليه ) أليس في جهنم مثوى ( أي منزلة ومقام ) للكافرين (.
قوله تعالى : ( والذي جاء بالصدق وصدق به ( أي والذي صدق به , قال ابن عباس : الذي جاء بالصدق هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جاء بلا إله إلا الله وصدق به هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً بلغه إلى الخلق , وقيل : الذي جاء بالصدق هو جبريل عليه الصلاة والسلام جاء بالقرآن وصدق به محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : الذي جاء بالصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصدق به أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقيل وصدق به المؤمنون وقيل الذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع.
وقيل : الذي جاء بالصدق أهل القرآن وهو الصدق يجيئون به يوم القيامة وقد أدوا حقه فهم الذين صدقوا به ) أولئك هم المتقون ( أي الذين اتقوا الشرك ) لهم ما يشاؤون عند ربهم ( أي من الجزاء والكرامة ) ذلك جزاء المحسنين ( أي في أقوالهم وأفعالهم ) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ( أي يستره عليهم بالمغفرة ) ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ( أي يجزيهم بمحاسن أفعالهم ولا يجزيهم بمساويها.
قوله عز وجل : ( أليس لله بكاف عبده ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وقرىء عباده يعني الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قصدهم قومهم بالسوء فكفاهم الله تعالى شر من عاداهم ) ويخوفونك بالذين من دونه ( وذلك أنهم خوفوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مضرة الأوثان وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون ) ومن يضلل الله فما له من هاد (.
)
الزمر : ( 37 - 42 ) ومن يهد الله...
" ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " ( ) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ( أي منيع في ملكه ) ذي انتقام ( أي منتقم من أعدائه ) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ( يعني أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم , وذلك متفق عليه عند جمهور الخلائق فإن فطرة الخلق شاهدة بصحة هذا العلم فإن من تأمل عجائب السموات والأرض وما فيها من أنواع الموجودات علم بذلك أنها من ابتداع قادر حكيم ثم أمره الله تعالى أن يحتج عليهم بأن ما يعبدون من دون الله لا قدرة لها على جلب خير
(6/76)
صفحة رقم 77
أو دفع ضر وهو قوله تعالى : ( قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله ( يعني الأصنام ) إن أرادني الله بضر ( أي بشدة وبلاء ) هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة ( أي بنعمة وخير وبركة ) هل هن ممسكات رحمته ( فسألهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فسكتوا فقال الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قل حسبي الله ( أي هو ثقتي وعليه اعتمادي ) عليه يتوكل المتوكلون ( أي عليه يثق الواثقون ) قل يا قوم اعملوا على مكانتكم ( أي اجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم وهو أمر تهديد وتقريع ) إني عامل ( أي بما أمرت به من إقامة الدين ) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ( أي أنا وأنتم ) ويحل عليه عذاب مقيم ( أي دائم وهو تهديد وتخويف ) إنا أنزلنا عليك الكتاب ( يعني القرآن ) للناس بالحق ( أي ليهتدي به كافة الخلق ) فمن اهتدى فلنفسه ( أي ترجع فائدة هدايته إليه ) ومن ضل فإنما يضل عليها ( أي يرجع وبال ضلالته عليه ) وما أنت عليهم بوكيل ( أي لم توكل بهم ولا تؤاخذ عنهم قيل هذا منسوخ بآية القتال.
قوله تعالى : ( الله يتوفى الأنفس ( أي الأرواح ) حين موتها ( أي فيقبضها عند فناء أكلها وانقضاء أجلها وهو موت الأجساد ) والتي لم تمت في منامها ( والنفس التي يتوفاها عند النوم وهي التي يكون بها العقل والتمييز , ولكل إنسان نفسان نفس هي التي تكون بها الحياة وتفارقه عند الموت وتزول بزوالها الحياة والنفس الأخرى هي التي يكون بها التمييز وهي التي تفارقه عند النوم ولا يزول بزوالها التنفس ) فيمسك التي قضى عليها الموت ( أي فلا يردها إلى جسدها ) ويرسل الأخرى ( أي يرد النفس التي لم يقض عليها الموت إلى جسدها ) إلى أجل مسمى ( أي إلى أن يأتي وقت موتها , وقيل إن للإنسان نفساً وروحاً فعند النوم تخرج النفس وتبقى الروح وقال علي بن أبي طالب : تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعها في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت الروح إلى الجسد بأسرع من لحظة.
وقيل : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله تعالى فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها إلى حين انقضاء مدة آجالها
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ' إذا آوى أحدكمم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخله إزاره فإنه لا يدريس ما خلفه عليه ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبل أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ' فإن قلت كيف الجمع بين قوله تعالى حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا.
قلت المتوفى في الحقيقة هو الله تعالى وملك الموت هو القابض للروح بإذن الله تعالى ولملك الموت أعوان وجنود من الملائكة ينتزعون الروح من سائر البدن فإذا بلغت
(6/77)
صفحة رقم 78
الحلقوم قبضها ملك الموت ) لاإن في ذلم لآيات لقوم يتفكرون ( أي في البعث وذلك أن توفي نفس النائم وإرسالها بعد التوفي دليل على البعث وقيل إن في ذلك دليلا على قدرتنا حيث لم تغلظ في إمساك ما تمسك من الأرواح وإرسال ما ترسل منها
)
الزمر : ( 43 - 45 ) أم اتخذوا من...
" أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون " ( ) أم اتخذوا من دون الله شفعاء ( يعني الأصنام ) قل ( يا محمد ) أولو كانوا ( يعني الآلهة ) لا يملكون شيئاً ( أي من الشفاعة ) ولا يعقلون ( أي إنكم تعبدونهم وإن كانوا بهذه الصفة ) قل لله الشفاعة جميعاً ( أي لا يشفع أحد إلا بإذنه فكان الاشتغال بعبادته أولى لأنه هو الشفيع في الحقيقة وهو يأذن في الشفاعة لمن يشاء من عباده ) له ملك السموات والأرض ( أي لا ملك لأحد فيهما سواه ) ثم إليه ترجعون ( أي في الآخرة.
قوله تعالى : ( وإذا ذكر الله وحده اشمأزت ( أي نفرت وقال ابن عباس انقبضت عن التوحيد وقيل استكبرت ) قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ( قيل إذا اشمأز القلب من عظم غمه وغيظه انقبض الروح إلى داخله فيظهر على الوجه أثر ذلك مثل الغبرة والظلمة ) وإذا ذكر الذين من دونه ( يعني الأصنام ) إذا هم يستبشرون ( أي يفرحون والاستبشار أن يمتلئ القلب سروراً حتى يظهر على الوجه فيتهلل.
)
الزمر : ( 46 - 50 ) قل اللهم فاطر...
" قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب
(6/78)
صفحة رقم 79
يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " ( ) قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ( وصف نفسه بكمال القدرة وكمال العلم ) أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ( أي من أمر الدنيا ( م ) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال ( سألت عائشة رضي الله تعالى عنها بأي شيء كان نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفتتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قال اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ).
قوله عز وجل : ( ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ( يعني ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنه نازل بهم في الآخرة , وقيل ظنوا أن لهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا , وروي أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت فقيل له في ذلك فقال أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب ) وبدا لهم سيئات ما كسبوا ( يعني مساوي أعمالهم من الشرك والظلم أولياء الله تعالى : ( وحاق ( يعني نزل ) بهم ما كانوا به يستهزئون فإذا مس الإنسان ضر ( يعني شدة ) دعانا ثم إذا خولناه ( يعني أعطيناه ) نعمة منا قال إنما أوتيته على علم ( يعني من الله تعالى علم أني له أهل وقيل على خير علمه الله عنده ) بل هي فتنة ( يعني تلك النعمة استدراج من الله تعالى وامتحان وبلية ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( يعني أنها استدراج من الله تعالى : ( قد قالها الذين من قبلهم ( يعني قارون فإنه قال إنما أوتيته على علم عندي ) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ( يعني فما أغنى الكفر من العذاب شيئاً.
)
الزمر : ( 51 - 53 ) فأصابهم سيئات ما...
" فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم " ( ) فأصابهم سيئات ما كسبوا ( أي جزاؤها وهو العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى ) والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين ( أي بفائتين لأن مرجعهم إلى الله تعالى : ( أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ( أي يوسع الرزق لمن يشاء ) ويقدر ( أي يقتر ويقبض على من يشاء ) إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( أي يصدقون.
قوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ( روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية ( أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا وانتهكوا الحرمات فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا محمد إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزلت والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر إلى قوله فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات قال يبدل شركهم إيماناً وزناهم إحصاناً ونزلت ) قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ( أخرجه النسائي.
وعن ابن عباس أيضاً قال ( بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاماً يضاعف له العذاب وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله تعالى ) إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً ( " فقال : وحشي هذا شرط شديد
(6/79)
صفحة رقم 80
لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( " فقال وحشي أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى ) قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ( فقال وحشي نعم هذا فجاء فأسلم ) وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا به فأنزل الله تعالى هذه الآية فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا جميعاً وهاجروا.
وعن ابن عمر أيضاً قال كنا معشر أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت ) أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ( " فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقلنا الكبائر والفواحش قال فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا هلك فنزلت هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك وكنا إذا رأينا من أصحابنا من أصاب شيئاً من ذلك خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له وقوله ) أسرفوا على أنفسهم ( أي تجاوزوا الحد في كل فعل مذموم قيل هو ارتكاب الكبائر وغيرها من الفواحش ) لا تقنطوا من رحمة الله ( أي لا تيأسوا من رحمة الله والقنوط
(6/80)
صفحة رقم 81
من رحمة الله والأمن من مكر الله من الكبائر ) إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ( فإن قلت حمل هذه الآية على ظاهرها يكون إغراء بالمعاصي وإطلاقاً في الإقدام عليها وذلك لا يمكن.
قلت المراد منها التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب , فإن اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله إذ لا أحد من العصاة إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة فمعنى قوله ) إن الله يغفر الذنوب جميعاً ( أي إذا تاب وصحت التوبة غفرت ذنوبه ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فإن شاء غفر له وعفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته فالتوبة واجبة على كل أحد وخوف العقاب مطلوب فلعل الله تعالى يغفر مطلقاً ولعله يعذب ثم يعفو بعد ذلك والله أعلم.
( فصل في ذكر أحاديث تتعلق بالآية )
روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل المسجد فإذا قاصّ يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال لم تقنط الناس ثم قرأ ) قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ( عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ) قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ( ولا يبالي أخرجه الترمذي , وقال حديث حسن غريب
( ق ) .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهباً فسأله فقال هل لي من توبة قال لا فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فضرب صدره تخوفاً فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينها فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له ) لفظ البخاري ولمسلم قال ( فدل على راهب فأتاه فقال له إن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة , ثم سال عن أعلم أهل الأرض فدلَّ على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى
(6/81)
صفحة رقم 82
أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض الذي أراد فقبضته ملائكة الرحمة )
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (
الزمر : ( 54 - 55 ) وأنيبوا إلى ربكم...
" وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون " ( ) وأنيبوا إلى ربكم ( أي ارجعوا إليه بالتوبة والطاعة ) وأسلموا له ( أي أخلصوا له التوحيد ) من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ( أي لا تمنعون منه ) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ( يعني القرآن لأنه كله حسن ومعنى الآية على ما قاله الحسن الزموا طاعة الله واجتنبوا معصيته فإنه أنزل في القرآن ذكر القبيح ليجتنب وذكر الأدون لئلا يرغب فيه وذكر الأحسن لتؤثره وتأخذ به وقيل الأحسن إتباع الناسخ وترك العمل بالمنسوخ ) من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ( يعني غافلين عنه.
)
الزمر : ( 56 - 58 ) أن تقول نفس...
" أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين " ( ) أن تقول نفس ( أي لئلا تقول وقيل معناه بادروا واحذروا أن تقول وقيل خوف أن تصيروا إلى حال أن تقول نفس ) يا حسرتى ( أي يا ندمي ويا حزني والتحسر الاغتمام والحزن على ما فات ) على ما فرطت في جنب الله ( أي على ما قصرت في طاعة الله , وقيل في أمر الله وقيل في حق الله وقيل على ما ضيعت في ذات الله وقيل معناه على ما قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى : ( وإن كنت لمن الساخرين (
(6/82)
صفحة رقم 83
أي المستهزئين بدين الله وبكتابه وبرسوله وبالمؤمنين قيل لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر بأهلها ) أو تقول لو أن الله هداني ( أي أرشدني إلى دينه وطاعته ) لكنت من المتقين ( أي الشرك ) أو تقول حين ترى العذاب ( أي عياناً ) لو أن لي كرة ( أي رجعة إلى الدنيا ) فأكون من المحسنين ( أي الموحدين ثم أجاب الله تعالى هذا التأويل بأن الأعذار زائلة والتعليل باطل
)
الزمر : ( 59 - 66 ) بلى قد جاءتك...
" بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين " ( ) بلى قد جاءتك آياتي ( يعني القرآن ) فكذبت بها ( أي قلت ليست من الله ) واستكبرت ( أي تكبرت عن الإيمان بها ) وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله ( أي زعموا أن له ولداً وشريكاً وقيل هم الذين يقولون الأشياء إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل ) وجوههم مسودة ( قيل هو سواد مخالف لسائر أنواع السواد ) أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ( أي عن الإيمان.
قوله تعالى : ( وينجي الله الذين اتقوا ( أي الشرك ) بمفازتهم ( أي الطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة وقرئ بمفازاتهم أن ينجيهم بفوزهم بالأعمال الحسنة من النار ) لا يمسهم السوء ( أي لا يصيبهم المكروه ) ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء ( أي مما هو كائن أو يكون في الدنيا والآخرة ) وهو على كل شيء وكيل ( أي إن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها ) له مقاليد السموات والأرض ( أي مفاتيح خزائن السموات والأرض واحدها مقلاد مثل مفتاح وقيل إقليد على غير قياس قيل هو فارسي معرب قال الراجز :
لم يؤذها الديك بصوت تغريد
ولم يعالج غلقها بإقليد
والمعنى أن الله تعالى مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الله الذي يملك مقاليدها , وقيل مقاليد السموات خزائن الرحمة والرزق والمطر ومقاليد الأرض النبات ) والذين كفروا بآيات الله ( أي جحدوا بآياته الظاهرة الباهرة ) أولئك هم الخاسرون ( قوله عز وجل : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ( وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه فوصفهم بالجهل لأن الدليل القاطع قد قام بأنه هو المستحق للعبادة فمن عبد غيره فهو جاهل ) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ( أي الذي عملته قبل الشرك , وهذا خطاب مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره لأن الله عز وجل عصم نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) من الشرك وفيه تهديد لغيره ) ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ( أي لإنعامه عليك.
)
الزمر : ( 67 - 68 ) وما قدروا الله...
" وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " ( ) وما قدروا الله حق قدره ( أي ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره ثم أخبر عن عظمته فقال
(6/83)
صفحة رقم 84
) والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (
( ق ) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ( جاء جبريل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال يا محمد إن الله يضع السماء على أصبع والأرض على أصبع والجبال على أصبع والشجر والأنهار على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يقول أنا الملك فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ) وما قدروا الله حق قدره ( وفي رواية ) والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن وفيه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً له ثم قرأ ) وما قدروا الله حق قدره ( الآية
( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون , وفي رواية يقول : أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها ثم يقول أنا الملك الجبارون أين المتكبرون , وفي رواية يقول : أنا الله ويقبض أصابعه أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني أقول أساقط هو برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لفظ مسلم وللبخاري ( أن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ويقول أنا الملك )
( خ ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ) قال أبو سليمان الخطابي ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال محمل النقص والضعف وقد روى كلتا يديه يمين وليس عندنا معنى اليد الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي إلى حيث انتهى الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة وهذا مذهب أهل السنة والجماعة وقال سفيان بن عيينة كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه.
قوله عز وجل : ( ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض ( أي ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى ) إلا من شاء الله ( تقدم في سورة النمل تفسير هذا الاستثناء وقال الحسن إلا من يشاء الله يعني الله وحده ) ثم نفخ فيه ( أي في الصور ) أخرى ( مرة أخرى وهي النفخة الثانية ) فإذا هم قيام ( أي من قبورهم ) ينظرون ( أي ينتظرون
(6/84)
صفحة رقم 85
أمر الله فيهم
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما بين النفختين أربعون قالوا أربعون يوماً , قال أبو هريرة : أبيت , قالوا : أربعون شهراً , قال أبو هريرة : أبيت , قالوا : أربعون سنة قال : أبيت , ثم ينزل الله عز وجل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة ) )
الزمر : ( 69 - 73 ) وأشرقت الأرض بنور...
" وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " ( ) وأشرقت الأرض بنور ربها ( وذلك حين يتجلى الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء بين خلقه فما يضارون في نوره كما لا يضارون في الشمس في اليوم الصحو وقيل بعدل ربها وأراد بالأرض عرصات القيامة ) ووضع الكتاب ( أي كتاب الأعمال وقيل اللوح المحفوظ لأن فيه أعمال جميع الخلق من المبدأ إلى المنتهى ) وجيء بالنبيين ( يعني ليكونوا شهداء على أممهم ) والشهداء ( قال ابن عباس يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل يعني الحفظة ) وقضي بينهم الحق ( أي بالعدل ) وهم لا يظلمون ( أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم ) ووفيت كل نفس ما عملت ( أي ثواب ما عملت ) وهو أعلم بما يفعلون ( يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأفعالهم لا يحتاج إلى كاتب ولا إلى شاهد.
قوله تعالى : ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم ( يعني سوقاً عنيفاً ) زمراً ( أفواجاً بعضهم على أثر بعض كل أمة على حدة وقيل جماعات متفرقة واحدتها زمرة ) حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها ( يعني السبعة وكانت قبل ذلك مغلقة ) وقال لهم خزنتها ( يعني توبيخاً وتقريعاً ) ألم يأتكم رسل منكم ( أي من أنفسكم ومن جنسكم ) يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب ( أي وجبت ) على الكافرين ( وهي قوله ) لأملأن جهنم من الجنة أجمعين ( ) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ( قوله عز وجل : ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً ( فإن قلت عبر عن الفريقين بلفظ السوق فما الفرق بينهما.
قلت المراد بسوق أهل النار طردهم إلى العذاب بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل , والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنهم يذهبون إليها راكبين أو المراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان فشتان ما بين السوقين ) حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها ( فإن قلت قال في أهل النار فتحت بغير واو وهنا زاد حرف الواو فما الفرق.
قلت فيه وجوه أحدها أنها زائدة الثاني إنها واو الحال مجازه وقد فتحت أبوابها فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم إليها
(6/85)