صلى الله عليه و سلم فكفروا به فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار وأحل بهم عقوبته
وقوله تعالى كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم هذا التكرير هو لمعنى ليس للأول إذ الأول دأب في أن هلكوا لما كفروا وهذا الثاني دأب في أن لم يغير نعمتهم حتى غيروا ما بأنفسهم والإشارة بقوله والذين من قبلهم إلى قوم شعيب وصالح وهود ونوح وغيرهم
وقوله سبحانه إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون أجمع المتأولون أن الآية نزلت في بني قريظة وهي بعد تعم كل من أتصف بهذه الصفة إلى يوم القيامة وقوله في كل مرة يقتضي أن الغدر قد تكرر منهم وحديث قريظة هو أنهم عاهدوا النبي صلى الله عليه و سلم على أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوا من غيرهم فلما اجتمعت الأحزاب على النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة غلب على ظن بني قريظة أن النبي صلى الله عليه و سلم مغلوب ومستأصل وخدع حي بن أخطب النضري كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم فغدروا ووالوا قريشا وأمدوهم بالسلاح والادراع فلما انجلت تلك الحال عن النبي صلى الله عليه و سلم أمره الله تعالى بالخروج إليهم وحربهم فاستنزلوا وضربت أعناقهم بحكم سعد واستيعاب قصتهم في السير وإنما اقتضبت منها ما يخص تفسير الآية
وقوله سبحانه فأما تثقفنهم في الحرب الآية معنى تثقفنهم تأسرهم وتحصلهم في ثقفك أو تلقاهم بحال تقدر عليهم فيها وتغلبهم ومعنى فشرد أي طرد وأبعد وخوف والشريد المبعد عن وطن ونحوه ومعنى الآية فإن أسرت هؤلاء الناقضين في حربك لهم فأفعل بهم من النقمة ما يكون تشريدا لمن يأتي خلفهم في مثل طريقتهم وعبارة البخاري فشرد فرق انتهى والضمير في لعلهم عائد على الفرقة (2/105)
المشردة وقال ابن عباس المعنى نكل بهم من خلفهم وقالت فرقة معناه سمع بهم والمعنى متقارب ومعنى خلفهم أي بعدهم ويذكرون أي يتعظون
وقوله سبحانه وأما تخافن من قوم خيانة الآية قال اكثر المفسرين أن الآية في بني قريظة والذي يظهر من ألفاظ الآية أن أمر بني قريظة قد انقضى عند قوله فشرد بهم من خلفهم ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى آخر الدهر وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته وقوله فأنبذ إليهم أي الق إليهم عهدهم وقوله على سواء قيل معناه حتى يكون الأمر في بيانه والعلم به على سواء منك ومنهم فتكونون في استشعار الحرب سواء وذكر الفراء أن المعنى فأنبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر أي بين لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب بل افعل بهم مثل ما فعلوا بك يعني موازنة ومقايسة وقرأ نافع وغيره ولا تحسبن بالتاء مخاطة للنبي صلى الله عليه و سلم وسبقوا معناه فأتوا بأنفسهم وانجوها أنهم لا يعجزون أي لا يفلتون ولا يعجزون طالبهم وروي أن الآية نزلت فيمن أفلت من الكفار في بدر وغيره فالمعنى لا تظنهم ناجين بل هم مدركون وقرأ حمزة وغيره ولا يحسبن بالياء من تحت وبفتح السين وقوله سبحانه وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة الآية المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين وفي صحيح مسلم إلا أن القوة الرمي إلا أن القوة الرمي ولما كانت الخيل هي أصل الحرب وأوزارها والتي عقد الخير في نواصيها خصها الله تعالى بالذكر تشريفا لها ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحرب وانكاه في العدو وأقربه تناولا للأرواح خصها صلى الله عليه و سلم بالذكر والتنبيه عليها ت وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من تعلم الرمي وتركه فليس منا أو قد عصى وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي (2/106)
عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول أن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة انفس الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله فارموا واركبوا وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا كل شيء يلهوبه الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته انتهى ورباط الخيل مصدر من ربط ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة ويجوز أن يكون مصدرا من رابط وإذا ربط كل واحد من المؤمنين فرسا لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط عليه السلام من ارتبط فرسا في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ت وقد ذكرنا بعض ما ورد في فضل الرباط في آخر آل عمران قال صاحب التذكرة وعن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كالف ليلة صيامها وقيامها وعن أبي بن كعب قال قال النبي صلى الله عليه و سلم لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين من شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا أراه قال من عبادة ألفي سنة صيامها وقيامها فإن رده الله إلى أهله سالما لم تكتب عليه سيئة ألف سنة ويكتب له من الحسنات ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة قال القرطبي في تذكرته فدل هذا الحديث على أن رباط يوم في رمضان يحصل له هذا الثواب الدائم وإن لم يمت مرابطا خرج هذا الحديث والذي قبله ابن ماجه انتهى من التذكرة وترهبون معناه تخوفون وتفزعون والرهبة الخوف
وقوله وآخرين من دونهم فيه أقوال قيل هم المنافقون وقيل فارس وقيل غير هذا قال ع ويحسن أن يقدر قوله لا تعلمونهم بمعنى لا تعلمونهم فازعين راهبين وقال ص لا تعلمونهم بمعنى لا تعرفونهم (2/107)
فيتعدى لواحد ومن عداه إلى اثنين قدره محاربين واستبعد لعدم تقدم ذكره فهو ممنوع عند بعضهم وعزيز جدا عند بعضهم انتهى
وقوله سبحانه وإن جنحوا للسلم فأجنح لها جنح الرجل إلى الأمر إذا مال إليه وعاد الضمير في لها مؤنثا إذ السلم بمعنى المسالمة والهدنة وذهب جماعة من المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة والضمير في جنحوا هو للذين نبذ إليهم على سواء
وقوله سبحانه وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله الآية الضمير في قوله وإن يريدوا عائد على الكفار الذين قال فيهم وإن جنحوا أي وإن يريدوا أن يخدعوك بأن يظهروا السلم ويبطنوا الغدر والخيانة فإن حسبك الله أي كافيك ومعطيك نصره وأيدك معناه قواك وبالمؤمنين يريد الأنصار بذلك تظاهرت أقوال المفسرين
وقوله وألف بين قلوبهم الآية إشارة إلى العداوة التي كانت بين الاوس والخزرج قال ع ولو ذهب ذاهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان بين جميعهم من التحاب لساغ ذلك وقال ابن مسعود نزلت هذه الآية في المتحابين في الله وقال مجاهد إذا تراأي المتحابين في الله وتصافحا تحاتت خطاياهما فقال له عبدة بن أبي لبابة أن هذا ليسير فقال له لا تقل ذلك فإن الله تعالى يقول لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم قال عبدة فعرفت أنه افقه منى قال ع وهذا كله تمثيل حسن بالآية لا أن الآية نزلت في ذلك وقد روى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال المؤمن مالفة لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف قال ع والتشابه سبب الألفة فمن كان من أهل الخير ألف أشباهه وألفوه ت وفي صحيح البخاري الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف انتهى وروى مالك في الموطأ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة أين (2/108)
المتحابون لجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد وروينا عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يا عبد الله بن مسعود أتدري أي عرى الإيمان أوثق قلت الله ورسوله أعلم قال الولاية في الله الحب والبغض فيه ورواه البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم أيضا وعن عبد الله في قوله تعالى لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما التف بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم قال نزلت في المتحابين في الله قال أبو عمر وأما قوله اليوم أظلهم في ظلي فأنه أراد والله أعلم في ظل عرشه وقد يكون الظل كناية عن الرحمة كما قال أن المتقين في ظلال وعيون يعني بذلك ما هم فيه من الرحمة والنعيم انتهى
وقوله سبحانه يا أيها النبي حسبك الله ومن أتبعك من المؤمنين قال النقاش نزلت هذه الآية بالبيداء في غزوة بدر وحكي عن ابن عباس أنها نزلت في الأوس والخزرج وقيل أنها نزلت حين أسلم عمر وكمل المسلمون أربعين قاله ابن عمر وأنس فهي على هذا مكية وحسبك في كلام العرب وشرعك بمعنى كافيك ويكفيك والمحسب الكافي قالت فرقة معنى الآية يكفيك الله ويكفيك من اتبعك فمن في موضع رفع وقال الشعبي وابن زيد معنى الآية حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين فمن في موضع نصب عطفا على موضع الكاف لأن موضعها نصب على المعنى بيكفيك التي سدت حسبك مسدها قال ص ورد بأن الكاف ليس موضعها نصب لأن إضافة حب إليها أضافة صحيحة انتهى وقوله سبحانه يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال الآية حرض المؤمنين أي حثهم وحضهم وقوله سبحانه إن يكن منكم إلى آخر الآية لفظ خبر مضمنه وعد بشرط لأن قوله إن يكن منكم عشرون صابرون بمنزلة أن يقال أن بصبر منكم عشرون يغلبوا وفي ضمنه الأمر بالصبر قال الفخر وحسن هذا التكليف لما كان مسبوقا (2/109)
بقوله حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين فلما وعد الله المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلا لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على أذايته انتهى وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة بأن ثبوت الواحد للعشرة كان فرضا على المؤمنين ثم لما شق ذلك عليهم حط الله الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين وهذا هو نسخ الأثقل بالأخف وقوله لا يفقهون معناه لا يفهمون مراشدهم ولا مقصد قتالهم لا يريدون به إلا الغلبة الدنيوية فهم يخافون الموت إذا صبر لهم ومن يقاتل ليغلب أو يستشهد فيصير إلى الجنة أثبت قدما لا محالة وقوله والله مع الصابرين لفظ خبر في ضمنه وعد وحض على الصبر ويلحظ منه وعيد لمن لم يصبر بأنه يغلب
وقوله سبحانه ما كان لنبي أن يكون له أسرى الآية قال ع هذه آية تتضمن عندي معاتبة من الله عز و جل لأصحاب نبيه عليه السلام والمعنى ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان ولذلك استمر الخطاب لهم بتريدون والنبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر باستبقاء الرجل وقت الحرب ولا أراد صلى الله عليه و سلم قط عرض الدنيا وإنما فعله جمهور مباشري الحرب وجاء ذكر النبي صلى الله عليه و سلم في الآية مشيرا إلى دخوله عليه السلام في العتب حين لم ينه عن ذلك حين رآه من العريش وأنكره سعد بن معاذا لكنه صلى الله عليه و سلم شغله بغت الأمر وظهور النصر عن النهي ومر كثير من المفسرين على أن هذا التوبيخ إنما كان بسبب إشارة من أشار على النبي صلى الله عليه و سلم بأخذ الفدية حين استشارهم في شأن الأسرى والتأويل الأول أحسن والإثخان هو المبالغة في القتل والجراحة ثم أمر مخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فقال تريدون عرض الدنيا أي مالها الذي يعز ويعرض والمراد ما أخذ من الأسرى من الأموال والله يريد (2/110)
الآخرة أي عمل الآخرة وذكر الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للناس إن شئتم أخذتم فداء الأسرى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم وإن شئتم قتلوا وسلمتم فقالوا نأخذ المال ويستشهد منا وذكر عبد ابن حميد بسنده أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه و سلم بتخيير الناس هكذا وعلى هذا فالأمر في هذا التخيير من عند الله فإنه إعلام بغيب وإذا خيروا رضي الله عنهم فكيف يقع التوبيخ بعد بقوله تعالى لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فهذا يدلك على صحة ما قدمناه أن العتب لهم إنما هو على استبقاء الرجال وقت الهزيمة رغبة في أخذ المال وهو الذي أقول به وذكر المفسرون أيضا في هذه الآيات تحليل المغانم ولا أقول ذلك لأن تحليل المغانم قد تقدم قبل بدر في السرية التي قتل فيها ابن الحضرمي وإنما المبتدع في بدر استبقاء الرجال لأجل المال والذي من الله به فيها الحاق فدية الكافر بالمغانم التي تقدم تحليلها قوله سبحانه كتاب من الله سبق الآية قال ابن عباس وأبو هريرة والحسن وغيرهم الكتاب هو ما كان الله قضاه في الأزل من إحلال الغنائم والفداء لهذه الأمة وقال مجاهد وغيره الكتاب السابق مغفرة الله لأهل بدر وقيل الكتاب السابق هو أن لا يعذب الله أحد بذنب إلا بعد النهي عنه حكاه الطبري قال ابن العربي في أحكام القرآن وهذه الأقوال كلها صحيحة ممكنة لكن أقواها ما سبق من إحلال الغنيمة وقد كانوا غنموا أول غنيمة في الإسلام حين أرسل النبي صلى الله عليه و سلم عبد الله بن جحش انتهى وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه عمر بن الخطاب وفي حديث آخر وسعد بن معاذ وذلك أن رأيهما كان أن تقتل الأسرى وقوله سبحانه فكلوا مما غنمتم الآية نص على إباحة المال الذي أخذ من الأسرى وإلحاق له بالغنيمة التي كان تقدم (2/111)
تحليلها وقوله سبحانه يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى أن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم روي أن الأسرى ببدر اعلموا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لهم ميلا إلى الإسلام وأنهم إن رجعوا إلى قومهم سعوا في جلبهم إلى الإسلام قال ابن عباس الأسرى في هذه الآية عباس وأصحابه قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم آمنا بما جئت به ونشهد أنك لرسول الله ولننصحن لك على قومنا فنزلت هذه الآية ومعنى الكلام إن كان هذا عن جد منكم وعلم الله من أنفسكم الخير والإسلام فإنه سيجبر عليكم أفضل مما أعطيتم فدية ويغفر لكم جميع ما أجترمتموه وروي أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال في وفي أصحابي نزلت هذه الآية وقال حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم من مال البحرين ما قدر أن يقول هذا خير مما أخذ مني وأنا بعد أرجو أن يغفر الله لي وروي عنه أنه قال ما أود أن هذه الآية لم تنزل ولي الدنيا بأجمعها وذلك أن الله تعالى قد أتاني خيرا مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر لي وقوله فقد خانوا الله من قبل أي بالكفر فأمكن منهم أي بأن جعلهم أسرى والله عليم بما يبطنونه حكيم فيما يجازيهم به
سبحانه الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا وذكر المهاجرين بعد الحديبية فقدم أولا ذكر المهاجرين وهم أصل الإسلام وتأمل تقديم عمر لهم في الاستشارة وهاجر معناه هجر أهله وقرابته وهجروه والذين أووا ونصروا هم الأنصار فحكم سبحانه على هاتين الطائفيتين بأن بعضهم أولياء بعض فقال كثير من المفسرين هذه الموالاة هي المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي وعليه فسر الطبري الآية وهذا الذي قالوه لازم (2/112)
من دلالة لفظ الآية وقال ابن عباس وغيره هذه الموالاة هي في المواريث وذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم آخى بين المهاجرين والأنصار فكان المهاجري إذا مات ولم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ورثه أخوه الأنصاري وكان المسلم الذي لم يهاجر لا ولاية بينه وبين قريبه المهاجري ولا يرثه ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه وأولوا الأرحام الآية وعلى التأولين ففي الآية حض على الهجرة قال أبو عبيدة الولاية بالكسر من وليت الأمر إليه فهي في السلطان وبالفتح هي من المولى يقال مولى بين الولاية بفتح الواو
وقوله سبحانه وإن استنصروكم يعني إن استدعى هؤلاء المؤمنين الذين لم يهاجروا نصركم فعليكم النصر الأعلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم لأن ذلك غدر ونقض للميثاق
وقوله سبحانه والذين كفروا بعضهم أولياء بعض وذلك يجمع الموارثة والمعاونة والنصرة وهذه العبارة تحريض وإقامة لنفوس المؤمنين كما تقول لمن تريد تحريضه عدوك مجتهد أي فأجتهد أنت وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن قتادة أنه قال أبى الله أن يقبل إيمان من آمن ولم يهاجر وذلك في صدر الإسلام وفيهم قال النبي صلى الله عليه و سلم أنا بريء من مسلم أقام بين المشركين لا تتراأى نارهما الحديث على اختلاف ألفاظه وقول قتادة إنما هو فيمن كان يقيم متربصا يقول من غلب كنت معه وكذلك ذكر في كتاب الطبري وغيره والضمير في قوله إلا تفعلوا قيل هو عائد على المؤازرة والمعاونة ويحتمل على الميثاق المذكور ويحتمل على النصر للمسلمين المستنصرين ويحتمل على الموارثة والتزامها ويجوز أن يعود مجملا على جميع ما ذكر والفتنة المحنة بالحرب وما أنجر معها من الغارات والجلاء والأسر والفساد الكبير ظهور الشرك
وقوله سبحانه والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا (2/113)
تضمنت الآية تخصيص المهاجرين والأنصار وتشريفهم بهذا الوصف العظيم ت وهي مع ذلك عند التأمل يلوح منها تأويل قتادة المتقدم فتأمله والرزق الكريم هو طعام الجنة كذا ذكر الطبري وغيره قال ابن العربي في أحكامه وإذا كان الإيمان في القلب حقا ظهر ذلك في استقامة الأعمال بامتثال الأمر واجتناب المنهي عنه وإذا كان مجازا قصرت الجوارح في الأعمال إذ لم تبلغ قوته إليها انتهى والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم قوله من بعد يريد به من بعد الحديبية وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك وكان يقال لها الهجرة الثانية وجاهدوا معكم لفظ يقتضي أنهم تبع لاصدار
وقوله سبحانه وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله قال من تقدم ذكره هذه في المواريث وهي ناسخة للحكم المتقدم ذكره وقالت فرقة منها مالك أن الآية ليست في المواريث وهذا فرار من توريث الخال والعمة ونحو ذلك وقالت فرقة هي في المواريث إلا أنها نسخت بآية المواريث المبينة وقوله في كتاب الله معناه القرآن أي ذلك مثبت في كتاب الله وقيل في اللوح المحفوظ كمل تفسير السورة والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصبحه وسلم تسليما
تفسير سورة براءة
وهي مدنية إلا آيتين قوله سبحانه لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخرها وتسمى سورة التوبة قاله حذيفة وغيره وتسمى الفاضحة قاله ابن عباس وقال ما زال ينزل ومنهم ومنهم حتى ظن أنه لا يبقى أحد وهي من آخر ما أنزل على (2/114)
النبي صلى الله عليه و سلم قال علي رضي الله عنه لأبن عباس بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبشارة وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود فلذلك لم تبدأ بالأمان
قوله عز و جل براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين التقدير هذه الآيات براءة ويصح أن يرتفع براءة بالابتداء والخبر في قوله إلى الذين وبراءة معناه تخلص وتبر من العهود التي بينكم وبين الكفار البادئين بالنقض قاله ابن العربي في أحكامه تقول برأت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه بريء إذا أنزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه انتهى ومعنى السياحة في الأرض الذهاب فيها مسرحين آمنين كالسيح من الماء وهو الجاري المنبسط قال الضحاك وغيره من العلماء كان من العرب من لا عهد بينه وبين النبي صلى الله عليه و سلم جملة وكان منهم من بينه وبينهم عهد وتحسس منهم نقض وكان منهم من بينه وبينهم عهد ولم ينقضوا فقوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر هو أجل ضربه الله لمن كان بينه وبينهم عهد وتحسس منهم نقضه وأول هذا الأجل يوم الآذان وآخره انقضاء العشر الأول من ربيع الآخر وقوله سبحانه فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حكم مباين للأول حكم به في المشركين الذين لا عهد لهم البتة فجاء أجل تأمينهم خمسين يوما أولها يوم الأذان وآخرها انقضاء المحرم وقوله إلا الذين عاهدتم يريد به الذين لهم عهد ولم ينقضوا ولا تحسس منهم نقض وهم فيما روي بنو ضمرة من كنانة كان بقي من عهدهم يوم الأذان تسعة أشهر وقوله عز و جل وأعلموا أنكم غير معجزي الله أي لا تفلتون الله ولا تعجزونه هربا
وقوله واذان من الله ورسوله الآية أي إعلام ويوم الحج الأكبر قال عمر وغيره هو يوم عرفة وقال أبو هريرة وجماعة هو يوم النحر وتظاهرت الروايات أن عليا أذن بهذه الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالاذان بها (2/115)
يوم النحر وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر من يعينه في الاذان بها كأبي هريرة وغيره وتتبعوا بها أيضا أسواق العرب كذى المجاز وغيره وهذا هو سبب الخلاف فقالت طائفة يوم الحج الأكبر عرفة حيث وقع أو الاذان وقالت أخرى هو يوم النحر حيث وقع إكمال الاذان وقال سفيان ابن عيينة المراد باليوم أيام الحج كلها كما تقول يوم صفين ويوم الجمل ويتجه أن يوصف بالأكبر على جهة المدح لا بالإضافة إلى أصغر معين بل يكون المعنى الأكبر من سائر الأيام فتأمله واختصار ما تحتاج إليه هذه الآية على ما ذكر مجاهد وغيره من صورة تلك الحال أن رسول الله صلى الله عليه و سلم افتتح مكة سنة ثمان فاستعمل عليها عتاب بن أسيد وقضى أمر حنين والطائف وانصرف إلى المدينة فأقام بها حتى خرج إلى تبوك ثم أنصرف من تبوك في رمضان سنة تسع فأراد الحج ثم نظر في أن المشركين يحجون في تلك السنة ويطوفون عراة فقال لا أريد أن أرى ذلك فأمر أبا بكر على الحج بالناس وأنفذه ثم أتبعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ناقته العضباء وأمره أن يؤذن في الناس بأربعين آية صدر صورة براءة وقيل ثلاثين وقيل عشرين وفي بعض الروايات عشر آيات وفي بعضها تسع آيات وأمره أن يؤذن الناس بأربعة أشياء وهي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة وفي بعض الروايات ولا يدخل الجنة كافر ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته وفي بعض الروايات ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله أربعة أشهر يسيح فيها فإذا انقضت فإن الله بريء من المشركين ورسوله قال ع وأقول أنهم كانوا ينادون بهذا كله فأربعة أشهر للذين لهم عهد وتحسس منهم نقضه والإبقاء إلى المدة لمن لم يخبر منه نقض وذكر الطبري أن العرب قالت (2/116)
يومئذ نحن نبرأ من عهدك ثم لام بعضهم بعضا وقالوا ما تصنعون وقد أسلمت قريش فأسلموا كلهم ولم يسح أحد قال ع وحينئذ دخل الناس في دين الله أفواجا
وقوله سبحانه إن الله بريء من المشركين ورسوله أي ورسوله بريء منهم
وقوله فإن تبتم أي عن الكفر
وقوله سبحانه إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم هذا هو الاستثناء الذي تقدم ذكره وقرأ عكرمة وغيره ينقضوكم بالضاد المعجمة ويظاهروا معناه يعاونوا والظهير
المعين وقوله إن الله يحب المتقين تنبيه على أن الوفاء بالعهد من التقوى
وقوله سبحانه فإذا أنسلخ الأشهر الحرم الانسلاخ خروج الشيء عن الشيء المتلبس به كانسلاخ الشاة عن الجلد فشبه انصرام الأشهر بذلك
وقوله سبحانه فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية قال ابن زيد هذه الآية وقوله سبحانه فأما منا بعد وأما فداءهما محكمتان أي ليست احداهما بناسخة للأخرى قال ع هذا هو الصواب
وقوله وخذوهم معناه الأسر
وقوله كل مرصد معناه مواضع الغرة حيث يرصدون ونصب كل على الظرف أو بإسقاط الخافض التقدير في كل مرصد
وقوله فإن تابوا أي عن الكفر
وقوله سبحانه وإن أحدا من المشركين استجارك أي جلب منك عهدا وجوارا يأمن به حتى يسمع كلام الله يعني القرآن والمعنى يفهم أحكامه قال الحسن وهذه آية محكمة وذلك سنة إلى يوم القيامة
وقوله سبحانه إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام الآية قال ابن إسحاق هي قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في العهد فأمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض منهم
وقوله سبحانه كيف وإن يظهروا عليكم الآية في الكلام حذف تقديره كيف يكون لهم عهد ونحوه وفي كيف هنا تأكيد للاستبعاد الذي في الأولى ولا يرقبوا (2/117)
معناه لا يراعوا ولا يحفظوا وقرأ الجمهور إلا وهو الله عز و جل قاله مجاهد وأبو مجلز وهو أسمه بالسريانية وعرب ويجوز أن يراد به العهد والعرب تقول للعهد والحلف والجوار ونحو هذه المعاني إلا والذمة أيضا بمعنى الحلف والجوار ونحوه
وقوله سبحانه وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم الآية ويليق هنا ذكر شيء من حكم طعن الذمي في الدين والمشهور من مذهب مالك أنه إذا فعل شيئا من ذلك مثل تكذيب الشريعة وسب النبي صلى الله عليه و سلم قتل
وقوله سبحانه فقاتلوا ايمة الكفر أي رؤسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه وأصوب ما يقال في هذه الآية أنه لا يعني بها معين وإنما وقع الأمر بقتال ايمة الناكثين للعهود من الكفرة إلى يوم القيامة واقتضت حال كفار العرب ومحاربي النبي صلى الله عليه و سلم أن تكون الإشارة إليهم أولا ثم كل من دفع في صدر الشريعة إلى يوم القيامة فهو بمنزلتهم وقرأ الجمهور لا إيمان لهم جمع يمين أي لا إيمان لهم يوفى بها وتبر هذا المعنى يشبه الآية وقرأ ابن عامر وحده من السبعة لا إيمان لهم وهذا يحتمل وجهين أحدهما لا تصديق لهم قال أبو علي وهذا غير قوي لأنه تكرير وذلك أنه وصف ايمة الكفر بأنه لا إيمان لهم والوجه في كسر الألف أنه مصدر من أمنته أيمانا ومنه قوله تعالى وآمنهم من خوف فالمعنى أنه لا يؤمنون كما يؤمن أهل الذمة الكتابيون إذ المشركون ليس لهم إلا الإسلام أو السيف قال أبو حاتم فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم قال ع والتكرير الذي فر أبو علي منه متجه لأنه بيان المهم الذي يوجب قتلهم
وقوله عز و جل الا تقاتلون قوما نكثوا إيمانهم وهموا بإخراج الرسول الآية الاعرض وتحضيض قال الحسن والمراد بإخراج الرسول إخراجه من المدينة وهذا مستقيم كغزوة أحد والأحزاب وقال السدي (2/118)
المراد من مكة
وقوله سبحانه وهم بدءوكم أول مرة قيل يراد أفعالهم بمكة بالنبي صلى الله عليه و سلم وبالمؤمنين وقال مجاهد يراد به ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه و سلم فكان هذا بدأ النقض وقال الطبري يعني فعلهم يوم بدر قال الفخر قال ابن إسحاق والسدي والكلبي نزلت هذه الآية في كفار مكة نكثوا إيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة انتهى
وقوله سبحانه أتخشونهم استفهام على معنى التقرير والتوبيخ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين أي كاملي الإيمان
وقوله سبحانه قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم قررت الآيات قبلها أفعال الكفرة ثم حض على القتال مقترنا بذنوبهم لتنبعث الحمية مع ذلك ثم جزم الأمر بقتالهم في هذه الآية مقترنا بوعد وكيد يتضمن النصر عليهم والظفر بهم
وقوله سبحانه يعذبهم الله بأيديكم معناه بالقتل والأسر ويخزهم معناه يذلهم على ذنوبهم يقال خزي الرجل يخزى خزيا إذا ذل من حيث وقع في عار وأخزاه غيره وخزي يخزى خزاية إذا استحي وأما قوله تعالى ويشف صدور قوم مؤمنين فيحتمل أن يريد جماعة المؤمنين لأن كل ما يهد من الكفر هو شفاء من هم صدور المؤمنين ويحتمل أن يريد تخصيص قوم من المؤمنين وروي أنهم خزاعة قاله مجاهد والسدي ووجه تخصيصهم أنهم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب وكان يومئذ في خزاعة مؤمنين كثير ويقتضي ذلك قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى الله عليه و سلم
ثمت اسلمنا فلم ننزع يدا
وفي آخر الرجز
وقتلونا ركعا وسجدا
وقرأ جمهور الناس ويتوب بالرفع على القطع مما قبله والمعنى أن الآية استانفت الخبر بأنه قد يتوب على بعض هؤلاء الكفرة الذين أمر بقتالهم وعبارة ص ويتوب الجمهور بالرفع على الاستيناف وليس بداخل في جواب الأمر لأن توبته سبحانه على (2/119)
من يشاء ليست جزاء على قتال الكفار انتهى
وقوله عز و جل أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم الآية خطاب للمؤمنين كقوله أم حسبتم أن تدخلوا الجنة الآية ومعنى الآية اظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحان والمراد بقوله ولما يعلم الله أي لم يعلم الله ذلك موجودا كما علمه ازلا بشرط الوجود وليس يحدث له علم تبارك وتعالى عن ذلك ووليجة معناه بطانة ودخيلة وهو مأخوذ من الولوج فالمعنى أمر باطنا مما ينكر وفي الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج قال الفخر قال أبو عبيدة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج قال الواحدي يقال هو وليجة للواحد والجمع انتهى
وقوله سبحانه ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله إلى قوله إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله الآية لفظ هذه الآية الخبر وفي ضمنها أمر المؤمنين بعمارة المساجد وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ت زاد ابن الخطيب في روايته فإن الله تعالى يقول إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر انتهى من ترجمة محمد بن عبد الله وفي الحديث عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال أن الله ضمن لمن كانت المساجد بيته الأمن والأمان والجواز على الصراط يوم القيامة خرجه علي بن عبد العزيز البغوي في المسند المنتخب له وروى البغوي أيضا في هذا المسند عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا أوطن الرجل المساجد بالصلاة والذكر تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب لغائبهم إذا قدم عليهم انتهى من الكوكب الدري قيل ومعنى يتبشبش أي يفرح به
وقوله سبحانه ولم يخش إلا الله يريد خشية التعظيم والعبادة وهذه مرتبة العدل من الناس ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ويخشى المحاذير الدنياوية وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه
وقوله (2/120)
سبحانه أجعلتم سقاية الحاج الآية سقاية الحاج كانت في بني هاشم وكان العباس يتولاها قال الحسن ولما نزلت هذه الآية قال العباس ما أراني إلا أترك السقاية فقال النبي صلى الله عليه و سلم أقيموا عليها فهي خير لكم وعمارة المسجد الحرام قيل هي حفظه ممن يظلم فيه أو يقول هجرا وكان ذلك إلى العباس وقيل هي السدانة وخدمة البيت خاصة وكان ذلك في بني عبد الدار وكان يتولاها عثمان بن طلحة وابن عمه شيبة وأقرها النبي صلى الله عليه و سلم لهما ثاني يوم الفتح وقال خذاها خالدة تالدة لا ينازعكموها إلا ظالم واختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فقال مجاهد أمروا بالهجرة فقال العباس أنا أسقي الحاج وقال عثمان بن طلحة أنا حاجب الكعبة وقال محمد بن كعب أن العباس وعليا وعثمان بن طلحة تفاخروا فنزلت الآية وقيل غير هذا
وقوله سبحانه الذين أمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله الآية لما حكم سبحانه في الآية المتقدمة بأن الصنفين لا يستوون بين ذلك في هذه الآية الأخيرة واوضحه فعدد الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس وحكم على أن أهل هذه الخصال أعظم درجة عند الله من جميع الخلق ثم حكم لهم بالفوز برحمته ورضوانه والفوز بلوغ البغية أما في نيل رغيبة أو نجاة من هلكة وينظر إلى معنى هذه الآية الحديث دعوا إلى أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل احد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ولأن أصحاب هذه الخصال على سيوفهم انبنى الإسلام وتمهد الشرع
وقوله سبحانه يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان هذا وعد كريم من رب رحيم وفي الحديث الصحيح إذا استقر أهل الجنة في الجنة يقول الله عز و جل لهم هل رضيتم فيقولون وكيف لا نرضى يا ربنا فيقول إني سأعطيكم أفضل من ذلك رضواني أرضي عليكم فلا أسخط عليهم أبدا الحديث (2/121)
وقوله سبحانه يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ظاهر هذه المخاطبة أنه لجميع المؤمنين كافة وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة وروت فرقة أنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر
وقوله سبحانه قل إن كان آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم الآية هذه الآية تقوي مذهب من رأى أن هذه الآية والتي قبلها إنما مقصودهما الحض على الهجرة وفي ضمن قوله فتربصوا وعيد بين
وقوله بأمره قال الحسن الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله تعالى وقال مجاهد الإشارة إلى فتح مكة وذكر الأبناء في هذه الآية دون التي قبلها لما جلبت ذكرهم المحبة والأبناء صدر في المحبة وليسوا كذلك في أن تتبع آراؤهم كما في الآية المتقدمة واقترفتموها معناه اكتسبتموها ومساكن جمع مسكن بفتح الكاف مفعل من السكنى وما كان من هذا معتل الفاء فإنما يأتي على مفعل بكسر العين كموعد وموطن
وقوله سبحانه لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعدد الله تعالى نعمه عليهم والمواطن المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة وخيبر وغيرها وحنين واد بين مكة والطائف
وقوله إذ أعجبتكم كثرتكم روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال حين رأى جملته اثني عشر ألفا لن تغلب اليوم من قلة وروي أن رجلا من أصحابه قالها فأراد الله تعالى إظهار العجز فظهر حين فر الناس ت العجب جائز في حق غير النبي صلى اله عليه وسلم وهو معصوم منه صلى الله عليه و سلم والصواب في فهم الحديث أنه خرج مخرج الإخبار لا على وجه العجب وعلى هذا فهمه ابن رشد وغيره وأنه إذا بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا حرم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف وعليه عول في الفتوى وقوله تعالى وضاقت عليكم الأرض بما رحبت معناه (2/122)
برحبها كأنه قال على ما هي عليه في نفسها رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها فما مصدرية
وقوله سبحانه ثم وليتم مدبرين أي فرارا عن النبي صلى الله عليه و سلم واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليهم ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفا سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن والفاها وعليهم ملك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو وانضاف إليهم اخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين اجتمعوا بحنين فلما تصاف الناس حمل المشركون من محاني الوادي وانهزم المسلمون قال قتادة وكان يقال أن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا القاء الهزيمة في المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم على بغلته البيضاء قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وبين يديه أيمن بن أم أيمن وثم قتل رحمه الله والنبي صلى الله عليه و سلم يقول ... أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب ...
فلما رأى نبي الله صلى الله عليه و سلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض قالت البراء بن عازب واستنصر الله عز و جل فأخذ قبضه من تراب وحصى فرمى بها في وجوه الكفار وقال شاهت الوجوه ونادى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأنصار وأمر العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة فرجع الناس عنقا واحدا للحرب وتصافحوا بالسيوف والطعن والضرب وهناك قال عليه السلام الآن حمي الوطيس وهزم الله المشركين واعلى كلمة الإسلام إلى يوم الدين قال يعلى بن عطاء فحدننى أبناء المنهزمين عن آبائهم قالوا لم يبق منا أحد إلا دخل عينيه من ذلك التراب واستيعاب هذه القصة في (2/123)
كتب السير ومدبرين نصب على الحال المؤكدة كقوله وهو الحق مصدقا والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولى على الإدبار
وقوله سبحانه ثم أنزل الله سكينته الآية السكينة النصر الذي سكنت إليه ومعه النفوس والجنود الملائكة والرعب قال أبو حاجز يزيد بن عامر كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب وعذب الذين كفروا أي بالقتل والأسر وروى أبو داود عن سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فاطنبوا السير حتى كان عشية فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رجل فارس فقال يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذ أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم اجتمعوا إلى حنين فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال تكل غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله الحديث انتهى فكانوا كذلك غنيمة بحمد الله كما أخبر صلى الله عليه و سلم
وقوله عز و جل يا أيها الذين أمنوا إنما المشركون نجس قال ابن عباس وغيره معنى الشرك هو الذي نجسهم كنجاسة الخمر ونص الله سبحانه في هذه الآية على المشركين وعلى المسجد الحرام فقاس مالك رحمه الله وغيره جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد وقوة قوله سبحانه فلا يقربوا يقتضي أمر المسلمين بمنعهم
وقوله بعد عامهم هذا يريد بعد عام تسع من الهجرة وهو عام حج أبو بكر بالناس
وقوله سبحانه وإن خفتم عيلة أي فقرا فسوف يغنيكم الله من فضله وكان المسلمون لما منع المشركون من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات قذف الشيطان في نفوسهم الخوف من الفقر وقالوا من أين نعيش فوعدهم الله سبحانه بأن يغنيهم من فضله فكان الأمر كما (2/124)
وعد الله سبحانه فأسلمت العرب فتمادى حجهم وتجرهم وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم
وقوله سبحانه قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية هذه الآية تضمنت قتال أهل الكتاب قال مجاهد وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزو الروم ومشى نحو تبوك ونفى سبحانه عن أهل الكتاب الإيمان بالله واليوم الآخر حيث تركوا شرع الإسلام وأيضا فكانت اعتقاداتهم غير مستقيمة لأنهم تشعبوا وقالوا عزير بن الله والله ثالث ثلاثة وغير ذلك ولهم أيضا في البعث آراء فاسدة كشراء منازل الجنة من الرهبان إلى غير لك من الهذيان ولا يدينون دين الحق أي لا يطيعون ولا يمتثلون ومنه قول عائشة ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين والدين هنا الشريعة قال ابن القاسم وأشهب وسحنون وتؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها وأما عبدة الأوثان والنيران وغير ذلك فجمهور العلماء على قبول الجزية منهم وهو قول مالك في المدونة وقال الشافعي وأبو ثور لا تؤخذ الجزية إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط وأما قدرها في مذهب مالك وغيره فأربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الفضة وهذا في العنوة وأما الصلح فهو ما صالحوا عليه قليل أو كثير
وقوله عن يد يحتمل وجوها منها أن يريد عن قوة منكم عليهم وقهر واليد في كلام العرب القوة ومنها أن يريد سوق الذمي لها بيده لا أن يبعثها مع رسول ليكون في ذلك إذلال لهم ومنها أن يريد نقدها ناجزا تقول بعته يدا بيد أي لا يؤخروا بها ومنها أن يريد عن استسلام يقال القى فلان بيده إذا عجز واستسلم
وقوله سبحانه وقالت اليهود عزير بن الله الذي كثر في كتب أهل العلم أن فرقة من اليهود قالت هذه المقالة وروي أنه قالها نفر يسير منهم فنحاص وغيره قال النقاش ولم يبق الآن يهودي (2/125)
يقولها بل انقرضوا قال ع فإذا قالها ولو واحد من رؤسائهم توجهت شنعة المقالة على جماعتهم وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وجلاء وقيل مرض وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك ونسوها وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة فحفظها الله عزيرا كرامة منه له فقال لبني إسرائيل أن الله قد حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده ثم أن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس فضلوا عند ذلك وقالوا إن هذا لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله نعوذ بالله من الضلال
وقوله بافواهم أي بمجرد الدعوى من غير حجة ولا برهان ويضاهون قراءة الجماعة ومعناه يحاكون ويماثلون والإشارة بقوله الذين كفروا من قبل إما لمشركي العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله قاله الضحاك وإما لأمم سالفة قبلها إما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى ويكون يضاهون لمعاصري النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان الضمير في يضاهون للنصارى فقط كانت الإشارة بالذين كفروا من قبل إلى اليهود وعلى هذا فسر الطبري وحكاه غيره عن قتادة
وقوله قاتلهم الله دعاء عليهم عام لأنواع الشر وعن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله قال الداودي وعن ابن عباس قاتلهم الله لعنهم الله وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن انتهى وأنى يؤفكون أي يصرفون عن الخير
وقوله سبحانه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم الآية هذه الآية يفسرها ما حكاه الطبري أن عدي بن حاتم قال جئت رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي عنقي صليب ذهب فقال يا عدي اطرح هذا الصليب من عنقك فسمعته يقرأ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله فقلت يا رسول الله وكيف ذلك ونحن لم نعبدهم فقال أليس تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا قلت نعم قال فذلك ومعنى سبحانه تنزيها له (2/126)
ونور الله في هذه الآية هداه الصادر عن القرآن والشرع
وقوله بافواههم عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها
وقوله بالهدى يعم القرآن وجميع الشرع
وقوله ليظهره على الدين كله وقد فعل ذلك سبحانه فالضمير في ليظهره عائد على الدين وقيل على الرسول وهذا وإن كان صحيحا فالتأويل الأول ابرع منه وأليق بنظام الآية
وقوله عز و جل يا أيها الذين أمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك واللام في ليأكلون لام التوكيد وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال اتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يؤهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتقرب إلى الله وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه
وقوله سبحانه ويصدون عن سبيل الله أي عن شريعة الإسلام والإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه و سلم
وقوله سبحانه والذين ابتداء وخبره فبشرهم والذي يظهر من ألفاظ الآية أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين للمال بالباطل ذكر بعد ذلك بقول عام نقص الكانزين المانعين حق المال وقرأ طلحة بن مصرف الذين يكنزون بغير واو وعلى هذه القراءة يجرى قول معاوية أن الآية في أهل الكتاب وخالفه أوب ذر فقال بل هي فينا ويكنزون معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية وليس من شرط الكنز الدفن والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه وعلى هذا كثير من العلماء وقال علي رضي الله عنه أربعة آلاف درهم فما دونهما نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته وقال أبو ذر وجماعة معه ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه فهو كنز وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع (2/127)
زكاته فقط ت وحدث أبو بكر بن الخطيب بسنده عن علي بن أبي طالب وابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أن الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء قدر ما يسعهم فإن منعوهم حتى يجوعوا ويعروا ويجهدوا حاسبهم الله حسابا شديدا وعذبهم عذابا نكرا انتهى
وقوله سبحانه فتكوى بها جباههم الآية قال ابن مسعود والله لا يمس دينار دينارا بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار وبكل درهم قال الفخر قال أبو بكر الوراق وخصت هذه المواضع بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبينه وإذا جلس إلى جنبه تباعد عنه وولاه ظهره انتهى
وقوله سبحانه إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب عليه في جاهليتها من تحريم شهور الحل وتحليل شهور الحرمة وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات فالذي تظاهرت به الروايات ويتخلص من مجموع ما ذكره الناس أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها فكانوا إذا توالت عليهم حرمة الأشهر الحرم صعب عليهم واملقوا وكان بنوفقيم من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسى الشهور للعرب ثم خلفه على ذلك بنوه وذكر الطبري وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا إنسانا شهرا أي أخر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر فيحل لهم المحرم فيغيرون فيه ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الحرم الأربعة قال مجاهد ويسمون ذلك الصفر المحرم ثم يسمون ربيعا الأول صفرا وربيعا الآخر ربيعا الأول وهكذا في سائر الشهور وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا (2/128)
أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر وفي هذا قال الله عز و جل إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا أي ليس ثلاثة عشر ثم كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة وهم يسمونه ذا الحجة ثم حج رسول الله صلى الله عليه و سلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة فذلك قوله عليه السلام أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان
وقوله في كتاب الله أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ أو غيره فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه وليست بمعنى قضائه وتقديره لأن تلك هي قبل خلق السماوات والأرض
وقوله سبحانه منها أربعة حرم نص على تفضيل هذه الأربعة وتشريفها قال قتادة اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلا ومن الشهور المحرم ورمضان ومن البقع المساجد ومن الأيام الجمعة ومن الليالي ليلة القدر ومن الكلام ذكره فينبغي أن يعظم ما عظم الله
وقوله سبحانه ذلك الدين القيم قالت فرقة معناه الحساب المستقيم وقال ابن عباس فيما حكى المهدوي معناه القضاء المستقيم قال ع والاصوب عندي أن يكون الدين هاهنا على اشهر وجوهه أي ذلك الشرع والطاعة
وقوله فلا تظلموا فيهن أي في الاثنى عشر شهرا أي لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمان كله وقال قتادة المراد الأربعة الأشهر وخصصت تشريفا لها قال سعيد بن المسيب كان النبي صلى الله عليه و سلم يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله في ذلك حتى نزلت براءة
وقوله تعالى وقاتلوا المشركين معناه فيهن فاحرى في غيرهن وقوله كافة معناه جميعا وقوله سبحانه إنما النسي يعني فعل العرب في تأخيرهم الحرمة زيادة في الكفر أي جار مع كفرهم بالله وخلافهم للحق فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه ومما وجد في (2/129)
أشعارهم قول جذل الطعان ... وقد علمت معد أن قومي ... كرام الناس ان لهم كراما ...
... السنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما ...
وقوله سبحانه يحلونه عاما ويحرمونه عاما معناه عاما من الأعوام وليس يريد أن تلك كانت مداولة
وقوله سبحانه لواطئوا عدة ما حرم الله معناه ليوافقوا والمواطأة الموافقة
وقوله سبحانه يا أيها الذين أمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض هذه الآية بلا خلاف أنها نزلت عتابا على تخلف من تخلف عن النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألف بين راكب وراجل والنفر هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان وقوله اثاقلتم أصله تثاقلتم وكذلك قرأ الأعمش وهو نحو قوله اخلد إلى الأرض
وقوله أرضيتم تقرير والمعنى أرضيتم نزر الدنيا على خطير الآخرة وحظها الأسعد قال ابن هشام فمن من قوله من الآخرة للبدل انتهى ثم أخبر سبحانه أن الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر فتعطى قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر الفاني بدل الكثير الباقي ت وفي صحيح مسلم والترمذي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بماذا ترجع قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح انتهى
وقوله سبحانه إلا تنفروا يعذبكم شرط وجواب ولفظ العذاب عام يدخل تحته أنواع عذاب الدنيا والآخرة
وقوله ويستبدل قوما غيركم توعد بأن يبدل لرسوله عليه السلام قوما لا يقعدون عند استنفاره إياهم والضمير في قوله ولا تضروه شيئا عائد على الله عز و جل ويحتمل أن يعود على النبي صلى الله عليه و سلم وهو أليق
وقوله سبحانه الا تنصروه فقد نصره الله هذا أيضا شرط وجواب ومعنى الآية أنكم (2/130)
إن تركتم نصره فالله متكفل به إذ قد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو ولن يترك
نصره الآن وقوله إذ أخرجه الذين كفروا أسند الإخراج إليهم تذنيبا لهم ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله من طردت كل مطرد لم يقره النبي صلى الله عليه و سلم على ما علم في كتب السيرة والإشارة إلى خروج النبي صلى الله عليه و سلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر واختصار القصة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ينتظر إذن الله سبحانه في الهجرة من مكة وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج فقال له النبي صلى الله عليه و سلم أصبر لعل الله يسهل الصحبة فلما أذن الله لنبيه في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهوا إلى الغار فطمس الله عليهم الأثر وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم لو نظر أحدهم إلى قدمه لرءانا فقال له النبي صلى الله عليه و سلم ما ظنك باثنين الله ثالثهما هكذا في الحديث الصحيح ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار وكان يروج عليهما باللبن عامر بن فهيرة
وقوله ثاني أثنين معناه أحد اثنين
وقوله إن الله معنا يريد بالنصر والنجاة واللطف
وقوله سبحانه وكلمة الله هي العليا قيل يريد لا إله إلا الله وقيل الشرع بأسره
وقوله سبحانه انفروا خفافا وثقالا معنى الخفة والثقل هاهنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهوله ومن يمكنه بصعوبة وأما من لا يمكنه كالعمي ونحهم فخارج عن هذا وقال أبو طلحة ما اسمع الله عذر أحدا وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات وقال أبو أيوب ما اجدني أبدا إلا خفيفا أو ثقيلا
وقوله سبحانه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون تنبيه وهز للنفوس
وقوله سبحانه لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا (2/131)
لاتبعوك هذه الآية في المنافقين المتخلفين في غزوة تبوك وكشف ضمائرهم وأما الآيات التي قبلها فعامة فيهم وفي غيرهم والمعنى لو كان هذا الغزو لعرض أي لمال وغنيمة تنال قريبا بسفر قاصد يسيرا لبادروا لا لوجه الله ولكن بعدت عليهم الشقة وهي المسافة الطويلة
وقوله وسيحلفون بالله يريد المنافقين وهذا إخبار بغيب
وقوله عز و جل عفا الله عنك لم أذنت لهم هذه الآية هي في صنف مبالغ في النفاق استأذنوا دون اعتذار منهم الجد بن قيس ورفاعة بن التابوت ومن اتبعهم قال مجاهد وذلك أن بعضهم قال نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإلا قعدنا وقدم له العفو قبل العتاب إكراما له صلى الله عليه و سلم وقالت فرقة بل قوله سبحانه عفا عنك استفتاح كلام كما تقول اصلحك الله وأعزك الله ولم يكن منه عليه السلام ذنب يعفى عنه لأن صورة الاستنفار وقبول الأعذار مصروفة إلى اجتهاده
وقوله حتى يتبين لك الذين صدقوا يريد في استيذانك وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك
وقوله وتعلم الكاذبين أي بمخالفتك لو لم تأذن لأنهم عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن وقال الطبري معناه حتى تعلم الصادقين في أن لهم عذرا والكاذبين في أن لا عذر لهم والأول أصوب والله أعلم وأما قوله سبحانه في سورة النور فإذا استاذنوك لبعض شأنهم الآية ففي غزوة الخندق نزلت وارتابت قلوبهم أي شكت ويترددون أي يتحيرون إذ كانوا تخطر لهم صحة أمر النبي صلى الله عليه و سلم أحيانا وأنه غير صحيح أحيانا فهم مذبذبون
وقوله سبحانه ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة أي لو أرادوا الخروج بنياتهم لنظروا في ذلك واستعدوا له
وقوله ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم قال ص ولكن أصلها أن تقع بين نقيضين أو ضدين أو خلافين على خلاف فيه انتهى وانبعاثهم نفوذهم لهذه الغزوة والتثبيط التكسيل وكسرا لعزم (2/132)
وقوله سبحانه وقيل اقعدوا يحتمل أن يكون حكاية عن الله أي قال الله في سابق قضائه أقعدوا مع القاعدين ويحتمل أن يكون حكاية عنهم أي كانت هذه مقالة بعضهم لبعض ويحتمل أن يكون عبارة عن إذن النبي صلى الله عليه و سلم لهم في العقود أي لما كره الله خروجهم يسر أن قلت لهم أقعدوا مع القاعدين والقعود هنا عبارة عن التخلف وكراهية الله انبعاثهم رفق بالمؤمنين
وقوله سبحانه لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا الخبال الفساد في والأشياء المؤتلفة كالمودات وبعض الإجرام ولا أوضعوا معناه لأسرعوا السير وخلالكم معناه فيما بينكم قال ص خلالكم جمع خلل وهو الفرجة بين الشيئين وانتصب على الظرف بلا أوضعوا ويبغونكم حال أي باغين انتهى والإيضاع سرعة السير ووقعت لاأوضعوا بألف بعد لا في المصحف وكذلك وقعت في قوله أولااذبحنه يبغونكم الفتنة أي يطلبون لكم الفتنة وفيكم سماعون لهم قال مجاهد وغيره معناه جواسيس يسمعون الأخبار وينقلونها إليهم وقال الجمهور معناه وفيكم مطيعون سامعون لهم
وقوله سبحانه لقد ابتغوا الفتنة من قبل في هذه الآية تحقير لشأنهم ومعنى قوله من قبل ماكان من حالهم في احد وغيرها ومعنى قوله وقلبوا لك الأمور دبروها ظهرا لبطن وسعوا بكل حيلة ومنهم من يقول ايذن لي ولا تفتني نزلت في الجد بن قيس واسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أغزوا تبوك تغنموا بنات الأصفر فقال الجد ايذن لنا ولا تفتنا بالنساء وقال ابن عباس أن الجد قال ولكني أعينك بمالي وقوله سبحانه إلا في الفتنة سقطوا أي في الذي أظهروا افرار منه
وقوله سبحانه إن تصبك حسنة الآية الحسنة هنا بحسب الغزوة هي الغنيمة والظفر والمصيبة الهزيمة والخيبة واللفظ عام بعد ذلك في كل محبوب ومكروه ومعنى قوله قد أخذنا أمرنا من قبل أي قد أخذنا بالحزم في تخلفنا ونظرنا (2/133)
لأنفسنا ثم أمر تعالى نبيه فقال قل لهم يا محمد لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وهو إما ظفرا وسرورا عاجلا وإما أن نستشهد فندخل الجنة وباقي الآية بين
وقوله سبحانه قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين أي قل للمنافقين والحسنيين الظفر والشهادة
وقوله أو بأيدينا يريد القتل
وقوله سبحانه قل أنفقوا طوعا أو كرها الآية سببها أن الجد بن قيس حين قال ايذن لي ولا تفتني قال أني أعينك بمالي فنزلت هذه الآية فيه وهي عامة بعده
وقول عز و جل وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن ثواب الكافر على أفعاله البرة هو في الطعمة يطعمها ونحو ذلك وهذا مقنع لا يحتاج معه إلى نظر وأما أن ينتفع بها في الآخرة فلا وكسالى جمع كسلان
وقوله سبحانه فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا الآية حقر في الآية شأن المنافقين وعلل إعطاء الله لهم الأموال والأولاد بإرادته تعذيبهم بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال ابن زيد وغيره تعذيبهم بها في الدنيا هو بمصائبها ورزاياها هي لهم عذاب إذ لا يؤجرون عليها ومن ذلك قهر الشرع لهم على أداء الزكاة والحقوق الواجبات قال الفخر أما كون كثيرة الأموال والأولاد سببها للعذاب في الدنيا فحاصل من وجوه منها أن كلما كان حب الإنسان للشيء أشد وأقوى كان حزنه وتألم قلبه على فراقه أعظم وأصعب ثم عند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته لمفارقته المحبوب فالمشغوف بحب المال والولد لا يزال في تعب فيحتاج في اكتساب الأموال وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأصعب في حفظها وصونها لأن حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه ثم أنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال فالتعب كثير والنفع قليل (2/134)
ثم قال وأعلم أن الدنيا حلوة خضرة والحواس الخمس ماثلة إليها فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرف الإنسان بكليته إليها فيصير ذلك سببا لحرمانه من ذكر الله ثم أنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوه وقهر وكلما كان المال والجاه أكثر كانت تلك القسوة أقوى وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى إن الإنسان ليطغى إن رءاه استغنى فظهر أن كثرة الأموال والاولاد سبب قوي في زوال حب الله تعالى وحب الآخرة من القلب وفي حصول الدنيا وشهواتها في القلب وعند الموت كان الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ومن مجالسة الأقرباء والأحبة إلى موضع الغربة والكربة فيعظم تألمه ويقوى حزمنه ثم عند الحشر حلالها حساب وحرامها عقاب فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة انتهى ثم أخبر سبحانه أنهم ليسوا من المؤمنين وإنما هم يفزعون منهم والفرق الخوف
وقوله سبحانه لو يجدون ملجأ الملجأ من لجأ يلجأ إذا أوى واعتصم وقرأ الجمهور أو مغارات بفتح الميم وهي الغيران في أعراض الجبال أو مدخلا معناه السرب والنفق في الأرض وهو تفسير ابن عباس في هذه الألفاظ وقرأ جمهور الناس يجمحون ومعناه يسرعون قال الفخر قوله وهم يجمحون أي يسرعون إسراعا لا يرد وجوههم شيء ومن هذا يقال جمح الفرس وفرس جموح وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام انتهى وقوله عز و جل ومنهم من يلمزك الآية أي ومن المنافقين من يلمزك أي يعيبك ويأخذ منك في الغيبة ومنه قول الشاعر ... إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة ... وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه ...
ومنه قوله سبحانه ويل لكل همزة لمزة
سبحانه ولو أنهم رضوا ما ءاتاهم الله ورسوله الآية المعنى لو أن هؤلاء المنافقين رضوا قسمة الله الرزق (2/135)
لهم وما أعطاهم على يد رسوله وأقروا بالرغبة إلى الله لكان خيرا لهم وحذف الجواب لدلالة ظاهر الكلام عليه وذلك من فصيح الكلام وإيجازه وقوله سبحانه إنما الصدقات للفقراء الآية إنما في هذه الآية حاصرة تقتضي وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف وإنما اختلف في صورة القسمة ومذهب مالك وغيره أن ذلك على قدر الإحتهاد وبحسب الحاجة وأما الفقير والمسكين فقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وغيرهم المساكين الذين يسعون ويسئلون والفقراء الذين يتصاونون وهذا القول أحسن ما قيل في هذا تحريره أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل نفسه ولا يذل وجهه وذلك أما لتعفف مفرط وإما لبلغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال فهذه هي المسكنة ويقوى هذا أن الله سبحانه قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم وإذا تأملت ما قلناه بأن أنهما صنفان موجودان في المسلمين ت وقد أكثر الناس في الفرق بين الفقير والمسكين وأولى ما يعول عليه ما ثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد روى مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي ليس له غنى بغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس انتهى وأول أبو عمر في التمهيد هذا الحديث فقال كأنه أراد والله أعلم ليس المسكين على تمام المسكنة وعلى الحقيقة إلا الذي لا يسأل الناس انتهى وأما العاملون فهم جباتها يستنيبهم الإمام في السعي على الناس وجمع صدقاتهم قال الجمهور لهم قدر تعبهم ومئسونتهم وأما المؤلفة قلوبهم فكانوا مسلمين وكافرين مستترين مظهرين للإسلام حتى وثقه الإستيلاف في أكثرهم واستيلافهم إنما (2/136)
كان لتجلب إلى الإسلام منفعة أو تدفع عنه مضرة والصحيح بقاء حكمهم إن احتيج إليهم وأما الرقاب فمذهب مالك وغيره هو ابتداء عتق مؤمن وأما الغارم فهو الرجل يركبه دين في غير معصية ولا سفه كذا قال العلماء وأما في سبيل الله فهو الغازي وإن كان مليا ببلده وأما ابن السبيل فهو المسافر وإن كان غنيا ببلده وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته السبيل ومن ادعى الفقر صدق إلا لويبة فيكلف حينئذ البينة وأما إن أدعى أنه غارم أو ابن السبيل أو غاز ونحو ذلك مما لا يعلم إلا منه فلا يعطي إلا ببينه وأهل بلد الصدقة أحق بها إلا أن تفضل فضلة فتنقل إلى غيرهم قال ابن حبيب وينبغي للامام أن يأمر السعاة بتفريقها في المواضع التي جبيت فيها ولا يحمل منها شيء إلا الإمام وفي الحديث تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم
وقوله سبحانه فريضة من الله أي موجبة محدودة
وقوله سبحانه ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو إذن قل إذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين أي ومن المنافقين ويؤذون لفظ يعم أنواع اذايتهم له صلى الله عليه و سلم وخص بعد ذلك من قولهم هو إذن وروي أن قائل هذه المقالة نبتل بن الحارث وكان من مردة المنافقين وفيه قال صلى الله عليه و سلم من سره أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث وكان ثائر الرأس منتفش الشعر أحمر العينين اسفع الخدين مشوها قال الحسن البصري ومجاهد قولهم هو إذن أي يسمع معاذيرنا ويقبلها أي فنحن لا نبالي من الوقوع فيه وهذا تنقص بقلة الحزم وقال ابن عباس وغيره أنهم أرادوا بقولهم هو إذن أي يسمع كل ما ينقل إليه عنا ويصغي غليه ويقبله فهذا تشك منه عليه السلام ومعنى إذن سماع وهذا من باب تسمية الشيء بالشيء إذا كان منه بسبب كما يقال للرؤية عين وكما يقال للمسنة من الإبل التي قد بزل نابها ناب وقيل معنى الكلام ذو إذن أي (2/137)
ذو سماع وقيل أنه مشتق من قولهم أذن إلى شيء إذا استمع ومنه قول الشاعر ... صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا ...
وقرأ نافع إذن بسكون الذال فيهما وقرأ الباقون بضمها فيهما وكلهم قرأ بالإضافة إلى خير إلا ما روي عن عاصم وقرأ الحسن وغيره قل إذن خير بتنوين إذن ورفع خير وهذا جار على تأويله المتقدم والمعنى من يقبل معاذيركم خير لكم ورويت هذه القراءة عن عاصم ومعنى إذن خير على الإضافة أي سماع خير وحق ويؤمن بالله معناه يصدق بالله ويؤمن للمؤمنين قيل معناه ويصدق المؤمنين واللام زائدة وقيل يقال أمنت لك بمعنى صدقتك ومنه وما أنت بمؤمن لنا قال ع وعندي أن هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى ويصدق للمؤمنين بما يخبرونه به وكذلك قوله وما أنت بمؤمن لنا بما نقوله ت ولما كانت أخبار المنافقين تصل إلى النبي صلى الله عليه و سلم تارة بإخبار الله له وتاره بإخبار المؤمنين وهم عدول ناسب اتصال قوله سبحانه ويؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين بما قبله ويكون التصديق هنا خاصا بهذه القضية وإن كان ظاهر اللفظ عاما إذ من المعلوم أنه صلى الله عليه و سلم لم يزل مصدقا بالله وقرأ جميع السبعة إلا حمزة ورحمة بالرفع عطفا على إذن وقرأ حمزة وحده ورحمة بالخفض عطفا على خير وخصص الرحمة للذين آمنوا إذ هم الذين فازوا ونجوا بالرسول عليه السلام
يحلفون بالله لكم يعني المنافقين
وقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه التقدير عند سيبويه والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه فحذف الخبر من الجملة الأولى لدلالة الثانية عليه وقيل الضمير في يرضوه عائد على المذكور كما قال رؤبة ... فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق ...
أي كان المذكور
وقوله ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله الآية يحادد (2/138)
معناه يخالف ويشاق
وقوله سبحانه يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم يحذر خبر عن حال قلوبهم وقال الزجاج وغيره معنى يحذر الأمر وإن كان لفظه لفظ الخبر كأنه قال ليحذر
وقوله سبحانه قل استهزءوا لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد ثم أخبر سبحانه أنه مخرج لهم ما يحذرونه إلى حين الوجود وقد فعل ذلك تبارك وتعالى في سورة براءة فهي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين
وقوله سبحانه ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب الآية نزلت على ما ذكر جماعة من المفسرين في وديعة بن ثابت وذلك أنه مع قوم من المنافقين كانوا يسيرون في غزوة تبوك فقال بعضهم هذا يريد أن يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر هيهات هيهات فوقفهم رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك وقال لهم قلتم كذا وكذا فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر أنه قال رأيت قائل هذه المقالة وديعة متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول إنما كنا نخوض ونلعب والنبي صلى الله عليه و سلم يقول أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ثم حكم سبحانه عليهم بالكفر فقال لهم لا تعتذروا قد كفرتم الآية
وقوله سبحانه إن يعف عن طائفة منكم يريد فيما ذكره المفسرون رجلا واحد قيل اسمه مخشى بن حمير قاله ابن إسحاق وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة وقد كان تاب وتسمى عبد الرحمن فدعا الله أن يستشهد ويجهل أمره فكان كذلك ولم يوجد جسده وكان مخشي مع المنافقين الذين قالوا إنما كنا نخوض ونلعب فقيل كان منافقا ثم تاب توبة صحيحة وقل كان مسلما مخلصا إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم فعفا الله عنه في كلا الوجهين ثم أوجب العذاب لباقي المنافقين الذين قالوا ما تقدم
وقوله سبحانه (2/139)
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يريد في الحكم والمنزلة في الكفر ولما تقدم قبل وما هم منكم حسن هذا الإخبار ويقبضون أيديهم أي عن الصدقة وفعل الخير نسوا الله أي تركوه حين تركوا اتباع نبيه وشرعه فنسيهم أي فتركهم حين لم يهدهم والكفار في الآية المعلنون
وقوله هي حسبهم أي كافيتهم
وقوله تعالى كالذين من قبلكم أي انتم أيها المنافقون كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة فعصوا فأهلكوا فأنتم أولى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم والخلاق الحظ من القدر والدين وجميع حال المرء فخلاق المرء الشيء الذي هو به خليق والمعنى عجلوا حظهم في دنياهم وتركوا الآخرة فاتبعتموهم أنتم
اولائك حبطت اعمالهم في الدنيا والآخرة المعنى وأنتم أيضا كذلك ويحتمل أن يريد بأولئك المنافقين
وقوله سبحانه ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود الآية المعنى ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السالفة التي عصت الله بتكذيب رسله فأهلكها
وقوم إبراهيم نمرود وأصحابه وإتباع دولته
وأصحاب مدين قوم شعيب
والمؤتفكات أهل القرى الأربعة أو السبعة التي بعث اليهم لوط عليه السلام ومعنى المؤتفكات المنصرفات والمنقلبات أفكت فائتفكت لأنها جعل عاليها سافلها ولفظ البخاري المؤتفكات والمنقلبات أفكت فأئتفكت لأنها جعل عاليها سافلها ولفظ البخاري المؤتفكات ائتفكت انقلبت بهم الأرض انتهى والضمير في أتتهم رسلهم عائد على هذه الأمم المذكورة ثم عقب سبحانه بذكر المؤمنين وما من به عليهم من حسن الأعمال ترغيبا وتنشيطا لمبادرة ما به أمر لطفا منه بعباده سبحانه لا رب غيره ولا خير إلا خيره
وقوله سبحانه ويقيمون الصلوة قال ابن عباس هي الصلوات الخمس قال ع وبحسب هذا تكون الزكاة هي المفروضة والمدح عندي بالنوافل أبلغ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرض والسين في قوله سيرحمهم مدخلة في الوعد (2/140)
مهلة لتكون النفوس تنعم برجائه سبحانه وفضله سبحانه زعيم بالإنجاز وذكر الطبري في قوله تعالى ومساكن طيبة عن الحسن أنه سأل عنها عمران ابن حصين وأبا هريرة فقالا على الخبير سقطت سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون دارا من يقوته حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ ويقرب منها فاختصرتها طلب الإيجاز ت وتمام الحديث من الأحياء وكتاب الآجري المعروف بكتاب النصيحة عن الحسن عن عمران ابن حصين وأبي هريرة قالا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين وفي كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن في كل غداة من القوة ما يأتي على ذلك أجمع وأما قوله سبحانه ورضوان من الله أكبر ففي الحديث الصحيح أن الله عز و جل يقول لعباده إذا استقروا في الجنة هل رضيتم فيقولون وكيف لا نرضى يا ربنا فيقول أني سأعطيكم أفضل من هذا كله رضواني أرضي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا الحديث وقوله أكبر يريد أكبر من جميع ما تقدم ومعنى الآية والحديث متفق وقال الحسن بن أبي الحسن وصل إلى قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة قال الإمام الفخر وإنما كان الرضوان أكبر لأنه عند العارفين نعيم روحاني وهو أشرف من النعيم الجسماني انتهى أنظره في أوائل آل عمران قال ع ويظهر أن يكون قوله تعالى ورضوان من الله أكبر إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تسنيم والذين يرون كما يرى النجم الغار في الأفق وجميع من في الجنة راض والمنازل مختلفة وفضل الله متسع والفوز النجاة والخلاص ومن أدخل الجنة فقد فاز والمقربون هم (2/141)
في الفوز العظيم والعبارة عندي بسرور وكمال أجود من العبارة عنها بلذة واللذة أيضا مستعملة في هذا
وقوله سبحانه يا أيها النبي جاهد الكفار أي بالسيف والمنافقين أي باللسان والتعنيف والاكفهرار في الوجه وبإقامة الحدود عليهم قال الحسن وأكثر ما كانت الحدود يومئذ تصيب المنافقين ومذهب الطبري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعرفهم ويسترهم وأما قوله وأغلظ عليهم فلفظة عامة في الأفعال والأقوال ومعنى الغلظ خشن الجانب فهو ضد قوله تعالى وأخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقوله عز و جل يحلفون بالله ما قالوا الآية نزلت في الجلاس بن سويد وقوله لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمر فسمعها منه ربيبة أو رجل آخر فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم فجاء الجلاس فحلف بالله ما قال هذه الكلمة فنزلت الآية فكلمة الكفر هي مقالته هذه لأن مضمنها قوي في التكذيب قال مجاهد وقوله وهموا بما لم ينالوا يعني أن الجلاس قد كان هم بقتل صاحبه الذي أخبر النبي صلى الله عليه و سلم قوال قتادة نزلت في عبد الله بن أبي أبن سلول وقوله في غزوة المريسيع ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول سمن كلبك ياكلك ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الاذل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فوقفه فحلف أنه لم يقل ذلك فنزلت الآية مكذبة له ت وزاد ابن العربي في أحكامه قولا ثالثا أن الآية نزلت في جماعة المنافقين قال الحسن وهو الصحيح لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم انتهى وحدث أبو بكر بن الخطيب بسنده قال سئل سفيان بن عيينة عن الهم أيواخذ به صاحبه قال نعم إذا كان عزما ألم تسمع إلى قوله تعالى وهموا بما لم ينالوا الآية إلى قوله فإن يتوبوا يك خيرا لهم فجعل عليهم فيه التوبة قال سفيان الهم يسود القلب انتهى
قال ع وعلى تأويل قتادة فالإشارة بكلمة الكفر إلى تمثيل (2/142)
ابن ابي سمن كلبك ياكلك قال قتادة والإشارة بهموا إلى قوله لئن رجعنا إلى المدينة وقال الحسن هم المنافقون من إظهار الشرك ومكابرة النبي صلى الله عليه و سلم بما لم ينالوا وقال تعالى بعد إسلامهم ولم يقل بعد إيمانهم لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم وقوله سبحانه وما نقموا إلا أن أغناهم الله الآية كان الكلام وما نقموا إلا ما حقه أن يشكر وذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم سبب في ذلك وعلى هذا الحد قال عليه السلام للأنصار في غزوة حنين كنتم عالة فأغناكم الله قال العراقي نقموا أي أنكروا وقال ص إلا أن أغناهم الله أن وصلتها مفعول نقموا أي ما كرهوا إلا إغناء الله إياهم وقيل هو مفعول من أجله والمفعول به محذوف أي ما كرهوا الإيمان إلا للإغناء انتهى ثم فتح لهم سبحانه باب التوبة رفقا بهم ولطفا فروي أن الجلاس تاب من النفاق وقال إن الله قد ترك لي باب التوبة فأعترف وأخلص وحسنت توبته
وقوله سبحانه ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن الآية هذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال الحسن وفي معتب بن قشير معه واختصار ما ذكره الطبري وغيره من أمره أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعل لي مالا فإني لو كنت ذا مال لقضيت حقوقه وفعلت فيه الخير فراده النبي صلى الله عليه و سلم وقال قليل تودي شكره خي رمن كثير لا تطيقه فعاود فقال له النبي صلى الله عليه و سلم ألا تريد أن تكون مثل رسول الله ولو دعوت الله أن يسير الجبال معي ذهبا لسارت فأعاد عليه حتى دعا له النبي صلى الله عليه و سلم بذلك فأتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة فتنحى عنها وكثرت غنمه حتى كان لا يصلي إلا الجمعة ثم كثرت حتى تنحى بعيدا فترك الصلاة ونجم (2/143)
نفاقه ونزل خلال ذلك فرض الزكاه فبعث النبي صلى الله عليه و سلم مصدقين بكتابه في أخذ زكاة الغنم فلما بلغوا ثعلبة وقرأ الكتاب قال هذه أخت الجزية ثم قال لهم دعوني حتى أرى رأي فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبروه قال ويح ثعلبة ثلاثا ونزلت الآية فيه فحضر القصة قريب لثعلبة فخرج إليه فقال أدرك أمرك فقد نزل فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فرغب أن يؤدي زكاته فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال إن الله أمرني أن لا آخذ زكاتك فبقي كذلك حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ورد ثعلبة على أبي بكر ثم على عمر ثم على عثمان يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة فكلهم رد ذلك وأباه اقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم فبفي ثعلبة كذلك حتى هلك في مدة عثمان وفي قوله تعالى فاعقبهم نص في العقوبة على الذنب بما هو أشد منه
قوله إلى يوم يلقونه يقتضي موافاتهم على النفاق قال ابن العربي في ضمير يلقونه قولان أحدهما أنه عائد على الله تعالى والثاني أنه عائد على النفاق مجازا على تقدير الجزاء كأنه قال فاعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه جزاءه انتهى من الأحكام ويلمزون معناه ينالون بالسنتهم واكثر الروايات في سبب نزول الآية أن عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف وامسك مثلها وقيل هو عمر بن الخطاب تصدق بنصف ماله وقيل عاصم بن عدي تصدق بمائة وسق فقال المنافقون ما هذا إلا رياء فنزلت الآية في هذا كله وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل تصدق بصاع من تمر فقال بعضهم إن الله غني عن صاع أبي عقيل وخرجه البخاري وقيل أن الذي لمز في القليل هو أبو خيثمة قاله كعب بن مالك
فيسخرون منهم معناه يستهزءون ويستخفون وروى مسلم عن جرير بن عبد الله قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/144)
في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة إلى آخر الآية إن الله كان عليكم رقيبا والآية التي في سورة الحشر واتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمره قال فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء انتهى
وقوله سبحانه استغفر لهم أو لا تستغفر لهم المعنى أن الله خير نبيه في هذا فكأنه قال له إن شئت فاستغفر لهم وإن شئت لا تستغفر ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سبعين مرة وهذا هو الصحيح في تأويل الآية لقول النبي صلى الله عليه و سلم لعمر إن الله قد خيرني فاخترت ولو علمت إني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت الحديث وظاهر لفظ الحديث رفض إلزام دليل الخطاب وظاهر صلاته صلى الله عليه و سلم على ابن أبي أن كفره لم يكن يقينا عنده ومحال أن يصلي على كافر ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى الله عز و جل وعلى هذا كان ستر المنافقين وإذا ترتب كما قلنا التخيير في هذه الآية صح إن ذلك التخيير هو الذي نسخ بقوله تعالى في سورة المنافقين سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ت (2/145)
والظاهر أن الآيتين بمعنى فلا نسخ فتأمله ولولا الإطالة لا وضحت ذلك قال ع وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد كثيرا ما يجيء غاية ومقنعا في الكثرة
وقوله ذلك إشارة إلى امتناع الغفران
وقوله عز و جل فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله الآية هذه آية تتضمن وصف حالهم على جهة التوبيخ وفي ضمنها وعيد وقوله المخلفون لفظ يقتضي تحقيرهم وانهم الذين أبعدهم الله من رضاه ومقعد بمعنى القعود وخلاف معناه بعد ومنه قول الشاعر ... فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تأهب لأخرى مثلها فكأن قد ...
يريد بعد الذي مضى وقال الطبري هو مصدر خالف يخالف وقولهم لا تنفروا في الحر كان هذا القول منهم لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر وطيب الثمار
وقوله سبحانه فليضحكوا قليلا إشارة إلى مدة العمر في الدنيا
وقوله وليبكوا كثيرا إشارة إلى تأبيد الخلود في النار فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم وتقدير الكلام ليبكوا كثيرا إذ هم معذبون جزاء بما كانوا يكسبون وخرج ابن ماجه بسنده عن يزيد الرقاشي عن أنس قال قال النبي صلى الله عليه و سلم يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى تصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أرسلت فيها السفن لجرت وخرجه ابن المبارك أيضا عن أنس قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول يا أيها الناس أبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا اجريب فيها لجرت انتهى من التذكرة وقوله سبحانه فإن رجعك الله إلى طائفة منهم الآية يشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق وعينوا للنبي صلى الله عليه و سلم
وقوله وماتوا وهم (2/146)
فاسقون نص في موافاتهم على ذلك ومما يؤيد هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم عينهم لحذيفة بن اليمان وكان الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة تأخروا هم عنها وروي عن حذيفة أنه قال يوما بقي من المنافقين كذا وكذا
وقوله أول هو بالإضافة إلى وقت الاستيذان والخالفون جمع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر وتظاهرت الروايات أنه صلى الله عليه و سلم صلى على عبد الله بن أبي ابن سلول وأن وقوله ولا تصل على أحد منهم نزلت بعد ذلك وقد خرج ذلك البخاري من رواية عمر بن الخطاب انتهى
وقوله سبحانه ولا تعجبك أموالهم وأولادهم تقدم تفسير مثل هذه الآية والطول في هذه الآية المال قاله ابن عباس وغيره والإشارة بهذه الآية إلى الجد بن قيس ونظرائه والقاعدون الزمني وأهل العذر في الجملة والخوالف النساء جمع خالفة هذا قول جمهور المفسرين وقال أبو جعفر النحاس يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة فهذا جمعه بحسب اللفظ والمراد اخسة الناس واخلافهم ونحوه عن النضر بن شميل وقالت فرقة الخوالف جمع خالف كفارس وفوارس
وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون أي لا يفهمون والخيرات جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء
وقوله سبحانه أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم أعد معناه يسر وهيأ وباقي الآية بين
وقوله سبحانه وجاء المعذرون من الأعراب الآية قال ابن عباس وغيره هؤلاء كانوا مؤمنين وكانت أعذارهم صادقة وأصل اللفظة المعتذرون فقلبت التاء ذالا وأدغمت وقال قتادة وفرقة معه بل الذين جاءوا كفرة وقولهم وعذرهم كذب قال ص والمعنى تكلفوا العذر ولا عذر لهم وكذبوا الله ورسوله أبي في إيمانهم انتهى
وقوله سيصيب الذين كفروا منهم الآية قوله منهم يؤيد أن المعذرين كانوا مؤمنين فتأمله قال ابن إسحاق (2/147)
المعذرون نفر من بني غفار وهذا يقتضي أنهم مؤمنون
وقوله جلت عظمته ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية يقول ليس على أهل الأعذار من ضعف بدن أو مرض أو عدم نفقة إثم والحرج الإثم
وقوله إذا نصحوا يريد بنياتهم وأقوالهم سرا وجهرا ما على المحسنين من سبيل أي من لائمة تناط بهم ثم أكد الرجاء بقوله سبحانه والله غفور رحيم وقرأ ابن عباس والله لأهل الإساءة غفور رحيم هذا على جهة التفسير أشبه منه على جهة التلاوة لخلافه المصحف واختلف فيمن المراد بقوله الذين لا يجدون ما ينفقون فقالت فرقة نزلت في نبي مقرن ستة أخوة وليس في الصحابة ستة أخوة غيرهم وقيل كانوا سبعة وقيل نزلت في عائد بن عمرو المزني قاله قتادة وقيل في عبد الله بن معقل المزني قاله ابن عباس
وقوله عز و جل ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم هذه الآية نزلت في البكائين واختلف في تعيينهم فقيل في أبي موسى الأشعري ورهطه وقيل في بني مقرن وعلى هذا جمهور المفسرين وقيل نزلت في سبعة نفر من بطون شتى فهم البكاءون وقال مجاهد البكاءون هم بنو مقرن من مزينة ومعنى قوله لتحملهم أي على ظهر يركب ويحمل عليه الأثاث ت وقصة أبي موسى الأشعري ورهطه مذكورة في الصحيح قال ابن العربي في أحكامه القول بأن الآية نزلت في أبي موسى وأصحابه هو الصحيح انتهى
وقوله سبحانه إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء الآية هذه الآية نزلت في المنافقين المتقدم ذكرهم عبد الله بن أبي والجد بن قيس ومعتب وغيرهم
وقوله إذا رجعتم يريد من غزوة تبوك ومعنى لن نؤمن لكم لن نصدقكم والإشارة بقوله قد نبأنا الله من أحباركم إلى قوله ما زادوكم إلا خبالا ولا أوضعوا خلالكم ونحوه من الآيات
وقوله سبحانه وسيرى الله عملكم توعد والمعنى فيقع الجزاء عليه قال الأستاذ أبو بكر الطرطوشي أعمل للدنيا بقدر مقامك فيها وأعمل للآخرة (2/148)
بقدر بقائك فيها واستحي من الله تعالى بقدر قربه منك وأطعه بقدر حاجتك إليه وخفه بقدر قدرته عليك وأعصه بقدر صبرك على النار انتهى من سراج الملوك
وقوله ثم تردون يردي البعث من القبور
وقوله عز و جل سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم الآية قيل أن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك
وقوله إنهم رجس أي نتن وقذر وناهيك بهذا الوصف محطه دنياويه ثم عطف بمحطة الآخرة فقال ومأواهم جهنم أي مسكنهم وقوله فإن ترضوا إلى آخر الآية شرط يتضمن النهي عن الرضى عنهم وحكم هذه الآية يستمر في كل مغموص عليه ببدعة ونحوها
وقوله سبحانه الأعراب أشد كفرا ونفاقا هذه الآية نزلت في منافقين كانوا في البوادي ولا محالة أن خوفهم هناك كان أقل من خوف منافقي المدينة فألسنتهم لذلك مطلقة ونفاقهم أنجم وأجدر معناه أحرى وقال ص معناه أحق والحدود هنا السنن والأحكام
وقوله سبحانه ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما الآية نص في المنافقين منهم والدوائر المصائب ويحتمل أن تشتق من دوران الزمان والمعنى ينتظر بكم ما تأتي به الأيام وتدور به ثم قال على جهة الدعاء عليهم دائرة السوء وكل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز و جل فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته ومن هذا ويل لكل همزة لمزة ويل للمطففين فهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى ت وهذه قاعدة جيدة وما وقع له رحمه الله مما ظاهره مخالف لهذه القاعدة وجب تأويله بما ذكره هنا وقد وقع له ذلك بعد هذا في قوله صرف الله قلوبهم بأنهم قوم يفقهون قال يحتمل أن يكون دعاء عليهم ويحتمل أن يكون خبرا أي استوجبوا ذلك وقد أوضح ذلك عند قوله تعالى قتل أصحاب الأخدود فأنظره هناك
وقوله سبحانه ومن (2/149)
الأعراب من يؤمن بالله قال قتادة هذه ثنية الله تعالى من الأعراب وروي أن هذه الآية نزلت في بني مقرن وقاله مجاهد ويتخذ في الآيتين بمعنى يجعله قصده والمعنى ينوي بنفقته ما ذكره الله عنهم وصلوات الرسول دعاؤه ففي دعائه خير الدنيا والآخرة والضمير في قوله إنها يحتمل عوده على النفقة ويحتمل عوده على الصلوات وباقي الآية بين
وقوله سبحانه والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الآية قال أبو موسى الأشعري وغيره السابقون الأولون من صلى القبلتين وقال عطاء هم من شهد بدرا وقال الشعبي من أدرك بيعة الرضوان والذين اتبعوهم بإحسان يريد سائر الصحابة ويدخل في هذا اللفظ التابعون وسائر الأمة لكن بشريطة الإحسان وقرأ عمر بن الخطاب وجماعة والأنصار بالرفع عطفا على والسابقون وقرأ ابن كثير من تحتها الأنهار وقرأ الباقون تحتها بإسقاط من وقوله سبحانه وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق الإشارة بمن حولكم إلى جهينة ومزينة وأسلم وغفار وعصية ولحيان وغيرهم من القبائل المجاورة للمدينة فأخبر الله سبحانه عن منافقيهم وتقدير الآية ومن أهل المدينة قوم أو منافقون هذا أحسن ما حمل اللفظ ومردوا قال أبو عبيدة معناه مرنوا عليه ولجوا فيه وقيل غير هذا مما هو قريب منه قال ابن زيد قاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الآخرون والظاهر من اللفظة أن التمرد في الشيء أو المرود عليه إنما هو اللجاج والاشتهار به والعتو على الزاجر وركوب الرأس في ذلك وهو مستعمل في الشر لا في الخير ومنه شيطان مريد ومارد وقال ابن العربي في أحكامه مردوا على النفاق أي استمروا عليه وتحققوا به انتهى ذكره بعد قوله تعالى الذين اتخذوا مسجدا ضررا ثم نفى عز و جل علم نبيه بهم على التعيين
وقوله سبحانه سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم لفظ الآية يقتضي ثلاث مواطن من العذاب ولا خلاف بين (2/150)
المتأولين أن العذاب العظيم الذي يردون إليه هو عذاب الآخرة وأكثر الناس أن العذاب المتوسط هو عذاب القبر واختلف في عذاب المرة الأولى فقال ابن عباس عذابهم بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه وقال ابن إسحاق عذابهم هو همهم بظهر الإسلام وعلو كلمته وقال ابن عباس أيضا هو الأشهر عنه عذابهم هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق وقيل غير هذا وقوله عز و جل وآخرون اعترفوا بذنوبهم الآية قال ابن عباس وأبو عثمان هذه الآية في الأعراب وهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة قال ابو عثمان ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة منها وقال مجاهد بل نزلت هذه الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة لما أشار لهم إلى حلقه ثم ندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد وقالت فرقة عظيمة بل نزلت هذه الآية في شأن المخلفين عن غزوة تبوك ت وخرج البخاري بسنده عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاتي الليلة أتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راءى وشطر كأقبح ما أنت راءى قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قالا أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتجاوز الله عنهم انتهى وقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة الآية روي أن الجماعة التائبة لما تيب عليها قالوا يا رسول الله إنانريد أن نتصدق بأموالنا زيادة في توبتنا فقال لهم صلى الله عليه و سلم إني لا أعرض لأموالكم إلا بأمر من الله فتركهم حتى نزلت هذه الآية فهم المرا0د بها فروي أنه صلى الله عليه و سلم أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله تعالى من أموالهم فهذا هو الذي تظاهرت (2/151)
به أقوال المتأولين وقالت جماعة من الفقهاء المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة وقوله تعالى تطهرهم وتزكيهم بها احسن ما يحتمل أن تكون هذه الأفعال مسندة إلى ضمير النبي صلى الله عليه و سلم
وقوله سبحانه وصل عليهم معناه ادع لهم فإن في دعائك لهم سكونا لأنفسهم وطمانينة ووقارا فهي عبارة عن صلاح المعتقد والضمير في قوله ألم يعلموا قال ابن زيد يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين ويحتمل أن يراد به الذين تابوا وقوله ويأخذ الصدقات قال الزجاج معناه ويقبل الصدقات وقد جاءت أحاديث صحاح في معنى هذه الآية منها حديث أبي هريرة أن الصدقة قد تكون قدر اللقمة يأخذها الله بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد
وقوله عن عباده هي بمعنى من
وقوله سبحانه وقل اعملوا فسيرى الله علمكم ورسوله والمؤمنين وستردون إلى عالم الغيب والشهادة الآية هذه الآية صيغتها صيغة أمر مضمنها الوعيد وقال الطبري المراد بها الذين اعتذروا ولم يتوبوا من المتخلفين وتابوا قال ع والظاهر أن المراد بها الذين اعتذروا ولم يتوبوا وهم المتوعدون وهم الذي في ضمير ألم يعلموا ومعنى فسيرى الله عملكم أي موجودا معرضا للجزاء عليه بخير أو بشر وقال ابن العربي في أحكامه قوله سبحانه وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله هذه الآية نزلت بعد ذكر المؤمنين ومعناها الأمر أي أعملوا بما يرضي الله سبحانه وأما الآية المتقدمة وهي قوله تعالى قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله فإنها نزلت بعد ذكر المنافقين ومعناها التهديد وذلك لأن النفاق موضع ترهيب والإيمان موضع ترغيب فقوبل أهل كل محل من الخطاب بما يليق بهم انتهى
وقوله سبحانه وآخرون مرجون لأمر الله عطف على قوله اولا (2/152)
وآخرون اعترفوا ومعنى الإرجاء التأخير والمراد بهذه الآية فيما قال ابن عباس وجماعة الثلاثة الذين خلفوا وهم كعب بن مالك وصاحباه على ما سيأتي إن شاء الله وقيل إنما نزلت في غيرهم من المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار وعلى هذا يكون الذين اتخذوا بإسقاط واو العطف بدلا من آخرون أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين وقرأ عاصم وعوام القراء والناس في كل قطر إلا بالمدينة والذين اتخذوا وقرأ أهل المدينة نافع وغيره الذين اتخذوا بإسقاط الواو على أنه مبتدأ والخبر لا يزال بنيانهم وأما الجماعة المرادة بالذين اتخذوا بإسقاط الواو على أنه مبتدأ والخبر لا يزال بنيانهم وأما الجماعة المرادة بالذين اتخذوا مسجدا فهم منافقوا بني غنيم بن عوف وبني سالم بن عوف واسند الطبري عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره أنه قال أقبل النبي صلى الله عليه و سلم من غزوة تبوك حتى نزل بذي اوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار وكان أصحاب مسجد الضرار قد أتوه صلى الله عليه و سلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله انا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة وانا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال إني على جناح سفر وحال شغل ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه فلما قفل ونزل بذي اوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم مالك بن الدخشن ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث لهدامه وتحريقه عمار بن ياسر ووحشيا مولى المطعم بن عدي وكان بانوه اثني عشر رجلا منهم ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير ونبتل بن الحارث وغيرهم وروي أنه لما بني صلى الله عليه و سلم مسجدا في بني عمرو ابن عوف وقت الهجرة وهو مسجد قباء وتشرف القوم بذلك حسدهم حينئذ (2/153)
رجال من بني عمهم من بن بني غنم بن عوف وبنى سالم بن عوف وكان فيهم نفاق وكان موضع مسجد قباء مربطا لحمار امرأة من الأنصار اسمها لية فكان المنافقون يقولون والله لا نصبر على الصلاة في مربط حمار لية ونحو هذا من الأقوال وكان أبو عامر المعروف بالراهب منهم وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان سيدا من نظراء عبد الله بن أبي أبن سلول فلما جاء الله بالإسلام نافق ولم يزل مجاهرا بذلك فسماه رسول الله صلى الله عليه و سلم الفاسق ثم خرج في جماعة من المنافقين فخرب على النبي صلى الله عليه و سلم الأحزاب فلما ردهم الله بغيظهم أقام أبو عامر بمكة مظهرا لعداوته فلما فتح الله مكة هرب إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف خرج هاربا إلى الشام يريد قيصر مستنصرا به على رسول الله صلى الله عليه و سلم وكتب إلى المنافقين من قومه أن ابنوا مسجدا مقاومة لمسجد قباء وتحقيرا له فأني سآتي بجيش من الروم أخرج به محمدا وأصحابه من المدينة فبنوه وقالوا سيأتي أبو عامر ويصلي فيه فذلك قوله وارصادا لمن حارب الله ورسوله يعني أبا عامر وقولهم سيأتي أبو عامر وقوله ضرارا أي داعية للتضارر من جماعيتن
وقوله وتفريقا بين المؤمنين يريد تفريقا بين الجماعة التي كانت تصلي في مسجد قباء فإن من جاور مسجدهم كانوا يصرفونه إليه وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان وقيل أراد بقوله بين المؤمنين جماعة مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وروي أن مسجد الضرار لما هدم وأحرق اتخذ مزبلة ترمى فيه الأقذار والقمامات وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما نزلت لا تقم فيه أبدا كان لا يمر بالطريق التي هو فيها وقوله لمسجد قيل أن اللام قسم وقيل هي لام ابتداء كما تقول لزيد احسن الناس فعلا وهي مقتضية تأكيدا وذهب ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين إلى أن المراد بمسجد أسس على التقوى مسجد قباء وروي عن ابن عمر (2/154)
وأبى سعيد وزيد بن ثابت أنه مسجد النبي صلى الله عليه و سلم ويليق القول الأول بالقصة إلا أن القول الثاني مروي عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا نظر مع الحديث قال ابن العربي في أحكامه وقد روي ابن وهب وأشهب عن مالك أن المراد بمسجد أسس على التقوى مسجد النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال الله تبارك وتعالى وتركوك قائما وكذلك روى عنه ابن القاسم وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال رجل هو مسجد قباء وقال الآخر هو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هو مسجدي هذا قال أبو عيسى هذا حديث صحيح وخرجه مسلم انتهى ومعنى أن تقوم فيه أي بصلاتك وعبادتك
وقوله فيه رجال يحبون أن يتطهروا اختلف في الضمير أيضا هل يعود على مسجد النبي صلى الله عليه و سلم أو على مسجد قباء روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يا معشر الأنصار أني رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فما ذا تفعلون قالوا يا رسول الله انا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء ففعلنا نحن ذلك فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تدعوه إذن والبنيان الذي أسس على شفا جرف هو مسجد الضرار بإجماع والشفا الحاشية والشفير وهار معناه متهدم بال وهو من هار يهور البخاري هار هائر تهورت البير إذا تهدمت وانهارت مثله انتهى وتأسيس البناء على تقوى إنما هو بحسن النية فيه وقصد وجه الله تعالى وإظهار شرعه كما صنع في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم وفي مسجد قباء والتأسيس على شفا جرف هار إنما هو بفساد النية وقصد الرياء والتفريق بين المؤمنين فهذه تشبيهات صحيحة بارعة
وقوله سبحانه فانهار به في نار جهنم الظاهر منه أنه خارج مخرج المثل وقيل بل ذلك حقيقة (2/155)
وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم قاله قتادة وابن جريج وروي عن جابر بن عبد الله وغيره أنه قال رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وروي في بعض الكتب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رآه حين انهار بلغ الأرض السابعة ففزع لذلك صلى الله عليه و سلم وروي أنهم لم يصلوا فيه أكثر من ثلاثة أيام وهذا كله بإسناد لين والله أعلم واسند الطبري عن خلف بن ياسين أنه قال رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن فرأيت فيه مكانا يخرج منه الدخال وذلك في زمن أبي جعفر المنصور وروي شبيه بهذا أو نحوه عن ابن جريج اسنده الطبري قال ابن العربي في أحكامه وفي قوله تعالى فانهار به في نار جهنم مع قوله فأمه هاويه إشارة إلى أن النار تحت كما أن الجنة فوق انتهى والريبة الشك وقد يسمى ريبة فساد المعتقد ومعنى الريبة في هذه الآية أمر يعم الغيظ والحنق ويعم اعتقاد صواب فعلهم ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الارتياب في الإسلام فمقصد الكلام لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقى في قلوبهم حزازة وأثر سوء وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا وبالجملة أن الريبة هنا تعم معان كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق
وقوله إلا أن تقطع قلوبهم بضم التاء يعني بالموت قاله ابن عباس وغيره وفي مصحف أبي حتى الممات وفيه حتى تقطع
وقوله عز و جل إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة الآية هذه الآية نزلت في البيعة الثالثة وهي بيعة العقبة الكبرى وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين وذلك أنهم اجتمعوا مع النبي صلى الله عليه و سلم عند العقبة فقالوا اشترط لك ولربك والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة فاشترط نبي الله حمايته مما يحمون منه أنفسهم واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع (2/156)
عن الحوزة فقالوا ما لنا على ذلك يا نبي الله فقال الجنة فقالوا نعم ربح البيع لا تقيل ولا تقال وفي بعض الروايات ولا نستقيل فنزلت الآية في ذلك وهكذا نقله ابن العربي في أحكامه عن عبد اله بن رواحة ثم ذكر من طريق الشعبي عن أبي إمامة اسعد بن زرارة نحو كلام ابن رواحة قال ابن العربي وهذا وإن كان سنده مقطوعا فإن معناه ثابت من طرق انتهى ثم الآية بعد ذلك عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلى يوم القيامة قال بعض العلماء ما من مسلم إلا والله في عنقه هذه البيعة وفي بها أو لم يف وفي الحديث أن فوق كل بر برا حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل فلا بر فوق ذلك واسند الطبري عن كثير من أهل العلم أنهم قالوا ثامن الله تعالى في هذه الآية عبادة فأغلى لهم وقاله ابن عباس وغيره وهذا تأويل الجمهور وقال ابن عيينة معنى الآية اشترى منهم أنفسهم ألا يعملوها إلا في طاعته وأموالهم ألا ينفقوها إلا في سبيله فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله
وقوله يقاتلون في سبيل الله على تأويل ابن عيينة مقطوع ومستأنف وأما على تأويل الجمهور من أن الشراء والبيع إنما هو مع المجاهدين فهو في موضع الحال
وقوله سبحانه عدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن قال المفسرون يظهر من قوله في التوراة والإنجيل والقرآن أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه قال ع ويحتمل أن ميعاد أمة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم تقدم ذكره في هذه الكتب والله أعلم قال ص وقوله فاستبشروا ليس للطلب بل بمعنى ابشروا كاستوقد قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه المسمى ببهجة المجالس وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجز له ما وعده ومن اوعده على عمل عقابا فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له وعن ابن عباس مثله انتهى وباقي الآية بين قال الفخر واعلم أن (2/157)
هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيدات فأولها قوله سبحانه إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم فكون المشتري هو الله المقدس عن الكذب والحيلة من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد والثاني أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء وذلك حق مؤكد وثالثهما قوله وعدا ووعد الله حق ورابعها قوله عليه وكلمة على للوجوب وخامسها قوله حقا وهو تأكيد للتحقيق وسادسها قوله في التوراة والإنجيل والقرآن وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والمرسلين على هذه المبايعة وسابعها قوله ومن أوفى بعهده من الله وهو غاية التأكيد وثامنها قوله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وهو أيضا مبالغة في التأكيد وتاسعها قوله وذلك هو الفوز وعاشرها قوله العظيم فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق انتهى
وقوله عز و جل التائبون العابدون إلى قوله وبشر المؤمنين هذه الأوصاف هي من صفات المؤمنين الذين ذكر الله أنه أشترى منهم أنفسهم وأموالهم ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها سبحانه ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى رتبة والآية الأولى مستقله بنفهسا يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات التي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها وقالت فرقة بل هذه الصفات جاءت على جهة الشرط والآتيان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف وهذا تحريج وتضييق والأول أصوب والله أعلم والشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد وقد روي أن الله عز و جل يحمل على الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه ختم الله لنا بالحسنى والسائحون (2/158)
معناه الصائمون وروي عن عائشة أنها قالت سياحة هذه الأمة الصيام أسنده الطبري وروي أنه من كلام النبي صلى الله عليه و سلم وقال الفخر ولما كان أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض سمي الصائم سائحا لاستمراره على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من المفطرات قال الفخر وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع وسد على نفسه باب الشهوات انفتحت له أبواب الحكمة وتجلت له أنوار عالم الجلال ولذلك قال صلى الله عليه و سلم من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام ومن درجة إلى درجة انتهى قال ع وقال بعض الناس وهو قول حسن وهو من أفضل العبادات والراكعون الساجدون هم المصلون الصلوات كذا قال أهل العلم ولكن لا يختلف في أن من يكثر النوافل هو ادخل في الاسم واعرق في الاتصاف
وقوله والحافظون لحدود الله لفظ عام تحته التزام الشريعة ت قال البخاري قال ابن عباس الحدود الطاعة قال ابن العربي في أحكامه وقوله الحافظون لحدود الله خاتمة البيان وعموم الاشتمال لكل أمر ونهي انتهى
وقوله سبحانه وبشر المؤمنين قيل هو لفظ عام أمر صلى الله عليه و سلم أن يبشر أمته جميعا بالخير من الله وقيل بل هذه الألفاظ خاصة لمن لم يغز أي لما تقدم في الآية وعد المجاهدين وفضلهم أمر صلى الله عليه و سلم أن يبشر سائر المؤمنين ممن لم يغز بأن الإيمان مخلص من النار والحمد لله رب العالمين
وقوله سبحانه ما كان للنبي والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين الآية جمهور المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن أبي طالب وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل عليه حين احتضر فوعظه وقال أي عم قل لا إله (2/159)
إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقالا له يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فقال أبو طالب يا محمد والله لولا أني أخاف أن يعير بها ولدى من بعدي لأقررت بها عينك ثم قال هو على ملة عبد المطلب ومات على ذلك إذ لم يسمع منه صلى الله عليه و سلم ما قال العباس فنزلت إنك لا تهدي من أحببت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم والله لاستغفرن لك ما لم انه عنك فكان يستغفر له حتى نزلن هذه الآية فترك نبي الله الاستغفار لأبي طالب وروي أن المؤمنين لما رأوا نبي الله يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم فلذلك دخلوا في النهي والآية على هذا ناسخة لفعله صلى الله عليه و سلم إذ أفعاله في حكم الشرع المستقر وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما إنما نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم عليه السلام فنزلت الآية في ذلك وقوله سبحانه وما كان استغفار إبراهيم لأبيه الآية المعنى لا حجة أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم عليه السلام فإن ذلك لم يكن الاعن موعدة واختلف في ذلك فقيل عن موعدة من إبراهيم وذلل قوله سأستغفر لك ربي إنه كان في حفيا وقيل عن موعدة من أبيه له في أنه سيؤمن فقوي طمعه فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه وموعدة من الوعد وأما تبينه أنه عدو لله قيل ذلك بموت أزر على الكفر وقيل ذلك بأنه نهي عنه وهو حي وقوله سبحانه إن إبراهيم لاواه حليم ثناء من الله تعالى على إبراهيم والاواه معناه الخائف الذي يكثر التأوه من خوف الله عز و جل والتأوه التوجع الذي يكثر حتى ينطق الإنسان معه باوه ومن هذا المعنى قول المثقب العبدي ... إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه أهة الرجل الحزين (2/160)
ويروى آهة وروي أن إبراهيم عليه السلام كان يسمع وجيب قلبه من الخشية كما تسمع أجنحة النسور وللمفسرين في الاواه عبارات كلها ترجع إلى ما ذكرته ت روى ابن المبارك في رقائقه قال أخبرنا عبد الحميد بن بهرام قال حدثنا شهر بن حوشب قال حدثني عبد الله بن شداد قال قال رجل يا رسول الله ما الاواه قال الاواه الخاشع الدعاء المتضرع قال الله سبحانه إن إبراهيم لاواه حليم انتهى وحليم معناه صابر محتمل عظيم العقل والحلم العقل
وقوله سبحانه وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم الآية معناه التأنيس للمؤمنين وقيل أن بعضهم خاف على نفسه من الاستغفار للمشركين فنزلت الآية مؤنسة أي ما كان الله بعد إن هدى إلى الإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمواقعتهم ذنبا لم يتقدم من الله عنه نهي فأما إذا بين لهم ما يتقون من الأمور ويتجنبون من الأشياء فحينئذ من واقع شيئا من ذلك بعد النهي استوجب العقوبة وباقي الآية بين
وقوله سبحانه لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الآية التوبة من الله تعالى هو رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها فقد تكون من الأكثر رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها وهذه توبته سبحانه في هذه الآية على نبيه عليه السلام وأما توبته على المهاجرين والأنصار فمعرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين وأما توبته على الفريق الذي كاد يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضى وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله في هذه الآية ذكر الله سبحانه توبة من لم يذنب ليلا يستوحش من أذنب لأنه ذكر النبي صلى الله عليه و سلم والمهاجرين والأنصار ولم يذنبوا ثم قال وعلى الثلاثة الذين خلفوا فذكر من لم يذنب ليونس من قد أذنب انتهى من لطائف المنن وساعة العسرة يريد وقت العسرة والعسرة الشدة (2/161)
وضيق الحال والعدم وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه صلى الله عليه و سلم من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل وألف دينار وجاء أيضا رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر وهذه غزوة تبوك ت وعن ابن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن شأن ساعة العسرة فقال عمر خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله فقال أتحب ذلك قال نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظلت ثم سكبت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر رواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين وقال صحيح على شرط الشيخين يعني مسلما والبخاري انتهى من السلاح ووصل النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرح وإيله وغيرهما على الجزية ونحوها وأنصرف والزيغ المذكور هو ما همت به طائفة من الانصراف لما لقوا من المشقة والعسرة قاله الحسن وقيل زيغها إنما كان بظنون لها ساءت في معنى عزم النبي صلى الله عليه و سلم على تلك الغزوة لما رأته من شدة الحال وقوة العدو المقصود ثم أخبر عز و جل أنه تاب أيضا على هذا الفريق وراجع به وأنس بإعلامه للامه بأنه رؤوف رحيم والثلاثة الذين خلفوا هم كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير فلذلك اختصرنا سوقه وهم الذين تقدم فيهم وآخرون مرجون لأمر الله ومعنى خلفوا أخروا وترك النظر في أمرهم قال كعب وليس بتخلفنا عن الغزو وهو بين من لفظ الآية
وقوله وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ظنوا هنا بمعنى (2/162)
أيقنوا قال الشيخ بن أبي جمرة رحمه الله قال بعض أهل التوفيق إذا نزلت بي نازلة ما من أي نوع كانت فألهمت فيها اللجأ فلا أبالي بها واللجأ على وجوه منها الاشتغال بالذكر والتعبد وتفويض الأمر له عز و جل لقوله تعالى على لسان نبيه من شغله ذكرى عن مسئلتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين ومنها الصدقة ومنها الدعاء فكيف بالمجموع انتهى
وقوله سبحانه ثم تاب عليهم ليتوبوا لما كان هذا القول في تعديد النعم بدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله عز و جل ليكون ذلك منها على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره ولو كان هذا القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي على المذنب كما قال عز و جل فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ليكون ذلك أشد تقريرا للذنب عليهم وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا في الكتب المذكورة فأنظره وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطلبهم من الجد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه إذ هم أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين إذ كان كعب من أهل العقبة وصاحباه من أهل بدر وفي هذا ما يقتضي أن الرجل العالم والمقتدي به أقل عذرا في السقوط من سواه وكتب الأوزاعي رحمه الله إلى أبي جعفر المنصور في آخر رسالة وأعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه و سلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظما ولا طاعته إلا وجوبا ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارا والسلام
وقوله سبحانه يا أيها الذين أمنوا اتقوا وكونوا مع الصادقين هذا الأمر بالكون مع الصادقين حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين وكان ابن مسعود يتأول الآية في صدق الحديث وإليه نحا كعب بن مالك
وقوله سبحانه ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله الآية (2/163)
هذه الآية معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها على التخلف عن النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة وقوة الكلام تعطي الأمر بصحبته أين ما توجه غازيا وبذل النفوس دونه والمخمصة مفعلة من خموص البطن وهو ضموره واستعير ذلك لحالة الجوع إذ الخموص ملازم له ومن ذلك قول الأعشى ... تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا ...
وقوله ولا ينالون من عدو نيلا لفظ عام لقليل ما يصنعه المؤمنون بالكفرة من أخذ مال أو إيراد هوان وكثيره ونيلا مصدر نال ينال وفي الحديث ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدا إلا ازدادوا من الله قربا ت وروى أبو داود في سننه عن أبي مالك الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من فصل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد وأن له الجنة انتهى قال ابن العربي في أحكامه قوله عز و جل ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم يعني إلا كتب لهم ثوابه وكذلك قال في المجاهد إن ارواث دوابه وابوالها حسنات له وكذلك أعطى سبحانه لأهل العذر من الأجر ما أعطى للقوي العامل بفضله ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في هذه الغزوة بعينها أن بالمدينة قوما ما سلكتم واديا ولا قطعتم شعبا إلا وهم معكم حبسهم العذر انتهى
وقوله سبحانه وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية قالت فرقة أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكانا ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قول الله عز و جل ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب الآية أهمهم ذلك فنفروا إلى النبي صلى الله عليه و سلم خشية أن يكونوا عصاة في التخلف عن الغزو فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك وقالت فرقة سبب هذه الآية أن (2/164)
المنافقين لما نزلت الآيات في المتخلفين قالوا هلك أهل البوادي فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي قال ع فيجيء قوله ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب عموم في اللفظ والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر وتجيء هذه الآية مبينة لذلك وقالت فرقة هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال وقال ابن عباس ما معناه أن هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم في الغزو وقالت فرقة يشبه أن يكون التفقه في الغزو وفي السرايا لما يرون من نصرة الله لدينه وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته قال ع والجمهور على أن التفقه إنما هو بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه و سلم وصحبته وقيل غير هذا ت وصح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا وقد استنفر رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس في غزوة تبوك وأعلن بها حسب ما هو مصرح به في حديث كعب ابن مالك في الصحاح فكان العتب متوجها على من تأخر عنه بعد العلم فيظهر والله أعلم أن الآية الأولى باق حكمها كما قال ابن عباس وتكون الثانية ليست في معنى الغزو بل في شأن التفقه في الدين على الإطلاق وهذا هو الذي يفهم من استدلالهم بالآية على فضل العلم قد قالت فرقة أن هذه الآية ليست في معنى الغزو وإنما سببها قبائل من العرب أصابتهم مجاعة فنفروا إلى المدينة لمعنى المعاش فكادوا يفسدونها وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما اضرعه الجوع فنزلت الآية في ذلك والإنذار في الآية عام للكفر والمعاصي والحذر منها أيضا كذلك قال ابن المبارك في رقائقة أخبرنا موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال إذا أراد الله تبارك وتعالى (2/165)
بعبد خيرا جعل فيه ثلاث خصال فقها في الدين وزهادة في الدنيا وبصره بعيوبه انتهى
وقوله تعالى يا أيها الذين أمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار قيل أن هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام قال ع وهذا ضعيف فإن هذه السورة من آخر ما نزل وقالت فرقة معنى الآية أن الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجنس الذي يليه من الكفرة
وقوله سبحانه وليجدوا فيكم غلظة أي خشونة وبأسا ثم وعد سبحانه في آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا وبها يلقى العدو وقد قال بعض الصحابة إنما تقاتلون الناس بأعمالكم ووعد سبحانه أنه مع المتقين ومن كان الله معه فلن يغلب
وقوله تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول ايكم زادته هذه إيمانا الآية هذه الآية نزلت في شأن المنافقين وقولهم أيكم زادته هذه إيمانا يحتمل أن يكون لمنافقين مثلهم أو لقوم من قراباتهم على جهة الاستخفاف والتحقير لشأن السورة ثم ابتدأ عز و جل الرد عليهم بقوله فأما الذين أمنوا فزادتهم إيمانا وذلك أنه إذا نزلت سورة حدث للمؤمنين بها تصديق خاص لم يكن قبل فتصديقهم بما تضمنته السورة من أخبار وأمر ونهي أمر زائد على الذي كان عندهم قبل وهذا وجه من زيادة الإيمان ووجه آخر أن السورة ربما تضمنت دليلا أو تنبيها على دليل فيكون المؤمن قد عرف الله بعدة أدلة فإذا نزلت السورة زادت في أدلته ووجه آخر من وجوه الزيادة أن الإنسان ربما عرضه شك يسير أو لاحت له شبهة مشغبة فإذا نزلت السورة أرتفعت تلك الشبهة وقوي إيمانه ارتقى اعتقاده عن معارضة الشبهات والذين في قلوبهم مرض هم المنافقون والرجس في اللغة يجيء (2/166)
بمعنى القذر ويجيء بمعنى العذاب وحال هؤلاء المنافقين هي قذر وهي عذاب عاجل كفيل بآجل وإذا تجدد كفرهم بسورة فقد زاد كفرهم فذلك زيادة رجس إلى رجسهم
وقوله سبحانه أو لا يرون يعني المنافقين وقرأ حمزة أو لا ترون بالتاء من فوق على معنى أو لا ترون أيها المؤمنون أنهم يفتنون أي يختبرون وقرأ مجاهد مرضة أو مرضتين والذين يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم إذ يعلمون أن ذلك من عند الله وبهذا تقوم الحجة عليهم وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين
وقوله سبحانه وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم المعنى وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أسرار المنافقين نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد أي هل معكم من ينقل عنكم هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم ثم انصرفوا عن طريق الاهتداء وذلك أنهم وقت كشف أسرارهم والأعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر فلو أريد بهم خير لكان ذلك الوقت مظنة الاهتداء وقد تقدم بيان قوله صرف الله قلوبهم
وقوله عز و جل لقد جاءكم رسول من أنفسكم الآية مخاطبة للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم إذ جاءهم بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الدهر وقوله من أنفسكم يقتضي مدحا لنسبه صلى الله عليه و سلم وأنه من صميم العرب وشرفها وقرأ عبد الله بن قسيط المكي من أنفسكم بفتح الفاء من النفاسة ورويت عن النبي صلى الله عليه و سلم
وقوله ما عنتم معناه عنتكم فما مصدرية والعنت المشقة وهي هنا لفظة عامة أي عزيز عليه ما شق عليكم من قتل واسار وامتحان بحسب الحق واعتقادكم أيضا معه حريص عليكم أي على إيمانكم وهداكم
وقوله بالمؤمنين رؤوف أي مبالغ في الشفقة عليهم قال أبو عبيدة الرأفة أرق الرحمة ثم خاطب سبحانه نبيه (2/167)
بقوله فإن تولوا أي اعرضوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم هذه الآية من آخر ما نزل وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة يونس عليه السلام
بعضها نزل بمكة وبعضها بالمدينة قوله عز و جل الر تلك آيات الكتاب الحكيم المراد بالكتاب القرآن والحكيم بمعنى محكم ويمكن أن يكون حكيم بمعنى ذي حكمة فهو على النسب
وقوله عز و جل أكان للناس عجبا الآية قال ابن عباس وغيره سبب هذه الآية استبعاد قريش أن يبعث الله بشرا رسولا والقدم هنا ما قدم واختلف في المراد بها هاهنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم هي الأعمال الصالحات من العبادات وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة هي شفاعة محمد صلى الله عليه و سلم وقال ابن عباس أيضا وغيره هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ وهذا أليق الأقوال بالآية ومن هذه اللفظة قول حسان رضي الله عنه ... لنا القدم العليا إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع ...
ومن هذه اللفظة قوله صلى الله عليه و سلم حتى يضع الجبار فيها قدمه أي ما قدم لها هذا على الجبار اسم الله تعالى والصدق هنا بمعنى الصلاح وقال البخاري قال زيد بن أسلم قدم صدق محمد صلى الله عليه و سلم انتهى وقولهم إن هذا (2/168)
لسحر مبين إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فاشبه ذلك ما يفعله الساحر في ظنهم القاصر فسموه سحرا
وقوله سبحانه إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام الآية هذا ابتداء دعاء إلى عبادة الله عز و جل وتوحيده وذكر بعض الناس أن الحكمة في خلق الله تعالى هذه الأشياء في مدة محدودة ممتدة وفي القدرة أن يقول لها كن فتكون إنما هي ليعلم عباده التؤدة والتماهل في الأمور قال ع وهذا مما لا يوصل إلى تعليله وعلى هذا هي الأجنة في البطون وخلق الثمار وغير ذلك والله عز و جل قد جعل لكل شيء قدرا وهو أعلم بوجه الحكمة في ذلك
وقوله سبحانه يدبر الأمر يصح أن يريد بالأمر اسم الجنس من الأمور ويصح أن يريد الأمر الذي هو مصدر أمر يأمر وتدبيره لا إله إلا هو إنما هو الإنفاذ لأنه قد أحاط بكل شيء علما قال مجاهد يدبر الأمر معناه يقضيه وحده وقوله سبحانه ما من شفيع إلا من بعد إذنه رد على العرب في اعتقادهم أن الأصنام تشفع لها عند الله
ذلكم الله أي الذي هذه صفاته فاعبدوه ثم قررهم على هذه الآيات والعبر فقال أفلا تذكرون
وقوله إليه مرجعكم جميعا الآية إنباء بالبعث
من القبور
ليجزي هي لام كي والمعنى أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال
وقوله بالقسط أي بالعدل
وقوله الذين كفروا ابتداء والحميم الحار المسخن وحميم النار فيما ذكر عن النبي صلى الله عليه و سلم إذا أدناه الكافر من فيه تساقطت فروة رأسه وهو كما وصفه سبحانه يشوي الوجوه
وقوله سبحانه هوا لذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا الآية هذا استمرار على وصف آياته سبحانه والتنبيه على صنعته الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته
وقوله وقدره منازل يحتمل أن يعود الضمير (2/169)
على القمر وحده لأنه المراعي في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب ويحتمل أن يريد الشمس والقمر معا لكنه اجتزأ بذكر أحدهما كما قال والله ورسوله أحق أن يرضوه
وقوله لتعلموا عدد السنين والحساب أي رفقا بكم ورفعا للالتباس في معايشكم وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ
وقوله لقوم يعلمون إنما خصهم لأن نفع هذا فيهم ظهر
وقوله سبحانه إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض الآية آية اعتبار وتنبيه والآيات العلامات وخصص القوم المتقين تشريفا لهم إذ الاعتبار المنظور فيها أفضل من نسبة من لم يهتد ولا اتقى
وقوله سبحانه إن الذين لا يرجون لقاءنا الآية قال أبو عبيدة وغيره يرجون في هذه الآية بمعنى يخافون واحتجوا ببيت أبي ذؤيب ... إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عوامل ...
قال ابن سيدة والفراء لفظة الرجاء إذا جاءت منفية فإنها تكون بمعنى الخوف فعلى هذا التأويل معنى الآية إن الذين لا يخافون لقاءنا وقال بعض أهل العلم الرجاء في هذه الآية على بابه وذلك أن الكافر المكذب بالبعث لا يحسن ظنا بأنه يلقى الله ولا له في الآخرة أمل إذ لو كان له فيها أمل لقارنه لا محالة خوف وهذه الحال من الخوف المقارن هي القائدة إلى النجاة قال ع والذي أقول به أن الرجاء في كل موضع هو على بابه وأن بيت الهذلي معناه لم يرج فقد لسعها قال ابن زيد هذه الآية في الكفار
وقوله سبحانه ورضوا بالحيوة الدنيا يريد كانت منتهى غرضهم وقال قتادة في تفسير هذه الآية إذا شئت رأيت هذا الموصوف صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى ولها يفرح ولها يهتم ويحزن فكان قتادة صورها في العصاة (2/170)
ولا يترتب ذلك إلا مع تأول الرجاء على بابه لأن المؤمن العاصي مستوحش من أخرته فأما على التأويل الأول فمن لا يخاف الله فهو كافر
وقوله وأطمأنوا بها تكميل في معنى القناعة بها والرفض لغيرها
وقوله والذين هم عن آياتنا غافلون يحتمل أن يكون ابتداء إشارة إلى فرقة أخرى ثم عقب سبحانه بذكر الفرقة الناجية فقال إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم الآية الهداية في هذه الآية تحتمل وجهين أحدهما أن يريد أنه يديمهم ويثبتهم الثاني أن يريد أنه يرشدهم إلى طريق الجنان في الآخرة
وقوله بإيماهم يحتمل أن يريد بسبب إيمانهم ويحتمل أن يكون الإيمان هو نفس الهدى أي يهديهم إلى طريق الجنة بنور إيمانهم قال مجاهد يكون لهم إيمانهم نورا يمشون به ويتركب هذا التأويل على ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن العبد المؤمن إذا قام من قبره للحشر تمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة فيقول من أنت فيقول أنا عملك الصالح فيقوده إلى الجنة وبعكس هذا في الكافر ونحو هذا ما أسنده الطبري وغيره
وقوله سبحانه دعواهم أي دعاؤهم فيها وسبحانك اللهم تقديس وتسبيح وتنزيه لجلاله سبحانه عن كل ما لا يليق به وقال علي بن أبي طالب في ذلك هي كلمات رضيها الله تعالى لنفسه وقال طلحة بن عبيد الله قلت يا رسول الله ما معنى سبحان الله فقال معناها تنزيها لله من السوء وحكي عن بعض المفسرين أنهم رووا أن هذه الكلمة إنما يقولها المؤمن عندما يشتهي الطعام فإنه إذا رأى طائرا أو غير ذلك قال سبحانك اللهم فنزلت تلك الإرادة بين يديه فوق ما اشتهى رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة وعبارة الداودي عن ابن جريج دعواهم فيها قال إذا مر بهم الطائر يشتهونه كان دعواهم به سبحانك اللهم فيأكلون منه ما يشتهون ثم يطير وإذا جاءتهم (2/171)
الملائكة بما يشتهون سلموا عليهم فذلك قوله وتحيتهم فيها سلام وإذا أكلوا حاجتهم قالوا الحمد لله رب العالمين
فذلك قوله وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
وقوله سبحانه وتحيتهم فيها سلام يريد تسليم بعضهم على بعض والتحية مأخوذة من تمنى الحياة للإنسان والدعاء بها يقال حياه ويحييه ومنه قول زهير بن جناب ... من كل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية ...
يريد دعاء الناس للملوك بالحياة وقال بعض العلماء وتحيتهم يريد تسليم الله تعالى عليهم والسلام مأخوذ من السلامة وآخر دعواهم أي خاتمة دعائهم وكلامهم في كل موطن حمد الله وشكره على ما أسبغ عليهم من نعمه وقال ابن العربي في أحكامه في تفسير هذه الآية قولان الأول أن الملك يأتيهم بما يشتهون فيقول سلام عليكم أي سلمتم فيردون عليه فإذا أكلوا قالوا الحمد لله رب العالمين الثاني أن معنى تحيتهم أي تحية بعضهم بعضا فقد ثبت في الخبر أن الله تعال خلق آدم ثم قال له أذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم فجاءهم فقال لهم سلام عليكم فقالوا له وعليك السلام ورحمة الله فقال له هذه تحيتك وتحية ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة وبين في القرآن هاهنا أنها تحيتهم في الجنة فهي تحية موضوعة من أول الخلقة إلى غير نهاية وقد روى ابن القاسم عن مالك في قوله تعالى وتحيتهم فيها سلام أي هذا السلام الذي بين أظهركم وهذا أظهر الأقوال والله أعلم انتهى وقرأ الجمهور أن الحمد لله وهي عند سيبويه أن المخففة من الثقيلة قال أبو الفتح فهي بمنزلة قول الأعشى ... في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل ...
وقوله سبحانه ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم (2/172)
الآية هذه الآية نزلت في دعاء الرجل على نفسه أو ولده أو ماله فأخبر سبحانه أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريد فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم وحذف بعد ذلك جملة يتضمنها الظاهر تقديرها فلا يفعل ذلك ولكن يذر الذين لا يرجعون لقاءنا الآية وقيل إن هذه الآية نزلت في قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء وقيل نزلت في قولهم أتينا بما تعدنا وما جرى مجراه والعمه الخبط في ضلال
وقوله سبحانه وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه الآية هذه الآية أيضا عتاب على سوء الخلق من بعض الناس ومضمنه النهي عن مثل هذا والأمر بالتسليم إلى الله والضراعة إليه في كل حال والعلم بأن الخير والشر منه لا رب غيره وقوله لجنبه في موضع الحال كأنه قال مضطجعا والضر عام لجميع الأمراض والرزايا
وقوله مر يقتضى أن نزولها في الكفار ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص
وقوله سبحانه ولقد أهلكنا القرون من قبلكم الآية آية وعيد للكفار وضرب أمثال لهم وخلائف جمع خليفة
وقوله لننظر معناه لنبين في الوجود ما علمناه أزلا لكن جرى القول على طريق الإيجاز والفصاحة والمجاز وقال عمر رضي الله عنه إن الله تعالى إنما جعلنا خلفاء لينظر كيف عملنا فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية
وقوله سبحانه وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا يعني بعض كفار قريش ايت بقرآن غير هذا أو بدله ثم أمر سبحانه نبيه أن يرد عليهم بالحق الواضح فقال قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أعلمكم به وأدريكم بمعنى أعلمكم تقول دريت بالأمر وأدريت به غيري ثم قال فقد لبثت فيكم عمرا من قبله يعني الأربعين سنة تبل بعثه عليه السلام أي فلم تجربوني في كذب ولا تكلمت في شيء من هذا أفلا تعقلون أن (2/173)
من كان على هذه الصفة لا يصح منه كذب بعد أن ولى عمره وتقاصر أمله واشتدت حنكته وخوفه لربه
وقوله فمن أظلم استفهام وتقرير أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا أو ممن كذب بآياته بعد بيانها والضمير في يعبدون لكفار قريش وقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله هذا قول النبلاء منهم ثم أمر سبحانه نبيه أن يقررهم ويوبخهم بقوله اتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض وذكر السماوات لأن من العرب من يعبد الملائكة والشعرى وبحسب هذا حسن أن يقول هؤلاء شفعاؤنا وقيل ذلك تجاوز في الأصنام التي لا تعقل
وقوله سبحانه وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا قالت فرقة المراد آدم كان أمة وحده ثم اختلف الناس بعده وقالت فرقة المراد آدم وبنوه من لدن نزوله إلى قتل أحد أبنيه الآخر ويحتمل أن يريد كان الناس صنفا واحدا بالفطرة معدا للاهتداء وقد تقدم الكلام على هذا في قوله سبحانه كان الناس أمة واحدة
وقوله سبحانه ولولا كلمة سبقت من ربك يريد قضاءه وتقديره لبني آدم بالآجال الموقتة ويحتمل أن يريد الكلمة في أمر القيامة وأن العقاب والثواب إنما يكون حينئذ
وقوله فقل إنما الغيب لله أي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل
وقوله فانتظروا وعيد
وقوله سبحانه وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضر مستهم الآية هذه الآية في الكفار وهي بعد تتناول من العصاة من لا يؤدي شكر الله عند زوال المكروه عنه ولا يرتدع بذلك عن معاصيه وذلك في الناس كثير والرحمة هنا بعد الضراء كالمطر بعد القحط والأمن بعد الخوف ونحو هذا مما لا ينحصر والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار واطراح الشكر والخوف من العصاة وقال أبو علي أسرع من سرع لا من أسرع يسرع إذ لو كان من أسرع لكان شاذا قال ع وفي (2/174)
الحديث في نار جهنم لهي أسود من القار وما حفظ للنبي صلى الله عليه و سلم فليس بشاذ ص ورد بأن أسود من فعل لا من أفعل تقول سود فهو أسود وإنما امتنع من سود ونحوه عند البصريين لأنه لون انتهى
وقوله سبحانه هو الذي يسيركم في البر والبحر الآية تعديد نعم منه سبحانه على عباده
وقوله سبحانه دعوا الله مخلصين له الدين أي نسوا الأصنام والشركاء وأفردوا الدعاء لله سبحانه وذكر الطبري في ذلك عن بعض العلماء حكاية قول العجم هيا شراء هيا ومعناه يا حي يا قيوم ويبغون معناه يفسدون
وقوله متاع الحياة الدنيا متاع خبر مبتدأ محذوف تقديره هو متاع أو ذلك متاع ومعنى الآية إنما بغيكم وإفسادكم مضر لكم وهو في حالة الدنيا ثم تلقون عقابه في الآخرة قال سفيان بن عيينة إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا أي تعجل لكم عقوبته وعلى هذا قالوا البغي يصرع أهله قال ع وقالوا الباغي مصروع قال تعالى ثم بغي عليه لينصرنه الله وقال النبي عليه السلام ما ذنب أسرع عقوبة من بغي
وقوله سبحانه إنما مثل الحيوة الدنيا أي تفاخر الحياة الدنيا وزينتها بالمال والبنين إذ مصير ذلك إلى الفناء كمطر نزل من السماء فاختلط به نبات الأرض أي اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء ولفظ البخاري قال ابن عباس فاختلط به نبات الأرض فنبت بالماء من كل لون انتهى وأخذت الأرض لفظة كثرت في مثل هذا كقوله خذوا زينتكم والزخرف التزيين بالألوان وقرأ ابن مسعود وغيره وتزينت وهذه أصل قراءة الجمهور
وقوله وظن أهلها على بابها وهذا الكلام فيه تشبيه جملة أمر الحياة الدنيا بهذه الجملة الموصوفة أحوالها وحتى غاية وهي حرف ابتداء لدخولها على إذا ومعناهما متصل إلى قوله قادرون عليها ومن بعد ذلك بدأ الجواب والأمر الآتي واحد الأمور كالريح والصر والسموم ونحو ذلك وتقسيمه (2/175)
ليلا أو نهارا تنبيه على الخوف وارتفاع الأمن في كل وقت وحصيدا بمعنى محصود أي تالفا مستهلكا كأن لم تغن أي كان لم تنضر ولم تنعم ولم تعمر بغضارتها ومعنى الآية التحذير من الاغترار بالدنيا إذ هي معرضة لتلف كنبات هذه الأرض وخص المتفكرين بالذكر تشريفا للمنزلة وليقع التسابق إلى هذه الرتبة
والله يدعوا إلى دار السلام الآية نص أن الدعاء إلى الشرع عام في كل بشر والهداية التي هي الإرشاد مختصة بمن قدر إيمانه والسلام هنا قيل هو اسم من أسماء الله تعالى والمعنى يدعو إلى داره التي هي الجنة وقيل السلام بمعنى السلامة
وقوله سبحانه للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال الجمهور الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عز و جل في صحيح مسلم من حديث صهيب فيكشف الحجار فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز و جل وفي رواية ثم تلا هذه الآية للذين أحسنوا الحسنى وزيادة واخرج هذه الزيادة النسائي عن صهيب وأخرجها عن صهيب أيضا أبو داود الطيالسي انتهى من التذكرة
وقوله سبحانه ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة الآية ويرهق معناه يغشى مع غلبة وتضييق والقتر الغبار المسود
وقوله سبحانه والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها قالت فرقة التقدير لهم جزاء سيئة بمثلها وقالت فرقة التقدير جزاء سيئة مثلها والباء زائدة تعم السيئات هاهنا الكفر والمعاصي والعاصم المنجى والمجير واغشيت كسيت والقطع جمع قطعة وقرأ ابن كثير والكسائي قطعا من الليل بسكون الطاء وهو الجزء من الليل والمراد الجزء من سواده وباقي الآية بين ومكانكم اسم فعل الأمر ومعناه قفوا واسكنوا ت قال ص وقدر باثبتوا وأما من قدره بالزموا مكانكم فمردود لأن الزموا متعد ومكانكم لا يتعدى فلا يقدر به وإلا لكان متعديا واسم الفعل على حسب الفعل إن متعديا فمتعد وإن لازما فلازم ثم اعتذر بأنه يتمكن (2/176)
يمكن أن يكون تقديره بالزموا تقدير معنى لا تقدير إعراب فلا اعتراض انتهى قال ع فأخبر سبحانه عن حالة تكون لعبدة الأوثان يوم القيامة يؤمرون بالإقامة في موقف الخزي مع أصنامهم ثم ينطق الله شركاءهم بالتبري منهم
وقوله فزيلنا بينهم معناه فرقنا في الحجة والمذهب روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الكفار إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم اتبعوا ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد هؤلاء فتقول الأصنام والله ما كنا نسمع ولا نعقل وما كنتم إيانا تعبدون فيقولون والله لإياكم كنا نعبد فتقول الآلهة فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم الآية وظاهر الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى بدليل القول لهم مكانكم أنتم وشركاؤكم ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم إن كنا عن عبادتكم لغافلين وإن هذه عند سيبويه المخففة من الثقيلة موجبة ولزمتها اللام فرقا بينها وبين أن النافية وعند الفراء أن نافية بمعنى ما واللام بمعنى إلا وقرأ نافع وغيره تبلوا بالباء الموحدة بمعنى تختبر وقرأ حمزة والكسائي تتلوا بتاءين بمعنى تتبع وتطلب ما أسلف من أعمالها ت قال ص كقوله ... إن المريب يتبع المريبا ... كما رأيت الذيب يتلو الذيبا ...
أي يتبعه انتهى ويصح أن يكون بمعنى تقرا كتبها التي تدفع إليها
وقوله ومن يدبر الأمر الآية تدبير الأمر عام في جميع الأشياء وذلك استقامة الأمور كلها على أرادته عز و جل وليس تدبيره سبحانه بفكر وروية وتغييرات تعالى عن ذلك بل علمه سبحانه محيط كامل دائم
فسيقولون الله أي لا مندوحة لهم عن ذلك ولا تمكنهم المباهتة بسواه فإذا اقروا بذلك فقل أفلا تتقون في افترائكم وجعلكم الأصنام آله
وقوله فذلكم الله ربكم الآية يقول فهذا الذي هذه صفاته ربكم الحق أي المستوجب للعبادة (2/177)
والألوهية وإذا كان كذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق قال ع وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوت كل تفسير براعة وإيجازا ووضوحا وحكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسئلة التي هي توحيد الله تعالى وكذلك هو الأمر في نظائرها من مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد لأن الكلام فيها إنما في تقرير وجود ذات كيف هي وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
وقوله فأنى تصرفون تقرير كما قال فأين تذهبون ثم قال كذلك حقت أي كما كانت صفات الله كما وصف وعبادته واجبة كما تقرر وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم كذلك حقت كلمات ربك الآية وقرأ أبو عمر وغيره كلمة على الإفراد الذي يراد به الجمع كما يقال للقصيدة كلمة فعبر عن وعيد الله تعالى بكلمة
وقوله سبحانه قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده الآية توقيف على قصور الأصنام وعجزها وتنبيه على قدرة الله عز و جل وتؤفكون معناه تصرفون وتحرمون وأرض مأفوكة إذا لم يصبها مطر فهي بمعنى الخيبة
وقوله تعالى قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق أي يبين طرق الصواب ثم وصف الأصنام بأنها لا تهدى إلا أن تهدى
وقوله الا أن يهدي فيه تجوز لأنا نجدها لا تهدى وإن هديت وقال بعضهم هي عبارة عن أنها لا تنتقل إلا أن تنقل ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها وقرأ نافع وأبو عمر يهدي بسكون الهاء وتشديد الدال وقرأ ابن كثير وابن عامر يهدي بفتح الياء والهاء وتشديد الدال وهذه رواية ورش عن نافع وقرأ حمزة والكسائي يهدي بفتح الياء وسكون الهاء ومعنى هذه القراءة أمن لا يهدى أحد إلا أن يهدي ذلك الأحد ووقف القراء فما لكم ثم يبدأ كيف تحكمون (2/178)
وقوله سبحانه وما يتبع أكثرهم إلا ظنا الآية أخبر الله سبحانه عن فساد طريقتهم وضعف نظرهم وأنه ظن ثم بين منزلة الظن من المعارف وبعده عن الحق
وقوله سبحانه وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه هذا رد لقول من يقول أن محمدا يفتري القرآن والذي بين يديه التوراة والإنجيل وهم يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا هي في بلده ولا في قومه وتفصيل الكتاب هو تبيينه
وقوله أم يقولون افتراه الآية أم هذه ليست بالمعادلة لهمزة الاستفهام في قوله أزيد قام أم عمرو ومذهب سيبوية أنها بمنزلة بل ثم عجزهم سبحانه بقوله قل قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم الآية والتحدي في هذه الآية عند الجمهور وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن إحداهما النظم والرصف والإيجاز والجزالة كل ذلك في التعريف والأخرى المعاني من الغيب لما مضى ولما يستقبل وحين تحداهم بعشر مفتريات إنما تحداهم بالنظم وحده ثم قال ع هذا قول جماعة المتكلمين ثم اختار أن الإعجاز في الآيتين إنما وقع في النظم لا في الإخبار بالغيوب ت والصواب ما تقدم للجمهور وإليه رجع في سورة هود واوجه إعجاز القرآن أكثر من هذا وانظر الشفا
وقوله من استطعتم إحالة على شركائهم
وقوله سبحانه بل كذبوا بم لم يحيطوا بعلمه الآية المعنى ليس الأمر كما قالوا من أنه مفترى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله أي تفسيره وبيانه ويحتمل أن يريد بما لم يأتهم تأويله أي ما يؤل إليه أمره كما هو في قوله هل ينظرون إلا تأويله وعلى هذا فالآية تتضمن وعيدا والذين من قبلهم من سلف من أمم الأنبياء
وقوله سبحانه ومنهم من يؤمن به الآية أي ومن قريش من يؤمن بهذا الرسول ولهذا الكلام معنيان قالت فرقة معناه من هؤلاء القوم من سيؤمن في المستقبل ومنهم من (2/179)
حتم الله عليه أنه لا يؤمن به أبدا وقالت فرقة معناه ومنهم من يؤمن بهذا الرسول إلا أنه يكتم إيمانه حفظا لرياسته أو خوفا من قومه كالفتية الذين قتلوا مع الكفار ببدر قال ع وفائدة الآية على هذا التأويل التفريق لكلمة الكفار وإضعاف نفوسهم وفي قوله وربك أعلم بالمفسدين تهديد ووعيد
وقوله سبحانه وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم الآية منابذه ومتاركة قال كثير من المفسرين منهم ابن زيد هذه الآية منسوخة بالقتال وباقي الآية بين
وقوله سبحانه ويوم نحشرهم الآية وعيد بالحشر وخزيهم فيه وتعارفهم على جهة التلاوم والخزي من بعضهم لبعض حيث لا بنفع ذلك
وقوله سبحانه قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله إلى آخرها حكم من الله عز و جل على المكذبين بالخسران وفي اللفظ إغلاظ وقيل أن هذا الكلام من كلام المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم ت والأول أبين
وقوله وأما نرينك الآية أما شرط وجوابه فإلينا والرؤية في نرينك بصرية ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى الله تعالى أي إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم عل كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب ثم مع ذلك فالله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم فثم لترتيب الإخبار لا لترتيب القصص في أنفسها وأما هي إن زيدت عليها ما ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة ولو كانت إن وحدها لم يجز ص واعترض بأن مذهب سيبويه جواز دخولها وإن لم تكن ما انتهى
وقوله سبحانه ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط قال مجاهد وغيره المعنى فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم صير قوم للجنة وقوم للنار فذلك القضاء بينهم بالقسط
وقوله سبحانه ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون الآية الضمير (2/180)
في يقولون لكفار قريش وسؤالهم عن الوعد تحرير منهم بزعمهم للحجة أي هذا العذاب الذي توعدنا به حدد لنا وقته لنعلم الصدق في ذلك من الكذب ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول على جهة الرد عليهم قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ولكن لكل أمة أجل انفرد الله بعلم حده ووقه وباقي الآية بين
وقوله ماذا يستعجل منه المجرمون أي فما تستعجلون منه وأنتم لا قبل لكم به والضمير في منه يحتمل أن يعود على الله عز و جل يحتمل أن يعود على العذاب
وقوله أثم إذا ما وقع ءامنتم به المعنى إذا وقع العذاب وعاينتموه آمنتم حينئذ وذلك غير نافعكم بل جوابكم الآن وقد كنتم تستعجلونه مكذبين به ويستنبئونك معناه يستخبرونك وهي على هذا تتعدى إلى مفعولين أحدهما الكاف والآخر الجملة وقيل هي بمعنى يستعملونك فعلى هذا تحتاج إلى ثلاثة مفاعيل ص ورد بأن الاستنباء لا يحفظ تعديه إلى ثلاثة ولا استعلم الذي هو بمعناه انتهى وأحق هو قيل الإشارة إلى الشرع والقرآن وقيل إلى الوعيد وهو أظهر
وقوله أي وربي أي بمعنى نعم وهي لفظة تتقدم القسم ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء تقول أي وربي وأي ربي ومعجزين معناه مفلتين
وقوله سبحانه ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة الآية وأسروا لفظة تجيء بمعنى أخفوا وهي حينئذ من السر وتجيء بمعنى أظهروا وهي حينئذ من أسارير الوجه ص قال أبو البقاء وهو مستأنف وهو حكاية ما يكون في الآخرة
وقوله تعالى ألا إن لله ما في السموات والأرض الآية ألا استفتاح وتنبيه وباقي الآية بين
وقوله سبحانه يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم الآية هذه آية خوطب بها جميع العالم والموعظة القرآن لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق القلوب وبعد ويوعد وهذه صفة الكتاب (2/181)
العزيز وقوله من ربكم يريد لم يختلقها محمد ولا غيره وما في الصدور يريد به الجهل ونحوه وجعله موعظة بحسب الناس أجمع وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين فقط وهذا تفسير صحيح المعنى إذا تأمل بأن وجهه
وقوله سبحانه قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا قال ابن عباس وغيره الفضل الإسلام والرحمة القرآن وقال أبو سعيد الخدري الفضل القرآن والرحمة أن جعلهم من أهله وقال زيد بن أسلم والضحاك الفضل القرآن والرحمة الإسلام قال ع ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند شيء منه إلى النبي صلى الله عليه و سلم وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه أن الفضل هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى اتباع شرعه والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به ومعنى الآية قل يا محمد لجميع الناس بفضل الله ورحمته فليقع الفرح منكم لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها فإن قيل كيف أمر الله بالفرح في هذه الآية وقد ورد ذمه في قوله فرح فخور وفي قوله لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين قيل أن الفرح إذا ورد مقيدا في خير فليس بمذموم وكذلك هو في هذه الآية وإذا ورد مقيدا في شر أو مطلقا لحقه ذم إذ ليس من أفعال الآخرة بل ينبغي أن يغلب على الإنسان حزنه على دينه وخوفه لربه
وقوله مما يجمعون يريد مال الدنيا وحطامها الفاني المردى في الآخرة
وقوله سبحانه قل ارأيتم ما انزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا الآية قال ص ارأيتم مضمن معنى اخبروني وما موصولة قال ع هذه المخاطبة لكفار العرب الذين جعلوا البحائر والسوائب وغير ذلك
وقوله أنزل لفظة فيها تجوز وقوله وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة آية وعيد لما تحقق عليهم بتقسيم الآية التي قبلها أنهم مفترون على (2/182)
الله عظم في هذه الآية جرم الافتراء أي ظنهم في غاية الرداءة بحسب سوء أفعالهم ثم ثنى بذكر الفضل على الناس في الإمهال لهم مع الافتراء والعصيان إذ الإمهال لهم داعية إلى التوبة والإنابة ثم الآية تعم جميع فضل الله سبحانه وجميع تقصير الخلق
وقوله سبحانه وما تكون في شأن الآية مقصد هذه الآية وصف إحاطة الله عز و جل بكل شيء لا رب غيره ومعنى اللفظ وما تكون يا محمد والمراد هو وغيره في شأن من جميع الشؤون وما تتلوا منه الضمير عائد على شأن أي فيه وبسببه من قرآن ويحتمل أن يعود الضمير على جميع القرآن وقال ص ضمير منه عائد على شأن ومن قرآن تفسير للضمير انتهى وهو حسن ثم عم سبحانه بقوله ولا تعملون من عمل وفي قوله سبحانه ألا كنا عليكم شهودا تحذير وتنبيه ت وهذه الآية عظيمة الموقع لأهل المراقبة تثير من قلوبهم أسرارا ويغترفون من بحر فيضها أنوارا وتفيضون معناه تأخذون وتنهضون بجد وما يعزب معناه وما يغيب عن ربك من مثال ذرة والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ ويحتمل ما كتبته الحفظة
وقوله سبحانه ألا إن أولياء الله الآية ألا استفتاح وتنبيه وأولياء الله هم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة وهذه الآية يعطى ظاهرها أن من آمن واتقى الله فهو داخل في أولياء الله وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل من أولياء الله فقال الذين إذا رأيتهم ذكرت الله قال ع وهذا وصف لازم للمتقين لأنهم يخشعون ويخشعون وروي عنه صلى الله عليه و سلم أيضا أنه قال أولياء الله قوم تحابوا في الله واجتمعوا في ذاته لم تجمعهم قرابة ولا مال يتعاطونه وروي الدارقطني في سننه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال خيار عباد الله الذين إذ ارءوا ذكر الله وشر عباد الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون (2/183)
للبرءاء العيب انتهى من الكوكب الدري
وقوله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون يعني في الآخرة ويحتمل في الدنيا لا يخافون أحدا من أهل الدنيا ولا من اعراضها ولا يحزنون على ما فاتهم منها والأول أظهر والعموم في ذلك صحيح لا يخافون في الآخرة جملة ولا في الدنيا الخوف الدنياوي وذكر الطبري عن جماع من العلماء مثل ما في الحديث في الأولياء أنهم هم الذين إذا رءاهم أحد ذكر الله وروي فيهم حديث أن أولياء الله هم قوم يتحابون في الله ويجعل لهم يوم القيامة منابر من نور وتنير وجوههم فهم في عرصات القيامة لا يخافون ولا يحزنون وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم من الله قالوا ومن هم يا رسول الله قال قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال الحديث ثم قرأ ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ت وقد خرج هذا الحديث أبو داود والنسائي قال أبو داود في هذا الحديث فوالله أن وجوههم لنور وأنهم لعلى نور ذكره بإسناد آخر انتهى ورواه أيضا ابن المبارك في رقائقه بسنده عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه و سلم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيئون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله عز و جل فقال أعرابي أنعتهم لنا يا بني الله فقال هم ناس من أبناء الناس لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا فيه يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا يفزع الناس يوم القيامة وهم لا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون انتهى
وقوله تعالى لهم البشرى الآية أما بشرى الآخرة فهي بالجنة بلا خلاف قولا واحدا وذلك هو الفضل الكبير وأما بشرى الدنيا (2/184)
فتظاهرت الأحاديث من طرق عن النبي صلى الله عليه و سلم أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وقال قتادة والضحاك البشرى في الدنيا هي ما يبشر به المؤمن عند موته وهو حي عند المعاينة ويصح أن تكون بشرى الدنيا ما في القرآن من الآيات المبشرات ويقوي ذلك بقوله لا تبديل لكلمات الله ويؤول قوله صلى الله عليه و سلم هي الرؤيا أنه أعطى مثالا يعم جميع الناس
وقوله سبحانه لا تبديل لكلمات الله يريد لا خلف لمواعيده ولا رد في أمره وقد أخذ ذلك ابن عمر على نحو غير هذا وجعل التبديل المنفي في الألفاظ وذلك انه روي أن الحجاج خطب فقال ألا أن عبد الله بن الزبير قد بدل كتاب الله فقال له عبد الله بن عمر إنك لا تطيق ذلك أنت ولا ابن الزبير لا تبديل لكلمات الله وقد روي هذا النظر عن ابن عباس في غير مقاولة الحجاج ذكره البخاري
وقوله تعالى ولا يحزنك قولهم أي قول قريش فهذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم ولفظه القول تعم جحودهم واستهزاءهم وخداعهم وغير ذلك ثم ابتدأ تعالى فقال إن العزة لله جميعا أي لا يقدرون لك على شيء ولا يؤذونك إلا بما شاء الله ففي الآية وعيد لهم ثم استفتح بقوله ألا أن لله من في السموات ومن في الأرض أي بالملك والإحاطة
وقوله تعالى وما يتبع يصح أن تكون ما استفهاما ويصح أن تكون نافية ورجح هذا الثاني
وقوله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن نافية ويخرصون معناه يحرصون ويخمنون وقوله
عز و جل هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه الآية في هذه الألفاظ إيجاز وإحالة على ذهن السامع لأن العبرة في أن الليل مظلم يسكن فيه والنهار مبصر يتصرف فيه فذكر طرفا من هذا وطرفا من الجهة الثانية ودل المذكوران على المتروكين
وقوله يسمعون يريد يوعون والضمير في قالوا لكفار العرب ثم الآية بعد تعم كل من قال نحو هذا القول كالنصارى (2/185)
وسبحانه معناه تنزيها له وبراءة من ذلك فسره بهذا النبي صلى الله عليه و سلم
وقوله إن عندكم من سلطان بهذا إن نافية والسلطان الحجة وكذلك معناه حيث تكرر في القرآن ثم وبخهم تعالى بقوله أتقولون على الله ما لا تعلمون
وقوله سبحانه إن الذين يفترون الآية توعد لهم بأنهم لا يظفرون ببغية ولا يبقون في نعمة إذ هذه حال من يصير إلى العذاب وأن نعم في دنياه يسيرا
وقوله تعالى متاع مرفوع على خبر ابتداء أي ذلك متاع قال ص متاع جواب سؤال مقدر كأنه قيل كيف لا يفلحون وهم في الدنيا مفلحون بأنواع التلذذات فقيل ذلك متاع فهو خبر مبتدأ محذوف انتهى وهذا الذي قدره ص يفهم من كلام ع وقول نوح عليه السلام يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي الآية المقام وقوف الرجل لكلام أو خطبة أو نحوه والمقام بضم الميم إقامته ساكنا في موضع أو بلد ولم يقرأ هنا بضم الميم فيما علمت وتذكيره وعظه وزجره
وقوله فأجمعوا من أجمع الرجل على الشيء إذا عزم عليه ومنه الحديث ما لم يجمع مكثا وأمركم يريد به قدرتكم وحيالكم ونصب الشركاء بفعل مضمر كأنه قال وادعوا شركاءكم فهو من باب ... علفتها تبنا وماء باردا ... حتى شتت همالة عيناها ...
وفي مصحف أبي فاجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم قال الفارسي وقد ينتصب الشركاء بواو مع كما قالوا جاء البرد والطيالسة
وقوله ثم لا يكن أمركم عليكم غمة أي ملتبسا مشكلا ومنه قوله عليه السلام في الهلال فإن غم عليكم
وقوله ثم اقضوا إلى ولا تنظرون أي أنفذوا قضاءكم نحوي ولا تؤخروني والنظرة التأخير
وقوله سبحانه فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف مضى شرح هذه المعاني
وقوله سبحانه فأنظر كيف كان عاقبة المنذرين مخاطبة للنبي صلى الله عليه و سلم يشاركه في معناها جميع الخلق
وقوله (2/186)
سبحانه ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم الضمير في من بعده عائد على نوح عليه السلام
وقوله تعالى فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملائه باياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين معنى هذه الآية ضرب المثل لحاضري نبينا محمد عليه السلام ليعتبروا بمن سلف والبينات المعجزات والضمائر في ما كانوا ليؤمنوا وفي كذبوا تعود الثلاثة على قوم الرسل وقيل الضمير في كذبوا يعود على قوم نوح وقد تقدم تفسير نظيرها في الأعراف
وقوله سبحانه فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين الآية يريد بالحق آيتي العصا واليد
وقوله أسحر هذا قالت فرقة هو حكاية عن موسى عنهم ثم أخبرهم موسى عن الله أن الساحرين لا يفلحون ثم اختلفوا في معنى قول قوم فرعون فقال بعضهم قالها منهم كل مستفهم جاهل بالأمر فهو يسأل عنه وهذا ضعيف وقال بعضهم بل قالوا ذلك على معنى التعظيم للسحر الذي رأوه وقالت فرقة ليس ذلك حكاية عن موسى عنهم وإنما هو من كلام موسى وتقدير الكلام أتقولون للحق لما جآكم سحر ثم ابتدأ يوقفهم بقوله أسحر هذا على جهة التوبيخ وقوله لتلفتنا أي لتصرفنا وتلوينا وتردنا عن دين آبائنا يقال لفت الرجل عنق الآخر إذا ألواه ومنه قولهم التفت فإنه افتعل من لفت عنقه إذا ألواه والكبرياء مصدر من الكبر والمراد به في هذا الموضع الملك قاله أكثر المتأولين لأنه أعظم تكبر الدنيا وقرأ أبو عمر وحده به السحر بهمزة استفهام ممدودة وفي قراءة أبي ما أتيتم به سحر والتعريف هنا في السحر ارتب لأنه تقدم منكرا في قولهم إن هذا لسحر فجاء هنا بلام العهد قال ص قال الفراء إنما قال السحر بال لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بأل وتبعه ابن عطية ورد بأن شرط ما ذكراه اتحاد (2/187)
مدلول النكرة المعادة كقوله تعالى كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول وهنا السحر المنكر هو ما أتى به موسى والمعروف ما أتوا به هم فاختلف مدلولهما والاستفهام هنا على سبيل التحقير انتهى وهو حسن
وقوله إن الله سيبطله إيجاب عن عدة من الله تعالى
وقوله إن الله لا يصلح عمل المفسدين يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله عز و جل ويحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام وكذلك قوله ويحق الله الحق الآية محتمل للوجهين وكون ذلك كله من كلام موسى أقرب وهو الذي ذكر الطبري وأما
قوله بكلماته فمعناه بكلماته السابقة الأزلية في الوعد بذلك وقوله عز و جل فما ءامن لموسى الاذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم اختلف المتأولون في عود الضمير الذي في قومه فقالت فرقة هو عائد على موسى وذلك في أول مبعثه وملا الذرية هم أشراف بني إسرائيل قال ص وهذا هو الظاهر وقالت فرقة الضمير في قومه عائد على فرعون وضمير ملائهم عائد على الذرية قال ع ومما يضعف عود الضمير على موسى أن المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوما تقدمت فيهم النبوات ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به فدل على أن الذرية من قوم فرعون
وقوله سبحانه وقال موسى يا قوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا الآية هذا ابتداء حكاية قول موسى لجماعة بني إسرائيل مونسا لهم ونادبا إلى التوكل على الله عز و جل الذي بيده النصر قال المحاسبي قلت لأبي جعفر محمد بن موسى أن الله عز و جل يقول وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين فما السبيل إلى هذا التوكل الذي ندب الله إليه وكيف دخول الناس فيه قال إن الناس متفاوتون في التوكل وتوكلهم على قدر إيمانهم وقوة علومهم قلت فما معنى إيمانهم (2/188)
قال تصديقهم بمواعيد الله عز و جل وثقتهم بضمان الله تبارك وتعالى قلت من أين فضلت الخاصة منهم على العامة والتوكل في عقد الإيمان مع كل من آمن بالله عز و جل قال إن الذي فضلت به الخاصة على العامة دوام سكون القلب عن الاضطراب والهدو عن الحركة فعندها يا فتى استراحوا من عذاب الحرص وفكوا من أسر الطمع واعتقوا من عبودية الدنيا وأبنائها وحظوا بالروح في الدارين جميعا فطوبى لهم وحسن مآب قلت فما الذي يولد هذا قال حالتان دوام لزوم المعرفة والاعتماد على الله عز و جل وترك الحيل والثانية الممارسة حتى يألفها ألفا ويختارها اختيارا قيصير التوكل والهدو والسكون والرضى والصبر له شعارا ودثارا انتهى من كتاب القصد إلى الله سبحانه
وقولهم ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين المعنى لا تنزل بنا بلاء بأيديهم أو بغير ذلك مدة محارتنا لهم فيفتنون لذلك ويعتقدون صلاح دينهم وفساد ديننا قاله مجاهد وغيره فهذا الدعاء على هذا التأويل يتضمن دفع فصلين أحدهما القتل والبلاء الذي توقعه المؤمنون والآخر ظهور الشرك باعتقاد أهله أنهم أهل الحق ونحو هذا قوله صلى الله عليه و سلم بيس الميت أبو إمامه ليهود والمشركين يقولون لو كان نبيا لم يمت صاحبه ورجح ع في سورة الممتحنة قول ابن عباس أن معنى لا تجعلنا فتنة للذين كفروا لا تسلطهم علينا فيفتنونا أنظره هناك
وقوله سبحانه وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا روي أن فرعون أخاف بني إسرائيل وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة ونحو هذا فأوحى الله إلى موسى وهارون أن تبوءا أي اتخذا وتخيرا لنبي إسرائيل بمصر بيوتا قال مجاهد مصر في هذه الآية الإسكندرية ومصر ما بين أسوان والإسكندرية
وقوله سبحانه واجعلوا بيوتكم قبلة قيل معناه مساجد قاله ابن عباس وجماعة قالوا خافوا فأمروا بالصلاة في بيوتهم وقيل معناه موجهة (2/189)
إلى القبلة قاله ابن عباس ومن هذا حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال خير بيوتكم ما استقبل به القبلة
وقوله وأقيموا الصلوة خطاب لنبي إسرائيل وهذا قبل نزول التوراة لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر
وقوله وبشر المؤمنين أمر لموسى عليه السلام وقال الطبري ومكي هو أمر لنبينا محمد عليه السلام وهذا غير متمكن
وقوله سبحانه وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة الآية هذا غضب من موسى على القبط ودعاء عليهم لما عتوا وعاندوا وقدم للدعاء تقرير نعم الله عليهم وكفرهم بها وآتيت معناه أعطيت واللام في ليضلوا لام كي ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة المعنى آتيتهم ذلك فصار أمرهم إلى كذا وقرأ حمزة وغيره ليضلوا بضم الياء على معنى ليضلوا غيرهم
وقوله ربنا أطمس على أموالهم هو من طموس الأثر والعين وطمس الوجوه منه وتكرير قوله ربنا استغاثة كما يقول الداعي يا الله يا الله روي أنهم حين دعا موسى بهذه الدعوة رجع سكرهم حجارة ودراهمهم ودنانيرهم وحبوب اطعمتهم رجعت حجارة قاله قتادة وغيره وقال مجاهد وغيره معناه أهلكها ودمرها
وقوله وأشدد على قلوبهم بمعنى أطبع وأختم عليهم بالكفر قاله مجاهد والضحاك
وقوله فلا يؤمنوا مذهب الأخفش وغيره أن الفعل منصوب عطفا على قوله ليضلوا وقيل منصوب في جواب الأمر وقال الفراء والكسائي هو مجزوم على الدعاء وجعل رؤية العذاب نهاية وغاية وذلك لعلمه من الله أن المؤمن عند رؤية العذاب لا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ولا يخرجه من كفره ثم أجاب الله دعوتهما قال ابن عباس العذاب هنا الغرق وروي أن هارون كان يؤمن على دعاء موسى فلذلك نسب الدعوة إليهما قاله محمد ابن كعب القرظي قال البخاري وعدوا من العدوان انتهى وقول فرعون آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل الآية روي عن النبي (2/190)
صلى الله عليه و سلم أن جبريل عليه السلام قال ما أبغضت أحد قط بغضي لفرعون ولقد سمعته يقول آمنت الآية فأخذت من حال البحر فملأت فمه مخافة أن تلحقه رحمة الله وفي بعض الطرق مخافة أن يقول لا إله إلا الله فتلحقه الرحمة قال ع فأنظر إلى كلام فرعون ففيه مجهلة وتلعثم ولا عذر لأحد في جهل هذا وإنما العذر فيما لا سبيل إلى علمه كقول علي رضي الله عنه أهللت باهلال كاهلال النبي صلى الله عليه و سلم والحال الطين والآثار بهذا كثيرة مختلفة الألفاظ والمعنى واحد وقوله سبحانه ءالآن وقد عصيت قبل وهذا على جهة التوبيخ له والإعلان بالنقمة منه وهذا الكلام يحتمل أن يكون من ملك موصل عن الله أو كيف شاء الله ويحتمل أن يكون هذا الكلام معنى حاله وصورة خزيه وهذه الآية نص في رد توبة المعاين
وقوله سبحانه فاليوم ننجيك ببدنك الآية يقوي أنه صورة حالة لان هذه الألفاظ إنما يظهر أنها قيلت بعد غرقه وسبب هذه المقالة على ما روي أن بني إسرائيل بعد عندهم غرق فرعون وهلاكه لعظمه في نفوسهم وكذب بعضهم أن يكون فرعون يموت فنجي على نجوة من الأرض حتى رآه جميعهم ميتا كأنه ثور أحمر وتحققوا فرقه والجمهور على تشديد ننجيك فقالت فرقة معناه من النجاة أي من غمرات البحر والماء وقال جماعة معناه نلقيك على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها وقرأ يعقوب بسكون النون وتخفيف الجيم وقوله ببدنك قالت فرقة معناه بشخصك وقالت فرقة معناه بدرعك وقرأ الجمهور خلفك أي من أتى بعدك وقرىء شاذا لمن خلفك بفتح اللام المعنى ليجعلك الله آية له في عباده وباقي الآية بين
وقوله سبحانه ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم المعنى ولقد اخترنا لبني إسرائيل أحسن اختيار وأحللناهم من الأماكن أحسن (2/191)
محل ومبوأ صدق أي يصدق فيه ظن قاصده وساكنه ويعني بهذه الآية احلالهم بلاد الشام وبيت المقدس قاله قتادة وابن زيد وقيل بلاد الشام ومصر والأول أصح وقوله سبحانه فما اختلفوا أي في نبوءة نبينا محمد عليه السلام وهذا التخصيص هو الذي وقع في كتب المتأولين كلهم وهو تأويل يحتاج إلى سند والتأويل الثاني الذي يحتمله اللفظ أن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله فلما جاءهم العلم والأوامر وغرق فرعون اختلفوا فالآية ذامة لهم ت فر رحمه الله من التخصيص فوقع فيه فلو عمم اختلافهم على أنبيائهم موسى وغيره وعلى نبينا لكان أحسن وما ذهب إليه المتأولون من التخصيص أحسن لقرينة قوله فإن كنت في شك فالربط بين الآيتين واضح والله أعلم
وقوله عز و جل فإن كنت في شك الآية الصواب في معنى الآية أنه مخاطبة للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض ت وروينا عن أبي داود سليمان بن الأشعث قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال المراء في القرآن كفر قال عياض في الشفا تأول بمعنى الشك وبمعنى الجدال انتهى والذين يقرءون الكتاب من قبلك من اسلم من أهل الكتاب كابن سلام وغيره وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لما نزلت هذه الآية أنا لا أشك ولا اسأل ثم جزم سبحانه الخبر بقوله لقد جاءك الحق من ربك واللام في لقد لام قسم
وقوله مما أنزلنا إليك يريد به من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في أمره إلا من بعد مجيئه عليه السلام هذا قول أهل التأويل قاطبة قال ع وهذا هو الذي يشبه أن ترجى إزالة الشك فيه من قبل أهل الكتاب ويحتمل اللفظ أن يريد بما أنزلنا جميع (2/192)
الشرع ت وهذا التأويل عندي أبين إذا لخص وإن كان قد استبعده ع ويكون المراد بما أنزلنا ما ذكره سبحانه من قصصهم وذكر صفته عليه السلام وذكر أنبيائهم وصفتهم وسيرهم وسائر أخبارهم الموافقة لما في كتبهم المنزلة على أنبيائهم كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف وتكون هذه الآية تنظر إلى قوله سبحانه ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه فتأمله والله أعلم وأما قوله هذا قول أهل التأويل قاطبة فليس كذلك وقد تكلم صاحب الشفا على الآية فأحسن ولفظه واختلف في معنى الآية فقيل المراد قل يا محمد للشاك إن كنت في شك الآية قالوا وفي السورة نفسها ما دل على هذا التأويل وهو قوله تعالى قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني الآية ثم قال عياض وقيل أن هذا الشك الذي أمر غير النبي صلى الله عليه و سلم بسؤال الذين يقرءون الكتاب عنه إنما هو في ما قصه الله تعالى من أخبار الأمم لا فيما دعا إليه من التوحيد والشريعة انتهى
وقوله سبحانه فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بايات الله الآية مما خوطب به النبي صلى الله عليه و سلم والمراد سواه قال ع ولهذا فائدة ليست في مخاطبة الناس به وذلك شدة التخويف لأنه إذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحذر من مثل هذا فغيره من الناس أولى أن يحذر ويتقي على نفسه
وقوله سبحانه إن الذين حقت عليهم كلمات ربك أي حق عليهم في الأزل وخلقهم لعذابه لا يومنون ولو جاءتهم كل آية إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإيمان كما صنع فرعون وأشباهه وذلك وقت المعاينة وقوله سبحانه فلولا كانت قرية ءامت الآية وفي مصحف أبي وابن مسعود فهلا والمعنى فيهما واحد وأصل لولا التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره ومعنى الآية فهلا آمن أهل القرية وهم (2/193)
على مهل لم يتلبس العذاب بهم فيكون الإيمان نافعا لهم في هذا الحال ثم استثنى قوم يونس فهو بحسب اللفظ استثناء منقطع وهو بحسب اللفظ استثناء منقطع وهو بحسب المعنى متصل لأن تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس وروي في قصة قوم يونس أن القوم لما كفروا أي تمادوا على كفرهم أوحى الله تعالى إليه أن أنذرهم بالعذاب لثالثة ففعل فقالوا هو رجل لا يكذب فارقبوه فإن أقام بين أظهركم فلا عليكم وإن أرتحل عنكم فهو نول العذاب لا شك فيه فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله وآمنوا ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم وكان العذاب فيما روي عن ابن عباس على ثلثي ميل منهم وروي على ميل وقال ابن جبير غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر فرفع الله عنهم العذاب فلما مضت الثالثة وعلم يونس أن العذاب لم ينزل بهم قال كيف أنصرف وقد وجدوني في كذب فذهب مغاضبا كما ذكر الله سبحانه في غير هذه الآية وذهب الطبري إلى أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين وليس كذلك والمعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي تلبس العذاب أو الموت بشخص الإنسان كقصة فرعون وأما قوم يونس فلم يصلوا هذا الحد ت وما قاله الطبري عندي أبين ومتعناهم إلى حين يريد إلى آجالهم المقدرة في الأزل وروي أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل
وقوله سبحانه أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين المعنى أفأنت تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم والله عز و جل قد شاء غير ذلك والرجس هنا بمعنى العذاب
وقوله سبحانه قل انظروا ماذا في السموات والأرض الآية هذه الآية أمر للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع من آيات السموات وأفلاكها وكواكبها وسحابها ونحو ذلك والأرض ونباتها ومعادنها (2/194)
وغير ذلك المعنى انظروا في ذلك بالواجب فهو ينهيكم إلى المعرفة بالله وبوحدانيته ثم أخبر سبحانه أن الآيات والنذر وهم الأنبياء لا تغنى إلا بمشيئته فما على هذا نافية ويجوز أن تكون استفهاما في ضمنه نفي وقوع الغنى وفي الآية على هذا توبيخ لحاضري النبي صلى الله عليه و سلم قال ص والنذر جمع نذير أما مصدر بمعنى الإنذارات وإما بمعنى منذر انتهى
وقوله سبحانه فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم الآية وعيد إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب
وقوله سبحانه ثم ننجي رسلنا والذين ءامنوا أي عادة الله سلفت بانجاء رسله ومتبعيهم عند نزول العذاب بالكفرة كذلك حقا علينا ننج المؤمنين قال ص أي مثل ذلك الانجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم ننجي من آمن بك انتهى وخط المصحف في هذه اللفظة ننج بجيم مطلقة دون ياء وكلهم قرأ ننجي مشددة الجيم إلا الكسائي وحفصا عن عاصم فإنهما قرءا بسكون النون وتخفيف الجيم
وقوله سبحانه قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني الآية مخاطبة عامة للناس أجمعين إلى يوم القيامة وقوله وإن أقم وجهك للدين الآية الوجه في هذه الآية بمعنى المنحي والمقصد أي أجعل طريقك واعتمالك للدين والشرع
وقوله تعالى ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك الآية قد تقدم أن ما كان من هذا النوع فالخطاب فيه للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد غيره
وقوله سبحانه وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو الآية مقصود هذه الآية أن الحول والقوة لله والضر لفظ جامع لكل ما يكرهه الإنسان
وقوله وإن يردك بخير لفظ تام العموم وقوله سبحانه قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه هذه مخاطبة لجميع الكفار ومستمرة مدى الدهر والحق هو القرآن والشرع الذي جاء به النبي صلى الله (2/195)
عليه وسلم
وقوله وما أنا عليكم بوكل منسوخة بالقتال وقوله سبحانه واتبع ما يوحى إليك وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين قوله حتى يحكم الله وعد للنبي صلى الله عليه و سلم بأن يغلبهم كما وقع وهذا الصبر منسوخ أيضا بالقتال وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة هود عليه السلام مكية إلا نحو ثلاث آيات
قال الداودي وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قلت يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب قال شيبتي هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وفي رواية عن ابن عباس هود وأخواتها انتهى
قوله عز و جل الم كتاب أحكم آياته أي أتقنت وأجيدت وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره على محمد نبيه عليه السلام في أزمنة مختلفة فثم على بابها فالأحكام صفة ذاتية والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له والكتاب بأجمعه محكم ومفصل والأحكام الذي هو ضد النسخ والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك قال ص ثم فصلت ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان ولدن بمعنى عند انتهى قال الداودي وعن الحسن أحكمت آياته قال أحكمت بالأمر والنهي ثم فصلت بالوعد والوعيد وعنه فصلت بالثواب والعقاب انتهى وقدم (2/196)
النذير لأن التحذير من النار هو الأهم وإن استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر يمتعكم متاعا حسنا ووصف المتاع بالحسن لطيب عيش المؤمن برجائه في ثواب ربه وفرحه بالتقرب إليه بأداء مفترضاته والسرور بمواعيده سبحانه والكافر ليس في شيء من هذا ويؤت كل ذي فضل أي كل ذي إحسان فضله فيحتمل أن يعود الضمير من فضله على ذي فضل أي ثواب فضله ويحتمل أن يعود على الله عز و جل أي يؤتي الله فضله كل ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين ونحو هذا المعنى ما وعد به سبحانه من تضعيف الحسنات وإن تولوا فإني أخاف عليكم أي فقل إني أخاف عليكم عذاب يوم كبير وهو القيامة
وقوله سبحانه الا أنهم يثنون صدورهم الآية قيل إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبي صلى الله عليه و سلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منهم وكراهية للقائه وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه أو عن الله عز و جل وقيل هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه فمعنى الآية ألا انهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله وهو سبحانه حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون ويستغشون معناه يجعلونها أغشية وأغطية قال ص قرأ الجمهور يثنون بفتح الياء مضارع ثنى الشيء ثنيا طواه انتهى وقرأ ابن عباس وجماعة تثنونى صدورهم بالرفع على وزن تفعوعل وهي تحتمل المعنيين المتقدمين وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه القراءة أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يأتون النساء والحدث ألا ويستغشون ثيابهم كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء
وقوله عز و جل وما من دابة في الأرض إلى على الله رزقها الآية المراد جميع الحيوان المحتاج إلى رزق والمستقر صلب الأب والمستودع بطن الأم وقيل غير (2/197)
هذا وقد تقدم
وقوله في كتاب إشارة إلى اللوح المحفوظ قال ص ليبلوكم اللام متعلقة بخلق وقيل بفعل محذوف أي أعلم بذلك ليبلوكم انتهى ولئن قلت اللام في لئن مؤذنة بأن اللام في ليقولن لام قسم لا جواب شرط وقولهم إن هذا إلا سحر مبين تناقض منهم لأنهم مقرون بأن الله خلق السماوات والأرض وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر من ذلك وهو البعث من القبور وإذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس
ولئن أخرنا عنهم العذاب أي المتوعد به إلى أمة معدودة أي مدة معدودة ليقولن ما يحبسه أي ما هذا الحابس لهذا العذاب على جهة التكذيب وحاق معناه حل وأحاط البخاري حاق نزل
ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة الآية الرحمة هنا تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك والإنسان هنا اسم جنس والمعنى أن هذا الخلق في سجية الإنسان ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح وكفور هنا من كفر النعمة والنعماء تشمل الصحة والمال والضراء من الضر وهو أيضا شامل ولفظة ذهاب السيئات عني يقتضي بطرا وجهلا إن ذلك بأنعام من الله تعالى والسيئات هنا كل ما يسوء في الدنيا والفرح هنا مطلق فلذلك ذم إذ الفرح انهمال النفس ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحا إلا إذا قيد بأنه في خير
وقوله إلا الذين صبروا استثناء متصل على ما قدمنا من أن الإنسان عام يراد به الجنس وهو الصواب ومن قال أنه مخصوص بالكافر قال هاهنا الاستثناء منقطع وهو قول ضعيف من جهة المعنى لا من جهة اللفظ لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس كما تقتضي لفظة الإنسان واستثنى الله تعالى من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره والمثابرة على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره والمثابرة على عبادة الله وليس شيء من ذلك في سجية البشر وإنما حمل على ذلك خوف الله (2/198)
وحب الدار الآخرة والصبر على العمل الصالح لا ينفع إلا مع هداية وإيمان ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة بالمغفرة للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم
وقوله سبحانه فلعللك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك إن يقولوا لولا أنزل عليه كنز سبب هذه الآية أن كفار قريش قالوا يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك وقالوا له ايت بقرآن غير هذا أو بدله ونحو هذا من الأقوال فخاطب الله تعالى نبيه عليه السلام على هذه الصورة من المخاطبة ووقفه بها توقيفا رادا على أقوالهم ومبطلا لها وليس المعنى أنه عليه السلام هم بشيء من ذلك فزجر عنه فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه ولا ضاق صدره به وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان قال ص وع وعبر بضائق وإن كان أقل استعمالا من ضيق لمناسبة تارك ولأن ضائق وصف عارض بخلاف ضيق فإنه يدل على الثبوت والصالح هنا الأول بالنسبة إليه صلى الله عليه و سلم والضمير في به عائد على البعض ويحتمل أن يعود عل ما وإن يقولوا أي كراهة أن يقولوا أو ليلا يقولوا ثم آنسه تعالى بقوله إنما أنت نذير أي هذا القدر هو الذي فوض إليك والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء وكفر من شاء أم يقولون افتراه أم بمعنى بل والافتراء أخص من الكذب ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر
وقوله سبحانه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين تقدم تفسير نظيرها وقال بعض الناس هذه الآية متقدمة على التي في يونس إذ لا يصح أن يعجزوا في واحدة ثم يكلفوا عشرا قال ع وقائل هذا القول لم يلحظ ما ذكرناه من الفرق بين التكليفين في كمال المماثلة مرة كما هو في سورة يونس ووقوفها على النظم مرة كما هو هنا وقوله إن (2/199)
كنتم صادقين يريد في أن القرآن مفترى
وقوله سبحانه فالم يستجيبوا لكم لهذه الآية تأويلان أحدهما أن تكون المخاطبة من النبي صلى الله عليه و سلم للكفار أي ويكون ضمير يستجيبوا على هذا التأويل عائدا على معبوداتهم والثاني أن تكون المخاطبة من الله تعالى للمؤمنين ويكون قوله على هذا فأعلموا بمعنى دوموا على علمكم قال مجاهد قوله تعالى فعل أنتم مسلمون هو لأصحاب محمد عليه السلام
وقوله سبحانه من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها الآية قال قتادة وغيره هي في الكفرة وقال مجاهد هي في الكفرة وأهل الرياء من المؤمنين وإليه ذهب معاوية والتأويل الأول أرجح بحسب تقدم ذكر الكفار وقال ابن العربي في أحكامه بل الآية عامة في كل من ينوي غير الله بعمله كان معه إيمان أو لم يكن وفي هذه الآية بيان لقوله صلى الله عليه و سلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئى ما نوى وذلك أن العبد لا يعطى إلا على وجه قصده وبحكم ما ينعقد في ضميره وهذا أمر متفق عليه
وقوله نوف إليهم أعمالهم فيها قيل ذلك في صحة أبدانهم وإدرار أرزاقهم وقيل إن هذه الآية مطلقة وكذلك التي في حم عسق من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الآية إلى آخرها قيدتهما وفسرتهما الآية التي في سورة سبحانه وهي قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الآية فأخبر سبحانه أن العبد ينوي ويريد والله يحكم ما يريد ثم ذكر ابن العربي الحديث الصحيح في النفر الثلاثة الذين كانت أعمالهم رياء وهم رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال وقول الله لكل واحد منهم ماذا عملت ثم قال في آخر الحديث ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم ركبتي وقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار ثم قرأ قوله تعالى اولائك (2/200)
الذين ليس لهم في الآخرة إلى النار وحبط ما صنعوا فيها أي في الدنيا وهذا نص في مراد الآية والله أعلم انتهى وحبط معناه بطل وسقط وهي مستعملة في فساد الأعمال قال ص قوله ما صنعوا ما بمعنى الذي أو مصدرية وفيها منغلق بحبط والضمير في فيها عائد على الآخرة أي ظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة أو متعلق بصنعوا فيكون عائدا على الدنيا انتهى والباطل كل ما تقتضي ذاته أن لا تنال به غاية في ثواب ونحوه وقوله سبحانه افمن كان على بينة من ربه في الآية تأويلات قال ع والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية أن يكون آفمن للمؤمنين أو لهم وللنبي صلى الله عليه و سلم معهم والبينة القرآن وما تضمن والشاهد الإنجيل يريد أو أعجاز القرآن في قول والضمير في يتلوه للبينة وفي منه للرب والضمير في قبله للبينة أيضا وغير هذا مما ذكر محتمل فإن قيل إذا كان الضمير في قبله عائدا على القرآن فلم لم يذكر الإنجيل وهو قبله وبينة وبين كتاب موسى فالجواب أنه خص التوراة بالذكر لأنه مجمع عليه والإنجيل ليس كذلك لأن اليهود تخالف فيه فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الجميع أولى وهذا يجري مع قول الجن انا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى والأحزاب هاهنا يراد بهم جميع الأمم وروى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم أن قال ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار قال سعيد فقلت أين مصداق هذا في كتاب الله حتى وجدته في هذه الآية وكنت إذا سمعت حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم طلبت مصداقه في كتاب الله عز و جل وقرأ الجمهور في مرية بكسر الميم وهو الشك والضمير في منه عائد على كون الكفرة موعدهم النار وسائر الآية
بين وقوله تعالى ويقول الأشهاد قالت (2/201)
فرقة يريد الشهداء من الأنبياء والملائكة وقالت فرقة الأشهاد بمعنى المشاهدين ويريد جميع الخلائق وفي ذلك إشادة بهم وتشهير لخزيهم وروى في نحو هذا حديث أنه لا يخزي أحد يوم القيامة إلا ويعلم ذلك جميع من شهد المحشر وباقي الآية بين مما تقدم في غيرها قال ص
وقوله ألا لعنة الله على الظالمين يحتمل أن يكون داخلا في مفعول القول وإليه نحا بعضهم انتهى
وقوله سبحانه ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون يحتمل وجوها أحدها أنه وصف سبحانه هؤلاء الكفار بهذه الصفة في الدنيا على معنى أنهم لا يسمعون سماعا ينتفعون به ولا يبصرون كذلك والثاني أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبي صلى الله عليه و سلم فهم لا يستطيعون أن يحملوا نفوسهم على السمع منه والنظر إليه وما في هذين الوجهين نافية الثالث أن يكون التقدير يضاعف لهم العذاب بما كانوا أي بسبب ما كانوا فما مصدرية وباقي الآية بين
وقوله سبحانه لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ان الذين ءامنوا وعملوا الصالحات واخبتوا إلى ربهم الآية لا جرم تقدم بيانها واخبتوا قال قتادة معناه خشعوا وقيل معناه أنابوا قاله ابن عباس وقيل اطمأنوا اله مجاهد وقيل خافوا قاله أبن عباس أيضا وهذه أقوال بعضها قريب من بعض
وقوله سبحانه مثل الفريقين الآية الفريقان الكافرون والمؤمنون شبه الكافر بالأعمى والأصم وشبه المؤمن بالبصير والسميع فهو تمثيل بمثالين
وقوله تعالى ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا الآية فيها تمثيل لقريش وكفار العرب وإعلام بأن محمدا عليه السلام ليس ببدع من الرسل والأراذل جمع الجمع فقيل جمع أرذل وقيل جمع أرذال وهم سفلة الناس ومن لا خلاق له (2/202)
ولا يبالي ما يقول ولا ما يقال له وقرأ الجمهور بادي الرأي بياء دون همز من بدا يبدو فيحتمل أن يتعلق بادي الرأي بنراك أي وما نراك بأول نظر وأقل فكرة وذلك هو بادي الرأي إلا ومتبعوك أراذلنا ويحتمل أن يتعلق بقوله اتبعك أي وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل ثم يحتمل على هذا قوله بادي الرأي معنيين أحدهما أن يريدوا أتبعك في ظاهر أمرهم وعيسى أن بواطنهم ليست معك والثاني أن يريدوا اتبعوك بأول نظر وبالرأي وصفا منهم لنوح أي تدعي عظيما وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك ونصبه على الحال أو على الصفة لبشر
وقوله سبحانه قال يا قوم ارأيتم أن كنت على بينة من ربي وءاتاني رحمة من عنده الآية كأنه قال ارأيتم إن هداني الله وأضلكم ااجبركم على الهدى وأنتم له كارهون وعبارة نوح عليه السلام كانت بلغته دالة على المعنى القائم بنفسه وهو هذا المفهوم من هذه العبارة العربية فبهذا استقام أن يقال كذا وكذا إذ القول ما أفاد المعنى القائم في النفس وقوله على بينة أي على أمر بين جلي وقرأ الجمهور فعميت ولذلك وجهان من المعنى أحدهما خفيت والثاني أن يكون المعنى فعميتم أنتم عنها
وقوله انلزمكموها يريد إلزام جبر كالقتال ونحوه وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل
وقوله وما أنا بطارد الذين ءامنوا يقتضي أن قومه طلبوا طرد الضعفاء الذين بادروا إلى الإيمان به نظير ما اقترحت قريش وتزدرى أصله تزترى تفتعل من زرى يزري ومعنى تزدري تحتقر والخير هنا يظهر فيه أنه خير الآخرة اللهم إلا أن يكون أزدراؤهم من جهة الفقر فيكون الخير المال وقد قال بعض المفسرين حيث ما ذكر الله الخير في القرآن فهو المال قال ع وفي هذا الكلام تحامل والذي يشبه أن يقال أنه حيث ما ذكر الخير فإن المال يدخل فيه ت وهذا أيضا غير ملخص (2/203)
والصواب أن الخير أعم من ذلك كله وأنظر قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره فإنه يشمل المال وغيره ونحوه وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وانظر قوله عليه السلام اللهم لا خير إلا خير الآخرة وقوله تعالى إن علمتم فيهم خيرا فهاهنا لا مدخل للمال إلا على تجوز وقد يكون الخير المراد به المال فقط وذلك بحسب القرائن كقوله تعالى إن ترك خيرا الآية
وقوله الله أعلم بما في أنفسكم تسليم لله تعالى وقال بعض المتأولين هي رد على قولهم أتبعك أراذلنا في ظاهر أمرهم حسب ما تقدم في بعض التأويلات ثم قال إني إذا لو فعلت ذلك لمن الظالمين وقولهم قد جادلتنا معناه قد طال منك هذا الجدال والمراد بقولهم بما تعدنا العذاب والهلاك وما أنتم بمعجزين أي بمفلتين
وقوله سبحانه أم يقولون افتراه الآية قال الطبري وغيره هذه الآية اعترضت في قصة نوح وهي في شأن النبي صلى الله عليه و سلم مع قريش قال ع ولو صح هذا بسند لوجب الوقوف عنده وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليه السلام وتتسق الآية ويكون الضمير في افتراه عائد على ما توعدهم به أو على جميع ما أخبرهم به وأم بمعنى بل
وقوله سبحانه وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن الآية قيل لنوح هذا بعد أن طال عليه كفر القرن بعد القرن به وكان يأتيه الرجل بابنه فيقول يا بني لا تصدق هذا الشيخ فهكذا عهده أبي وجدي كذابا مجنونا رواه عبيد بن عمير وغيره فروي أنه لما أوحي إليه ذلك دعا فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا وتبتئس من البؤس ومعناه لا تحزن
وقوله بأعيننا يمكن أن يريد بمرأى منا فيكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال عز من قائل فنعم القادرون والعقيدة أنه تعالى منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره ويحتمل قوله بأعيننا أي بملائكتنا (2/204)
الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك فيكون الجمع على هذا التأويل للتكثير
وقوله ووحينا معناه وتعليمنا له صورة العمل بالوحي وروي في ذلك أن نوحا عليه السلام لما جهل كيفية صنع السفينة أوحى الله إليه أن أصنعها على مثال جوجو الطائر إلى غير ذلك مما علمه نوح من عملها
وقوله ولا تخاطبني في الذين ظلموا الآية قال ابن جريج في هذه الآية تقدم الله إلى نوح أن لا يشفع فيهم
وقوله ويصنع الفلك التقدير فشرع يصنع فحكيت حال الاستقبال والملأ هنا الجماعة
وقوله سخروا منه الآية السخر الاستجهال مع استهزاء وإنما سخروا منه في أن صنعها في برية
وقوله فانا نسخر منكم قال الطبري يريد في الآخرة قال ع ويحتمل الكلام وهو الأرجح أن يريد إنانسخر منكم الآن والعذاب المخزي هو الغرق والمقيم هو عذاب الآخرة والأمر واحد الأمور ويحتمل أن يكون مصدر أمر فمعناه أمرنا للماء بالفوران وفار معناه انبعث بقوة واختلف الناس في التنور والذي عليه الأكثر منهم ابن عباس وغيره أنه هو تنور الخبز الذي يوقد فيه وقالوا كانت هذه إمارة جعلها الله لنوح أي إذا فار التنور فأركب في السفينة
وقوله سبحانه قلنا أحمل فيه من كل زوجين أثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن الآية الزوج يقال في مشهور كلام العرب للواحد مما له أزدواج فيقال هذا زوج هذا وهما زوجان والزوج أيضا كلام في العرب النوع وقوله وأهلك عطف على ما عمل فيه أحمل والأهل هنا القرابة وبشرط من آمن منهم خصصوا تشريفا ثم ذكر من آمن وليس من الأهل واختلف في الذي سبق عليه القول بالعذاب فقيل ابنه يام أو كنعان وقيل امرأته والعة بالعين المهملة وقيل هو عموم فيمن لم يؤمن من أهل نوح ثم قال سبحانه إخبارا عن حالهم وما آمن معه إلا قليل
وقوله تعالى وقال أركبوا فيها أي وقال نوح لمن (2/205)
معه أركبوا فيها وقوله بسم الله يصح أن يكون في موضع الحال من ضمير أركبوا أي أركبوا متبركين بسم الله أو قائلين بسم الله ويجوز أن يكون بسم الله مجراها ومرساها جملة ثانية من مبتدأ وخبر لا تعلق لها بالأولى كأنهم أمرهم أولا بالركوب ثم أخبر أن مجراها ومرساها بسم الله قال الضحاك كان نوح إذا أراد جري السفينة جرت وإذا أراد وقوفها قال بسم الله فتقف وقرأ الجمهور بضم الميم من مجراها ومرساها على معنى إجرائها وإرسائها وقرأ الأخوان حمزة والكسائي وحفص بفتح ميم مجريها وكسر الراء وكلهم ضم الميم في مرساها ت قوله وكسر الراء يريد إمالتها وفي كلامه تسامح ولفظ البخاري مجراها مسيرها ومرساها موقفها وهو مصدر أجريت وأرسيت انتهى قال النووي وروينا في كتاب ابن السني بسنده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا أن يقولوا بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وما قدروا الله حق قدره الآية هكذا هو في النسخ إذا ركبوا ولم يقل في السفينة انتهى
وقوله وكان في معزل أي في ناحية أي في بعد عن السفينة أو عن الدين واللفظ يعمها
وقوله ولا تكن مع الكافرين يحتمل أن يكون نهيا محضا مع علمه بأنه كافر ويحتمل أن يكون خفي عليه كفره والأول أبين
وقوله لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم الظاهر أن لا عاصم اسم فاعل على بابه وقوله إلا من رحم يريد الا الله الراحم فمن كناية عن الله المعنى لا عاصم اليوم إلا الذي رحمنا
وقوله سبحانه وقيل يا أرض ابلعي ماءك الآية البلع تجرع الشيء وازدراده والإقلاع عن الشيء تركه وغيض معناه نقص وأكثر ما يجيء فيما هو بمعنى الجفوف وقوله وقضي الأمر إشارة إلى جميع القصة بعث الماء وأهلاك الأمم وانجاء أهل السفينة قال ع وتظاهرت الروايات وكتب التفسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض وعم الماء جميعها قاله ابن عباس وغيره وذلك بين من (2/206)
أمر نوح بحمل الأزواج من كل الحيوان ولولا خوف فنائها من جميع الأرض ما كان ذلك وروي أن نوحا عليه السلام ركب في السفينة من عين الوردة بالشام أول يوم من رجب واستوت على الجودي في ذي الحجة وأقامت عليه شهرا وقيل له أهبط في يوم عاشوراء فصامه هو ومن معه وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسى على واحد منها فتطاولت كلها وبقي الجودي وهو جبل الموصل في ناحية الجزيرة لم يتطاول تواضعا لله فاستوت السفينة بأمر الله عليه وقال الزجاج الجودي هو بناحية أمد وقال قوم هو عند باقردي وأكثر الناس في قصص هذه الآية والله أعلم بما صح من ذلك
وقوله وقيل بعدا يحتمل أن يكون من قول الله عز و جل عطفا على قوله وقيل الأول ويحتمل أن يكون من قول نوح والمؤمنين والأول أظهر
وقوله إن ابني من أهلي الآية احتجاج من نوح عليه السلام أن الله أمره بحمل أهله وابنه من أهله فينبغي أن يحمل فأظهر الله له أن المراد من آمن من الأهل وهذه الآية تقتضي أن نوحا عليه السلام ظن أن ابنه مؤمن
وقوله انه ليس من أهلك أي الذين عمهم الوعد لأنه ليس على دينك وإن كان ابنك بالولادة
وقوله عمل غير صالح جعله وصفا له بالمصدر لى جهة المبالغة في وصفه بذلك كما قالت الخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها ... ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وأدبار ...
أي ذات إقبال وأدبار ويبين هذا قراءة الكسائي أنه عمل غير صالح فعلا ماضيا ونصب غير على المفعول لعمل وقول من قال أن الولد كان لغية خطأ محض وهذا قول ابن عباس والجمهور قالوا وأما قوله تعالى فخانتاهما فإن الواحدة كانت تقول للناس هو مجنون والأخرى كانت تنبه على الاضياف وأما خيانة غير هذا فلا ويعضده المعنى لشرف النبوءة وجوز المهدوي أن يعود (2/207)
الضمير في أنه على السؤال أي أن سؤالك إياي ما ليس لك به علم عمل غير صالح قاله النخعي وغيره انتهى والأول أبين وعليه الجمهور وبه صدر المهدوي ومعنى قوله فلا تسألني ما ليس لك به علم أي إذا وعدتك فأعلم يقينا أنه لا خلف في الوعد فإذا رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك بحق واجب عند الله قال ع ولكن نوحا عليه السلام حملته شفقة الأبوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة وعلى هذا القدر وقع عتابه ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله سبحانه أني أعظك أن تكون من الجاهلين ويحتمل قوله فلا تسألني ما ليس لك به علم أي لا تطلب مني أمرا لا تعلم المصلحة فيه علم يقين ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي وهذا والأول في المعنى واحد
وقوله رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم إنابه منه عليه السلام وتسليم لأمر ربه والسؤال الذي وقع النهي عنه إنما هو سؤال العزم الذي معه محاجة وطلبه ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه وأما السؤال على جهة الاسترشاد والتعلم فغير داخل في هذا ثم قيل له أهبط بسلام وذلك عند نزوله من السفينة والسلام هنا السلامة والأمن والبركات الخير والنمو في كل الجهات وهذه العدة تعم جميع المؤمنين إلى يوم القيامة قاله محمد بن كعب القرظي ثم قطع قوله وأمم على وجه الأبتداء وهؤلاء هم الكفار إلى يوم القيامة
وقوله سبحانه تلك إشارة إلى القصة وباقي الآية بين
وقوله عز و جل وإلى عاد أخاهم هودا الآية عطف على قوله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه
وقوله ويا قوم استغفروا ربكم الآية الاستغفار طلب المغفرة فقد يكون ذلك باللسان وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد
وقوله ثم توبوا إليه أي بالإيمان من كفركم والتوبة عقد في ترك متوب منه يتقدمها علم بفساد المتوب منه وصلاح ما يرجع إليه ويقترن بها ندم على فارط المتوب منه (2/208)
لا ينفك منه وهو من شروطها ومدرارا بناء تكثير وهو من در يدر وقد تقدمت قصة عاد
وقوله سبحانه ويزدكم قوة إلى قوتكم ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله تعالى فيه إلى العباد ويحتمل أن خص القوة بالذكر إذ كانوا أقوى العوالم فوعدوا بالزيادة فيما بهروا فيه ثم نهاهم عن التولي عن الحق وقولهم عن قولك أي لا يكون قولك سبب تركنا وقال ص عن قولك حال من الضمير في تاركي أي صادرين عن قولك وقيل عن للتعليل كقوله إلا عن موعدة وقولهم أن نقول الآية معناه ما نقول إلا أن بعض آلهتنا التي ضللت عبدتها أصابك بجنون يقال عر يعر واعترى يعتري إذا ألم بالشيء
وقوله فكيدونى جميعا أي أنتم وأصنامكم ويذكر أن هذه كانت له عليه السلام معجزة وذلك أنه حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكفرهم فلم يقدروا على نيله بسوء وتنظرون معناه تؤخروني أي عاجلوني بما قدرتم عليه
وقوله إن ربي على صراط مستقيم يريد أن أفعال الله عز و جل في غاية الإحكام وقوله الصدق ووعده الحق وعنيد من عند إذا عتا وقوله سبحانه واتبعوا في هذه الدنيا لعنة الآية حكم عليهم سبحانه بهذا لموافاتهم على الكفر ولا يلعن معين حي لا من كافر ولا من فاسق ولا من بهيمة كل ذلك مكروه بالأحاديث ت وتعبيره بالكراهية لعله يريد التحريم ويوم ظرف ومعناه أن اللعنة عليهم في الدنيا وفي يوم القيامة ثم ذكر العلة الموجبة لذلك وهي كفرهم بربهم وباقي الآية بين وقوله عز و جل وإلى ثمود أخاهم صالحا الآية التقدير وأرسلنا إلى ثمود وانشأكم من الأرض أي اخترعكم واوجدكم وذلك باختراع آدم عليه السلام وقال ص من الأرض لابتداء الغاية باعتبار الأصل المتولد منه النبات المتولد منه الغذاء المتولد منه المني ودم الطمث المتولد عنه الإنسان انتهى وقد نقل ع في (2/209)
غير هذا الموضع نحو هذا ثم أشار إلى مرجوحيته وأنه داع إلى القول بالتولد قال ابن العربي في أحكامه قوله تعالى واستعمركم فيها أي خلقكم لعمارتها ولا يصح أن يقال هو طلب من الله لعمارتها كما زعم بعض الشافعية ت والمفهوم من الآية أنها سيقت مساق الامتنان عليهم انتهى وقولهم يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا قال جمهور المفسرين معناه مسودا نؤمل فيك أن تكون سيدا سادا مسد الأكابر وقولهم وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب معنى مريب ملبس متهم وقوله ارأيتم أي تدبرتم فالرؤية قلبية و ءاتاني منه رحمة يريد النبوءة وما انضاف إليها وقال ص قد تقرر في ارأيتم أنه بمعنى أخبروني انتهى والتخسير هو من الخسارة وليس التخسير في هذه الآية إلا لهم وفي حيزهم وهذا كما تقول لمن توصيه أنا أريد بك خيرا وأنت تريد بي شرا وقال ص غير تخسير من خسر وهو هنا للنسبية كفسقته وفجرته إذا نسته إليهما ت ونقل الثعلبي عن الحسين بن الفضل قال لم يكن صالح في خسارة حين قال فما تزيدونني غير تخسير وإنما المعنى ما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إياكم للخسارة وهو من قول العرب فسقته وفجرته إذا نسبته إلى الفسوق والفجور انتهى وهو حسن وباقي الآية بين قد تقدم الكلام في قصصها
وأخذ الذين ظلموا الصحية الصيحه قال أبو البقاء في حذف التاء من أخذ ثلاثة أوجه أحدها أنه فصل بين الفعل والفاعل والثاني أن التأنيث غير حقيقي والثالث أن الصيحة بمعنى الصياح فحمل على المعنى انتهى وقد أشار ع إلى الثلاثة واختار الأخير
وقوله سبحانه ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى الرسل الملائكة قال المهدوي بالبشرى يعنى بالولد ويقيل البشرى بهلاك قوم لوط انتهى قالوا سلاما أي سلمنا عليك سلاما وقرأ حمزة والكسائي قالوا سلاما قال سلم فيحتمل أن يريد بالسلم السلام (2/210)
ويحتمل أن يريد بالسلم ضد الحرب وحنيذ بمعنى محنوذ ومعناه بعجل مشوي نضج يقطر ماؤه وهذا القطر يفصل الحنيذ من جملة المشويات وهيئة المحنوذ في اللغة الذي يغطى بحجارة أو رمل محمى أو حائل بينه وبين النار يغطى به والمعرض من الشواء الذي يصفف على الجمر والمضهب الشواء الذي بينه وبين النار حائل ويكون الشواء عليه لا مدفونا به والتحنيذ في تضمير الخيل هو أن يغطى الفرس بجل على جل ليتصبب عرقه ونكرهم على ما ذكر كثير من الناس معناه أنكرهم وأوجس منهم خيفة من أجل امتناعهم من الأكل إذ عرف من جاء بشر إلا يأكل طعام المنزول به قال ابن العربي في أحكامه ذهب الليث بن سعد إلى أن الضيافة واجبة لقوله صلى الله عليه و سلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم ضيفه جائزته يوم وليلة وما وراء ذلك صدقة وفي رواية ثلاثة أيام ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه وهذا حديث صحيح خرجه الأيمة واللفظ للترمذي وذهب علماء الفقه إلى أن الضيافة لا تجب وحملوا الحديث على الندب قال ابن العربي والذي أقول به أن الضيافة فرض على الكفاية ومن الناس من قال أنها واجبة في القرى حيث لا مأوى ولا طعام بخلاف الحواضر لتيسر ذلك فيها قال ابن العربي ولا شك أن الضيف كريم والضيافة كرامة فإن كان عديما فهي فريضة انتهى وأوجس معناه أحس والوجيس ما يعترى النفس عند الحذر وأوائل الفزع
وقوله سبحانه فضحكت قال الجمهور هو الضحك المعروف وذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل قالوا له انا لا نأكل طعاما إلا بثمن فقال لهم ثمنه أن تذكروا الله تعالى عليه في أوله وتحمدوه في آخره فقال جبريل لأصحابه بحق اتخذ الله هذا خليلا ثم بشر الملائكة سارة بإسحاق وبأن إسحاق سيلد يعقوب ويسمى ولد الولد وراء وهو قريب من معنى (2/211)
وراء في الظرف إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده وقال ص وراء هنا استعمل غير ظرف لدخول من عليه أي ومن بعد إسحاق انتهى وقولها ياويلتى الألف بدل من ياء الإضافة اصلها ياويلتي ومعنى ياوليتا في هذا الموضع العبارة عمادهم النفس من العجب في ولادة عجوز ومن أمر الله واحد الأمور
وقوله سبحانه رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت يحتمل أن يكون دعاء وأن يكون خبرا ص ونصب أهل البيت على النداء أو على الاختصاص أو على المدح انتهى وهذه الآية تعطى أن زوجة الرجل من أهل بيته ت وهي هنا من أهل البيت على كل حال لأنها من قرابته وابنة عمه والبيت في هذه الآية وفي سورة الأحزاب بيت السكنى
وقوله فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا أي أخذ يجادلنا في قوم لوط
وقوله تعالى إن إبراهيم لحليم اواه منيب وصف عليه السلام بالحلم لأنه لم يغضب قط لنفسه إلا أن بغضب لله وأمره بالاعتراض عن المجادلة يقتضي أنها إنما كانت في الكفرة حرصا على إسلامهم وأمر ربك واحد الأمور أي نفذ فيهم قضاؤه سبحانه وهذه الآية مقتضية أن الدعاء إنما هو أن يوفق الله الداعي إلى طلب المقدور فأما الدعاء في طلب غير المقدور فغير مجد ولا نافع ت والكلام في هذه المسئلة متسع رحب ومن أحسن ما قيل فيها قول الغزالي في الأحياء فإن قلت فما فائدة الدعاء والقضاء لا يرد فالجواب أن من القضاء رد البلاء بالدعاء فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة كما أن الترس سبب لرد السهم والماء سبب لخروج النبات انتهى وقد أطال في المسئلة ولولا الإطالة لاتيت بنبذ يثلج لها الصدر وخرج الترمذي في جامعة عن أبي حزامة واسمه رفاعة عن أبيه قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله ارأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة (2/212)
نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال هي من قدر الله قال أبو عيسى هذا حديث حسن وفي بعض نسخه حسن صحيح انتهى فليس وراء هذا الكلام من السيد المعصوم مرمى لأحد وتأمل جواب الفاروق لأبي عبيدة حين هم بالرجوع من أجل الدخول على أرض بها الطاعون وهي الشام
وقوله سبحانه ولما جاءت رسلنا لوطا الرسل هنا الملائكة أضياف إبراهيم قال المهدوي والرسل هنا جبريل وميكائيل واسرافيل ذكره جماعة من المفسرين انتهى والله أعلم بتعيينهم فإن صح في ذلك حديث صير إليه وإلا فالواجب الوقف وسيء بهم أي أصابه سوء والذرع مصدر مأخذوذ من الذراع ولما كان الذراع موضع قوة الإنسان قيل في الأمر الذي لا طاقة له به ضاق بهذا الأمر ذراع فلان وذرع فلان أي حيلته بذراعه وتوسعوا في هذا حتى قلبوه فقالوا فلان رحب الذراع إذا وصفوه باتساع القدرة وعصيب بناء اسم فاعل معناه يعصب الناس بالشر فهو من العصابة ثم كثر وصفهم لليوم بعصيب ومنه
وقد سلكوك في يوم عصيب
وبالجملة فعصيب في موضع شديد وصعب الوطأة ويهرعون معناه يسرعون ومن قبل كانوا يعملون السيئات أي كانت عادتهم إتيان الفاحشة في الرجال
وقوله هؤلاء بناتي هن أطهر لكم يعني بالتزويج وقولهم وإنك لتعلم ما نريد إشارة إلى الاضياف فلما رأى لوط استمرارهم في غيهم قال على جهة التفجع والاستكانه لو أن لي بكم قوة قال ع لو أن جوابها محذوف أي لفعلت كذا وكذا ويروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات وقالوا إن ركنك لشديد وقال النبي صلى الله عليه و سلم يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد فالعجب منه لما استكان قال ع وإنما خشي لوط عليه السلام أن يمهل الله أولئك العصابة حتى يعصوه في الاضياف كما أمهلهم فيما قبل ذلك ثم إن جبريل عليه السلام ضرب القوم (2/213)
بجناحه فطمس أعينهم ثم أمروا لوطا بالسرى وأعلموه بأن العذاب نازل بالقوم فقال لهم لوط فعذبوهم الساعة فقالوا له إن موعدهم الصبح أي بهذا أمر الله ثم أنسوه في قلقه بقولهم أليس الصبح بقريب والقطع القطعة من الليل قال ص إلا امرأتك ابن كثير وأبو عمرو بالرفع والباقون بالنصب فقيل كلاهما استثناء من أحد وقيل النصب على الاستثناء من اهلك انتهى
وقوله سبحانه وأمطرنا عليها حجارة من سجيل ذهب فرقة منهم ابن عباس إلى أن الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ كانت من طين قد تحجر وإن سجيلا معناها ماء وطين وهذا القول هو الذي عليه الجمهور وقالت فرقة من سجيل معناه من جهنم لأنه يقال سجيل وسجين حفظ فيها بدل النون لاما وقيل غير هذا ومنضود معناه بعضه فوق بعض متتابع ومسومة أي معلمة بعلامة
وقوله تعالى وما هي إشارة إلى الحجارة والظالمون قيل يعني قريشا وقيل يريد عموم كل من اتصف بالظلم وهذا هو الأصح وقيل يعني بهذا الإعلام بأن هذه البلاد قريبة من مكة وما تقدم أبين
وقوله عز و جل وإلى مدين أخاهم شعبيا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير الآية قوله بخير قال ابن عباس معناه في رخص من الأسعار وقيل قوله بخير عام في جميع نعم الله تعالى وتعثوا معناه تسعون في فساد يقال عثا يعثو وعثي يعثى إذا افسد
وقوله بقيت الله خير لكم قال ابن عباس معناه الذي يبقى الله لكم من أموالكم بعد توفيتكم الكيل والوزن خير لكم مما تستكثرون به على غير وجهه وهذا تفسير يليق بلفظ الآية وقال مجاهد معناه طاعة الله وهذا لا يعطيه لفظ الآية قال ص وقرأ الحسن تقية الله أي تقواه قال ع وإنما المعنى عندي إبقاء الله عليكم إن أطعتم وقولهم اصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنا قالت فرقة أرادوا الصلوات المعروفة وروي (2/214)
أن شعيبا عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة وقال الحسن لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة وقيل أرادوا ادعواتك وذلك أن من حصل في رتبة من خير أو شر ففي الأكثر تدعوه رتبته إلى التزيد من ذلك النوع فمعنى هذا لما كنت مصليا تجاوزت إلى ذم شرعنا وحالنا فكأن حاله من الصلاة جسرته على ذلك فقيل أمرته كما قال تعالى أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر قال ص و ع أو وإن نفعل معطوف على ما يعبد واو للتنويع انتهى وظاهر حالهم الذي أشاروا إليه هو بخس الكيل والوزن الذي تقدم ذكره وروي أن الإشارة إلى قرضهم الدينار والدرهم وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس قاله محمد بن كعب القرضي وتؤول أيضا بمعنى تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس قال ابن العربي قال ابن المسيب قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض وكذلك قال زيد بن أسلم في هذه الآية وفسرها به ومثله عن يحيى بن سعيد من رواية مالك قال ابن العربي وإذا كان قطع الدنانير والدراهم وقرضها من الفساد عوقب من فعل ذلك وقرض الدراهم غير كسرها فإن الكسر فساد الوصف والقرض تنقيص للقدر وهو أشد من كسرها فهو كالسرقة انتهى من الأحكام مختصرا وبعضه بالمعنى وقولهم إنك لأنت الحليم الرشيد قيل أنهم قالوه على جهة الحقيقة أي أنت حليم رشيد فلا ينبغي لك أن تنهانا عن هذه الأحوال وقيل إنما قالوا هذا على جهة الاستهزاء
وقوله ورزقني منه رزقا حسنا أي سالما من الفساد الذي أدخلتم في أموالكم وجواب الشرط الذي في قوله إن كنت على بينة من ربي محذوف تقديره ااضل كما ضللتم أو أترك تبليغ رسالة ربي ونحو هذا
وقوله لا يجرمنكم معناه لا يكسبنكم وشقاقي معناه مشاقتي وعداوتي وإن مفعولة بيجرمنكم قال ص وع وما (2/215)
قوم لوط منكم ببعيد أي بزمان بعيد أو بمكان قال ص ودود بناء مبالغة من ود الشيء إذا أحبه وأثره ع ومعناه أن أفعاله سبحانه ولطفه بعباده لما كانت في غاية الإحسان إليهم كانت كفعل من يتودد ويود المصنوع له وقولهم ما نفقه كقول قريش قلوبنا في اكنة والظاهر من قولهم انا لنراك فينا ضعيفا أنهم أرادوا ضعف الانتصار والقدرة وان رهط الكفرة يراعون فيه والرهط جماعة الرجل وقولهم لرجمناك أي بالحجارة قاله ابن زيد وقيل بالسب باللسان وقولهم بعزيز أي بذي منعة وعزة ومنزلة والظهري الشيء الذي يكون وراء الظهر وذلك يكون في الكلام على وجهين إما بمعنى الاطراح كما تقول جعلت كلامي وراء ظهرك ودبر إذنك وعلى هذا المعنى حمل الجمهور الآية أي اتخذتم أمر الله وشرعه وراء ظهوركم أي غير مراعي وأما بأن يستند إليه ويلجأ كما قال عليه السلام وألجأت ظهري إليك وعلى هذا المعنى حمل الآية قوم أي وأنتم تتخذون الله سند ظهوركم وعماد آمالكم وقوله اعملوا على مكانتكم معناه على حالاتكم وفيه تهديد وقوله سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب والصحيح أن الوقف في قوله إني عامل وقوله سبحانه وأخذت الذين ظلموا الصيحة هي صيحة جبريل عليه السلام
وقوله سبحانه كان لم يغنوا فيها الآية يغنوا معناه يقيمون بنعمة وخفض عيش ومنه المغاني وهي المنازل المعمورة بالأهل وضمير فيها عائد على الديار
وقوله بعدا مصدر دعاء به كقولك سحقا للكافرين وفارقت هذه قولهم سلام عليكم لأن بعدا إخبار عن شيء قد وجب وتحصل وتلك إنما هي دعاء مرتجى ومعنى البعد في قراءة بعدت بكسر العين الهلاك وهي قراءة الجمهور ومنه قول خرنق بنت هفان ... لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وءافة الجزر (2/216)
ومنه قول مالك بن الربيع ... يقولن لا تبعد وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا ...
وأما من قرأ بعدت وهو السلمي وأبو حيوة فهو من البعد الذي هو ضد القرب ولا يدعى به إلا على مبغوض قال ص وقال ابن الأنباري من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب فيقولون فيهما بعد يبعد وبعد يبعد انتهى
وقوله سبحانه فاتبعوا أمر فرعون أي وخالفوا أمر موسى وما أمر فرعون برشيد أي بمرشد إلى خير وقال ع برشيد أي بمصيب في مذهبه يقدم قومه أي يقدمهم إلى النار والورد في هذه الآية هو ورود دخول قال ص والورد فاعل بيس والمورود المخصوص بالذم وفي الأول حذف أي مكان الورد ليطابق المخصوص بالذم وجوز ع وأبو البقاء أن يكون المورود صفة لمكان الورد والمخصوص محذوف أي بيس مكان الورد المورود النار والورد يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الورود أو بمعنى الواردة من الإبل وقيل الورد بمعنى الجمع للوارد والمورود صفة لهم والمخصوص بالذم ضمير مححذوف أي بيس القوم المورود بهم هم انتهى واتبعوا في هذه لعنة يريد دار الدنيا
وقوله بيس الرفد المرفود أي بيس العطاء المعطى لهم وهو العذاب والرفد في كلام العرب العطية
وقوله سبحانه ذلك من أنباء القرى الآية ذلك إشارة إلى ما تقدم من ذكر العقوبات النازلة بالأمم المذكورة منها قائم وحصيد أي منها قائم الجدرات ومتهدم داثر والآية بحملتها متضمنة التخويف وضرب المثل للحاضرين من أهل مكة وغيرهم والتتبيب الخسران ومنه تبت يدا أبي لهب
وقوله وكذلك الإشارة إلى ما ذكر من الأخذات في الأمم وهذه آية وعيد يعم قرى المؤمنين والكافرين فإن ظالمة أعم من كافرة وقد يمهل الله تعالى بعض الكفرة وأما (2/217)
الظلمة فمعاجلون في الغالب وقد يملي لبعضهم وفي الحديث من رواية أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ وكذلك أخذ ربك إذا اخذ القرى وهي ظالمة الآية وهذه قراءة الجماعة وهي تعطى بقاء الوعيد واستمراره في الزمان إن في ذلك لآية أي لعبرة وعلامة اهتداء لمن خاف عذاب الآخرة ثم عظم الله أمر الآخرة فقال ذلك يوم مجموع له الناس وهو يوم الحشر وذلك يوم مشهود بشهده الأولون والآخرون من الملائكة والأنس والجن والحيوان في قول الجمهور وما نوخره إلا لأجل معدود لا يتقدم عنه ولا يتأخر قال ص والظاهر أن ضمير فاعل يأتي يعود على ما عاد عليه ضمير نوخره والناصب ليوم لا تكلم والمعنى لا تكلم نفس يوم يأتي ذلك اليوم إلا بأذنه سبحانه انتهى
وقوله تعالى فمنهم عائد على الجمع الذي يتضمنه قوله نفس إذ هو اسم جنس يراد به الجمع فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق وهي اصوات المكروبين والمحزونين والمعذبين ونحو ذلك قال قتادة الزفير أول صوت الحمار والشهيق آخره فصياح أهل النار كذلك وقال أبو العالية الزفير من الصدر والشهيق من الحلق والظاهر ما قال أبو العالية
وقوله سبحانه خالدين فيها ما دامت السموات والأرض يروى عن ابن عباس أن الله خلق السماوات والأرض من نور العرش ثم يردهما إلى هنالك في الآخرة فلهما ثم بقاء دائم وقيل معنى ما دامت السماوات والأرض العبارة عن التأبيد بما تعهده العرب وذلك ان من فصيح كلامها إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شيء أن تقول لا أفعل كذا وكذا أمد الدهر وما ناح الحمام وما دامت السماوات والأرض وقيل غير هذا قال ص وقيل المراد سماوات الآخرة وأرضها يدل عليه قوله يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات انتهى وأما قوله إلا ما شاء ربك في الاستثناء ثلاثة (2/218)
أقوال أحدها أنه متصل أي إلا ما شاء ربك من أخراج الموحدين وعلى هذا يكون قوله فأما الذين شقوا عام في الكفرة والعصاة ويكون الاستثناء من خالدين وهذا قول قتادة وجماعة الثاني أن هذا الاستثناء ليس بمتصل ولا منقطع وإنما هو على طريق الاستثناء الذي ندب إليه الشرع في كل كلام فهو على نحو قوله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله الثالث إن إلا في هذه الآية بمعنى سوى والاستثناء منقطع وهذا قول الفراء فإنه يقدر الاستثناء المنقطع بسوى وسيبويه يقدره بلكن أي سوى ما شاء الله زائد على ذلك ويؤيد هذا التأويل قوله بعد عطاء غير مجذوذ وقيل سوى ما أعد الله لهم من أنواع العذاب واشد من ذلك كله سخطه سبحانه عليهم وقيل الاستثناء في الآيتين من الكون في النار والجنة وهو زمان الموقف وقيل الاستثناء في الآية الأولى من طول المدة وذلك على ما روي أن جهنم تخرب ويعدم أهلها وتخفق أبوابها فهم على هذا يخلدون حتى يصير أمرهم إلى هذا قال ع وهذا قول محتمل والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره أن ما يخلى من النار إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين وهذا الذي يسمى جهنم وسمى الكل به تجوزا ت وهذا هو الصواب إن شاء الله وهو تأويل صاحب العاقبة أن الذي يخرب ما يخص عصاة المؤمنين وتقدم الكلام على نظير هذه الآية وهو قوله في الأنعام خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم قال ع والأقوال المترتبة في الاستثناء الأول مرتبة في الاستثناء الثاني في الذين سعدوا إلا تأويل من قال هو استثناء المدة التي تخرب فيها جهنم فإنه لا يترتب هنا والمذوذ المقطوع والإشارة بقوله مما يعبد هؤلاء إلى كفار العرب وانا لموفوهم نصيبهم غير منقوص معناه من العقوبة وقال الداودي عن ابن عباس وانا لموفوهم نصيبهم غير منقوص (2/219)
قال ما قدر لهم من خير وشر انتهى
وقوله ولقد آيتنا موسى الكتاب فاختلف فيه أي اختلف الناس عليه فلا يعظم عليك يا محمد أمر من كذبك وقال ص فيه الظاهر عوده على الكتاب ويجوز أن يعود على موسى وقيل في بمعنى على أي عليه انتهى والكلمة هنا عبارة عن الحكم والقضاء
لقضي بينهم أي لفصل بين المؤمن والكافر بنعيم هذا وعذاب هذا ووصف الشك بالريب تقوية لمعنى الشك فهذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها أمة موسى ويحتمل أن يراد بها معاصرو النبي صلى الله عليه و سلم وأن يعمهم اللفظ أحسن ويؤيده قوله وإن كلا وقرأ نافع واين كثير وإن كلا لما وقرأ أبو عمرو والكسائي بتشديد إن وقرأ حمزة وحفص بتشديد إن وتشديد لما فالقراءتان المتقدمتان بمعنى فإن فيهما على بابها وكلا اسمها وعرفها أن تدخل علىخبرها لام وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضا على خبر أن فلما اجتمع لامان فصل بينهما بما هذا قول أبي علي والخبر في قوله ليوفينهم وهذه الآية وعيد ومعنى الآية إن كل الخلق موفى عمله
وقوله عز و جل فاستقم كما أمرت ومن تاب معك أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت وهو أمر لسائر الأمة وروي أن بعض العلماء رأى النبي صلى الله عليه و سلم في النوم فقال يا رسول الله بلغنا عنك أنك قلت شيبتني هود وأخواتها فما الذي شيبك من هود فقال له قوله عز و جل فاستقم كما أمرت قال ع والتأويل المشهور في قوله عليه السلام شيبتني هود وأخواتها أنه إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السالفة فكان حذره على هذه مثل ذلك شيبه عليه السلام
وقوله تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا الآية الركون السكون إلى الشيء والرضى به قال أبو العالية الركون الرضى قال ابن زيد الركون الادهان قال ع فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره والنهي هنا يترتب من معنى الركون على (2/220)
الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع القدرة والذين ظلموا هنا هم الكفرة ويدخل بالمعنى أهل المعاصي
وقوله سبحانه وأقم الصلوة طرفي النهار الآية لا خلاف أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة واختلف في طرفي النهار وزلف الليل فقيل الطرف الأول الصبح والثاني الظهر والعصر والزلف المغرب والعشاء قاله مجاهد وغيره وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في المغرب والعشاء هما زلفتا الليل وقيل الطرف الأول الصبح والثاني العصر قاله الحسن وقتادة والزلف المغرب والعشاء وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول بل هي في غيرها قال ع والأول أحسن الأقوال عندي ورجح الطبري القول بأن الطرفين الصبح والمغرب وهو قول ابن عباس وغيره وإنه لظاهر إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى والزلف الساعات القريب بعضها من بعض
وقوله تعالى ان الحسنات يذهبن السيئات ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن الحسنات يراد بها الصلوات الخمس وإلى هذه الآية ذهب عثمان رضي الله عنه في وضوئه على المقاعد وهو تأويل مالك وقال مجاهد الحسنات قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال ع وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات ومن أجل أن الصلوات الخمس هي معظم الأعمال والذي يظهر أن لفظ الآية عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السلام ما اجتنبت الكبائر وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار وهو أبو اليسر بن عمرو وقيل أسمه عباد خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها فيما دون الجماع ثم جاء إلى عمر فشكا إليه فقال له قد ستر الله عليك فاستر على نفسك فقلق الرجل فجاء أبو بكر فشكا إليه فقال له مثل مقالة عمر فقلق الرجل فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فصلى معه ثم أخبره وقال اقض (2/221)
في ما شئت فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلها زوجة غاز في سبيل الله قال نعم فوبخه النبي صلى الله عليه و سلم وقال ما أدري فنزلت هذه الآية فدعاه النبي صلى الله عليه و سلم فتلاها عليه فقال معاذ بن جبل يا رسول الله أهذا له خاصة فقال بل للناس عامة قال ابن العربي في أحكامه وهذا الحديث صحيح رواه الايمة كلهم انتهى قال ع وروي أن الآية قد كانت نزلت قبل ذلك واستعملها النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك الرجل وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ وفي الحديث عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال الجمعة إلى الجمعة والصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينها إن اجتنبت الكبائر
وقوله ذلك ذكرى إشارة إلى الصلوات أي هي سبب الذكرى وهي العظة ويحتمل أن تكون إشارة إلى الأخبار بأن الحسنات يذهبن السيئات ويحتمل أن تكون إشارة إلى جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي والقصص في هذه السورة وهو تفسير الطبري فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية الآية لولا هي التي للتخضيض لكن يقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد وهذا نحو قوله سبحانه يا حسرة على العباد والقرون من قلبنا قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره
وقوله أولوا بقية أي أولوا بقية من عقل وتمييز ودين
ينهون عن الفساد وإنما قيل بقية لأن الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها ثم لا تزال تضعف فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول والفساد في الأرض هو الكفر وما اقترن به من المعاصي وهذه الآية فيها تنبيه لهذه الأمة وحض على تغيير المنكر ثم استثنى الله عز و جل القوم الذين نجاهم مع أنبيائهم وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم وقليلا استثناء منقطع أي لكن قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد والمترف المنعم الذي شغلته ترفته عن الحق حتى (2/222)
هلك
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم منه سبحانه وتعالى عن ذلك
ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة أي مؤمنة لا يقع منهم كفر قاله قتادة ولكنه عز و جل لم يشأ ذلك فهم لا يزالون مختلفين في الأديان والآراء والملل هذا تأويل الجمهور
إلا من رحم ربك أي بأن هداه إلى الإيمان
وقوله تعالى ولذلك خلقهم قال الحسن أي وللاختلاف خلقهم قال ع وذلك أن الله تعالى خلق خلقا للسعادة وخلقا للشقاوة ثم يسر كلا لما خلق له وهذا نص في الحديث الصحيح وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدين على الحق هو إمارة الشقاوة وبه علق العقاب فيصح أن يحمل قول الحسن هنا وللاختلاف خلقهم أي لثمرة الاختلاف وما يكون عنه من شقاوة أو سعادة وقال اشهب سألت مالكا عن هذه الآية فقال خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير وقيل غير هذا
وقوله تعالى وتمت كلمة ربك أي نفذ فقضاؤه وحق أمره واللام في لأملان لام قسم
وقوله سبحانه وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وكلا مفعول مقدم بنقص وما
بدل من قوله وكلا ونثبت به فؤادك أي نؤنسك فيما تلقاه نجعل لك الأسوة وجاءك في هذه الحق قال الحسن هذه إشارة إلى دار الدنيا وقال ابن عباس هذه إشارة إلى السورة وهو قول الجمهور قال ع ووجه تخصيص هذه السورة بوصفها بحق والقرآن كله حق إن ذلك يتضمن معنى الوعيد للكفرة والتنبيه للناظر أي جاءك في هذه السورة الحق الي أصاب الأمم الماضية وهذا كما يقال عند الشدائد جاء الحق وإن كان الحق يأتي في غير الشدائد ثم وصف سبحانه أن ما تضمنته السورة هو موعظة وذكرى للمؤمنين وقوله سبحانه وقل للذين لا يؤمنون الآية ءاية وعيد وقوله تعالى ولله غيب السموات والأرض الآية آية تعظيم وانفراد بما لا حظ لمخلوق فيه ثم أمر سبحانه (2/223)
العبد بعبادته والتوكل عليه وفيهما زوال همة وصلاحه ووصوله إلى رضوان الله تعالى فقال فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون اللهم اجعلنا ممن توكل عليه ووفقته لعبادتك كما ترضى وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وسحبة وسلم تسليما والحمد لله على جزيل ما به أنعم
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة يوسف عليه السلام
هذه السورة مكية والسبب في نزولها أن اليهود أمروا كفار مكة أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت السورة وقيل سبب نزولها تسلية النبي صلى الله عليه و سلم عما يفعله به قومه بما فعل أخوة يوسف بيوسف وسورة يوسف لم يتكرر من معانيها في القرآن شيء كما تكررت قصص الأنبياء ففيها حجة على من اعترض بأن الفصاحة تمكنت بترداد القول وفي تلك القصص حجة على من قال في هذه لو كرر لفترت فصاحتها وقوله عز و جل الر تلك ءايات الكتاب المبين الكتاب هنا القرآن ووصفه بالمبين من جهة بيان أحكامه وحلاله وحرامه ومواعظه وهداه ونوره ومن جهة بيان اللسان العربي وجودته والضمير في أنزلناه للكتبا وقرءانا حال وعربيا صفة له وقيل قرآنا توطئة للحال وعربيا حال وقوله سبحانه نحن نقص عليك أحسن القصص الآية روى ابن مسعود أن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ملوا ملة فقالوا لو قصصت علينا (2/224)
يا رسول الله فنزلت هذه الآية ثم ملوا ملة أخرى فقالوا لو حدثتنا يا رسول الله فنزلت الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية والقصص الأخبار بما جرى من الأمور
وقوله بما أوحينا إليك أي بوحينا إليك هذا والقرآن نعت لهذا ويجوز فيه البدل والضمير في قبله للقصص العام لما في جميع القرآن منه ومن الغافلين أي عن معرفة هذا القصص وعبارة المهدوي قال قتادة أي نحن نقص عليك من الكتب الماضية وأخبار الأمم السالفة أحسن القصص بوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين عن أخبار الأمم انتهى
وقوله سبحانه إذ قال يوسف لابيه يا ابت اني رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قيل أنه رأى كواكب حقيقة والشمس والقمر فتأولها يعقوب أخوته وأبويه وهذا هو قول الجمهور وقيل الأخوة والأب والخالة لأن أمه كانت ميتة وروي أن رؤيا يوسف خرجت بعد أربعين سنة وقيل بعد ثمانين سنة
وقوله قال يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا من هنا ومن فعل أخوة يوسف بيوسف يظهر أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت وما وقع في كتاب الطبري لابن زيد أنهم كانوا أنبياء يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنياوي وعن عقوق الآباء وتعريض مؤمن للهلاك والتؤامر في قتله
وكذلك يجتنبك ربك أي يختارك ويصطفيك
ويعلمك من تأويل الاحاديث قال مجاهد وغيره هي عبارة الرؤيا وقال الحسن هي عواقب الأمور وقيل هي عامة لذلك وغيره من المغيبات
ويتم نعمته عليك الآية يريد بالنبوءة وما انضاف إليها من سائر النعم ويروى أن يعقوب علم هذا من دعوة إسحاق له حين تشبه بعيصو وباقي الآية بين وقوله سبحانه لقد كان في يوسف واخوته ءايات للسائلين إذ كل أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذا القصص إذ هي مقر العبر (2/225)
والاتعاظ وقولهم وأخوه يريدون به يامين وهو أصغر من يوسف ويقال له بنيامين قيل وهو شقيقه
أحب إلى أبينا منا أي لصغرهما وموت أمهما وهذا من حب الصغير هي فطرة البشر وقولهم ونحن عصبة أي جماعة تضر وتنفع وتحمي وتخذل أي لنا كانت تنبغي المحبة والمراعاة والعصبة في اللغة الجماعة وقولهم لفي ضلال مبين أي لفي انتلاف وخطأ في محبة يوسف وأخيه وهذا هو معنى الضل وإنما يصغر قدره ويعظم بحسب الشيء الذي فيه يقع الانتلاف ومبين معناه ظاهر للمتأمل وقولهم أو اطرحوه أرضا أي بأرض بعيدة فارضا مفعول ثان بإسقاط حرف الجر والضمير في بعده عائد على يوسف أو قتله أو طرحه وصالحين قال مقاتل وغيره أنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم والقائل منهم لا تقتلوه هو روبيل اسنهم قاله قتادة وأبن إسحاق وقيل هو شمعون قاله مجاهد وهذا عطف منه على أخيه لا محالة لما أراد الله من انفاذ قضائه والغيابة ما غاب عنك والجب البير اللتي لم تطو لانها جبت من الأرض فقط قال المهدوي والجب في اللغة البير المقطوعة التي لم تطو انتهى والسيارة جمع سيار وروي أن جماعة من الأعراب التقطت يوسف عليه السلام
وقوله سبحانه قالوا يا ابانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون الآية المتقدمة تقتضي أن أباهم قد كان علم منهم إرادتهم السوء في جهة يوسف وهذه الآية تقتضي أنهم علموا هم منه بعلمه ذلك وقرأ أبو عارم وابن عمرو نرتع ونلعب بالنون فيهما وإسكان العين والباء ونرتع على هذا من الرتوع وهي الإقامة في الخصب والمرعى في أكل وشرب وقرأ ابن كثير نرتع ونلعب بالنون فيهما وكسر العين وإسكان الباء وقد روي عنه ويلعب بالياء ونرتع على هذا من رعاية الإبل وقال مجاهد من المراعاة أي يرعى بعضنا بعضا ويحرسه وقرأ عاصم وحمزة والكسائي يرتع ويلعب بإسناد ذلك كله إلى يوسف وقرأ نافع يرتع (2/226)
ويلعب فيرتع على هذا من رعاية الإبل قال أبو علي وقراءة ابن كثير نرتع بالنون ويلعب بالياء نزعها حسن لاسناد النظر في المال والرعاية إليهم واللعب إلى يوسف لصباه ولعبهم هذا داخل في اللعب المباح والمندوب كاللعب بالخيل والرمي وعللوا طلبه والخروج به بما يمكن أن يستهوي يوسف لصباه من الرتوع واللعب والنشاط وإنما خاف يعقوب عليه السلام الذيب دون سواه وخصصه لأنه كان الحيوان العادي المنبث في القطر ولصغر يوسف وأجمعوا معناه عزموا
وقوله سبحانه وأوحينا إليه يحتمل أن يكون الوحي إلى يوسف حينئذ برسول ويحتمل أن يكون بالهام أو بنوم وكل ذلك قد قيل وقرأ الجمهور لتنبئنهم بالتاء من فوق
وقوله وهم لا يشعرون قال ابن جريج معناه لا يشعرون وقت التنبئة أنك يوسف وقال قتادة لا يشعرون بوحينا إليك
وقوله وجاءو اباهم عشاء يبكون أي وقت العشاء وقرأ الحسن عشى على مثال دجى جمع عاش ومعنى ذلك أصابهم عشى من البكاء أو شبه العشى إذ كذلك هي عين الباكي لأنه يتعاشى ومثل شريح امرأة بكت وهي مبطلة ببكاء هؤلاء وقرأ الآية ونستبق معناه على الأقدام وقيل بالرمي أي ننتضل وهو نوع من المسابقة قاله الزجاج وقولهم وما أنت بمؤمن لنا لنا أي بمصدق لنا ولو كنا صادقين بمعنىوإن كنا صادقين في معتقدنا
وقوله سبحانه وجاءو على قميصه بدم كذب روي أنهم أخذوا سخلة أوجديا فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف وقالوا ليعقوب هذا قميصه فاخذه وبكى ثم تأمله فلم ير خرقا ولا أثر ناب فاستدل بذلك على كذبهم وقال لهم متى كان الذيب حليما يأكل يوسف ولا يخرق قميصه قص هذا القصص ابن عباس وغيره وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم بصحة القميص واستند الفقهاء إلى هذا في أعمال الامارات في مسائل كالقسامة بها في قول مالك إلى (2/227)
غير ذلك قال الشعبي كان في القميص ثلاث آيات دلالته على كذبهم وشهادته في قده ورد بصر يعقوب به ووصف الدم بالكذب الذي هو مصدر على جهة المبالغة ثم قال لهم يعقوب بل سولت لكم أي رضيت وجعلت سولا ومرادا أمر أي صنعا قبيحا بيوسف
وقوله فصر جميل إما على حذف المبتدأ أي فشأني صبر جميل وإما على حذف الخبر تقديره فصبر جميل أمثل وجميل الصبر أن لا تقع شكوى إلى البشر وقال النبي صلى الله عليه و سلم من بث لم يصبر صبرا جميلا
وقوله سبحانه وقوله والله المستعان على ما تصفون تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه وجاءت سيارة فارسلوا واردهم قيل أن السيارة جاءت في اليوم الثاني من طرحه والسيارة بناء مبالغة للذين يرددون السير في الطرق قال ص والسيارة جمع سيار وهو الكثير السير في الأرض انتهى والوارد هوالذي يأتي الماء يستقي منه لجماعته وهو يقع على الواحد وعلى الجماعة وروي أن مدلي الدلو كان يسمى مالك بن دعر ويروى أن هذا الجب كان بالأردن على ثلاثة فرسخ من منزل يعقوب ويقال أدلى دلوه إذا ألقاه ليستقي الماء وفي الكلام حذف تقديره فتعلق يوسف بالحبل فلما بصر به المدلى قال يا بشراي وروي أن يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين ويرجح هذا لفظة غلام فإنها لما بين الحولين إلى البلوغ فإن قيلت فيما فوق ذلك فعلى استصحاب حال وتجوز وقرأ نافع وغيره يا بشراي بإضافة البشرى إلى المتكلم وبفتح الياء على ندائها كأنه يقول أحضري فهذا وقتك وقرأ حمزة والكسائي يا بشري ويمين ولا يضيفان وقرأ عاصم كذلك إلا أنه بفتح الراء ولا يميل واختلف في تأويل هذه القراءة فقال السدي كان في أصحاب هذا الوارد رجل اسمه بشرى فناداه وأعلمه بالغلام وقيل هو على نداء البشرى كما قدمنا
وقوله سبحانه وأسروه بضاعة قال مجاهد وذلك أن الوراد خشوا (2/228)
من تجار الرفقة إن قالوا وجدناه أن يشاركوهم في الغلام الموجود يعني أو يمنعوهم من تملكه إن كانوا أخيارافأسروا بينهم أن يقولوا ابضعه معناه بعض أهل المصر وبضاعة حال والبضاعة القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح مأخوذ من قولهم بضعة أي قطعة وقيل الضمير في أسروه يعود على أخوة يوسف
وقوله سبحانه وشروه بثمن بخس شروه هنا بمعنى باعوه قال الداودي وعن أبي عبيدة وشروه أي باعوه فإذا ابتعت أنت قلت أشتريت انتهى وقال ابن العربي في أحكامه قوله تعالى وشروه بثمن بخس يقال اشتريت بمعنى بعت وشريت بمعنى أشتريت لغ انتهى وعلى هذا فلا مانع من حمل اللفظ على ظاهره ويكون شروه بمعنى اشتروه قال ع روي أن أخوة يوسف لما علموا أن الوراد قد أخذوه جاءوهم فقالوا هذا عبد قد أبق منا ونحن نبيعه منكم فقارهم يوسف على هذه المقالة خوفا منهم ولينفذ الله أمره والبخس مصدر وصف به الثمن وهو بمعنى النقص وقوله دراهم معدودة عبارة عن قلة الثمن لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الاوقية وهي أربعون درهما
وقوله سبحانه وكانوا فيه من الزاهدين وصف يترتب في أخوة يوسف وفي الوراد ولكنه في أخوة يوسف أرتب إذ حقيقة الزهد في الشيء أخراج حبه من القلب ورضفه من اليد وهذه كانت حال أخوة يوسف في يوسف وأما الوراد فإن تمسكهم به وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوز قال ابن العربي في أحكامه وكانوا فيه من الزاهدين أي إخوته والواردة أما إخوته فلأن مقصودهم زوال عينه وأما الواردة فلأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم انتهى
وقوله سبحانه وقال الذي اشتراه من مصر لأمرته أكرمي مثواه عيسى أن ينفعنا روي أن مبتاع يوسف ورد به مصر البلد المعروف ولذلك لا ينصرف فعرضه في السوق وكان أجمل الناس فوقعت (2/229)
فيه مزايدة حتى بلغ ثمنا عظيما فقيل وزنه من ذهب ومن فضه ومن حرير فاشتراه العزيز وهو كان حاجب الملك وخازنه واسم الملك الريان بن الوليد وقيل مصعب بن الريان وهو أحد الفراعنة واسم العزيز المذكور قطيفين قاله ابن عباس وقيل اظفير وقيل قنطور واسم امرأته راعيل قاله ابن إسحاق وقيل زليخا قال البخاري ومثواه مقامه
وقوله أونتخذه ولدا أي نتبناه وكان فيما يقال لا ولد له ثم قال تعالى وكذلك أي وكما وصفنا مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه فعلنا ذلك والأحاديث الرؤيا في النوم قاله مجاهد وقيل أحاديث الأنبياء والأمم والضمير في أمره يحتمل أن يعود على يوسف قاله الطبري ويحتمل أن يعود على الله عز و جل قاله ابن جبير فيكون إخبارا منبها على قدرة الله عز و جل ليس في شأن يوسف خاصة بل عاما في كل أمر والأشد استكمال القوة وتناهي بنية الإنسان وهما أشدان أولهما البلوغ والثاني الذي يستعمله العرب
وقوله سبحانه ءاتيناه حكما وعلما يحتمل أن يريد بالحكم الحكمة والنبوة وهذا على الأشد الأعلى ويحتمل أن يريد بالحكم الشلطان في الدنيا وحكما بين الناس وتدخل النبوءة وتأويل الآحاديث وغير ذلك في قوله وعلما وقال ابن العربي ءاتيناه حكما وعلما الحكم هو العمل بالعلم انتهى
وقوله سبحانه وكذلك نجزي المحسنين عبارة فيها وعد للنبي صلى الله عليه و سلم أي فلا يهولنك فعل الكفرة وعتوهم عليك فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع
وقوله سبحانه وراودته التي هو في بيتها عن نفسه المراودة الملاطفة في السوق إلى غرض والتي هو في بيتها هي زليخا امرأة العزيز وقوله عن نفسه كناية عن غرض المواقعة وظاهر هذه النازلة أنها كانت قبل أن ينبأ عليه السلام وقولها هيت لك معناه الدعاء أي تعالى وأقبل على هذا الأمر قال الحسن معناها هلم قال البخاري قال عكرمة هيت لك بالحورانية هلم وقال (2/230)
ابن جبير تعاله انتهى وقرأ هشام عن أبن عامر هئت لك بكسر الهاء والهمزة وضم التاء ورويت عن أبي عمر وهاذ يحتمل أن يكون من هاء الرجل يهيء إذا حسن هيئته ويحتمل أن يكون بمعنى تهيأت ومعاذ نصب على المصدر ومعنى الكلام أعوذ بالله ثم قال إنه ربي أحسن مثواي فيحتمل أن يعود الضمير في أنه على الله عز و جل ويحتمل أن يريد العزيز سيده أي فلا يصلح لي أن أخونه وقد أكرم مثواي وائتمنني قال مجاهد وغيره ربي معناه سيدي وإذا حفظ الأدمي لإحسانه فهو عمل زاك وأحرى أن يحفظ ربه والضمير في قوله انه لا يفلح مراد به الأمر والشأن فقط وحكى بعض المفسرين أن يوسف عليه السلام لما قال معاذ الله ثم دافع الأمر باحتجاج وملاينة امتحنه الله عز و جل بالهم بما هم به ولو قال لا حول ولا قوة إلا بالله ودافع بعنف وتغيير لم يهم بشيء من المكروه
وقوله سبحانه وهم بها اختلف في هم يوسف قال ع والذي أقول به في هذه الآية أن كون يوسف عليه السلام نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح ولا تظاهرت به روايه فإذا كان ذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما ويجوز عليه الهم الذي هو أراده الشيء دون مواقعته وإن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو الخاطر ولا يصح عندي شيء مما ذكر من حل تكة ونحو ذلك لن العصمة مع النبوءة وللهم بالشيء مرتبتان فالخاطر المجرد دون استصحاب يجوز عليه ومع استصحاب لا يجوز عليه إذ الإجماع منعقد أن الهم بالمعصية واستصحاب التلذذ بها غير جائز ولا داخل في التجاوز ت قال عياض والصحيح أن شاء الله تنزييهم أيضا قبل النبوءة من كل عيب وعصمتهم من كل ما يوجب الريب ثم قال عياض بعد هذا وأما قول الله سبحانه ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى (2/231)
برهان ربه فعلى طريق كثير من الفقهاء والمحدثين أن هم النفس لا يؤاخذ به وليس بسيئة لقوله عليه السلام عن ربه إذا هم عبدي بسيئة فلم يعلمها كتبت له حسنة فلا معصية في همه إذن وأما على مذهب المحققين من الفقهاء والمتكلمين فإن الهم إذا وظنت عليه النفس سيئة وأما ما لم توطن عليه النفس من همومها وخواطرها فهو المعفو عنه وهذا هو الحق فيكون إن شاء الله هم يوسف من هذا ويكون قوله وما ابرئى نفسي الآية أي من هذا الهم أو يكون ذلك منه على طريق التواضع انتهى واختلف في البرهان الذي رآه يوسف فقيل ناداه جبريل يا يوسف لا تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء وقيل رأى يعقوب عاضا على ابهامه وقيل غيره هذا وقيل بل كان البرهان فكرته في عذاب الله ووعيده على المعصية والبرهان في كلام العرب الشيء الذي يعطى القطع واليقين كان مما يعلم ضرورة أو بخبر قطعي أو بقياس نظري وأن في قوله لولا أن رأى في موضع رفع تقديره لولا رؤيته برهان ربه لفعل وذهب قوم إلى أن الكلام تم في قوله ولقد همت به وأن جواب لولا في قوله وهم بها وان المعنى لولا أن رأى البرهان لهم أي فلم يهم عليه السلام وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف ت وقد ساق عياض هذا القول مساق احتجاج به متصلا بما نقلناه عنه آنفا ولفظه فكيف وقد حكى أبو حاتم عن أبي عبيدة أن يوسف إليهم وأن الكلام فيه تقديم وتأخير أي ولقد همت به ولولا أن رأى برهان به لهم بها وقد قال الله تعالى عن المرأة ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وقال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء وقال معاذ الله الآية انتهى وكذا نقله الداودي ولفظه وقد قال سعيد بن الحداد في الكلام تقديم وتأخير ومعناه أنه لولا أن رأى برهان ربه لهم بها فلما رأى البرهان لم يهم انتهى (2/232)
قال ابن العربي في أحكامه وقد أخبر الله سبحانه عن حال يوسف من حين بلوغه بأنه آتاه حكما وعلما والحكم هو العمل بالعلم وكلام الله صادق وخبره صحيح ووصفه حق فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنا وتحريم خيانة السيد في أهله فما تعرض لامرأة العزيز ولا أناب إلى المراودة بل أدبر عنها وفر منها حكمة خص بها وعمل بما علمه الله تعالى وهذا يطمس وجوه الجهلة من الناس والغفلة من العلماء في نسبتهم إلى الصديق ما لا يليق وأقل ما اقتحموا من ذلك هتك السراويل والهم بالفتك فيما رأوه من تأويل وحاشاه من ذلك فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفقهون حديثا يقولون فعل فعل والله تعالى إنما قال هم بها قال علماء الصوفية إن فائدة قوله تعالى ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما إن الله عز و جل أعطاه العلم والحكمة بأن غلب الشهوة ليكون ذلك سببا للعصمة انتهى والكاف من قوله تعالى كذلك لنصرف عنه السوء متعلقة بمضمر تقديره جرت أفعالنا واقدارنا كذلك لنصرف ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير عصمتنا له كذلك وقرأ ابن كثير وغيره المخلصين بكسر اللام في سائر القرآن ونافع وغيره بفتحها
وقوله تعالى واستبقا الباب الآية معناه سابق كل واحد منهما صاحبه إلى الباب هي لترده إلى نفسها وهو ليهرب عنها فقبضت في أعلى فميصه فتخرق القميص عند طوقه ونزل التخريق إلى أسفل القميص قال البخاري وألفيا أي وجدا الفوا آباءهم وجدوهم انتهى والقد القطع وأكثر مايستعمل فيما كان طولا والقط يستعمل فيماكان عرضا والفيا وجدا والسيد الزوج قاله زيد ابن ثابت ومجاهد وقوله سبحانه قالت ماجزاء من أراد بأهلك سوء الآية قال نوف الشامي كان يوسف عليه السلام لم يبن على كشف القصة فلما بغت عليه غضب فقال الحق فأخبر أنها هي راودته عن نفسه فروي أن الشاهد كان ابن (2/233)
عمها قال انظروا إلى القميص وقال ابن عباس كان رجلا من خاصة الملك وقاله مجاهد وغيره والضمير في رأى هو العزيز وهو القائل أنه من كيدكن قاله الطبري وقيل بل الشاهد قال ذلك ونزع بهذه الآية من يرى الحكم بالإمارة من العلماء فإنها معتمدهم ويوسف في قوله يوسف أعرض عن هذا منادى قال ابن عباس ناداه الشاهد وهو الرجل الذي كان مع العزيز وأعرض عن هذا معناه عن الكلام به أي أكتمه ولا تتحدث به ثم رجع إليها فقال واستغفري لذنبك أي استغفري زوجك وسيدك وقال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات لأن الخاطئين أعم
وقوله سبحانه وقال نسوة في المدينة أمرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه نسوة جمع قلة وجمع التكثير نساء ويروى أن هؤلاء النسوة كن أربعا امرأة خبازة وامرأة بوابة وامرأة سجانة والعزيز الملك والفتى الغلام وعرفه في المملوك ولكنه قد قيل في غير المملوك ومنه إذ قال موسى لفتاه واصل الفتى في اللغة الشاب ولكن لماكان جل الخدمة شبابا استعير لهم اسم الفتى وشغفها معناه بلغ حتى صار من قلبها موض الشغاف وهو على اكثر القول غلاف من أغشية القلب وقيل الشغاف سويداء القلب وقيل الشغاف داء يصل إلى القلب
فلما سمعت بمكرهن ارسلت اليهن ليحضرن
واعتدت لهن متكأ أي أعدت ويسرت ما يتكأ عليه من فرش ووسائد وغير ذلك وقرأ ابن عباس وغيره متكا بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف واختلف في معناه فقيل هو الاترنج وقيل هو اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين وقولها أخرج عليهن أمر ليوسف واطاعها بحسب الملك
وقوله أكبرنه معناه أعظمنه واستهولن جماله هذا قول الجمهور
وقطعن أيديهن أي كثرن الخز فيها بالسكاكين وقرأ أبو عمرو وحده حاشى لله وقرأ سائر السبعة حاش لله فمعنى حاش لله أي حاشى يوسف لطاعته لله أو (2/234)
لمكانه من الله أن يرمى بما رميته به أو يدعى إلى مثله لأن تلك أفعال البشر وهو ليس منهم إنما هو ملك هكا رتب بعضهم معنى هذا الكلام على القرائتين وقرأ الحسن وغيره ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم بكسر اللام من ملك وعلى هذه القراءة فالكلام فصيح لما استعظمن حسن صورته قلن ما هذا مما يصلح أن يكون عبدا بشرا إن هذا إلا مما يصلح أن يكون ملكا كريما ت وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ففتح لنا فإذا بيوسف صلى الله عليه و سلم وإذا هو قد اعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير انتهى وقولها فذلكن الذي لمتنني فيه المعنى فهذا الذي لمتنني فيه وقطعتن أيديكن بسببه هو الذي جعلني ضالة في هواه ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة واستأمنت اليهن في ذلك إذ علمت أنهن قد عذرنها
واستعصم معناه طلب العصمة وتمسك بها وعصاني ثم جعلت تتوعده وهو يسمع بقولها
ولئن لم يفعل ما ءامره إلى آخر الآية ت واعترض ص بأن تفسير استعصم باعتصم أولى من جعله للطلب إذ لا يلزم من طلب الشيء حصوله انتهى والام في ليسجنن لام قسم واللام الأولى هي المؤذنة بالمجيء بالقسم والصاغرون الأذلاء وقول يوسف عليه السلام رب السجن أحب إلى إلى قوله من الجاهلين كلام يتضمن التشكي إلى الله تعالى من حاله معهن وأصب مأخوذ من الصبوة وهي أفعال الصبا ومن ذلك قول دريد ابن الصمة ... صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاة قال للباطل أبعد ...
قال ص أصب معناه امل وهو جواب الشرط والصبابة إفراط الشوق انتهى
فاستجاب له ربه أي أجابه إلى ارادته وصرف عنه كيدهن في أن حال بينه وبين المعصية
وقوله سبحانه ثم بدا لهم من بعد ما رأوا (2/235)
الآيات ليسجننه حتى حين بدا معناه ظهر ولما أبى يوسف عليه السلام من المعصية ويئست منه امرأة العزيز طالبته بأن قالت لزوجها إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب أختياره وأنا محبوسة محجوبة فأما أذنت لي فخرجت إلى الناس فأعتذرت وكذبته وأما حبسته كما أنا محبوسة فحينئذ بدا لهم سجنه ع وليسجننه جملة دخلت عليها لام قسم والآيات ذكر فيها أهل التفسير أنها قد القميص وخمش الوجه وحز النساء أيديهن وكلام الصبي علىما روي قال ع ومقصد الكلام إنما هو أنهم رأوى سجنه بعد ظهور الآيات المبرئة له من التهمة فهكذا يبين ظلمهم له والحين في كلام العرب وفي هذه الآية الوقت من الزمان غير محدود يقع للقليل والكثير وذلك بين من موارده في القرآن
وقوله سبحانه ودخل معه السجن فتيان الآية المعنى فسجنوه فدخل معه السجن غلامان سجنا أيضا وروي أنهما كانا لملك الأعظم الوليد بن الريان أحدهما خبازه وأسمه مجلث والآخر ساقيه وأسمه نبو وروي أن الملك اتهمهما بأن الخباز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي فسجنهما قاله السدي فلما دخل يوسف السجن استمال الناس فيه بحسن حديثه وفضله ونبله وكان يسلي حزينهم ويعود مريضهم ويسأل لفقيرهم ويندبهم إلى الخير فأحبه الفتيان ولزماه وأحبه صاحب السجن والقيم عليه وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن أني اعبر الرؤيا وأجيد فروي عن ابن مسعود أن الفتيين استعملا هاتين المنامتين ليجرباه وروي عن مجاهد أنهما رأيا ذلك حقيقة فقال أحدهما اني اراني اعصر خمرا قيل فيه أنه سمى العنب خمرا بالمئال وقيل هي لغة ازد عمان يسمون العنب خمرا وفي قراءة أبي وابن مسعود أعصر عنبا وقوله أنا نراك من المحسنين قال الجمهور يريدان في العلم وقال الضحاك وقتادة المعنى من (2/236)
المحسنين في جريه مع أهل السجن واجماله معهم وقوله عز و جل قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما روي عن السدي وابن إسحاق أن يوسف عليه السلام لما علم شدة تعبير منامة الرأءى الخبز وأنها تؤذن بقتله ذهب إلى غير ذلك من الحديث عسى أن لا يطالباه بالتعبير فال لهما معلما بعظيم عمله للتعبير أنه لا يجيئكما طعام في نومكما تريان أنكما رزقتماه إلا أعلمتكما بتأويل الذي أعلمكما به فروي أنهما قالا ومن أي لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم فال لهما ذلك مما علمني ربي ثم نهض ينحى لهما على الكفر ويقبحه ويحسن الإيمان بالله فروي أنه قصد بذلك وجهين أحدهما تنسيتهما أمر تعبير ما سألا عنه إذ في ذلك النذارة بقتل أحدهما والآخر الطماعية في أيمانهما ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته وقال ابن جريج أراد يوسف عليه السلام لا يأتيكما طعام في اليقظة قال ع فعلى هذا إنما عليهم بأنه يعلم مغيبات لاتعلق لها برؤيا وقصد بذلك أحد الوجهين المتقدمين وهذا على ما روي أنه بنئ في السجن فأخباره كأخبرا عيسى عليه السلام وقوله تركت مع أنه لم يتشبث بها جائز صحيح وذلك أنه أخبر عن تجنبه من أول بالترك وساق لفظ الترك استجلابا لهما عسى أن يتركا الترك الحقيقي الذي هو بعد الأخذ في الشيء والقومالمتروك ملتهم الملك وأتباعه وقوله واتبعت الآية تماد من يوسف عليه السلام في دعائهما إلى الملة الحنيفية وقوله ماكان لنا أن نشرك بالله من شيء من هي الزائدة الموكدة التي تكون مع الحجود وقوله لا يشكرون يريد الشكر التام الذي فيه الإيمان بالله عز و جل وقوله يا صاحبي السجن ءارباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار وصفه لهما بصاحبي السجن (2/237)
من حيث سكناه كما قال أصحاب الجنة وأصحاب النار ونحو ذلك ويحتمل أن يريد صحبتهما له في السجن كأنه قال يا صاحباي في السجن وعرضه عليهما بطلان أمر الأوثان بأن وصفها بالتفرق ووصف الله تعالى بالوحدة والقهر تلطف حسن وأخذ بيسير الحجة قبل كثيرها الذي ربما نفرت منه طباع الجاهل وعاندته وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها ثم كذلك ابدا حتى يصل إلى الحق وإن أخذ الجاهل بجميع المذهب الذي يساق إليه دفعة أباه للحين وعانده ولقد ابتلى بارباب متفرقين من يخدم ابناء الدنيا ويؤملهم وقوله ما تعبدون من دونه إلا أسماء أي مسميات ويحتمل وهو الراجح المختار أن يريد ما تعبدون من دونه الوهية ولا لكم تعلق باله إلا بحسب أن سميتم أصنامكم آلهة فليست عبادتكم لا لله إلا بالاسم فقط لا بالحقيقة وأما الحقيقة فهي وسائر الحجارة والخشب سواء وإنما تعلقت عبادتكم بحسب الأسم الذي وضعتهم فذلك هو مبعودكم ومفعول سميتم الثاني محذوف تقديره آلهة هذا على أن الأسماء يراد بها ذوات الأصنام وأما على المعنى المختار من أن عبادتهم إنما هي لمعان تعطيها الأسماء وليست موجودة في الأصنام فقوله سميتموها بمنزلة وضعتموها أن الحكم إلا لله أي ليس لأصنامكم والقيم معناه المستقيم وأكثر الناس لا يعلمون لجهالتهم وكفرهم ثم نادى يا صاحبي السجن ثانية لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب فروي أنه قال لنبو أما أنت فتعوذ إلى مرتبتك وسقاية ربك وقال لمجلث أما أنت فتصلب وذلك كله بعد ثلاث فروي أنهما قالا له ما رأينا شيئا وإنما تحالمنا لنجربك وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب وقيل كأنا رأينا ثم أنكرا ثم أخبرهما يوسف عن غيب علمه من الله تعالى أن الأمر قد قضي ووافق القدر وقوله وقال للذين ظن أنه (2/238)
ناج منهما الآية الظن هنا بمعنى اليقين لأن ما تقدم من قوله قضى الأمر يلزم ذلك وقال قتادة الظن هنا على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن قال ع وقول يوسف عليه السلام قضي الأمر دال على وحي ولا يترتب قول قتادة إلا بإن يكون بعد وفي الآية تأويل آخر وهو أن يكون ن مسندا إلى الذي قيل له أه يسقى ربه خمرا لأنه داخله السرور بما بشر به وغلب على ظنه ومعتقده أنه ناج وقوله أذكرني عند ربك يحتمل أن يريد أن يذكره بعلمه ومكانته ويحتمل أن يذكره بمظلمته وما امتحن به بغير حق أو يذكره يحمله ذلك والضمير في انساه قيل هو عائد على يوسف أي نسي في ذلك الوقت أن يشتكي إلى الله فروي أن جبريل جاءه فعاتبه عن الله عز و جل في ذلك قيل أوحي إليه يا يوسف أتخذت من دوني وكيلا لا طيلن سبحانك والله أعلم بصحته وقيل الضمير في انساه عائد على الساقي قاله ابن إسحاق أي نسي ذكر يوسف عند ربه وهو الملك والبضع اختلف فيه والأكثر أنه من الثلاثة إلى العشرة قاله ابن عباس وعلى هذا فقه مذهب مالك في الدعاوي والإيمان وقال قتادة البضع من الثلاثة إلى التسعة ويقوى هذا قوله صلى الله عليه و سلم لأبي بكر الصديق في يقصة خطره مع قريش في غلبة الروم لفارس أما علمت أن البضع من الثلاث إلى التسع وقوله سبحانه وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف روي أنه قال رأيتها خارجة من نهر وخرجت وراءها سبع عجاف فأكلت تلك السمان وحصلت في بطونها ورأى السنابل أيضا كما ذكر والعجاف التي بلغت غاية الهزال ثم قال لحاضريه يا أيها الملأ افتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون وعبارة الرؤيا مأخذوة من عبر (2/239)
النهر وهو تجاوزه من شط إلى شط فكان عابر الرؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها قال ص وإنما لم يضف سبع إلى عجاف لأن اسم العدد لا يضاف إلى الصفة إلا في الشعر انتهى وقوله سبحانه قالوا أضغاث أحلام الآية الضعث في كلام العرب أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب ونحوه وربما كان ذلك من جنس واحد وربما كان من اخلاط النبات والمعنى أن هذا الذي رأيت أيها الملك اختلاط من الأحلام بسبب النوم ولسنا من أهل العلم بما هو مختلط ورديء والأحلام جمع حلم وهو ما يخيل إلى الإنسان في منامه والأحلام والرؤيا مما أثبتته الشريعة وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الرؤيا من الله وهي من المبشرة والحلم المحزن من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يكره فليتفل عن يساره ثلاث مرات وليقل أعوذ بالله من شر ما رأيت فإنه لا تضره وما كان عن حديث النفس في اليقظة فإنه لا يلتفت إليه ولما سمع الساقي الذي نجا هذه المقالة من الملك ومراجعة أصحابه تذكر يوسف وعلمه بالتأويل فقال مقالته في هذه الآية وادكر أصله اذتكر من الذكر فقلبت التءا دالا وأدغم الأول في الثاني وقرا جمهور الناس بعد أمة وهي المدة من الدهر وقرأ ابن عباس وجماعة بعد أمة وهو النسيان وقرأ مجاهد وشبل بعد أمة بسكون الميم وهو مصدر من أمه إذا نسي وبقوله أذكر يقوى قول من قال إن الضمير في أنساه عائد على الساقي والأمر محتمل وقرأ الجمهور انا انبئكم وقرأ الحسن بن أبي الحسن انا آتيكم وكذلك في مصحف أبي وقوله فارسلون استيذان في المضي وقوله يوسف أيها الصديق افتنا المعنى فجاء الرسول وهو الساقي إلى يوسف فقال له يوسف أيها الصديق وسماه صديقا من حيث كان جرب صدقه في غير ما شيء وهو بناء مبالغة من الصدق ثم قال له افتنا في سبع بقرات أي فيمن رأى في المنام سبع (2/240)
بقرات وقوله لعلهم يعلمون أي تأويل هذه الرؤيا فيزول هم الملك لذلك وهم الناس وقيل لعلهم يعلمون مكانتك من العلم وكنه فضلك فيكون ذلك سببا لتخلصك ودأبا معناه ملازمة لعادتكم في الزراعة وقوله فما حصدتم فذروه في سنبله إشارة برأيى نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة ابقائها في السنبل والمعنى أتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل فيجتمع الطعام هكذا ويتركب ويؤكل الأقدام فالأقدام وروي أن يوسف عليه السلام لما خرج ووصف هذا الترتيب للملك وأعجبه أمره قال له الملك قد اسندت إليك تولي هذا الأمر في الأطعمة هذه السنين المقبلة فكان هذا أول ما ولي يوسف وتحصنون معناه تحرزون وتخزنون قاله ابن عباس وهو مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ ومنه تحصن النساء لأنه بمعنى التحرز وقوله يغاث الناس جائز أن يكون من الغيث وهو قول ابن عباس وجمهور المفسرين أي يمطرون وجائز أن يكون من أغاثهم الله إذا فرج عنهم ومنه الغوث وهو الفرج وفيه يعصرون قال جمهور المفسرين هي من عصر النباتات كالزيتون والعنب والقصب والسمسم والفجل ومص ربلد عصر لأشياء كثيرة وقوله سبحانه وقال الملك ايتوني به فلما جاءه الرسول الآية لما رأى الملك وحاضروه نبل التعبير وحسن الرأي وتضمن الغيب في أمر العام الثامن مع ما وصف به من الصدق عظم يوسف في نفس الملك وقال ايتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك يعني الملك فسأله ما بال النسوة التي قطعن أيديهن وقصده عليه السلام بيان براءته وتحقق منزلته من العفة والخير فرسم القصة بطرف منها إذا وقع النظر عليه بأن الأمر كله ونكب عن ذكر امرأة العزيز حسن عشرة ورعاية لذمام ملك العزيز له وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن القاسم صاحب ملك عن النبي صلى الله (2/241)
عليه وسلم ولو لبثت في السجن لبث يوسف لاجبت الداعي المعنى لو كنت أنا لبادرت بالخروج ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك وذلك أن هذه القصص والنوازل إنما هي معرضة ليقتدي الناس بها إلى يوم القيامة فأراد صلى الله عليه و سلم حمل الناس على الاحزم من الأمور وذلك أن التارك لمثل هذه الفرصة ربما نتج له بسبب التأخير خلاف مقصوده وإن كان يوسف قد آمن ذلك بعلمه من الله فغيره من الناس لا يأمن ذلك فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه و سلم بنفسه إليها حالة حزم ومدح ليقتدى به وما فعله يوسف عليه السلام حالة صبر وتجلد قال ابن العربي في أحكامه وأنظر إلى عظيم حلم يوسف عليه السلام ووفرو أدبه كيف قال ما بال النسوة اللتي قطعن أيديهن فذكر النساء جملة لتدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح دون التصريح انتهى وهذه كانت أخلاق نبينا محمد صلى الله عليه و سلم لا يقابل أحد بمكروه وإنما يقول ما بال أقوام يفعلون كذا من غير تعيين وبالجملة فكل خصلة حميدة مذكورة في القرآن أتصف بها الأنبياء والأصفياء فقد أتصف بها نبينا محمد صلى الله عليه و سلم إذ كان خلقه القرآن كما روته عائشة في الصحيح وكما ذكر الله سبحانه اولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده انتهى وقوله إن ربي بكيدهن عليم فيه وعيد وقوله قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه المعنى فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن وقال لهن ما خطبكن الآين أي أي شيء كانت قصتكن فجاوب النساء بجواب جيد تظهر منه براءة أنفسهن واعطين يوسف بعض براءة فقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء فلماس معت امرأة العزيز مقالتهن وحيدتهن حضرتها نية وتحقيق فقالت الآن حصحص الحق أي تبين الحق بعد خفائه قاله الخليل وغيره قال البخاري حاش وحاشى تنزيه واستثناء وحصحص وضح انتهى ثم أقرت على نفسها (2/242)
بالمراودة والتزمت الذنب وابرأت يوسف البراءة التامة وقوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب إلى قوله ربي غفور رحيم اختلف فيه أهل التأويل هل هو من قول يوسف أو من قول امرأة العزيز وقوله سبحانه وقال الملك ايتوني به استخلصه لنفسي المعنى أن الملك لما تبينت له براءة يوسف وتحقق في القصة أمانته وفهم أيضا صبره وعلو همته عظمت عنده منزلته وتيقن حسن خلاله فقال ايتوني به استخلصه لنفسي فلما جاءه وكلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين أي متمكن مما أردت أمين على ما ائتمنت عليه من شيء أما أمانته فلظهور براءته وأما مكانته فلثبوت عفته وتراهته انتهى ولما فهم يوسف عليه السلام من الملك أنه عزم على تصريفه والاستعانة بنظره قال أجعلني على خزائن الأرض لما في ذلك من مصالح العباد قال ع وطلبه يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه السلام في رغبته في أن يقع العدل وجائز أيضا للمرء أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره والخزائن لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره وقوله سبحانه وكذلك مكنا ليوسف في الأرض الإشارة بذلك إلى جميع ما تقدم من جميل صنع الله به فروي أن العزيز مات في تلك الليالي وقال ابن إسحاق بل عزله الملك ثم مات اظفير فولاه الملك مكانه وزوجه زوجته فلما دخلت عليه عروسا قال لها أليس هذا خيرا مما كنت أردت فدخل يوسف بها فوجدها بكرا وولدت له ولدين وروي أيضا أن الملك عزل العزيز وولي يوسف موضعه ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع قال مجاهد وأسلم الملك آخر أمره ودرس أمر العزيز وذهبت دنياه ومات وافتقرت زوجته وشاخت فلما كان في بعض الأيام لقيت يوسف في طريق والجنود حوله ووراءه وعلى رأسه بنود عليها مكتب هذه سبيلي (2/243)
ادعوا إلى الله على بصيرة انا ومن ابعني وسبحان الله وما انا من المشركين فصاحب به وقالت سبحان الله من أعز العبيد بالطاعة وأذل الأرباب بالمعصية فعرفها وقالت له تعطف علي وارزقني شيئا فدعا له وكلمها واشفق لحالها ودعا الله تعالى فرد عليها جمالها وتزوجها وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته ويطول الكلام بسبوقه وباقي الآية بين واضح للمستبصرين ونور وشفاء لقلوب العارفين وقوله ليوسف ابو البقاء اللام زائدة أي مكنا يوسف ويجوز ألا تكون زائدة فالمفعول محذوف أي مكنا ليوسف الأمور انتهى وقوله عز و جل وجاء أخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون قال السدي وغيره سبب مجيئهم أن المجاعة اتصلت ببلادهم وكان الناس يمتارون من عند يوسف وهو في رتبة العزيز المتقدم وكان لا يعطى الوارد أكثر من حمل بعير يسوي بين الناس فلما ورد أخوته عرفهم ولم يعرفوه لبعد العهد وتغير سنه ولم يقع لهم بسبب ملكه ولسانه القبطي ظن عليه وروي في بعض القصص أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجيمع أمرهم فباحثهم بأن قال لهم بترجمان اظنكم جواسيس فاحتاجوا حينئذ إلى التعريف بأنفسهم فقالوا نحن أبناء رجل صديق وكنا اثني عشر ذهب منا واحد في البرية وبقي أصغرنا عند أبينا وجئنا نحن للميرة وسقنا بعير الباقي منا وكنا عشرة ولهم أحد عشر بعير فقال لهم يوسف ولم تخلف أحدكم قالوا لمحبة أبينا فيه قال فأتوا بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين وروي في القصص أنهم وردوا مصر واستأذنوا على العزيز وانتسبوا في الاستيذان فعرفهم وأمر بإنزالهم وأدخالهم في ثاني يوم على هيئة عظيمة لملكه وروي أنه كان متلثما ابدا سترا لجماله وأنه كان يأخذ الصلواع فينقره ويفهم من طنينه صدق الحديث من كذبه فسئلوا عن (2/244)
أخبارهم فكلما صدقوا قال لهم يوسف صدقتم فلما قالوا وكان لنا أخ أكله الذيب أطن يوسف الصواع وال كذبتم ثم تغير لهم وقال أراكم جواسيس وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم في ذلك في قصص طويل جاءت الإشارة إليه في القرآن والجهاز ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع وقوله بأخ لكم ص نكره ليريهم أنه لا يعرفه وفرق بين غلام لك وبين غلامك ففي الأول أنت جاهل به وفي الثاني أنت عالم لأن التعريف به يفيد نوع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب انتهى وقول يوسف ألا ترون أني أوفي الكيل الآية يرغبهم في نفسه آخرا ويؤنسهم ويستميلهم والنزلين يعني المضيفين ثم توعدهم بقوله فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون أي في المستأنف وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال كان يوسف يلقى حصاة في إناء فضة مخوص بالذهب فيظن فيقول لهم إن هذا الإناء يخبرني أن لكم أبا شيخا وروي أن ذلك الإناء به كان يكيل الطعام إظهارا لعزته بحسب غلائه وروي أن يوسف استوفى في تلك السنين أموال الناس ثم املاكهم وظاهر كل ما فعله يوسف معهم أنه بوحي وأمر وإلا فكان بر يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه لكن الله تعالى أعلمه بما يصنع ليكمل أجر يعقوب ومحنته وتتفسر الرؤيا الأولى وقوله لعلهم يعرفونها يريد لعلهم يعرفوا لها يدا وتكرمة يرون حقها فيرغبون في الرجوع إليناوأما ميز البضاعة فلا يقال فيه لعل وقيل قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوام ن أخذ الطعام بلا ثمن فيرجعوا لدفع الثمن وهذا ضعيف من وجوه وسرورهم بالبضاعة وقولهم هذه بضاعتنا ردت إلينا يكشف أن يوسف لم يقصد هذا وإنما قصد أن يستميلهم ويصلهم ويظهر أن ما فعله يوسف من صلتهم وجبرهم في تلك الشدة كان واجبا عليه وقيل علم عدم البضاعة والدرهم عند أبيه فرد البضاعة إليهم ليلا يمنعهم العدم من الرجوع إليه وقيل (2/245)
جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ليبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة والظاهر من القصة أنه إنما أراد الاستيلاف وصلة الرحم وأصل نكتل نكتئل وقولهم منع منا الكيل ظاهره أنهم أشاروا إلى قوله فلا كيل لكم عندي فهو خوف من المستأنف وقيل اشاروا إلى بعير يامين والأول أرجح ثم تضمنوا له حفظه وحيطته وقول يعقوب عليه السلام هل آمنكم عليه الآية هل توقيف وتقرير ولم يصرح بممنعهم من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة لكنه أعلمهم بقلة طمانينته إليهم ولكن ظاهر أمرهم أنهم قد أنابوا إلى الله سبحانه وانتقلت حالهم فلم يخف على يامين كخوفه على يوسف وقرأ نافع وغيره خير حفظا وقرأ حمزة وغيره خير حافظا ونصب ذلك في القراءتين على التمييز والمعنى أن حفظ الله خير من حفظكم فاستسلم يعقوب عليه السلام لله وتوكل عليه وقولهم ما نبغي يحتمل أن تكون ما استفهاما قاله قتادة ونبغي من البغية أي ماذا نطلب بعد هذه التكرمة هذا مالنا رد إلينا مع ميرتنا قال الزجاجويحتمل أن تكون مانافية أي ما بقي لنا ما نطلب ويحتمل أن تكون أيضا نافية ونبغي منا البغي أي ما تعدينا فكذبنا على هذا الملك ولا نفي وصف اجماله واكرامه هذه البضاعة ردت إلينا وقرأ أبو حيوة ما تبغي على مخاطبة يعقوب وهي بمعنى ما تريد وما تطلب وقولهم ونزدادكيل بعير يردون بعير أخيهم إذ كان يوسف إنما حمل لهم عشرة أبعرة ولم يحمل الحادي عشر لغيب صاحبه وقولهم ذلك كيل يسير قيل معناه يسير على يوسف أن يعطيه وقال السدي يسير أي سريع لا نحبس فيه ولا نمطل
وقوله تعالى فلما ءاتوه موثقهم فالآية أي لما عاهدوه اشهد الله بينه وبينهم بقوله الله على ما نقول وكيل والوكيل القيم الحافظ الضامن
وقوله إلا أن يحاط بكم لفظ عام لجميع وجوه الغلبة أنظر أن يعقوب عليه السلام قد توثق في هذه القصة وأشهد (2/246)
الله تعالى ووصى بنيه وأخبر بعد ذلك بتوكله فهذا توكل مع من سبب وهو توكل جميع المؤمنين إلا من شذ في رفض السعي بالكلية وقنع بالماء وبقل البرية فتلك غاية التوكل وعليها بعض الأنبياء عليهم السلام والشارعون منهممثبتون سنن التسبب الجائز قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي حمزة رضي الله عنه وقد أشتمل القرآن على أحكام عديدة فمنها التعلق بالله تعالى وترك الأسباب ومنها عمل الأسباب في الظاهر وخلو الباطن من التعلق بها وهو اجلها وازكاها لأن ذلك جمع بين الحكمة وحقيقة التوحيد وذلك لا يكون إلا للافذاذ الذين من الله عليهم بالتوفيق ولذلك مدح الله تعالى يعقوب عليه الصلاة و السلام في كتابه فقال وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون لأنه عمل الأسباب وأجتهد في توفيتها وهو مقتضى الحكمة ثم رد الأمر كله لله تعالى واستسلم إليه وهو حقيقة التوحيد فقال وما أغنى عنكم من الله من شيء أن الحكم إلا لله الآية فأنثى الله تعالى عليه من أجل جمعه بين هاتين الحالتين العظيمتين
وقوله لا تدخلوا من باب واحد قيل خشي عليهم العين لكونهم أحد عشر لرجل واحد وكانوا أهل جمال وبسطة قاله ابن عباس وغيره
وقوله سبحانه ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم روي أنه لما ودعوا أباهم قال لهم بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له أن أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا وفي كتاب أبي منصور المهراني أنه خاطبه بكتاب قرئى على يوسف فبكى
وقوله سبحانه ما كان يغنى عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها بمثابة قولهم لم يكن في ذلك دفع قدر الله بل كان أربا ليعقوب قضاه فالاستثناء ليس من الأول والحاجة هي ان يكون طيب النفس بدخولهم من أبواب متفرقة خوف العين ونظير هذا الفعل أن النبي صلى الله عليه و سلم سد كوة (2/247)
في قبر بحجر وقال إن هذا لا يغني شيئا ولكنه تطييب لنفس الحي ثم اثنى الله عز و جل على يعقوب بأنه لقن ما علمه الله من هذا المعنى وأن أكثر الناس ليس كذلك وقال قتادة معناه لعامل بما علمناه وقال سفيان من لا يعمل لا يكون عالما قال ع وهذا لا يعطيه اللفظ إما أنه صحيح في نفسه يرجحه المعنى وما تقتضيه منزلة يعقوب عليه السلام
وقوله اني الا اخوك قال ابن إسحاق وغيره أخبره بأنه أخوه حقيقة واستكتمه وقال له لا تبال بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم وكان يامين شقيق يوسف
وقوله فلا تبتئس بما كانوا يعملون يحتمل أن يشير إلى ما عمله الأخوة ويحتمل الإشارة إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية ونحو ذلك وتبتئس من البؤس أي لا تحزن ولا تهتم وهكذا عبر المفسرون
وقوله سبحانه فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون هذا من الكيد الذي يسره الله ليوسف عليه السلام وذلك أنه كان في دين يعقوب أن يستعبد السارق وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه العزم فعلم يوسف أن أخوته لثقتهم ببراءة ساحتهم سيدعون في السرقة إلى حكمهم فتحيل لذلك واستسهل الأمر على ما فيه من رمي ابرياء وادخال الهم على يعقوب وعليهم لما علم في ذلك من الصلاح في الآجل وبوحي لا محالة واردة من الله محنتهم بذلك والسقاية الإناء الذي به يشرب الملك وبه كان يكيل الطعام للناس هكذا نص جمهور المفسرين ابن عباس وغيره ووري أنه كان من فضة وهذا قول الجمهور وكان هذا الجعل بغير علم من يامين قاله السدي وهو الظاهر فلما فصلت العير باوقارها وخرجت من مصر فيما روي امر بهم فحبسوا واذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون ومخاطبة العير مجاز والمراد أربابها ت قال الهروي قوله تعالى ايتها العير الإبل (2/248)
والحمير التي يحمل عليها الأحمال وأراد أصحاب العير وهذا كقوله صلى الله عليه و سلم يا خيل الله أركبي أراد يا أصحاب خيل الله اكبي وأنت ايا لأنه للعير وهي جماعة انتهى فلما سمع أخوة يوسف هذه المقالة اقبلوا عليم وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة وقالوا ماذا تفقدون ليقع التفتيش فتظهر براءتهم ولم يلوذوا بالإنكار من أول بل سألوا إكمال الدعوى عسى أن يكون فيها ما تبطل به فلا يحتاج إلى خصام قالوا نفقد صواع الملك وهو المكيال وهو السقاية قال أبو عبيدة يؤنث الصواع من حيث سمي سقاية ويذكر من حيث هو صاع ت ولفظ أبي عبيدة الهروي قال الأخفش الصاع يذكر ويؤنث قال الله تعالى ثم استخرجهامن وعاء أخيه فانث وقال لمن جاء به حمل بعير فذكر لأنه عني به الصواع انتهى
وقوله ولمن جاء به حمل بعير أي لمن دل على سارقه وجبر الصواع وهذا جعل وقوله وأنا به زعيم حمالة قال مجاهد الزعيم هو المؤذن الذي قال أيتها العير والزعيم الضامن في كلام العرب
وقوله تعالى قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض روي أن أخوة يوسف كانوا ردوا البضاعة الموجودة في الرحال وتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فلذلك قالوا لقد علمتم أي لقدعلمتم منا التحري وروي أنهم كانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح وتعفف وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم ليلا تنال زروع الناس فلذلك قالوا لقد علمتم والتاء في تالله بدل من الواو ولا تدخل التاء في القسم إلا في هذا الإسم قال ابن العربي في أحكامه قال الطبري قوله تعالى قالوا جزاؤه من وجد في رحله على حذف مضاف تقديره جزاؤه استعباد أو استرقاق من وجد في رحله انتهى وقولهم كذلك نجزي الظالمين أي هذه سنتنا وديننا في أهل السرقة أن يتملك السارق كما تملك هو الشيء المسروق
وقوله سبحانه فبدأ بأوعيتهم الآية بدؤه أيضا (2/249)
من أوعيتهم تمكين للحيلة وإبعاد لظهور أنها حيلة وأضاف الله سحبانه الكيد إلى ضميره لما خرج القدر الذي أباح به ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتقاد الناس كيد وقال السدي والضحاك كدنا معناه صنعنا ودين الملك فسره ابن عباس بسلطانه وفسره قتادة بالقضاء والحكم وهذا متقارب قال ابن العربي في أحكامه قوله تعالى كذلك كذنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إذ كان الملك لا يرى استرقاق السارق وإنما كان دينه أن يأخذ المجني عليه من السارق مثلي السرقة إلا إن يشاء الله التزام الأخوة لدين يعقوب بالاسترقاق فقضى عليهم به انتهى قال ع والاستثناء في هذه الآية حكاية حال التقدير إلا أن يشاء الله وما وقع من هذه الحيلة وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده عن مالك عن زيد بن أسلم أنه قال في قوله عز و جل نرفع درجات من نشاء قال بالعلم انتهى من كتاب العلم وقوله سبحانه وفوق كل ذي علم عليم المعنى أن البشر في العلم درجات فكل عالم فلا بد من أعلم منه فأما من البشر وأما الله عز و جل فهذا تأويل الحسن وقتادة وابن عباس وروي أيضا عن ابن عباس إنما العليم الله وهو فوق كل ذي علم قال ابن عطاء الله في التنوير أعلم أن العلم حيث ما تكرر في الكتاب العزيز أو في السنة فإنما المراد به العلم النافع الذي تقارنه الخشية وتكتنفه المخافة انتهى قال الشيخ العراف أبو القاسم عبد الرحمن ابن يوسف اللجاءي رحمه الله إذا كملت للعبد ثلاث خصال وصدق فيهاتفجر العلم من قلبه على لسناه وهي الزهد والإخلاص والتقوى قال ولا مطمع في هذا العلم المذكور إلا بعد معالجة القلب من علله التي تشينه كالكبر والحسد والغضب والرياء والسمعة والمحمدة والجاه والشرف وعلو المنزلة والطمع والحرص والقسوة والمداهنة والحقد والعداوة وكل ما عددناه من العلل وما (2/250)
لم نعده راجع إلى أصل واحد وهو حب الدنيا لأن حبها عنه يتفرع كل شر وعنه يتشعب كل قبيح فإذا زالت هذه العل ظهر الصدق والإخلاص والتواضع والحلم والورع والقناعة والزهد والصبر والرضى والأنس والمحبة والشوق والتوكل والخشية والحزن وقصر الأمل ومزاج النية بالعلم فينبع العلم وينتفي الجهل ويضيء القلب بنور الاهي ويتلألأ الإيمان وتوضح المعرفة ويتسع اليقين ويتقوى الإلهام وتبدو الفراسات ويصفى السر وتتجلى الأسرار وتوجد الفوائد قال رحمه الله وليس بين العبد والترقي من سفل إلى علو الأ حب الدنيا فإن الترقي يتعذر من أجل حبها لأنها جاذبة إلى العالم الظلماني وطباع النفوس لذلك ماثلة فإن أردت أن تقتفي أثر الذاهبين إلى الله تعالى فاستخفف بدنياك وأنظرها بعين الزوال وأنزل نفسك عند أخذ القوت منها منزلة المضطر إلى الميتة والسلام انتهى وروي أن المفتش كان إذا فرغ من رحل رجل فلم يجد فيه شيئا استغفر الله عز و جل من فعله ذلك وظاهر كلام قتادةوغيره أن المستغفر هو يوسف حتى انتهى إلى رحل بنيامين فقال ما أظن هذا الفتى رضي بهذا ولا أخذ شيئا فقال له إخوته والله لا تبرح حتى تفتشه فهو أطيب لنفسك ونفوسنا ففتش حينئذ فأخرج السقاية وروي أن أخوة يوسف لما رأوا ذلك عنفوا بنيامين وقالوا له كيف سرقت هذه السقاية فقال لهم والله ما فعلت فقالوا له فمن وضعها في رحلك قال الذي وضع البضاعة في رحالكم والضمير في قوله استخرجها عائد على السقاية ويحتمل على السرقة وقوله سبحانه قالوا إن يسرق أي قالوا أخوة يوسف إن كان هذا قد سرق فغير بدع من ابني راحيل لأن أخه يوسف قد كان سرق فهذا من الأخوة إنحاء على ابني راحيل يوسف ويامين وهذه الأقوال منهم عليهم السلام إنما كانت بحسب الظاهر موجب الحكم في النازلتين فلم يعنوا في غيبة ليوسف وإنما قصدوا (2/251)
الأخبار بأمر جرى ليزول بعض المعرة عنهم ويختص بها هذان الشقيقان وأما ما روي في سرقة يوسف فالجمهور على أن عمته كانت ربته فلما شب أراد يعقوب أخذه منها فولعت به وأشفقت من فراقه فأخذت منطقة إسحاق وكانت متوارثة عندهم فنطقته بها من تحت ثيابه ثم صاحب وقالت إني قد فقدت المنطقة ويوسف قد خرج بها ففتشت فوجدت عنده فاسترقته حسب ما كان في شرعهم وبقي عندها حتى ماتت فصار عند أبيه وقوله فاسرها يوسف يعني أسر الخرة التي حدثت في نفسه من قول الأخوة وقوله أنتم شر مكانا الآية الظاهرمنه أنه قالها افصاحا كأنه أسر لهم كراهية مقالتهم ثم نجههم بوقهل أنتم شر مكانا أي لسوء أفعالكم والله أعلم إن كان ما وصفتموه حقا وفي اللفظ إشارة إلى تكذبيهم ومما يقوي هذا عندي أنهم تركوا الشفاعة بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة بأبيهم عليه السلام وقالت فرقة لم يقل هذا الكلام إلا في نفسه وأنه تفسير للذي أسر في نفسه فكأن المراد قال في نفسه انتم شر مكانا وذكر الطبري هنا قصصا اختصاره أنه لما استخرجت السقاية من رحل يامين قال أخوته يا بني راحيل لا يزال البلاء ينالنا من جهتكم فقال يامين بل بنو راحيل ينالهم البلاء منكم ذهبتم بأخي فأهكتموه ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم فقالوا لا تذكر الدراهم ليلا نؤخذ بها ثم دخلوا على يوسف فأخذ الصواع فنقره فظن فقال أنه يخبر أنكم ذهبتم بأخ لكم فبعتموه فسجد يامين وقال أيها العزيز سل سواعك هذا يخبرك بالحق في قصص يطول أثرنا اختصاره وروي أن روبيل غضب وقف شعره حتى خرج من ثيابه فأمر يوسف بنياله فمسه فسكن غضبه فقال روبيل لقد مسني أحد من ولد يعقوب ثم أنهم تشاوروا في محاربة يوسف وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذل فلما أحس يوسف بذلك قال إلى روبيل فلببه وصرعه فرأوا من قوته ما استعظموه وقالوا يا أيها العزيز (2/252)
الآية وخاطبوه باسم العزيز إذ كان في تلك الخطة بعزل الأول أو موته علىما روي في ذلك وقوله فخذ أحدنا مكانه يحتمل أن يكون ذلك منهم مجازا ويحتمل أن يكون حقيقة على طريق الحمالة حتى يصل يامين إلى أبيه ويعرف يعقوب جلية الأمر فمنع يوسف من ذلك وقال معاذ الله الآية وقوله سبحانه فلما استيأسوا منه الآية يقا يئس واستيأس بمعنى واحد قال البخاري خلصوا نجيا اعتزلوا والجمع أنجية وللأثنين والجمع نجي وأنجية انتهى وقال الهروي خلصوا نجيا أي تميزوا عن الناس متناجين انتهى وكبيرهم قال مجاهد هو شمعون كان كبيرهم رأيا وعلما وإن كان روبيل أسنهم وقال قتادة هو روبيل لأنه اسنهم وهذا أظهر ورجحه الطبري وذكرهم أخوهم ميثاق أبيهم لتأتننى به إلا أن يحاط بكم وقوله فلن أرح الأرض قال ص برح التامة بمعنى ذهب وظهر ومنه برح الخفاء أي ظهر والمتوجه هنا معنى ذهب لكنه لاينصب الظرف المكاني المختص إلا بواسطة فاحتيج إلى تضمينه معنى فارق والأرض مفعول به ولا يجوز أن تكون ابرح ناقصة انتهى وقوله ارجعوا إلى أبيكم الأمر بالرجوع قيل هو من قول كبيرهم وقيل من قول يوسف والأول أظهر وذكر الطبري أن يوسف قال لهم إذا أتيتم أباكم فاقرءوا عليه السلام وقولوا له إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله وقرأ الجمهور سرق وروي عن الكسائي وغيره سرق ببنائه للمفعول وما شهدنا إلا بما علمنا أي باعتبار الظاهر والعلم في الغيب إلى الله ليس ذلك في حفظنا هذا تأويل ابن إسحاق ثم استشهدوا بالقرية التي كانوا فيها وهي مصر قاله ابن عباس والمراد أهلها قال البخاري سولت أي زبنت وقوله يعقوب عسى الله أن يأتيني بهم جميعا يعني بيوسف ويامين وروبيل (2/253)
الذي لم يبرح الأرض ورجاؤه هذا من جهات منها حسن ظنه بالله سبحانه في كل حال ومنها رؤيا يوسف المتقدمة فإنه كان ينتظرها ومنها ما أخبروه عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه وقوله سبحانه وتولى عنهم أي زال بوجهه عنهم ملتجأ إلى الله وقال يا اسفى على يوسف قال الحسن خصت هذه الأمة بالاسترجاع ألا ترى إلى قول يعقوب يا اسفى قال ع والمراد يا اسفى لكن هذه لغة من يرد ياء الإضافة ألفا نحو يا غلاما ويا ابتا ولا يبعد أن يجتمع الاسترجاع ويا اسفى لهذه الأمة وليعقوب عليه السلام وروي أني عقوب عليه السلام حزم حزم سبعين ثكلى وأعطي أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله قط رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم وهو كظيم بمعنى كاظم كما قال والكاظمين الغيظ ووصف يعقوب بذلك لأنه لم يشك إلى أحد وإنما كان يكمد في نفسه ويمسك همه في صدره فكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ت وهذاينظر إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم القب يحزن والعين تدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب الحديث ذكر هذا صلى الله عليه و سلم عند موت ولده إبراهيم قال ابن المبارك في رقائقه أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى وأبيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قال كظم على الحزن فلم يقل إلا خيرا انتهى قال ابن العربي في أحكامه وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في أبنه إبراهيم أن العين دمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى الرب وانا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون وقال أيضا في الصحيح صلى الله عليه و سلم إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب وإنما يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم انتهى خرجه البخاري وغيره وقوله تعالى قالوا تالله تفتؤا الآية المعنى تالله لا تفتأ فتحذف لا في هذا الموضع من القسم لدلالة الكلام عليها فمن ذلك قول (2/254)
امرئي القيس ... فقلت يمين الله ابرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ...
ومنه قول الآخر ... تالله يبقى على الآيام ذو حيد ...
أراد لا أبرح ولا يبقى وفتضى بمنزلة زال وبرح في المعنى والعمل تقول والله لافتئت قاعدا كما تقول لا زلت ولا برحت وعبارة الداودي وعن ابن عباس تفتؤا أي لا زلا تذكر يوسف حتى تكون حرضا انتهى والحرض الذي قد نهاه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس يقال رجل حارض أي ذو هم وحزن ومنه قول الشاعر ... إني امرؤ لج بي حب فاحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم ...
والحرض بالجملة الذي فسد ودنا موته قال مجاهد الحرض ما دون الموت وفي حديث النبي صلى الله عليه و سلم ما من مؤمن يمرض حتى يحرضه المرض إلا غفر له انتهى من رقائق ابن المبارك ثم اجابهم يعقوب عليه السلام بقوله إنما اشكوا بثي وحزني إلى الله أي إني لست ممن يجزع ويضجر وإنما أشكوا إلى الله والبث ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أن يثبته وينشره وقالوا أبو عبيدة وغيره البث أشد الحزن قال الداودي عن ابن بير قال من بث فلم يصبر ثم قرأ إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله انتهى وقول وتيأسوامن روح الله الآية الروح الرحمة ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين إذ فيه ما التكذيب بالربوبية وأما الجهل بصفات الله تعالى والبضاعة القطعة من المال يقصد بها شراء شيء ولزمها عرف الفقه فيما لاحظ لحملها من الربح والمزجاة معناها المدفعوة المتحيل لها وبالجملة فمن يسوق شيئا ويتلطف في تسييره فقد ازجاه فإذا كانت الدراهم مدفوعة نازلة القدر تحتاج أنيعتذر معها ويشفع لها فهي مزجاة فقيل كان ذلك لأنها كانت زيوفا قاله (2/255)
ابن عباس وقيل كانت بضاعتهم عروضا وقولهم وتصدق علينا معناه ما بين الدراهم الجياد وبين هذه المزجاة قاله السدي وغيره وقال الداودي عن ابن جريج وتصدق علينا قال أردد علينا أخانا انتهى وهو حسن وقوله تعالى هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون روي أن يوسف عليه السلام لما قال له إخوته مسنا وأهلنا الضر واستعطفوه رق ورحمهم قال ابن إسحاق وأرفض دمعه باكيا فشرع في كشف أمره إليهم فروي أنه حسر قناعة وقال لهم هل علمتم الآيةوما فعلتم بيوسف وأخيه أي من التفريق بينهما في الصغر وما نالهما بسببكم من المحن غذ أنتم جاهلون نسبهم إما إلى جهل المعصية وإما إلى جهل الشباب وقلة الحنكة فلما خاطبهم هذه المخاطبة تنبهوا ووقع لهم الظن القوي وقرائن الحال أنه يوسف فقالوا ائنك لانت يوسف مستفهمين فأجباهم يوسف كاشفا أمره قال أنا يوسف وهذا أخي وباقي الآية بين وقوله سبحانه قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخطاطئين هذا منهم استنزال ليوسف وأقرار بالذنب في ضمنه استغفار منه وءاثرك لفظ يعم جميع التفضيل
وقوله لا تثريب عليكم عفو جميل وقال عكرمة أوحى الله إلى يوسف بعفوك عن أخوتك رفعت لك ذكرك والتثريب اللوم والعقوبة وماجرى معهما من سوء معتقد ونحوه وعبر بعض الناس عن التثريب بالتعيير ووقف بعض القرأة عليكم وابتدأ اليوم يغفر الله لكم ووقف أكثرهم اليوم وابتدأ يغفر الله لكم على جهة الدعاء هو تأويل ابن إسحاق والطبري وهو الصحيح الراجح في المعنى لأن الوقف الآخر فيه حكم على مغفرة الله اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي
وقوله إذهبوا بقميصى هذا فالقوه على وجه أبى قال النقاش روي أن هذا القميص كان من ثياب الجنة كساه الله إبراهيم ثم توارثه بنوه قال ع وهذا يحتاج إلى سند (2/256)
والظاهر أنه قميص يوسف كسائر القمص وقول يوسف يأت بصيرا فيه دليل على أن هذا كله بوحي وإعلام من الله تعالى وروي أن يعقوب وجد ريح يوسف وبينه وبين القميص مسيرة ثمانية أيام قاله ابن عباس وقال هاجت ريح فحملت عرفه وقول يعقوب إني لاجد ريح يوسف مخاطبة لحاضريه فروي أنهم كانوا حفدته وقيل كانوا بعض بنيه وقيل كانوا قرابته وتفندون معناه تردون رأيي وتدفعون في صدره وهذاهو التفنيذ لغة قال منذر بن سعيد يقال شيخ مفند أي قد فسد رأيه والذي يشبه أن تفتيدهم ليعقوب إنما كان لأنهم كانوا يعقتدون أن هواه قد غلبه في جانب يوسف وقال ص معنى تفندون تسفهون انتهى وقولهم إنك لفي ضلالك القديم يريدون لفي انتلافك في محبة يوسف وليس بالضلال الذي هو في العرف ضد الرشاد لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به
وقوله سبحانه فلما ان جاء البشير القاه على وجهه فارتد بصيرا روي عن ابن عباس أن البشير كان يهوذا لأنه كان جاء بقميص الدم وبصيرا معناه مبصرا وروي أنه قال للبشير على أي دين تركت يوسف قال على الإسلام قال الحمد لله الآن كملت النعمة
وقوله تعالى قالوا يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا الآية روي أن يوسف عليه السلام لما غفر لأخوته وتحققوا أن أباهم يغفر لهم قال بعضهم لبعض ما يغنى عنا هذا أن لم يغفر الله لنا فطلبوا حينئذ من يعقوب عليه السلام أن يطلب لهم المغفرة من الله تعالى واعترفوا بالخطأ فقال لهم يعقوب سوف استغفر لكم ربي ت وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعلي رضي الله عنه إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب وقد قال أخي يعقوب لنبيه سوف استغفر لكم ربي يقول حتى تأتي ليلة الجمعة وذكر الحديث رواه الترمذي وقال حسن غريب (2/257)
لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين وقال صحيح على شرط الشيخين يعني البخاري ومسلما انتهى من السلاح
وقوله سبحانه ءاوى إليه أبويه قال بن إسحاق والحسن أراد بالأبوين أباه وأمه وقيل أراد أباه وخالته قال ع والأول أظهر بحسب اللفظ إلا أن يثبت بسند أن أمه قد كانت ماتت
وقوله إن شاء الله هذا الاستثناء هو الذي ندب القرآن إليه أن يقوله الإنسان في جميع ما ينفذه في الستقبل والعرش سرير الملك وخروا له سجدا أي سجود تحية فقيل كان كالسجود المعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض وقيل بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك الزمان وأجمع المفسرون أنه كان سجود تحية لا سجود عبادة وقال الحسن الضمير في له لله عز و جل ورد هذا القول على الحسن
وقوله عز و جل وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا المعنى قال يوسف ليعقوب هذا السجود الذي كان منكم هو ما آلت إليه رؤياي قديما في الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر قد جعلها ربي حقا ثم أخذ عليه السلام يعدد نعم الله عليه وقال وقد أخرجني من السجن وترك ذكر أخراجه من الجب لأن في ذكره تجدبد فعل أخوته وخزيهم وتحريك تلك الغوائل وتخبيث النفوس ووجه آخر أنه خرج من الجب إلى الرق ومن السجن إلى الملك فالنعمة هنا واضح
أن ربي لطيف لما يشاء أي من الأمور أن يفعله
أنه هو العليم الحكيم قال ع ولا وجه في ترك تعريف يوسف أباه بحاله منذ خرج من السجن إلى العز إلا الوحي من الله تعالى لما أراد أن يمتحن به يعقوب وبنيه وأراد من صورة جمعهم لا إله إلا هو وقال النقاش كان ذلك الوحي في الجب وهو قوله سبحانه
وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وهذا محتمل
وقوله رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من (2/258)
تأويل الأحاديث الآية ذكر كثير من المفسرين أن يوسف عليه السلام لما عدد في هذه الآية نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولقاء الجلة وصالحي سلفه وغيرهم من المؤمنين ورأى أن الدنيا قليلة فتمنى الموت في قوله توفني مسلما والحقني بالصالحين وقال ابن عباس لم يتمن الموت نبيء غير يوسف وذكر المهدوي تأويلا آخر وهو الأقوى عندي أنه ليس في الآية تمني موت وإنما تمنى عليه السلام الموافاة على الإسلام لا الموت وكذا قال القرطبي في التذكرة أن معنى الآية إذا جاء أجلي توفني مسلما قال وهذا القول هو المختار عند أهل التأويل والله أعلم انتهى وقوله صلى الله عليه و سلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إنما يريد ضرر الدنيا كالفقر والمرض ونحو ذلك ويبقى تمني الموت مخافة فساد الدين مباحا وقد قال صلى الله عليه و سلم في بعض أدعيته وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون
وقوله أنت وليي أي القائم بأمري الكفيل بنصرتي ورحمتي
وقوله عز و جل ذلك من أبناء الغيب نوحيه إليك ذلك إشارة إلى ما تقدم من قصة يوسف وهذه الآية تعريض لقريش وتنبيه على آية صدق نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وفي ضمن ذلك الطعن على مكذبيه والضمير في لديهم عائد على أخوة يوسف واجمعوا معناه عزموا والأمر هنا هو إلقاء يوسف في الجب وحكى الطبري عن أبي عمران الجوني أنه قال والله ما قص الله نبأهم ليعيرهم أنهم الأنبياء من أهل الجنة ولكن الله قص علينا نبأهم ليلا يقنط عبده
وقوله سبحانه وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين الآية خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وقوله وما تسألهم عليه من أجر الآية توبيخ للكفرة وإقامة للحجة عليهم ثم ابتدأ الأخبار عن كتابه العزيز أنه ذكر وموعظة لجميع العالم نفعنا الله به ووفر حظنا منه
وقوله سبحانه وكأين من آية في السموات والأرض يعني بالآية هنا المخلوقات (2/259)
المنصوبة للاعتبار الدالة على توحيد خالقها سبحانه وفي مصحف عبد الله يمشون عليها
وقوله سبحانه وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال ابن عباس هي في أهل الكتاب وقال مجاهد وغيره هي في العرب وقيل نزلت بسبب قول قريش في الطواف التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا سمع أحدهم يقول لبيك لا شريك لك يقول له قط قط أي قف هنا لا تزد إلا شريكا هو لك والغاشية ما يغشى ويضى ويضم وبغتة أي فجأة وهذه الآية من قوله وكاين من آية وأن كانت في الكفار فإن العصاة يأخذون من ألفاظها بحظ ويكون الإيمان حقيقة والشرك لغويا كالرياء فقد قال عليه السلام الرياء الشرك الأصغر
وقوله سبحانه قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله الآية إشارة إلى دعوة الإسلام والشريعة بأسرها قال ابن زيد المعنى هذا أمري وسنتي ومنهاجي والبصيرة اسم لمعتقد الإنسان في الأمر من الحق واليقين
وقوله انا ومن اتبعني يحتمل أن يكون أنا تأكيد للضمير المستكن في أدعوا ومن معطوف عليه وذلك بأن تكون الأمة كلها أمرت بالمعروف داعية إلى الله الكفرة والعصاة قال ص ويجوز أن يكون أنا مبتدأ وعلى بصيرة خبر مقدم ومن معطوف عليه انتهى وسبحان الله تنزيه لله أي وقل سبحان الله متبريا من الشرك
وقوله سبحانه وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم الآية تتضمن الرد على من استغرب إرسال الرسل من البشر والقرى المدن قال الحسن لم يبعث الله رسولا قط من أهل البادية قال ع والتبدي مكروه إلا في الفتنة وحين يفر بالدين ولا يعترض هذا ببدو يعقوب لأن ذلك البدو لم يكن في أهل عمود بل هو بتقر وفي منازل وربوع وأيضا إنما جعله بدوا بالاضافة إلى مصر كما هي بنات الحواضر بدو (2/260)
بالإضافة إلى الحواضر ثم أحال سبحانه على الأعتبار في الأمم السالفة ثم حض سبحانه على الآخرة والأستعداد لها بقوله ولدار الآخرة خير الآية قال ص ولدار الآخرة خرجه الكوفيون على أنه من إضافة الموصوف لصفته وأصله وللدار الآخرة والبصريون على أنه من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه وأصله ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة انتهى وبتضمن قوله تعالى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوا اممهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات فصاروا في حيز من يعتبر بعاقبته فلهذا المضمن حسن أن ندخل حتى في قوله حتى إذا استيأس الرسل وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وظنوا أنهم قد كذبوا بتشديد الذال وقرأ الباقون كذبوا بضم الكاف وكسر الذال المخففة فأما الأولى فمعناها أن الرسل ظنوا أن أممهم قد كذبتهم والظن هنا يحتمل أن يكون بمعنى اليقين ويحتمل أن يكون الظن على بابه ومعنى القراءة الثانية على المشهور من قول ابن عباس وابن جبير أي حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيماأدعوه من النبوة أو فيما توعدوهم به من العذاب لما طال الامهال واتصلت العافية جاءهم نصرنا وأسند الطبري أن مسلم بن يسار قال لسعيد بن جبير يا أبا عبد الله آية بلغت مني كل مبلغ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا فهذا هو الموت أن تظن الرسل الرسل أنهم قد كذبوا مخففة فقال له ابن جبير يا أبا عبد الرحمن إنما يئس الرسل من قومهم أن يجيبوهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم فقام مسلم إلى سعيد فاعتنقه وقال فرجت عني فرج الله عنك قال ع فBهم كيف كان خلقهم في العلم وقال بهذا التأويل جماعة وهو الصواب وأما تأويل من قال أن المعنى وظنوا أنهم قد كذبهم من (2/261)
أخبرهم عن الله فغير صحيح ولا يجوز هذا على الرسل وأين العصمة والعلم ت قال عياض فإن قيل فما معنى قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا على قراءة التخفيف قلنا المعنى في ذلك ما قالته عائشة رضي الله عنها معاذ الله أن تظن الرسل ذلك بربها وإنما معنى ذلك أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وعدهم النصر من اتباعهم كذبوهم وعلى هذا أكثر المفسرين وقل الضمير في ظنوا عائد على الاتباع والأمم لا على الأنبياء والرسل وهو قول ابن عباس والنخعي وابن جبير وجماعة وبهذا المعنى قرأ مجاهد كذبوا بالفتح فلا تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء فكيف بالأنبياء انتهى من الشفا وقوله سبحانه جاءه نصرنا أي بتعذيب أممهم الكافرة فننجي من نشاء أي من اتباع الرسل ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين أي الكافرين والبأس
العذاب وقوله سبحانه لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب أي في قصص يوسف وأخوته وسائر الرسل الذين ذكروا على الجملة ولما كان ذلك كله في القرآن قال عنه ما كان حديثا يفترى والذي بين يديه التوراة والإنجيل وباقي الآية بين واضح ت كنت في وقت انظر في السيرة لأبن هشام وأتأمل في خطبة النبي صلى الله عليه و سلم وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فإذا هاتف يقول لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى وقد كان حصل في القلب عبرة في أمره صلى الله عليه و سلم وافاضل أصحابه رضي الله عنهم أجمعين وسلك بنا مناهجهم المرضية والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما (2/262)
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الرعد
قيل مكية إلا بعض آيات وقيل مدنية والظاهر أن المدني فيها كثير
قوله عز و جل المر تلك ءايات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق قال ابن عباس هذه الحروف هي من قوله انا الله اعلم وأرى
وقوله سبحانه الله الذي رفع السموات بغير عمد الآية قال جمهور الناس لا عمد للسموات البتة وهذا هو الحق والعمد اسم جمع
وقوله سبحانه ثم استوى على العرش ثم هنا لعطف الجمل لا للترتيب لأن الاستواء على العرش قبل رفع السماوات ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وقد تقدم القول في هذا وفي معنى الاستواء ت والمعتقد في هذا أنه سبحانه مستو على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته كان الله ولا شيء معه كان سبحانه قبل أن يخلق المكان والزمان وهو الآن على ما عليه كان
وقوله سبحانه وسخر الشمس والقمر تنبيه على القدرة وفي ضمن الشمس والقمر والكواكب ولذلك قال كل يجرى أي كل ما هو في معنى الشمس والقمر والأجل المسمى هو إنقضاء الدنيا وفساد هذه البنية يدبر الأمر معناه يبرمه وينفذه وعبر بالتدبير تقريبا للفهام وقال مجاهد يدبر الأمر معناه (2/263)
يقضيه وحده ولعلكم بلقاء ربكم توقنون أي توقنون بالبعث
وقوله سبحانه وهوالذي مد الأرض وجعل فيها رواسي لما فرغت آيات السماء ذكرت آيات الأرض والرواسي الجبال الثابتة
وقوله سبحانه جعل فيها زوجين أثنين الزوج في هذه الآية الصنف والنوع وليس بالزوج المعروف في المتلازمين الفردين من الحيوان وغيره ومنه قوله سبحانه سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض الآية ومنه وانبتنا فيه من كل زوج بهيج وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة فموجود منها نوعان فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية وقطع جمع قطعة وهي الأجزاء وقيد منها في هذا المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض لأن اختلاف ذلك في الأكل اغرب وقرأ الجمهور وجنات بالرفع عطفا على قطع وقرأ نافع وغيره وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان بالخفض في الكل عطفا على اعناب وقرأ ابن كثير وغيره وزرع بالرفع في الكل عطفا على قطع وصنوان جمع صنو وهو الفرع يكون مع الآخر في اصل واحد قال البراء بن عازب الصنوان المجتمع وغير الصنوان المفترق فردا فردا وفي الصحيح العم صنو الأب وإنما نص على الصنوان في هذه الآية لأنهابمثابة التجاور في القطع تظهر فيها غرابة اختلاف الأكل والأكل بضم الهمزة اسم ما يؤكل والكل المصدر وحكى الطبري عن ابن عباس وغيره قطع متجاورات أي واحدة سبخة وأخرى عذبة ونحو هذا من القول وقال قتادة المعنى قرى متجاورات قال ع وهذا وجه من العبرة كأنه قال وفي الأرض قطع مختلفات بتخصيص الله لها بمعان فهي تسقى بماء واحد ولكن تختلف فيما تخرجه والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور أنها من تربة واحدة ونوع واحد وموضع العبرة في هذا ابين وعلى المعنى الأول قال الحسن هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم (2/264)
الأرض واحدة وينزل عليها ماء واحد من السماء فتخرج هذه زهرة وثمرة وتخرج هذه سبخة وملحا وخبثا وكذلك الناس خلقوا من آدم فنزلت عليهم من السماء تذكرة فرقت قلوب وخشعت وقست قلوب ولهت قال الحسن فوالله ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قال الله تعالى وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
وقوله سبحانه وان تعجب فعجب قولهم ائذا كنا ترابا انا لفي خلق جديد المعنى وان تعجب يا محمد من جهالتهم واعراضهم عن الحق فهم أهل لذلك وعجب غريب قولهم انعود بعد كوننا ترابا خلقا جديد
اولائك الذين كفروا بربهم لتصميمهم على الجحود وانكارهم للبعث
واولائك الاغلال في اعناقهم أي في الآخرة ويحتمل أن يكون خبرا عن كونهم مغللين عن الإيمان كقوله تعالى انا جعلنا في اعناقهم أغلال فهي إلى الأذقان فهم مقمحون
وقوله سبحانه ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة الآية تبيين لخطاهم كطلبهم سقوط كسف من السماء وقولهم امطر علينا حجارة من السماء ونحو هذا مع نزول ذلك باناس كثير وقرأ الجمهور المثلات بفتح الميم وضم الثاء وقرأ مجاهد المثلات بفتح الميم والثاء أي الاخذة الفذة بالعقوبة ثم رجى سبحانه بقوله وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ثم خوف بقوله وان ربك لشديد العقاب قال ابن المسيب لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لولا عفو الله ومغفرته ما تهنأ أحد عيشا ولولا عقابه لاتكل كل احد وقال ابن عباس ليس في القرآن ارجى من هذه الآية والمثلات هي العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلا يتمثل به ومنه التمثيل بالقتلى ومنه المثلة بالعبيد
ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه هذه من اقتراحاتهم والآية هنا يراد بها الأشياء التي سمتها قريش كالملك والكنز وغير ذلك ثم أخبر تعالى بأنه (2/265)
منذر وهاد قال عكرمة وأبو الضحى المراد بالهادي محمد صلى الله عليه و سلم فهاد عطف على منذر كانه قال إنما أنت منذر وهاد لكل قوم وهاد على هذا التأويل بمعنى داع إلى طريق الهدى وقال مجاهد وابن زيد المعنى إنما أنت منذر ولكل أمة سلفت هاد أي نبيء يدعوهم أي فليس أمرك يا محمد ببدع ولا منكر وهذا يشبه غرض الآية وقالت فرقة الهادي في هذه
الآية الله عز و جل والألفاظ تقلق بهذا المعنى ويعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع والقولان الأولان أرجح ما تأول في الآية وقوله سبحانه اله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد هذه الآيات أمثال منبهات على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث وما تغيض الأرحام معناه ما تنقص ثم أختلف المتأولون في صورة الزيادة والنقصان وجمهور المتأولين على أن غيض الرحم هو نقص الدم على الحمل وقال الضحاك غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد والزيادة أن تضعه لمدة كامله ونحوه لقتادة
وقوله وكل شيء عنده بمقدار عام في كل ما يدخله التقدير والغيب ما غاب عن الأدراكات والشهادة ما شوهد من
الأمور وقوله الكبير صفة تعظيم والمتعال من العلو
وقوله سبحانه سواء منكم من أسر القول الآية أي لا يخفى على الله شيء والسارب في اللغة المتصرف كيف شاء
وقوله سبحانه له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله المعنى جعل الله للعبد معقبات يحفظونه في كل حال من كل ما جرى القدر باندفاعه فإذا جاء المقدور الواقع اسلم المرء إليه والمعقبات على هذا التأويل الحفظة على العباد أعمالهم والحفظة لهم أيضا قاله الحسن وروى فيه عن عثمان بن عفان حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم وهذا أقوى التأويلات في الآية وعبارة البخاري معقبات ملائكة حفظة يعقب الأول منها الآخر انتهى وقالت فرقة الضمير في له عائد على اسم الله (2/266)
المتقدم ذكره أي لله معقبات يحفظون عبده والضمير في قوله يديه وما بعده من الضمائر عائد على العبد ثم ذكر سبحانه أنه لايغير هذه الحالة من الحفظ للعبد حتى يغير العبد ما بنفسه والمعقبات الجماعات التي يعقب بعضها بعضا وهي الملائكة وينظر هذا إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار الحديث وفي قراءة أبي بن كعب من بين يديه ورقيب من خلفه وقرأ ابن عباس ورقباء من خلفه يحفظونه بأمر الله وقوله يحفظونه أي يحرسونه ويذبون عنه ويحفظون أيضا أعماله ثم أخبر تعالى أنه إذا أراد بقوم سوءا فلا مرد له ولا حفظ منه
وقوله سبحانه هو الذي يريكم البرق الآية قد تقدم في أول البقرة تفسيره والظاهر أن الخوف إنما هو من صواعق البرق فالطمع في الماء الذي يكون معه وهو قول الحسن والسحاب جمع سحابة ولذلك جمع الصفة والثقال معناه بحمل الماء قاله قتادة ومجاهد والعرب تصفها بذلك وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا سمع الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده وقال ابن أبي زكريا من قال إذا سمع الرعد سبحان اله وبحمده لم تصبه صاعقة ت وعن عبد الله بن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سمع الرعد والصواعق قال اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك رواه الترمذي والنسائي والحكم في المستدرك ولفظهم واحد انتهى من السلاح قال الداودي وعن ابن عباس قال من سمع الرعد فقال سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته انتهى
وقوله سبحانه ويرسل الصواعق الآية قال ابن جريج كان سبب نزولها قصة اربد وعامر بن الطفيل سألا النبي صلى الله عليه و سلم أن يجعل الأمر بعده لعامر بن الطفيل ويدخلا في دينه فأبى عليه السلام ثم تؤامر في قتل النبي صلى الله عليه و سلم فقال (2/267)
عامر لاربد أنا أشغله لك بالحديث واضربه أنت بالسيف فجعل عامر يحدثه واربد لا يصنع شيئا فلما انصرفا قال له عامر والله يا اربد لاخفتك أبدا ولقد كنت أخافك قبل هذا فقال له أربد والله لقد أردت أخراج السيف فما قدرت على ذلك ولقد كنت أراك بيني وبينه أفأضربك فمضيا للحشد على النبي صلى الله عليه و سلم فأصابت أربد صاعقة فقتلته والمحال القوة والاهلاك ت وفي صحيح البخاري المحال العقوبة
وقوله عز و جل له دعوة الحق الضمير في له عائد على اسم الله عز و جل قال ابن عباس ودعوة الحق لا إله إلا الله يريد وما كان من الشريعة في معناها
وقوله والذين يراد به ما عبد من دون الله والضمير في يدعون لكفار قريش وغيرهم ومعنى الكلام والذين يدعونهم الكفار في حوائجهم ومنافعهم لا يجيبونهم بشيء إلا ثم مثلا سبحانه مثالا لاجابتهم بالذي يبسط كفيه نحو الماء ويشير إليه بالاقبال إلى فيه فلا يبلغ فمه أبدا فكذلك اجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع
وقوله هو يريد به الماء وهو البالغ والضمير في بالغة لفهم ويصح ان يكون هو يراد به الفم وهو البالغ أيضا والضمير في بالغة للماء لأن الفم لا يلغ الماء أبدا على تلك الحال ثم أخبر سبحانه عن دعاء الكافرين أنه في انتلاف وضلال لا يفيد
وقوله تعالى ولله يسجد من في السموات والأرض الآية تنبيه على قدرته وعظمته سبحانه وتسخير الأشياء له والطعن على الكفار التاركين للسجود ومن تقع على الملائكة عموما وسجودهم طلوع وأما أهل الأرض فالمؤمنون داخلون في من وسجودهم أيضا طوع وأما سجود الكفرة فهو الكره وذلك على معنيين فإن جعلنا السجود هذه الهيئة المعهودة فالمراد من الكفرة من اسلم خوف سيف الإسلام كما قاله قتادة وأن جعلنا السجود الخضوع والتذلل حسب ما هو في اللغة (2/268)
فيدخل الكفار أجمعون في من لأنه ليس من كافر إلا ويلحقه من التدلل والاستكانه لقدرة الله تعالى أنواع أكثر من أن تحصى بحسب رزاياه واعتباراته
وقوله سبحانه وظلالهم بالغدو والآصال أخبار عن أن الضلال لها سجود لله تعالى كقوله تعالى أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ضلاله الآية وقال مجاهد ظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره وروي أنا الكافر إذا سجد لصنمه فإن ظله يسجد لله حينئذ وباقي الآية بين ثم مثل الكفار والمؤمنين بقوله قل هل يستوي الأعمى والبصير وشبه الكافر بالأعمى والكفر بالظلمات وشبه المؤمن بالبصير والإيمان بالنور
وقوله سبحانه قل الله خالق كل شيء لفظ عام يراد به الخصوص كما تقدم ذكره في غير هذا الموضع
وقوله سبحانه أنزل من السماء ماء يريد به المطر
فسألت اودية بقدرها الأودية ما بين الجبال من الأنخفاض والخنادق وقوله بقدرها يحتمل أن يريد بما قدر لها من الماء ويحتمل أن ريد بقدر ماتحمله على قدر صغرها وكبرها ت وقوله فأحتمل بمعنى حمل كاقدر وقدر قاله ص والزبد ما يحمله السيل من غثاء ونحوه والرابي المنتفخ الذي قد ربا ومنه الربوة
وقوله سبحانه ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أومتاع زبد مثله المعنى ومن الأشياء التي توقدون عليها ابتغاء الحلي وهي الذهب والفضة أو ابتغاء الأستمتاع بها في المرافق وهي الحديد والرصاص والنحاس ونحوها من الأشياء التي توقدون عليها فأخبر تعالى أن من هذا أيضا إذا أحمي عليها يكون لها زبد مماثل للزبد الذي يحمله السيل ثم ضرب سبحانه ذلك مثلا للحق والباطل أي أن الماء الذي تشربه الأرض من السيل فيقع النفع به هو كالحق والزبد الذي يخمد وينفش ويذهب هو كالباطل وكذلك ما يخلص من الذهب والفضة والحديد ونحوه هو كالحق وما يذهب في الدخان هو كالباطل
وقوله جفاء (2/269)
مصدر من قولهم اجفأت القدر إذا غلت حتى خرج زبدها وذهب وقال ص جفاء حال أي مضمحلا متلاشيا أبو البقاء وهمزته منقلبة عن واو وقيل أصل انتهى
وقوله ما ينفع الناس يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار
وقوله سبحانه للذين استجابوا لربهم الحسنى ابتداء كلام والحسنى الجنة
والذين لم يستجيبوا هم الكفرة
وسوء الحساب هو التقصي على المحاسب وأن لا يقع في حسابه من التجاوز شيء قاله شهر بن حوشب والنخعي وفرقد السنجي وغيرهم
وقوله سبحانه أفمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كم هو أعمى المعنى أسواء من هداه الله فعلم صدق نبوتك وآمن بك كمن هو أعمى البصيرة باق على كفره روي أن هذه الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل وهي بعد هذا مثال في جميع العالم
إنما يتذكر أولو الألباب إنما في هذه الآية حاصرة أي إنما يتذكر فيؤمن ويراقب الله من له لب ثم أخذ في وصفهم فقال الذين يوفون بعهد الله الآية قال الثعلبي قال عبد الله بن المبارك هذه ثمان خلال مسيرة إلى ثمانية أبواب الجنة وقال أبو بكر الوراق هذه ثمان جسور فمن أراد القربة من الله عبرها انتهى وباقي الآية ألفاظها واضحة وأنوارها لذوي البصائر لائحة
ويدرءون يدفعون قال الغزالي لما ذكر هذه الآية والذي ءاثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب انتهى وجنات بدل من عبقى وتفسير لها
وعدن هي مدينة الجنة ووسطها ومعناها جنات الأقامة من عدن في المكان إذا أقام فيه طويلا ومنه المعادن وجنات عدن يقال هي مسكن الأنبياء والشهداء والعلماء فقط قاله عبد الله بن عمرو بن العاص ويروى أن لهاخمسة آلاف باب
وقوله ومن صلح أي عمل صالحا
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم (2/270)
أي يقولون سلام عليكم والمعنى هذا بما صبرتم وباقي الآية واضح
وقوله سبحانه والذين ينقضون عهد الله الآية هذه صفة حال مضادة للمتقدمة نعوذ بالله من سخطه
وقوله سبحانه الله يبسط الرزق لمن يشاء الآية لما أخبر عن من تقدم وصفه بأن لهم اللعنة وسوء الدار أنحى بعد ذلك على أغنيائهم وحقر شأنهم وشأن أموالهم المعنى أن هذا كله بمشيئة الله يهب الكافر المال ليهلكه به ويقدر على المؤمن ليعظم بذلك أجره وذخره وقوله ويقدر من التقدير المناقض للبسط والاتساع ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه ءاية من ربه قل إن الله يضل من يشاء الآية رد على مقترحي الآيات من كفار قريش كما تقدم
وقوله سبحانه الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الذين بدل من من في قوله من أناب وطمأنينة القلوب هي الاستكانة والسرور بذكر الله والسكون به كمالا به ورضى بالثواب عليه وجودة اليقين ثم قال سبحانه الا بذكر الله تطمئن القلوب أي لا بالآيات المقترحة التي ربماكفر بعدها فنزل العذاب
والذين الثاني مبتدأ وخبره طوبى لهم واختلف في معنى طوبى فقال ابن عباس طوبى اسم الجنة بالحبشية وقيل طوبى اسم الجنة بالهندية وقيل طوبى اسم شجرة في الجنة وبهذا تواترت الأحاديث قال رسول الله صلى الله عليه و سلم طوبى اسم شجرة في الجنة يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها الحديث قال ص طوبى فعل من الطيب والجمهور أنهامفردة مصدر كسقيا وبشرى قال الضحاك ومعناها غبطة لهم قال القرطبي والصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع انتهى ت وروى الشيخ الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن الخطيب البغدادي في تاريخه عن شيخه أبي نعيم الأصبهاني بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أن رجلا قال له يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك قال (2/271)
طوبى لمن رآني وآمن بي ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني فقال له رجل يا رسول الله ما طوبى قال شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها انتهى من ترجمة أحمد بن الحسن
وقوله تعالى كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم أي كما أجرينا عادتنا كذلك أرسلناك الاية
وقوله وهم يكفرون بالرحمن قال قتادة نزلت في قريش لما كتب في الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم في قصة الحديبية فقال قائلهم نحن لا نعرف الرحمن قال ع وذلك منهم اباية اسم فقط وهروب عن هذه العبارة التي لم يعرفوها إلا من قبل النبي عليه السلام والمتاب المرجع كالمآب لأن التوبة هي الرجوع
وقوله سبحانه ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض الآية قال ابن عباس وغيره أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم أزح عنا وسير جبلي مكة فقد ضيقا علينا وأجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث وأحي لنا آباءنا وأجدادنا وفلانا وفلانا فنزلت الآية في ذكل معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله
وقوله تعالى افلم ييأس الذين ءامنوا الآية ييأس معناه يعلم وهي لغة هوازن وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وجماعة أفلم يتبين ثم أخبر سبحانه عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا النبي صلى الله عليه و سلم وغزواته ثم قال او تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم هذا تأويل ابن عباس وغيره وقال الحسن بن ابي الحسن المعنى أو تحل القارعة قريبا من دارهم ووعد الله على قوله ابن عباس وغيره هو فتح مكة وقال الحسن الآية عامة في الكفار إلى يوم القيامة وان حال الكفرة هكذا هي إلى يوم القيامة ووعد الله قيام الساعة والقارعة الرزية التي تقرع قلب صاحبها
وقوله سبحانه ولقد استهزئى برسل الآية تأنيس وتسليه له عليه السلام قال البخاري فأمليت أي (2/272)
أطلت من الملي والملاوة ومنه مليا ويقال للواسع الطويل من الأرض ملى من الأرض انتهى
وقوله تعالى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أي أهو أحق بالعبادة أم الجمادات
وقوله قل سموهم أي سموا من له صفات يستحق بها الألوهية ومكرهم يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانت بسبيل المناقضة الشرع
ولهم عذاب في الحيواة الدنيا أي بالقتل والأسر والجدوب وغير ذلك وأشق من المشقة أي أصعب والواقي الساتر على جهة الحماية من الوقاية وقوله سبحانه مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها قد تقدم تفسير نظيره وقوله أكلها معناه ما يؤكل فيها
وقوله سبحانه والذين آتيناهم الكتاب يفرحون الآية قال ابن زيد المراد بالآية من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره قال ع والمعنى مدحهم وباقي الآية بين
وقوله سبحانه يمحوا الله ما يشاء ويثبت المعنى أن الله سبحانه يمحو من الأمور ما يشاء ويغيرها عن أحوالها مما سبق في علمه محوه وتغييره ويثبتها في الحالة التي ينقلها إليها حسب ما سبق في علمه قال ع وأصوب ما يفسر به أم الكتاب أنه كتاب الأمور المجزومة التي قد سبق في القضاء فيها بما هو كائن وسبق أن لا تبدل ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت قال نحوه قتادة وقوله سبحانه واما نرينك بعض الذي نعدهم ان شرط دخلت عليها ما
وقوله أو نتوفينك أو عاطفة
وقوله فإنما جواب الشرط ومعنى الآية أن نبقك يا محمد لترى بعض الذي نعدهم أو نتوفينك قبل ذلك فعلى كلا الوجهين فإنما يلزمك البلاغ فقط والضمير في قوله أو لم يروا عائد على كفار قريش كالذي في نعدهم وقوله نأتي معناه بالقدرة والأمر
والأرض يريد بها اسم الجنس وقيل يريد أرض الكفار المذكورين المعنى أو لم يروا (2/273)
انا نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك فننقصها بما يدخل في دينك من القبائل والبلاد المجاورة لهم فما يؤمنهم أن نمكنك منهم أيضا قاله ابن عباس وهذا على أن الآية مدنية ومن قال أن الأرض اسم جنس جعل انتقاص الأرض بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفار وقيل الانتقاص بموت البشر ونقص الثمار والبركة وقيل بموت العلماء والأخيار قاله ابن عباس أيضا وكل ما ذكر يدخل في لفظ الآية وجملة معنى هذه الآية الموعظة وضرب المثل وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب العلم بسنده عن عطاء بن أبي رباح في معنى ننقصها من أطرافها قال بذهاب فقهائها وخيار أهلها وعن وكيع نحوه وقال الحسن نقصانها هو بظهور المسلمين على المشركين قال أبو عمر وقول عطاء في تأويل الآية حسن جدا تلقاه أهل العلم بالقبول وقوله الحسن أيضا حسن انتهى
وقوله سبحانه فلله المكر جميعا أي العقوبات التي أحلها بهم وسماها مكرا على عرف تسمية العقوبة بأسم الذنب وباقي الآية تحذير ووعيد
ويقول الذين كفروا لست مرسلا المعنى ويكذبك يا محمد هؤلاء الكفرة ويقولون لست مرسلا قل كفا بالله شهيدا أي شاهد بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب قال قتادة يريد من آمن منهم كعبد الله بن سلام وغيره كمل تفسير السورة وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة إبراهيم عليه السلام
هذه السورة مكية إلا آيتين وهما قوله عز و جل الم ترى إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا إلى آخر الآيتين ذكره مكي والنقاش قوله عز و جل الر كتاب (2/274)
أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور قال القاضي بن الطيب وأبو المعالي وغيرهما أن الأنزال لم يتعلق بالكلام القديم الذي هو صفة الذات لكن بالمعاني التي أفهمها الله تعالى جبريل عليه السلام من الكلام
وقوله لتخرج الناس من الظلمات إلى النور هذه اللفظة تشريف للنبي صلى الله عليه و سلم وعم الناس إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق وقرأن نافع وابن عامر الله الذي له ما في السموات وما في الأرض برفع اسم الله على القطع والابتداء وقرأ الباقون بخفض الهاء
وويل معناه وشدة وبلاء وباقي الآية بين
وقوله سبحانه وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم الآية هذه الآية طعن ورد علىالمستغربين أمر محمد صلى الله عليه و سلم وباقي الآية بين
وقوله سبحانه لموسى وذكرهم بأيام الله أي عظهم بالتهديد بنقم الله التي أحلها بالأمم الكافرة قبلهم وبالتعديد لنعمه عليهم وعبر عن النعم والنقم بالأيام إذ هي في أيام وفي هذه العبارة تعظيم هذه الكوائن المذكر بها وفي الحديث الصحيح بينما موسى في قومه يذكرهم أيام الله الحديث في قصة موسى مع الخضر قال عياض في الاكمال أيام الله نعماؤه وبلاؤه انتهى وقال الداودي وعن النبي صلى الله عليه و سلم وذكرهم بأيام الله قال بنعم الله وعن قتادة لآيات لكل صبار شكور قال نعم والله العبد إذا ابتلي صبر وإذا أعطي شكر انتهى وقال ابن العربي في أحكامه وفي أيام الله قولان أحدهما نعمه والثاني نقمه انتهى
وقوله وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم الآية تأذن بمعنى أذن أي أعلم قال بعض العلماء الزيادة على الشكر ليست في الدنيا وإنما هي من نعم الآخرة والدنيا أهون من ذلك قال ع وجائز أن يزيد الله المؤمن على شكره من نعم الدنيا والآخرة والكفر هنا يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون كفر النعم لا كفر الجحد وفي الآية ترجية (2/275)
وتخويف وحكى الطبري عن سفيان وعن الحسن أنهما قالا معنى الآية لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي قال ع وضعفه الطبري وليس كما قال بل هو قوي حسن فتأمله ت وتضعيف الطبري بين من حيث التخصيص والأصل التعميم
وقوله الم يأتكم هذا أيضا من التذكير بأيام الله
وقوله سبحانه فردوا أيديهم في أفواههم قل معناه ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت وقال الحسن ردوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتا لهم وهذا أشنع في الرد
وقوله عز و جل قالت رسلهم أفي الله شك التقدير أفي إلاهية الله شك أو أفي وحدانية الله شك وما في قوله ما ءاذتمونا مصدرية ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي قال الداودي عن أبي عبيدة لمن خاف مقامي مجازه حيث أقيمه بين يدي للحساب انتهى قال عبد الحق في العاقبة قال الربيع بن خيثم من خاف الوعيد قرب عليه البعيد ومن طال أمله ساء عمله انتهى وباقي الآية بين
وقوله سبحانه واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد استفتحوا أي طلبوا الحكم والفتاح الحاكم والمعنى أن الرسل استفتحوا أي سألوا الله تبارك وتعالى إنفاذ الحكم بنصرهم وقيل بل استفتح الكفار على نحو قول قريش عجل لنا قطنا وعلىنحو قول أبي جهل يوم بدر اللهم اقطعنا للزحم وأتينا بما لا نعرف فاحنه الغداة وهذا قول ابن زيد وقرأت فرقة واستفتحوا بكسر التاء على معنى الأمر للرسل وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وخاب معناه خسر ولم ينجح والجبار المتعظم في نفسه والعنيد الذي يعاند ولا يناقد
وقوله من ورائه قال الطبري وغيره معناه من أمامه وعلى ذلك حملوا قوله تعالى وكان وراءهم ملك وليس الأمر كما ذكروا بل الوراء هنا وهناك على بابه أي هو ما يأتي بعد في الزمان وذلك أن التقدير في هذه الحوادث بالأمام (2/276)
والوراء إنما هو الزمان وما تقدم فهو أمام وهو بين اليد كما نقول في التوراة والأنجيل أنهما بين يدي القرآن والقرآن وراءهما وعلى هذا فما تأخر في الزمان فهو وراء المتقدم
ويسقى من ماء صديد الصديد القيح والدم وهو ما يسيل من أجساد أهل النار قاله مجاهد والضحاك
وقوله يتجرعه ولا يكاد يسيغه عبارة عن صعوبة أمره عليهم وروي أن الكافر يؤتى بالشربة من شراب أهل النار فيتكرهها فإذا ادنيت منه شوت وجهه وسقطت فيها فروة رأسه فإذا شربها قطعت أمعاءه وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله عز و جل
ويأتيه الموت من كل مكان أي من كل شعرة في بدنه قاله إبراهيم التيمي وقيل من جميع جهاته الست
ما هو بميت لا يراح بالموت ومن ورائه عذاب غليظ قال الفضيل بن عياض العذاب الغليظ حبس الأنفاس في الأجساد وفي الحديث تخرج عنق من النار تكلم بلسان طلق ذلق لها عينان تبصر بهما ولها لسان تكلم به فتقول أني أمرت بمن جعل مع الله إلها آخر وبكل جبار عنيد وبمن قتل نفسا بغير نفس فتنطلق بهم قبل سائر الناس بخمس مائة عام فتنطوي عليهم فتقذفهم في جهنم خرجه البزار انتهى من الكوكب الدري
وقوله في يوم عاصف وصف اليوم بالعصوف وهي من صفات الريح بالحقيقة لما كانت في اليوم كقول الشاعر
... ونمت وما ليل المطي بنائم ...
وباقي الآية بين وبرزوا لله جميعا معناه صاروا في البراز وهي الأرض المتسعة فقال الضعفاء وهم الاتباع للذين استكبروا وهم القادة وأهل الرأي وقولهم سواء علينا اجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيض المفر والملجأ مأخوذ من حاص يحيص إذ نفر وفر ومنه في حديث هرقل فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب وروي عن ابن زيد وعن محمد بن كعب أن اهل النار يقولون إنما نال أهل الجنة الرحمة (2/277)
بالصبر على طاعة الله فتعالوا فلنصبر فيصبرون خمس مائة سنة فلا ينثعون فيقولون هلم فلنجزع فيضجون ويصيحون ويبكون خمس مائة سنة أخرى فحينئذ يقولون هذه المقالة سواء علينا الآية وظاهر الآية أنهم إنما يقولونها في موقف العرض وقت البروز بين يدي الله عز و جل
وقوله عز و جل وقال الشيطان لما قضي الأمر المراد هنا بالشيطان إبليس الإقدام وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم من طريق عقبة بن عامر أنه قال يقوم يوم القيامة خطيبان أحدهما إبليس يقوم في الكفرة بهذه الألفاظ والثاني عيسى بن مريم يقوم بقوله ما قلت لهم إلا ما أمرتني به الآية وروي في حديث أن ابليس إنما يقوم بهذه الألفاظ في النار على أهلها عند قولهم مالنا من محيص في الآية المتقدمة فعلى هذه الرواية يكون معنى قوله قضي الأمر أي حصل أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة وهو تأويل الطبري
وقوله وما كان لي عليكم من سلطان أي من حجة بينة وإلا أن دعوتكم استثناء منقطع ويحتمل أن يريد بالسلطان في هذه الآية الغلبة والقدرة والملك أي ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة مني بل عرضت عليكم شيئا فأتى رأيكم عليه
وقوله فلا تلوموني يريد بزعمه إذ لا ذنب لي ولوموا أنفسكم أي في سوء نظركم في اتباعي وقله تثبتكم
ما أنابمصرخكم المصرخ المغيث والصارخ المستغيث وأما الصريخ فهو مصدر بمنزلة البريح
وقوله إني كفرت بما اشركتمون ما مصدرية وكأنه يقول إني الآن كافر باشراككم أياي مع الله قبل هذا الوقت فهذا تبر منه وقد قال تعالى ويوم القيامة يكفرون بشرككم وقوله عز و جل وادخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم الأذن هنا عبارة عن القضاء والأمضاء وقوله سبحانه ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة (2/278)
ألم تر بمعنى ألم تعلم قال ابن عباس وغيره الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله مثلها الله سبحانه بالشجرة الطيبة وهي النخلة في قول أكثر المتأولين فكان هذه الكلمة أصلها ثابت في قلوب المؤمنين وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية وأنواع الحسنات هو فرعها يصعد إلى السماء من قبل العبد والحين القطعة من الزمان غير محدودة كقوله تعالى ولتعلمن نبأه بعد حين وقد تقتضي لفظة الحين بقرينتها تحديدا كهذه الآية والكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر وما قاربها من كلام السوء في الظلم ونحوه والشجرة الخبيثة قال أكثر المفسرين هي شجرة الحنظل ورواه أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم وهذا عندي على جهة المثل
أجتثت أي اقتعلت جثتها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهن والضعف فتقلبها أقل ريح فالكافر يرى أن بيده شيئا وهو لا يستقر ولا يغنى عنه كهذه الشجرة الذي يظن بها على بعد أو للجهل بها أنهاشيء نافع وهي خبيثة الجنى غير باقية
وقوله سبحانه يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة القول الثابت في الحياة الدنيا كلمة الأخلاص والنجاة من النار لا إله إلا الله والأقرار بالنبوة وهذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة قال طاوس وقتادة وجمهور العلماء الحياة الدنيا هي مدة حياة الإنسان وفي الآخرة وقت سؤاله في قبره وقال البراء بن عازب وجماعة في الحياة الدنيا هي وقت سؤاله في قبره ورواه البراء عن النبي صلى الله عليه و سلم في لفظ متأول وفي الآخرة هو يوم القيامة عند العرض والأول أحسن ورجحه الطبري ت ولفظ البخاري عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة (2/279)
انتهى وحديث البراء خرجه البخاري ومسلم وابو داود والسنائي وابن ماجه قال صاحب التذكرة وقد روى هذا الحديث أبو هريرة وابن مسعود وابن عباس وأبو سعيد الخدري قال أبو سعيد الخدري كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا أيها الناس أن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الأنسان دفن وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فاقعده فقال ما تقول في هذا الرجل الحديث وفيه قال بعص أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ما أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم الدينا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء انتهى قال أبو عمر بن عبد البر وروينا من طرق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمر كيف بك يا عمر إذا جاءك منكر ونكير إذا مت وأنطلق بك قومك فقاسوا ثلاثة أذرع وشبرا في ذراع وشبر ثم غسلوك وكفنوك وحنطوك ثم احتملوك فوضعوك فيه ثم أهالوا عليك التراب فإذا انصرفوا عنك أتاك فتانا القبر منكر ونكير اصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف يجران شعورهما معهما مرزبة لو أجتمع عليها أهل الأرض لم يقلبوها فقال عمر يا رسول الله أن فرقنا فحق لنا أن نفرق انبعث على ما نحن عليه قال نعم إن شاء الله قال إذن اكفيكهما انتهى والظالمون في هذه الآية الكافرون
ويفعل الله ما يشاء أي بحق الملك فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه وجاءت أحاديث صحيحة في مسايلة العبد في قبره وجماعة السنة تقول أن الله سبحانه يخلق للعبد في قبره ادراكات وتحصيلا أما بحياة كالمتعارفة وإما بحضور النفس وان لم تتلبس بالجسد كالعرف كل هذا جائز في قدرة الله تبارك وتعالى غير أن في الأحاديث الصحيحة أنه يسمع خفق النعال ومنها أنه يرى الضوء كأن الشمس دنت للغروب وفيها أنه يراجع (2/280)
وفيها فيعاد روحه إلى جسده وهذا كله يتضمن الحياة فسبحان من له هذه القدرة العظيمة
وقوله سبحانه ألم تر إلىالذين بدلوا نعمت الله كفرا المراد بالذين بدلوا نعمة الله كفرة قريش وقد خرجه البخاري وغيره مسندا عن أبن عباس انتهى والتقدير بدلوا شكر نعمته الله كفرا ونعمة الله تعالى في هذه الآية هو محمد صلى الله عليه و سلم ودينه
وأحلوا قومهم أي من أطاعهم وكأن الإشارة والتعنيف إنما هو للرءوس والأعلام
والبوار الهلاك قال عطاء بن يسار نزلت هذه الآية في قتلى بدر والأنداد جمع ند وهو المثيل والمراد الأصنام واللام في قوله ليضلوا بضم الياء لام كي وبفتحها لام عاقبة وصيرورة والقراءتان سبعيتان
سبحانه قل لعبادي الذين ءامنوا يقيموا الصلوة الآية العباد جمع عبد وعرفه في التكرمة بخلاف العبيد والسر صدقة التنفل والعلانية المفروضة هذا هو مقتضى الأحاديث وفسر ابن عباس هذه الآية بزكاةا الأموال مجملا وكذلك فسر الصلاة بأنها الخمس وهذا عندي منه تقريب للمخاطب والخلال مصدر من خالل إذا واد وصافى ومنه الخلة والخليل والمراد بهذا اليوم يوم القيامة
وقوله سبحانه الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم هذه الآية تذكير بآلائه سبحانه وتنبيه على قدرته التي فيها إحسان إلى البشر لتقوم الحجة عليهم
وقوله بأمره مصدر أمر يأمر وهذا راجع إلى الكلام القديم القائم بالذات ودائبين معناه متماديين ومنه قوله صلى الله عليه و سلم لصاحب الجمل الذي بكى واجهش إليه أن هذا الجمل شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه أي تديمه في الخدمة والعمل وظاهر الآية أن معناه دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة وعن ابن عباس أنه قال معناه دائبين في طاعة الله
وقوله سبحانه وءاتاكم (2/281)
من كل ما سألتموه المعنى أن جنس الإنسان بجملته قد أوتي من كل ما شأنه أن يسأل وينتفع به وقرأ ابن عباس وغيره من كل ما سألتموه بتنوين كل ورويت عن نافع
وقوله تعالى وأن تعدوا نعمت الله لا تحصوها أي لكثرتها وعظمها في الحواس والقوى والإيجاد بعد العدم والهداية للإيمان وغير ذلك وقال طلق بن حبيب أن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين ت ومن الكلم الفارقية أيها الحريص على نيل عاجل حظه ومراده الغافل عن الاستعداد لمعاده تنبيه لعظمة من وجودك بإيجاده وبقاؤك بارفاده ودوامك بإمداده أنت طفل في حجر لطفه ومهد عطفه وحضانة حفظه يغذك بلبان بره ويقلبك بأدي أياديه وفضله وأنت غافل عن تعظيم أمره جاهل بما أولاك من لطيف سره وفضلك به على كثير من خلقه أذكر عهد الإيجاد ودوام الأمداد والأرفاد وحالتي الاصدار والإيراد وفاتحة المبدا وخاتمة المعاد انتهى
وقوله سبحانه إن الإنسان يريد به النوع والجنس المعنى توجد فيه هذه الخلال وهي الظلم والكفر فإن كانت هذه الخلال من جاحد فهي بصفة وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى
وقوله سبحانه وإذ قال إبراهيم رب أجعل هذا البلد آمنا تقدم تفسيره
وقوله واجنبني وبني أن نعبد الأصنام واجنبني معناه امنعني يقال جنبه كذا واجبنه وجنبه إذا منعه من الأمر وضماه منه ت وكذا قال ص واجنبني معناه أمنعني أصله من الجانب وعبارة المهدوي أي أجعلني جابنا من عبادتها وقال الثعلبي واجنبني أي بعدني وأجعلني منها على جانب بعيد انتهى وهذه الألفاظ كلها متقاربة المعاني وأراد إبراهيم عليه السلام بني صلبه وأما باقي نسله فمنهم من عبد الأصنام وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي افراط خوفه على نفسه ومن حصل في رتبته فكيف يخاف (2/282)
أن يعبد صنما لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في الخوف وطلب حسن الخاتمة والأصنام هي المنحوتة على خلقة البشر وما كان منحوتا على غير خلقه البشر فهي أوثان قاله الطبري عن مجاهد ونسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيرا من الناس تجوزا وحقيقة الأضلال إنما هي لمخترعها سبحانه وقيل أراد بالأصنام هنا الدنانير والدراهم
وقوله ومن عصاني ظاهره بالكفر لمعادلة قوله فمن تبعني فإنه مني وإذا كان ذلك كذلك فقوله فإنك غفور رحيم معناه بتوبتك على الكفرة حتى يؤمنوا لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر وحمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب صلى الله عليه و سلم قال قتادة اسمعوا قول الخليل صلى الله عليه و سلم والله ما كانوا طعانين ولا لعانين وكلك قول نبي الله عيسى عليه السلام وأن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم وأسند الطبري عن عبد الله بن عمرو حديثا أن النبي صلى الله عليه و سلم تلا هاتين الآيتين ثم دعا لأمته فبشر فيهم وكان إبراهيم التيمي يقول من يأمن على نفسه بعدخوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام
وقوله ومن ذريتي يريد إسماعيل عليه السلام وذلك أن سارة لما غارت بهاجر بعد أن ولدت إسماعيل تشوش قلب إبراهيم منهما فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة فتركهما هناك وركب منصرفا من يومه ذلك وكان ذلك كله بوحي من الله تعالى فلما ولى دعا بمضمن هذه الآية وأما كيفية بقاء هاجر وما صنعت وسائر خبر إسماعيل ففي كتاب البخاري وغيره وفي السير ذكر ذلك كله مستوعبا ت وفي صحيح البخاري من حديث الطويل في قصة إبراهيم مع هاجر وولدها لما حملهما إلى مكة قال وليس بمكة يومئذ أحد وليس فيها ماء فوضعهما هنالك ووضع (2/283)
عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه انيس ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له ءالله أمرك بهذا قال نعم قالت إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعاء بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم حتى بلغ يشكرون الحديث بطوله وفي طريق قالت يا إبراهيم إلى من تتركنا قال إلى الله عز و جل قالت رضيت انتهى وفي هذا الحديث من الفوائد لارباب القلوب والمتوكلين وأهل الثقة بالله سبحانه ما يطول بنا سردها فاليك استخراجها ولما انقطعت هاجر وابنها إلى الله تعالى ءاواهما الله وأنبع لهما ماء زمزم المبارك الذي جعله غذاء قال ابن العربي وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم ماء زمزم لما شرب له قال ابن العربي ولقد كنت مقيما بمكة سنة سبع وثمانين وأربعمائة وكنت أشرب ماء زمزم كثيرا وكلما شربت نويت به العلم والإيمان ونسيت أن أشربه للعمل ففتح لي في العلم ويالتني شربته لهما معا حتى يفتح لي فيهما ولم يقدر فكان صغوي إلى العلم أكثر منه إلى العمل انتهى من الأحكام ومن في قوله ومن ذريتي للتبعيض لأن إسحاق كان بالشام والوادي ما بين الجبلين وليس من شرطه أن يكون فيه ماء وجمعه الضمير في قوله ليقيموا يدل على أن الله قد أعلمه أن ذلك الطفل سيعقب هناك ويكون له نسل واللام في ليقيموا لام كي هذا هو الظاهر ويصح أن تكون لام الأمر كأنه رغب إلى الله سبحانه أن يوفقهم لآقامة الصلاة والأفئدة القلوب جمع فؤاد سمي بذلك لاتقاده مأخوذ من فأد ومنه المفتأد وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم
وقوله من الناس تبعيض ومراده المؤمنون وباقي الآية بين (2/284)
وقوله رب اجعلني مقيم الصلوة دعاء إبراهيم عليه السلام في أمر كان مثابرا عليه متمسكا به ومتى دعا الإنسان في مثل هذا فإنما المقصد أدامة ذلك الأمر واستمراره قال السهيلي قوله تعالى رب أجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي بحرف التبعيض ولذلك أسلم بعض ذريته دون بعض انتهى وفاقا لما تقدم الآن
وقوله ربنا اغفر لي ولوالدي أختلف في تأويل ذلك فقالت فرقة كان ذلك قبل يأسه من إيمان أبيه وتبينه أنه عدو لله فأراد أباه وأمه لأنها كانت مؤمنة وقيل أراد آدم ونوحا عليهما السلام وقرأ الزهري وغيره ولولدي على أنه دعاء لأسماعيل وإسحاق وأنكرهما عاصم الجحدري وقال أن في مصحف أبي بن كعب ولأبوي
وقوله عز و جل ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يوخرهم الآية هذه الآية بجملتها فيها وعيد للظالمين وتسلية للمظلومين والخطاب بقوله تحسبن للنبي صلى الله عليه و سلم وتشخص فيه الأبصار معناه تحد النظر لفرط الفزع ولفرظ ذلك يشخص المحتضر والمهطع المسرع في مشيه قاله ابن جبير وغيره وذلك بذلة واستكانه كاسراع الأسير ونحوه وهذا أرجح الأقوال وقال ابن عباس وغيره الأهطاع شدة النظر من غير أن يطرف وقال ابن زيد المهطع الذي لا يرفع رأسه قال أبو عبيدة قد يكون الأهطاع للوجهين جميعا الأسراع وأدامة النظر والمقنع هوالذي يرفع رأسه قدما بوجهه نحو الشيء ومن ذلك قول الشاعر ... يباكرن العضاه بمقنعات ... نواجذهن كالحد الوقيع ...
يصف الإبل عند رعيها أعالي الشجر وقال الحسن في تفسير هذه الآية وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وذكر المبرد فيما حكي عنه مكي أن الأقناع يوجد في كلام العرب بمعنى خفض الرأس من الذلة قال ع والأول أشهر
وقوله سبحانه لا يرتد إليهم طرفهم أي لا يطرفون من الحذر والجزع (2/285)
وشدة الحال
وقوله وافئدتهم هواء تشبيه محض وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فراغ الأفئدة من الخير والرجاء والطمع في الرحمة فهي متخرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وأنخراقه ويحتمل أن تكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم وأنها تذهب وتجيء وتبلغ على ما روي حناجرهم فهي في ذلك كالهواء الذي هو ابدأ في اضطراب
وقوله سبحانه وانذر الناس يوم يأيتهم العذاب المراد باليوم يوم القيامة ونصبه على أنه معفول بأنذر ولا يجوز أن يكون ظرفا لأن القيامة ليست بموطن أنذار قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة يجب التصديق بكل ما أخبر الله ورسوله به ولا يتعرض إلى الكيفية في كل ماء جاء من أمر الساعة وأحوال يوم القيامة فإنه أمر لا تسعه العقول وطلب الكيفية فيه ضعف في الإيمان وإنما يجب الجزم بالتصديق بجميع ما أخبر الله به انتهى قال الغزالي فأعلم العلماء وأعرف الحكماء ينكشف له عقيب الموت من العجائب والآيات ما لم يخطر قط بباله ولا اختلج به ضميره فلو لم يكن للعاقل هم ولا غم إلا التفكر في خطر تلك الأحوال وما الذي ينكشف عنه الغطاء من شقاوة لازمة أو سعادة دائمة لكان ذلك كافيا في استغراق جميع العمر والعجب من غفلتنا وهذه العظائم بين أيدينا انتهى من الأحياء
وقوله أو لم تكونوا الآية معناه يقال لهم
وقوله ما لكم من زوال هو المقسم عليه وهذه الآية ناظرة إلىما حكى الله سبحانه عنهم في قوله وأقسموا بالله جهدا إيمانهم لا يبعث الله من يموت
وقوله سبحانه وسكنتم الآية المعنى يقول الله عز و جل وسكنتم أيها المعرضون عن آيات الله من جميع العالم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر من الأمم السالفة فنزلت بهم المثلات فكان حقكم الأعتبار والأتعاظ
وقوله وعند الله مكرهم أي جزاء مكرهم وقرأ (2/286)
السبعة سوى الكسائي وإن كان مكرهم لتزول بكسر اللام من لتزول وفتح الأخيرة وهذا على ما تكون أن نافيه بمعنى ما ومعنى الآية تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله بها التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها هذا هو تأويل الحسن وجماعة المفسرين وتحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم أي وإن كان شديدا وقرأ الكسائي وإن كان مكرهم لتزول من منه الجبال بفتح اللام الأولى من لتزول وضم الأخيرة وهي قراءة ابن عباس وغيره ومعنى الآية تعظيم مكرهم وشدته أي أنه مما يشقى به ويزيل الجبال عن مستقراتها لقوته ولكن الله تعال أبطله ونصر أولياءه وهذا أشد في العبرة وقرأ علي وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبي وإن كاد مكرهم وذكر أبو حاتم أن في قراءة أبي ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال
وقوله سبحانه فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله الآية تثبيت للنبي صلى الله عليه و سلم ولغيره من أمته ولم يكن النبي عليه السلام ممن يحسبن مثل هذا ولكن خرجت العبارة هكذا والمارد بما فيها من الزجر غيره إن الله عزيز لا يمتنع منه شيء ذو انتقام من الكفرة
وقوله سبحانه يوم تبدل الأرض الآية يوم ظرف للأنتقام المذكور قبله وروي في تبديل الأرض أخبار منها في الصحيح يبدل الله هذه الأرض بأرض عفراء بيضاء كأنها قرصة نقي وفي الصحيح أنالله يبدلها خبزة يأكل المؤمن منها من تحت قدميه وروي أنها تبدل أرضا من فضة وروي أنها أرض كالفضة من بياضها وروي أنها تبدل من نار قال ع وسمعت من أبي رحمه الله أنه روي أن التبديل يقع في الأرض ولكن يبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه وفريق يكون على فضلة أن صح السند بها وفريق الكفرة يكونون على نار ونحو (2/287)
هذا مما كله واقع تحت قدرة الله عز و جل وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بارض بيضاء عفراء لم يعص الله فيها ولا سفك فيها دم وليس فيها معلم لأحد وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش وروي عنه أنه قال الناس وقت التبديل على الصراط وروي أنه قال الناس حينئذ أضياف الله فلا يعجزهم ما لديه وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان في سؤال الحبر وقوله يا محمد أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات فقال صلى الله عليه و سلم هم في الظلمة دون الجسر الحديث بطوله وخرجه مسلم وأبن ماجه جميعا قالا حدثنا أبو بكر بن ابن أبي شيبة ثم أسندا عن عائشة قالت سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات فأين يكون الناس قال على الصراط وخرجه الترمذي من حديث عائشة قالت يا رسول الله والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه فأين يكون المؤمنون يومئذ قال على الصراط يا عائشة قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح انتهى من التذكرة
وترى المجرمين أين الكفار ومقرنين أي مربوطين في قرن وهو الحبل الذي تشد به رؤوس الإبل والبقر والأصفاد هي الأغلال واحدها صفد والسرابيل القمص والقطران هو الذي تهنأ به الإبل وللنار فيه اشتعال شديد فلذلك جعل الله قمص أهل النار منه وقرا عمر بن الخطاب وعلي وأبو هريرة وابن عباس وغيرهم من قطرآن والقطر القصدير وقيل النحاس وروي عن عمر أنه قال ليس بالقطران ولكنه النحاس يسربلونه وآن صفة وهو الذائب الحار الذي تناهى حره
قال الحسن قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت فتناهى حره
وقوله سبحانه ليجزي الله كل نفس ما كسبت الآية جاء من لفظة الكسب بما يعم المسيء والمحسن لينبه على أن المحسن أيضا يجازى بإحسانه خيرا (2/288)
وقوله سبحانه هذا بلاغ للناس الآية إشارة إلى القرآن والوعيد الذي تضمنه والمعنى هذا بلاغ للناس وهو لينذروا به وليذكر أولوا الألباب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصبحه وسلم تسليما
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الحجر مكية
قوله عز و جل الر تلك ءايات الكتاب وقرءان مبين قال مجاهد وقتادة الكتاب في الآية ما نزل من الكتب قبل القرآن ويحتمل أن يراد بالكتاب القرآن ثم تعطف الصفة عليه
وربما للتقليل وقد تجيء شاذة للتكثير وقال قوم أن هذه من ذلك وأنكر الزجاج أن تجيء رب للتكثير واختلف المتأولون في الوقت الذي يود فيه الكفار أن يكونوا مسلمين فقالت فرقة هو عند معاينة الموت حكي ذلك الضحاك وقالت فرقة هو عند معاينة أهوال يوم القيامة وقال ابن عباس وغيره هو عند دخولهم النار ومعرفتهم بدخول المؤمنين الجنة وروي فيه حديث من طريق أبي موسى
وقوله سبحانه ذرهم يأكلوا ويتمتعوا الآية وعيد وتهديد وما فيه من المهادنة منسوخ بآية السيف وروى ابن المبارك في رقائقه قال أخبرنا الأوزاعي عن عروة بن رويم قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم شرار أمتي الذين ولدوا في النعيم وغذوا به همتهم الوان الطعام والوان الثياب يتشدقون بالكلام انتهى
وقوله فسوف يعلمون وعيد ثان وحكى الطبري عن بعض العلماء أنه (2/289)
قال الأول في الدنيا والثاني في الآخرة فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين
وقوله ويلههم الأمل أي يشغلهم أملهم في الدنيا والتزيد منها قال عبد الحق في العاقبة أعلم رحمك الله أن تقصير الأمل مع حب الدنيا متعذر وانتظار الموت مع الأكباب عليها غر متيسر ثم قال وأعلم أن كثرة الاشتغال بالدنيا والميل بالكلية إليها ولذة أمانيها تمنع مرارة ذكر الموت أن ترد على القلب وأن تلج فيه لأن القلب إذا امتلأ بشيء لم يكن لشيء آخر فيه مدخل فإذا أراد صاحب هذا القلب سماع الحكمة والأنتفاع بالموعظة لم يكن له بد من تفريقه ليجد الذكر فيه منزلا وتلفى الموعظة فيه محلا قابلا قال ابن السماك رحمه الله أن الموتى لم يبكوا من الموت لكنهم بكوا من حسرة الفوت فأتتهم والله دار لم يتزودوا منها ودخلوا دار لم يتزودا لها انتهى وإنما حصل لهم الفوت بسبب استغراقهم في الدنيا وطول الأمل الملهى عن المعاد الهمنا الله رشدنا بمنه وقوله سبحانه وما أهلكنا من قرية الآية أي فلا تستبطئن هلاكهم فليس من قرية مهلك إلا بأجل وكتاب معلوم محدود
وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر الآية القائلون هذه المقالة هم كفار قريش ولو ما بمعنى لولا فتكون تحضيضا كما هي في هذه الآية وفي البخاري لوما تأتينا هلا تأتينا
وقوله إلا بالحق قال مجاهد المعنى بالرسالة والعذاب والظاهر أن معناه كما ينبغي ويحق من الوحي والمنافع التي أراها الله لعباده لا على اقتراح كافر ثم ذكر عادته سبحانه في الأمم من أنه لم يأتهم بآية افتراح إلا ومعها العذاب في أثرها أن لم يؤمنوا والنظرة التأخير
وقوله سبحانه انا نحن نزلنا الذكر رد على المستخفين في قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر وقوله وانا له لحافظون قال مجاهد وغيره الضمير في له عائد على القرآن المعنى وانا له لحافظون من أن يبدل أويغير
قوله سبحانه ولقد أرسلنا من قبلك (2/290)
في شيع الأولين الآية تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم أي لا يضق صدرك يا محمد بما يفعله قومك من الأستهزاء في قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر وغير ذلك والشيعة الفرقة التابعة لراس ما ت قال الفراء في شيع الأولين أنه من أضافة الموصوف إلى صفته كحق اليقين وجانب الغربي وتأوله البصريون على حذف الموصوف أي شيع الأمم الأولين انتهى من ص
وقوله سبحانه كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا بؤمنون به وقد خلت سنة الأولين يحتمل أن يكون الضمير في نسلكه يعود على الذكر المحفوظ المتقدم وهوالقرآن ويكون الضمير في به عائد عليه أيضا ويحتمل أن يعود الضميران معا على الأستهزاء والشرك ونحوه والباء في به باء السبب أي لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائدا على الأستهزاء والشرك والضمير في به عائد على القرآن والمعنى في ذلك كله ينظر بعضه إلى بعض ونسلكه معناه ندخله والمجرمين هنا يراد بهم كفار قريش ومعاصرو النبي صلى الله عليه و سلم
وقوله لا يؤمنون به عموم معناه الخصوص فيمن حتم عليه
وقوله وقد خلت سنة الأولين أي على هذه الوتيرة
ولو فتحنا عليهم أي على قريش وكفرة العصر والضمير في قوله فظلوا عائد عليهم وهو تأوي الحسن ويعرجون معناه يصعدون ويحتمل أن يعود على الملائكة أي ولو رأو الملائكة يصعدون وبتصرفون في باب مفتوح في السماء لما آمنوا وهذا هو تأويل ابن عباس وقرأ السبعة سوى ابن كثير سكرت بضم السين وشد الكاف وقرأ ابن كثير بتخفيف الكاف تقول العرب سكرت الريح تسكر سكورا إذا ركدت ولم تنفذ لما كانت بسبيله أولا وسكر الرجل من الشراب إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ لما كان بسبيله أن ينفذ فيه وتقول العرب سكرت البثق في (2/291)
مجاري الماء سكرا إذا طمسته وصرفت الماء عنه فلم ينفذ لوجهه قال ع فهذه اللفظة سكرت بشد الكاف إن كانت من سكر الشراب أو من سكور الريح فهي فعل عدي بالتضعيف وإن كانت من سكر مجاري الماء فتضعيفها للمبالغة لا للتعدي لأن المخفف من فعله متعد ومعنى هذه المقالة منهم أي غيرت أبصارنا عما كانت عليه فهي لا تنفذ وتعطينا حقائق الأشياء كما كانت تفعل
وقوله سبحانه ولقد جلعنا في السماء بروجا البروج المنازل وأحدها برج وسمي بذلك لظهوره ومنه تبرج المرأة ظهورها وبدوها وحفظ السماء هو بالرجم بالشهب على ما تضمنته الأحاديث الصحاح قال النبي صلى الله عليه و سلم أن الشياطين تقرب من السماء أفواجا قال فينفرد المارد منها فيعلوا فيسمع فيرمى بالشهاب فيقول لأصحابه أنه من الأمر كذا وكذا فيزيد الشياطين في ذلك ويلقون إلى الكهنة فيزيدون مع الكلمة مائة ونحو هذا الحديث وإلا بمعنى لكن ويظهر أن الأستثناء من الحفظ وقال محمد بن يحي عن أبيه إلا من استرق السمع فإنها لم تحفظ منه
وقوله موزون قال الجمهور معناه مقدر محرر بقصد وأرادة فالوزن على هذا مستعار وقال ابن زيد المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة وغير ذلك مما يوزن والمعايش جمع معيشة
وقوله ومن لستم له برازقين يحتمل أن يكون عطفا على معايش كأن الله تعالى عدد النعم في المعايش وهي ما يؤكل ويلبس ثم عدد النعم في الحيوان والعبيد وغير ذلك مما ينتفع به الناس وليس عليهم رزقهم
وقوله تعالى وأن من شيء إلا عندنا خزائنه قال ابن جريج هو المطر خاصة قال ع وينبغي أن يكون أعم من هذا في كثير من المخلوقات
وقوله سبحانه وأرسلنا الرياح لواقح أي ذات لقح يقال لقحت الناقة والشجر فهي لاقحة إذا حملت فالوجه في الريح ملحقة لا لاقحة وقال الداودي وعن ابن عمر الرياح ثمان أربع رحمة وأربعة عذاب فالرحمة (2/292)
المرسلات المبشرات والناشرات والذاريات وأما العذاب فالصرصر والعقيم والقاصف والعاصف وهما في البحرانتهى
وقوله جلت عظمته وإنا لنحن نحي ونميت الآيات هذه الآيات مع الآيات التي قبلها تضمنت العبرة والدلالة على قدرة الله تعالى وما يوجب توحيده وعبادته المعنى وإنا لنحن نحي من نشاء بإخراجه من العدم إلى وجود الحياة ونميت بإزالة الحياة عمن كان حيا ونحن الوارثون أي لا يبقى شيء سوانا وكل شيء هالك إلا وجهه لا رب غيره ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين أي من لدن آدم إلى يوم القيامة قال ابن العربي في أحكامه روى الترمذي وغيره في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس أنه قال كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ابن عباس ولا والله ما رأيت مثلها قط قال فكان بعض المسلمين إذا صلوا تقدموا وبعضهم يستأخر فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم فأنزل الله الآية ثم قال ابن العربي في شرح المراد بهذه الآية خمسة أقوال أحدها هذا القول الثاني المتقدمين في الخلق إلى اليوم والمتأخرين الذين لم يخلقوا بعد بيان أن الله يعلم الموجود والمعدوم قاله قتادة وجماعة الثالث من مات ومن بقي قاله ابن عباس أيضا الرابع المستقدمين سائر الأمم والمستأخرين أمة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم قاله مجاهد الخامس قال الحسن معناه المتقدمين في الطاعة والمستأخرين في المعصية انتهى ت والحديث المتقدم أن صح فلا بد من تأويله فإن الصحابة ينزهون عن فعل ماذكر فيه فيؤول بأن ذلك صدر من بعض المنافقين أو بعض الأعراب الذين قرب عهدهم بالإسلام ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم وأما ابن عباس فإنه كان يومئذ صغيرا بلا شك هذا إن كانت الآية مدنية فإن كانت مكية فهو يومئذ في سن الطفولية وبالجملة فالظاهر ضعف هذا الحديث من وجوه انتهى وباقي الآية بين
ولقد (2/293)
خلقنا الإنسان يعني آدم قال ابن عباس خلق من ثلاثة من طين لازب وهو اللازق الجيد ومن صلصال وهو الأرض الطيبة يقع عليها الماء ثم ينحسر فتشقق وتصير مثل الخزف ومن حماء مسنون وهو الطين فيه الحمأة والمسنون قال معمر هو المنتن وهو من أسن الماء إذا تغير ورد من جهة التصريف وقيل غير هذا وفي الحديث أن الله تعالى عز و جل خلق آدم من جميع أنواع التراب الطيب والخبيث والأسود والأحمر
وقوله والجان يراد به جنس الشياطين وسئل وهب بن منبه عنهم فقال هم أجناس قال ع والمراد بهذه الخلقة إبليس أبو الجن
وقوله من قبل لأن إبليس خلق قبل آدم بمدة والسموم في كلام العرب افراط الحر حتى يقتل من نار أو شمس أو ريح وأما أضافة النار إلى السموم في هذه الآية فيحتمل أن تكون النار انواعا ويكون السموم أمرا يختص بنوع منها فتصح الإضافة حينئذ وإن لم يكن هذا فيخرج هذا على قولهم مسجد الجامع ودار الاخرة علىحذف مضاف
قوله عز و جل وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون من الساجدين قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون أخبر الله سبحانه الملائكة بعجب عندهم وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور فهي مخلوقات لطاف فأخبرهم سبحانه أنه يخلق جسما حيا ذا بشرة وأنه يخلقه من صلصال والبشرة هي وجه الجلد في الأشهر من القول
وقوله من روحي أضافة خلق وملك إلى خالق ومالك وقول إبليس لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال الآية ليس ابايته نفس كفره عند الحذاق لأن أبايته إنما هي معصية فقط وإنما كفره بمقتضى قوله وتعليله إذ يقتضى أن الله (2/294)
خلق خلقا مفضولا وكلف خلقا أفضل منه أن يذل له فكأنه قال وهذا جور وقد تقدم تفسير أكثر هذه المعاني وقوله عز و جل قال فأخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الأرض الآية بما أغويتني قال أبو عبيدة وغيره اقسم بالأغواء قال ع كأنه جعله بمنزلة قوله رب بقدرتك على وقضائك ويحتمل أن نكون باء السبب
وقوله سبحانه هذا صراط علي مستقيم المعنى هذا أمر إلي يصير والعرب تقول طريقك في هذا الأمر على فلان أي إليه يصير النظر في أمرك والآية تتضمن وعيدا وظاهر قوله عبادي الخصوص في أهل الإيمان والتقوى فيكون الأستثناء منقطعا وان أخذنا العباد عموما كان الأستناء متصلا ويكون الأقل في القدر من حيث لا قدر للكفار والنظر الأول أحسن وإنما الغرض أن لا يقع في الأستثناء الأكثر من الأقل وإن كان الفقهاء قد جوزوه
وقوله لموعدهم أي موضع اجتماعهم عافانا الله من عذابه بمنه وعاملنا بمحض جوده وكرمه
وقوله سبحانه أن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام الآية السلام هنا يحتمل أن يكون السلامة ويحتمل أن يكون التحية والفل الحقد قال الداودي عن النبي صلى الله عليه و سلم ونزعنا ما في صدورهم الآية قال إذا خلص المؤمنون من الصراط جبسوا على صراط بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض بمظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا إذن لهم في دخول الجنة والله لأحدهم أهدى بمنزلة في الجنة من منزله في الدنيا انتهى والسرر جمع سرير ومتقابلين الظاهر أن معناه في الوجوه إذ الأسرة متقابلة فهي أحسن في الرتبة قال مجاهد لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه وقيل غير هذا مما لا يعطيه اللفظ والنصب التعب ونبئى (2/295)
معناه أعلم قال الغزالي رحمه الله في منهاجه ومن الآيات اللطيفة الجامعة بين الرجاء والخوف قوله تعالى نبئى عبادي اني انا الغفور الرحيم ثم قال في عقبه وان عذابي هو العذاب الأليم ليلا يستولي عليك الرجاء بمرة وقوله تعالى شديد العقاب ثم قال في عقبه ذي الطول ليلا يستولي عليك الخوف واعجب من ذلك قوله تعالى ويحذركم الله نفسه ثم قال في عقبه والله رءوف بالعباد واعجب منه قوله تعالى من خشي الرحمن بالغيب فعلق الخشية باسم الرحمن دون اسم الجبار أو المنتقم أو المتكبر ونحوه ليكون تخويفا في تأمين وتحريكا في تسكين كما تقول أما تخشى الوالدة الرحيمة أما تخشى الوالد الشفيق والمراد من ذلك أن يكون الطريق عدلا فلا تذهب إلى أمن وقنوط جعلنا الله وإياكم من المتدبرين لهذا الذكر الحليم العاملين بما فيه أنه الجواد الكريم انتهى
وقوله سبحانه ونبئهم عن ضيف إبراهيم الآية هذه ابتداء قصص بعد انصرام الغرض الأول والضيف مصدر وصف به فهو للواحد والأثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد
وقوله انامنكم وجلون أي فزعون وإنما وجل منهم لما قدم إليهم العجل الحنيذ فلم يرهم يأكلون وكانت عندهم العلامة المؤمنة أكل الطعام وكذلك هو في غابر الدهر أمنة للنازل والمنزول به
وقوله ان مسني الكبر أي في حالة قد مسني فيه الكبر وقول إبراهيم عليه السلام فبم تبشرون تقرير على جهة التعجب والاستبعاد لكبرهما أو على جهة الاحتقار وقلة المبالاة بالمسرات الدنيوية لمضي العمر واستيلاء الكبر وقولهم بشرناك بالحق فيه شدة ما أي أبشر بما بشرت به ولا تكن من القانطين والقنوط أتم اليأس
وقوله سبحانه قال فما خطبكم أيها المرسلون لفظة الخطب إنما تستعمل في الأمور الشداد وقولهم الا ءال لوط اسثناء منقطع والآل القوم الذين يئول أمرهم إلى المضاف إليه كذا قال سيبويه وهذا (2/296)
نص في أن لفظة آل ليست لفظة أهل كما قال النحاس وإلا امرأته استثناء متصل والاستثناء بعد الاستثناء يرد المشتثنى الثاني في حكم الأمر الأول والغابرين هنا أي الباقين في العذاب وغبر من الأضداد يقال في الماضي وفي الباقي وقول الرسل للوط بل جئناك بما كانوا فيه يمترون أي بما وعدك الله من تعذيبهم الذي كانوا يشكون فيه والقطع الجزء من الليل
وقوله سبحانه واتبع أدبارهم أي كن خلفهم وفي ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد ولا يلتفت مأخوذ من الألفتات الذي هو نظر العين قال مجاهد المعنى لا ينظر أحد وراءه ونهوا عن النظر مخافة العلقة وتعلق النفس بمن خلف وقيل ليلا تنفطر قلوبهم من معاينة ما جرى على القرية في رفعها طرحها
وقوله سبحانه وقضينا إليه ذلك الأمر أي امضيناه وحتمنا به ثم أدخل في الكلام إليه من حيث أوحي ذلك إليه وأعلمه الله به
وقوله يستبشرون أي بالأضياف طمعا منهم في الفاحشة وقولهم أو لم ننهك عن العالمين روي أنهم كانوا تقدموا إليه في أن لا يضيف أحدا والعمر والعمر بفتح العين وضمها واحد وهما مدة الحياة ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح وفي هذه الآية شرف لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم لأن الله عز و جل أقسم بحياته ولم يفعل ذلك مع بشر سواه قاله ابن عباس ت وقال ص اللام في لعمرك للأبتداء والكاف خطاب للوط عليه السلام والتقدير قالت الملائكة له لعمرك واقتصر على هذا وما ذكره ع هو الذي عول عليه عياض وغيره وقال ابن العربي في أحكامه قال المفسرون بإجمعهم أقسم الله في هذه الآية بحياة محمد صلى الله عليه و سلم ولا أدري ما أخرجهم عن ذكر لوط إلى ذكر محمد عليه السلام وما المانع أن يقسم الله بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء وكل ما يعطى الله للوط من فضل ويؤتيه من شرف فلنبينا محمد عليه (2/297)
السلام ضعفاه لأنه أكرم على الله منه وإذا أقسم الله بحياة لوط فحياة نبينا محمد عليه السلام أرفع ولا يخرج من كلام إلى كلام آخر غيره لم يجر له ذكر لغير ضرورة انتهى ت وما ذكره الجمهور أحسن لأن الخطاب خطاب مواجهة ولأنه تفسير صحابي وهو مقدم على غيره ويعمهون معناه يترددون في حيرتهم ومشرقين معناه قد دخلوا في الأشراق وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره قاله ابن زيد وهذه الصيحة هي صحية الوجبة وليست كصيحة ثمود وأهلكوا بعد الفجر مصبحين واستوفاهم الهلاك مشرقين وباقي قصص الآية تقدم تفسيره والمتوسمين قال مجاهد المتفرسون وقال أيضا المعتبرون وقيل غير هذا وهذا كله تفسر بالمعنى وأما تفسير اللفظة فالمتوسم هو الذي ينظر في وسم المعنى فيستدل به على المعنى وكأن معصية هؤلاء ابقت من العذاب والأهلاك وسما فمن رأى الوسم استدل على المعصية به واقتاده النظر إلى تجنب المعاصي ليلا ينزل به ما نزل بهم ومن الشعر في هذه اللفظة قول الشاعر ... توسمته لما رأيت مهابة ... عليه وقلت المرء من ءال هاشم ...
والضمير في قوله وأنها لبسبيل مقيم يحتمل أن يعود على المدينة المهلكة أي أنها في طريق ظاهر بين للمعتبر وهذا تأويل مجاهد وغيره ويحتمل أن يعود على الآيات ويحتمل أن يعود على الحجارة ويقويه ما روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال أن حجارة العذاب معلقة بين السماء والأرض منذ ألفي سنة لعصاة أمتي
وقوله سبحانه وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم الآيتة الغيضة والشجر المتلف المخضر قال الشاعر ... الا انما الدنيا غضارة ايكة ... اذا احضر منها جانب جف جانب ...
وكان هؤلاء قوما يسكنون غيضة ويرتفقون بها في معايشهم فبعث إليهم (2/298)
شعيب فكفروا به فسلط الله عليهم الحر فدام عليهم سبعة أيام ثم رأوا سحابة فخرجوا فاستظلوا بها فأمطرت عليهم نارا وحكى الطبري قال بعث شعيب إلى أمتين فكفرتا فعذبتا بعذابين مختلفين أهل مدين عذبوا بالصحية وأصحاب الأيكة بالظلة
وقوله وانهما لبامام مبين الضمير في أنهما يحتمل أن يعود على مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب الأيكة ويحتمل أن يعود على لوط وشعيب عليهما السلام أي أنهما على طريق من الله وشرع مبين والأمام في كلام العرب الشيء الذي يهتدي به ويؤتم به فقد يكون الطريق وقد يكون الكتاب وقد يكون الرجل المقتدى به ونحو هذا ومن رأى عود الضمير علىالمدينتين قال الإمام الطريق وقيل على ذلك الكتاب الذي سبق فيه اهلاكهما وأصحاب الحجر هم ثمود وقد تقدم قصصهم والحجر مدينتهم وهي ما بين المدينة وتبوك وقال المرسلين من حديث يلزم من تكذيب رسول واحد تكذيب الجميع إذ القول في المعتقدات واحد
وقوله ينحتون من الجبال بيوتا آمنين النحت النقر بالمعاول وآمنين قيل معناه من أنهدامها وقيل من حوادث الدنيا وقيل من الموت لاغترارهم بطول الأعمار وأصح ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة فكانوا لا يعلمون بحسبها
وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق أي لم تخلق عبثا
سدى وان الساعة ءلاتية فلا تهتم يا محمد بأعمال الكفرة فإن الله لهم بالمرصاد
عز و جل ولقد آتيناك سبعا من الثماني ذهب ابن مسعود وغيره إلى أن السبع المثاني هنا هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والمص والأنفال مع براءة وذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن السبع هنا آيات الفاتحة وهو نص حديث أبي بن كعب وغيره ت وهذا هو الصحيح وقد تقدم بيان ذلك أول الكتاب
وقوله سبحانه (2/299)
لا تمدن عينيك إلى ما معتنا به أزواجا منهم حكى الطبري عن سفيان بن عيينة أنه قال هذه الآية أمرة بالأستغناء بكتاب الله عن جميع زينة الدنيا قال ع فكأنه قال آتيناك عظيما خطيرا فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا وزينتها التي متعنا بها أنواعا من هؤلاء الكفرة ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه و سلم من أوتي القرآن فرأى أن أحد أعطي أفضل مما اعطي فقد عظم صغيرا وصغر عظيما ت وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فخطب الناس فقال لا والله ما أخشى عليكم أيها الناس إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا الحديث وفي رواية أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا قالوا وما زهرة الدنيا يا رسول الله قال بركات الأرض الحديث وفي رواية أن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح لكم من زهرة الدنيا وزينتها الحديث انتهى والأحاديث في هذه الباب أكثر من أن يحصيها كتاب قال الغزالي في المنهاج وإذا أنعم الله عليك بنعمة الدين فإياك أن تلتفت إلى الدنيا وحطامها فإن ذلك منك لا يكون إلا بضرب من التهاون بما أولاك مولاك من نعم الدارين أما تمع قوله تعالى لسيد المرسلين ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم الآية تقديره أن من أوتي القرآن العظيم حق له أن لا ينظر إلى الدنيا الحقيرة نظرة باستحلاء فضلا عن أن يكون له فيهارغبة فليلتزم الشكر على ذلك فإنه الكرامة التي حرص عليها الخليل لأبيه والمصطفى عليه السلام لعمه فلم يفعل وأما حطام الدنيا فإن الله سبحانه يصبه على كل كافر وفرعون وملحد وزنديق وجاهل وفاسق الذين هم أهون خلقه عليه ويصرفه عن كل نبي وصفي وصديق وعالم وعابد الذين هم أعز خلقه عليه حتى أنهم لا يكادون يصيبون كسرة وخرقة ويمن عليهم سبحانه بأن لا يلطخهم بقذرها انتهى (2/300)
وقال ابن العربي في أحكامه قوله تعالى لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم المعنى أعطيناك الآخرة فلا تنظر إلى الدنيا وقد أعطيناك العلم فلا تتشاغل بالشهوات وقد منحناك لذة القلب فلا تنظر إلى لذة البدن وقد أعطيناك القرآن فاستغن به فمن استغنى به لا يطمح بنظره إلى زخارف الدنيا وعنده معارف المولى حيي بالباقي وفني عن الفاني انتهى
وقوله سبحانه وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين قال ع والذين أقول به في هذه أن المعنى وقل أنا نذير كما قال قبلك رسلنا ونزلنا عليهم كما أنزلنا عليك واختلف في المقتسمين من هم فقال ابن عباس وابن جبير المقتسمون هم أهل الكتاب الذي فرقوا دينهم وجعلوا كتاب الله أعضاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض وقال لنحوه مجاهد وقالت فرقة المقتسمون هم كفار قريش جعلوا القرآن سحرا وشعرا وكهانة وجعلوه أعضاء بهذا التقسيم وقالت فرقة عضين جميع عضة وهي اسم للسحر خصاة بلغة قريش وقاله عكرمة ت وقال الواحدي كما أنزلنا عذابا على المقتسمين الذي اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان انتهى من مختصره
وقوله سبحانه فوربك لنسالنهم أجمعين الآية ضمير عام ووعيد محض يأخذ كل أحد منه بحسب جرمه وعصيانه فالكافر يسأل عن التوحيد والرسالة وعن كفره وقصده به والمؤمن العاصي يسأل عن تضييعه وكل مكلف عما كلف القيام به وفي هذا المعنى أحاديث قال ابن عباس وكل مكلف عما كلف القيام به وفي هذا المعنى أحاديث قال ابن عباس في هذه الآية يقال لهم لم عملتم كذا وكذا قال وقوله تعالى فيومئذ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان معناه لا يقال له ماذا اذنبت لأن الله تعالى أعلم بذنبه منه وقوله سبحانه فاصدع بما تومر اصدع معناه انفذ وصرح بما بعثت به وقوله واعرض عن المشركين من آيات المهادنة التي نسختها آية (2/301)
السيف قاله ابن عباس ثم اعلمه الله تعالى بأنه قد كفاه المستهزءين به من كفار مكة ببوائق اصابتهم من الله تعالى قال ابن إسحاق وغيره وهم الذي قذفوا في قليب بدر كأبي جهل وغيره انتهى
وقوله سبحانه ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون آية تانيس للنبي صلى الله عليه و سلم واليقين هنا الموت قاله ابن عمر وجماعة قال الداودي وعن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما أوحي إلى أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين انتهى وابقي الآية بين وصلى الله عليى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة النحل وهي مكية غير آيات يسيرة يأتي بيانها إن شاء الله
قوله سبحانه أتى أمر الله فلا تستعجلوه روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قال جبريل في سرد الوحي أتى أمر الله وثب رسول الله صلى الله عليه و سلم قائما فلما قال فلا تستعجلوه سكن وقوله أمر الله قال فيه جمهور المفسرين أنه يريد القيامة وفيها وعيد للكفار وقيل المراد نصر محمد صلى الله عليه و سلم فمن قال أن الأمر القيامة قال أن قوله تعالى فلا تستعجلوه رد على المكذبين بالبعث القائلين متى هذا الوعد واختلف المتأولون في قوله تعالى ينزل الملائكة بالروح فقال مجاهد الروح النبؤة وقال ابن عباس الروح الوحي وقال قتادة بالرحمة والوحي وقال الربيع بن أنس كل كلام الله (2/302)
روح ومنه قوله تعالى أوحينا اليك روحا من أمرنا وقال الزجاج الروح ما تحي به القلوب من هداية الله عز و جل وهذا قول حسن قال الداودي عن ابن عباس قال الروح خلق من خلق الله وأمر من أمر الله على صور بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه روح كالحفيظ عليه لا يتكلم ولا يراه ملك ولا شيء مما خلق الله وعن مجاهد الروح خلق من خلق الله لهم أيد وأرجل انتهى والله أعلم بحقيقة ذلك وهذا أمر لا يقال بالرأي فإن صح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه و سلم وجب الوقوف عنده انتهى ومن في قوله من يشاء هي للأنبياء وقوله تعالى خلق الإنسان من نطفة يريد بالإنسان الجنس
وقوله خصيم يحتم أن يريد به الكفرة الذين يجادلون في آيات الله قال الحسن البصري ويحمل أن يريد أعم من هذا على ان الآية تعديد نعمة الذهن والبيان علىالبشر
وقوله سبحانه والأنعام خلقها لكم فيها دفء الدفء السخانة وذهاب البرد بالاكسية ونحوها وقيل الدفء تناسل الإبل وقال ابن عباس هو نسل كل شيء والمعنى الأول هو الصحيح والمنافع ألبانها وما تصرف منها وحرثها والنضح عليها وغير ذلك
وقوله جمال أي في المنظر وتريحون معنا حين ترودونها وقت الرواح إلى المنازل وتسرحون معناه تخرجونها غدوة إلى السرح والأثقال الأمتعة وقيل الأجسام كقوله وأخرجت الأرض أثقالها أي اجساد بني آدم وسميت الخيل خيلا لاختيالها في مشيتها ت ويجب على من ملكه الله شيئا من هذا الحيوان أن يرفق به ويشكر الله تعالى على هذه النعمة التي خولها وقد روى مالك ف الموطأ عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك عن خالد بن معدان يرفعه قال إن الله رفيق يحب الرفق ويرضاه ويعين عليه ما لا يعين على العنف فإذا ركبتم هذه الدواب العجم فأنزلوها منازلها فإن كانت الأرض جدبة فأنجوا عليها بنقيها (2/303)
وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار وإياكم والتعريس على الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الحيات قال أبو عمر في التمهيد هذا الحديث يستند عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه كثيرة فأما الرفق فمحمود في كل شيء وما كان الرفق في شيء إلا زانه وقد روى مالك بسنده عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الله عز و جل يحب الرفق في الأمر كله وأمر المسافر في الخصب بأن يمشي رويدا ويكثر النزول لترعى دابته فأما الأرض الجدبة فالسنة للمسافر أن يسرع السير ليخرج عنها وبدابته شيء من الشحم والقوة والنقي في كلام العرب الشحم والودك انتهى وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم انتهى
وقوله سبحانه ويخلق ما لا تعلمون عبرة منصوبة على العموم أي أن مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر بل ما يخفى عنه أكثر مما يعلمه
وقوله سبحانه وعلى الله قصد السبيل الآية هذه أيضا من أجل نعم الله تعالى أي على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه بنصب الأدلة وبعث الرسل وإلى هذا ذهب المتأولون ويحتمل أن يكون المعنى أن من سلك السبيل القاصد فعلى الله ورحمته وتنعيمه طريقه وإلى ذلك مصيره وطريق قاصد معناه بين مستقيم قريب والألف واللام في السبيل للعهد وهي سبيل الشرع
وقوله ومنها جائر يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم فالضمير في منها يعود على السبل التي يتضمنها معنى الآية
وقوله سبحانه فيه تسيمون يقال أسام الرجل ماشيته إذا أرسلها ترعى
وقوله سبحانه وما ذرأ لكم ذرأ معناه بث ونشر
ومختلفا ألوانه أي أصنافه ويحتمل أن يكون التنبيه على اختلاف الألوان (2/304)
من حمرة وصفرة وغير ذلك والأول أبين
وقوله سبحانه وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون البحر الماء الكثير ملحا كان أو عذبا قال ابن العربي في أحكامه قوله تعالى وتستخرجوا منه حلية تلبسونها يعني به اللؤلؤ والمرجان وهذا امتنان عام للرجال والنساء فلا يحرم عليهم شيء من ذلك انتهى ومواخر جمع ماخرة والمخر في اللغة الصوت الذي يكون من هبوب الريح على شيء يشق أو يصحب في الجملة الماء فيترتب منه أن يكن المخر من الريح وأن يكون من السفينة ونحوها وهو في هذه الآية من السفن وقال بعض النحاة المخر في كلام العرب الشق يقال مخر الماء الأرض وهذا أيضا بين أن يقال فيه للفلك مواخر
وقوله وسبلا لعلكم تهتدون يحتمل تهتدون في مشيكم وتصرفكم في السبل ويحتمل تهتدون بالنظر في دلالة هذه المصنوعات على صانعها
وعلامات وبالنجم هم يهتدون قال ابن عباس العلامات معالم الطرق بالنهار والنجوم هداية الليل وهذا قول حسن فإنه عموم بالمعنى واللفظة عامة وهذا إن كان ما دل على شيء وأعلم به فهو علامة والنجم هنا اسم جنس وهذا هو الصواب وقوله سبحانه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها الآية وبحسب العجز عن عد نعم الله تعال يلزم أن يكون الشاكر لها مقصرا عن بعضها فلذلك قال عز و جل لغفور رحيم أي عن تقصيركم في السكر عن جميعها نحا هذا المنحى الطبري ويرد عليه أن نعمة الله في قول العبد الحمد لله رب العالمين مع شرطها من النية والطاعة يوازي جميع النعم ولكن أين قولها بشروطها والمخاطبة بقوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها عامة لجمع الناس
والذين تدعون من دون الله أي تدعونهم آلهة
وأموات يراد به الذين يدعون من دون الله ورفع أموات على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره (2/305)
هم أموات
وقوله غير أحياء أي لم يقبلوا حياة قط ولا اتصفوا بها
وقوله سبحانه وما يشعرون أيان يبعثون أي وما يشعر الكفار متى يبعثون إلى التعذيب
وقوله سبحانه الهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة أي منكرة اتحاد الاله ت وهذا كما حكى عنهم سبحانه في قولهم أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب
وقوله لأجرم عبرت فرقة من اللغويين عن معناها بلا بد ولا محالة وقالت فرقة معناها حق إن الله ومذهب سبيويه أن لا نفي لما تقدم من الكلام وجرم معناه وجب أو حق ونحو هذا مذهب الزجاج ولكن مع مذهبهما لا ملازمة لجرم لا تنفك هذه من هذه
وقوله سبحانه إنه لا يحب المستكبرين عام في الكافرين والمؤمنين يأخذ كل أحد منهم بقسطه قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله موت النفوس حياتها من أحب أن يحي يموت ببذل أهل التوفيق نفوسهم وهوانها عليهم نالوا ما نالوا وبجب أهل الدنيا نفوسهم هانوا وطرأ عليهم الهوان هنا وهناك وقد ورد في الحديث أنه ما من عبد إلا وفي رأسه حكمه بيد ملك فإن تعاظم وارتفع ضرب الملك رأسه وقال له أتضع وضعك الله وإن تواضع رفعه الملك وقال له ارتفع رفعك الله من الله علينا بما به يقربنا إليه بمنه انتهى
وقوله سبحانه وإذا قيل لهم يعني كفار قريش ماذا أنزل ربكم الآية يقال أن سببها النضر بن الحارث واللام في قوله ليحملوا يحتمل أن تكون لام العاقبة ويحتمل أن تكون لام كي ويحتلم أن تون لام الأمر على معنى الحتم عليهم والصغار الموجب لهم
وقوله سبحانه ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم من للتبعيض وذلك أن هذا الرأس المضل يحمل وزر نفسه ووزرا من وزر كل من ضل بسببه ولا ينقص من أوزار أولئك شي والأوزار هي الأثقال
وقوله سبحانه قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم (2/306)
الآية قال ابن عباس وغيره من المفسرين الإشارة بالذين من قبلهم إلى نمرود الذي بنى صرحا ليصعد فيه إلى السماء بزعمه فلما أفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش بعث الله عليه ريحا فهدمته وخر سقفه عليه وعلى أتباعه وقي أن جبريل هدمه بجناحه وألقى أعلاه في البحر وانجعف من أسفله وقالت فرقة المراد بالذين من قبلهم جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت به عقوبة وقوله على هذا فأتى الله نبيانهم من القواعد إلى آخر الآية تمثيل وتشبيه أي حالهم كحال من فعل به هذا
وقوله يخزيهم لفظ يعم جميع المكاره التي تنزل بهم وذلك كله راجع إلى إدخالهم النار ودخولهم فيها
وتشاقون معناه تحاربون أي تكونون في شق والحق في شق
والذين أوتوا العلم هم الملائكة فيما قال بعض المفسرين وقال يحي بن سلام هو المؤمنون قال ع والصواب أن يعم جميع من آتاه الله علم ذلك من ملائكة وأنبياء وغيرهم وقد تقدم تفسير الخزي وأنه الفضيحة المخجلة وفي الحديث أن العار والتخزية لتبلغ من العبد في المقام بين يدي الله تعالى ما أن يتمنى أن ينطلق به إلى النار وينجو من ذلك المقام أخرجه البغوي في المسند المنتخب له انتهى من الكوكب الدري
وقوله سبحانه الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الذين نعت للكافرين في قول أكثر المتأولين والملائكة يريد القابضين لأرواحهم
والسلم هنا الاستسلام واللام في قوله فلبيس لام تأكيد والمثوى موضع الإقامة
وقوله سبحانه وقيل للذين اتقوا ماذا انزل ربكم الآية لما وصف سبحانه مقالة الكفار الذين قالوا أساطير الأولين عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وأوجب لكل فريق ما يستحق وقولهم خيرا جواب بحسب السؤال واختلف في قوله تعالى للذين أحسنوا إلى آخر لآاية هل هو ابتداء كلام أو هو تفسير للخير الذي أنزل (2/307)
الله في الوحي على نبينا خبرا أن من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة
وقوله سبحانه جنات عدن يدخلونها الآية تقدم تفسير نظيرها وطيبين عبارة عن صالح حالهم واستعدادهم للموت والطيب الذي لا خبث معه وقول الملائكة سلام عليكم بشارة من الله تعالى وفي هذا المعنى احاديث صحاح يطول ذكرها وروى ابن المبارك في رقائقه عن محمد بن كعب القرظي قال إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك فقال السلام عليك ولي الله الله يقرئى عليك السلام ثم نزع بهذه الآية الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم انتهى وقوله سبحانه بما كنتم تعملون علق سبحانه دخولهم الجنة باعمالهم من حيث جعل الأعمال أمارة لادخال العبد الجنة ولا معارضة بين الآية وقوله صلى الله عليه و سلم لا يدخل أحد الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة فإن الآية ترد بالتأويل إلى معنى الحديث قال ع ومن الرحمة والتغمد أن يوفق الله العبد إلى أعمال برة ومقصد الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل كما ذهب إليه فريق من المعتزلة
وقوله سبحانه هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم ينظرون معناه ينتظرون ونظرمتى كانت من رؤية العين فإنما تعديها العرب بالى ومتى لم تتعد بالى فهي بمعنى انتظر ومنها انظرونا نقتبس من نوركم ومعنى الكلام أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم
وقوله أو يأتي أمر ربك وعيد يتضمن قيام الساعة أو عذاب الدنيا ثم ذكر تعالى أن هذا كان فعل الأمم قبلهم فعوقبوا
وقوله سبحانه فأصابهم سيئات ما عملوا أي جزاء ذلك في الدنيا والآخرة (2/308)
وحاق معناه نزل وأحاط
وقوله سبحانه وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء الآية تقدم تفسير نظيرها في الأنعام وقولهم ولا حرمنا يريد من البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك
وقوله سبحانه ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله الآية إلى قوله فإن الله لا يهدي من يضل وقرأ حمزة والكساءي وعاصم لا يهدي بفتح الياء وكسر الدال وذلك على معنيين أي أن الله لا يهدي من قضى باضلاله والمعنى الثاني أن العرب تقول هدى الرجل بمعنى اهتدى
وقوله سبحانه واقسموا بالله جهد إيمانهم لا يبعث الله من يموت الضمير في اقسموا لكفار قريش ثم رد الله تعالى عليهم بقوله بلى فاوجب بذلك البعث وأكثر الناس في هذه الآية الكفار المكذبون بالبعث
وقوله سبحانه ليبين التقدير بلى يبعثه ليبين لهم الذي يختلفون فيه وقوله سبحانه إنما قولنا لشيء إذا اردناه الآية المقصد بهذه الآية أعلام منكرى البعث بهوان أمره على الله تعالى وقربه في قدرته لا رب غيره
وقوله سبحانه والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا هؤلاء هم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة هذا قول الجمهور وهو الصحيح في سبب نزول الآية لان هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية والآية تتناول كل من هاجر أولا وآخرا وقرأ جماعة خارج السبع لنثوينهم وأختلف في معنى الحسنة هنا فقالت فرقة الحسنة عدة ببقعة شريفة وهي المدينة وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل أمر مستحسن يناله ابن أدم وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يعطي المال وقت القسمة الرجل من المهاجرين ويقول له خذ ما وعدك الله في الدنيا ولأجر الآخرة اكبر ثم يتلو هذه الآية ويدخل في هذا القول النصر على العدو وفتح البلاد وكل أمل بلغه المهاجرون والضمير في يعلمون عائد على كفار (2/309)
قريش وقوله الذين صبروا من صفة المهاجرين
وقوله تعالى وما ارسلنا من قبلك إلا رجالا يوحي اليهم هذه الآية رد على كفار قريش الذين استبعدوا أن يبعث الله بشرا رسولا ثم قال تعالى فسئلوا أي قل لهم فسألوا واهل الذكر هنا أحبار اليهود والنصارى قاله ابن عباس وغيره وهو اظهر الأقوال وهم في هذه النازلة خاصة إنما يخبرون بأن الرسل من البشر وأخبارهم حجة على هؤلاء وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألونهم ويسندون إليهم
وقوله بالبينات متعلق بفعل مضمر تقديره أرسلناهم بالبينات وقالت فرقة الباء متعلقة بارسلنا في أول الآية والتقدير على هذا وما أرسلنا مت قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا ففي الآية تقديم وتاخير والزبر الكتب المزبورة
وقوله سبحانه لتبين للناس ما نزل اليهم الآية ت وقد فعل صلى الله عليه و سلم ذلك فبين عن الله واوضح وقد أوتي صلى الله عليه و سلم جوامع الكلم فأعرب عن دين الله وافصح ولنذكر الآن طرفا من حكمه وفصيح كلامه بحذف اسانيده قال عياض في شفاه وأما كلامه صلى الله عليه و سلم المعتاد وفصاحته المعلومه وجوامع كلمه وحكمه الماثورة فمنها ما لا يوازي فصاحة ولا يبارى بلاغة كقوله المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم وقوله الناس كأسنان المشط والمرء مع من احب ولا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له والناس معادن وما هلك امرء عرف قدره والمستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت عن شر فسلم وقوله أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وأن احبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة احاسنكم أخلاقا الوطئون اكنافا الذين يالفون ويولفون وقوله لعله كان يتكلم بما لا يعنيه
ويبخل بما لا يغنيه
وقوله ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها ونهيه عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ومنع (2/310)
وهات وعقوق الأمهات ووأد البنات وقوله اتق الله حيث كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن وخير الأمور أوساطها وقوله أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وقوله الظلم ظلمات يوم القيامة وقوله في بعض دعائه اللهم أني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري وتلم بها شعثى وتصلح بها غائبى وترفع بها شاهدي وتزكي بها عملي وتلهمني بها رشدي وترد بها ألفتي وتعصمنى بها من كل سوء اللهم أني أسألك الفوز في القضاء ونزل الشهداء وعيش السعداء والنصر على الأعداء إلى غير ذلك من بيانه وحسن كلامه مما روته الكافة عن الكافة مما لا يقاس به غيره وحاز فيه سبقا لا يقدر قدره كقوله السعيد من وعظ بغيره والشقي من شقي في بطن أمه في أخواتها مما يدرك الناظر العجب في مضمنها ويذهب به الفكر في أدانى حكمها وقال صلى الله عليه و سلم بيد أني من قريش ونشأت في بنى سعد فجمع الله له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها ونصاعة الفاظ الحاضرة ورونق كلامها إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي الذي لا يحيط بعلمه بشري انتهى وبالجملة فليس بعد بيان الله ورسوله بيان لمن عمر الله قلبه بالإيمان
وقوله سبحانه افأمن الذين مكروا السيئات الآية تهديد لكفار مكة ونصب السيئات بمكروا وعدى مكروا لأنه في معنى عملوا قال البخاري قال ابن عباس في تقلبهم أي في اختلافهم انتهى وقال المهدوي قال قتادة في تقلبهم في أسفارهم الضحاك في تقلبهم بالليل انتهى
وقوله على تخوف أي على جهة التخوف والتخوف التنقص وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خفي عليه معنى التخوف في هذه الآية وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك فيروي أنه جاءه فتى من العرب فقال يا أمير المؤمنين أن أبي يتخوفنى مالي فقال عمر الله اكبر أو يأخذهم على تخوف ومنه قول النابغة (2/311)
تخوفهم حتى اذل سراتهم ... بطعن ضرار بعد فتح الصفائح ...
وهذا التنقص يتجه به الوعيد على معنيين أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي افذاذا يتنقصهم بذلك الشيء بعد الشيء ويصيرهم إلى ما اعد لهم من العذاب وفي هذه الرتبة الثالهة من الوعيد رأفة ورحمة وأمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع والثاني ما قاله الضحاك أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى ثم كذلك حتى يهلك الكل وقالت فرقة التخوف هنا من الخوف أي فيأخذهم بعد تخوف ينالهم يعذبهم به وقوله سبحانه أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء الآية قوله من شيء
لفظ عام في كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك وفاء الظل رجع ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره فكأن الآية جارية في بعض على تجوز كلام العرب واقتضائه والرؤية هنا رؤية القلب ولكن الاعتبار برؤية القلب هنا إنما تكون في مرءيات بالعين وعن اليمين والشمائل هنا فيه تجوز واتساع وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت قال الداودي وعن النبي صلى الله عليه و سلم قال أربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن في صلاة السحر قال وليس شيء إلا يسبح لله تلك الساعة وقرأ يتفيؤا ظلاله الآية كلها انتهى والداخر المتصاغر المتواضع
وقوله سبحانه يخافون ربهم عام لجميع الحيوان ومن فوقهم يريد فوقية القدر والعظمة والقهر
وقوله سبحانه وله ما في السموات والأرض السموات هنا كل ما أرتفع من الخلق من جهة فوق فيدخل في ذلك العرش والكرسي وغيرهما والدين الطاعة والملك والواصب الدائم قاله ابن عباس ثم ذكر سبحانه بنعمه ثم ذكر (2/312)
بأوقات المرض والتجاء العباد إليه سبحانه والضر وأن كان يعم كل مكروه فأكثر ما يجىء عن أرزاء البدن وتجئرون معناه ترفعون أصواتكم باستغاثة
وتضرع ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون الفريق هنا يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالا من شفاء المرضى وجلب النفع ودفع الضر فهم إذا شفاهم الله عظموا أصنامهم وأضافوا ذلك الشفاء إليها
وقوله سبحانه وليكفروا يجوز أن تكون اللام لام الصيرورة ويجوز أن تكون لام أمر على معنى التهديد
وقوله بما أتيناهم أي بما أنعمنا عليهم
وقوله سبحانه ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم أي لما لا يعلمون له حجة ولا برهانا ويحتمل أن يريد بنفى العلم الأصنام أي لجمادات لا تعلم شيأ نصيبا والنصيب المشار إليه هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها والقسم من الغلات وغيره
وقوله سبحانه ويجعلون لله البنات سبحانه الآية تعديد لقبائح الكفرة في قولهم الملائكة بنات الله تعالى الله عن قولهم والمراد بقوله ولهم ما يشتهون الذكران من الأولاد
وقوله ظل وجهه مسودا عبارة عما يعلو وجه المغموم قال ص ظل تكون بمعنى صار وبمعنى أقام نهارا على الصفة المسندة إلى أسمها وتحتمل هنا الوجهين انتهى وكظيم بمعنى كاظم والمعنى أنه يخفى وجده وهمه بالانثى ومعنى يتوارى يتغيب من القوم وقرأ الجحدري ايمسكها أم يدسها وقرأ الجمهور على هون وقرأ عاصم الجحدري على هوان ومعنى الآية يدبر ايمسك هذه الآنثى على هوان يتحمله وهم يتجلد له أم يئدها فيدفنها حية وهو الدس في التراب
وقوله سبحانه للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء قالت فرقة مثل في هذه الآية بمعنى صفة أي لهؤلاء صفة السوء
ولله المثل الأعلى قال ع وهذا لا يضطر إليه لأنه خروج عن اللفظ بل قوله مثل على بابه فلهم على الاطلاق مثل السوء في كل سوء (2/313)
ولا غاية أخزى من عذاب النار ولله سبحانه المثل الأعلى على الإطلاق أيضا أي الكمال المستغنى
وقوله سبحانه ولو يواخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة الضمير في عليها عائد على الأرض وتمكن ذلك مع أنه لم يجر لها ذكر لشهرتها وتمكن الإشارة إليها وسمع أبو هريرة رجلا يقول إن الظالم لا يهلك إلا نفسه فقال أبو هريرة بلى إن الله ليهلك الحبارى في وكرها هزلا بذبوب الظلمة والأجل المسمى في هذه الآية هو بحسب شخص شخص
وقوله ما يكرهون يريد البنات
وقوله سبحانه وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى قال مجاهد وقتادة الحسنى الذكور من الأولاد وقالت فرقة يريد الجنة قال ع ويؤيده قوله لاجرم أن لهم النار وقرأ السبعة سوى نافع مفرطون بفتح الراء وخفتها أي مقدمون إلى النار وقرأ نافع مفرطون بكسر الراء المخففة أي متجاوزون الحد في معاصي الله
وقوله سبحانه تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك الآية هذه آية ضرب مثل لهم بمن سلف في ضمنها وعيد لهم وتأنيس للنبي صلى الله عليه و سلم
وقوله فهو وليهم اليوم يحتمل أن يريد باليوم يوم الأخبار ويحتم أن يريد يوم القيامة أي وليهم في اليوم المشهور وقوله سبحانه الا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه لتبين في موضع المفعول من أجله إي إلا لأجل البيان والذي اختلفوا فيه لفظ عام لأنواع كفر الكفرة لكن الإشارة هنا إلى تشريكهم الأصنام في الالهية ثم أخذ سبحانه ينص العبر المؤدية إلى بيان وحدانيته وعظيم قدرته فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر المؤدية إلى بيان وحدانيته وعظيم قدرته فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر وهي ملاك الحياة وهي في غاية الظهور لا يخالف فيها عاقل
وقوله مما في بطونه الضمير عائد على الجنس وعلى المذكور وهذا كثير
وقوله سبحانه سائغا للشاربين السائغ السهل في الشرب اللذيذ ت وعن ابن عباس قال قال النبي صلى الله عليه و سلم من أطعمه الله طعاما فليقل اللهم بارك (2/314)
لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ومن سقاه الله لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس شيء يجزئى مكان الطعام والشراب غر اللبن رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي واللفظ له هذا حديث حسن انتهى من السلاح
وقوله سبحانه ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا الآية السكر ما يسكر هذا هوا لمشهور في اللغة قال ابن عباس نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر وأراد بالسكر الخمر وبالرزق الحسن جميع ما يشرب ويؤكل حلالا من هاتين الشجرتين فالحسن هنا الحلال وقال بهذا القول ابن جبير وجماعة وصحح ابن العربي هذا القول ولفظه والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر فإن هذه الآية مكية باتفاق العلماء وتحريم الخمر مدني انتهى من أحكام القرآن وقال مجاهد وغيره السكر المائع من هاتين الشجرتين كالخل والرب والنبيذ والرزق الحسن العنب والتمر قال الطبري والسكر أيضا في كلام العرب ما يطعم ورجح الطبري هذا القول ولا مدخل للخمر فيه ولا نسخ في الآية
وقوله تعالى واوحى ربك إلى النحل الآية الوحي في كلام العرب القاء المعنى من الموحى إلى الموحى إليه في خفاء فمنه الوحي إلى الأنبياء برسالة الملك ومنه وحي الرؤيا ومنه وحي الإلهام وهو الذي في آيتنا باتفاق من المتأولين والوحي أيضا بمعنى الأمر كما قال تعالى بأن ربك أوحى لها وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع أما في الجبال وكواها وأما في متجوف الأشجار وأما في يعرش ابن آدم من الاجباح والحيطان ونحوها وعرش معناه هيأ والسبل الطرق وهي مسالكها في الطيران وغيره وذللا يحتمل أن يكون حالا من النحل أي مطيعة منقادة قاله قتادة قال ابن زيد فهم يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم وقرا أولم يروا انا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما الآية ويحتمل أن يكون حالا من السبل أي (2/315)
مسهلة مستقيمة قاله مجاهد لا يتوعر عليها سبيل تسلكه ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبر أمر العسل في قوله يخرج من بطونها شراب وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل واختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النحل والمراعي أي والفصول ت قال الهروي قوله تعالى يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه وذلك أنه يستحيل في بطونها ثم تمجه من أفواهها انتهى وقوله فيه شفاء للناس الضمير للعسل قاله الجمهور قال ابن العربي في أحكامه وقد روى الأئمة واللفظ للبخاري عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب الحلواء والعسل وروى أبو سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن أخي يشتكي بطنه فقال اسقه عسلا ثم أتاه الثانية فقال اسقه عسلا ثم أتاه فقال فعلت فما زاده ذلك إلا استطلاقا قال عليه السلام صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا فسقاه فبرأ وروي أن عوف ابن مالك الأشجعي مرض فقيل له غلا نعالجك فقال ائتنوني بماء سماء فإن الله تعالى يقول ونزلنا من السماء ماء مباركا وائتنوني بعسل فإن الله تعالى يقول فيه شفاء للناس وائتوني بزيت فإن الله تعالى يقول من شجرة مباركة فجاءوه بذلك كله فخلطه جميعا ثم شربه فبرأ انتهى
وقوله سبحانه ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وأرذل العمر الذي تفسد فيه الحواس ويختل العقل وخص ذلك بالرذيلة وإن كانت حالة الطفولة كذلك من حيث كانت هذه لارجاء معها وقال بعض الناس أول أرذل العمر خمس وسبعون سنة روي ذلك عن علي رضي الله عنه قال ع وهذا في الأغلب وهذا لا ينحصر إلى مدة معينة وإنما هو بحسب إنسان إنسان ورب من يكون ابن خمسين سنة وهو في أرذل عمره ورب ابن تسعين ليس في أرذل عمره واللام في لكي يشبه أن تكون لام الصيرورة والمعنى ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئا وهذه (2/316)
عبارة عن قلة علمه لا أنه لا يعلم شيئا البتة
وقوله سبحانه والله فضل بعضكم على بعض في الرزق أخبار يراد به العبرة وإنما هي قاعدة بني المثل عليها والمثل هو أن المفضلين لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أيها الكفرة إلى الله أنه يسمح بأن يشرك في الألوهية الأوثان والأصنام وغيرها مما عبد من دونه وهم خلقه وملكه هذا تأويل الطبري وحكاه عن أبن عباس قال المفسرون هذه الآية كقوله تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت إيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء الآية ثم وقفهم سبحانه على جحدهم بنعمته في تنبيهه لهم على مثل هذا من مواضع النظر المؤدية إلى الإيمان
وقوله سبحانه والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا هذه أيضا آية تعديد نعم والأزواج هنا الزوجات وقوله من أنفسكم يحتمل أن يريد خلقة حواء من نفس آدم وهذا قول قتادة والأظهر عندي أن يريد بقوله من أنفسكم أي من نوعكم كقوله لقد جاءكم رسول من أنفسكم والحفدة قال ابن عباس هم أولاد البنين وقال الحسن هم بنوك وبنو بنيك وقال مجاهد الحفدة الأنصار والأعوان وقيل غير هذا ولا خلاف إن معنى الحفد الخدمة والبر المشي مسرعا في الطاعة ومنه في القنوت وإليك نسعى ونحفد والحفدان أيضا خبب فوق المشي
وقوله سبحانه فلا تضربوا لله الأمثال الآية أي لا تمثلوا لله الأمثال وهو مأخوذ من قولك هذا ضريب هذا أي ميله والضرب النوع
وقوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا الآية الذي هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا أمر نفسه وإنما هو مسخر بإرادة سيده مدبر وبازاء العبد في المثال رجل موسع عليه في المال فهو يتصرف فيه بإرادته واختلف الناس في الذي له المثل فقال (2/317)
ابن عباس وقتادة هو مثل الكفار والمؤمن وقال مجاهد والضحاك هذا المثال والمثال والآخر الذي بعده إنما هو مثال لله تعالى والأصنام فتلك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء والله تعالى تتصرف قدرته دون معقب وكذلك فسر الزجاج على نحو قول مجاهد وهذا التأويل أصوب لأن الآية تكون من معنى ما قبلها ومدارها في تبيين أمر الله والرد على أمر الأصنام
وقوله الحمد لله أي على ظهور الحجة
وقوله سبحانه وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم الآية هذا مثل لله عز و جل والأصنام فهي كالأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء
والكل الثقيل المؤنة كما الأصنام تحتاج إلى أن تنقل وتخدم ويتعذب بها ثم لا يأتي من جهتها خير أبدا والذي يأمر بالعد هو الله تعالى
وقوله تعالى وما أمر الساعة الآية المعنى على ما قاله قتادة وغيره ما تكون الساعة واقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها كن فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر أوهي أقرب ولمح البصر هو وقعه على المرءي
وقوله سبحانه ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء الآية الجو مسافة ما بين السماء والأرض وقيل هو ما يلي الأرض منها والآية عبرة بينة المعنى تفسيرها تكلف محت
ويوم ظعنكم معناه رحيلكم والأصواف للضأن والأوبار للإبل والأشعار للمعز ولم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان فلذلك اقتصر على هذه ويحتمل أن ترك ذكر القطن والكتان والحرير أعراض عن السرف إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف قال ابن العربي في أحكامه عند قوله تعالى لكم فيها دفء في هذه الآية دليل على لباس الصوف فهو أول ذلك وأولاه لأنه شعار المتقين ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين واختيار الزهاد والعارفين وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية لأنه لباسهم في الغالب انتهى (2/318)
والأثاث متاع البيت وأحدها أثاثه هذا قول أبي زيد الأنصاري وقال غيره الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه قال ع والاشتقاق يقوي هذا المعنى الأعم لأن حال الإنسان تكون بالمال اثيثة كما تقول شعر أثيث ونبات أثيث إذا كثر والتف والسرابيل جميع ما يلبس على جميع البدن وذكر وقاية الحراذ هوأمس بتلك البلاد والبرد فيها معدوم في الأكثر وأيضا فذكر أحدهما يدل على الآخر وعن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من لبس ثوبا جديد فقال الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب الذي خلق فتصدق به كان في كنف الله وفي حفظ الله وفي ستر الله حيا وميتا رواه الترمذي واللفظ له وابن ماجه والحاكم في المستدرك وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما اشترى عبد ثوبا بدينا أو نصف دينا فحمد الله عليه إلا لم يبلغ ركبتيه حتى يغفر الله له رواه الحاكم في المستدرك وقال هذا الحديث لا أعلم في إسناده أحدا ذكر بجرح انتهى من السلاح والسرابيل التي تقي البأس هي الدروع ونحوها ومنه قول كعب بن زهير في المهاجرين ... شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسبج داود في الهيجا سرابيل ...
والبأس مس الحديد في الحرب وقرأ الجمهور تسلمون وقرأ ابن عباس تسلمون من السلامة فتكون اللفظة مخصوصة في بأس الحرب
وقوله سبحانه ويوم نبعث من كل أمة شهيدا أي شاهدا على كفرهم وإيمانهم ثم لا يؤذن أي لا يؤذن لهم في المعذرة وهذا في موطن دون موطن ويستعتبون بمعنى يعتبون تقول أعتبت الرجل إذا كفيته ما عتب فيه كما تقول أشكيته إذا كفيته ما شكا وقال قوم معناه لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدنيا وقال الطبري معنى يستعتبون يعطون الرجوع إلى الدنيا فتقع منهم توبة وعمل ت (2/319)
وهذا هو الراجح وهو الذي تدل عليه الأحاديث وظواهر الآيات في غير ما موضع
وقوله سبحانه وإذا رأى الذين اشكروا شركاءهم أي إذا رأوهم بأبصارهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا ألآية كأنهم أرادوا بهذه المقالة تذنيب المعبودين
وقوله سبحانه فالقوا إليهم القول الآية الضمير في القوا للمعبودين انطقهم الله بتكذيب المشركين وقد قال سبحانه في آية أخرى فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون الآية أنظر تفسيرها في سورة يونس وغيرها
وقوله والقوا إلى الله يومئذ السلم الضمير في ألقوا هنا عائد علىالمشركين والسلم الاستسلام وقوله تعالى زدناهم عذابا فوق العذاب الآية روي في ذلك عن ابن مسعود أن الله سبحانه يسلط عليهم عقارب وحيات لها أنياب كالنخل الطوال وقال عبيد بن عمير حيات لها أنياب كالنخل ونحو هذا وروي عن عبد اله بن عمرو بن العاص أن لجهنم سواحل فيها هذه الحيات وهذه العقارب فيفر الكافرون إلى السواحل فتلقاهم هذه الحيات والعقارب فيفرون منها إلى النار فتتبعهم حتى تجد حر النار فترجع قال وهي في أسراب
وقوله سبحانه ويوم نبعث في كل أمة شهيدا يعني رسولها ويجوز أن يبعث الله شهودا من الصالحين مع الرسل وقد قال بعض الصحابة إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شاهدا عليه يوم القيامة وقوله سبحانه وجئنا بك شهيد على هؤلاء الإشارة بهؤلاء إلى هذه الأمة وقوله عز و جل إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية قال ابن مسعود رضي الله عنه أجمع آية في كتاب الله هذه الآية وروي عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أنه قال لما نزلت هذه الآية قرأتها على أبي طالب فعجب وقال يا آل غالب اتبعوه تفلحوا فواله إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق قال ع والعدل فعل كل مفروض والإحسان فعل كل مندوب إليه
وايتاءى ذي القربى لفظ (2/320)
يقتضي صلة الرحم ويعم جميع اسداء الخير إلى القرابة
والفحشاء الزنا قاله ابن عباس ويتناول اللفظ سائر المعاصي التي شنعتها ظاهرة
والمنكر أعم منه لأنه يعم جميع المعاصي والرذائل والاذايات على اختلاف أنواعها
والبغي هو إنشاء ظلم الإنسان والسعاية فيه وكفيلا معناه متكفلا بوفائكم وباقي الآية بين
وقوله سبحانه ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها الآية شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد ويبرم عقده بالمرأة تغزل غزلها تفتله محكما ثم تنقض قوى ذلك الغزل فتحله بعد إبرامه
و انكاثا نصب على الحال والنكث النقض والعرب تقول أنتكث الحبل إذا انتقضت قواه والدخل الدغل بعينه وهو الذرائع إلى الخدع والغدر وذلك أن المحلوف له مطمئن فيتمكن الحالف من ضرره بما يريد
وقوله سبحانه ان تكون أمة هي أربى من أمة المعنى لا تنقضوا الإيمان من أجل أن تكون قبيلة أزيذ من قبيلة في العدد والعزة والقوة ويبلوكم أي يختبركم والضمير في به يحتمل أن يعود على الربا أي إن الله أبتلى عباده بالربا وطلب بعضهم الظهور على بعض واختبرهم بذلك ليرى من يجاهد بنفسه ممن يتبع هواها وباقي الآية وعيد بيوم القيامة
وقوله سبحانه ولا تتخذوا إيمانكم دخلا بينكم الآية الدخل كما تقدم الغوائل والخدائع وكرر مبالغة قال الثعلبي قال أبوعبيدة كل امر لم يكن صحيحا فهو دخل انتهى
وقوله فتزل قدم بعد ثبوتها إستعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم
وقوله سبحانه ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا الآية هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال ثم أخبر تعالى أن ما عنده من نعيم الجنة ومواهب الآخرة خير لمن اتقى وعلم واهتدى ثم بين سبحانه الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان أو ينقضي عنها ومنن الآخرة باقية دائمة وصبروا معناه عن الشهوات وعلى مكاره الطاعات (2/321)
وهذه إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المكروهة واختلف الناس في معنى الحياة الطيبة فقال ابن عباس هو الرزق الحلال وقال الحسن وعلي بن أبي طالب هي القناعة قال ع والذي أقول به أن طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم ونبلها وقوة رجائهم والرجاء للنفس أمر ملذ فبهذا تطيب حياتهم وأنهم أحتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة أو قناعة فذلك كمال وإلا فالطيب فيما ذكرناه راتب
وقوله سبحانه ولنجزينهم الآية وعد بنعيم الجنة قال أبو حيان وروي عن نافع وليجزينهم بالياء التفاتا من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفا على فلنحيينه فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية وكلتاهما محذوفة وليس من عطف جواب لتغاير الإسناد
انتهى وقوله سبحانه فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله الآية التقدير فإذا أخذت في قراءة القرآن والاستعاذة ندب وعن عطاء أن التعوذ واجب ولفظ الاستعاذة هو على رتبة هذه الآية والرجيم المرجوم باللعنة وهو إبليس ثم أخبر تعالى أن إبليس ليس له ملكة ولا رياسة هذا ظاهر السلطان عندي في هذه الآية وذلك أن السلطان أن جعلناه الحجة فليس لإبليس حجة في الدنيا على أحد لا على مؤمن ولا على كافر إلا أن يتأول متأول ليس له سلطان يوم القيامة فيستقيم أن يكون بمعنى الحجة لأن إبليس له حجة على الكافرين أنه دعاهم بغير دليل فاستجابوا له من قبل أنفسهم ويتولونه معناه يجعلونه وليا والضمير في به يحتمل أن يعود على اسم الله عز و جل والظاهر أنه يعود على اسم العدو الشيطان بمعنى من أجله وبسببه فكأنه قال والذين هم بسببه مشركون بالله وهذا الأخبار بأن لا سلطان للشيطان على المؤمنين بعقب الأمر بالاستعاذة يقتضي أن الاستعاذة تصرف كيده كأنها متضمنة للتوكل على الله والانقطاع إليه (2/322)
وقوله سبحانه وإذا بدلنا ءاية مكان ءاية يعني بهذا التبديل النسخ
قالوا إنما أنت مفتر أي قال كفار مكة وروح القدس هو جبريل بلا خلاف
وقوله سبحانه ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر قال ابن عباس كان بمكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له بلعام فكان النبي صلى الله عليه و سلم يعلمه الإسلام ويرومه عليه فقال بعض الكفار هذا يعلم محمدا وقيل اسم الغلام جبر وقيل يسار وقيل يعيش والأعجمي هو الذي لا يتكلم بالعربية وأما العجمي فقد يتكلم بالعربية ونسبته قائمة
وقوله وهذا إشارة إلى القرآن والتقدير وهذا سرد لسان أو نطق لسان
وقوله سبحانه إنما يفتري الكذب بمعنى إنما يكذب وهذه مقاومة للذين قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم إنما أنت مفتر ومن في قوله من كفر بدل من قوله الكاذبون فروي أن قوله سبحانه واولائك هم الكاذبون يراد به مقيس بن ضبابة واشباههم ممن كان يؤذي آمن ثم ارتد باختياره من غير اكراه
وقوله سبحانه إلا من اكره إي كبلال وعمار بن ياسر وأمه وخباب وصهيب وأشباههم ممن كان يوذى في الله سبحانه فربما سامح بعضهم بما أراد الكفار من القول لما أصابه من تعذيب الكفرة فيروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله في هذه الآية وبقية الرخصة عامة في الأمر بعده ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ما صنع به من العذاب وما سامح به من القول فقال له النبي صلى الله عليه و سلم كيف تجد قلبك قال أجده مطمئنا بالإيمان قال فاجبهم بلسانك فإنه لا يضرك وإن عادوا فعد
وقوله سبحانه ولكن من شرح بالكفر صدرا معناه انبسط إلى الكفر باختياره ت وقد ذكر ع هنا نبذا من مسائل الإكراه تركت ذلك خشية التطويل وإذ محل بسطها كتب الفقه
وقوله سبحانه ذلك بأنهم استحبوا (2/323)
الحيوة الدنيا على الآخرة الآية ذلك إشارة إلى الغضب والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية والضمير في أنهم لمن شرح بالكفر صدرا
وقوله سبحانه ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا الآية قال ابن إسحاق نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد قال ع وذكر عمار في هذا عندي غير قويم فإنه أرفع من طبقة هؤلاء وإنما هؤلاء من تاب ممن شرح بالكفر صدرا فتح الله له باب التوبة في آخر الآية وقال عكرمة والحسن نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح واشباهه فكأنه يقول من بعد ما فتنهم الشيطان وهذه الآية مدنية بلا خلاف وإن وجد فهو ضعيف وقرأ الجمهور من بعد ما فتنوا مبني للمفعول وقرأ أبن عامر وحده من بعد ما فتنوا بفتح الفاء والتاء أي فتنوا أنفسهم والضمير في بعدها عائد على الفتنة أو على الفعلة أو الهجرة أو التوبة والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح
وقوله يوم تأتي كل نفس المعنى لغفور رحيم يوم ونفس الأولى هي النفس المعروقة والثانية هي بمعنى الذات ت قال المهدوي يجوز أن ينتصب يوم على تقدير لغفور رحيم فلا يوقف على رحيم وقال ص يوم تأتي ظرف منصوب برحيم أو مفعول به باذكر انتهى وهذا الأخير أظهر والله أعلم
وقوله سبحانه وتوفى كل نفس ما عملت أي يجازى كل من أحسن بإحسانه وكل من أساء بإساءته
وقوله سبحانه وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة الآية قال ابن عباس القرية هنا مكة والمراد بهذه الضمائر كلها في الآية أهل القرية ويتوجه عندي في الآية أنها قصد بها قرية غير معينة جعلت مثلا لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة وهو الذي يفهم من كلام حفصة أم المؤمنين وأنعم جمع نعمة
وقوله سبحانه فأذاقها الله لباس الجوع والخوف (2/324)
استعارات أي لما باشرهم ذلك صار كاللباس والضمير في جاءهم لأهل مكة والرسول محمد صلى الله عليه و سلم والعذاب الجوع وأمر بدر ونحو ذلك إن كانت الآية مدنية وإن كانت مكية فهو الجوع فقط
وقوله سبحانه فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا الآية هذا ابتداء كلام آخر أي وأنتم أيها المؤمنون لستم كهذه القرية فكلوا واشكروا الله على تباين حالكم من حال الكفرة وقوله حلالا حال وقوله طيبا أي مستلذا إذ فيه ظهور النعمةو يحتمل أن يكون الطيب بمعنى الحلال كرر مبالغة وتأكيد
وقوله سبحانه ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام الآية هذه الآية مخاطبة للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب قال ابن العربي في أحكامه ومعنى الآية لا تصفوا الأعيان بأنها حلال أو حرام من قل أنفسكم إنما المحرم والمحلل هو الله سبحانه قال ابن وهب قال مالك لم يكن من فتيا الناس أن يقال لهم هذا حلال وهذا حرام ولكن يقول انا أكره هذا ولم أكن لأصنع هذا فكان الناس يطيعون ذلك ويرضونه ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله كما تقدم بيانه فليس لأحد أن يصرح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون الباري تعالى يخبر بذلك عنه وما يؤدي إليه الاجتهاد أنه حرام يقول فيه أني أكره كذا وكذا كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى انتهى
وقوله متاع قليل إشارة إلى عيشهم في الدنيا ولهم عذاب أليم بعد ذلك في الآخرة
وقوله ما قصصنا عليك من قبل إشارة إلى ما في سورة الأنعام من ذي الظفر والشحوم
وقوله سبحانه ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم هذه آية تأنيس لجميع العالم فهي تتناول كل كافر وعاص تاب من سوء حاله قالت فرقة الجهالة هنا العمد والجهالة عندي في هذا الموضع ليست ضد (2/325)
العلم بل هي نعدى الطور وركوب الرأس ومنه قوله صلى الله عليه و سلم أو أجهل أو يجهل على وقد تقدم بيان هذا وقلما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بحظر المعصية التي يواقع
وقوله سبحانه إن إبراهيم كان أمة قانتا لله الآية لما كشف الله فعل اليهود وتحكمهم في شرعهم بذكر ما حرم عليهم أراد أن يبين بعدهم عن شرع إبراهيم عليه السلام والأمة في اللغة لفظة مشتركة تقع للحين وللجمع الكثير وللرجل المنفرد بطريقة وحده وعلى هذا الوجه سمي إبراهيم عليه السلام أمة قال مجاهد سمي إبراهيم أمة لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما وفي البخاري أنه قال لسارة ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك وفي البخاري قال ابن مسعود الأمة معلم الخير والقانت المطيع الدائم على العبادة والحنيف المائل إلى الخير والصلاح
وقوله سبحانه وءاتيناه في الدنيا حسنة الآية الحسنة لسان الصدق وأمامته لجميع الخلق هذا قول جميع المفسرين وذلك أن كل أمة متشرعة فهي مقرة أن إيمانها إيمان إبراهيم وأنه قدوتها وأنه كان على الصواب ت وهذا كلام فيه بعض أجمال وقد تقدم في غير هذا الموضع بيانه فلا نطول بسرده
وقوله سبحانه ان اتبع ملة إبراهيم الآية الملة الطريقة في عقائد الشرع
وقوله سبحانه إنما جعل السبت الآية أي لم يكن من ملة إبراهيم وإنما جعله الله فرضا عاقب به القوم المختلفين فيه قاله ابن زيد وذلك أن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل أن يجعلوا من الجمعة يوما مختصا بالعبادة وأمرهم أن يكون الجمعة فقال جمهورهم بل يكون يوم السبت لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق مخلوقاته وقال غيرهم بل نقبل ما أمر به موسى فراجعهم الجمهور فتابعهم الآخرون فالزمهم الله يوم السبت إلزاما قويا عقوبة لهم ثم لم يكن منهم ثبوت بل عصوا فيه وتعدوا فأهلكهم وورد في الحديث الصحيح أن اليهود والنصارى (2/326)
اختلفوا في اليمم الذي يختص من الجمعة فأخذ هؤلاء السبت وأخذ هؤلاء الأحد فهدانا الله نحن إلى يوم الجمعة قال صلى الله عليه و سلم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فليس الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف في هذا الحديث ت يعنى أن الاختلاف المذكور في الآية هو بين اليهود فيما بينهم والاختلاف المذكور في الحديث الصحيح هو فيما بين اليهود والنصارى
وقوله سبحانه ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة هذه الآية نزلت بمكة أمر عليه السلام أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة
وقوله سبحانه وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الآية أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد ووقع ذلك في صحيح البخاري وغيره وقال النبي صلى الله عليه و سلم لئن اظفرني الله بهم لامثلن بثلاثين وفي كتاب النحاس وغيره بسبعين منهم فقال الناس أن ظفرنا لنفعلن ولنفعلن فنزلت هذه الآية ثم عزم على النبي صلى الله عليه و سلم في الصبر عن المجازاة بالتمثيل في القتلى ويروى أنه عليه السلام قال لأصحابه أما أنا فأصبر كما أمرت فما ذا تصنعون فقالوا نصبر يا رسول الله كما ندبنا
وقوله وما صبرك إلا بالله أي بمعونة الله وتأييده على ذلك
وقوله سبحانه ولا تحزن عليهم قيل الضمير في قوله عليهم يعود على الكفار أي لا تتأسف على أن لم يسلموا وقالت فرقة بل يعود على القتلى حمزة وأصحابه الذين حزن عليهم صلى الله عليه و سلم والأول أصوب
ولا تكل في ضيق مما يمكرون
قرأ الجمهور في ضيق بفتح الضاد وقرأ ابن كثير بكسر الضاد وهما لغتان إن الله مع الذين اتقوا أي بالنصر والمعونة واتقوا يريد المعاصي
ومحسنون هم الذين يتزيدون فيما ندب إليه من فعل الخير وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصبحه وسلم تسليما (2/327)
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة سبحان
هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات قال ابن مسعود في بني إسرائيل والكهف إنهما من العتاق الأول وهن من تلادي يريد أنهن من قديم كسبه
قوله عز و جل سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام جل العلماء على أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه و سلم وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه وقالت عائشة ومعاوية إنما أسري بروحه والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ولو كانت منامة ما أمكن قريشا التشنيع ولا فضل أبو بكر بالتصديق ولا قالت له أم هانىء لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك إلى غير هذا من الدلائل وأما قول عائشة فإنها كانت صغيرة ولا حدثت عن النبي صلى الله عليه و سلم وكذلك معاوية قال ابن العربي قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا قال علماؤنا لو كان للنبي صلى الله عليه و سلم اسم هو أشرف منه لسماه الله تعالى به في تلك الحالة العلية وقد قال الأستاذ جمال الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن لما رفعه الله إلى حضرته السنية وارقاه فوق الكواكب العلوية ألزمه اسم العبودية تواضعا وإجلالا للألوهية انتهى من الأحكام وسبحان مصدر معناه تنزيها لله وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم ما معنى سبحان الله قال تنزيه الله من كل سوء وكان الإسراء فيما قال مقاتل وقتادة قبل الهجرة بعام وقيل بعام ونصف والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة (2/328)
وقبل بيعة العقبة ووقع في الصحيحين لشريك بن أبي نمر وهم في هذا المعنى فإنه روى حديث الإسراء فقال فيه وذلك قبل أن يوحى إليه ولا خلاف بين المحدثين أن هذا وهم من شريك قال ص أسرى بعبده بمعنى سرى وليست همزته للتعدية بل كسقى واسقى والباء للتعدية وليلا ظرف للتأكيد لأن السرى لا يكون لغة إلا بليل وقيل يعني به في جوف الليل فلم يكن أدلاجا ولا أدلاجا انتهى والمسجد الأقصى بيت المقدس والأقصى البعيد والبركة حوله من وجهين أحدهما النبوؤ والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر وفي نواحيه والآخر النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة
وقوله سبحانه لنريه يريد لنري محمدا بعينه آياتنا في السماوات والملائكة والجنة والسدرة وغير ذلك من العجائب مما رآه تلك الليلة ولا خلاف أن في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة
وقوله سبحانه أنه هو السميع البصير وعيد للمكذبين بأمر الإسراء أي هو السميع لما تقولون البصير بأفعالكم
وآتينا موسى الكتاب أي التوراة
وقوله الا تتخذوا من دوني وكيلا الآية التقدير فعلنا ذلك ليلا تتخذوا يا ذرية فذرية منصوب على النداء وهذه مخاطبة للعالم ويتجه نصب ذرية على أنه مفعول بتتخذوا ويكون المعنى أن لا يتخذوا بشرا إلاها من دون الله وقرأ أبو عمرو وحده الا يتخذوا بالياء على لفظ الغائب والوكيل هنا من التوكيل أي متوكلا عليه في الأمور فهو ند لله بهذا الوجه وقال مجاهد وكيلا شريكا ووصف نوح بالشكر لأنه كان يحمد الله في كل حال وعلى كل نعمة من المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلى الله عليه و سلم قال سليمان الفارسي وغيره قال ابن المبارك في رقائقه أخبرنا ابن أبي ذيب عن سعيد المقبري عن أبيه عن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام قال يا رب ما الشكر الذي ينبغي لك قال يا موسى لا يزال (2/329)
لسانك رطبا من ذكري انتهى وقد رويناه مسندا عن النبي صلى الله عليه و سلم أعنى قوله لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله
وقوله سبحانه وقضينا إلى بني إسرائيل الآية قالت فرقة قضينا معناه في أم الكتاب قال ع وإنما يلبس في هذا المكان تعدية قضينا بالى وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله عز و جل في أم الكتاب على بني إسرائيل والزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعا في إيجاز جعل قضتنا دالة على النفوذ في أم الكتاب وقرن بها إلى دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال قضينا إلى بني إسرائيل معناه أعلمناهم وقال مرة قضينا عليهم والكتاب هنا التوراة لأن القسم في قوله لتفسدن غير متوجه مع أن نجعل الكتاب هو اللوح المحفوظ وقال ص وقضينا مضمن معنى أوحينا ولذلك تعدى بالى واصله أن يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد كقوله سبحانه فلما قضى موسى الأجل انتهى وهو حسن موافق لكلام ع وقوله ولتعلن أي لتتجبرن وتطلبون في الأرض العلو ومتقضى الآيات أن الله سبحانه أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وكفر لنعم الله وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتذلهم ثم يرحمهم بعد ذلك ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم من الظهور ثم تقع منهم أيضا تلك المعاصي والقبائح فيبعث الله تعالى عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحا وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله قيل كان بين المرتين مائتا سنة وعشر سنين ملكا مؤيدا بأنبياء وقيل سبعون سنة
وقوله سبحانه فإذا جاء وعد أولهما الضمير في قوله أولاهما عائد على قوله مرتين وعبر عن الشر بالوعد لأنه قد صرح بذكر المعاقبة قال ص وعد أولاهما أي موعود وهو العقاب لان الوعد سبق بذلك (2/330)
وقيل هو على حذف مضاف أي وعد عقاب أولاهما انتهى وهو معنى ما تقدم واختلف الناس في العبيد المبعوثين وفي صورة الحال اختلافا شديدا متباعدا عيونه أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكريا عليه السلام فغزاهم سنجاريب ملك بابل قاله ابن إسحاق وابن جبير وقال ابن عباس غزاهم جالوت من أهل الجزيرة وقيل غزاهم بخت نصر وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس فلما أنصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش وبعثه فخرب بيت المقدس وقتلهم وأجلاهم ثم أنصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه واستمرت حال حتى ملك الأرض بعد ذلك وقالت فرقة إنما غزاهم بخت نصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحي بن زكريا وصورة قتله أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته فنهاه يحيى عنها فعز ذلك على امرأته فزينت بنتها وجعلتها تسقي الملك الخمر وقالت لها إذا راودك عن نفسك فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمنين فإذا قال لك تمني علي ما أردت فقولي رأس يحي بن زكريا ففعلت الجارية ذلك فردها الملك مرتين وأجابها في الثالثة فجيء بالرأس في طست ولسانه يتكلم وهو يقول لا تحل لك وجرى دم يحيى فلم ينقطع فجعل الملك عليه التراب حتى ساوى سور المدينة والدم ينبعث فلما غزاهم الملك الذي بعث عليهم بحسب الخلاف الذي فيه قتل منهم على الدم سبعين ألفا حتى سكن هذا مقتضى خبرهم وفي بعض الروايات زايدة ونقص وقرأ الناس فجاسوا وقرأ أبو السمال بالحاء وهما بمعنى الغلبة والدخول قهر أو قال مؤرج جاسوا خلال الأزقة ت قال ص جاسوا مضارعه يجوس ومصدره جوس وجوسان ومعناه التردد وخلال ظرف أي وسط الديار انتهى
وقوله سبحانه ثم رددنا لكم الكرة عليهم الآية عبارة عما قاله سبحانه لبني إسرائيل في التوراة وجعل (2/331)
رددنا موضع نرد لما كان وعد الله في غاية الثقة وأنه واقع لا محالة فعبر عن المستقبل بالماضي وهذه الكرة هي بعد الجلوة الأولى كما وصفنا فغلب بنو إسرائيل على بيت المقدس وملكوا فيه وحسنت حالهم برهة من الدهر وأعطاهم الله الأموال والأولاد وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس فلما قال الله إني سأفعل بكم هكذا عقب بوصيتهم في قوله إن أحسنتم احسنتم لأنفسكم الآية المعنى أنكم بعملكم تجاوزن ووعد الآخرة معناه من المرتين
وقوله ليسوءوا اللام لام أمر وقيل المعنى بعثناهم ليسوءوا وليدخلوا فهي لام كي كلها والضمير للعباد أولى البأس الشديد والمسجد مسجد بيت المقدس وتبر معناه أفسد بغشم وركوب رأس
وقوله ما علوا أي ما علوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد وقيل ما ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد
وقوله سبحانه عسى ربكم أن يرحمكم الآية يقول الله عز و جل لبقية بني إسرائيل عسى ربكم أن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أن يرحمكم وهذه العدة ليست برجوع دولة وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد عليهما السلام فلم يفعلوا وعادوا إلى الكفر والمعصية فعاد عقاب الله عليهم بضرب الذلة عليهم وقتلهم واذلالهم بيد كل أمة والحصير من الحصر بمعنى السجن وبنحو هذا فسره مجاهد وغيره وقال الحسن الحصير في الآية أراد به ما يفترش ويبسط كالحصير المعروف عند الناس قال ع وذلك الحصير أيضا هو مأخوذ من الحصر
وقوله سبحانه إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الآية يهدي في هذه الآية بمعنى يرشد ويتوجه فيها أن تكون بمعنى يدعو والتي يريد بها الحالة والطريقة وقالت فرقة التي هي أقوم لا إله إلا الله والأول أعم والأجر الكبير الجنة وكذلك حيث وقع في كتاب الله فضل كبير وأجر كبير فهو الجنة قال الباجي قال ابن وهب سمعت مالكا يقول إن استطعت (2/332)
أن تجعل القرآن إماما فأفعل فهو الأمام الذي يهدي إلى الجنة قال أبو سليمان الداراني ربما أقمت في الآية الواحدة خمس ليال ولولا أني ادع التفكر فيها ما جزتها وقال إنما يؤتى على أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها قال الباجي وروى ابن لبابة عن العتبي عن سحنون أنه رأى عبد الرحمن بن القاسم في النوم فقال له ما فعل الله بك قال وجدت عنده ما أحببت قال له فأي أعمالك وجدت أفضل قال تلاوة القرآن قال قلت له فالمسائل فكان يشير بأصبعه كأنه يلشيها فكنت اسأله عن ابن وهب فيقول لي هو في عليين انتهى من سنن الصالحين
وقوله سحبانه ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا سقطت الواو من بدع في خط المصحف قال ابن عباس وقتادة ومجاهد هذه الآية نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم في وقت الغضب والضحر فأخبر سبحانه أنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما يدعون بالخير في وقت التثبت فلو أجاب الله داءهم أهلكهم لكنه سبحانه يصفح ولا يجيب دعاء الضجر المستعجل ثم عذر سبحانه بعض العذر في أن الإنسان له عجلة فطرية والإنسان هنا يراد به الجنس قاله مجاهد وغيره وقال ابن عباس وسلمان الإشارة إلى آدم لمانفخ الروح في رأسه عطس وأبصر فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقيه أعجبته نفسه فذهب ليمشي مستعجلا لذلك فلم بقدر والمعنى على هذا فأنتم ذووا عجلة موروثة من أبيكم وقالت فرقة معنى الآية معاتبة الناس في دعائهم بالشر مكان ما يجب أن يدعوه بالخير ت قول هذه الفرقة نقله ع غير ملخص فانا لخصته
وقوله سبحانه وجعلنا الليل والنهار ءايتين الآية هنا العلامة المنصوبة للنظر والعبرة
وقوله سبحانه فمحونا ءاية الليل قالت فيه فرقة سبب تعقيب الفاء أن الله تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين فمحا بعد ذلك القمر محاه جبريل بجناحه ثلاث مرات (2/333)
فمن هنالك كلفه وقالت فرقة أن قوله فمحونا آية الليل إنما يريد في أصل خلقته
وجعلنا ءاية النهار مبصرة أي يبصر بها ومعها ليبتغي الناس الرزق وفضل الله وجعل سبحانه القمر مخالفا لحال الشمس ليعلم به العدد من السنين والحساب للأشهر والأيام ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة القمر لا من جهة الشمس وحكى عياض في المدارك في ترجمة الغازي بن قيس قال روي عن الغازي بن قيس أنه كان يقول ما من يوم ياتي إلا ويقول انا خلق جديد وعلى ما يفعل في شهيد فخذوا مني قبل أن أبيد فإذا أمسى ذلك اليوم خر لله ساجدا وقال الحمد لله الذي لم يجعلني اليوم العقيم انتهى والتفصيل البيان
وقوله سبحانه وكل إنسان الزمناه طائره قال ابن عباس طائره ما قدر له وعليه وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف وذلك أنه كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثير ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلا وسمت ذلك كله تطيرا وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية بأوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر وقد سبق به القضاء والزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه وذلك في قوله عز و جل وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه فعبر عن الحظ والعمل إذهما متلازمان بالطائر قاله مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا هذا الكتاب هو عمل الإنسان وخطيآته اقرأ كتابك أي يقال له اقرأ كتابك واسند الطبري عن الحسن أنه قال يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك والآخر عن شمالك يحفظ سيئاتك فأملل ما شئت وأقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا (2/334)
اقرأ كتباك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا قد عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك قال ع فعلى هذه الألفاظ التي ذكر الحسن يكون الطائر ما يتحصل مع ابن آدم من عمله في قبره فتأمل لفظه وهذا قول ابن عباس وقال قتادة في قوله اقرأ كتابك إنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرا
وقوله سبحانه وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها قرا الجمهور أمرنا على صيغة الماضي وعن نافع وابن كثير في بعض ما روي عنهما آمرنا بمد الهمزة بمعنى كثرنا وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه أمرنا بتشديد الميم وهي قراءة أبي عثمان النهدي وأبي العالية وأبن عبيا ورويت عن علي قال الطبري القراءة الأولى معناها امرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها وهو قول ابن عباس وابن جبير والثانية معناها كثرناهم والثالثة هي من الإمارة أي ملكناهم على الناس قال الثعلبي واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور قال أبو عبيد وإنما اخترت هذه القراءة لأن المعاني الثلاثة مجتمعة فيها وهي معنى الأمر والإمارة والكثرة انتهى ت وعبارة ابن العربي أمرنا مترفيها يعني بالطاعة ففسقوا بالمخالفة انتهى من كلامه على الأفعال الواقعة في القرآن والمترف الغني من المال المتنعم والترفة النعمة وفي مصحف أبي بن كعب قرية بعثنا أكابر مجرميها فمكروا فيها
وقوله سبحانه فحق عليها القول أي وعيد الله لها الذي قاله رسولهم والتدمير الإهلاك مع طمس الآثار وهدم البناء
وكم أهلكنا من القرون الآية مثال لقريش ووعيد لهم أي لستم ببعيد مما حصلوا فيه أن كذبتم واختلف في القرن وقد روى محمد بن القاسم في ختنه عبد الله بن بسر قال وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده على رأسه وقال سعيش هذا الغلام قرنا قلت كم القرن قال مائة سنة قال محمد بن القاسم فما زلنا نعد له حتى كمل مائة سنة ثم مات رحمه الله والباء في قوله بربك (2/335)
زائدة التقدير وكفى ربك وهذه الباء إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم وقد يجيء كفى دون باء كقول الشاعر ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا ...
وكقول الآخر ... ويخبرني عن غائب المرء هديه ... كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا ...
وقوله سبحانه من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الآية المعنى فإن الله يعجل لمن يريد من هؤلاء ما يشاء سبحانه على قراءة النون أو ما يشاء هذا المريد على قراءة الياء وقوله لمن نريد شرط كاف على القراءتين وقال ابن إسحاق الفزاري المعنى لمن نريد هلكته والمدحور المهان المبعد المذلل المسخوط عليه
وقوله سبحانه ومن أراد الآخرة أي اراد يقين وإيمان بها وبالله ورسالاته ثم شرط سبحانه في مريد الآخرة ان يسعى لها سعيا وهو ملازمة أعمال الخير على حكم الشرع
فاولائك كان سعيهم مشكورا ولا يشكر الله سعيا ولا عملا إلا أثاب عليه غفر بسببه ومنه قوله صلى الله عليه و سلم في حديث الرجل الذي سقى الكلب العاطش فشكر الله له فغفر له
وقوله سبحانه كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك يحتمل أن يريد بالعطاء الطاعات لمريد الآخرة والمعاصي لمريد العاجلة وروي هذا التأويل عن ابن عباس ويحتمل أن يريد بالعطاء رزق الدنيا وهو تأويل الحسن بن أبي الحسن وقتادة المعنى أنه سبحانه يرزق في الدنيا من يريد العاجلة ومريد الآخرة وإنما يقع التفاضل والتباين في الآخرة ويتناسب هذا المعنى مع قوله وما كان عطاء ربك محظورا أي ممنوعا وقل ما تصلح هذه العبارة لمن يمد بالمعاصي
وقوله أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض الآية تدل دلالة ما على أن العطاء في التي قبلها الرزق وباقي الآية معناه أوضح من أن يبين
وقوله سبحانه لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا هذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد لجميع الخلق قاله الطبري وغيره (2/336)
ولا مرية في ذم من نحت عودا أو حجرا وأشركه في عبادة ربه قال ص فتقعد أي تصير بهذا فسره الفراء وغيره والخذلان في هذا بإسلام الله لعبده وأن لا يتكفل له بنصر والمخذول الذي أسلمه ناصروه والخاذل من الظباء التي تترك ولدها
وقوله سبحانه وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه الآية قضى في هذه الآية هي بمعنى أمر والزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس وأقول أن المعنى وقضى ربك أمره فالمقضي هنا هو الأمر وفي مصحف ابن مسعود ووصى ربك وهي قراءة ابن عباس وغيره والضمير في تعبدوا لجميع الخلق وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور ويحتمل أن يكون قضى على مشهورها في الكلام ويكون الضمير في تعبدوا للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة
وقوله فلا تقل لهما اف معنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول اضجر واتقذروا وأكره ونحو هذا يعبر ايجازا بهذه اللفظة فتعطى معنى الفعل المذكور وإذا كان النهي عن التأفيف فما فوقه من باب أحرى وهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور قال ص وقرأ الجمهور الذل بضم الذال وهو ضد العز وقرأ ابن عباس وغيره بكسرها وهو الانقياد ضد الصعوبة انتهى وباقي الآية بين قال ابن الحاجب في منتهى الوصول وهو المختصر الكبير المفهوم ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق وهو مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة فالأول أن يكون حكم المفهوم موافقا للمنطوق في الحكم ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب كتحريم الضرب من قوله تعالى فلا تقل لهما اف وكالجزاء بما فوق المثقال من قوله تعالى ومن يعمل مثقال ذرة وكتأدية ما دون القنطار من قوله تعالى ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده اليك وعدم تأدية ما فوق الدينار من قوله تعالى بدينار لا يؤده إليك وهومن قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى والأعلى على الأدنى فلذلك كان الحكم في المسكوت أولى وإنما يكون ذلك إذا عرف المقصود من الحكم (2/337)
وانه أشد مناسبة في المسكوت كهذه الأمثلة ومفهوم المخالفة أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق به في الحكم ويسمى دليل الخطاب وهو أقسام مفهوم الصفة مثل في الغنم السائمة الزكاة ومفهوم الشرط مثل وأن كن أولات حمل ومفهوم الغاية مثل حتى تنكح زوجا غيره ومفهوم إنما مثل إنما الربا في النسيئة ومفهوما الاستنثاء مثل لا إله إلا الله ومفهوم العدد الخاص مثل فاجلدوهم ثمانين جلدة ومفهوم حصر المبتدأ مثل العالم زيد وشرط مفهوم المخالفة عند قائله ان لا يظهر أن المسكوت عنه أولى ولا مساويا كمفهوم الموافقة ولا خرج مخرج الأعم الأغلب مثل وربائبكم اللتي في حجوركم فأما مفهوم الصفة فقال به الشافعي ونفاه الغزالي وغره انتهى وفسر الجمهور الأوابين بالرجاعين إلىالخير وهي لفظة لزم عرفها أهل الصلاح ت قال عبد الحلق الأشبيلي واعلم أن الميت كالحي فيما يعطاه ويهدى إليه بل الميت أكثر وأكثر لأن الحي قد يستقل مايهدى إليه ويستحقر ما يتحف به والميت لا يستحقر شيئا من ذلك ولو كان مقدار جناح بعوضة أو وزن مثال ذرة لأنه يعلم قيمته وقد كان يقدر عليه فضيعه وقد قال عليه السلام إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له فهذا دعاء الولد يصل إلى والده وينتفع به وكذلك امره عليه السلام بالسلام على أهل القبور والدعاء لهم ما ذاك إلا لكون ذلك الدعاء لهم والسلام عليهم يصل إليهم ويأتيهم والله أعلم وروي عنه عليه السلام أنه قال الميت في قبره كالغريق ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها والأخبار في هذا الباب كثيرة انتهى من العاقبة ت وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال كان يقال أن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده واشار بيده نحو السماء قال أبو عمر وقد رويناه بإسناد جيد ثم أسند عن أبي (2/338)
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن الله ليرفع العبد الدرجة فيقول أي رب إني لي هذه الدرجة فيقال باستغفار ولدك لك انتهى من التمهيد وروينا في سنن أبي داود أن رجلا من بني سلمة قال يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء ابرهما به بعد موتهما قال نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وانفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما انتهى
وقوله سبحانه وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل الآية قال الجمهور الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم خوطب بذلك النبي صلى الله عليه و سلم والمراد الأمة والحق في هذه الآية ما يتعين له من صل الرحم وسد الخلة والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه قال بنحو هذا الحسن وابن عباس وعكرمة وغيرهم والتبذير انفاق المال في فساد أو في سرف في مباح
وقوله تعالى وأما تعرضن عنهم أي عن من تقدم ذكره من المساكين وابن السبيل فقل لهم قولا ميسورا أي فيه ترجية بفضل الله وتأنيس بالميعاد الحسن ودعاء في توسعة الله وعطائه وروي أنه صلى الله عليه و سلم كان يقول بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطى يرزقنا الله وإياكم من فضله والرحمة على هذا التأويل الرزق المنتظر وهذا قول ابن عباس وغيره والميسور من اليسر
وقوله سبحانه ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك استعارة لليد المقبوضة عن الإنفاق جملة واستعير لليد التي تستنفد جميع ما عندها غاية البسط ضد الغل وكل هذا في انفاق الخير وانفاق الفساد فقليله وكثيره حرام أو الملامة هنا لاحقة ممن يطلب من المستحقين فلا يجد ما يعطى والمحسور الذي قد استنفدت قوته تقول حسرت البعير إذا أتعبته حتى لم تبق له قوة ومنه البصر الحسير قال ابن العربي وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد أمته وكثيرا ما جاء هذا المعنى في القرآن فإن النبي صلى الله عليه (2/339)
وسلم لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب في ذلك انتهى من الأحكام والحسير هو الكال
إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر معنى يقدر يضيق
وقوله سبحانه إنه كان بعباده خبيرا بصيرا أي يعلم مصلحة قوم في الفقر ومصلحة آخرين في الغنى وقال بعض المفسرين الآية إشارة إلى حال العرب التي كانت يصلحها الفقر وكانت إذا شبعت طغت ت وهذا التأويل يعضده قوله تعالى ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض الآية ولا خصوصية لذكر العرب إلا من حيث ضرب المثل
وقوله سبحانه ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق الآية نهي عن الوأد الذي كانت العرب تفعله والإملاق الفقر وعدم المال وروى أبو داود عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كانت له ابنة فلم يئدها ولم يهنها ولم يوثر ولده عليها قال يعني الذكور أدخله الله الجنة انتهى والحق الذي تقتل به النفس قد فسره النبي صلى الله عليه و سلم في قوله لا يحل دم المسلم إلا أحدى ثلاث خصال كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس أي وما في هذا المعنى من حرابة أو زندقة ونحو ذلك
ومن قتل مظلوما أي بغير الوجوه المذكورة فقد جعلنا لوليه سلطانا ولا مدخل للنساء في ولاية الدم عند جماعة من العلماء ولهن ذلك عند آخرين والسلطان الحجة والملك الذي جعل إليه من التخيير في قبول الدية أو العفو قاله ابن عباس قال البخاري قال ابن عباس كل سلطان في القرآن فهو حجة انتهى وقال قتادة السلطان القود
وقوله سبحانه فلا يسرف في القتل المعنى فلا يتعدى الولي أمر الله بأن يقتل غير قاتل وليه أو يقتل اثننين بواحد إلى غير ذلك من وجوه التعدي وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر فلا تسرف بالتاء من فوق قال الطبري على معنى الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والأئمة بعده قال ع ويصح أن يرد به (2/340)
الولي أي فلا تسرف أي الولي والضمير في أنه عائد على الولي وقيل على المقتول وفي قراءة أبي بن كعب فلا تسرفوا في القتال أن ولي المقتول كان منصورا وباقي الآية تقدم بيانه قال الحسن القسطاس هو القبان وهو القرسطون وقيل القسطاس هو الميزان صغيرا كان أو كبيرا قال ع وسمعت أبي رحمه الله تعالى يقول رأيت الواعظ أبا الفضل الجوهري رحمه اله في جامع عمرو بن العاص يعظ الناس في الوزن فقال في جملة كلامه أن في هيئة اليد بالميزان عظة وذلك أن الأصابع يجيء منها صورة المكتوبة ألف ولامان وهاء فكأن اليزان يقول الله الله قال ع وهذا وعظ جميل والتأويل في هذه الآية المآل قاله قتادة ويحتمل أن يكون التأويل مصدر تأول أي يتأول عليكم الخير في جميع اموركم إذا احسنتم الكيل والوزن وقال ص تأويلا أي عاقبة انتهى
وقوله سبحانه ولا تقف معناه لا تقل ولا تتبع واللفظة تستعمل في القذف ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم نحن بنو النضر لا نقفوا امنا ولا ننتفي من أبينا واصل هذه اللفظة من اتباع الأثر تقول قفوت الاثر وحكي الطبري عن فرقة أنها قالت قفا وقاف مثل عثا وعاث فمعنى الآية ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا عبر عن هذه الحواس بأولئك لأن لها ادراكا وجعلها في هذه الآية مسؤلة فهي حالة من يعقل ت قال ص وما توهمه ابن عطية من أولئك تختص بمن يعقل ليس كذلك إذ لا خلاف بين النجاة في جواز أطلاق اولاء وأولائك على من لا يعقل ت وقد نقل ع الجواز عن الزجاج وفي الفية ابن مالك
وباولى اشر لجمع مطلقا
فقال ولده بدر الدين أي سواء كان مذكرا أو مؤنثا وأكثر ما يستعمل (2/341)
فيمن يعقل وقد يجيء لغيره كقوله ... ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد اولائك الأيام ...
وقد حكى ع البيت وقال الرواية فيه الأقوام واله أعلم انتهى والضمير في عنه يعد على ما ليس للإنسان به علم ويكون المعنى أن الله تعالى يسئل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي ويحتمل أن يعود على كل التي هي السمع والبصر والفؤاد والمعنى أن الله تعالى يسئل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده قال صاحب الكلم الفارقيه لا تدع جدول سمعك يجري في اجاج الباطل فيهلب باطنك بناء الحرص على العاجل السمع قمع تغور فيه المعاني المسموعة إلى قرار وعاء القلب فإن كانت شريفة لطيفة شرفته ولطفته وهذبته وزكته وإن كانت رذيلة دنية رذلته وخبثته وكذلك البصر منفذ من منافذ القلب فالحواس الخمس كالجداول والرواضع ترضع من اثداء الأشياء التي تلابسها وتأخذ ما فيها من معانيها وأوصافها وتؤديها إلى القلب وتنهيها انتهى
وقوله سبحانه ولا تمش في الأرض مرحا قرأ الجمهور مرحا بفتح الحاء مصدر مرح يمرح إذا تسيب مسرورا بدنياه مقبلا على راحته فنهي الإنسان أن يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه وقرأت فرقة مرحا بكسر الراء ثم قيل له إنك أيها المرح المختال الفخور لن تخرق الأرض ولن تطاول الجبال بفخرك وكبرك وخرق الأرض قطعها ومسحها واستيفاؤها بالمشي
وقوله سبحانه كل ذلك كان سيئة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو سيئة فالإشارة بذلك على هذه القراءة إلى ما تقدم ذكره مما نهي عنه كقوله اف وقذف الناس والمرح وغير ذلك وقرا عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي سيئة على إضافة سيء إلى الضمير فتكون الإشارة (2/342)
على هذه القراءة إلى جميع ما ذكر في هذه الآيات من بر ومعصية ثم اختص ذكر السيء منه بأنه مكروه عند الله تعالى
وقوله سبحانه ذلك مما أوحي إليك ربك الآية الإشارة بذلك إلى هذه الآيات التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة والحكمة قوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة ت فينبغي للعاقل أن يتأدب بآداب الشريعة وأن يحسن العشرة مع عباد الله قال الإمام فخر الدين بن الخطيب في شرح أسماء الله الحسنى كان بعض المشائخ يقول مجامع الخيرات محصورة في أمرين صدق مع الحق وخلق مع الخلق انتهى وذكر هشام بن عبد الله القرطبي في تاريخه المسمى ببهجة النفس قال دخل عبد الملك بن مروان على معاوية وعنده عمرو بن العاص فلم يلبث أن نهض فقال معاوية لعمرو ما أكمل مروءة هذا الفتى فقال له عمرو أنه أخذ باخلاق أربعة وترك اخلاقا ثلاثة أخذ بأحسن البشر إذا لقي وباحسن الاستماع إذا حدث وبأحسن الحديث إذا حدث وبأحسن الرد إذا خولف وترك مزاح من لا يوثق بعقله وترك مخالطة لئام الناس وترك من الحديث ما يعتذر منه انتهى
وقوله سبحانه ولا تجعل مع الله الها آخر الآية خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد غيره والمدحور المهان المبعد
وقوله سبحانه افاصفاكم الآية خطاب للعرب وتشنيع عليهم فساد قولهم
وقوله سبحانه ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا أي صرفنا فيه الحكم والمواعظ
وقوله سبحانه إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا قال سعيد بن جبير وغيره معنى الكلام لابتغوا إليه سبيلا في إفساد ملكه ومضاهاته في قدرته وعلى هذا فالآية بيان للتمانع وجارية مع قوله تعالى لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا قال ع ونقتضب شيئا من الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مع الله تبارك وتعالى آله غيره على ما قاله أبو المعالي وغيره انا لو (2/343)
فرضناه لفرضنا أني يريد أحدهما تسكين جسم والآخر تحريكه ومستحيل أن تنفذ الارادتان ومستحيل الا تنفذا جميعا فيكون الجسم لا متحركا ولا ساكنا فإن صحت ارادة أحدهما دون الآخر فالذي لم تتم ارادته ليس باله فإن قيل نفرضهما لا يختلفان قلنا اختلافهما جائز غير ممتنع عقلا والجائز في حكم الواقع ودليل آخر أنه لو كان الأثنان لم يمتنع أن يكونوا ثلاثة وكذلك وتسلسل إلى ما لا نهاية له ودليل آخر أن الجزء الذي لا يتجزأ من المخترعات لا تتعلق به الاقدرة واحدة لا يصح فيها اشتراك والآخر كذلك دأبا فكل جزء إنما يخترعه واحد وهذه نبذة شرحها بحسب التقصي يطول
وقوله سبحانه وإن من شيء لا يسبح بحمده الآية اختلف في هذا التسبيح هل هو حقيقة أو مجاز ت والصواب أنه حقيقة ولولا خشية الإطالة لاتينا من الدلائل على ذلك بما يثلج له الصدر
وقوله سبحانه وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة يعني كفار مكة وحجابا مستورا يحتمل أي يريد به حماية نبيه منهم وقت قراءته وصلاته بالمسجد الحرام كما هو معلوم مشهور ويحتمل أنه أراد أنه جعل بين فهم الكفرة وبين فهم ما يقرأه صلى الله عليه و سلم حجابا فالآية على هذا التأويل في معنى التي بعدها وقال الواحدي قوله تعالى وإذا قرأت القرآن الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه و سلم إذا قرأ القرآن فحجبه الله عن أعينهم عند قراءة القرآن حتى يكونوا يمرون به ولا يرونه
وقوله مستورا معناه ساترا انتهى والأكنة جمع كنان وهو ما غطى الشيء والوقر الثقل في الأذن المانع من السمع وهذه كلها استعارات للأضلال الذي حفهم الله به
وقوله سبحانه نحن أعلم بما يستمعون به الآية هذا كا تقول فلان يستمع بإعراض وتغافل واستخفاف وما بمعنى الذي قيل المراد بقوله وإذ هم نجوى اجتماعهم في دار (2/344)
الندوة ثم انتشرت عنهم
وقوله سبحانه انظر كيف ضربوا لك الأمثال الآية حكى الطبري أنها نزلت في الوليد بن الميغرة وأصحابه
وقوله سبحانه فلا يستطيعون سبيلا أي إلا إفساد أمرك وإطفاء نورك وقولهم ائذاكنا عظاما ورفاتا الآية في إنكارهم البعث وهذا منهم تعجب وإنكار واستبعاد والرفات من الأشياء ما مر عليه الزمان حتى بلغ غاية البلي وقربه من حالة التراب وقال ابن عباس رفاتا غبارا وقال مجاهد ترابا
وقوله سبحانه قل كونوا حجارة أو حديدا الآية المعنى قل لهم يا محمد كونوا أن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي لا بد من بعثكم ثم أحتج عليهم سبحانه في الإعادة بالفطرة الأولى من حث خلقهم واختراعهم من تراب
وقوله سبحانه فسينغضون معناه يرفعون ويخفضون يريد على جهة التكذيب والاستهزاء قال الزجاج وهو تحريك من يبطل الشيء ويستبطيه ومنه قول الشاعر ... انغض نحوى رأسه واقنعا ... كأنما ابصر شيئا أطمعا ...
ويقال انغضت السن إذا تحركت قال الطبري وابن سلام عسى من الله واجبة فالمعنى هو قريب وفي ضمن اللفظ توعد
وقوله سبحانه يوم يدعوكم بدل من قوله قريبا ويظهر أن يكون المعنى هو يوم جوابا لقولهم متى هو وريد يدعوكم من قبوركم بالنفخ في الصور لقيام الساعة
وقوله فتستجبون أي بالقيام والعودة والنهوض نحو الدعوة
وقوله بحمده قال ابن جبير أن جميع العالمين يقومون وهم يحمدون الله ويمجدونه لما يظهر لهم من قدرته ص أبو البقاء بحمده أي حامدين وقيل بحمده من قول الرسول أي وذلك بحمد الله على صدق خبري ووقع في لفظ ع حين قر هذا المعنى عسى أن الساعة قريبة وهو تركيب لا يجوز لا تقول عسى أن زيدا قائم انتهى
وقوله سبحانه وتظنون أن لبثتم إلا قليلا يحتمل معنيين أحدهما أنهم لما رجعوا إلى (2/345)
حالة الحياة ويصرف الأجساد وقع لهم ظن أنهم لم ينفصلوا عن حال الدنيا إلا قليلا لمغيب علم مقدار الزمان عنهم إذا من في الآخرة لا يقدر زمن الدنيا إذ هم لا محالة أشد مفارقة لا من النائمين وعلى هذا التأويل عول الطبري والآخر أن يكون الظن بمعنى اليقين فكأنه قال يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتتيقنون أنكم إنما لبثتم قليلا من حيث هو منقض منحصر وحكى الطبري عن قتادة أهم لما رأوا هول يوم القيامة احتقروا الدنيا فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلا
وقوله سبحانه وقل لعبادي بقولوا التي هي أحسن اختلف الناس في التي هي أحسن فقالت فرقة هي لا إله إلا الله وعلى هذا فالعباد جميع الخلق وقال الجمهور التي هي أحسن هي المحاورة الحسنة بحسب معنى معنى قال الحسن يقول يغفر الله لك يرحمك الله وقوله لعبادي خاص بالمؤمنين قالت فرقة إنما أمر الله في هذه الآية المؤمنين بالانة القول للمشركين بمكة أيام المهادنة ثم نسخت بآية السيف
وقوله سبحانه ربكم أعلم بكم يقوى هذا التأويل إذ هو مخاطبة لكفار مكة بدليل قوله وما أرسلناك عليهم وكيلا فكان الله عز و جل أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ثم قال للكفار أنه أعلم بهم ورجاهم وخوفهم ومعنى يرحمكم بالتوبة عليكم من الكفر قاله ابن جريج وغيره
وقوله سبحانه وءاتينا داود زبورا قرأ الجمهور زبورا بفتح الزاي وهو فعول بمعنى مفعول وهو قليل لم يجيء إلا في قدوع وركوب وحلوب وقرأ حمزة بضم الزاي قال قتادة زبور داود مواعظ ودعاء وليس فيه حلال وحرام
وقوله سبحانه قل ادع الذين زعمتم من دونه فلا (2/346)
يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا هذه الآية ليست في عبدة الأصنام وإنما هي في عبدة من يعقل كعيسى وأمه وعزير وغيرهم قاله ابن عباس فلا يملكون كشف الضر ولا تحويله ثم أخبر تعالى أن هؤلاء المعبودين يطلبون ويرجون رحمته الآية قال عز الدين بن عبد السلام في اختصاره لرعاية المحاسبي الخوف والرجاء وسيلتان إلى فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات ولكن لا بد من الأكباب على استحضار ذلك واستدامته في أكثر الأوقات حتى يصير الثواب والعقاب نصب عينيه فيحثاه على فعل الطاعات وترك المخالفات ولن يحصل له ذلك إلا بتفريغ القلب من كل شيء سوى ما يفكر فيه أو يعينه على الفكر وقد مثل القلب المريض بالشهوات بالثوب المتسخ الذي لا نزول ادرانه إلا بتكرير غسله وحته وقرضه انتهى وباقي الآية بين
وقوله سبحانه أنه ليس مدينة من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة بالموت والفناء هذا مع السلامة وأخذها جزأ جزأ أو هي معذبة مأخوذة مرة واحدة
وقوله في الكتاب يريد في سابق القضاء وما خطه القلم في اللوح المحفوظ والمسطور المكتوب اسطارا
وقوله سبحانه وما منعنا أن نرسل بالآيات الآية هذه العبارة في منعنا هي على ظاهر ما تفهم العرب فسمى سبحانه سبق قضائه بتكذيب من كذب وتعذيبه منعا وسبب هذه الآية أن قريشا اقترحوا على النبي صلى الله عليه و سلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ونحو هذا من الاقتراحات فأوحى الله إلى نبيه عليه السلام أن شئت افعل لهم ذلك ثم أن لم يؤمنوا عاجلتهم بالعقوبة وإن شئت استأنيت بهم عسى أن اجتبي منهم مؤمنين فقال عليه السلام بل استأني بهم يا رب فأخبر (2/347)
سبحانه في هذه الآية أنه لم يمنعه جل وعلا من ارسال الآيات المقترحة الا الاستئناء إذ قد سلفت عادته سبحانه بمعالجة الأمم الذين جاءتهم الآيات المقترحة فلم يؤمنوا كثمود وغيرهم قال الزجاج أخبر تعالى أن موعد كفار هذه الأمة الساعة بقوله سبحانه بل الساعة موعدهم فهذه الآية تنظر إلى ذلك ومبصرة أي ذات إبصار وهي عبارة عن بيان أمر الناقة ووضوح إعجازها
وقوله فظلموا بها أي بعقرها وبالكفر في أمرها ثم أخبر تعالى أنه إنما يرسل بالآيات غير المقترحة تخويفا للعباد وهي آيات معها إمهال فمن ذلك الكسوف والرعد والزلزلة وقوس قزح وغير ذلك وآيات الله المعتبر بها ثلاث أقسام فقسم عام في كل شيء أذ حيث ما وضعت نظرك وجدت آية وهنا فكرة للعلماء وقسم معتاد غالبا كالكسوف ونحوه وهنا فكرة الجهلة وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر به توهما لما سلف منه
وقوله سبحانه وإذ قلنا لك أن ربك أحاط بالناس هذه الآية إخبار للنبي صلى الله عليه و سلم بأنه محفوظ من الكفرة آمن أي فلتبلغ رسالة ربك ولا تتهيب أحدا من المخلوقين قاله الطبري ونحوه للحسن والسدي
وقوله سبحانه وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الآية الجمهور أن هذه الرؤيا رؤيا عين ويقظة وذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كان صبيحة الإسراء واخبر بما رأى في تلك الليلة من العجائب قال الكفار أن هذا لعجب واستبعدوا ذلك فافتتن بهذا قوم من ضعفة المسلمين فارتدوا وشق ذلك على النبي صلى الله عليه و سلم فنزلت هذه الآية فعلى هذا يحسن أن يكون معنى قوله أحاط بالناس في اضلالهم وهدايتهم أي فلا تهتم يا محمد بكفر من كفر وقال ابن عباس الرؤيا في هذه الآية هي رؤيا النبي صلى الله عليه و سلم أنه يدخل مكة فعجل في سنة الحديبية فصد فافتتن المسلمون (2/348)
لذلك يعني بعضهم وليس بفتنة كفر
وقوله والشجرة الملعونة في القرآن معطوفة على قوله الرؤيا أي جعلنا الرؤيا والشجرة فتنة والشجرة الملعونة في قول الجمهور هي شجرة الزقوم وذلك أن أمرها لما نزل في سورة والصافات قال أبو جهل وغيره هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ثم أحضر تمرا وزبدا وقال لاصحابه تزقموا فافتتن أيضا بهذه المقالة بعض الضعفاء قال الطبري عن ابن عباس أن الشجرة الملعونة يريد الملعون أكلها لأنها لم يجر لها ذكر قال ع ويصح أن يريد الملعونة هنا فأكد الأمر بقوله في القرآن وقالت فرقة الملعونة أي المبعدة المكروهة وهذا قريب في المعنى من الذي قبله ولا شك ان ما ينت في أصل الجحيم هو في نهاية البعد من رحمة الله سبحانه
وقوله سبحانه ونخوفهم يريد كفار مكة
وقوله ارأيتك هذا الذي كرمت علي الكاف في ارأيتك هي كاف خطاب ومبالغة في التنيه لا موضع لها من الأعراب فهي زائدة ومعنى ارأيت اتأملت ونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه بعد
وقوله لاحتنكن معناه لاميلن ولأجرن وهو مأخوذ من تحنيك الدابة وهو أن يشد على حنكها بحبل أو غيره فتقاد والسنة تحتنك المال أي تجتره وقال الطبري لاجتنكن معناه لاستأصلن وعن ابن عباس لاستولين وقال ابن زيد لاضلن قال ع وهذا بدل اللفظ لا تفسير
وقوله أذهب فمن تبعك منهم وما بعده من الأوامر هي صيغة افعل بمعنى التهديد كقوله تعالى اعملوا ما شئتم والموفور المكمل واستفزز معناه استخف واخدع
وقوله بصوتك قيل هو الغناء والمزامير والملاهي لأنها أصوات كلها مختصة بالمعاصي فهي مضافة إلى الشيطان قاله مجاهد وقيل بدعائك أياهم إلى طاعتك قال ابن عباس صوته دعاء كل من دعا إلى معصية الله والصواب أن يكون (2/349)
الصوت يعم جميع ذلك
وقوله وأجلب أي هول والجلبة الصوت الكثير المختلط الهائل
وقوله بخيلك ورجلك قيل هذا مجاز واستعارة بمعنى أسع سعيك وابلغ جهدك وقيل حقيقة وان له خيلا ورجلا من الجن قاله قتادة وقيل المراد فرسان الناس ورجالتهم المتصرفون في الباطل فإنهم كلهم أعوان لإبليس علىغيرهم قاله مجاهد
وشاركهم في الأموال والأولاد عام لكل معصية يصنعها الناس بالمال ولكل ما يصنع في أمر الذرية من المعاصي كالايلاد بالزنا وكتسميتهم عبد شمس وأبا الكويفر وعبد الحارث وكل اسم مكروه ومن ذلك وأد البنات ومن ذلك صبغهم في أديان الكفر وغير هذا وما أدخله النقاش من وطء الجن وأنه يحبل المرأة من الأنس فضعيف كله ت أما ذكره من الحبل فلا شك في ضعفه وفساد قول ناقله ولم أر في ذلك حديثا لا صحيحا ولا سقيما ولو أمكن أن يكون الحبل من الجن كما زعم ناقله لكان ذلك شبهة يدرأ بها الحد عن من ظهر بها حبل من النساء اللواتي لا أزواج لهن لأحتمال أن يكون حبلها من الجن كما زعم هذا القائل وهو باطل وأما ما ذكره من الوطء فقد قيل ذلك وظواهر الأحاديث تدل عليه وقد خرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال قال النبي صلى الله عليه و سلم لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه أن يقدر بينهما الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا يقتضي أن لهذا اللعين مشاركة ما في هذا الشأن وقد سمعت من شيخنا أبي الحسن علي بن عثمان الزواوي المانجلاتي سيد علماء بجاية في وقته قال حدثني بعض الناس ممن يوثق به يخبر عن زوجته أنها تجد هذا الأمر قال المخبر واصغيت إلى ما أخبرت به الزوجة (2/350)
فسمعت حسن ذلك الشيء والله أعلم
وقوله سبحانه ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر ازجاء الفلك سوقه بالريح اللينة والمجاذيف ولتبتغوا من فضله لفظ يعم التجر وغيره وهذه الآية المباركة توقيف على آلاء الله وفضله ورحمته بعباده والضر هنا لفظ يعم لغرق وغيره وأهوال حالات البحر واضطرابه وتموجه وضل معناه تلف وفقد
وقوله اعرضتم أي فلم تفكروا في جميل صنع الله بكم
وقوله كفورا أي بالنعم والإنسان هنا الجنس والحاصب العارض الرامي بالبرد والحجارة ومنه الحاصب الذي أصاب قوم لوط والحصب الرمي بالحصباء والقاصف الذي يكسر كل ما يلقى ويقصفه وتارة معناه مرة أخرى والتبيع الذي يطلب ثارا أو دينا ومن هذه اللفظة قوله صلى الله عليه و سلم إذا اتبع أحدكم على ملي فليبتع فالمعنى لا تجدون من يتتبع فعلنا بكم ويطلب نصرتكم وهذه لآيات أنوارها واضحة للمهتدين
وقوله جلت عظمته ولقد كرمنا بني ءادم الآية عدد الله سبحانه على بني آدم ما خصهم به من المزايا من بين سائر الحيوان ومن أفضل ما أكرم به الآدمي العقل الذي به يعرف الله تعالى ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه
وقوله سبحانه على كثير ممن خلقنا المراد بالكثير المفضول الحيوان والجن وأما الملائكة فهم الخارجون عن الكثير المفضول وليس في الآية ما يقتضي أن الملائكة أفضل من الأنس كما زعمت فرقة بل الأمر محتمل أن يكونوا أفضل من الأنس ويحتمل التساوي
وقوله سبحانه يوم ندعوا كل أناس بإمامهم يحتمل أن يريد باسم إمامهم فيقول يا أمة محمد ويا أتباع فرعون ونحو هذا ويحتمل أن يريد مع إمامهم فيقول يا أمة معها إمامها من هاد ومضل واختلف في الإمام فقال ابن عباس والحسن كتابهم الذي فيه أعمالهم وقال قتادة ومجاهد نبيهم وقال ابن زيد كتابهم الذي نزل عليم وقالت فرقة متبعهم من هاد (2/351)
أو مضل ولفظة الأمام تعم هذا كله
وقوله سبحانه فمن أوتي كتابه بيمينه حقيقة في أن في القيامة صحائف تتطاير وتوضع في الإيمان لأهل الإيمان وفي الشمائل لأهل الكفر والخذلان وتوضع في إيمان المذنبين الذين ينفذ عليهم الوعيد فيستفيدون منها أنهم غير مخلدين في النار وقوله سبحانه يقرءون كتابهم عبارة عن السرور بها أي يرددونها ويتأملونها
وقوله سبحانه ولا يظلمون فتيلا أي ولا أقل وقوله سبحانه ومن كان في هذه اعمى قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد الإشارة بهذه الى الدنيا أي من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بانبيائه فهو في الآخرة أعمى على معنى أنه حيران لا يتوجه لصواب ولا يلوح له نجح قال مجاهد فهو في الآخرة أعمى عن حجته ويحتمل أن يكون صفة تفضيل أي اشد عمى وحرة لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخايل العذاب ويقوى هذا التأويل قوله عطفا عليه وأضل سبيلا الذي هو أفعل من كذا العمى في هذه الآية هو عمى القلب وقول سيبويه لا يقال اعمى من كذا إنما هو في عمى العين الذي لا تفاضل فيه وأما في عمى القلب فيقال ذلك لأنه يقع فيه التفاضل ت وكذا قال ص وقوله سبحانه وإن كادوا ليفتنونك عن الذي اوحينا إليك لتفتري علينا غيره الآية الضمير في قوله كادوا هو لقريش وقيل لثقيف فأما لقريش فقال ابن جبير ومجاهد نزلت الآية لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تمس أيضا أوثاننا على معنى التشرع وقال ابن إسحاق وغيره أنهم اجتمعوا إليه ليلة فعظموه وقالوا له أنت سيدنا ولكن أقبل على بعض أمرنا ونقبل على بعض أمرك فنزلت الآية في ذلك قال ع فهي في معنى قوله ودوا لو تدهن فيدهنون وأما لثقيف فقال ابن عباس وغيره لأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات (2/352)
وقالوا إنما نريد أن نأخذ ما يهدى لها ولكن أن خفت أن تنكر ذلك عليك العرب فقل أوحى الله ذلك إلي فنزلت الآية في ذلك ت والله اعلم بصحة هذه التأويلات وقد تقدم ما يجب اعتقاده في حق النبي صلى الله عليه و سلم فالتزمه تفلح
وقوله وإذا لا تخذوك خليلا توقيف على ما نجاه الله منه من مخالة الكفار والولاية لهم
وقوله سبحانه ولولا أن ثبتناك الآية تعديد نعمة على النبي صلى الله عليه و سلم وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما نزلت هذه الآية قال اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين وقرأ الجمهور تركن بفتح الكاف والنبي صلى الله عليه و سلم لم يركن لكنه كاد بحسب همه بموافقتهم طمعا منه في استيلافهم وذهب ابن الأنباري إلى أن معنى الآية لقد كادوا أن يخبروا عنك أنك ركنت ونوح هذا ذهب في ذلك إلى نفي الهم عن النبي صلى الله عليه و سلم فحمل اللفظ ما لايحتمل وقوله شيئا قليلا يبطل ذلك ت وجزى الله ابن الأنباري خيرا وأن تنزيه سائر الأنبياء لواجب فكيف بسيد ولد آدم صلى الله عليه و سلم وعليهم أجمعين قال أبو الفضل عياض في الشفا قوله تعالى ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيءا قليلا قال بعض المتكلمين عاتب الله تعالى نبينا عليه السلام قبل وقوع ما يوجب العتاب ليكون بذلك أشد انتهاء ومحافظة لشرائط المحبة وهذه غاية العناية ثم أنظر كيف بدأ بثباته وسلامته قبل ذكر ما عاتبه عليه وخيف أن يركن إليه وفي أثناء عتبه براءته وفي طي تخويفه تأمينه قال عياض رحمه الله ويجب على المؤمن المجاهد نفسه الرائض بزمام الشريعة خلقه أن يتأدب بآدات القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته فهو عنصر المعارف الحقيقية وروضة الآداب الدينية والدنيوية انتهى قال ع وهذا الهم من النبي صلى الله عليه و سلم إنما كان خطرة مما لا يمكن دفعه ولذلك قيل كدت وهي تعطي أنه لم يقع ركون ثم قيل شيئا (2/353)
قليلا إذ كانت المقاربة التي تضمنتها كدت قليلة خطرة لم تتأكد في النفس وقوله إذ لاذقناك الآية يبطل أيضا ما ذهب إليه ابن الأنباري ت وما ذكره ع رحمه الله تعالى من البطلان لا يصح وما قدمناه عن عياض حسن فتأمله
وقوله ضعف الحيوة قال ابن عباس وغيره يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات
وقوله سبحانه وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها الآية قال الحضرمي الضمير في كادوا ليهود المدينة وناحيتها ذهبوا إلى المكر بالنبي صلى الله عليه و سلم فقالوا له إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء فإن كنت نبيا فأخرج إلى الشام فإنها أرض الأنبياء فنزلت الآية وأخبر سبحانه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لو خرج لم يلبثوا بعده إلا قليلا وقالت فرقة الضمير لقريش قال ابن عباس وقد وقع استفزازهم وأخراجهم له فلم يلبثوا خلفه غلا قليلا يوم بدر وقال مجاهد ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها لأنه لما أراد الله سبحانه استقاء قريش وان لا يسأصلها أذن لرسوله في الهجرة فخرج من الأرض بإذن الله لا بقهر قريش واستبقيت قريش ليسلم منها ومن اعقابها من أسلم ت قال ص قوله لا يلبثون جواب قسم محذوف أي والله أن استفززت فخرجت لا يلبثون خلفك إلا قليلا انتهى
وقوله سبحانه سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا الآية معنى الآية الأخبار أن سنة الله تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا اخرجت نبيها من بين أظهرها نالها العذاب واستأصلها فلم تلبث خلفه إلا قليلا
وقوله سبحانه أقم الصلوة لدلوك الشمس الآية إجماع المفسرين على أن الإشارة هنا إلى الصوات المفروضة والجمهور أن دلوك الشمس زوالها والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل أشير به إلى المغرب والعشاء وقرآن الفجر يريد به صلاة الصبح فالآية تعم جميع الصلوات والدلوك في اللغة هو الميل فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو (2/354)
الغروب قال أبو حيان واللام في لدلوك الشمس للظرفية بمعنى بعد انتهى وغسق الليل أجتماعه تكاثف ظلمته وعبر عن صلاة الصبح خاصة بالقرآن لأن القرآن هو عظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها
وقوله سبحانه إن قرآن الفجر كان مشهودا معناه يشهده حفظة النهار وحفظة الليل من الملائكة حسبما ورد في الحديث الصحيح يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر الحديث بطوله وفي مسند البزار عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أن أفضل الصلوات صلاة الصبح يوم الجمعة في جماعة وما احسب شاهدها منكم إلا مغفور له انتهى من الكوكب الدري
ومن الليل فتهجد به من للتبعيض التقدير ووقتا من الليل أي قم وقتا والضمير في به عائد على هذا المقدر ويحتمل أن يعود على القرآن وتهجد معناه أطرح الهجو عنك والهجود النوم المعنى ووقتا من الليل أسهر به في صلاة وقراءة وقال علقمة وغيره التهجد بعد نومه وقال الحجاج بن عمر وإنما التهجد بعد رقدة وقال الحسن التجهد ما كان بعد العشاء الآخرة
وقوله نافلة لك قال ابن عباس معناه زيادة لك في الفرض قال وكان قيام الليل فرضا على النبي صلى الله عليه و سلم وقال مجاهد إنما هي نافلة للنبي صلى الله عليه و سلم لأنه مغفور له والناس يحطون بمثل ذلك خطاياهم يعني ويجبرون بها فرائضهم حسبما ورد في الحديث قال صاحب المدخل وهو أبو عبد الله بن الحاج وقد قالوا أن من كان يتفلت من القرآن فليقم به في الليل فإن ذلك يثبته له ببركة امتثال السنة سيما الثلث الأخير من الليل لما ورد في ذلك من البركات والخيرات وفي قيام الليل من الفوائد جملة فلا ينبغي لطالب العلم أن يفوته منها شيء فمنها أنه يحط الذنوب كما يحط الريح العاصف الورق اليابس من الشجرة الثاني أنه ينور القلب الثالث أنه يحسن الوجه الرابع أنه يذهب الكسل وينشط البدن (2/355)
الخامس أن موضعه تراه الملائكة من السماء كما يتراءى الكوكب الدري لنا في السماء وقد روى الترميذي عن أبي امامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عليكم بقيام الليل فإنه من دأب الصالحين قبلكم وأن قيام الليل قربة إلى الله تعالى ومنهاة عن الآثام وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد وروى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين انتهى من المدخل
وقوله سبحانه عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا عدة من الله عز و جل لنبيه وهو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه صلى الله عليه و سلم والحديث بطوله في البخاري ومسلم قال ابن العربي في أحكامه واختلف في وجه كون قيام الليل سببا للمقام المحمود على قولين للعلماء أحدهما أن الباري تعالى يجعل ما يشاء من فضله سببا لفضله من غير معرفة لنا بوجه الحكمة الثاني أن قيام الليل فيه الخلوة بالباري تعالى والمناجات معه دون الناس فيعطى الخلوة به ومناجاته في القيامة فيكون مقاما محمودا ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم واجلهم فيه درجة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فيعطى من المحامد ما لم يعط أحد ويشفع فيشفع انتهى
وقوله سبحانه وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق الآية ظاهر الآية والأحسن أن يكون دعا عليه السلام في أن يحسن الله حالته في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة فهي على أتم عموم معناه رب أصلح لي وردى في كل الأمور وصدري وذهب المفسرون إلى تخصيص اللفظ فقال ابن عباس وغيره أدخلني المدينة وأخرجني من مكة وقال ابن عباس أيضا الادخال بالموت في القبر والاخراج البعث (2/356)
وقيل غير هاذ وما قدمت من العموم التام الذي يتناول هذا كله أصوب والصدق هنا صفة تقتضي رفع المذام واستيعاب المدح
وأجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا قال مجاهد يعني حجة تنصرني بها على الكفار
وقوله سبحانه وقل جاء الحق الآية قال قتادة الحق القرآن والباطل الشيطان وقالت فرقة الحق الإيمان والباطل الكفران وقيل غير هذا والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة فيكون التفسير جاء الشرع بجميع من انطوى فيه وزهق الكفر بجميع ما انطوى فيه وهذه الآية نزلت بمكة وكان يستشهد بها النبي صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بالمخصرة
وقوله سبحانه وننزل من القرآن ما هو شفاء الآية أي شفاء بحسب إزالته للريب وكشفه غطاء القلب وشفاء أيضا من الأمراض بالرقى والتعويذ ونحوه
وقوله سبحانه وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه يحتمل أن يكون الإنسان عاما للجنس فالكافر يبالغ في الأعراض والعاصي يأخذ بحظ منه ونئا أي بعد
قل كل يعمل على شاكلته أي على ما يليق به قال ابن عباس على شاكلته معناه على ناحيته وقال قتادة معناه على ناحيته وعلى ما ينوي
وقوله سبحانه فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا توعد بين
وقوله سبحانه ويسئلونك عن الروح روى ابن مسعود أن اليهود قال بعضهم لبعض سلوا محمد عن الروح فإن أجاب فيه عرفتم أنه ليس بنبي قال ع وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما أنفرد الله بعلمه ولا يطلع عليه أحد من عباده فسألوه فنزلت الآية وقيل أن الآية مكية والسائلون هم قريش بإشارة اليهود واختلف الناس في الروح المسئول عنه أي روح هو فقال الجمهور وقع السؤال عن الأرواح التي في الأشخاص الحيوانية ما هي فالروح اسم جنس على هذا وهذا هو الصواب وهو المشكل الذي لا تفسير له
وقوله سبحانه من أمر ربي يحتمل أن يريد أن الروح من جملة أمور الله التي (2/357)
استأثر سبحانه بعلمها وهي إضافة خلق إلى خالق قال ابن راشد في مرقبته اخبرني شيخي شهاب الدين القرافي عن ابن دقيق العيد أنه رأى كتابا لبعض الحكماء في حقيقة النفس وفيه ثلاثمائة قول قال رحمة الله وكثرة الخلاف توذن بكثرة الجهالات ثم علماء الإسلام اختلفوا في جواز الخوض فيها على قولين ولكل حجج يطول بنا سردها ثم القائلون بالجواز اختلفوا هل هي عرض أو جوهر أو ليست بجوهر ولا عرض ولا توصف بأنها داخل الجسم ولا خارجه وإليه ميل الإمام أبي حامد وغيره والذي عليه المحققون من المتأخرين أنها جسم نوراني شفاف سار في الجسم سريان النار في الفحم والدليل على أنها في الجسم قوله تعالى فلولا إذا بلغت الحلقوم فلو لم تكن في الجسم لما قال ذلك وقد أخرني الفقيه الخطيب أو محمد البرجيني رحمه الله عن الشيخ الصالح أبي الظاهر الركراكي رحمه الله قال حضرت عند ولي من الأولياء حين النزع فشاهدت نفسه قد خرجت من مواضع من جسده ثم تشكلت على رأسه بشكله وصورته ثم صعدت إلى السماء وصعدت نفسي معها فلما انتهينا إلى السماء الدنيا شاهدت بابا ورجل ملك ممدودة عليه فازال ذلك الملك رجله قال لنفس لك الولي اصعدي فصعدت فارادت نفسي أن تصعد معها فقال لها أرجعي فقد بقي لك وقت قال فرجعت فشاهدت الناس دائرين على جسمي وقائل يقول مات وآخر يقول لم يمت فدخلت من أنفي أو قال من عيني وقمت انتهى ت وهذه الحكاية صحيحة ورجال إسنادها ثقات معروفون بالفضل فأبن راشد هو شارح ابن الحاجب الفرعي والبرجيني معروف عند أهل أفريقية وأبو الطاهر من أكابر الأولياء معظم عند أهل تونس مزاره وقبره بالزلاج معروف زرته رحمه الله وقرأ الجمهور ما أوتيتم واختلف فيمن خوطب بذلك فقال فرقة السائلون فقط وقالت (2/358)
فرقة العالم كله وقد نص على ذلك صلى الله عليه و سلم على ما حكاه الطبري
وقوله ولئن شئنا لنذهبن الآية المعنى وما أوتيتم أنت يا محمد وجميع الخلائق من العلم إلا قليلا فالله يعلم من علمه بما شاء ويدع ما شاء ولو شاء لذهب بالوحي الذي آتاك
وقوله إلا رحمة استثناء منقطع أي لكن رحمة من ربك تمسك عليك قال الداودي وما روي عن ابن مسعود من أنه سينزع القرآن من الصدور وترفع المصاحف لا يصبح وإنما قال سبحانه ولئن شئنا فلم يشأ سبحانه وفي الحديث عنه صلى الله عليه و سلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون قال البخاري وهم أهل العلم ولا يكون العلم مع فقد القرآن انتهى كلام الداودي وهو حسن جدا وقد جاء في الصحيح ما هو أبين من هذا وهو قوله صلى الله عليه و سلم أن الله لا ينتزع العلم انتزاعا ولكن يقبض العلم بقبض العلماء الحديث
وقوله سبحانه قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن الآية سبب هذه الآية أن جماعة من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم لو جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنا نقدر نحن على المجيء بمثله فنزلت هذه الآية المصرحة بالتعجيز لجميع الخلائق قال ص واللام في لئن اجتمعت اللام الموطئة للقسم وهي الداخلة على الشرط كقوله لئن أخرجوا ولئن قوتلوا والجواب بعد للقسم لتقدمه إذا لم يسبق ذو خبره لا للشرط هذا مذهب البصريين خلافا للفراء في أجازته الأمرين إلا أن الأكثر أن يجيء جواب قسم والظهير المعين قال ع وفهمت العرب الفصحاء بخلوص فهمها في ميز الكلام ودربتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة ففهموا العجز عنه ضرورة ومشاهدة وعلمه الناس بعدهم استدلالا ونظر ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة
وقوله سبحانه وقالوا لن نؤمن (2/359)
لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الآية روي في قول هذه المقالة للنبي صلى الله عليه و سلم حديث طويل مقتضاه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وعبد الله بن أبي أمية والنضر بن الحارث وغيرهم من مشيخة قريش وساداتها اجتمعوا عليه فعرضوا عليه أن يملكوه أن إراد الملك أو يجمعوا له كثيرا من المال إن أراد الغنى ونحو هذا من الأقاويل فدعاهم صلى الله عليه و سلم عند ذلك إلى الله وقال إنما جئتكم بأمر من الله فيه صلاح دنياكم ودينكم فإن أطعتم فحسن وإلا صبرت حتى يحكم الله بيني وبينكم فقالوا له حينئذ فإن كان ما تزعم حقا ففجر لنا من الأرض ينبوعا الحديث بطوله والينبوع الماء النابع وخلالها ظرف ومعناه اثناءها وفي داخلها
وقوله كما زعمت إشارة إلى ما تلا عليهم قبل ذلك في قوله سبحانه إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء الآية والكسف الشيء المقطوع وقال الزجاج المعنى أو تسقط السماء علينا طبقا
وقوله قبيلا قيل معناه مقابلة وعيانا وقيل معناه ضامنا وزعيما بتصديقك ومنه القبالة وهي الضمان وقيل معناه نوعا وجنسا لا نظير له عندنا
أو يكون لك بيت من زخرف قال المفسرون الزخرف الذهب في هذا الموضع
أو ترقى في السماء أي في الهواء علوا ويحتمل أن يريد السماء المعروفة وهو أظهر ت وذكر ع هنا كلمات الواجب طرحها ولهذا أعرضت عنها وترقى معناه تصعد ويروى أن قائل هذه المقالة هو عبدا لله بن أبي أمية ويروى أن جماعتهم طلبت هذا النحو منه فأمره عز و جل أن يقول سبحان ربي أي تنزيها له من الاتيان إليكم مع الملائكة قبيلا ومن أقتراحي أنا عليه هذه الأشياء وهل انا إلا بشر إنما علي البلاغ المبين فقط
وقوله مطمئنين أي وادعين فيها مقيمين
وقوله سبحانه قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم روي أن من تقدم الآن ذكرهم من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم في آخر قولهم (2/360)
فلتجىء معك بطائفة من الملائكة تشهد لك بصدقك في نبوءتك وروي أنهم قالوا فمن يشهد لك ففي ذلك نزلت الآية أي الله يشهد بيني وبينكم ثم أخبر سبحانه أنه يحشرهم على الوجوه حقيقة وفي هذا المعنى حديث قيل يا رسول الله كيف يمشى الكافر على وجهه قال أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادرا على أن يمشيه في الآخرة على وجهه قال قتادة بلى وعزة ربنا ت وهذا الحديث قد خرجه الترمذي من طريق أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف ركبانا ومشاة وعلى وجوههم الحديث
وقوله كلما خبت أي كلما فرغت من أحراقهم فسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور فتلك زيادة السعير قاله ابن عباس قال ع فالزيادة في حيزهم وأما جهنم فعلى حالها من الشدة لا فتور وخبت النار معناه سكن اللهيب والجمر على حاله وخمدت معناه سكن الجمر وضعف وهمدت معناه طفئت جملة
وقوله سبحانه ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا الآية الإشارة بذلك إلى الوعيد المتقدم بجهنم
قوله عز و جل أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض الآية الرؤية في هذه الآية هي رؤية القلب وهذه الآية احتجاج عليهم فيما استبعدوه من البعث والأجل هاهنا يحتمل أن يريد به القيامة ويحتمل أن يريد أجل الموت
وقوله سبحانه قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي الآية الرحمة في هذه الآية المال والنعم التي تصرف في الأرزاق
وقوله خشية الأنفاق المعنى خشية عاقبة الإنفاق وهو الفقر وقال بعض اللغويين انفق الرجل معناه افتقر كما تقول اترب واقتر
وقوله وكان الإنسان قتورا أي ممسكا يريد أن في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى فهو لو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر وكذلك يظن أن قدرة الله تقف دون البعث والأمر ليس (2/361)
كذلك بل قدرته لا تتناهى
وقوله سبحانه ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات الآية اتفق المتأولون والرواة أن الآيات الخمس التي في سورة الأعراف هي من هذه التسع وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم واختلفوا في الأربع ت وفي هذا الاتفاق نظر وروي في هذا صفوان بن عسال أن يهوديا من يهود المدينة قال لآخر سر بنا إلى هذا النبي نسأله عن آيات موسى فقال له الآخر لا تقل له أنه نبي فإنه لو سمعها صار له أربعة أعين قال فسارا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسألاه فقال هي لا تشركوا بالله شيأ ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشوا ببريء إلى السلطان ليقتله ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنات ولا تفروا يوم الزحف وعليكم خاصة معشر اليهود أن لا تعدوا في السبت انتهى وقد ذكر ع هذا الحديث
وقوله سبحانه فسأل بني إسرائيل إذ جاءهم أي اذ جاءهم موسى واختلف في قوله مسحورا فقالت فرقة هو مفعول على بابه وقال الطبري هو بمعنىساحر كما قال حجابا مستورا وقرأ الجمهور لقد علمت وقرأ الكسائي لقد علمت بتاء المتكلم مضمومة وهي قراءة على بن أبي طالب وغيره وقال ما علم عدو الله قط وإنما علم موسى والإشارة بهؤلاء إلى التسع
وقوله بصائر جمع بصيرة وهي الطريقة أي طرائق يهتدى بها والمثبور المهلك قاله مجاهد
فأراد أن يستفزهم من الأرض أي يستخفهم ويقتلهم والأرض هنا أرض مصر ومتى ذكرت الأرض عموما فإنما يراد بها ما يناسب القصة المتكلم فيها وأقتضبت هذه الآية قصص بني إسرائيل مع فرعون وإنما ذكرت عظم الأمر وخطيره وذلك طرفاه أراد فرعون غلبتهم وقتلهم وهذا كان بدء الأمر فاغرقه الله وجنوده وهذا كان نهاية الأمر ثم ذكر سبحانه أمر بني إسرائيل بعد إغراق فرعون بسكنى أرض الشام ووعد الآخرة هو (2/362)
يوم القيامة واللفيف الجمع المختلط الذي قد لف بعضه إلى بعض
وقوله سبحانه وبالحق أنزلناه يعني القرآن نزل بالمصالح والسداد للناس وبالحق نزل يريد بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره وقرأ جمهور الناس فرقناه بتخفيف الراء ومعناه بينها وأوضحناه وجعلناه فرقانا وقرأ جماعة خارج السبع فرقناه بتشديد الراء أي أنزلناه شيئا بعد شيء لا جملة واحدة ويتناسق هذا المعنى مع قوله لتقرأه على الناس على مكث وتأولت فرقة قوله على مكث أي على ترسل في التلاوة وترتل هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد والتأويل الآخر أي على مكث وتطاول في المدة شيئا بعد شيء
وقوله سبحانه قل آمنوا به أو لا تؤمنوا فيه تحقير للكفار وضرب من التوعد والذين أوتوا العلم من قبله قالت فرقة هم مؤمنو أهل الكتاب والأذقان أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان قال الواحدي إن كان وعد ربنا أي بإنزال القرآن وبعث محمد لمفعولا انتهى
وقوله سبحانه ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم وحض لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا إن يجري إلى هذه الرتبة النفسية وحكى الطبري عن التميمي أن من اوتي من العلم مالم يبكه لخليق ان لا يكون أوتي علما ينفعه لأن الله سبحانه نعت العلماء ثم تلا هذه الآية كلها ت وأنه والله لذلك وإنما يخشى الله من عباده العلماء اللهم انفعنا بما علمتنا ولا تجعله علينا حجة بفضلك ونقل الغزالي عن ابن عباس أنه قال إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه قال الغزالي فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء فإن ذلك من أعظم المصائب قال الغزالي وأعلم أن الخشوع ثمرة الإيمان ونتيجة اليقين الحاصل بعظمة الله تعالى ومن رزق ذلك فإنه يكون خاشعا في الصلاة وغيرها (2/363)
فإن موجب الخشوع استشعار عظمة الله ومعرفة اطلاعه على العبد ومعرفة تقصير العبد فمن هذه المعارف يتولد الخشوع وليست مختصة بالصلاة ثم قال وقد دلت الأخبار على أن الأصل في الصلاة الخشوع وحضور القلب وأن مجرد الحركات مع الغفلة قليل الجدوى في المعاد قال وأعلم أن المعاني التي بها تتم حياة الصلاة تجمعها ست جمل وهي حضور القلب والتفهم والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء فحضور القلب أن يفرغه من غير ما هو ملابس له والتفهم أمر زائد على الحضور وأما التعظيم فهو أمر وراء الحضور والفهم وأما الهيبة فأمر زائد على التعظيم وهي عبارة عن خوف منشأه التعظيم وأما التعظيم فهو حالة للقلب تتولد من معرفتين إحداهما معرفة جلال الله سبحانه وعظمته والثانية معرفة حقارة النفس وأعلم أن حضور القلب سببه الهمة فإن قلبك تابع لهمتك فلا يحضر إلا فيما أهمك ومهما أهمك أمر حضر القلب شاء أم أبى والقلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلا بل يكون حاضرا فيما الهمة مصروفة إليه انتهى من الأحياء
وقوله سبحانه قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن الآية سبب نزول هذه الآية أن بعض المشركين سمع النبي صلى الله عليه و سلم يدعو يا الله رحمن فقالوا كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين قاله ابن عباس فنزلت الآية مبينة أنها أسماء لمسى واحد وتقدير الآية أي الأسماء تدعو به فأنت مصيب فله الأسماء الله الحسنى وفي صحيح البخاري بسنده عن ابن عباس في قوله سبحانه ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال نزلت ورسول الله صلى الله عليه و سلم مختف بمكة كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت بها عن أصحابك فلا (2/364)
تسمعهم وابتغ بين ذلك سبيلا واسند البخاري عن عائشة ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قالت انزل ذلك في الدعاء انتهى قال الغزالي في الأحياء وقد جاءت أحاديث تقتضي استحباب السر بالقرآن وأحاديث تقتضي استحباب الجهر به والجمع بينهما أن يقال أن التالي إذا خاف على نفسه الرياء والتصنع أو تشويش مصل فالسر أفضل وأن أمن ذلك فالجهر أفضل لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته أيضا تتعدى إلى غيره والخير المتعدى أفضل من اللازم ولأنه يوقظ قلب القارىء ويجمع همته إلى الفكر فيه ويصرف إليه سمعه ويطرد عنه النوم برفع صوته ولأنه يزيد في نشاطه في القراءة ويقلل من كسله ولأنه يرجو بجهره تيقيظ نائم فيكون سببا في إعانته على الخير ويسمعه بطال غافل فينشط بسببه ويشتاق لخدمة خالقه فمهما حضرت نية من هذه النيات فالجهر أفضل وإن اجتمعت هذه النيات تضاعف الأجر وبكثرة النيات يزكو عمل الأبرار وتتضاعف أجورهم انتهى
وقوله سبحانه ولم يكن له ولي من الذل هذه الآية رادة على كفرة العرب في قولهم لولا أولياء الله لذل الله تعالى عن قولهم وقيد سبحانه نفي الولاية له بطريق الذل وعلى جهة الانتصار إذ ولايته سبحانه موجودة بفضله ورحمته لمن ولي من صالح عباده قال مجاهد المعنى لم يخالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد سبحانه لا إله إلا هو وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليما (2/365)
بسم الله الرحمن الرحيم
فسير سورة الكهف
هذه السورة مكية في قول جميع المفسرين وروي عن قتادة أن أول سورة نزل بالمدينة إلى قوله جرزا والأول أصح وهي من أفضل سور القرآن وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السماوات والأرض ولمن جاء بها من الأجر مثل ذلك قالوا أي سورة هي يا رسول الله قال سورة الكهف من قرأ بها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وفي رواية أنس من قرأ بها أعطي نور بين السماء والأرض وووقي بها فتنة القبر وعن البراء بن عازب قال كان رجل يقرا سورة الكهف وإلى جانبه فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابه فجعلت تدنو وتدنو وجعل فسرسه ينفر فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال تلك السكينة نزلت بالقرآن رواه البخاري واللفظ له ومسلم والترمذي والنسائي والرجل المبهم في الحديث هو أسيد بن حضير وفي الحديث الصحيح من طريق النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه و سلم فمن أدرك الدجال منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف وذكر الحديث رواه مسلم وغيره زاد أبو داود فإنها جواركم من فتنته وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من قرأ عشرة آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي واللفظ لمسلم وفي رواية لمسلم وأبي داود من آخر الكهف وعن أبي سعيد (2/366)
الخدري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نور من مقامه إلى مكة ومن قرأ بعشر آيات من آخرها فخرج الدجال لم يسلط عليه رواه الترمذي والحاكم في المستدرك والنسائي وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وله في رواية من قرا سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين وقال صحيح الإسناد وأخرجه الدارمي في مسنده موقوفا ورواته متفق على الاحتجاج بهم إلا أبا هاشم يحيى ابن دينار الرماني وقد وثقه أحمد ويحي وأبو زرعة وأبو حاتم انتهى من السلاح قوله تعالى الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب كان حفص عن عاصم يسكت عند قوله عوجا سكتة خفيفة وعند مرقدنا في يس وسبب هذه البداءة في هذه السورة أن النبي صلى الله عليه و سلم لما سألته قريش عن المسائل الثلاث الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين حسب ما أمرتهم به يهود قال لهم صلى الله عليه و سلم غدا أخبركم بجواب ما سألتم ولم يقل إن شاء الله فعاتبه الله عز و جل وأمسك عنه الوحي خمسة عشر يوما وأرجف به كفار قريش وشق ذلك على النبي صلى الله عليه و سلم وبلغ منه فلما انقضى الأمد الذي أراد الله عتاب نبيه جاءه الوحي بجواب ما سألوه عنه وغير ذلك فافتتح الوحي بالحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وهو القرآن
وقوله ولم يجعل له عوجا أي لم ينزله عن طريق الاستقامة والعوج فقد الاستقامة ومعنى قيما أي مستقيما قاله ابن عباس وغيره وقيل معناه أنه قيم على سائر الكتب بتصديقها ولم يرتضه ع قال ويضح أن يكون معنى قيم قيامه بأمر الله على العالم وهذا معنى يؤيده ما بعده من النذارة والبشارة اللتين عمتا العالم والبأس الشديد عذاب الآخرة ويحتمل أن يندرج معه في النذارة عذاب الدنيا ببدر وغيرها ومن لدنه أي من عنده والمعنى لينذر العالم والأجر (2/367)
الحسن نعيم الجنة ويتقدمه خير الدنيا
وقوله تعالى ان يقولون إلا كذبا أي ما يقولن فهي النافية
وقوله سبحانه فلعلك باخع نفسك هذه الآية آية تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم والباخع نفسه هو مهلكها قال ص لعل للترجي في المحبوب والإشفاق في المحذور وهي هنا للإشفاق انتهى
وقوله على ءاثارهم استعارة فصيحة من حيث لهم أدبار وتباعد عن الإيمان فكأنهم من فرط ادبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم
وقوله بهذا الحديث أي بالقرآن والأسف المبالغة في حزن أو غضب وهو في هذا الموضع الحزم لأنه على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه لكان غضبا كقوله تعالى فلما ءاسفونا أي أغضبونا قال قتادة أسفا حزنا
وقوله سبحانه انا جعلنا ما على الأرض زينة لها الآية بسط في التسلية أي لا تهتم بالدنيا وأهلها فإن أمرها وأمرهم أقل لفناء ذلك وذهابه فانا إنما جعلنا ما على الأرض زينة وامتحانا واختبارا وفي معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه و سلم الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء
لنبلوهم أي لنختبرهم وفي هذا وعيد ما قاله سفيان الثوري أحسنهم عملا أزهدهم فيها وقال أبو عاصم العسقلاني أحسن عملا الترك لها قال ع وكان أبي رحمه الله يقول أحسن العمل أخذ بحق وانفاق في حق وأداء الفرائض واجتناب المحارم والأكثار من المندوب إليه
وقوله سبحانه وانا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا أي يرجع ذلك كله ترابا والجرز الأرض التي لا شيء فيها من عمارة وزينة فهي البلقع وهذه حالة الأرض العامرة لا بد لها من هذا في الدنيا جزءا جزءا من الأرض ثم يعمها ذلك بإجماعها عند القيامة والصعيد وجه الأرض وقيل الصعيد التراب خاصة
وقوله سبحانه أم (2/368)
حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا أي ليسوا بعجب من آيات اله أي فلا يعظم ذلك عليك بحسب ما عظمه السائلون فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وهو قول ابن عباس وغيره واختلف الناس في الرقيم ما هو اختلافا كثيرا فقيل الرقيم كتاب في لوح نحاس وقيل في لوح رصاص وقيل في لوح حجارة كتبوا فيه قصة أهل الكهف وقيل غير هذا وروي عن ابن عباس أنه قال ما أدري ما الرقيم قال ع ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين وذلك من نبل المملكة وهو أمر مفيد
وقوله سبحانه إذ أوى الفتية إلى الكهف الفتية فيما روي قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ويقال فيه دقيانوس وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب وهم من الروم واتبعوا دين عيسى وقيل كانوا قبل عيسى واختلف الرواة في قصصهم ونذكر من الخلاف عيونه وما لا تستغنى الآية عنه فروي عن مجاهد عن ابن عباس أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام فوقع للفتية علم من بعض الحواريين حسبما ذكره النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس فرفع أمرهم إلى الملك فاستحضرهم وأمرهم بالرجوع إلى دينه فقالوا له فيما روي ربنا رب السموات والأرض الآية فقال لهم الملك إنكم شبان اغمار لا عقل لكم وانا لا اعجل عليكم وضرب لهم أجلا ثم سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب باديانهم فقال لهم أحدهم اني أعرف كهفا في جبل كذا فلنذهب إليه وروت فرقة أن أمر أصحاب الكهف إنما كان أنهم من أبناء الأشراف فحضر عيد لأهل المدينة فرأى الفتية ما ينتحله الناس في ذلك العيد من الكفر وعبادة الأصنام فوقع الإيمان في قلوبهم وأجمعوا على مفارقة دين الكفرة وروي أنهم خرجوا وهم يلعبون بالصولجان والكرة وهم يدحرجونها (2/369)
إلى نحو طريقهم ليلا يشعر الناس بهم حتى وصلوا إلى الكهف وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لبضهم وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم فدخلوا الغار فروت فرقة أن الله سبحانه ضرب على آذانهم عند ذلك لما أراد من سترهم وخفي على أهل المملكة مكانهم وعجب الناس من غرابة فقدهم فأرخوا ذلك ورقموه في لوحين من رصاص أو نحاس وجعلوه على باب المدينة وقيل على الرواية أن الملك بنى باب الغار وأنهم دفنوا ذلك في بناء الملك على الغار وروت فرقة أن الملك لما علم بذهاب الفتية أمر بقص آثارهم إلى باب الغار وأمر بالدخول عليهم فهاب الرجال ذلك فقال له بعض وزرائه الست أيها الملك إن أخرجتهم قتلتهم قال نعم قال فأي قتلة أبلغ من الجوع والعطش ابن عليهم باب الغار ودعهم يموتوا فيه ففعل وقد ضرب الله على آذانهم كما تقدم ثم أخبر الله سبحانه عن الفتية أنهم لما أووا إلى الكهف أي دخلوه وجعلوه مأوى لهم وموضع اعتصام دعووا الله تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمة وهي الرزق فيما ذكره المفسرون وأن يهيء لهم من أمرهم رشدا خلاصا جميلا وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظهم تقتضي ذلك وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه بهذه الآية الكريمة فقط فإنها كافية ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة
وقوله تعالى فضربنا على ءاذانهم الآية عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم
وقوله عددا نعت للسنين والقصد به العبارة عن التكثير وقوله لنعلم عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود أي لنعلم ذلك موجودا وإلا فقد كان سبحانه علم أي الحزبين أحصى الأمد والحزبان الفريقان والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا والحزب الثاني هم أهل المدينة (2/370)
الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية وهذا قول الجمهور من المفسرين وأما قوله أحصى فالظاهر الجيد فيه أنه فعل ماض وأمدا منصوب به على المفعول والأمد الغاية ويأتي عبارة عن المدة وقال الزجاج بأن أفعل من الرباعي قد كثر كقولك ما أعطاه للمال وكقوله عليه الصلاة و السلام في صفة جهنم أسود من القار وفي صفة حوضه أبيض من اللبن ت وقد تقدم أن أسود من سود وما في ذلك من النقد وقال مجاهد أمدا معناه عددا وهذا تفسير بالمعنى
وقوله سبحانه وزدناهم هدى أي يسرناهم للعمل الصالح والانقطاع إلى الله عز و جل ومباعدة الناس والزهد في الدنيا وهذه زيادات على الإيمان
وقوله سبحانه وربطنا على قلوبهم عبارة عن شدة عزم وقوة صبر ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الأنحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط ومنه يقال فلان رابط الجأش إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحروب وغيرها ومنه الربط على قلب أم موسى
وقوله تعالى إذ قاموا يحتمل أن يكون وصف قيامهم بين يدي الملك الكافر فإنه مقام يحتاج إلى الربط على القلب ويحتمل أن يعبر بالقيام على انبعاثهم بالعزم على الهروب إلى الله ومنابذة الناس كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد وبهذه الألفاظ التي هي قاموا فقالوا تعلقت الصوفية في القيام والقول والشطط الجور وتعدى الحد والحق بحسب أمر أمر والسلطان الحجة قال قتادة المعنى بعذر بين ثم عظموا جرم الداعين مع الله غيره وظلمهم بقولهم فمن اضلم ممن افترى على الله كذبا ويقولهم وإذ اعتزلتموهم الآية المعنى قال بعضهم لبعض وبهذا يترجح أن قوله تعالى إذ قاموا فقالوا إنما المراد به إذ عزموا ونفذوا لأمرهم وفي مصحف ابن مسعود وما (2/371)
يعبدون من دون الله ومضمن هذه الآية الكريمة أن بعضهم قال لبعض إذ قد فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله تعالى فإنه سيبسط علينا رحمته وينشرها علينا ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا وهذا كله دعاء بحسب الدنيا وهم على ثقة من الله في أمر أخرتهم وقرأ نافع وغيره مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء وقرأ جمزة وغيره بكسر الميم وفتح الفاء ويقالان معا في الأمر وفي الجارحة حكاه الزجاج وقوله سبحانه وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وتزاور أي تميل وتقرضهم معناه تتركهم والمعنى أنهم كانوا لا تصبيهم شمس البتة وهو قول ابن عباس وحكى الزجاج وغيره قال كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش وذهب الزجاج إلى فعل الشمس كأن آية من الله تعالى دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك والفجوة المتسع قال قتادة في فضاء منه ومنه الحديث فإذا وجد فجوة نص
وقوله سبحانه ذلك من آيات الله الإشارة إلى الأمر بجملته وقوله سبحانه ونقلبهم ذات اليمين الآية ذكر بعض المفسرين أن تقليبهم إنما كان حفظا من الأرض وروي عن ابن عباس أنه قال لومستهم الشمس لأحرقتهم ولولا التقليب لأكلتهم الأرض وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان بأمر الله وفعل ملائكته ويحتمل أن يكون ذلك باقدار الله إياهم على ذلك وهم في غمرة النوم
وقوله وكلبهم أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة قال ع وحدثني أبي رحمه الله قال سمعت أبا الفضل بن الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة من أحب أهل الخير نال من بركتهم كلب أحب أهل الفضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله والوصيد العتبة التي لباب الكهف أو موضعها أن لم تكن وقال ابن عباس الوصيد الباب والأول أصح والباب الموصد هو (2/372)
المغلق ثم ذكر سبحانه ما حفهم به من الرعب واكتنفهم من الهيبة حفظا منه سبحانه لهم فقال لو اطلعت عليهم الآية
وقوله سبحانه وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم الإشارة بذلك إلى الأمر الذي ذكره الله في جهتهم والعبرة التي فعلها فيهم والبعث التحريك عن سكون واللام في قوله ليتساؤلوا لام الصيرورة وقول القائل كم لبتثم يقتضى أنه هجس في خاطره طول نومهم واستعشر أن أمرهم خرج عن العادة بضع الخروج وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حال من الوقت والهواء الزماني لا يباين الحالة التي ناموا عليها وقوله فابعثوا أحدكم بورقكم يروي أنهم انتبهوا وهم جياع وأن المبعوث هو تمليخا وروي أن باب الكهف انهدم بناء الكفار منه لطول السنين ويروى أن راعيا هدمه ليدخل فيه غنمه فأخذ تمليخا ثيابا رثة منكرة ولبسها وخرج من الكهف فانكر ذلك البناء المهدوم إذ لم يعرفه بالأمس ثم مشى فجعل ينكر الطريق والمعالم ويتحير وهو في ذلك لا يشعر شعورا تاما بل يكذب ظنه فيما تيغر عنده حتى بلغ باب المدينة فرأى على بابها إمارة الأسلام فزادت حيرته وقال كيف هذا ببلد دقيوس وبالأمس كنا معه تحت ما كنا فنهض إلى باب آخر فرأى نحوا من ذلك حتى مشى الأبواب كلها فزادت حيرته ولم يميز بشرا وسمع الناس يقسمون باسم عيسى فاستراب بنفسه وظن أنه جن أو انفسد عقله فبقي حيران يدعو الله تعالى ثم نهض إلى باب الطعام الذي أراد اشتراءه فقال يا عبد الله بعني من طعامك بهذا الورق فدفع إليه دراهم كاخفاف الربع فيما ذكر فعجب لها البائع ودفعها إلىآخر يعجبه وتعاطاها الناس وقالوا له هذه دراهم عهد فلان الملك من أين أنت وكيف وجدت هذا الكنز فجعل يبهت ويعجب وقد كان بالبلد مشهورا هو وبيته فقال ما أعرف غير أني وأصحابي خرجنا بالأمس (2/373)
من هذه المدينة فقال الناس هذا مجنون أذهبوا به إلى الملك ففزع عند ذلك فذهب به حتى جيء به إلى الملك فلما لم ير دقيوس الكافر تأنس وكان ذلك الملك مؤمنا فاضلا يسمى تبدوسيس فقال له الملك أين وجدت هذا الكنز فقال له إنما خرجت أنا وأصحابي أمس من هذه المدينة فأوينا إلى الكهف الذي في جبل أنجلوس فلما سمع الملك ذلك قال في بعض ما روي لعل الله قد بعث لكم أيها النسا آية فلنسر إلى الكهف حتى نرى أصحابه فساروا وروي أنه أو بعض جلسائه قال هؤلاء هم الفتية الذين ورخ أمرهم على عهد دقيوس الملك وكتب على لوح النحاس بباب المدينة فسار الملك إليهم وسار الناس معه فلما انتهوا إلى الكهف قال تمليخا أدخل عليهم ليلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم بالأمر وأن الأمة أمة إسلام فروي أنهم سروا وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى الكهف وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حين حدثهم تمليخا فانتظرهم الناس فلما ابطأ خروجهم دخل الناس إليهم فرعب كل من دخل ثم اقدموا فوجدوهم موتى فتنازعوا بحسب ما يأتي وفي هذا القصص من الاختلاف ما تضيق به الصحف فاختصرته وذكرت المهم الذي به تتفسر ألفاظ الآية واعتمدت الأصح والله المعين برحمته وفي هذا البعث بالورق جواز الوكالة وصحتها وأزكى معناه أكثر فيما ذكر عكرمة وقال ابن جبير المراد أحل وقولهم يرجموكم قال الزجاج بالحجارة وهو الأصح وقال حجاج يرجموكم معناه بالقول وقوله سبحانه وكذلك اعثرنا عليهم الإشارة في قوله وكذلك إلى بعثهم ليتساءلوا أي كما بعثناهم اعثرنا عليهم والضمير في قوله ليعلموا يحتمل أن يعود على الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم وإلى هذا ذهب الطبري وذلك أنهم فيما روي دخلتهم حينئذ فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور فشك في ذلك (2/374)
بعض الناس واستبعدوه وقالوا إنما تحشر الأرواح فشق ذلك على ملكهم وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله في حجة وبيان فأعثرهم الله على أهل الكهف فلما بعثهم الله وتبين الناس أمرهم سر الملك ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين به وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله إذ يتنازعون بينهم أمرهم على هذا التأويل يحتمل أن يعود الضمير في يعلموا على أصحاب الكهف وقوله إذ يتنازعون على هذا التأويل ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم والتنازع على هذا التأويل إنما هو في أمر البناء أو المسجد لا في أمر القيامة وقد قيل أن التنازع إنما هو في أن اطلعوا عليهم فقال بعضهم هم أموات وبعض هم أحياء وروي أن بعض القوم ذهبوا إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين فقالت الطائفة الغالبة على الأمر لنتخذن عليهم مسجدا فاتخذوه قال قتادة الذين غلبوا هم الولاة
وقوله سبحانه سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم الآية الضمير رفي سيقولون يراد به أهل التوراة من معاصري نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف
وقوله رجما بالغيب معناه ظنا وهو مستعار من الرجم كأن الأنسان يرمى الموضع المشكل المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة يرجمه به عسى أن يصيبه والواو في قوله وثامنهم كلبهم طريق النحاة فيها أنها واو عطف دخلت في آخر الكلام أخبارا عن عددهم لتفصل أمرهم تدل على أن هذا نهاية ما قيل ولو سقطت لصح الكلام وتقول فرقة منهم ابن خالويه هي واو الثمانية وذكر ذلك الثعلبي عن أبي بكر بن عياش وأن قريشا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية تسعة فتدخل الواو في الثمانية قال ع وهي في القرآن في قوله والناهون عن المنكر وفي قوله وفتحت أبوابها وأما قوله وأبكارا وقوله وثمانية أيام فليست بواو الثمانية بل هي لازمة (2/375)
إذ لا يستغنى الكلام عنها قد أمر الله سبحانه نبيه في هذه الآية أن يرد علم عدتهم إليه ثم قال ما يعلمهم إلا قليل يعني من أهل الكتاب وكان ابن عباس يقول أنا من ذلك القليل وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم قال ع ويدل على هذا من الآية أنه سبحانه لما حكى قول من قال ثلاثة وخمسة قرن بالقول أنه رجم بالغيب ثم حكى هذه المقالة ولم يقدح فيها بشيء وأيضا فيقوى ذلك على القول بواو الثمانية لأنها إنما تكون حيث عدد الثمانية صحيح
وقوله سبحانه فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا معناه على بعض الأقوال أي بظاهر ما أوحينا إليك وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى وقيل معنى الظاهر أن يقول ليس كما تقولون ونحو هذا ولا يحتج هو على أمر مقرر في ذلك وقال البريزي ظاهرا معناه ذاهبا وأنشد
... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ...
ولم يبح له في هذه الآية أن يماري ولكن قوله إلا مراء مجاز من حيث يماريه أهل الكتاب سميت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر ففارق المراء الحقيقي المذموم والمراء مشتق من المرية وهو الشك فكأنه المشاككة ت وفي سماع ابن القاسم قال كان سليمان بن يسار إذا ارتفع الصوت في مجلسه أو كان مراء أخذ نعليه ثم قام قال ابن رشد هذا من ورعه وفضله والمراء في العلم منهي عنه فقد جاء انه لا تؤمن فتنته ولا تفهم حكمته انتهى من البيان والضمي رفي قوله ولا تستفت فيهم عائد على أهل الكهف وفي قوله منهم عائد على أهل الكتاب
وقوله فلا تمار فيهم أي في عدتهم
وقوله سبحانه ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله قد تقدم أن هذه الآية عتاب من الله تعالى لنبيه حيث لم يستثن والتقدير إلا أن تقول إلا أن يشاء الله أو إلا أن تقول أن شاء الله والمعنى لا أن تذكر مشيئة الله وقوله سبحانه وأذكر ربك إذا نسيت قال ابن عباس والحسن معناه الإشارة به إلىالاستثناء أي ولتستثن (2/376)
بعد مدة إذا نسيت أولا لتخرج من جملة من لم يعلق فعله بمشيئة الله وقال عكرمة وأذكر ربك إذا غضبت وعبارة الواحدي واذكر ربك إذا نسيت أي إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله فأذكره وقله إذا تذكرت آه وقوله سبحانه وقل عسى أن يهديني ربي الآية الجمهور أن هذا دعاء مأمور به والمعنى عسى أن يرشدني ربي فيما استقبل من أمري والآية خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وهي بعد تعم جميع أمته وقال الواحدي وقل عسى أن يهديني أي يعطيني ربي الآيات من الدلالات علىالنبوة ما يكون أقرب في الرشد وأدل من قصة أصحاب الكهف ثم فعل الله له ذلك حيث أتاه علم غيوب المرسلين وخبرهم انتهى
وقوله سبحانه ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين الآية قال قتادة وغيره الآية حكاية عن بني إسرائيل أنهم قالوا ذلك واحتجوا بقراءة ابن مسعود وفي مصحفه وقالوا لبثوا في كهفهم ثم أمر الله نبيه بأن يرد العلم إليه ردا على مقالهم وتفنيدا لهم وقال المحققون بل قوله تعالى ولبثوا في كهفهم الآية خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم وقوله تعالى قل الله أعلم بما لبثوا أي فليزل اختلافكم أيها لمخرصون وظاهر قوله سبحانه وأزدادوا تسعا أنها أعوام
وقوله سبحانه أبصر به واسمع أي ما أسمعه سبحانه وما أبصره قال قتادة لا أحد أبصر من الله ولا أسمع قال ع وهذه عبارة عن الإدراك ويحتمل أن يكون المعنى أبصر به أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور واسمع به العالم فتكون اللفظتان أمرين لا على وجب التعجب
وقوله سبحانه ما لهم من دونه من ولي الضمير في لهم يحتمل أن يرجع إلى أهل الكهف ويحتمل أن يرجع إلى معاصري النبي صلى الله عليه و سلم من الكفار ويكون في الآية تهديد لهم
وقوله سبحانه أتل ما أوحي إليك أي اتبع وقيل أسرد بتلاوتك ما أوحي (2/377)
إليك من كتاب ربك لا نقض في قوله ولا مبدل لكلماته وليس لك سواه جانب تميل إليه وتستند والملتحد الجانب الذي يمال إليه ومنه اللحد ت قال النووي يستحب لتالي القرآن إذا كان منفردا أن يكون ختمه في الصلاة ويستحب أن يكون ختمه أول الليل اواول النهار وروينا في مسند الأمام المجمع على حفظه وجلالته وإتقانه وبراعته أبي محمد الدرامي رحمه الله تعالى عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال إذ وافق ختم القرآن أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح وأن وافق ختمه أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح وأن وافق ختمه أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي قال الترمذي هذا حديث حسن وعن طلحة بن بن مطرف قال من ختم القرآن أية ساعة كانت من النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي وأية ساعة كانت من الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح وعن مجاهد نحوه انتهى
وقوله سبحانه وأصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم الآية تقدم تفسيرها
وقوله سبحانه ولا تعد عيناك عنهم أي لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا وقرا الجمهور من أغفلنا قلبه بنصب الباء على معنى جعلناه غافلا والفرط يحتمل أن يكون بمعنى التفريط ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف وقد فسره المتأولون بالعبارتين
وقوله سبحانه وقل الحق من ربكم المعنى وقل لهم يا محمد هذا القرآن هو الحق ت وقد ذم الله تعالى الغافلين عن ذكره والمعرضين عن آياته في غر ما آية من كتابه فيجب الحذر مما وقع فيه أولئك ولقد أحسن العارف في قوله غفلة ساعة عن ربك مكدرة لمرءاة قلبك فكيف بغفلتك جميع عمرك وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان في صحيحهما هذا لفظ الترمذي وقال حديث حسن وقال الحاكم صحيح على (2/378)
شرط مسلم والترة بكسر التاء المثناة من فوق وتخفيف الراء النقص وقيل التبعة ولفظ ابن حبان إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وأن دخلوا الجنة انتهى من السلاح
وقوله فمن شاء ليؤمن الآية توعد وتهديد أي فليختر كل أمرئى لنفسه ما يجده غدا عند الله عز و جل وقال الداودي عن ابن عباس فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر يقول من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر هو كقوله وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين وقال غيره هو كقوله أعملوا ما شئتم بمعنى الوعيد والقولان معا صحيحان انتهى واعتدنا مأخوذ من العتاد وهو الشيء المعد الحاضر والسرادق هو الجدار المحيط كالحجرة التي تدور وتحيط بالفسطاط قد تكون من نوع الفسطاط اديما أ ثوبا أو نحوه وقال الزجاج السرادق كل ما أحاط بشيء واختلف في سرادق النار فقال ابن عباس سرادقها حائط من نار وقالت فرقة سرادقها دخان يحيط بالكفار وهو قوله تعالى انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب وقيل غير هذا وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم من طريق أبي سعيد الخدري أنه قال سرادق النار أربعة جدر كثف عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة والمهل قال أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم هو دردي الزيت إذا انتهى حره وقال أبو سعيد وغيره هو كل ما أذيب من ذهب أو فضة وقالت فرقة المهل هو الصديد والدم إذا اختلطا ومنه قول أبي بكر رضي الله عنه في الكفن إنما هو للمهلة يريد لما يسيل من الميت في قبره ويقوى هذا بقوله سبحانه ويسقى من ماء صديد والمرتفق الشيء الذي بطلب رفقه
وقوله سبحانه إن الذين ءامنوا وعلموا الصالحات انا لا نضيع أجر من أحسن عملا تقدم تفسير نظيره والله الموفق بفضله واساور جمع اسوار وهي ما كان من الحلي في الذراع وقيل اساور جمع أسورة وأسورة جمع أسوار (2/379)
والسندس رقيق الديباج والإستبرق ما غلظ منه قيل فهو إستبرق من البريق والأرائك جمع أريكة وهي السرير في الحجال والضمير في قوله وحسنت للجنات وحكى النقاش عن أبي عمران الجوني أنه قال الإستبرق الحرير المنسوج بالذهب
وقوله سبحانه واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب الآية الضمير في لهم عائد على الطائفة المتجبرة التي ارادت من النبي صلى الله عليه و سلم أن يطرد فقراء المؤمنين فالمثل مضروب للطائفتين إذ الرجل الكافر صاحب الحنتين هو بازاء متجبرى قريش أو بنى تميم على الخلاف في ذلك والرجل المؤمن المقر بالربوبية هو بازاء فقراء المؤمنين وحففنا بمعنى جعلنا ذلك لهما من كل جهة وظاهر هذا المثل أنه بأمر وقع في الوجود وعلى ذلك فسره أكثر المتأولين فروي في ذلك انهما كانا أخوين من بني اسراءيل ورثا أربعة ءالاف دينار فصنع أحدهما بما له ما ذكر واشترى عبيدا وتزوج واثرى وانفق الآخر ماله في طاعة الله عز و جل حتى أفتقر والتقيا فأفتخر الغني ووبخ المؤمن فجرت بينهما هذه المحاورة وروي أنهما كانا شريكين حدادين كسبا مالا كثيرا وصنعا نحو ما روي في أمر الأخوين فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه قال السهيلي وذكر أن هذين الرجلين هما المذكوران في والصافات في قوله تعالى قال قائل منهم أني كان لي قرين يقول ائنك لمن المصدقين إلى قوله فاطلع فرءاه في سواء الجحيم وإلى قوله لمثل هذا فليعمل العاملون انتهى
وقوله سبحانه كلتا الجنتين ءاتت أكلها الأكل ثمرها الذي يوكل ولم تظلم منه شيأ أي لم تنقص عن العرف الاتم الذي يشبه فيها ومنه قول الشاعر ... ويظلمني مالي كذا ولوى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه ...
وقرأ الجمهور ثمر وبثمره بضم الثاء والميم جمع ثمار وقرأ أبو عمرو بسكون الميم (2/380)
فيهما واختلف المتأولون في الثمر بضم الثاء والميم فقال ابن عباس وغيره الثمر جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك وقال ابن زيد هي الأصول والمحاورة مراجعة القول وهو من حار يخور
وقوله أنا اكثر منك مالا وأعز نفرا هذه المقالة بازاء مقالة متجبرى قريش أو بني تميم على ما تقدم في سورة الأنعام ت وقوله وأعز نفرا يضعف قول من قال أنهما أخوان فتأمله والله أعلم بما صح من ذلك
وقوله سبحانه ودخل جنته وهو ظالم لنفسه الآية أفرد الجنة من حيث الوجود كذلك اذ لا يدخلهما معا في وقت واحد وظلمه لنفسه هو كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث وفي شكه في حدوث العالم أن كانت أشارته بهذه إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواع المخلوقات وإن كانت إشارته إلى جنته فقط فإنما الكلام تساخف واغترار مفرط وقلة تحصيل كأنه من شدة العجب بها والسرور أفرط في وصفها بهذا القول ثم قاس أيضا الآخرة على الدنيا وظن أنه لم يمل له في دنياه إلا لكرامة يستوجبها في نفسه فقال فإن كان ثم رجوع فستكون حالي كذا وكذا
وقوله قال له صاحبه يعنى المؤمن
وقوله خلقك من تراب إشارة إلى أدم عليه السلام
وقوله لكنا هو الله ربي معناه لكن أنا أقول هو الله ربي وروى هارون عن أبي عمرو لكنه هو الله ربي وباقي الآية بين
وقوله ولولا إذ دخلت جنتك الآية وصية من المؤمن للكافر ولولا تحضيض بمعنى هلا وما تحتمل أن تكون بمعنى الذي بتقدير الذي شاء الله كائن وفي شاء ضمير عائد على ما ويحتمل أن تكون شرطية بتقدير ما شاء الله كان أو خبر مبتدإ محذوف تقديره هو ما شاء الله أو الأمر ما شاء الله
وقوله لا قوة إلا بالله تسليم وضد لقول الكافر ما أظن أن تبيد هذه أبدا وفي الحديث أن هذه الكلمة كنز من كنوز الجنة إذا قالها العبد قال الله (2/381)
عز و جل أسلم عبدي وأستسلم قال النووي وروينا في سنن أبي داود والترمذي والنساءي وغيرهما عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من قال يعنى إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنك الشيطان قال الترمذي حديث حسن زاد أبو داود في روايته فيقول يعني الشيطان لشيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي انتهى وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر من قول لا حول وإلا قوة إلا بالله فأنها كنز من كنوز الجنة انتهى قال المحاسبي في رعايته وإذا عزم العبد في القيام بجميع حقوق الله سبحانه فليرغب إليه في المعونة من عنده على أداء حقوقه ورعايتها وناجاه بقلب راغب راهب أني أنسى أن لم تذكرني وأعجز أن لم تقوني وأجزع أن لم تصبرني وعزم وتوكل واستغاث واستعان وتبرأ من الحول والقوة إلا بربه وقطع رجاءه من نفسه ووجه رجاءه كله إلى خالقه فإنه سيجد الله عز و جل قريبا مجيبا متفضلا متحننا انتهى قال ابن العربي في أحكامه قال لمالك ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول كما قال الله تعالى ما شاء الله لا قوة إلا بالله انتهى
وقوله فعسى ربي أن يوتيني خيرا من جنتك هذا الترجي بعسى يحتمل أن يريد به في الدنيا ويحتمل أن يريد به في الآخرة وتمنى ذلك في الآخرة أشرف وأذهب مع الخير والصلاح وإن يكون ذلك يراد به الدنيا اذهب في نكاية هذا المخاطب والحسبان العذاب كالبرد والص ونحوه والصعيد وجه الأرض والزلق الذي لا تثبت فيه قدم يعنى تذهب منافعها حتى منفعة المشي فهي وحل لا تثبت فيه قدم
وقوله سبحانه وأحيط بثمره الآية هذا خبر من الله عز و جل عن إحاطة العذاب بحال هذا الممثل به ويقلب كفيه يريد يضع بطن إحداهما على ظهر الأخرى وذلك فعل المتلهف المتأسف (2/382)
وقوله خاوية على عروشها يريد أن السقوف وقعت وهي العروش ثم تهدمت الحيطان عليها فهي خاوية والحيطان على العروش ت فسر ع رحمه الله لفظ خاوية في سورة الحج والنمل بخالية والأحسن أن تفسر هنا وفي الحج بساقطة وأما التي في النمل فيتجه أن تفسر بخالية وبساقطة قال الزبيدي في مختصر العين خوت الدار باد أهلها وخوت تهدمت انتهى وقال الجوهري في كتابه المسمى بتاج اللغة وصحاح العربية خوت النجوم خيا أمحلت وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها وأخوت مثله وخوت الدار خواء ممدودا أقوت وكذلك إذا سقطت ومنه قوله تعالى فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا أي خالية ويقال ساقطة كما قال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها انتهى وهو تفسير بارع وبه أقول وقد تقدم إيضاح هذا المعنى في سورة البقرة وقوله ياليتني لم أشرك بربي أحدا قال بعض المفسرين هي حكاية عن مقالته هذا الكافر في الآخرة ويحتمل أن يكون قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة ويكون فيها زجر لكفرة قريش وغيرهم والفئة الجماعة التي يلجأ إلى نصرها
وقوله سبحانه هنالك يحتمل أن تكون ظرفا لقوله منتصرا ويحتمل أن يكون الولاية مبتدأ وهنالك خبره وقرأ حمزة والكسائي الولاية بكسر الواو وهي بمعنى الرياسة ونحوه وقرأ الباقون الولاية بفتح الواو وهي بمعنى الموالاة والصلة ونحوه وقرأ أبو عمرو والكسائي الحق بالرفع على النعت للولاية وقرأ الباقون بالخفض على النعت لله عز و جل وقرأ الجمهور عقبا بضم العين والقاف وقرأ حمزة وعاصم بسكون القاف والعقب والعقب بمعنى العاقبة
وأضرب لهم مثل الحيواة الدنيا يريد حياة الإنسان كماء أنزلناه من السماء فاختلط به أي فاختلط النبات بعضه ببعض بسب الماء فأصبح هشيما أصبح عبارة عن صيرورته إلى ذلك والهشيم المتفتت من يابس العشب وتذروه بمعنى تفرقه (2/383)
فمعنى هذا المثل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وبطره بالنبات الذي له خضرة ونضرة عن الماء النازل ثم يعود بعد ذلك هشيما ويصير إلى عدم فمن كان له عمل صالح يبقى في الآخرة فهو الفائز
وقوله سبحانه المال والبنون زينة الحيوة الدنيا لفظه لفظ الخبر لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين لأنه في المثل قبل حقر أمر الدنيا وبينه فكأنه يقول المال والبنون زينة هذه الحياة الدنيا المحقرة فلا تبعوها نفوسكم والجمهور أن الباقيات الصالحات هي الكلمات المذكور فضلها في الأحاديث سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد جاء ذلك مصرحا به من لفظ النبي صلى الله عليه و سلم في قوله وهن الباقيات الصالحات
وقوله سبحانه خير عندك ربك ثوابا خير أملا أي صاحبها ينتظر الثواب وينبسط أمله فهو خير من حال ذي المال والبنين دون عمل صالح وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هن يا رسول الله قال التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله رواه النسائي وابن حبان في صحيحه انتهى من السلاح وفي صحيح مسلم عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أحب الكلام إلى الله تعالى أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض الحديث انتهى قال ابن العربي في أحكامه وروى مالك عن سعيد بن المسيب أن الباقيات الصالحات قول العبد الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وروي عن ابن عباس وغيره أن الباقيات الصالحات الصلوات الخمس انتهى (2/384)
ت وما تقدم أولى ومن كلام الشيخ الولي العارف أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال عليك بالمطهرات الخمس في الأقوال والمطهرات الخمس في الأفعال والتبري من الحول والقوة في جميع الأحوال وغص بعقلك إلى المعاني القائمة بالقلب وأخرج عنها وعنه إلى الرب وأحفظ الله يحفظك واحفظ الله تجده أمامك وأعبد الله بها وكن من الشاكرين فالمطهرات الخمس في الأقوال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله والمطهرات الخمس في الأفعال الصلوات الخمس والتبري من الحول والقوة هو قولك لا حول ولا قوة إلا بالله انتهى
وقوله سبحانه وترى الأرض بارزة يحتمل أن الأرض لذهاب الجبال والضراب والشجر برزت وانكشفت ويحتمل أن يريد بروز أهلها من بطنها للحشر والمغادرة الترك وعرضوا على ربك صفا أي صفوفا وفي الحديث الصحيح يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر الحديث بطوله وفي حديث آخر أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا انتم منها ثمانون صفا
وقوله سبحانه لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة يفسره قول النبي صلى الله عليه و سلم أنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وقوله سبحانه ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه الآية الكتاب اسم جنس يراد به كتب الناس التي أحصتها الحفظة لواحد واحد ويحتمل أن يكون الموضوع كتابا واحدا حاضرا وباقي الآية بين
وقوله سبحانه إلا إبليس كان من الجن قالت فرقة إبليس لم يكن من الملائكة بل هو من الجن وهم الشياطين المخلوقين من مارج من نار وجميع الملائكة إنما خلقوا من نور واختلفت هذه الفرقة فقال بعضهم إبليس من الجن وهو أولهم وبدأتهم كآدم من الأنس وقالت فرقة بل كان إبليس وقبيله جنا لكن جميع الشياطين اليوم من ذريته فهو كنوح في الإنس (2/385)
واحتجوا بهذه
الآية وقوله ففسق معناه فخرج عن أمر ربه وطاعته
وقوله عز و جل افتتخذونه يريد افتتخذون إبليس
وقوله وذريته ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين الذين يأمرون بالمنكر ويحملون على الأباطيل
وقوله تعالى بيس للظالمين بدلا أي بدل ولاية الله عز و جل بولاية إبليس وذريته وذلك هو التعوض من الحق بالباطل
وقوله سبحانه ما أشهدتهم خلق السموات والأرض الآية الضمير في أشهدتهم عائد على الكفار وعلى الناس بالجملة فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم من كل من يتخرص في هذه الأشياء وقيل عائد على ذرية إبليس فالآية على هذا تتضمن تحقيرهم والقول الأول أعظم فائدة وأقول أن الغرض أولا بالآية هم إبليس وذريته وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة وعلى الكهان والعرب المصدقين لهم والمعظمين للجن حين يقولون أعوذ بعزيز هذا الوادي إذ لجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته وهم أضل الجميع فهم المراد الأول بالمضلين وتندرج هذه الطوائف في معناهم وقرا الجمهور وما كنت وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف وما كنت والعضد استعارة للمعين والمؤازر
ويوم يقول نادوا شركاءي أي على جهة الاستغاثة بهم واختلف في قوله موبقا فقال ابن عباس معناه مهلكا وقال عبد الله بن عمر وأنس بن مالك ومجاهد موبقا هو واد في جهنم يجرى بدم وصديد قال أنس يحجز بين أهل النار وبين
المؤمنين وقوله سبحانه فظنوا أنهم مواقعوها أي مباشروها وأطلق الناس أن الظن هنا بمعنى اليقين قال ع والعبارة بالظن لا تجيء أبدا في موضع يقين تام قد ناله الحس بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع متحقق لكنه لم يقع ذلك المظنون وإلا فمذ يقع ويحس لا يكاد توجد في (2/386)
كلام العرب العبارة عنه بالظن وتأمل هذه الآية وتأمل كلام العرب وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة والمصرف المعدل والمراغ وهو مأخوذ من الأنصراف من شيء إلا شيء
وقوله تعالى ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا الإنسان هنا يراد به الجنس وقد استعمل صلى الله عليه و سلم الآية على العموم في مروره بعلي ليلا وأمره له بالصلاة بالليل فقال علي إنما أنفسنا يا رسول الله بيد الله أو كما قال فخرج صلى الله عليه و سلم وهو يضرب فخذه بيده ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا
وقوله سبحانه وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى الآية الناس هنا يراد بهم كفار عصر النبي صلى الله عليه و سلم وسنة الأولين هي عذاب الأمم المذكورة في القرآن
أو يأتيهم العذاب قبلا أي مقابلة عيانا والمعنى عذابا غير المعهود فتظهر فائدة التقسيم وقد وقع ذلك بهم يوم بدر وكأن حالهم تقتضي التأسف عليهم وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إلى الخسران عافانا الله من ذلك
ويدحضوا معناه يزهقوا والدحض الطين
وقوله فلن يهتدوا إذا أبدا لفظ عام يراد به الخاص ممن حتم الله عليه أنه لا يؤمن ولا يهتدي أبدا كأبي جهل وغيره
وقوله بل لهم موعد قالت فرقة هو أجل الموت وقالت فرقة هو عذاب الآخرة وقال الطبري هو يوم بدر والحشر
وقوله سبحانه لن يجدوا من دونه موئلا أي لا يجدون عنه منجى يقال وأل الرجل يئل إذا نجا ثم عقب سبحانه توعدهم بذكر الأمثلة من القرى التي نزل بها ما توعد هؤلاء بمثله والقرى المدن والإشارة إلى عاد وثمود وغيرهم وباقي الآية بين قال ص وقوله لما ظلموا في لما ظلموا أشعار بعلة الاهلاك وبهذا استدل ابن عصفور على حرفية لما لأن الظرف لا دلالة فيه على (2/387)
العلية وقوله سبحانه وإذ قال موسى لفتاه لاابرح الآية موسى هو ابن عمران وفتاه هو يوشع بن نون وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن موسى عليه السلام جلس يوما في مجلس لنبي إسرائيل وخطب فابلغ فقيل له هل تعلم أحدا اعلم منك قال لا فأوحى الله إليه بلى عبدنا خضر فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقيه فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلع مجمع البحرين فإذا فقد الحوت فإنه هنالك وأمر أن يتزود حوتا ويرتقب زواله عنه فعل موسى ذلك وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة لاابرح أسير أي لا أزال وإنما قال هذه المقالة وهو سائر قال السهيلي كان موسى عليه السلام أعلم بعلم الظاهر وكان الخضر أعلم بعلم الباطن وأسرار الملكوت فكانا بحرين اجتمعا بمجمع البحرين والخضر شرب من عين الحياة فهو حي إلى أن يخرج الدجال وأنه الرجل الذي يقتله الدجال وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث منهم شيخنا أبو بكر بن العربي رحمه الله مات الخضر قبل انقضاء المائة من قوله صلى الله عليه و سلم ارأيتكم ليلتكم هذه فإن إلى راس مائة عام منها لا يبقى على الأرض ممن هو عليها أحد يعني من كان حيا حين قال هذه المقالة وأما اجتماع الخضر مع النبي صلى الله عليه و سلم وتعزيته لأهل بيته فمروي من طرق صحاح وصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء قال الخطابي الفروة وجه الأرض ثم أنشد على ذلك شاهدا انتهى واختلف الناس في مجمع البحرين فقال مجاهد وقتادة هو مجمع بحر فارس وبحر الروم وقالت فرقة مجمع البحرين هو عند طنجة وقيل غير هذا واختلف في الحقب فقال ابن عباس وغيره الحقب أزمان غر محدودة وقال عبد الله بن عمر ثمانون سنة وقال مجاهد سبعون وقيل سنة
وقوله سبحانه فلما بلغا مجمع بينهما الضمير (2/388)
في بينهما للبحرين قاله مجاهد وفي الحديث الصحيح ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا أي مسلكا في جوف الماء وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه ءاتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ويعني بالنصب تعب الطريق قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به قال له فتاه ارأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت يريد ذكر ما جرى فيه وما انسانيه أي أن أذكره إلا الشيطان اتخذ سبيله في البحر عجبا قال فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا فقال موسى ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا قال فرجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجي بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر وإني بأرضك السلام قال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال معم آتيتك لتعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا يعني لا تطيق أن تصبر على ما تراه من عملي لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه يريد علم الباطن وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه يريد علم الظاهر فقال له موسى ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا فقال له الخضر فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا أي حتى اشرح لك ما ينبغي شرحه فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغي نول يقول بغير أجر فلما ركبا في السفينة لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع لوحا من الواح السفينة بالقدوم فقال له موسى قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم (2/389)
فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا أمرا أي شنيعا من الأمور وقال مجاهد الأمر المنكر قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تواخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا قال بن أبي كعب قال النبي صلى الله عليه و سلم فكانت الأولى من موسى نسيانا قال وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر وفي رواية والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر وفي رواية ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره قال ع وهذا التشبيه فيه تجوز إذ لا يوجد في المحسوسات أقوى في القلة من نقطة بالإضافة إلى البحر فكانها لا شيء ولم يتعرض الخضر لتحرير موازنة بين المثال بين علم الله إذ علمه سبحانه غير متناه ونقط البحر متناهية ثم خرجا من السفينة فبينما ههما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله قال له موسى أقتلت نفسا زاكية قال ع قيل كان هذا الغلام لم يبلغ الحلم فلهذا قال موسى نفسا زاكية وقال فرقة بل كان بالغا
وقوله بغير نفس يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس وهذا يدل على كبر الغلام وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس ت وهذا إذا كان شرعهم كشرعنا وقد يكون شرعهم أن النفس بالنفس عموما في البالغ وغيره وفي العمد والخطأ فلا يلزم من الآية ما ذكر
وقوله لقد جئت شيأ نكرا معناه شيئا ينكر قال ع ونصف القرآن بعد الحروف انتهى إلى النون من قوله نكرا
قال ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صببرا قال هذا أشد من الأولى
قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا اتيا أهل قرية (2/390)
استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض قال مائل فقال الخضر بيده هكذا فاقامه فقال موسى قوم اتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال سعيد بن جبير أجرا نأكله قال هذا فرقا بيني وبينك إلى قوله ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما قال سعيد فكان ابن عباس يقرأ وكان امامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وكان يقرأ وأما الغلام فكان كفارا وكان أبواه مؤمنين وفي رواية للبخاري يزعمون عن غير سعيد بن جبير أن اسم الملك هدد بن بدد والغلام المقتول اسمه يزعمون حيسور ويقال جيسور ملك يأخذ كل سفينة غصبا فاردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها فإذا جاوزوا اصلحوها فانتفعوا بها ومنهم من يقول سدوها بقارورة ومنهم من يقول بالقار كان أبواه مؤمنين وكان كافرا فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا أن يحملهما حبه على ان يتابعاه على دينه
فأرادنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة لقوله اقتلت نفسا زاكية واقرب رحما هما به أرحم منهما بالأول الذي قتله خضر وزعم غير سعيدأنهما أبدلا جارية وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد أنها جارية انتهى لفظ البخاري ت وقد تحرينا في هذا المختصر بحمد الله التحقيق فيما علقناه جهد الاستطاعة والله المستعان وهو المسؤول أن ينفع به بجوده وكرمه قال ع ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة وأيام التلوم ثلاثة فتأمله
وقوله سبحانه فابوا أن يضيفوهما وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم قال ع وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله عز و جل ص وقوله فراق بيني الجمهور بإضافة فراق أبو البقاء أي تفريق وصلنا وقرأ ابن أبي عبلة فراق بالتنوين أبو البقاء فبين منصوب على الظرف انتهى (2/391)
قال ع ووراءهم هو عندي على بابه وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعي بها الزمان وذلك أن الحارث المقدم الوجود هو الإمام والذي يأتي بعد هو الوراء وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد ومن قرأ امامهم أراد في المكان قال ع وفي الحديث أن هذا الغلام طبع يوم طبع كافرا والضمير في خشينا للخضر قال الداودي قوله فخشينا أن يرهقهما أي علمنا انتهى والزكاة شرف الخلق والوقار والسكينة المنطوية على خير ونية والرحم الرحمة وروي عن ابن جريج أنهما بدلا غلاما مسلما وروي عنه أنهما بدلا جارية وحكى النقاش أنها ولدت هي وذريتها سبعين نبيا وذكره المهدوي عن ابن عباس وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل وهذه المرأة لم تكن فيهم واختلف الناس في هذا الكنز المذكور هنا فقال ابن عباس كان علما في صحف مدفونة وقال عمر مولى غفرة كان لوحا من ذهب قد كتب فيه عجبا للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبا للموقن بالحساب كيف يغفل وعجبا للموقن بالموت كيف يفرح وروي نحو هذا مما هو في معناه وقال الداودي وكان تحته كنز لهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذهب وفضة انتهى فإن صح هذا الحديث فلا نظر لأحد معه فالله أعلم أي ذلك كان
وقوله سبحانه وكان أبوهما صالحا ظاهر اللفظ والسابق منه إلى الذهن أنه والدهما دنية وقيل هو الأب السابع وقيل العاشر فحفظا فيه وفي الحديث أن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته وقول الخضر وما فعلته عن أمري يقتضي أنه نبي وقد اختلف فيه فقيل هو نبي وقيل عبد صالح وليس نبي وكذلك اختلف في موته وحياته والله أعلم بجميع ذلك ومما يقضى بموت الخضر قوله صلى الله عليه و سلم أرأيتكم ليلتكم هذه فإن إلى رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض احد قال القرطبي في تذكرته وذكر عن عمرو بن دينار الخضر والياس عليهما السلام حيان فإذا (2/392)
رفع القرآن ماتا قال القرطبي وهذا هو الصحيح انتهى وحكايات من رأى الخضر من الأولياء لا تحصى كثرة فلا نطيل بسردها وانظر لطائف المنن لابن عطاء الله وقوله
ذلك تأويل أي مئال وحكى السهيلي أنه لماحان للخضر وموسى أن يفترقا قال له الخضر لو صبرت لاتيت على ألف عجب كلها أعجب مما رأيت فبكى موسى وقال للخضر أوصني رحمك الله فقال يا موسى أجعل همك في معادك ولا تخض فيما لا يعنيك ولا تأمن من الخوف في أمنك ولا تيأس من الأمن في خوفك وتدبر الأمور في علانيتك ولا تذر الإحسان في قدرتك فقال له موسى زدني يرحمك الله فقال له الخضر يا موسى إياك والحاجة ولا تمش في غير حاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعير أحد وإبك على خطيئتك يا ابن عمران انتهى
وقوله سبحانه ويسألونك عن ذي القرنين الآية ذو القرنين هو الملك الأسكندر اليوناني واختلف في وجه تسميته بذي القرنين وأحسن ما قيل فيه أنه كان ذا ظفيرتين من شعرهما قرناه والتمكين له في الأرض أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلها وروي أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة مؤمنان وكافران فالمؤمنان سليمان بن داود عليهما السلام والأسكندر والكافران نمرود وبخت نصر
وقوله سبحانه وءاتيناه من كل شيء سببا معناه علما في كل أمر واقيسة يتوصل بها إلى معرفة الأشياء وقوله كل شيء عموم معناه الخصوص في كل ما يمكنه أن يعلمه ويحتاج إليه
وقوله فاتبع سببا أي طريقا مسلوكة وقرأ نافع وابن كثير وحفص عن عاصم في عين حمئة أي ذات حمأة وقرأ الباقون في عين حامية أي حارة وذهب الطبري إلى الجمع بين الأمرين فقال يحتمل أن تكون العين حارة ذات حمأة واستدل بعض الناس على أن ذا القرنين نبي بقوله تعالى قلنا ياذا القرنين ومن قال أنه ليس بني قال كانت هذه المقالة من الله له بإلهام قال ع والقول بأنه نبي ضعيف وأما (2/393)
أن تعذب معناه بالقتل على الكفر وأما أن تتخذ فيهم حسنا أي آمنوا وذهب الطبري إلى أن أتخاذه الحسن هو الأسر مع كفرهم ويحتمل أن يكون الاتخاذ ضرب الجزية ولكن تقسيم ذي القرنين بعد هذا الأمر إلى كفر وإيمان يرد هذا القول بعض الرد وظلم في هذه الآية بمعنى كفر
وقوله عذابا نكرا أي تنكره الأوهام لعظمه وتستهوله والحسنى يراد بها الجنة
وقوله تعالى ثم اتبع سببا المعنى ثم سلك ذو القرنين الطرق المؤدية إلى مقصده وكان ذو القرنين على ما وقع في كتب التاريخ يدوس الأرض بالجيوش الثقال والسيرة الحميدة والحزم المستيقظ والتأييد المتواصل وتقوى الله عز و جل فمالقي أمة ولأمر بمدينة إلا ذلت ودخلت في طاعته وكل من عارضه أو توقف عن أمره جعله عظة وآية لغيره وله في هذا المعنى أخبار كثيرة وغرائب محل ذكرها كتب التاريخ
وقوله وجدها تطلع على قوم المراد بالقوم الزنج قاله قتادة وهم الهنود وما وراءهم وقال الناس في قوله سبحانه لم نجعل لهم من دونها سترا معناه أنهم ليس لهم بنيان إذ لا تحتمل ارضهم البناء وإنما يدخلون من حر الشمس في اسراب وقيل يدخلون في ماء البحر قاله الحسن وغيره وأكثر المفسرون في هذا المعنى والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم ولو كان لهم أسراب تغنى لكان سترا كثيفا
قوله كذلك معناه فعل معهم كفعله مع الأوليين أهل المغرب فأوجز بقوله كذلك
وقوله حتى إذا بلغ بين السدين الآية السدان فيما ذكر أهل التفسير جبلان سدا مسالك تلك الناحية وبين طرفي الجبلين فتح هو موضع الردم وهذان الجبلان في طرف الأرض مما يلي المشرق ويظهر من ألفاظ التواريخ أنهما إلى ناحية الشمال
وقوله تعالى ووجد عندها قوما قال السهيلي هم أهل جابلس ويقال لها بالسريانية جرجيسا يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم (2/394)
الذين آمنوا بصالح
وقوله تعالى ووجدها تطلع على قوم هم أهل جابلق وهم من نسل مؤمني قوم عاد الذين آمنوا بهود ويقال لها بالسريانية مرقيسيا ولكل واحد من المدينتين عشرة آلاف باب بين كل بابين فرسخ ومر بهم نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ليلة الإسراء فدعاهم فأجابوه وأمنوا به ودعا من ورائهم من الأمم فلم يجيبوه في حديث طويل رواه الطبري عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم والله أعلم انتهى والله أعلم بصحته
ويأجوج وماجوج قبيلان من بني آدم لكنهم ينقسمون أنواعا كثيرة اختلف الناس في عددها واختلف في إفسادهم الذي وصفوهم به فقيل أكل بني آدم وقالت فرقة إفسادهم هو الظلم والغشم وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر وهذا أظهر الأقوال وقولهم فهل نجعل لك خرجا استفهام على جهة حسن الأدب والخرج المجيء وهو الخراج وقرأ عاصم وحمزة والكسائي خراجا وروي في أمر يأجوج وماجوج أن أرزاقهم هي من التنين يمطرون به ونحو هذا مما لم يصح وروي أيضا أن الذكر منهم لا يموت حتى يولد له ألف والأنثى كذلك وروي أنهم يتسافدون في الطرق كالبهائم وأخبارهم تضيق بها الصحف فاختصرت ذلك لعدم صحته ت والذي يصح من ذلك كثرة عددهم على الجملة على ما هو معلوم من حديث أخرج بعث النار وغيره من الأحاديث
وقوله ما مكني فيه ربي خير المعنى قال لهم ذو القرنين ما بسطه الله لي من القدرة والملك خير من خراجكم ولكن اعينوني بقوة الأبدان وهذا من تأييد الله تعالى له فإنه تهدى في هذه المحاورة إلى الأنفع الأنزه فإن القوم لو جمعوا له الخراج الذي هو المال لم يعنه منهم أحد ولو كلوه إلى البنيان ومعونتهم بالقوة أجمل به
وقوله ءاتوني زبر الحديد الآية قرأ حمزة وغيره ائتوني بمعنى جيئوني وقرأ نافع وغيره ءاتوني بمعنى أعطوني وهذا (2/395)
كله إنما هو استدعاء المناولة وأعمال القوة الزبر جمع زبرة وهي القطعة العظيمة منه المعنى فرصفه وبناءه حتى إذا ساوى بين الصدفين وهما الجبلان
وقوله قال انفخوا إلى آخر الآية معناه أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة ثم يوقد عليها حتى تحمى ثم يؤتى بالنحاس المذاب أبو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر فيفرغه على تلك الطاقة المنضدة فإذا التأم وأشتد استأنف رصف طاقة أخرى إلى أن استوى العمل وقال أكثر المفسرين القطر النحاس المذاب ويؤيد هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم جاءه رجل فقال يا رسول الله أني رأيت سد يأجوج وماجوج فقال كيف رأيته قال رأيته كالبرد المحبر طريقة صفراء وطريقة حمراء وطريقة سوداء فقال النبي صلى الله عليه و سلم قد رأيته ويظهروه معناه يعلونه بصعود فيه ومنه قوله في الموطأ والشمس في حجرتها قبل أن تظهر وما استطاعو له نقبا لبعد عرضه وقوته ولا سبيل سوى هذين أما ارتقاء وإما نقب وروي أن في طوله ما بين طرفين الجبلين مائة فرسخ وفي عرضه خمسين فرسخا وروي غير هذا مما لم نقف على صحته فاختصرناه إذ لا غاية للتخرص وقوله في الآية انفخوا يريد بالاكيار
وقوله هذا رحمة من ربي الآية القائل ذو القرنين وأشار بهذا إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به والوعد يحتمل أن يريد به يوم القيامة ويحتمل أن يريد به وقت خروج ياجوج ومأجوج وقرأ نافع وغيره دكا مصدر دك يدك إذا هدم ورض وناقة دكاء لا سنام لها والضمير في تركنا لله عز و جل
وقوله يومئذ يحتمل أن يريد به يوم القيامة ويحتمل أن يريد به يوم كمال السد والضمير في قوله بعضهم على هذا ليأجوج ومأجوج واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض كالمولهين من هم وخوف ونحوه فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض
وقوله ونفخ في (2/396)
الصور إلى آخر الآية يعني به يوم القيامة بلا احتمال لغيره والصور في قول الجمهور وظاهر الأحاديث الصحاح هو القرن الذي ينفخ فيه اسرافيل للقيامة
وقوله سبحانه وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا معناه ابرزناها لهم لتجمعهم وتحطمهم ثم أكد بالمصدر عبارة عن شدة الحال
وقوله أعينهم كناية عن البصائر والمعنى الذين كانت فكرهم بينها وبين ذكرى والنظر في شرعى حجاب وعليها غطاء
وكانوا لا يستطيعون سمعا يريد لا عراضهم ونفارهم عن دعوة الحق وقرأ الجمهور افحسب الذين كفروا بكسر السين بمعنى أظنوا وقرأ علي بن أبي طالب وغيره وابن كثير بخلاف عنه افحسب بسكون السين وضم الباء بمعنى اكافيهم ومنتهى غرضهم وفي مصحف ابن مسعود افظن الذين كفروا وهذه حجة لقراءة الجمهور
وقوله أن يتخذوا عبادي قال جمهور المفسرين يريد كل من عبد من دون الله كالملائكة وعزير وعيسى والمعنى أن الأمر ليس كما ظنوا بل ليس لهم من ولاية هؤلاء المذكورين شيء ولا يجدون عندهم منتفعا واعتدنا معناه يسرنا والنزل موضع النزول والنزل أيضا ما يقدم للضيف أو القادم من الطعام عند نزوله ويحتمل أن يريد بالآية هذا المعنى أن المعد لهؤلاء بدل النزل جهنم والآية تحتمل الوجهين ثم قال تعالى قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الآية المعنى قل لهؤلاء الكفرة على جهة التوبيخ هل يخبركم بالذين خسر عملهم وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم مع ذلك يظنون أنهم يحسنون فيما يصنعوه فإذا طلبوا ذلك فقل لهم اولائك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه وعن سعد بن أبي وقاص في معنى قوله تعالى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا قال هم عباد اليهود والنصارى وأهل الصوامع والديارات وعن علي هم الخوارج ويضعف هذا كل قوله تعالى بعد ذلك اولائك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه وليس هذه الطوائف ممن (2/397)
يكفر بالله ولقائه وإنما هذه صفة مشركى عبدة الأوثان وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا قوما أخذوا بحظهم من صدر الآية
وقوله سبحانه فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا يريد أنهم لا حسن لهم توزن لان اعمالهم قد حبطت أي بطلت ويحتمل المجاز والاستعارة كأنه قال فلا قدر لهم عندنا يؤمئذ وهذا معنى الآية عندي وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوتى بالأكول الشروب الطويل فلا يزن جناح بعوضة ثم قرأ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا
وقوله ذلك إشارة إلى ترك إقامة الوزن
وقوله سبحانه أن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس اختلف المفسرون في الفردوس فقال قتادة أنه أعلى الجنة وربوتها وقال أبو هريرة أنه جبل تتفجر منه أنهار الجنة وقال أبو إمامة أنه سرة الجنة ووسطها وروى أبو سعيد الخدري أنه تتفجر منه أنهار الجنة وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ت ففي البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة انتهى
وقوله تعالى لا يبغون عنها حولا الحول بمعنى المتحول قال مجاهد متحولا وأما قوله سبحانه قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي الآية فروي أن سبب الآية أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه و سلم كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم وأنت مقصر قد سئلت عن الروح لم تجب فيه ونحو هذا من القول فأنزل الله الآية معلمة بأتساع معلومات الله عز و جل وإنها غير متناهية وإن الوقوف دونها ليس ببدع فالمعنى لو كان البحر مدادا تكتب به معلوماته تعالى لنفد قبل أن يستوفيها وكلمات ربي هي المعاني القائمة بالنفس وهي (2/398)
المعلومات ومعلومات الله عز و جل لا تتناهى والبحر متناه ضرورة وذكر الغزالي في آخر المنهاج أن المفسرين يقولون في قوله تعالى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي أن هذه هي الكلمات التي يقول الله عز و جل لأهل الجنة في الجنة باللطف والإكرام مما لا تكيفه الأوهام ولا يحيط به علم مخلوق وحق أن يكون ذلك كذلك وهو عطاء العزيز العليم على مقتضى الفضل العظيم والجود الكريم إلا لمثل هذا فليعمل العاملون انتهى
وقوله مددا أي زيادة ت وكذا فسره الهروي ولفظه وقوله تعالى ولو جئنا يمثله مددا أي زيادة انتهى
وقوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم أي أنا بشر ينتهي علمي إلى حيث يوحى إلي ومهم ما يوحى إلى إنما إلهكم اله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا وباقي الآية بين في الشرك بالله تعالى وقال ابن جبير في تفسيرها لا يراءى في عمله وقد ورد حديث أنها نزلت في الرياء ت وروى ابن المبارك في رقائقه قال أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه كان يصف أمر الرياء فيقول ما كان من نفسك فرضيته نفسك لها فإنه من نفسك فعاتبها وما كان من نفسك فكرهته نفسك لها فإنه من الشيطان فتعوذ بالله منه وكان أبو حازم يقول ذلك واسند ابن المبارك عن عبد الرحمن بن أبي أمية قال كل ما كرهه العبد فليس منه انتهى وخرج الترمذي عن أبي سعيد ابن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن اله أغنى الشركاء عن الشرك قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب انتهى وقد خرج مسلم معناه ت ومما جربته وصح من خواص هذه السورة أن من أراد أن يستيقظ أي وقت شاء من الليل فليقرأ عند نومه قوله سبحانه أفحسب الذين كفروا أن (2/399)
يتخذوا عبادى من دوني أولياء إلى آخر السورة فإنه يستيقظ بادن الله في الوقت الذي نواه ولتكن قراءته عند آخر ما يغلب عليه النعاس بحيث لا يتجدد له عقب القراءة خواطر هذا مما لا شك فيه وهو من عجائب القرآن المقطوع بها والله الموفق بفضله تنبيه روينا في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول أن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة فإن أردت أن تعرف هذه الساعة فأقرأ عند نومك من قوله تعالى أن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات لفردوس إلى آخر السورة فأنك تستيقظ في تلك الساعة أن شاء الله تعالى بفضله ويتكرر تيقظك ومهما استيقظت فأدع لي ولك وهذا مما الهمنيه الله سبحانه فاستفده وما كتبته إلا بعد استخارة وإياك أن تدعو هنا على مسلم ولو كان ظالما فإن خالفتني فالله حسيبك وبين يديه أكون خصيمك وأنا أرغب إليك أن تشركني في دعائك إذ أفدتك هذه الفائدة العظيمة وكنت شيخك فيها وللقرآن العظيم أسرار يطلع الله عليها من يشاء من أوليائه جعلنا الله منهم بفضله وصلى الله على سيدنا محمد وعى ءاله وصحبه وسلم تسليما (2/400)
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة مريم عليها السلام
هذه السورة مكية بإجماع إلا السجدة منها فقيل مكية وقيل مدنية
قوله عز و جل كهيعص قد تقدم الكلام في فواتح السور
وقوله ذكر رحمت ربك مرتفع بقوله كهيعص في قول فرقة وقيل أنه ارتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا ذكر وحكى أبو عمرو الداني عن ابن يعمر أنه قرأ ذكر رحمة ربك بفتح الذال وكسر الكاف المشددة ونصب الرحمة
وقوله نادى معناه بالدعاء والرغبة قاله ابن العربي في أحكامه
وقوله تعالى إذ نادى ربه نداء خفيا يناسب قوله ادعوا ربكم تضرعا وخفيه وفي الصحيح عن النبي ص أنه قال
خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي وذلك لأنه أبعد من الرياء فأما دعاء زكريا عليه السلام فإنما كان خفيا لوجهين أحدهما أنه كان ليلا والثاني أنه ذكر في دعائه أحوالا تفتقر إلى الإخفاء كقوله وإني خفت الموالي من وراءي وهذا مما يكتم انتهى ووهن العظم (3/2)
معناه ضعف واشتعل مستعار للشيب من اشتعال النار
وقوله ولم أكن بدعائك رب شقيا شكر لله عز و جل على سالف أياديه عنده معناه قد أحسنت إلي فيما سلف وسعدت بدعائي إياك فالأنعام يقتضي أن يشفع أوله آخره ت وكذا فسر الداودي ولفظه ولم أكن بدعائك رب شقيا يقول كنت تعرفني الإجابة فيما مضى وقاله قتادة انتهى
وقوله وإني خفت الموالي الآية قيل معناه خاف أن يرث الموالي ماله والموالي بنو العم والقرابة
وقوله من وراءى أي من بعدي وقالت فرقة إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين فطلب وليا يقوم بالدين بعده حكى هذا القول الزجاج وفيه أنه لا يجوز أن يسأل زكريا من يرث ماله إذ الأنبياء لا تورث قال ع وهذا يؤيده قوله صلى الله عليه و سلم إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين فتكون الوراثة مستعارة وقد بلغه الله أمله قال ابن هشام ومن وراءي متعلق بالموالي أو بمحذوف هو حال من الموالي أو مضاف إليهم أي كائنين من وراءي أو فعل الموالي من وراءي ولا يصح تعلقه بخفت لفساد المعنى انتهى من المغنى وخفت الموالي هي قراءة الجمهور وعليها هو هذا التفسير وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وجماعة خفت بفتح الخاء وفتح الفاء وشدها وكسر التاء والمعنى على هذا قد انقطع أولياءي وماتوا وعلى هذه القراءة فإنما طلب وليا يقوم بالدين قال ابن العربي في أحكامه ولم يخف زكرياء وارث المال وإنما أراد ارث النبوءة وعليها خاف أن تخرج عن عقبه وصح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة انتهى وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهما يرثني وارث من آل يعقوب ت وقوله فهب لي قال ابن مالك في شرح الكافية (3/3)
اللام هنا هي لام التعدية وقاله ولده في شرح الخلاصة قال ابن هشام والأولى عندي أن يمثل للتعدية بنحو ما أكرم زيدا لعمرو وما أحبه لبكر انتهى
وقوله من آل يعقوب يريد يرث منهم الحكمة والعلم والنبوءة ورضيا معناه مرضيا والعاقر من النساء التي لا تلد من غير كبرة وكذلك العاقر من الرجال
وقوله لم نجعل له من قبل سميا معناه في اللغة لم نجعل له مشاركا في هذا الاسم أي لم يسم به قبل يحيى وهذا قول ابن عباس وغيره وقال مجاهد وغيره سميا معناه مثيلا ونظيرا وفي هذا بعد لأنه لا يفضل على ابراهيم وموسى عليهما السلام إلا أن يفضل في خاص كالسودد والحصر والعتي والعسيي المبالغة في الكبر أو يبس العود أو شيب الرأس أو عقيدة ما وزكرياء هو من ذرية هارون عليهما السلام ومعنى قوله سويا فيما قال الجمهور صحيحا من غير علة ولا خرس وقال ابن عباس ذلك عائد على الليالي أراد كاملات مستويات
وقوله فأوحى إليهم قال قتادة وغيره كان ذلك بإشارة وقال مجاهد بل بكتابة في التراب قال ع وكلا الوجهين وحي
وقوله أن سبحوا قال قتادة معناه صلوا السبحة والسبحة الصلاة وقالت فرقة بل أمرهم بذكر الله وقول سبحان الله
وقوله عز و جل يا يحيى خذ الكتاب بقوة المعنى قال الله له يا يحيى خذ الكتاب وهو التوراة وقوله بقوة أي العلم به والحفظ له والعمل به والالتزام للوازمه
وقوله صبيا يريد شابا لم يبلغ حد الكهولة ففي لفظ صبي على هذا تجوز واستصحاب حال وروى معمر أن الصبيان دعوا يحيى إلى اللعب وهو طفل فقال إني لم أخلق للعب فتلك الحكمة التي ءاتاه الله عز و جل وهو صبي وقال ابن عباس من قرأ القرءان قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكمة صبيا والحنان والرحمة والشفقة والمحبة قاله جمهور المفسرين وهو تفسير اللغة ومن الشواهد في الحنان قول النابغة ... أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشراهون من بعض (3/4)
وقال عطاء بن أبي رباح حنانا من لدنا بمعنى تعظيما من لدنا قال ع وهو أيضا ما عظم من الأمر لأجل الله عز و جل ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في خبر بلال والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا قال ص قال أبو عبيدة وأكثر ما يستعمل مثنى انتهى والزكاة التنمية والتطهير في وجوه الخير قال مجاهد كان طعام يحيى العشب وكان للدمع في خده مجار ثابتة ولم يكن جبارا عصيا روي أن يحيى عليه السلام لم يواقع معصية قط صغيرة ولا كبيرة والبر كثير البر والجبار المتكبر كأنه يجبر الناس على أخلاقه
وقوله وسلام عليه قال الطبري وغيره معناه وأمان عليه قال ع والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فيه أشرف وأنبه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة
واذكر في الكتاب مريم الكتاب هو القرءان والانتباذ التنحي قال السدي انتبذت لتطهر من حيض وقال غيره لتعبد الله عز و جل قال ع وهذا أحسن
وقوله شرقيا يريد في جهة الشرق من مساكن أهلها وكانوا يعظمون جهة المشرق قاله الطبري وقال بعض المفسرين اتخذت المكان بشرقي المحراب
وقوله سبحانه فاتخذت من دونهم حجابا أي لتستتر به عن الناس لعبادتها والروح جبريل عليه السلام
وقوله تعالى قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا المعنى قالت مريم للملك الذي تمثل لها بشرا لما رأته قد خرق الحجاب الذي اتخذته فأساءت به الظن أعوذ بالرحمن منك إن كنت ذا تقى فقال لها جبريل عليه السلام إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا وقرأ أبو عمرو ونافع بخلاف عنه ليهب
قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا والبغي الزانية وروي أن جبريل عليه السلام حين (3/5)
قاولها هذه المقاولة نفخ في جيب درعها فسرت النفخة بإذن الله تعالى حتى حملت منها قاله وهب بن منبه وغيره وقال أبي بن كعب دخل الروح المنفوخ من فمها فذلك قوله تعالى فحملته أي فحملت الغلام ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة فلما أحست بذلك وخافت تعنيف الناس وأن يظن بها الشر انتبذت أي تنحت مكانا بعيدا حياء وفرارا على وجهها وأجاءها معناه اضطرها وهو تعدية جاء بالهمزة والمخاض الطلق وشدة الولادة وأوجاعها وروي أنها بلغت إلى موضع كان فيه جذع نخلة بال يابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من صعوبة الحال من غير ما وجه يا ليتني مت قبل هذا فتمنت الموت من جهة الدين أن يظن بها الشر وخوف أن تفتتن بتعيير قومها وهذا مباح وعلى هذا الحد تمناه عمر رضي الله عنه وكنت نسيا أي شيئا متروكا محتقرا والنسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه وهذا القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملا على عرف البشر واستحيت من ذلك ومرت بسببه وهي حامل وهو قول جمهور المتأولين وروي عن ابن عباس أنه قال ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة والله أعلم وظاهر قوله فأجاءها المخاض أنها كانت على عرف النساء
وقوله سبحانه فناداها من تحتها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم فناداها من تحتها على أن من فاعل بنادى والمراد بمن عيسى قاله مجاهد والحسن وابن جبير وأبي بن كعب وقال ابن عباس المراد بمن جبريل ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها والقول الأول أظهر وأبين وبه يتبين عذر مريم ولا تبقى بها استرابة وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم من تحتها بكسر الميم واختلفوا أيضا (3/6)
فقالت فرقة المراد عيسى وقالت فرقة المراد جبريل المحاور لها قبل قالوا وكان في بقعة أخفض من البقعة التي كانت هي عليها والأول أظهر وقرأ ابن عباس فناداها ملك من تحتها والسري من الرجال العظيم السيد والسري أيضا الجدول من الماء وبحسب هذا اختلف الناس في هذه الآية فقال قتادة وابن زيد أراد جعل تحتك عظيما من الرجال له شأن وقال الجمهور أشار لها إلى الجدول ثم أمرها بهز الجذع اليابس لترى ءاية أخرى وقالت فرقة بل كانت النخلة مطعمة رطبا وقال السدي كان الجذع مقطوعا وأجري تحتها النهر لحينه قال ع والظاهر من الآية أن عيسى هو المكلم لها وأن الجذع كان يابسا فهي ءايات تسليها وتسكن إليها قال ص قوله وهزي إليك تقرر في علم النحو أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير متصل وقد رفع المتصل وهما لمدلول واحد وإذا تقرر هذا فإليك لا يتعلق بهزي ولكن يمكن أن يكون إليك حالا من جذع النخلة فيتعلق بمحذوف أي هزي بجذع النخلة منتهيا إليك انتهى والباء في قوله بجذع زائدة مؤكدة وجنيا معناه قد طابت وصلحت للإجتناء وهو من جنيت الثمرة وقال عمرو بن ميمون ليس شيء للنفساء خيرا من التمر والرطب وقرة العين مأخوذة من القر وذلك أنه يحكى أن دمع الفرح بارد المس ودمع الحزن سخن المس وقيل غير هذا قال ص وقرى عينا أي طيبي نفسا أبو البقاء عينا تمييز اه
وقوله سبحانه فأما ترين من البشر أحدا الآية المعنى أن الله عز و جل أمرها على لسان جبريل عليه السلام أو ابنها على الخلاف المتقدم بأن تمسك عن مخاطبة البشر وتحيل على إبنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها وتبين الآية فيقوم عذرها وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول مضمن هذه الألفاظ التي في الآية وهو قول الجمهور وقالت فرقة معنى قولي (3/7)
بالإشارة لا بالكلام قال ص وقوله فقولي جواب الشرط وبينهما جملة محذوفة يدل عليها المعنى أي فأما ترين من البشر أحدا وسألك أو حاورك الكلام فقولي انتهى وصوما معناه عن الكلام إذ أصل الصوم الإمساك وقرأت فرقة أني نذرت للرحمن صمتا ولا يجوز في شرعنا نذر الصمت فروي أن مريم عليها السلام لما أطمأنت بما رأت من الآيات وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها أتت به تحمله مدلة من المكان القصي الذي كانت منتبذة به والفري العظيم الشنيع قاله مجاهد والسدي وأكثر استعماله في السوء واختلف في معنى قوله تعالى يا أخت هارون فقيل كان لها أخ اسمه هارون لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل وروى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أرسله إلى أهل نجران في أمر من الأمور فقالت له النصارى إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون وبينهما في المدة ست مائة سنة قال المغيرة فلم أدر ما أقول فلما قدمت على النبي صلى الله عليه و سلم ذكرت ذلك له فقال
ألم يعملوا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين قال ع فالمعنى أنه اسم وافق اسما وقيل نسبوها إلى هارون أخي موسى لأنها من نسله ومنه قوله صلى الله عليه و سلم أن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم وقال قتادة نسبوها إلى هارون اسم رجل صالح في ذلك الزمان وقالت فرقة بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هارون نسبوها إليه على جهة التعيير ت والله أعلم بصحة هذا وما رواه المغيرة أن ثبت هو المعول عليه وقولهم ما كان أبوك امرأ سوء المعنى ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها والبغي التي تبغي الزنا أي تطلبه
وقوله تعالى فأشارت إليه يقوي قول من قال أن أمرها بقولي إنما أريد به الإشارة
وقوله ءاتاني الكتاب يعني الإنجيل ويحتمل أن يريد التوراة والإنجيل وءاتاني معناه قضى بذلك سبحانه وأنفذه (3/8)
في سابق حكمه وهذا نحو قوله تعالى أتى أمر الله
وأوصاني بالصلاة والزكاة قيل هما المشروعتان في البدن والمال وقيل الصلاة الدعاء والزكاة التطهر من كل عيب ونقص ومعصية والجبار المتعظم وهي خلق مقرونة بالشقاء لأنها مناقضة لجميع الناس فلا يلقى صاحبها من كل أحد إلا مكروها وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على الأرض ويأوي حيث جنه الليل لا مسكن له قال قتادة وكان يقول سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي وقالت فرقة أن عيسى عليه السلام كان أوتي الكتاب وهو في سن الطفولية وكان يصوم ويصلي قال ع وهذا في غاية الضعف ت وضعفه من جهة سنده وإلا فالعقل لا يحيله لا سيما وأمره كله خرق عادة وفي قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا إن هذا لأمر عظيم
وقوله تعالى ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون المعنى قل يا محمد لمعاصريك من اليهود والنصارى ذلك الذي هذه قصته عيسى بن مريم وقرأ نافع وعامة الناس قول الحق برفع القول على معنى هذا هو قول الحق وقرأ عاصم وابن عامر قول الحق بنصب اللام على المصدر
وقوله إن الله ربي وربكم الآية هذا من تمام القول الذي أمر به محمد صلى الله عليه و سلم أن يقوله ويحتمل أن يكون من قول عيسى ويكون قوله أن بفتح الهمزة عطفا على قوله الكتاب وقد قال وهب بن منبه عهد عيسى إليهم أن الله ربي وربكم ت وما ذكره وهب مصرح به في القرءان ففي ءاخر المائدة ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم الآية وامتراؤهم في عيسى هو اختلافهم فيقول بعضهم لزنية وهم اليهود ويقول بعضهم هو الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا فهذا هو امتراؤهم وسيأتي شرح ذلك بأثر هذا
وقوله فاختلف الأحزاب من بينهم هذا ابتداء (3/9)
خبر من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم بأن بني إسرائيل اختلفوا أحزابا أي فرقا وقوله من بينهم بمعنى من تلقائهم ومن أنفسهم ثار شرهم وإن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين وروي في هذا عن قتادة أن بني إسرائيل جمعوا من أنفسهم أربعة أحبار غاية في المكانة والجلالة عندهم وطلبوهم أن يبينوا لهم أمر عيسى فقال أحدهم عيسى هو الله تعالى الله عن قولهم وقال له الثلاثة كذبت واتبعه اليعقوبية ثم قيل للثلاثة فقال أحدهم عيسى ابن الله تعالى الله عن قولهم فقال له الاثنان كذبت واتبعه النسطورية ثم قيل للاثنين فقال أحدهما عيسى أحد ثلاثة الله إله ومريم إله وعيسى إله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا فقال له الرابع كذبت واتبعته الإسرائيلية فقيل للرابع فقال عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم فاتبع كل واحد فريق من بني إسرائيل ثم اقتتلوا فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع والويل الحزن والثبور وقيل الويل واد في جهنم ومشهد يوم عظيم هو يوم القيامة
وقوله سبحانه اسمع بهم وأبصر أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم يرجعون إلينا ويرون ما نصنع بهم لكن الظالمون اليوم أي في الدنيا في ضلال مبين أي بين وأنذرهم يوم الحسرة وهو يوم ذبح الموت قاله الجمهور وفي هذا حديث صحيح خرجه البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم
أن الموت يجاء به في صورة كبش أملح فيذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادى يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت ثم قرأ وأنذرهم يوم الحسرة الآية قال ع - وعند ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها وقال ابن زيد وغيره يوم الحسرة هو يوم القيامة قال ع ويحتمل أن يكون يوم الحسرة اسم جنس شامل لحسرات كثيرة بحسب مواطن الآخرة منها يوم موت الإنسان وأخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك وهم (3/10)
في غفلة يريد في الدنيا
قوله سبحانه انا نحن نرث الأرض الآية عبارة عن بقائه جل وعلا بعد فناء مخلوقاته لا إله غيره
وقوله عز و جل واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا الآية قوله واذكر بمعنى اتل وشهر لأن الله تعالى هو الذاكر والكتاب هو القرءان والصديق بناء مبالغة فكان إبراهيم عليه السلام يوصف بالصدق في أفعاله وأقواله
وقوله يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن الآية قال الطبري أخاف بمعنى أعلم قال ع والظاهر عندي أنه خوف على بابه وذلك أن إبراهيم عليه السلام في وقت هذه المقالة لم يكن ءايسا من إيمان أبيه ت ونحو هذا عبارة المهدوي قال قيل أخاف معناه اعلم أي أني أعلم أن مت على ما أنت عليه ويجوز أن يكون أخاف على بابه ويكون المعنى أني أخاف أن تموت على كفرك فيمسك العذاب انتهى
وقوله لأرجمنك قال الضحاك وغيره معناه بالقول أي لأشتمنك وقال الحسن معناه لأرجمنك بالحجارة وقالت فرقة معناه لأقتلنك وهذان القولان بمعنى واحد
وقوله واهجرني على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله كأنه قال إن لم تنته قتلتك بالرجم ثم قال له واهجرني أي مع انتهائك ومليا معناه دهرا طويلا مأخوذ من الملوين وهما الليل والنهار هذا قول الجمهور
وقوله قال سلام عليك اختلف في معنى تسليمه على أبيه فقال بعضهم هي تحية مفارق وجوزوا تحية الكافر وأن يبدأ بها وقال الجمهور ذلك السلام بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية وقال الطبري معناه أمنة مني لك وهذا قول الجمهور وهم لا يرون ابتداء الكافر بالسلام وقال النقاش حليم خاطب سفيها كما قال تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
وقوله سأستغفر لك ربي معناه سأدعو الله تعالى في أن يهديك فيغفر لك بإيمانك ولما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه والحفى المهتبل المتلطف وهذا شكر من إبراهيم لنعم الله تعالى عليه ثم أخبر (3/11)
إبراهيم عليه السلام بأنه يعتزلهم أي يصير عنهم بمعزل ويروي أنهم كانوا بأرض كوثي فرحل عليه السلام حتى نزل الشام وفي سفرته تلك لقي الجبار الذي أخدم هاجر الحديث الصحيح بطوله وتدعون معناه تعبدون
وقوله عسى ترج في ضمنه خوف شديد وقوله سبحانه فلما اعتزلهم إلى أخر الآية أخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم أنه لما رحل إبراهيم عن بلد أبيه وقومه عوضه الله تعالى من ذلك ابنه اسحاق وابن ابنه يعقوب على جميعهم السلام وجعل الولد له تسلية وشد لعضده وإسحاق اصغر من إسماعيل ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة فحملت بإسحاق هكذا فيما روي وقوله تعالى ووهبنا لهم من رحمتنا يريد العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة كل ذلك من رحمة الله عز و جل ولسان الصدق هو الثناء الباقي عليهم ءاخر الأبد قاله ابن عباس وإبراهيم الخليل صلى الله عليه و سلم وذريته معظمة في جميع الأمم والملل قال ص وكلا جعلنا نبيا أبو البقاء هو منصوب بجعلنا انتهى وقوله عز و جل واذكر في الكتاب موسى أي على جهة التشريف له وناديناه هو تكليم الله له والأيمن صفة لجانب وكان على يمين موسى وإلا فالجبل نفسه لا يمنه له ولا يسرة ويحتمل أن يكون الأيمن مأخوذا من اليمن وقربناه أي تقريب تشريف والنجى من المناجاه وقوله تعالى واذكر في الكتاب إسماعيل هو أيضا من لسان الصدق المضمون بقاؤه على إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام هو أبو العرب اليوم وذلك أن اليمنية والمضرية ترجع إلى ولد إسماعيل وهو الذبيح في قول الجمهور وهو الراجح من وجوه منها قوله تعالى ومن وراء إسحاق يعقوب فولد بشر أبواه بأن سيكون منه ولد كيف يومر بذبحه ومنها أن أمر الذبح كان بمنى بلا خلاف وما روي قط أن إسحاق دخل تلك البلاد وإسماعيل بها نشأ وكان (3/12)
أبوه يزوره مرارا كثيرة يأتي من الشام ويرجع من يومه على البراق وهو مركب الأنبياء ومنها قوله صلى الله عليه و سلم أنا ابن الذبيحين وهو أبوه عبد الله والذبيح الثاني هو إسماعيل ومنها ترتيب ءايات سورة والصافات يكاد ينص على أن الذبيح غير إسحاق ووصفه الله تعالى بصدق الوعد لأنه كان مبالغا في ذلك وروي أنه وعد رجلا أن يلقاه في موضع فبقي في انتظاره يومه وليلته فلما كان في اليوم الآخر جاء الرجل فقال له إسماعيل ما زلت هنا في انتظارك منذ أمس وقد فعل مثله نبينا محمد صلى الله عليه و سلم قبل مبعثه خرجه الترمذي وغيره قال سفيان بن عيينة أسوأ الكذب إخلاف الميعاد ورمي الأبرياء بالتهم وأهله المراد بهم قومه وأمته قاله الحسن وفي مصحف ابن مسعود وكان يأمر قومه وإدريس عليه السلام من أجداد نوح عليه السلام ورفعناه مكانا عليا قالت فرقة من العلماء رفع إلى السماء قال ابن عباس كان ذلك بأمر الله تعالى
وقوله وبكيا قالت فرقة جمع باك وقالت فرقة هو مصدر بمعنى البكاء التقدير وبكوا بكيا واحتج الطبري ومكي لهذا القول بأن عمر رضي الله عنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال هذا السجود فأين البكي يعني البكاء قال ع ويحتمل أن يريد عمر رضي الله عنه فأين الباكون وهذا الذي ذكروه عن عمر ذكره أبو حاتم عن النبي صلى الله عليه و سلم وقوله تعالى فخلف من بعدهم خلف الآية الخلف بسكون اللام مستعمل إذا كان الآتي مذموما هذا مشهور كلام العرب والمراد بالخلف من كفر وعصى بعد من بني إسرائيل ثم يتناول معنى الآية من سواهم إلى يوم القيامة وإضاعة الصلاة يكون بتركها وبجحدها وبإضاعة أوقاتها وروى أبو داود الطيالسي في مسنده بسنده عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
إذا أحسن الرجل الصلاة فأتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة (3/13)
حفظك الله كما حفظتني وترفع وإذا أساء الصلاة فلم يتم ركوعها ولا سجودها قالت الصلاة ضيعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه انتهى من التذكرة والشهوات عموم وألغي الخسران قاله ابن زيد وقد يكون الغي بمعنى الضلال والتقدير يلقون جزاء الغي وقال عبد الله بن عمرو وابن مسعود الغي واد في جهنم وبه وقع التوعد في هذه الآية وقال ص الغي عندهم كل شر كما أن الرشاد كل خير انتهى وجنات عدن بدل من الجنة في قوله يدخلون الجنة
وقوله بالغيب أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم وفي هذا مدح لهم على سرعة إيمانهم وبدارهم إذا لم يعاينوا وماتيا مفعول على بابه وقال جماعة من المفسرين هو مفعول في اللفظ بمعنى فاعل فماتيا بمعنى ءات وهذا بعيد ت بل هو الظاهر وعليه اعتمد ص واللغو السقط من القول وقوله بكرة وعشيا يريد في التقدير وقوله عز و جل وما نتنزل إلا بأمر ربك الآية قال ابن عباس وغيره سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه و سلم أبطأ عنه جبريل عليه السلام مدة فلما جاءه قال يا جبريل قد اشتقت إليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت هذه الآية وقال الضحاك ومجاهد سببها أن جبريل تأخر عن النبي صلى الله عليه و سلم عند قوله في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف غدا أخبركم وقال الداودي عن مجاهد ابطأت الرسل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أتى جبريل عليه السلام قال ما حبسك قال وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون إظفاركم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون وما نتنزل إلا بأمر ربك انتهى وقد جاءت في فضل السواك ءاثار كثيرة فمنها ما رواه البزار في مسنده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي قام الملك خلفه فيسمع لقراءته فيدنو منه حتى يضع فاه على فيه فما يخرج (3/14)
من فيه شيء من القرءان إلا صار في جوف الملك انتهى من الكوكب الدري وفيه عن ابن أبي شيبة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال صلاة على أثر سواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك انتهى وفي البخاري أن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب أه وقوله سبحانه له ما بين أيدينا الآية المقصود بهذه الآية الإشعار بملك الله تعالى لملائكته وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان إنما هو بحد منه
وقوله وما كان ربك نسيا أي ممن يلحقه نسيان لبعثنا إليك فنسيا فعيل من النسيان وهو الذهول عن الأمور وقرأ ابن مسعود وما نسيك ربك وقوله سميا قال قوم معناه موافقا في الإسم قال ع وهذا يحسن فيه أن يريد بالإسم ما تقدم من قوله رب السموات والأرض وما بينهما أي هل تعلم من يسمى بهذا أو يوصف بهذه الصفة وذلك أن الأمم والفرق لا يسمون بهذا الاسم وثنا ولا شيئا سوى الله تعالى قال القشيري في التحبير قوله تعالى واصطبر لعبادته الاصطبار نهاية الصبر ومن صبر ظفر ومن لازم وصل وفي معناه انشدوا ... لا تيأسن وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا ... اخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا ...
وأنشدوا ... إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر ... وقل من جد في شيء يحاوله ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر ...
انتهى وقال ابن عباس وغيره سميا معناه مثيلا أو شبيها ونحو ذلك وهذا قول حسن وكان السمي بمعنى المسامي والمضاهي فهو من السمو
وقوله تعالى ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا الإنسان اسم جنس يراد به الكافرون وروي أن سبب نزول هذه الآية هو أن رجالا من قريش كانوا يقولون هذا (3/15)
ونحوه وذكر أن القائل هو أبي بن خلف وروي أن القائل هو العاصي بن وائل وفي قوله تعالى ولم يك شيئا دليل على أن المعدوم لا يسمى شيئا وقال أبو علي الفارسي أراد شيئا موجودا قال ع - وهذه من أبي علي نزعة اعتزالية فتأملها والضمير في لنحشرنهم عائد على الكفار القائلين ما تقدم ثم أخبر تعالى أنه يقرن بهم الشياطين المغوين لهم وجثيا جمع جاث فأخبر سبحانه أنه يحضر هؤلاء المنكرين البعث مع الشياطين المغوين فيجثون حول جهنم وهو قعود الخائف الذليل على ركبتيه كالأسير ونحوه قال ابن زيد الجثي شر الجلوس والشيعة الفرقة المرتبطة بمذهب وأحد المتعاونة فيه فأخبر سبحانه أنه ينزع من كل شيعة أعتاها وأولاها بالعذاب فنكون مقدمتها إلى النار قال أبو الأحوص المعنى نبدأ بالأكابر جرما وأي هنا بنيت لما حذف الضمير العائد عليها من صدر صلتها وكان التقدير أيهم هو أشد وصليا مصدر صلي يصلي إذا باشره وقوله عز و جل وإن منكم إلا واردها قسم والواو تقتضيه ويفسره قول صلى الله عليه و سلم من مات له ثلاثة أولاد لم تمسه النار إلا تحلة القسم وقرأ ابن عباس وجماعة وإن منهم بالهاء على إرادة الكفار قال ع ولا شغب في هذه القراءة وقالت فرقة من الجمهور القارئين منكم المعنى قل لهم يا محمد فالخطاب بمنكم للكفرة وتأويل هؤلاء أيضا سهل التناول وقال الأكثر المخاطب العالم كله ولا بد من ورود الجميع ثم اختلفوا في كيفية ورود المؤمنين فقال ابن عباس وابن مسعود وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم هو ورود دخول لكنها لا تعدو عليهم ثم يخرجهم الله عز و جل منها بعد معرفتهم حقيقة ما نجوا منه وروى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
الورود في هذه الآية هو الدخول وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود مع الجهل بالصدر جعلنا الله تعالى من الناجين بفضله ورحمته وقالت فرقة بل هو ورود أشراف واطلاع وقرب كما تقول وردت الماء إذا جئته وليس ما يلزم (3/16)
أن تدخل فيه قالوا وحسب المؤمن بهذا هولا ومنه قوله تعالى ولما ورد ماء مدين وروت فرقة أثرا أن الله تعالى يجعل النار يوم القيامة جامدة الأعلى كأنها أهالة فيأتي الخلق كلهم برهم وفاجرهم فيقفون عليها ثم تسوخ بأهلها ويخرج المؤمنون الفائزون لم ينلهم ضر قالوا فهذا هو الورود قال المهدوي وعن قتادة قال يرد الناس جهنم وهي سوداء مظلمة فأما المؤمنون فأضاءت لهم حسناتهم فنجوا منها وأما الكفار فأوبقتهم سيئاتهم واحتبسوا بذنوبهم انتهى وروت حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية قالت فقلت يا رسول الله وأين قول الله تعالى وإن منكم إلا واردها فقال صلى الله عليه و سلم فمه ثم ننجي الذين اتقوا ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ت وحديث حفصة هذا أخرجه مسلم وفيه
أفلم تسمعيه يقول ثم ننجي الذين اتقوا وروى ابن المبارك في رقائقه أنه لما نزلت هذه الآية وإن منكم إلا واردها ذهب ابن رواحة إلى بيته فبكى فجاءت امرأته فبكت وجاءت الخادم فبكت وجاء أهل البيت فجعلوا يبكون فلما انقضت عبرته قال يا أهلاه ما يبكيكم قالوا لا ندري ولكن رأيناك بكيت فبكينا فقال ءاية نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم ينبئني فيها ربي إني وراد النار ولم ينبئني أني صادر عنها فذلك الذي أبكاني انتهى وقال ابن مسعود ورودهم هو جوازهم على الصراط وذلك أن الحديث الصحيح تضمن أن الصراط مضروب على متن جهنم والحتم الأمر المنفذ المجزوم والذين اتقوا معناه اتقوا الكفر ونذر دالة على أنهم كانوا فيها قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد بعد أن ذكر رواية جابر وابن مسعود في الورود وروي عن كعب أنه تلا وإن منكم إلا ورادها فقال أتدرون ما ورودها أنه يجاء بجهنم فتمسك للناس كأنها متن أهالة يعني الودك الذي يجمد على القدر من المرقة حتى إذا استقرت عليها إقدام (3/17)
الخلائق برهم وفاجرهم نادى مناد أن خذى أصحابك وذري أصحابي فيخسف بكل ولي لها فلهي أعلم بهم من الوالدة بولدها وينجو المؤمنون ندية ثيابهم وروي هذا المعنى عن أبي نضرة وزاد وهو معنى قوله تعالى فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون انتهى
وقوله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما الآية هذا افتخار من كفار قريش وأنه أنما أنعم الله عليهم لأجل أنهم على الحق بزعمهم والندي والنادي المجلس ثم رد الله تعالى حجتهم وحقر أمرهم فقال تعالى وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا أي فلم يغن ذلك عنهم شيئا والأثاث المال العين والعرض والحيوان وقرأ نافع وغيره ورءيا بهمزة بعدها ياء من رؤية العين قال البخاري ورءيا منظرا وقرأ نافع أيضا وأهل المدينة وريا بياء مشددة فقيل هي بمعنى القراءة الأولى وقيل هي بمعنى الري في السقيا إذا كثر النعمة من الري والمطر وقرأ ابن جبير وابن عباس ويزيد البريري وزيا بالزاي المعجمة بمعنى الملبس وأما قوله سبحانه قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا فيحتمل أن يكون بمعنى الدعاء والابتهال كأنه يقول الأضل منا ومنكم مد الله له أي أملي له حتى يؤول ذلك إلى عذابه ويحتمل أن يكون بمعنى الخبر أنه سبحانه هذه عادته الاملاء للضالين حتى إذا رأوا ما يوعدون أما العذاب أي في الدنيا بنصر الله للمؤمنين عليهم وأما الساعة فيصيرون إلى النار والجند الناصرون القائمون بأمر الحرب وشر مكانا بأزاء قولهم خير مقاما وأضعف جندا بأزاء قولهم أحسن نديا ولما ذكر سبحانه ضلالة الكفرة وافتخارهم بنعم الدنيا عقب ذلك بذكر نعمة الله على المؤمنين في أنه يزيدهم هدى في الارتباط بالأعمال الصالحة والمعرفة بالدلائل الواضحة وقد تقدم تفسير الباقيات الصالحات عن النبي صلى الله عليه و سلم وأنها سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله اكبر وقد قال صلى الله عليه و سلم لأبي الدرداء خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال (3/18)
بينك وبينهن فهن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة وعنه صلى الله عليه و سلم أنه قال
خذوا جنتكم قالوا يا رسول الله أمن عدو حضر قال من النار قالوا ما هي يا رسول الله قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وهن الباقيات الصالحات وكان أبو الدرداء يقول إذا ذكر هذا الحديث لأهللن ولأكبرن الله ولأسبحنه حتى إذا رءاني الجاهل ظنني مجنونا ت ولو ذكرنا ما ورد من صحيح الأحاديث في هذا الباب لخرجنا بالإطالة عن مقصود الكتاب وقوله سبحانه أفرأيت الذي كفر بآيتنا هو العاصي بن وائل السهمي قاله جمهور المفسرين وكان خبره أن خباب بن الأرت كان قينا في الجاهلية فعمل له عملا واجتمع له عنده دين فجاءه يتقاضاه فقال له العاصي لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقال خباب لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك فقال العاصي أو مبعوث أنا بع4د الموت فقال نعم فقال فإنه إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك فنزلت الآية في ذلك وقال الحسن نزلت في الوليد بن المغيره قال ع وقد كانت للوليد أيضا أقوال تشبه هذا الغرض ت إلا أن المسند الصحيح في البخاري هو الأول
وقوله أم اتخذ عند الرحمن عهدا معناه بالإيمان والأعمال الصالحات وكلا زجر ورد وهذا المعنى لازم لكلا ثم أخبر سبحانه أن قول هذا الكافر سيكتب على معنى حفظه عليه ومعاقبته به ومد العذاب هو إطالته وتعظيمه
وقوله سبحانه ونرثه ما يقول أي هذه الأشياء التي سمي أنه يوتاها في الآخرة يرث الله ماله منها في الدنيا بأهلاكه وتركه لها فالوراثة مستعارة وقال النحاس نرثه ما يقول معناه نحفظه عليه لنعاقبه به ومنه قوله صلى الله عليه و سلم العلماء ورثة الأنبياء أي حفظة ما قالوا قال ع فكان هذا المجرم يورث هذه المقالة
وقوله ويكونون عليهم ضدا معناه يجدونهم خلاف ما كانوا أملوه في معبوداتهم فيئول ذلك بهم إلى ذلة وضد ما أملوه من العز وغيره وهذه صفة عامة وتؤزهم (3/19)
معناه تقلقهم وتحركهم إلى الكفر والضلال قال قتادة تزعجهم إزعاجا وقال ابن زيد تشليهم أشلاء ومنه أزيز القدر وهو غليانه وحركته ومنه الحديث أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجدته يصلي وهو يبكي ولصدره أزيز كأزيز المرجل ت هذا الحديث خرجه مسلم وأبو داود عن مطرف عن أبيه وقال العراقي تؤزهم أي تدفعهم انتهى وقوله سبحانه فلا تعجل عليهم أي لا تستبطئ عذابهم وقوله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا قال ع وظاهر هذه الوفادة أنها بعد انقضاء الحساب وإنما هي النهوض إلى الجنة وكذلك سوق المجرمين أنما هو لدخول النار ووفدا قال المفسرون معناه ركبانا وهي عادة الوفود لأنهم سراة الناس وأحسنهم شكلا وإنما شبههم بالوفد هيئة وكرامة وروي عن علي رضي الله عنه أنهم يجيئون ركبانا على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها من ياقوت وزبرجد ونحو هذا وروي عمرو ابن قيس الملاءي أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة وهي في غاية الحسن وروي أنه يركب كل واحد منهم ما أحب فمنهم من يركب الإبل ومنهم من يركب الخيل ومنهم من يركب السفن فتجئ عائمة بهم وقد ورد في الضحايا أنها مطاياكم إلى الجنة وأكثر هذه فيها ضعف من جهة الإسناد والسوق يتضمن هوانا والورد العطاش قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن واختلف في الضمير في قوله لا يملكون فقالت فرقة هو عائد على المجرمين أي لا يملكون أن يشفع لهم وعلى هذا فالاستثناء منقطع أي لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يشفع له والعهد على هذا الإيمان وقال ابن عباس العهد لا إله إلا الله وفي الحديث يقول الله تعالى يوم القيامة
من كان له عندي عهد فليقم قال ع ويحتمل أن يكون المجرمون يعم الكفرة والعصاة أي إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا من عصاة المؤمنين فإنه يشفع لهم وبكون الاستثناء متصلا وقالت فرقة الضمير في لا يملكون للمتقين
وقوله إلا من اتخذ الآية أي إلا من كان (3/20)
له عمل صالح مبرور فيشفع فيشفع وتحتمل الآية أن يراد بمن النبي صلى الله عليه و سلم وبالشفاعة الخاصة له العامة في أهل الموقف ويكون الضمير في لا يملكون لجميع أهل الموقف ألا ترى أن سائر الأنبياء يتدافعون الشفاعة إذ ذاك حتى تصير إليه صلى الله عليه و سلم وقوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا قال الباجي في سنن الصالحين له روي عن ابن مسعود أنه قال أن الجبل ليقول للجبل يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله تعالى فإن قال نعم سر به ثم قرأ عبد الله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا إلى قوله وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا قال أترونها تسمع الزور ولا تسمع الخير انتهى وهكذا رواه ابن المبارك في رقائقه وما ذكره ابن مسعود لا يقال من جهة الرأي وقد روي عن أنس وغيره نحوه قال الباجي بأثر الكلام المتقدم وروي جعفر بن زيد عن أنس بن مالك أنه قال ما من صباح ولا رواح إلا وتنادى بقاع الأرض بعضها بعضا أي جاره هل مر بك اليوم عبد يصلى أو يذكر الله فمن قائله لا ومن قائله نعم فإذا قالت نعم رأت لها فضلا بذلك انتهى
وقوله سبحانه لقد جئتم شيئا إدا الآية الإد الأمر الشنيع الصعب ت وقال العراقي إدا أي عظيما انتهى والانفطار الانشقاق والهد الانهدام قال محمد بن كعب كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة
وقوله أن كل من في السماوات الآية أن نافية بمعنى ما وقوله فردا يتضمن عدم النصير والحول والقوة أي لا مجير له مما يريد الله به وعبارة الثعلبي فردا أي وحيدا بعمله ليس معه من الدنيا شيء اه ت وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى الآية وقوله تعالى سيجعل لهم الرحمن ودا ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا الود هو القبول الذي يضعه الله لمن يحب من عباده حسبما في الحديث الصحيح المأثور وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه أنها بمنزلة قول النبي صلى الله عليه و سلم
من أسر سريرة ألبسه الله رداءها ت والحديث المتقدم المشار إليه أصله في الموطأ (3/21)
ولفظه مالك عن سهيل بن أبي صالح السمان عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا أحب الله العبد قال لجبريل يا جبريل قد أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادى في أهل السماء أن الله أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يضع له القبول في الأرض وإذا أبغض العبد قال مالك لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد وممن روى هذا الحديث عن سهيل بإسناده هذا فذكر البغض من غير شك معمر وعبد العزيز بن المختار وحماد بن سلمة قالوا في ءاخره وإذا أبغض بمثل ذلك ولم يشكوا قال أبو عمر وقد قال المفسرون في قوله تعالى سيجعل لهم الرحمن ودا يحبهم ويحببهم إلى الناس وقاله مجاهد وابن عباس ثم أسند أبو عمر عن كعب أنه قال والله ما اتسقر لعبد ثناء في أهل الدنيا حتى يستقر له في أهل السماء قال كعب وقرأت في التوراة أنه لم تكن محبة لأحد من أهل الأرض إلا كان بدأها من الله عز و جل ينزلها على أهل السماء ثم ينزلها على أهل الأرض ثم قرأت القرءان فوجدت فيه أن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا وأسند أبو عمر عن قتادة قال قال هرم بن حيان ما أقبل عبد بقلبه إلى الله تعالى إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان عليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم انتهى قال ابن المبارك في رقائقه أخبرنا سلميان بن المغيرة عن ثابت قال قيل يا رسول الله من أهل الجنة قال من لا يموت حتى يملأ الله سمعه مما يحب قال فقيل يا رسول الله من أهل النار قال من لا يموت حتى يملأ الله سمعه مما يكره انتهى قال ع وفي حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من عبد إلا وله في السماء صيت فإن كان حسنا وضع في الأرض حسنا وإن كان سيئا وضع في الأرض سيئا ت وهذا الحديث خرجه أبو داود في كتاب الزهد وقوله تعالى فإنما يسرناه بلسانك أي القرءان لتبشر به المتقين أي بالجنة والنعيم الدائم والعز في (3/22)
الدنيا
وقوما لدا هم قريش ومعناه مجادلين مخاصمين والألد المخاصم المبالغ في ذلك ثم مثل لهم بإهلاك من قبلهم إذ كانوا أشد منهم وألد وأعظم قدرا والركز الصوت الخفي
تفسير سورة طه وهي مكية بسم الله الرحمن الرحيم
قوله سبحانه وتعالى طه ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى قيل طه اسم من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وقيل معناه يا رجل بالسريانية ويقل بغيرها من لغات العجم قال البخاري قال ابن جبير طه يا رجل بالنبطية انتهى وقيل أنها لغة يمانية في عك وأنشد الطبري في ذلك ... دعوت بطاها في القتال فلم يجب ... فخفت عليه أن يكون موائلا ...
وقال آخر ... إن السفاهة طاها من خلائقكم ... لا بارك الله في القوم الملاعين ...
وقالت فرقة من العلماء سبب نزول هذه الآية أن قريشا لما نظرت إلى عيش النبي صلى الله عليه و سلم وشظفه وكثرة عبادته قالت أن محمدا مع ربه في شقاء فنزلت الآية رادة عليهم وأسند عياض في الشفا من طريق أبي ذر الهروي عن الربيع بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله طه يعني طأ الأرض يا محمد ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى (3/23)
ولا خفاء بما في هذا كله من الأكرام له صلى الله عليه و سلم وحسن المعاملة انتهى قال ص لتشقى إلا تذكرة علتان لقوله ما أنزلنا انتهى وقد تقدم القول في مسألة الاستواء وباقي الآية بين قال ابن هاشم قوله تعالى وإن تجهر بالقول أي فاعلم أنه غني عن جهرك فإنه يعلم السر وأخفى فالجواب محذوف انتهى
وقوله سبحانه وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى هذا الاستفهام توقيف مضمنه تنبيه النفس إلى استماع ما يورد عليها وهذا كما تبدأ الرجل إذا أردت أخباره بأمر غريب فتقول أعلمت كذا وكذا ثم تبدأ تخبره وكان من قصة موسى عليه السلام أنه رحل من مدين بأهله بنت شعيب عليه السلام وهو يريد أرض مصر وقد طالت مدة جنايته هنالك فرجا خفاء أمره وكان فيما يزعمون رجلا غيورا فكان يسير الليل بأهله ولا يسير بالنهار مخافة كشفه الناس فضل عن طريقه في ليلة مظلمة فبينما هو كذلك وقد قدح بزنده فلم يور شيئا إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا أي أقيموا وذهب هو إلى النار فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة قيل كانت من عناب وقيل من عوسج وقيل من عليق فكلما دنا منها تباعدت منه ومشت فإذا رجع عنها اتبعته فلما رأى ذلك أيقن أن هذا من أمور الله الخارقة للعادة ونودي وانقضى أمره كله في تلك الليلة هذا قول الجمهور وهو الحق وما حكي عن ابن عباس أنه قال أقام في ذلك الأمر حولا فغير صحيح عن ابن عباس وآنست معناه أحسست والقبس الجذوة من النار تكون على رأس العود والهدى أراد هدى الطريق أي لعلي أجد مرشدا لي أو دليلا وفي قصة موسى بأسرها في هذه السورة تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم عما لقي في تبليغه من المشقات صلى الله عليه و سلم والضمير في قوله أتاها عائد على النار
وقوله نودي كنايه عن تكليم الله تعالى (3/24)
له عليه السلام وقرأ نافع وغيره أني بكسر الهمزة على الابتداء وقرأ أبو عمرو وابن كثير أني بفتحها على معنى لأجل أني أنا ربك فاخلع نعليك واختلف في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين فقالت فرقة كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرح النجاسة وقالت فرقة بل كانت نعلاه من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعهما لينال بركة الوادي المقدس وتمس قدماه تربة الوادي قال ع وتحتمل الآية معنى آخر هو الأليق بها عندي وهو أن الله تعالى أمره أن يتأدب ويتواضع لعظم الحال التي حصل فيها والعرف عند الملوك أن تخلع النعلان ويبلغ الإنسان إلى غاية تواضعه فكان موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه ولا نبالي كيف كانت نعلاه من ميتة أو غيرها والمقدس معناه المطهر وطوى معناه مرتين فقالت فرقة معناه قدس مرتين وقالت فرقة معناه طويت لك الأرض مرتين من ظنك قال الفخر وقيل أن طوى اسم واد بالشام وهو عند الطور الذي أقسم الله به في القرءان وقيل أن طوى بمعنى يا رجل بالعبرانية كأنه قيل يا رجل اذهب إلى فرعون انتهى من تفسيره لسورة والنازعات قال ع وحدثني أبي رحمه الله قال سمعت أبا الفضل ابن الجوهري رحمه الله تعالى يقول لما قيل لموسى استمع لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره ووقف يستمع وكان كل لباسه صوفا وقوله تعالى وأقم الصلاة لذكري يحتمل أن يريد لتذكرني فيها أو يريد لا ذكر في عليين بها فالمصدر محتمل الإضافة إلى الفاعل أو المفعول وقالت فرقة معنى قوله لذكرة أي عند ذكرى أي إذا ذكرتني وأمري لك بها ت وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها قال الله تعالى اقم الصلوة لذكرى انتهى فقد بين لك صلى الله عليه و سلم ما تحتمله الآية والله الموفق بفضله وهكذا استدل ابن العربي هنا بالحديث ولفظه وقد روى مالك (3/25)
وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول أقم الصلاة لذكري انتهى من الأحكام وقرأت فرقة للذكري وقرأت فرقة للذكر وقرأت فرقة للذكرى لذكري بغير تعريف وقوله تعالى أن الساعة يريد القيامة آتية فيه تحذير ووعيد وقرأ ابن كثير وعاصم أكاد أخفيها بفتح الهمزة بمعنى أظهرها أي أنها من تيقن وقوعها تكاد تظهر لكن تنحجب إلى الأجل المعلوم والعرب تقول خفيت الشيء بمعنى أظهرته وقرأ الجمهور أخفيها بضم الهمزة فقيل معناه أظهرها وزعموا أن أخفيت من الأضداد وقالت فرقة أكاد بمعنى أريد أي أريد إخفاءها عنكم لتجزى كل نفس بما تسعى واستشهدوا بقول الشاعر كادت وكدت وتلك خير إرادة ...
وقالت فرقة أكاد على بابها بمعنى أنها مقاربة ما لم يقع لكن الكلام جار على استعارة العرب ومجازها فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ سبحانه في إبهام وقتها فقال أكاد أخفيها حتى لا تظهر البتة ولكن ذلك لا يقع ولا بد من ظهورها وهذا التأويل هو الأقوى عندي وقوله سبحانه فلا يصدنك عنها أي عن الإيمان بالساعة ويحتمل عود الضمير على الصلاة
وقوله فتردى معناه فتهلك والردى الهلاك وهذا الخطاب كله لموسى عليه السلام وكذلك ما بعده وقال النقاش الخطاب بلا يصدنك لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم وهذا بعيد وقوله سبحانه وما تلك بيمينك يا موسى تقرير مضمنه التنبيه وجمع النفس لتلقى ما يورد عليها وإلا فقد علم سبحانه ما هي في الأزل قال ابن العربي في أحكامه وأجاب موسى عليه السلام بقوله هي عصاي الآية بأكثر مما وقع السؤال عنه وهذا كقوله صلى الله عليه و سلم هو الطهور ماؤه الحل ميتتة لمن سأله عن طهورية ماء البحر انتهى ت - والمستحسن من الجواب (3/26)
أن يكون مطابقا للسؤال أو أعم منه كما في الآية والحديث أما كونه أخص منه فلا انتهى وأهش معناه أخبط بها الشجر حتى ينتثر الورق للغنم وعصا موسى عليه السلام هي التي كان أخذها من بيت عصي الأنبياء عليهم السلام الذي كان عند شعيب عليه السلام حين اتفقا على الرعي وكانت عصا آدم عليه السلام هبط بها من الجنة وكانت من العير الذي في ورق الريحان وهو الجسم المستطيل في وسطها ولما أراد الله سبحانه تدريب موسى في تلقي النبوة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا فألقاها فإذا هي حية تسعى أي تنتقل وتمشي وكانت عصا ذات شعبتين فصارت الشعبتان فما يلتقم الحجارة فلما رءاها موسى رأى عبرة فولى مدبرا ولم يعقب فقال الله تعالى له خذها ولا تخف فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة وهي سيرتها الأولى واضمم يدك إلى جناحك أي جنبك قال ع وكل مرعوب من ظلمة ونحوها فإنه إذا ضم يده إلى جناحه فتر رعبه وربط جأشه فجمع الله سبحانه لموسى عليه السلام تفتير الرعب مع الآية في اليد وروي أن يد موسى خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها شمس من غير سوء أي من غير برص ولا مثله بل هو أمر ينحسر ويعود بحكم الحاجة إليه ولما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون علم أنها الرسالة وفهم قدر التكليف فدعا الله في المعونة إذ لا حول له إلا به واشرح لي صدري معناه لفهم ما يرد علي من الأمور والعقدة التي دعا في حلها هي التي اعترته بالجمرة في فيه حين جربه فرعون وروي في ذلك أن فرعون أراد قتل موسى وهو طفل حين مد يده عليه السلام إلى لحية فرعون فقالت له امرأته أنه لا يعقل فقال بل هو يعقل وهو عدوي فقالت له نجربه فقال لها أفعل فدعا بجمرات من النار وبطبق فيه ياقوت فقالا إن أخذ الياقوت علمنا إنه يعقل وإن أخذ النار عذرناه فمد موسى يده إلى جمرة (3/27)
فأخذها فلم تعد على يده فجعلها في فيه فأحرقته وأورثت لسانه عقدة وموسى عليه السلام إنما طلب من حل العقدة قدرا يفقه معه قوله فجائز أن تكون تلك العقدة قد زالت كلها وجائز أن يكون قد بقي منها القليل فيجتمع أن يؤتى هو سؤله وأن يقول فرعون ولا يكاد يبين ولو فرضنا زوال العقدة جملة لكان قول فرعون سبا لموسى بحالته القديمة والوزير المعين القائم بوزر الأمور وهو ثقلها فيحتمل الكلام أن طلب الوزير من أهله على الجملة ثم أبدل هارون من الوزير المطلوب ويحتمل أن يريد واجعل هارون وزيرا فيكون مفعولا أولا لأجعل وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى عليه السلام بأربع سنين والأزر الظهر قاله أبو عبيدة
وقوله كثيرا نعت لمصدر محذوف أي تسبيحا كثيرا وقوله سبحانه ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى قيل هو وحي إلهام وقيل بملك وقيل برؤيا رأتها وكان من قصة موسى عليه السلام فيما روي أن فرعون ذكر له أن خراب ملكه يكون على يد غلام من بني إسرائيل فأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل ثم أنه رأى مع أهل مملكته أن فناء بني إسرائيل يعود على القبط بالضرر إذ هم كانوا عملة الأرض والصناع ونحو هذا فعزم على أن يقتل الولدان سنة ويستحييهم سنة فولد هارون عليه السلام في سنة الاستحياء ثم ولد موسى عليه السلام في العام الرابع سنة القتل فخافت عليه أمه فأوحى الله إليها أن اقذفيه في التابوت فأخذت تابوتا فقذفت فيه موسى راقدا في فراش ثم قذفته في يم النيل وكان فرعون جالسا في موضع يشرف منه على النيل إذ رأى التابوت فأمر به فسيق إليه وامرأته معه ففتح فرأوه فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابنا فأباح لها ذلك ثم أنها عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به يعرض للمراضع فكلما عرضت عليه امرأة أباها وكانت أمه قالت لأخته (3/28)
قصيه فبصرت به وفهمت أمره فقالت لهم أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فتعلقوا بها وقالوا أنت تعرفين هذا الصبي فأنكرت وقالت لا غير أن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى المملكة والجد في خدمتها ورضاها فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها فسرت بذلك ءاسية امرأة فرعون رضي الله عنها وقالت لها كوني معي في القصر فقالت لها ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي فقالت نعم فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والسبب من المملكة وأقام موسى عليه السلام حتى كمل رضاعه فأرسلت إليها ءاسية أن جئيني بولدي ليوم كذا وأمرت خدمها ومن معها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شباب فسرت به ودخلت به على فرعون ليراه ويهب له فرءاه وأعجبه وقربه فأخذ موسى عليه السلام بلحية فرعون وجبذها فاستشاط فرعون وقال هذا عدو لي وأمر بذبحه فناشدته فيه امرأته وقالت إنه لا يعقل فقال فرعون بل يعقل فاتفقا على تجريبه بالجمرة والياقوت حسب ما تقدم فنجاه الله من فرعون ورجع إلى أمه فشب عندها فاعتز به بنو إسرائيل إلى أن ترعر وكان فتى جلدا فاضلا كاملا فاعتزت به بنوا اسرائيل بظاهر ذلك الرضاع وكان يحميهم ويكون ضلعه معهم وهو يعلم من نفسه أنه منهم ومن صميمهم فكانت بصيرته في حمايتهم أكيدة وكان يعرف ذلك أعيان بني إسرائيل ثم وقعت له قصة القبطي المتقاتل مع الإسرائيلي على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وعدد الله سبحانه على موسى هذه الآية ما تضمنته هذه القصة من لطفه سبحانه به في كل فصل وتخليصه من قصة إلى أخرى وهذه الفتون التي فتنه بها أي اختبره بها وخلصه حتى صلح للنبوءه وسلم لها وقوله ما يوحى إبهام يتضمن عظم الأمر وجلالته (3/29)
وهذا كقوله تعالى إذ يغشى السدرة مايغشى فأوحى إلى عبده ما أوحى وهو كثير في القرآن والكلام الفصيح
وقوله فليلقه اليم بالساحل خبر في خرج صيغة الأمر مبالغة ومنه قوله صلى الله عليه و سلم قوموا فلأصل لكم فاخرج الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة وهذا كثير والمراد بالعدو في الآية فرعون ثم أخبر تعالى موسى عليه السلام أنه ألقى عليه محبة منه قالت فرقة أراد القبول الذي يضعه الله في الأرض لخيار عباده وكان حظ موسى منه في غاية الوفر وهذا أقوى ما قيل هنا من الأقوال وقرأ الجمهور ولتصنع بكسر اللام وضم التاء على معنى ولتغذي وتطعم وتربي وقوله على عيني معناه بمرأى مني وقوله على قدر أي لميقات محدود للنبؤة التي قد أرادها الله تعالى واصطنعتك معناه جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإجمال والإحسان
وقوله لنفسي إضافة تشريف وهذا كما تقول بيت الله ونحوه والصيام لي وعبر بالنفس عن شدة القرب وقوة الاختصاص وقوله تعالى ولا تنيا في ذكري معناه لا تبطئا وتضعفا تقول وني فلان في كذا إذا تباطأ فيه عن ضعف والونى الكلال والفشل في البهائم والأنس وفي مصحف ابن مسعود ولا تهنا في ذكري معناه لا تلينا من قولك هين لين فقولا له قولا لينا أي حسنا له الكلمة مع إكمال الدعوة قال ابن العربي في أحكامه وفي الآية دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللين لمن معه القوة وفي الإسرائيليات أن موسى عليه السلام أقام بباب فرعون سنة لا يجد من يبلغ كلامه حتى لقيه حين خرج فجرى له ما قص الله تعالى علينا من خبره وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرنهم مع الظالمين انتهى وقولهما أننا نخاف أن يفرط معناه يعجل ويتسرع إلينا بمكروه وقوله عز و جل إنني معكما أي بالنصر والمعونة وقوله تعالى فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم الآية جملة ما دعي (3/30)
إليه فرعون الإيمان وإرسال بني إسرائيل وأما تعذيبه بني إسرائيل فبذبح أولادهم وتسخيرهم وإذلالهم وقولهما والسلام على من اتبع الهدى يحتمل أن يكون ءاخر كلام فيقوى أن يكون السلام بمعنى التحية كأنهما رغبا بها عنه وجريا على العرف في التسليم عند الفراغ من القول ويحتمل أن يكون في درج القول فيكون خبرا بأن السلامة للمهتدين وبهذين المعنيين قالت كل فرقة من العلماء وقوله سبحانه أعطى كل شيء خلقه قالت فرقة المعنى أعطى كل موجود من مخلوقاته خلقته وصورته أي أكمل ذلك له وأتقنه ثم هدى أي يسر كل شيء لمنافعه وهذا أحسن ما قيل هنا وأشرف معنى وأعم في الموجودات وقول فرعون فما بال القرون الأولى يحتمل أن يريد ما بال القرون الأولى لم تبعث لها ولم يوجد أمرك عندها ويحتمل أن يريد فرعون قطع الكلام والرجوع إلى سؤال موسى عن حالة من سلف من الأمم روغانا في الحجة وحيدة وقيل البال الحال فكأنه سأله عن حالهم وقول موسى علمها عند ربي في كتاب يريد في اللوح المحفوظ ولا يضل معناه لا ينتلف ويعمه والأزواج هنا بمعنى الأنواع وقوله شتى نعت للأزواج أي مختلفة وقوله كلوا وارعوا بمعنى هي صالحة للأكل والرعي فاخرج العبارة في صيغة الأمر لأنه أرجى الأفعال وأهزها للنفوس والنهى جمع نهية والنهية العقل الناهي عن القبائح وقوله سبحانه منها خلقناكم يريد من الأرض وفيها نعيدكم أي بالموت والدفن ومنها نخرجكم أي بالبعث ليوم القيامة وقوله ولقد أريناه ءاياتنا أخبار لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم وقوله كلها عائد على الآيات التي رءاها فرعون لا أنه رأى كل ءاية لله عز و جل وإنما المعنى أن الله أراه ءايات ما كاليد والعصا والطمسة وغير ذلك وكانت رؤيته لهذه الآيات مستوعبة يرى الآيات كلها كاملة ومعنى سوى أي عدلا ونصفه أي حالنا فيه (3/31)
مستوية وقالت فرقة معناه مستويا من الأرض لا وهد فيه ولا نشز فقال موسى موعدكم يوم الزينة وروي أن يوم الزينة كان عيدا لهم ويوما مشهورا وقيل هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم
وقوله وأن يحشر الناس عطفا على الزينة فهو في موضع خفض فتولى فرعون فجمع كيده أي جمع السحرة وأمرهم بالاستعداد لموسى فهذا هو كيده ثم أتى فرعون بجمعه فقال موسى للسحرة ويلكم لا تفتروا على الله كذبا وهذه مخاطبة محذر وندبهم في هذه الآية إلى قول الحق إذا رأوه وأن لا يباهتوا بكذب فيسحتكم أي فيهلككم ويذهبكم فلما سمع السحرة هذه المقالة هالهم هذا المنزع ووقع في نفوسهم من هيبته شديد الموقع وتنازعوا أمرهم والتنازع يقتضي اختلافا كان بينهم في السر فقائل منهم يقول هو محق وقائل يقول هو مبطل ومعلوم أن جميع تناجيهم إنما كان في أمر موسى عليه السلام والنجوى المسارة أي كل واحد يناجي من يليه سرا مخافة من فرعون أن يتبين له فيهم ضعف وقالت فرقة إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا أن هذان لساحران قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكساءي أن هذان لساحران فقالت فرقة قوله أن بمعنى نعم كما قال صلى الله عليه و سلم
أن الحمد لله برفع الحمد وقالت فرقة أن هذه القرءاة على لغة بلحارث بن كعب وهي إبقاء ألف التثنية في حال النصب والخفض وتعزى هذه اللغة لكنانة وتعزى لخثعم وقال الزجاج في الكلام ضمير تقديره أنه هذان لساحران وقرأ أبو عمرو وحده أن هذين لساحران وقرأ ابن اكثير أن هذان لساحران بتخفيف أن وتشديد نون هذان لساحران وقرأ حفص عن عاصم أن بالتخفيف هذان خفيفة أيضا لساحران وعبر كثير من المفسرين عن الطريقة بالسادة أهل العقل والحجا وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة قومه أي سيدهم والأظهر في (3/32)
الطريقة هنا أنها السيرة والمملكة والحال التي كانوا عليها والمثلى تأنيث أمثل أي الفاضلة الحسنة وقرأ جمهور القراء فأجمعوا بقطع الهمزة وكسر الميم على معنى انفذوا وأعزموا وقرأ أبو عمرو وحده فأجمعوا من جمع أي ضموا سحركم بعضه إلى بعض وقوله صفا أي مصطفين وتداعوا إلى هذا لأنه أهيب وأظهر لهم وأفلح معناه ظفر ببغيته وباقي الآية بين مما تقدم وقوله فأوجس عبارة عما يعتري نفس الإنسان إذا وقع ظنه في أمر على شيء يسوءه وعبر المفسرون عن أوجس بأضمر وهذه العبارة أعم من الوجيس بكثير
إنك أنت الأعلى أي الغالب وروي في قصص هذه الآية أن فرعون لعنه الله جلس في علية له طولها ثمانون ذراعا والناس تحته في بسيط وجاء وجاء سبعون ألف ساحرا فألقوا من حبالهم وعصيهم ما فيه وقر ثلاث مائة بعير فهال الأمر ثم أن موسى ألقى عصاه من يده فاستحالت ثعبانا وجعلت تنمو حتى روي أنها عبرت النهر بذنبها وقيل البحر وفرعون في هذا كله يضحك ويرى أن الاستواء حاصل ثم أقبلت تأكل الحبال والعصي حتى أفنتها ثم فغرت فاها نحو فرعون ففزع عند ذلك واستغاث بموسى فمد موسى يده إليها فرجعت عصا كما كانت فنظر السحرة وعلموا الحق ورأوا عدم الحبال والعصي فأيقنوا أن الأمر من الله عز و جل فآمنوا رضي الله عنهم وقوله سبحانه فألقي السحرة سجدا قالوا ءامنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل قال ص - في على بابها وقيل بمعنى على ت - والأول أصوب ولتعلمن أينا قوله أينا يريد نفسه ورب موسى عليه السلام وقال الطبري يريد نفسه وموسى والأول اذهب مع مخرقة فرعون وباقي الآية بين ثم قال السحرة لفرعون لن نؤثرك أي لن نفضلك ونفضل السلامة منك على ما رأينا من حجة الله تعالى وءاياته (3/33)
وعلى الذي فطرنا هذا على قول جماعة أن الواو في قوله والذي عاطفة وقالت فرقة هي واو القسم وفطرنا أي خلقنا واخترعنا فافعل يا فرعون ما شئت وإنما قضاؤك في هذه الحياة الدنيا والآخرة من وراء ذلك لنا بالنعيم ولك بالعذاب الأليم وهؤلاء السحرة اختلف الناس هل نفذ فيهم وعيد فرعون أم لا والأمر في ذلك محتمل وقولهم والله خير وأبقى رد لقول فرعون أينا أشد عذابا وأبقى وقوله عز و جل إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى الآية قالت فرقة هذه الآية بجملتها من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له والبيان فيما فعلوه وقالت فرقة بل هي من كلام الله عز و جل لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم تنبيها على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة وموعظة وتحذيرا قد تضمنت القصة المذكورة مثاله
وقوله لا يموت فيها ولا يحيى مختص بالكافر فإنه معذب عذابا ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهز عليه فيستريح بل يعاد جلده ويجدد عذابه وأما من يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي فهم قبل أن تخرجهم الشفاعة في غمرة قد قاربوا الموت إلا أنهم لا يجهز عليهم ولا يجدد عذابهم فهذا فرق ما بينهم وبين الكفار وفي الحديث الصحيح أنهم يماتون فيها إماتة وهذا هو معناها لأنه لا موت في الآخرة وتزكى معناه أطاع الله وأخذ بأزكى الأمور وقوله سبحانه ولقد أوحينا إلى موسى هذا استيناف أخبار عن شيء من أمر موسى وباقي الآية بين وقد تقدم ذكر ما يخصها من القصص وقوله تعالى لا تخاف دركا أي من فرعون وجنوده ولا تخشى غرقا من البحر وقوله ما غشيهم إبهام أهول من النص وهذا كقوله إذ يغشى السدرة ما يغشى
وأضل فرعون قومه يريد من أول أمره إلى هذه النهاية وما هدى مقابل لقوله وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقوله عز و جل يا بني إسرائيل قد أنجيناكم الآية ظاهر هذه الآية أن هذا (3/34)
القول قيل لبني إسرائيل حينئذ عند حلول النعم التي عددها الله عليهم ويحتمل أن تكون هذه المقالة خوطب بها معاصرو النبي صلى الله عليه و سلم والمعنى هذا فعلنا بأسلافكم وتكون الآية على هذا اعتراضا في أثناء قصة موسى والقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى والمعنى الأول أظهر وأبين وقوله سبحانه وواعدناكم جانب الطور الأيمن الآية وقصص هذه الآية أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل وغرق فرعون وعد بني إسرائيل أن يسيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه موسى ويناجيه بما فيه صلاحهم فلما أخذوا في السير تعجل موسى عليه السلام ابتغاء مرضاة ربه حسبما يأتي بعد وقرأ جمهور الناس فيحل بكسر الحاء ويحلل بكسر اللام وقرأ الكساءي وحده بضمهما ومعنى الأول فيجب ويحق ومعنى الثاني فيقع وينزل وهوى معناه سقط أي هوى في جهنم وفي سخط الله عافانا الله من ذلك ثم رجى سبحانه عباده بقوله وأني لغفار لمن تاب الآية والتوبة من ذنب تصح مع الإقامة على غيره وهي توبة مقيدة وإذا تاب العبد ثم عاود الذنب بعينه بعد مدة فيحتمل عند حذاق أهل السنة أن لا يعيد الله تعالى عليه الذنب الأول لأن التوبة قد كانت محتة ويحتمل أن يعيده لأنها توبة لم يوف بها واضطرب الناس في قوله سبحانه ثم اهتدى من حيث وجدوا الهدى ضمن الإيمان والعمل فقالت فرقة ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه وقيل غير هذا والذي يقوى في معنى ثم اهتدى أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل ورب مؤمن عمل صالحا قد أوبقه عدم الاهتداء كالقدرية والمرجئة وسائر أهل البدع فمعنى ثم اهتدى ثم مشى في عقائد الشرع على طريق قويم جعلنا الله منهم بمنه وفي حفظ المعتقدات ينحصر (3/35)
معظم أمر الشرع
وقوله سبحانه وما أعجلك عن قومك يا موسى الآية وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما شرع في النهوض ببني إسرائيل إلى جانب الطور حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بمالهم فيه شرف العاجل والآجل رأي موسى عليه السلام على جهة الاجتهاد أن يتقدم وحده مبادرا لأمر الله سبحانه طلبا لرضائه وحرصا على القرب منه وشوقا إلى مناجاته واستخلف عليهم هارون وقال لهم موسى تسيرون إلى جانب الطور فلما انتهى موسى صلى الله عليه و سلم وناجى ربه زاده الله في الأجل عشرا وحينئذ وقفه على معنى استعجاله دون القوم ليخبره موسى أنهم على الأثر فيقع الأعلام له بما صنعوا واعلمه موسى أنه إنما استعجل طلب الرضى فأعلمه الله سبحانه أنه قد فتن بني إسرائيل أي اختبرهم بما صنع السامري ويحتمل أن يريد ألقيناهم في فتنة فلما أخبر الله تعالى موسى بما وقع رجع موسى إلى قومه غضبان آسفا وباقي الآية بين وقد تقدم قصصها مستوفى وسمي العذاب غضبا من حيث هو عن الغضب وقرأ نافع وعاصم بملكنا بفتح الميم وقرأ حمزة والكسائي بملكنا بضمة وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بملكنا بكسرة فأما فتح الميم فهو مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ولا وفقنا له بل غلبتنا أنفسنا وأما كسر الميم فقد كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها والمصدر مضاف في الوجهين إلى الفاعل وقولهم ولكنا حملنا أوزارا الآية سموها أوزارا من حيث هي ثقيلة الأجرام أو من حيث تأثموا في قذفها وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي حملنا بفتح الحاء والميم وقولهم فكذلك أي فكما قذفنا نحن فكذلك أيضا ألقي السامري قال ع وهذه الألفاظ تقتضي أن العجل لم يصغه السامري ثم أخبر تعالى عن فعل السامري بقوله فأخرج لهم عجلا (3/36)
ومعنى قوله جسدا أي شخصا لا روح فيه وقيل معناه جسدا لا يتغذى والخوارصوت البقر قالت فرقة منهم ابن عباس كان هذا العجل يخور ويمشي وقيل غير هذا وقوله سبحانه فقالوا يعني بني إسرائيل هذا الهكم واله موسى فنسي موسى إلهه وذهب يطلبه في غير موضعه ويحتمل أن يكون قوله فنسي أخبارا من الله تعالى عن السامري أي فنسي السامري دينه وطريق الحق فالنسيان في التأويل الأول بمعنى الذهول وفي الثاني بمعنى الترك ت - وعلى التأويل الأول عول البخاري وهو الظاهر ولقولهم أيضا قبل ذلك أجعل لنا إلها وقول هارون فاتبعوني أي إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه وأطيعوا أمري فيما ذكرته لكم فقال بنو إسرائيل حين وعظهم هارون وندبهم إلى الحق لن نبرح عابدين لهذا الاله عاكفين عليه أي ملازمين له ويحتمل قوله ألا تتبعني أي ببني إسرائيل نحو جبل الطور ويحتمل قوله ألا تتبعني أي الا تسير بسيري وعلى طريقتي في الإصلاح والتسديد
وقوله يبنؤم قالت فرقة أن هارون لم يكن أخا موسى إلا من أمه قال ع - وهذا ضعيف وقالت فرقة كان شقيقه وإنما دعاه بالأم استعطافا برحم الأم وقول موسى ما خطبك يا سامري هو كما تقول ما شأنك وما أمرك لكن لفظة الخطب تقتضي انتهارا لأن الخطب مستعمل في المكارة وبصرت بضم الصاد من البصيرة وقرأت فرقة بكسرها فيحتمل أن يراد من البصيرة ويحتمل من البصر وقرأ حمزة والكساءي بما لم تصروا بالتاء من فوق يريد موسى مع بني إسرائيل والرسول هنا هو جبريل عليه السلام والأثر هو تراب تحت حافر فرسه وقوله فنبذتها أي على الحلي فكان منها ما ترى وكذلك سولت لي نفسي أي وكما وقع وحدث قربت لي نفسي وجعلت لي سؤلا وإربا حتى فعلته وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو بوحي فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني (3/37)
إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا ونحو هذا وجعل له أن يقول مدة حياته لا مساس أي لا مماسة ولا إذاية وقرأ الجمهور لن تخلفه بفتح اللام أي لن يقع فيه خلف وقرأ ابن كثير وأبو عمرو تخلفه بكسر اللام على معنى لن تستطيع الروغان والحيدة عن موعد العذاب ثم وبخه عليه السلام بقوله وأنظر إلى الهك الآية وظلت وظل معناه أقام يفعل الشيء نهارا ولكنها قد تستعمل في الدائب ليلا ونهارا بمثابة طفق وقرأ ابن عباس وغيره لنحرقنه بضم الراء وفتح النون بمعنى لنبردنه بالمبرد وقرأ نافع وغيره لنحرقنه وهي قراءة تحتمل الحرق بالنار وتحتمل بالمبرد وفي مصحف ابن مسعود لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه وهذه القراءة هي مع رواية من روى أن العجل صار لحما ودما وعلى هذه الرواية يتركب أن يكون هناك حرق بنار وإلا فإذا كان جمادا من ذهب ونحوه فإنما هو حرق بمبرد اللهم إلا أن تكون إذابة ويكون النسف مستعارا لتفريقه في اليم مذابا وقرأت فرقة لننسفنه بكسر السين وقرأت فرقة بضمها والنسف تفريق الريح الغبار وكل ما هو مثله كتفريق الغربال ونحوه فهو نسف واليم غمر الماء من بحر أو نهر وكل ما غمر الإنسان من الماء فهو يم واللام في وقوله لنحرقنه لام قسم وقال مكي رحمه الله تعالى وأسند أن موسى عليه السلام كان مع السبعين في المناجات وحينئذ وقع أمر العجل وأن الله تعالى أعلم موسى بذلك فكتمه موسى عنهم وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيل حول العجل فحينئذ أعلمهم قال ع وهذه رواية ضعيفة والجمهور على خلافها وإنما نعجل موسى عليه الصلام وحده فوقع أمرا العجل ثم جاء موسى وصنع ما صنع بالعجل ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني اسراءيل وأن يطلعهم أيضا على أمر المناجات فكان لموسى عليه السلام نهضتان والله أعلم وقوله سبحانه كذلك نقص عليك مخاطبة لنبينا محمد (3/38)
صلى الله عليه و سلم أي كما قصصنا عليك نبأ بني إسرائيل كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق مدتك والذكر القرءان
وقوله من أعرض عنه يريد بالكفر به وزرقا قالت فرقة معناه يحشرون أول قيامهم سود الألوان زرق العيون فهو تشويه ثم يعمون بعد ذلك وهي مواطن وقالت فرقة أراد زرق الألوان وهي غاية في التشويه لأنهم يجيئون كلون الرماد ومهيع في كلام العرب أن يسمى هذا اللون أزرق يتخافتون بينهم أن لبثتم إلا عشرا أي يتخافت المجرمون بينهم أي يتسارون والمعنى أنهم لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم قد عزب عنهم قدر مدة لبثهم واختلف الناس فيما ذا فقالت فرقة في دار الدنيا ومدة العمر وقالت فرقة في الأرض مدة البرزخ وأمثلهم طريقة معناه أثبتهم نفسا يقول إن لبثتم إلا يوما أي فهم في هذه المقالة يظنون أن هذا قدر لبثهم وقوله سبحانه ويسئلونك عن الجبال الآية السائل قيل رجل من ثقيف وقيل السائل جماعة من المؤمنين وروي أن الله تعالى يرسل على الجبال ريحا فتدكدكها حتى تكون كالعهن المنفوش ثم تتوالى عليها حتى تعيدها كالهباء المنبث فذلك هو النسف والقاع هو المستوى من الأرض والصفصف نحوه في المعنى والأمت ما يعتري الأرض من ارتفاع وانخفاض
وقوله لاعوج له يحتمل أن يريد الأخبار به أي لا شك فيه ولا يخالف وجوده خبره ويحتمل أن يريد لا محيد لأحد عن اتباع الداعي والمشي نحو صوته والخشوع التطامن والتواضع وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء والهمس الصوت الخفي الخافت وهو تخافتهم بينهم وكلامهم السر ويحتمل أن يريد صوت الأقدام وفي البخاري همسا صوت الأقدام انتهى ومن في قوله الا من أذن له الرحمن يحتمل أن تكون للشافع ويحتمل أن تكون للمشفوع فيه وقوله تعالى عنت الوجوه معناه ذلت وخضعت والعاني الأسير ومنه قوله صلى الله عليه و سلم في أمر النساء هن عوان عندكم وهذه (3/39)
حالة الناس يوم القيامة قال ص - وعنت من عنا يعنو ذل وخضع قال أمية ابن أبي الصلت ... مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد ...
انتهى ت - وأحاديث الشفاعة قد استفاضت وبلغت حد التواتر ومن أعظمها شفاعة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال فيقول الله عز و جل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة وفيه فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه الحديث وخرج أبو القاسم إسحاق ابن إبراهيم الختلي بسنده عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
إذا فرغ الله تعالى من القضاء بين خلقه أخرج كتابا من تحت العرش أن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين قال فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال مثلي أهل الجنة قال وأكبر ظني أنه قال مثلي أهل الجنة مكتوب بين أعينهم عتقاء الله انتهى من التذكرة وقد خاب من حمل ظلما معنى خاب لم ينجح ولا ظفر بمطلوبه والظلم يعم الشرك والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم وقوله سبحانه ومن يعمل من الصالحات معادل لقوله من حمل ظلما والظلم والضهم هما متقاربان في المعنى ولكن من حيث تناسقا في هذه الآية ذهب قوم إلى تخصيص كل واحد منهما بمعنى فقالوا الظلم أن نعظم عليه سيئاته وتكثر أكثر مما يجب والهضم أن ينقص من حسناته ويبخسها وكلهم قرأ فلا يخاف على الخبر غير ابن كثير فإنه قرأ فلا يخف على النهي وكذلك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم بحسب (3/40)
توقع البشر وترجيهم يتقون الله ويخشون عقابه فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم وما حذرهم من اليم عقابه هذا تأويل فرقة في قوله أو يحدث لهم ذكرا وقالت فرقة معناه أو يكسبهم شرفا ويبقى عليهم إيمانهم ذكرا صالحا في الغابرين وقوله تعالى ولا تعجل بالقرءان الآية قالت فرقة سببها أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخاف وقت تكليم جبريل له أن ينسى أول القرءان فكان يقرأ قبل أن يستتم جبريل عليه السلام الوحي فنزلت في ذلك وهي على هذا في معنى قوله لا تحرك به لسانك لتعجل به وقيل غير هذا وقوله عز و جل ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي الآية العهد هنا بمعنى الوصية والشيء الذي عهد إلى آدم عليه السلام هو أن لا يقرب الشجرة ت - قال عياض وأما قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى أي جهل فإن الله تعالى أخبر بعذره بقوله ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما قيل نسي ولم ينو المخالفة فلذلك قال تعالى ولم نجد له عزما أي قصدا للمخالفة ت - وقيل غير هذا مما لا أرى ذكره هنا ولله در ابن العربي حيث قال يجب تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عما نسب إليهم الجهال ولكن الباري سبحانه بحكمه النافذ وقضائه السابق أسلم آدم إلى الأكل من الشجرة متعمدا للأكل ناسيا للعهد فقال في تعمده وعصي آدم وقال في بيان عذره ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي فمتعلق العهد غير متعلق النسيان 2وجاز للمولى أن يقول في عبده لحقه عصى تثريبا ويعود عليه بفضله فيقول نسي تقريبا ولا يجوز لأحد منا أن يطلق ذلك على آدم أو يذكره إلا في تلاوة القرءان أو قول النبي صلى الله عليه و سلم انتهى من الأحكام وقوله سبحانه إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى المعنى إن لك يا آدم في الجنة نعمة تامة لا يصيبك جوع ولا عري ولا ظمأ ولا بروز للشمس يؤذيك وهو الضحاء وقوله فوسوس إليه ص - عدي هنا بالي على (3/41)
معنى أنهى الوسوسة إليه وفي الأعراف باللام فقال أبو البقاء لأنه بمعنى ذكر لهما انتهى ثم أعلمهم سبحانه أن من اتبع هداه فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وأن من أعرض عن ذكر الله وكفر به فإن له معيشة ضنكا والضنك النكد الشاق من العيش والمنازل ونحو ذلك وهل هذه المعيشة الضنك تكون في الدنيا أو في البرزخ أو في الآخرة أقوال ت - ويحتمل في الجميع قال القرطبي قال أبو سعيد الخدري وابن مسعود ضنكا عذاب القبر وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أتدرون فيمن نزلت هذه الآية فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى أتدرون ما المعيشة الضنك قالوا الله ورسوله أعلم قال عذاب الكافر في القبر والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا وهي الحيات لكل حية تسعة رؤوس ينفخن في جسمه ويلسعنه ويخدشنه إلى يوم القيامة ويحشر من قبره إلى موقفه أعمى انتهى من التذكرة فإن صح هذا الحديث فلا نظر لأحد معه وإن لم يصح فالصواب حمل الآية على عمومها والله أعلم قال الثعلبي قال ابن عباس فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى قال أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة وفي لفظ آخر ضمن الله تعالى لمن قرأ القرءان الحديث وعنه من قرأ القرءان واتبع ما فيه هداه الله تعالى من الضلالة ووقاه الله تعالى يوم القيامة سوء الحساب انتهى وقوله سبحانه ونحشره يوم القيامة أعمى قالت فرقة وهو عمى البصر وهذا هو الأوجه وأما عمي البصيرة فهو حاصل للكافر
وقوله سبحانه كذلك أتتك آياتنا فنسيتها النسيان هنا هو الترك ولا مدخل للذهول في هذا الموضع وتنسى أيضا بمعنى تترك في العذاب وقوله سبحانه أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون المعنى أفلم يبين لهم وقرأت فرقة نهد بالنون والمراد بالقرون المهلكين عاد وثمود والطوائف التي كانت قريش تجوز على بلادهم في المرور (3/42)
إلى الشام وغيره ثم أعلم سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم أن العذاب كان يصير لهم لزاما لولا كلمة سبقت من الله تعالى في تأخيره عنهم إلى أجل مسمى عنده فتقدير الكلام ولولا كلمة سبقت في التأخير وأجل مسمى لكان العذاب لزاما كما تقول لكان حتما أو واقعا لكنه قدم وآخر لتشابه رؤوس الآيي واختلف في الأجل المسمى هل هو يوم القيامة أو موت كل واحد منهم أو يوم بدر وفي صحيح البخاري أن يوم بدر هو اللزام وهو البطشة الكبرى يعني وقع في البخاري من تفسير ابن مسعود وليس هو من تفسير النبي صلى الله عليه و سلم قال ص - ولزاما أما مصدر وأما بمعنى ملزم وأجاز أبو البقاء أن يكون جمع لازم كقائم وقيام انتهى ثم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بالصبر على أقوالهم أنه ساحر أنه كاهن أنه كاذب إلى غير ذلك
وقوله سبحانه وسبح بحمد ربك الآية قال أكثر المفسرين هذه إشارة إلى الصلوات الخمس فقبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبها صلاة العصر ومن آناء الليل العشاء وأطراف النهار المغرب والظهر قال ابن العربي والصحيح أن المغرب من طرف الليل لا من طرف النهار انتهى من الأحكام وقالت فرقة آناء الليل المغرب والعشاء وأطرف النهار الظهر وحدها ويحتمل اللفظ أن يراد به قول سبحان الله وبحمده وقالت فرقة في الآية إشارة إلى نوافل فمنها آناء الليل ومنها قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر ت - ويتعذر على هذا التأويل قوله وقبل غروبها إذ ليس ذلك الوقت وقت نفل على ما علم إلا أن يتأول ما قبل الغروب بما قبل صلاة العصر وفيه بعد قال ص - بحمد ربك في موضع الحال أي وأنت حامد انتهى وقرأ الجمهور لعلك ترضى بفتح التاء أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به قال ابن العربي في أحكامه وهذه الآية تماثل قوله تعالى (3/43)
ولسوف يعطيك ربك فترضى وعنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس يعني الصبح وقبل غروبها فافعلوا وفي الحديث الصحيح أيضا من صلى البردين دخل الجنة انتهى وقرأ الكسائي و أبو بكر عن عاصم ترضى أي لعلك تعطى ما يرضيك ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم بالاحتقار لشأن الكفرة والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا إذ ذلك منحسر عنهم صائر إلى خزي والأزواج الأنواع فكأنه قال إلى ما متعنا به أقواما منهم وأصنافا وقوله زهرة الحياة الدنيا شبه سبحانه نعم هؤلاء الكفار بالزهر وهو ما اصفر من النور وقيل الزهر النور جملة لأن الزهر له منظر ثم يضمحل عن قرب فكذلك مال هؤلاء ثم أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم أن ذلك إنما هو ليختبرهم به ويجعله فتنة لهم وأمرا يجازون عليه أسوء الجزاء لفساد تقلبهم فيه ص - وزهرة منصوب على الذم أو مفعول ثان لمتعنا مضمن معنى أعطينا ورزق الله تعالى الذي أحله للمتقين من عباده خير وأبقى أي رزق الدنيا خير ورزق الآخرة أبقى وبين أنه خير من رزق الدنيا ثم أمره سبحانه وتعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم ويصطبر عليها ويلازمها وتكفل هو تعالى برزقه لا إله إلا هو وأخبره أن العاقبة للمتقين بنصره في الدنيا ورحمته في الآخرة وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم ويدخل في عمومه جميع أمته وروي أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله وهو يقول ولا تمدن عينيك الآية إلى قوله وأبقى ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله ويصلي وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي هو ويتمثل بالآية قال الداودي وعن عبد الله بن سلام قال كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا نزل بأهله ضيق (3/44)
أو شدة أمرهم بالصلاة ثم قرأ وأمر أهلك بالصلاة إلى قوله للتقوى انتهى قال ابن عطاء الله في التنوير وأعلم أن هذه الآية علمت أهل الفهم عن الله تعالى كيف يطلبون رزقهم فإذا توقفت عليهم أسباب المعيشة أكثروا من الخدمة والموافقة وقرعوا باب الرزق بمعاملة الرزاق جل وعلا ثم قال وسمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضي الله عنه يقول والله ما رأيت العزة إلا في رفع الهمة عن الخلق وأذكر رحمك الله هنا ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ففي العز الذي أعز الله به المؤمن رفع همته إلى مولاه وثقته به دون من سواه وأستحي من الله بعد أن كساك حله الأيمان وزينك بزينة العرفان أن تستولي عليك الغفلة والنسيان حتى تميل إلى الأكوان أو تطلب من غيره تعالى وجود إحسان ثم قال ورفع الهمة عن الخلق هو ميزان ذوي الكمال ومسبار الرجال وكما توزن الذوات كذلك توزن الأحوال والصفات انتهى ومن كتاب صفوة التصوف لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي الحافظ حديث بسنده عن ابن عمر قال أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل فقال يا رسول الله حدثني حديثا واجعله موجزا فقال له النبي صلى الله عليه صل صلاة مودع كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك وايأس مما في أيدي الناس تعش غنيا وإياك وما يعتذر منه ورواه أبو أيوب الأنصاري بمثله عن النبي صلى الله عليه و سلم وقالوا لولا يأتينا محمد بآية من ربه أي بعلامة مما اقترحناها عليه ثم وبخهم سبحانه بقوله أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى أي ما في التوراة وغيرها ففيها أعظم شاهد وأكبر آية له سبحانه وقوله سبحانه ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله أي من قبل إرسالنا إليهم محمدا لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا الآية وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة الهالك في الفترة والمغلوب على عقله والصبي الصغير فيقول المغلوب على عقله رب (3/45)
لم تجعل لي عقلا ويقول الصبي نحوه ويقول الهالك في الفترة رب لم ترسل إلي رسولا ولو جاءني لكنت أطوع خلقك لك قال فترتفع لهم نار ويقال لهم ردوها فيردها من كان في علم الله أنه سعيد ويكع عنها الشقي فيقول الله تعالى إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم قال ع - أما الصبي والمغلوب على عقله فبين أمرهما وأما صاحب الفترة فليس ككفار قريش قبل بعثة النبي صلى الله عليه و سلم لأن كفار قريش وغيرهم ممن علم وسمع نبؤة ورسالة في أقطار الأرض ليس بصاحب فترة وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لرجل أبي وأبوك في النار ورأى صلى الله عليه و سلم عمرو بن لحي في النار إلى غير هذا مما يطول ذكره وإنما صاحب الفتره يفرض أنه آدمي لم يطرأ إليه أن الله تعالى بعث رسولا ولا دعا إلى دين وهذا قليل الوجود إلا أن يشذ في أطراف الأرض والمواضع المنقطعة عن العمران ت - والصحيح في هذا الباب أن أولاد المشركين في الجنة وأما أولاد المسلمين ففي الجنة من غير شك متفق عليه وقد أسند أبو عمر في التمهيد من طريق أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال سألت ربي في اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم فأعطانيهم قال أبو عمر إنما قيل للأطفال اللاهون لأن أعمالهم كاللهو واللعب من غير عقد ولا عزم ثم أسند أبوعمر عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أولاد المشركين خدم أهل الجنة قال أبو عمر وروى شعبة وسعيد بن أبي عروبة وأبو عوانة عن قتادة عن أبي سراية العجلي عن سلمان قال
أطفال المشركين خدم أهل الجنة وذكر البخاري حديث الرؤيا الطويل وفيه وأما الرجل الطويل الذي في الروضه فإنه ابراهيم عليه السلام وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة فقيل يا رسول الله وأولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وأولاد المشركين وفي رواية والصبيان حوله أولاد الناس (3/46)
وظاهره الهموم في جميع أولاد الناس انتهى من التمهيد والذل والخزي مقترنان بعذاب الآخرة
وقوله قل كل أي منا ومنكم متربص والتربص التأني والصراط الطريق وهذا وعيد بين والله الموفق والهادي إلى الرشاد بفضله
سورة الأنبياء عيهم الصلاة والسلام مكية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم قوله عز و جل اقترب للناس حسابهم الآية روي أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كان يبني جدارا فمر به آخر يوم نزول هذه السورة فقال الذي كان يبني الجدار ماذا نزل اليوم من القرءان فقال الآخر نزل اليوم اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون فنفض يديه من البنيان وقال والله لا بنيت قال أبو بكر بن العربي قال لي شيخي في العبادة لا يذهب لك الزمان في مصاولة الأقران ومواصلة الأخوان ولم أر للخلاص شيئا أقرب من طريقين إما أن يغلق الإنسان على نفسه بابه وإما أن يخرج إلى موضع لا يعرف فيه فإن اضطر إلى مخالطة الناس فليكن معهم ببدنه ويفارقهم بقلبه ولسانه فإن لم يستطع فبقلبه ولا يفارق السكوت قال القرطبي ولأبي سليمان الخطابي في هذا المعنى ... أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونمى السرور ... وأدبني الزمان فلا أبالي ... بأني لا أزار ولا أزور (3/47)
ولست بسائل ما دمت حيا ... أسار الجيش أم ركب الأمير ...
انتهى من التذكرة وقوله اقترب للناس حسابهم عام في جميع الناس وأن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش ويدل على ذلك ما يأتي بعد من الآيات قال ص - اقترب بمعنى الفعل المجرد وهو قرب وقيل اقترب ابلغ للزيادة وهم في غفلة الواو للحال انتهى وقوله وهم في غفلة معرضون يريد الكفار ويأخذ عصاة المؤمنين من هذه الألفاظ قسطهم ت - أيها الأخ اشعر قلبك مهابة ربك فإليه مئالك وتأهب للقدوم عليه فقد آن ارتحالك أنت في سكرة لذاتك وغشية شهواتك وإغماء غفلاتك ومقراض الفناء يعمل في ثوب حياتك ويفصل أجزاء عمرك جزءا جزءا في سائر ساعاتك كل نفس من أنفاسك جزء منفصل من جملة ذاتك وبذهاب الأجزاء تذهب الجمل أنت جملة تؤخذ آحادها وأبعاضها إلى أن تستوفي سائرها عساكر الأقضية والأقدار محدقة بأسوار الأعمار تهدمها بمعاول الليل والنهار فلو أضاء لنا مصباح الاعتبار لم يبق لنا في جميع أوقاتنا سكون ولا قرار انتهى من الكلم الفارقية والحكم الحقيقية وقوله ما يأتيهم من ذكر وما بعده مختص بالكفار والذكر القرءان ومعناه محدث نزوله لا هو في نفسه وقوله وهم يلعبون جملة في موضع الحال أي استماعهم في حال لعب فهو غير نافع ولا واصل إلى النفس وقوله لاهية حال بعد حال واختلف النحاة في إعراب قوله وأسروا النجوى الذين ظلموا فمذهب سيبويه رحمه الله تعالى أن الضمير في أسروا فاعل وأن الذين بدل منه وقال ليس في القرءان لغة من قال أكلوني البراغيث ومعنى أسروا النجوى تكلمهم بينهم في السر ومناجات بعضهم لبعض وقال أبو عبيدة اسروا أظهروا وهو من الأضداد ثم (3/48)
بين تعالى الأمر الذي تناجوا به وهو قول بعضهم لبعض على جهة التوبيخ بزعمهم أفتأتون السحر المعنى أفتتبعون السحر وأنتم تبصرون ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم وللناس جميعا قل ربي يعلم القول في السماء والأرض أي يعلم أقوالكم هذه وهو بالمرصاد في المجازاة عليها ثم عدد سبحانه جميع ما قالته طوائفهم ووقع الإضراب بكل مقالة عن المتقدمة لها ليبين اضطراب أمرهم فقال تعالى بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر والأضغاث الأخلاط ثم حكى سبحانه اقتراحهم ءاية تضطرهم كناقة صالح وغيرها وقولهم كما أرسل الأولون دال على معرفتهم بإتيان الرسل الأمم المتقدمة وقوله سبحانه ما ءامنت قبلهم فيه محذوف يدل عليه المعنى تقديره والآية التي طلبوها عادتنا أن القوم أن كفروا بها عاجلناهم وما آمنت قبلهم قرية من القرى التي نزلت بها هذه النازلة أفهذه كانت تؤمن وقوله أهلكناها جملة في موضع الصفة لقرية والجمل إذا اتبعت النكرات فهي صفات لها وإذا اتبعت المعارف فهي أحوال منها وقوله سبحانه وما أرسلنا قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون هذه الآية رد على من استبعد منهم أن يبعث الله بشرا رسولا والذكر هو كل ما يأتي من تذكير الله عباده فأهل القرءان أهل ذكر وأما المحال على سؤالهم في هذه الآية فلا يصح أن يكونوا أهل القرءان في ذلك الوقت لأنهم كانوا خصومهم وأنما أحيلوا على سؤال أحبار أهل الكتاب من حيث كانوا موافقين لكفار قريش على ترك الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم وقوله سبحانه وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام قيل الجسد من الأحياء مالا يتغذى وقيل الجسد يعم المتغذي من الأجسام وغير المتغذي فجعلناهم جسدا على التأويل الأول بين تعالى الامر الذى تناجوا به وهو قول بعضهم لبعض على جهة التوبيخ بزعمهم افتاتون السحر المعنى افتتبعون السحر وانتم تبصرون ثم امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم ان يقول لهم وللناس جميعا قل ربى يعلم القول فى السماء والارض اي يعلم اقوالكم هذه وهو بالمرصاد فى المجازاة عليها ثم عدد سبحانه جميع ما قالته طوائفهم ووقع الاضراب بكل مقالة عن المتقدمة لها ليبن اضطراب امرهم فقال تعالى بل قالوا اضغاث احلام بل افتراه بل هو شاعر واضغاث الاخلاط ثم حكى سبحانه اقتراحهم اية تضطرهم كناقة صالح وغيرها وقولهم كما ارسل الاولون دال على معرفتهم باتيان الرسل الامم المتقدمة وقوله سبحانه ماءامنت قبلهم فيه محذوف يدل عليه المعنى تقديره والآية التى طلبوها عادتنا ان القوم ان كفروا بها عاجلناهم وما ءامنت قبلهم قرية من القرى التى نزلت بها هذه الناولة أفهذه كانت تومن وقوله اهلكناها جملة فى موضع الصفة لقرية والجمل اذا اتبعت النكرات فهى صفات لها واذا اتبعت المعارف فهى احوال منها وقوله سبحانه وما ارسلنا قبلك الا رجالا يوحى اليهم فاسئلوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون هذه الآية رد على من استبعد منهم ان يبعث الله بشرا رسولا والذكر هو كل ما ياتى من تذكير الله عباده فاهل القرءان اهل ذكر واما المحال على سؤالهم فى هذه الآية فلا يصح ان يكونوا اهل القرءان فلا ذلك الوقت لانهم كانوا خصومهم وانما احيلوا على سؤال احبار اهل الكتاب من حيث كانوا موافقين لكفار قريش على ترك الايمان بمحمد صلى الله عليه و سلم وقوله سبحانه وما جعلناهم جسدا لا ياكلون الطعام قيل الجسد من الاحياء مالا يتغذى وقيل الجسد يعم المتغذى من الاجسام وغير المتغذى فجعلناهم جسدا على التاويل الاول (3/49)
منفى وعلى الثانى موجب والنفى واقع على صفته وقوله سبحانه ثم صدقناهم الوعد الآية هذه ءاية وعيد وقوله ومن نشاء يعنى من المومنين والمسرفون الكفار ثم وجهنم تعالى بقوله لقد أنزلنا اليكم كتابا يعنى القرءان فيه ذكركم أي شرفكم ءاخر الدهر وفى هذا التحريض لهم ثم أكد التحريض بقوله افلا تعقلون وكم للتكثير وقصمنا معناه أهلكنا واصل القصم الكسر فى الإجرام فإذا استعير للقوم والقرية ونحو ذلك فهو ما يشبه الكسر وهو إهلاكهم وأنشأنا أي خلقنا وبثثنا أمة أخرى غير المهلكة وقوله فلما أحسوا وصف عن حال قرية من القرى المجملة أولا قيل كانت باليمن تسمى حضور بعث الله تعالى إلى أهلها رسولا فقتلوه فأرسل الله تعالى عليهم بختنصر صاحب بني اسراءيل فهزموا جيشه مرتين فنهض فى الثالثة بنفسه فلما هزمهم وأخذ القتل فيهم ركضوا هاربين ويحتمل أن لا يريد بالآية قرية بعينها وأن هذا وصف حال كل قرية من القرى المعذبة إذا أحسوا العذاب من أي نوع كان أخذوا في الفرار واحسوا باشروه بالحواس ص اذا هم منها يركضون إذا الفجائية وهى وما بعدها جواب لما انتهى وقوله لا تركضوا يحتمل على الرواية المتقدمة أن يكون من قول رجال بختنصر على جهة الخداع والاستهزاء بهم فلما انصرفوا راجعين أمر بختنصرأن ينادى فيهم ياثارات النبي المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم قال وهذا كله مروى ويحتمل أن يكون لا تركضوا إلى ءاخر الآية من كلام ملائكة العذاب على جهة الهزءبهم وقوله حصيدا أي بالعذاب كحصيد الزرع بالمنجل وخامدين أي موتى مشبهين بالنار إذا طفئت ثم وعظ سبحانه السامعين بقوله وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين وقوله سبحانه لو أردنا ان نتخذ لهوا الآية ظاهر الآية الرد على من قال من الكفار فى أمر مريم (3/50)
وما ضارعه من الكفر تعالى الله عن قول المبطلين وان فى قوله ان كنا فاعلين يحتمل ان تكون شرطية ويحتمل ان تكون نافية بمعنى ما كنا فاعلين وكل هذا قد قيل والحق عام فى القرءان والرسالة والشرع وكل ما هو حق فيدمغه معناه يصيب دماغه وذلك مهلك فى البشر فكذلك الحق يهلك الباطل والويل الخزى وقيل هو اسم واد فى جهنم وانه المراد فى هذه الآية وهذه مخاطبة للكفار الذين وصفوا الله عز و جل بما لا يجوز عليه تعالى الله عن قولهم وقوله ومن عنده الآية عند هنا ليست فى المسافات وانما هى تشريف فى المنزلة ولا يستحسرون اي لا يكلون والحسير من الابل المعيى وقوله لا يفترون وفى الترمذى عن ابي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم انى ارى ما لا ترون واسمع ما لا تسمعون اطت السماء وحق لها ان تئط ما فيها موضع اربع اصابع الا وملك واضع جبهته ساجدا لله الحديث قال ابو عيسى هذا حديث صحيح وفى الباب عن عائشة وابن عباس وانس انتهى من اصل الترمذي اعنى جامعة وقوله سبحانه ام اتخذوا ءالهة من الارض هم ينشرون اي يحيون غيرهم ثم بين تعالى امر التمانع بقوله لو كان فيهما ءالهة الا الله لفسدتا وقد تقدم ايضاح ذلك عند قوله تعالى اذا لابتغوا الى ذي العرش سبيلا وقوله هذا ذكر من معى وذكر من قبلى يحتمل ان يريد بالاشارة بقوله هذا الى جميع الكتب المنزلة قديمها وحديثها انها بين ان الله الخالق واحد لا شريك له يحتمل ان يريد بقوله هذا القرءان والمعنى فيه نبأ الاولين والآخرين فنص اخبار الاولين وذكر الغيوب فى امورهم حسبما هى فى الكتب المتقدمة وذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم ثم حكم عليهم سبحانه بان اكثرهم لا يعلمون الحق لاعراضهم عنه وليس المعنى فهم معرضون لانهم لا يعلمون بل المعنى فهم معرضون ولذلك (3/51)
لا يعلمون الحق وباقى الآية بين ثم بين سبحانه نوعا آخر من كفرهم بقوله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا الآية كقوله بعضهم اتخذ الملائكة بناتا وكما قالت النصارى فى عيسى بن مريم واليهود فى عزير وقوله سبحانه بل عباد مكرمون عبارة تشمل الملائكة وعيسى وعزير وقال ص - بل اضراب عن نسبه الولد اليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا وعباد خبر مبتدإ محذوف اي هم عباد قاله ابو البقاء انتهى وقوله سبحانه لا يسبقونه بالقول عبارة عن حسن طاعتهم ومراعاتهم لامتثال الامر ثم اخبر تعالى انهم لا يشفعون الا لمن ارتضى الله ان يشفع له قال بعض المفسرين لاهل لا اله الا الله والمشفق المبالع فى الخوف المحترق النفس من الفزع على امرما وقوله سبحانه ومن يقل منهم انى اله من دونه الآية المعنى ومن يقل منهم كذا ان لو قاله وليس منهم من قال هذا وقال بعض المفسرين المراد بقوله ومن يقل الآية ابليس وهذا ضعيف لان ابليس لم يرو قط انه ادعى الربوبية ثم وقفهم سبحانه على عبرة دالة على وحدانيته جلت قدرته فقال اولم ير الذين كفروا ان السموات والارض كانتا رتقا والرتق الملتصق بعضه ببعض الذى لا صدع فيه ولا فتح ومنه امرأة رتقاء واختلف في معنى قوله كانتا رتقا ففتقناهما فقالت فرقة كانت السماء ملتصقة بالارض ففتقها الله بالهواء وقالت فرقة كانت السموات ملتصقة بعضها ببعض والارض كذلك ففتقهما الله سبعا سبعا فعلى هذين القولين فالرؤية الموقف عليها رؤية قلب وقالت فرقة السماء قبل المطر رتق والارض قبل النبات رتق ففتقهما الله تعالى بالمطر والنبات كما قال تعالى والسماء ذات الرجع والارض ذات الصدع وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة بمحسوس بين ويناسب قوله تعالى وجعلنا من الماء كل شىء حي اي من الماء الذى كان عن (3/52)
الفتق فيظهر معنى الآية ويتوجه الاعتبار بها وقالت فرقة السماء والارض رتق بالظلمة ففتقهما الله بالضوء والرؤية على هذين القولين رؤية العين وباقي الآية بين قال ص قال الزجاج السموات جمع اريد به الواحد ولذا قال كانتا رتقا وقال الحوفى قال كانتا والسموات جمع لانه اراد الصنفين انتهى وقوله سقفا محفوظا الحفظ هنا عام فى الحفظ من الشيطان ومن الوهى والسقوط وغير ذلك من الآفات والفلك الجسم الدائر دورة اليوم والليلة ويسبحون معناه يتصرفون وقالت فرقة الفلك موج مكفوف ورأوا قوله يسبحون من السباحة وهى العوم وقوله عز و جل وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد الآية وتقدير الكلام افهم الخالدون ان مت وقوله سبحانه كل نفس ذائقة الموت الآية موعظة بليغة لمن وفق قال ابو نعيم كان الثورى رضى الله عنه اذا ذكر الموت لا ينتفع به اياما انتهى من التذكرة للقرطبي قال عبد الحق في العاقبة وقد أمر النبي صلى الله عيله وسلم بذكر الموت وأعاد القول فيه تهويلا لامره وتعظيما لشانه ثم قال واعلم ان كثرة ذكر الموت يردع عن المعاصى ويلين القلب القاسى قال الحسن ما رأيت عاقلا قط الا وجدته حذرا من الموت حزينا من اجله ثم قال واعلم ان طول الامل يكسل عن العمل ويورث التوانى ويخلد الى الارض ويميل الى الهوى وهذا امر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج الى بيان ولا يطالب صاحبه بالبرهان كما أن قصره يبعث على العمل ويحمل على المبادرة ويحث على المسابقة قال النبى صلى الله عليه و سلم انا النذير والموت المغير والساعة الموعد ذكره القاضى ابو الحسن بن صخر فى الفوائد انتهى ونبلوكم معناه نختبركم وقدم الشر على لفظه الخير لأن العرب من عادتها ان تقدم الاقل والأردى ومنه قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فبدأ تعالى فى تقسيم امه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم (3/53)
بالظالم وفتنة معناه امتحانا وقوله تعالى واذا رءاك الذين كفروا كأبي جهل وغيره وان بمعنى ما وفى الكلام حذف تقديره يقولون أهذا الذى وقال ص ان نافية والظاهر انها وما دخلت عليه جواب اذا انتهى وقوله سبحانه وهم بذكر الرحمن هم كافرون روى ان الآية نزلت حين انكروا هذه اللفظة وقالوا ما نعرف الرحمن الا في اليمامة وظاهر الكلام ان الرحمن قصد به العبارة عن الله عز و جل ووصف سبحانه الإنسان الذى هو اسم جنس بانه خلق من عجل وهذا على جهة المبالغة كما تقول للرجل البطال انت من لعب ولهو وقوله سبحانه لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار الآية حذف جواب لو ايجازا لدلالة الكلام عليه وتقدير المحذوف لما استعجلوا ونحوه وذكر الوجوه لشرفها من الانسان ثم ذكر الظهور ليبين عموم النار لجميع ابدانهم والضمير فى قوله بل تاتيهم بغتة للساعة التى تصيرهم الى العذاب ويحتمل ان يكون للنار وينظرون معناه يؤخرون وحاق معناه حل ونزل ويكلؤكم اي يحفظكم وقوله سبحانه ولا هم منا يصبحون يحتمل تاويلين احدهما يجارون ويمنعون والآخر ولاهم منا يصبحون بخير وتزكية ونحو هذا وقوله سبحانه افلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها الآية ناتي الأرض معناه بالقدرة ونقص الارض اما ان يريد بتخريب المعمور واما بموت البشر وقال قوم النقص من الاطراف موت العلماء ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم متوعدا لهؤلاء الكفرة بقوله ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك الآية والنفحة الخطرة والمسة والمعنى ولئن مستهم صدمة عذاب ليند من وليقرن بظلمهم وباقي الآية بين وقال الثعلبي نفحة أي طرف قاله ابن عباس انتهى وقوله سبحانه ليوم القيامة قال ابو حبان اللام للظرفية بمعنى فى انتهى قال القرطبى فى تذكرته قال العلماء اذا انقضى الحساب (3/54)
كان بعده وزن الاعمال لان الوزن للجزاء فينبغى ان يكون بعد المحاسبة واختلف فى الميزان والحوض ابهما قبل الآخر قال ابو الحسن القابسي والصحيح ان الحوض قبل الميزان وذهب صاحب القوت وغيره الى ان حوض النبى صلى الله عليه و سلم انما هو بعد الصراط قال القرطبى والصحيح ان النبي صلى الله عليه و سلم حوضين وكلاهما يسمى كوثرا وان الحوض الذى يذاد عنه من بدل وغير يكون فى الموقف قبل الصراط وكذا حياض الانبياء عليهم الصلاة والسلام تكون فى الموقف على ما ورد فى ذلك من الاخبار انتهى والفرقان الذى اوتى موسى وهارون قيل التوراة وهى الضياء والذكر وقالت فرقة الفرقان هو ما رزقهما الله تعالى من نصر وظهور على فرعون وغير ذلك والضياء التوراة والذكر بمعنى التذكرة وقوله سبحانه وهذا ذكر مبارك يعني القرءان ثم وقفهم سبحانه تقريرا وتوبيخا هل يصح لهم إنكار بركته وما فيه من الدعاء الى الله تعالى والى صالح العمل وقوله سبحانه ولقد آتينا إبراهيم رشده الآية الرشد عام اي فى جميع المراشد وانواع الخيرات وقال الثعلبى رشده أي توفيقه وقيل صلاحه انتهى وقوله وكنا به عالمين مدح لابراهيم عليه السلام اي عالمين بما هل له وهذا نحو قوله تعالى الله اعلم حيث يجعل رسالته والتماثيل الاصنام وقوله وتالله لأكيدن أصنامكم الآية روى انه حضرهم عيد لهم فعزم قوم منهم على ابراهيم فى حضوره طعما منهم ان يستحسن شيأ من احوالهم فمشى معهم فلما كان فى الطريق ثنى عزمه على التخلف عنهم فقعد وقال لهم انى سقيم فمر به جمهورهم ثم قال فى خلوة من نفسه وتالله لاكيدن اصنامكم فسمعه قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في ءاخر الناس وقوله بعد ان تولوا مدبرين معناه الى عيدكم ثم انصرف ابراهيم عليه السلام الى بيت اصنامهم فدخله ومعه قدوم فوجد الاصنام قد وقفت اكبرها اول ثم (3/55)
الذي يليه فالذي يليه وقد جعلوا اطعمتهم فى ذلك اليوم بين يدي الاصنام تبركا لينصرفوا من ذلك العيد الى اكله فجعل عليه السلام يقطعها بتلك القدوم ويهشمها حتى أفسد أشكالها حاشا الكبير فانه تركه بحاله وعلق القدوم فى يده وخرج عنها وجذاذا معناه قطعا صغارا والجذ القطع والضمير فى اليه اظهر ما فيه انه عائد على ابراهيم اي فعل هذا كله ترجيا منه ان يعقب ذلك منهم رجعه اليه والى شرعه ويحتمل ان يعود على كبيرهم
وقوله سبحانه قالوا من فعل هذا الآية المعنى فانصرفوا من عيدهم فرأوا ما حدث بآلهتهم فقالوا من فعل هذا بئالهتنا وقالوا الثانى الضمير فيه للقوم الضعفة الذين سمعوا قول ابراهيم تالله لأكيدن أصنامكم وقوله على أعين الناس يريد فى الحفل وبمحضر الجمهور وقوله يشهدون يحتمل ان يريد الشهادة عليه بفعله او بقوله لاكيدن ويحتمل ان يريد به المشاهدة اي يشاهدون عقوبته او غلبته المؤدية الى عقوبته وقوله عليه السلام بل فعله كبيرهم هذا على معنى الاحتجاج عليهم اي انه غار من ان يعيد هو وتعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك وفى الحديث الصحيح عن النبى صلى الله عليه و سلم قال لم يكذب ابراهيم عليه السلام الاثلاث كذبات قوله انى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله للملك هي اختى وكانت مقالاته هذه في ذات الله وذهبت فرقة الى ان معنى الحديث لم يكذب ابراهيم أي لم يقل كلاما ظاهرةالكذب او يشبه الكذب وذهب الفراء الى جهة اخرى فى التأويل بان قال قوله فعله ليس من الفعل وانما هو فعله على جهة التوقع حذف اللام على قولهم عله بمعنى لعله ثم خففت اللام قال ع وهذا تكلف ت قال عياض واعلم اكرمك الله ان هذه الكلمات كلها خارجة عن الكذب لافى القصد ولافى غيره وهى داخلة فى باب المعاريض التى فيها مندوحة عن الكذب فأما قوله بل فعله كبيرهم (3/56)
هذا فانه علق خبره بشرط النطق كأنه قال ان كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه انتهى ثم ذكر بقية التوجيه وهو واضح لانطيل بسرده وقوله سبحانه فرجعوا الى انفسهم فقالوا انكم انتم الظالمون اي فى توقيف هذا الرجل على هذا الفعل وانتم معكم من تسئلون ثم رأوا ببديهة العقل ان الاصنام لا تنطق فقالوا لابراهيم حين نكسوا في حيرتهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون فوجد ابراهيم عليه السلام عند هذه المقالة موضع الحجة ووقفهم موبخا لهم بقوله أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيأ الآية ثم حقر شأنهم وشأنها بقوله اف لكم ولما تعبدون من دون الله الآية ص وقولهم لقد علمت جواب قسم محذوف معمول لقول محذوف فى موضع الحال اي قائلين لقد علمت انتهى وقال الثعلبى فرجعوا الى انفسهم اي تفكروا بعقولهم فقالوا ما نراه الا كما قال انكم انتم الظالمون فى عبادتكم الاصنام الصغار مع هذا الكبير وما قدمناه عن ع هو الاوجه وأف لفظة تقال عند المستقذرات من الأشياء ويستعار ذلك للمستقبح من المعانى ثم اخذتهم العزة بالاثم وانصرفوا الى طريق الغلبة والغشم فقالوا حرقوه روى ان قائل هذه المقالة هو رجل من الاكراد من اعراب فارس اي من باديتها فخسف الله به الارض فهو يتجلجل فيها الى يوم القيامة وروى انه لما اجمع رأيهم على تحريقه حبسه نمرود الملك لعنه الله وامر بجمع الحطب حتى اجتمع منه ما شاء الله ثم اضرم نارا فلما ارادوا طرح ابراهيم فيها لم يقدروا على القرب منها فجاءهم ابليس فى صورة شيخ فقال لهم انا اصنع لكم ءالة يلقى بها فعلمهم صنعة المنجنيق ثم اخرج ابراهيم عليه السلام فشد رباطا ووضع فى كفة المنجنيق ورمى به فتلقاه جبريل عليه السلام فى الهواء فقال له الك حاجة فقال اما اليك فلا واما الى الله فبلى ت قال ابن عطاء الله فى التنوير (3/57)
وكن أيها الأخ إبراهيما اذ زج به فى المنجنيق فتعرض له جبريل فقال الك حاجة فقال اما اليك فلا واما الى ربى فبلى فاسئله قال حسبي من سؤالي علمه بحالى فانظر كيف رفع همته عن الخلق ووجهها الى الملك الحق فلم يستغث بجبريل ولا احتال على السؤال بل رأى ربه تعالى اقرب اليه من جبريل ومن سؤاله فلذلك سلمه من نمرود ونكاله وانعم عليه بنواله وافضاله انتهى
وقوله سبحانه قلنا يا نار كونى بردا وسلاما قال بعض العلماء فيما روي ان الله تعالى لو لم يقل وسلاما لهلك ابراهيم من برد النار وروي انه لما وقع فى النار سلمه الله واحترق الحبل الذى ربط به وقد اكثر الناس فى قصصه فاختصرناه لعدم صحة اكثره وروى ان ابراهيم عليه السلام كان له بسط وطعام فى تلك النار كل ذلك من الجنة وروى ان العيدان اينعت وأثمرت له هناك ثمارها وروي انهم قالوا ان هذه نار مسحورة لا تحرق فرموا فيها شيخا منهم فاحترق والله اعلم بما كان من ذلك ت قال صاحب غاية المغنم فى اسم الله الاعظم وهو من الائمة المحدثين وعن الامام احمد بن حنبل رحمه الله انه يكتب للمحموم ويعلق عليه بسم الله الرحمن الرحيم يا الله يا الله محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم يا نار كونى بردا وسلاما على ابراهيم وارادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين اللهم رب جبريل وميكائيل اشف حاملها بحولك وقوتك وجبروتك يا ارحم الراحمين انتهى وقوله وسلاما معناه وسلامة والكيد هو ما ارادوه من حرقة وقوله سبحانه ونجيناه ولوطا الآية روى ان ابراهيم عليه السلام لما خرج من النار احضره نمرود وقال له فى بعض قوله يا ابراهيم اين جنود ربك الذى تزعم فقال له عليه السلام سيريك فعل اضعف جنوده فبعث الله تعالى على نمرود واصحابه سحابة من بعوض فاكلتهم عن آخرهم ودوابهم حتى كانت العظام تلوح بيضاء (3/58)
ودخلت منها بعوضة فى رأس نمرود فكان رأسه يضرب بالعيدان وغيرها ثم هلك منها وخرج ابراهيم وابن اخيه لوط عليهما السلام من تلك الارض مهاجرين وهى كوثى من العراق ومع ابراهيم ابنت عمه سارة زوجته وفي تلك السفرة لقى الجبار الذى رام اخذها منه واختلف فى الارض التى بورك فيها ونحا اليها ابراهيم ولوط عليهما السلام فقالت فرقة هى مكة وقال الجمهور هى الشام فنزل ابراهيم بالسبع من ارض فلسطين وهى برية الشام ونزل لوط بالمؤتكفة والنافلة العطية وباقى الآية بين وخبائث قرية لوط هى اتيان الذكور وتضارطهم فى مجالسهم الى غير ذلك من قبيح افعالهم وقوله سبحانه فى نوح عليه السلام ونصرناه من القوم آلآية لما كان جل نصرته النجاة وكانت غلبة قومه بامر اجنبي منه حسن ان يقول نصرناه من ولا تتمكن هنا على قال ص عدي نصرناه بمن لتضمنه معنى نجينا وعصمنا ومنعنا وقال ابو عبيدة من بمعنى على ت وهذا اولى واما الاول ففيه نظرلان تلك الالفاظ المقدمة كلها غير مرادفة لنصرنا انتهى ت وكذا يظهر من كلام ابن هشام ترجيح الثانى وذكر هؤلاء الانبياء عليهم السلام ضرب مثل لقصة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم مع قومه ونجاة الانبياء وهلاك مكذبيهم ضمنها توعد لكفار قريش وقوله
تعالى وداود وسليمان المعنى واذكر داود وسليمان هكذا قدره جماعة من المفسرين ويحتمل ان يكون المعنى واتينا داود والنفش هو الرعى ليلا ومضى الحكم فى الاسلام بتضمين ارباب النعم ما افسدت بالليل لان على اهلها ان يثقفوها وعلى اهل الزروع حفظها بالنهار هذا هو مقتضى الحديث فى ناقة ابن عازب وهو مذهب مالك وجمهور الامة وفى كتاب ابن سحنون ان الحديث انما جاء في امثال المدينة التى هى حيطان محدقة واما البلاد التى هى زروع متصله غير محظرة (3/59)
فيضمن ارباب النعم ما افسدت بالليل والنهار قال ص والضمير فى قوله لحكمهم يعود على الحاكمين والمحكوم له وعليه ابو البقاء وقيل الضمير لداود وسليمان عليهما السلام فقط وجمع لان الاثنين جمع انتهى قال ابن العربى فى احكامه المواشي على قسمين ضوار وغير ضوار وهكذا قسمها مالك فالضوارى هى المعتادة باكل الزروع والثمار فقال مالك تغرب وتباع فى بلد لا زرع فيه ورواه ابن القاسم فى الكتاب وغيره قال ابن حبيب وان كره ذلك اربابها وكان قول مالك فى الدابة التى ضريت بفساد الزرع ان تغرب وتباع واما ما يستطاع الاحتراز منه فلا يؤمر صاحبه باخراجه عن ملكه وهذا بين انتهى
وقوله يسبحن اي يقلن سبحان الله هذا قول الاكثر وذهبت فرقة منهم منذر بن سعيد الى أنه بمعنى يصلين معه بصلاته واللبوس فى اللغة هو السلاح فمنه الدرع وغيره قال ص ولبوس معناه ملبوس كالركوب بمعنى المركوب قال الشاعر
... عليها اسود ضاريات لبوسهم ... سوابغ بيض لاتخرقها النبل ...
ولسليمان الريح اي وسخرنا لسليمان الريح هذا على قراءة النصب وقرأت فرقة الريح بالرفع ويروى ان الريح العاصفة كانت تهب على سرير سليمان الذى فيه بساطه وقد مد حول البساط بالخشب والالواح حتى صنع سريرا يحمل جميع عسكره واقواته فتقله من الارض فى الهواء ثم تتولاه الريح الرخاء بعد ذلك فتحمله الى حيث اراد سليمان قال ص والعصف الشدة والرخاء اللين انتهى وقوله تعالى الى الارض التى باركنا فيها اختلف فيها فقالت فرقة هي الشام وكانت مسكنة وموضع ملكه وقد قال بعضهم ان العاصفة هي في القفول على عادة البشر والدواب فى الاسراع الى الوطن وان الرخاء كانت فى البدأة حيث اصاب اي حيث يقصد لان ذلك (3/60)
وقت تأن وتدبير وتقلب رأي ويحتمل ان يريد الارض التى يسير اليها سليمان كائنة ما كانت وذلك انه لم يكن يسير الى الارض الا اصلحها الله تعالى به صلى الله عليه و سلم ولا بركة اعظم من هذا والغوص الدخول فى الماء والارض والعمل دون ذلك البنيان وغيره من الصنائع والخدمة ونحوها وكنا لهم حافظين قيل معناه من افسادهم ما صنعوه وقيل غير هذا ت وقوله سبحانه وانت ارحم الراحمين هذا الاسم المبارك مناسب لحال ايوب عليه السلام وقد روى اسامة بن زيد رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ان لله تعالى ملكا موكلا بمن يقول يا ارحم الراحمين فمن قالها ثلاثا قال له الملك ان ارحم الراحمين قد اقبل عليك فاسئل رواه الحاكم فى المستدرك وعن انس بن مالك رضي الله عنه قال مر رسول الله صلى الله عليه و سلم برجل وهو يقول يا ارحم الراحمين فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم سل فقد نظر الله اليك رواه الحاكم انتهى من السلاح وفى قصص ايوب عليه السلام طول واختلاف وتلخيص بعض ذلك ان ايوب عليه السلام اصابه الله تعالى باكلة فى بدنه فلما عظمت وتقطع بدنه اخرجه الناس من بينهم ولم يبق معه غير زوجته ويقال كانت بنت يوسف الصديق عليه السلام قيل اسمها رحمة وقيل فى ايوب انه من بنى اسراءيل وقيل انه من الروم من قرية عيصو فكانت زوجته تسعى عليه وتأتيه بما يأكل وتقوم عليه ودام عليه ضره مدة طويلة وروي أن ايوب عليه السلام لم يزل صابرا شاكرا لا يدعو فى كشف ما به حتى ان الدودة تسقط منه فيردها فمر به قوم كانوا يعادونه فشمتوا به فحينئذ دعا ربه سبحانه فاستجاب له وكانت امرأته غائبة عنه فى بعض شأنها فانبع الله تعالى له عينا وامر بالشرب منها فبرئى باطنه وامر بالاغتسال فبرئى ظاهره ورد الى افضل جماله وأوتى بأحسن ثياب وهب عليه (3/61)
رجل من جراد من ذهب فجعل يحتقن ! منه فى ثوبه فناداه ربه سبحانه وتعالى يا ايوب الم اكن اغنيتك عن هذا فقال بلى يا رب ولكن لاغنى بى عن بركتك فبينما هو كذلك اذا جاءت امرأته فلم تره فى الموضع فجزعت وظنت انه ازيل عنه فجعلت تتوله فقال لها ما شأنك ايتها المرأة فهابته لحسن هيئته وقالت انى فقدت مريضا لي فى هذا الموضع ومعالم المكان قد تغيرت وتأملته فى اثناء المقاولة فرأت ايوب فقالت له انت ايوب فقال لها نعم واعتنقها وبكى فروى انه لم يفارقها حتى اراه الله جميع ماله حاضرا بين يديه واختلف الناس فى اهله وولده الذين ءاتاه الله فقيل كان ذلك كله فى الدنيا فرد الله عليه ولده بأعيانهم وجعل مثلهم له عدة فى الآخرة وقيل بل اوتى جميع ذلك فى الدنيا من اهل ومال ت وقد قدم ع فى صدر القصة ان الله سبحانه اذن لإبليس لعنه الله فى اهلاك مال ايوب وفى اهلاك بنيه وقرابته ففعل ذلك اجمع والله اعلم بصحة ذلك ولو بصحة لوجب تاويله وقوله سبحانه وذكرى للعابدين اي وتذكرة وموعظة للمومنين ولا يعبد الله الا مؤمن
وقوله سبحانه واسماعيل وادريس المعنى واذكر اسماعيل وقوله سبحانه وذا النون إذ ذهب مغاضبا التقدير واذكر ذا النون قال السهيلى لما ذكر الله تعالى يونس هنا فى معرض الثناء قال وذا النون وقال فى الآية الاخرى ولا تكن كصاحب الحوت والمعنى واحد ولكن بين اللفظين تفاوت كثير فى حسن الاشارة الى الحالتين وتنزيل الكلام فى الموضعين والاضافة بذي أشرف من الإضافة بصاحب لان قولك ذو يضاف بها الى التابع وصاحب يضاف بها الى المتبوع انتهى والنون الحوت والصاحب يونس ابن متى عليه السلام وهو نبى من اهل نينوى
وقوله مغاضبا قيل انه غاضب قومه حين طال عليه امرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه وقد كان الله تعالى امره (3/62)
بملازمتهم والصبر على دعائهم فكان ذلك ذنبه اي فى خروجه عن قومه بغير إذن ربه ت قال عياض والصحيح فى قوله تعالى اذ ذهب مغاضبا انه مغاضب لقومه لكفرهم وهو قول ابن عباس والضحاك وغيرهما لالربه اذ مغاضبة الله تعالى معاداة له ومعاداة الله كفر لا يليق بالمؤمنين فكيف بالانبياء عليهم السلام وفرار يونس عليه السلام خشية تكذيب قومه بما وعدهم به من العذاب
وقوله سبحانه فظن ان لن نقدر عليه معناه ان لن نضيق عليه وقيل معناه نقدر عليه ما اصابه وقد قرئى نقدر عليه بالتشديد وذلك كما قيل لحسن ظنه بربه انه لابقضى عليه بعقوبة وقال عياض فى موضع آخر وليس فى قصة يونس عليه السلام نص على ذنب وانما فيها ابق وذهب مغاضبا وقد تكلمنا عليه وقيل انما نقم الله تعالى عليه خروجه عن قومه فارا من نزول العذاب وقيل بل لما وعدهم العذاب ثم عفا الله عنهم قال والله لا القاهم بوجه كذاب ابدا وهذا كله ليس فيه نص على معصية انتهى
وقوله سبحانه فظن أن لن نقدر عليه قالت فرقة معناه ان لن نضيق عليه فى مذهبه من قوله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وقرأ الزهرى نقدر بضم النون وفتح القاف وشد الدال ونحوه عن الحسن ورروى ان يونس عليه السلام سجد فى جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان فى قعر البحر وقوله انى كنت من الظالمين يريد فيما خالف فيه من ترك ملازمة قومه والصبر عليهم هذا احسن الوجوه فاستجاب الله له ت وليس فى هذه الكلمة ما يدل انه اعترف بذنب كما اشار اليه بعضهم وفى الحديث الصحيح دعوة أخى ذى النون فى بطن الحوت لا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين ما دعا بها عبد مؤمن او قال مسلم الا استجيب له الحديث انتهى وعن سعد ابن مالك ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فى قوله تعالى لا إله إلا أنت (3/63)
سبحانك إنى كنت من الظالمين أيما مسلم دعا بها فى مرضه اربعين مرة فمات فى مرضه ذلك اعطى اجر شهيد وأن برئى برئى وقد غفر الله له جميع ذنوبه اخرجه الحاكم فى المستدرك انتهى من السلاح وذكر صاحب السلاح ايضا عن سعد بن ابى وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعوة ذى النون إذ دعا وهو فى بطن الحوت لا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين فانه لم يدع بها رجل مسلم فى شيء قط الا استجاب اللله تعالى له رواه الترمذى واللفظ له والنسائى والحاكم فى المستدرك وقال صحيح الاسناد وزاد فيه من طريق آخر فقال رجل يارسول الله هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الا تسمع الى قول الله عز و جل ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المومنين انتهى والغم ما كان ناله حين التقمه الحوت
وقوله سبحانه وزكريا اذ نادى ربه الآية تقدم امر زكريا
وقوله سبحانه وأصلحنا له زوجه قيل بان جعلت ممن تحمل وهى عاقر قاعد وعموم اللفظ يتناول جميع الإصلاح
وقوله تعالى ويدعوننا رغبا ورهبا المعنى انهم يدعون فى وقت تعبداتهم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف فى حال واحدة لان الرغبة والرهبة متلازمان والخشوع التذلل بالبدن المتركب على التذلل بالقلب قال القشيرى فى رسالته سئل الجنيد عن الخشوع فقال تذلل القلوب لعلام الغيوب قال سهل بن عبد الله من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان انتهى
وقوله سبحانه والتى احصنت فرجها المعنى واذكر التى احصنت فرجها وهى الجارحة المعروفة هذا قول الجمهور وفى إحصانها هو المدح وقالت فرقة الفرج هنا هو فرج ثوبها الذى منه نفخ الملك وهذا قول ضعيف وقد تقدم أمرها ت وعكس رحمه الله فى سورة التحريم النقل فقال قال الجمهور هو فرج الدرع وقوله (3/64)
تعالى أن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون يحتمل ان يكون منقطعا خطابا لمعاصرى النبى صلى الله عليه و سلم ثم اخبر عن الناس انهم تقطعوا ثم وعد واوعد ويحتمل ان يكون متصلا بقصة مريم وابنها عليهما السلام ص ابو البقاء وتقطعوا امرهم اي فى امرهم يريد انه منصوب على اسقاط حرف الجر وقيل عدى بنفسه لانه بمعنى قطعوا اي فرقوا انتهى وقال البخارى امتكم امة واحدة اي دينكم دين واحد انتهى وقرأ جمهور السبعة وحرام وقرأ حمزة والكساءى وحفص عن عاصم وحرم بكسر الحاء وسكون الراء وهما مصدران بمعنى فأما معنى الآية فقالت فرقة حرام وحرم معناه جزم وحتم فالمعنى وحتم على قرية اهلكناها انهم لا يرجعون الى الدنيا فيتوبون ويستعتبون بل هم صائرون الى العقاب وقالت طائفة حرام وحرم اي ممتنع وقوله سبحانه حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون الآية تحتمل حتى في هذه الآية ان تتعلق بيرجعون وتحتمل ان تكون حرف ابتداء وهو الأظهر بسبب إذا لانها تقتضى جوابا واختلف هنا فى الجواب والذى اقول به ان الجواب فى قوله فإذا هى شاخصة وهذا هو المعنى الذى قصد ذكره قال ص قال ابو البقاء حتى إذا متعلقة في المعنى بحرام أي يستمر الامتناع إلى هذا الوقت ولا عمل لها في إذا انتهى وقرأ الجمهور فتحت بتخفيف التاء وقرأ ابن عامر وحده فتحت بالتشديد وروى ان يأجوج ومأجوج يشرفون فى كل يوم على الفتح فيقولون غدا نفتح ولا يردون المشيئة الى الله تعالى فإذا كان غد وجدوا الردم كأوله حتى إذا أذن الله تعالى فى فتحه قال قائلهم غدا نفتحه ان شاء الله تعالى فيجدونه كما تركوه قريب الانفتاح فيفتحونه حينئذ ت وقد تقدم فى سورة الكهف كثير من أخبار يأجوج ومأجوج فأغنانا عن إعادته وهذه عادتنا فىهذا (3/65)
المختصر اسئل الله تعالى ان ينفعنا وإياكم به ويجعله لنا نورا بين أيدينا يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم والحدب كل مسنم من الأرض كالجبل والظرب والكدية والقبر ونحوه وقالت فرقة المراد بقوله وهم يأجوج ومأجوج يعنى انهم يطلعون من كل ثنية ومرتفع ويملئون الأرض من كثرتهم وقالت فرقة المراد بقوله وهو جميع العالم وإنما هو تعريف بالبعث من القبور وقرأ ابن مسعود وهم من كل جدث بالجيم والثاء المثلثة وهذه القراءة تؤيد هذا التأويل وينسلون معناه يسرعون فى تطامن وأسند الطبرى عن أبى سعيد قال يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون احدا إلا قتلوه الا اهل الحصون فيمرون على بحيرة طبرية فيمر ءاخرهم فيقول كان هنا مرة ماء قال فيبعث الله عليهم النغف حتى تكسر اعناقهم فيقول اهل الحصون لقد هلك اعداء الله فيدلون رجلا ينظر فيجدهم قد هلكوا قال فينزل الله من السماء ماء فيقذف بهم فى البحر فيطهر الله الأرض منهم وفى حديث حذيفة نحو هذا وفى ءاخره قال وعند ذلك طلوع الشمس من مغربها وقوله سبحانه واقترب الوعد الحق يريد يوم القيامة
وقوله فاذا هى مذهب سيبويه انها ضمير القصة وجوز الفراء ان تكون ضمير الأبصار تقدمت لدلالة الكلام ومجىء ما يفسرها والشخوص بالبصر إحداد النظر دون ان يطرف وذلك يعترى من الخوف المفرط ونحوه وباقى الآية بين
وقوله سبحانه انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم الآية هذه الآية مخاطبة لكفار مكة اي انكم واصنامكم حصب جهنم والحصب ما توقد به النار إما لأنها تحصب به أي ترمى وإما ان يكون لغة فى الحطب اذا رمى واما قبل ان يرمى فلا يسمى حصبا الا بتجوز وحرق الاصنام بالنار على جهة التوبيخ لعابديها ومن حيث تقع ما لمن يعقل فى بعض المواضع اعترض فى هذه (3/66)
الآية عبد الله بن الزبعرى على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ان عيسى وعزيرا ونحوهما قد عبدا من دون الله فيلزم ان يكونوا حصبا لجهنم فنزلت ان الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية والورود فى هذه الآية ورود الدخول والزفير صوت المعذب وهو كنهيق الحمير وشبهه الا انه من الصدر
وقوله سبحانه لا يسمعون حسيسها هذه صفة الذين سبقت لهم الحسنى وذلك بعد دخولهم الجنة لان الحديث يقتضى ان فى الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبى ولا ملك إلا جثا على ركبتيه قال البخارى الحسيس والحس واحد وهو الصوت الخفى انتهى والفزع الاكبر عام فى كل هول يكون يوم القيامة فكان يوم القيامة بجملته هو الفزع الاكبر
وقوله سبحانه وتتلقاهم الملائكة يريد بالسلام عليهم والتبشير لهم اي هذا يومكم الذى وعدتم فيه الثواب والنعيم والسجل فى قول فرقة هو الصحيفة التى يكتب فيها والمعنى كما يطوى السجل من اجل الكتاب الذى فيه فالمصدر مضاف الى المفعول وهكذا قال البخارى السجل الصحيفة انتهى وما خرجه ابو داود فى مراسيله من ان السجل اسم رجل من كتاب النبى صلى الله عليه و سلم قال السهيلى فيه هذا غير معروف انتهى
وقوله سبحانه كما بدأنا اول خلق نعيده يحتمل معنيين أحدهما ان يكون خبرا عن البعث اي كما اخترعنا الخلق اولا على غير مثال كذلك ننشئهم تارة اخرى فنبعثهم من القبور والثانى ان يكون خبرا عن ان كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التى خرج بها الى الدنيا ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا كما بدأنا اول خلق نعيده وقوله كما بدأنا الكاف متعلقة بقوله نعيده وقالت فرقة الزبور هنا يعم جميع الكتب المنزلة لأنه مأخوذ من زبرت الكتاب اذا كتبته والذكر أراد به اللوح المحفوظ وقالت فرقة الزبور هو زبور داود عليه (3/67)
السلام والذكر التوراة وقالت فرقة الزبور ما بعد التوراة من الكتب والذكر التوراة وقالت فرقة الارض هنا ارض الدنيا اي كل ما يناله المؤمنون من الأرض وقالت فرقة اراد ارض الجنة واستشهدوا بقوله تعالى واورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشأ
وقوله سبحانه إن فى هذا لبلاغا الاشارة بهذا الى هذه الآيات المتقدمة في قول فرقة وقالت فرقة الإشارة الى القرءان بجملته والعبادة تتضمن الايمان
وقوله سبحانه وما أرسلناك الا رحمه للعالمين قالت فرقة هو صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين عموما اما للمؤمنين فواضح واما للكافرين فلأن الله تعالى رفع عنهم ما كان يصيب الامم والقرون السابقة قبلهم من التعجيل بأنواع العذاب المستأصلة كالطوفان وغيره
وقوله آذنتكم معناه عرفتكم بنذارتى وأردت ان تشاركونى فى معرفة ما عندى من الخوف عليكم من الله تعالى وقال البخارى آذنتكم أعلمتكم فاذا أعلمتهم فأنت وهم على سواء انتهى ثم اخبرانه لا يعرف تعيين وقت لعقابهم هل هو قريب أم بعيد وهذا أهول وأخوف قال ص وإن أدرى بمعنى ما ادرى انتهى والضمير فى قوله لعلة عائد على الإملاء لهم وفتنة معناه امتحان وابتلاء والمتاع ما يستمتع به مدة الحياة الدنيا ثم امره تعالى ان يقول على جهة الدعاء رب احكم بالحق وهذادعاء فيه توعد ثم توكل فى ءاخر الآية واستعان بالله تعالى قال الداودى وعن قتادة ان النبى صلى الله عليه و سلم كان اذا شهد قتالا قال
رب احكم بالحق انتهى (3/68)
تفسير سورة الحج وهى مكية
سوى ثلاث ءايات وهى هذا خصمان الى تمام ثلاث ءايات هذا قول ابن عباس ومجاهد وقال الجمهور السورة مختلطة منها مكى ومنها مدني وهذا هو الأصح لأن الآيات تقتضى ذلك بسم الله الرحمن الرحيم قوله عز و جل يا ايها الناس اتقو ربكم ان زلزلة الساعة شىء عظيم الزلزلة التحريك العنيف وذلك مع نفخة الفزع ومع نفخة الصعق حسبما تضمنه حديث ابى هريرة من ثلاث نفخات والجمهور على ان زلزلة الساعة هى كالمعهودة فى الدنيا الا انها فى غاية الشدة واختلف المفسرون فى الزلزلة المذكورة هل هي فى الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة ام هى فى يوم القيامة على جميع العالم فقال الجمهور هى فى الدنيا والضمير فى ترونها عائد عندهم على الزلزلة وقوى قولهم ان الرضاع والحمل انما هو فى الدنيا وقالت فرقة الزلزلة فى يوم القيامة والضمير عندهم عائد على الساعة والذهول الغفلة عن الشىء بطريان ما يشغل عنه من هم أووجع أو غيره قال ابن زيد المعنى تترك ولدها للكرب الذى نزل بها ت وخرج البخارى وغيره عن ابى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه و سلم قال يقول الله عز و جل يوم القيامة يا ءادم فيقول لبيك ربنا وسعديك فيقول اخرج بعث النار قال يا رب وما بعث النار قال من كل ألف (3/69)
تسعمائة وتسعة وتسعين الى النار وواحدا الى الجنة فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد الحديث انتهى وهذا الحديث نص صريح فى انه يوم القيامة وانظر قوله يوما يجعل الولدان سيبا وقوله واذا العشار عطلت تجده موافقا للحديث وجاء فى حديث ابى هريرة فيما ذكره على بن معبد ان نفخة الفزع تمتد وان ذلك يوم الجمعة فى النصف من شهر رمضان فيسير الله الجبال فتمر مر السحاب ثم تكون سرابا ثم ترتج الأرض بأهلها رجا وتضع الحوامل ما فى بطونها ويشيب الولدان ويولى الناس مدبرين ثم ينظرون الى السماء فإذا هى كالمهل ثم انشقت ثم قال النبى صلى الله عليه و سلم والموتى لا يعلمون شيأ من ذلك قلت يا رسول الله فمن استثنى الله عز و جل يقول ففزع من فى السموات ومن فى الارض الا من شاء الله قال أولائك هم الشهداء انتهى مختصرا وهذا الحديث ذكره الطبرى والثعلبى وصححه ابن العربى فى سراج المريدين وقال عبد الحق بل هو حديث منقطع لا يصح والذى عليه المحققون ان هذه الأهوال هى بعد البعث قاله صاحب التذكرة وغيره انتهى والحمل بفتح الحاء ما كان فى بطن او على رأس شجرة
وقوله سبحانه وترى الناس سكارى تشبيها لهم اي من الهم ثم نفى عنهم السكر الحقيقى الذى هو من الخمر قاله الحسن وغيره وقرأ حمزة والكساءى سكرى فى الموضعين قال سيبويه وقوم يقولون سكرى جعلوه مثل مرضى ثم جعلوا روبى مثل سكرى وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب
وقوله سبحانه ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد قال ابن جريج هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث وابى بن خلف وقيل فى ابي جهل بن هشام ثم هي بعد تتناول كل من اتصف بهذه الصفة ومجادلتهم فى ان الله تعالى لا يبعث من يموت والشيطان هنا هو مغويهم (3/70)
من الجن ويحتمل من الإنس والمريد المتجرد من الخير للشر ومنه الأمرد وشجرة مرداء اي عارية من الورق وصرح ممرد اي مملس والضمير فى عليه عائد على الشيطان قاله قتادة ان يعود على المجادل وانه فى موضع رفع على المفعول الذى لم يسم فاعله وانه الثانية عطف على الأولى موكدة مثلها وقيل هى مكررة للتأكيد فقط وهذا معترض بأن الشىء لا يؤكد الا بعد تمامه وتمام ان الأولى إنما هو بصلتها فى قوله السعير وكذلك لا يعطف عليه ولسيبويه فى مثل هذا انه بدل وقيل انه الثنية خبر مبتدأ محذوف تقديره فشأنه انه يضله قال ع ويظهر لى ان الضمير فى انه الاولى للشيطان وفى الثانية لمن الدى هو المتولى وقرأ ابو عمرو فإنه بالكسر فيهما
وقوله عز و جل يا أيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث الآية هذا احتجاج على العالم بالبدأة الأولى وضرب سبحانه وتعالى فى هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز فى العقل البعثة من القبور ثم ورد الشرع بوقوع ذلك
وقوله فانا خلقناكم من تراب يريد ءادم عليه السلام ثم من نطفة يريد المنى والنطفة تقع على قليل الماء وكثيره ثم من علقة يريد من الدم الذى تعود النطفة اليه فى الرحم او المقارن للنطفة والعلق الدم الغليظ وقيل العلق الشديد الحمرة ثم من مضغة يريد مضغة لحم على قدر ما يمضغ
وقوله مخلقة معناه متممة وغير مخلقة غير متممة اي التى تسقط قاله مجاهد وغيره فاللفظة بناء مبالغة من خلق ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن فى جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقا كثيرا
وقوله سبحانه لنبين لكم قالت فرقة معناه امر البعث ونقر اي ونحن نقر فى الأرحام والأجل المسمى مختلف بحسب حين حين فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا
وقوله سبحانه ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى ارذل العمر لكيلا يعلم (3/71)
من بعد علم شيأ قد تقدم بيان هذه المعانى والرد الى أرذل العمر هو حصول الانسان فى زمانه واختلال العقل والقوة فهذا مثال واحد يقتضى للمعتبر به ان القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التى اوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى
وقوله عز و جل وترى الأرض هامدة فاذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج هذا هو المثال الثانى الذى يعطى للمعتبر فيه جواز بعث الاجساد وذلك ان احياء الارض بعد موتها بين فكذلك الأجساد وهامدة معناه ساكنة دارسة بالية واهتزاز الأرض هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء وربت معناه نشزت وارتفعت ومنه الربوة وهى المكان المرتفع والزوج النوع والبهيج من البهجة وهى الحسن قاله قتادة وغيره
وقوله ذلك إشارة الى كل ما تقدم ذكره وباقى الآية بين
وقوله سبحانه ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم الآية الاشارة بقوله ومن الناس الى القوم الذين تقدم ذكرهم وكرر هذه الآية على جهة التوبيخ فكانه يقول فهذه الأمثال فى غاية الوضوح ومن الناس مع ذلك من يجادل وثانى حال من الضمير فى يجادل
وقوله ثانى عطفه عبارة عن المتكبر المعرض قاله ابن عباس وغيره وذلك ان صاحب الكبر يرد وجهة عمن يتكبر عنه فهو برد وجهه يصعر خده ويولى صفحته ويلوي عنقه ويثني عطفه وهذه هى عبارات المفسرين والعطف الجانب
وقوله تعالى ذلك بما قدمت يداك اي يقال له ذلك واختلف فى الوقف على يداك فقيل لا يجوز لان التقدير وبان الله اي ان هذا هو العدل فيك يحرائمك وقيل يجوز بمعنى والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد
وقوله سبحانه ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية نزلت فى اعراب وقوم لا يقين لهم كان احدهم اذا اسلم فاتفق له اتفاقات حسان من (3/72)
نمو مال وولد يرزقه وغير ذلك قال هذا دين جيد وتمسك به لهذه المعانى وان كان الأمر بخلاف ذلك تشاءم به وارتد كما فعل العرنيون قال هذا المعنى ابن عباس وغيره وقوله على حرف معناه على الخراف منه عن العقيدة البيضاء وقال البخارى على حرف على شك ثم اسند عن ابن عباس ما تقدم من حال الأعراب انتهى
وقوله يدعوا من دون الله ما لا يضره يريد الأوثان ومعنى بدعو يعبد ويدعو ايضا فى ملماته واللام فى قوله لمن ضره لام موذنة بمجيء القسم والثانية فى لبيس لام القسم والعشير القريب المعاشر فى الامور ت وفى الحديث فى شأن النساء ويكفرن العشير يعنى الزوج قال ابو عمر بن عبد البر قال اهل اللغة العشير الخليط من المعاشرة والمخالطة ومنه قوله عز و جل لبئس المولى ولبئس العشير انتهى من التمهيد والذى يظهر ان المراد بالمولى والعشير هو الوثن الذى ضره اقرب من نفعه وهو قول مجاهد ثم عقب سبحانه بذكر حالة اهل الايمان وذكر ما وعدهم به فقال ان الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار الآية ثم اخذت الآية فى توبيخ أولائك الأولين كأنه يقول هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق وظنوا ان الله تعالى لن ينصر محمدا واتباعه ونحن انما امرناهم بالصبر وانتظار وعدنا فمن ظن غير ذلك فليمدد بسبب وهو الحبل وليختنق هل يذهب بذلك غيطه قال هذا المعنى قتادة وهذا على جهة المثل السائر فى قولهم دونك الحبل فاختنق والسماء على هذا القول الهواء علوا فكأنه أراد سقفا أو شجرة ولفظ البخاري وقال ابن عباس بسبب الى سقف البيت انتهى والجمهور على ان القطع هنا هو الاختناق قال الخليل وقطع الرجل إذا اختنق بحبل ونحوه ثم ذكر الآية ويحتمل المعنى من ظن ان محمدا لا ينصر فليمت كمدا هو منصور لا محالة فليختنق هذا الظان غيطا وكمدا ويؤيد (3/73)
ان الطبرى والنقاش قالا وبقال نزلت فى نفر من بنى أسد وغطفان قالوا نخاف ان لا ينصر محمد فينقطع الذى بيننا وبين حلفائنا من يهود من المنافع والمعنى الاول الذى قيل للعابدين على حرف ليس بهذا ولكنه بمعنى من قلق واستبطأ النصر وظن ان محمدا لا ينصر فليختنق سفاهة اذ تعدى الأمر الذى حد له فى الصبر وانتظار صنع الله وقال مجاهد الضمير فى ينصره عائد على من والمعنى من كان من المتقلقين من المؤمنين وما فى قوله ما يغيظ بمعنى الذى ويحتمل ان تكون مصدرية حرفا فلا عائد عليها وابين الوجوه فى الآية التاويل الاول وباقى الآية بين
وقوله وكثير من الناس أي ساجدون مرحومون بسجودهم وقوله وكثير حق عليه العذاب معادل له ويؤيد هذا قوله تعالى هذان خصمان اختصموا فى ربهم الآية نزلت هذه الآية فى المتبارزين يوم بدر وهم ستة نفر حمزة وعلى وعبيدة ابن الحارث رضي الله عنهم بارزوا لعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وشيبة بن ربيعة قال على بن ابى طالب انا اول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى واقسم ابو ذر على هذا القول ووقع فى صحيح البخارى رحمه الله تعالى ان الآية فيهم وقال ابن عباس الإشارة الى المؤمنين واهل الكتاب وذلك انه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن اقدم دينا منكم ونحو هذا فنزلت الآية وقال مجاهد وجماعة الإشارة الى المومنين والكفار على العموم
قال ع وهذا قول تعضده الآية وذلك انه تقدم قوله وكثير من الناس المعنى هم مؤمنون ساجدون ثم قال تعالى وكثير حق عليه العذاب ثم اشار الى هذين الصنفين بقوله هذان خصمان والمعنى ان الإيمان وأهله والكفر واهله خصمان مذ كانا الى يوم القيامة بالعداوة والجدال والحرب وخصم مصدر يوصف به الواحد والجمع ويدل على انه اراد الجمع قوله اختصموا فإنه قراءة الجمهور وقرأ ابن (3/74)
ابى عبلة اختصما ت وهذه التأويلات متفقات فى المعنى وقد ورد ان اول ما يقضي به بين الناس يوم القيامة فى الدماء ومن المعلوم ان اول مبارزة وقعت فى الاسلام مبارزة على واصحابه فلا جرم كانت اول خصومة وحكومة يوم القيامة وفى صحيح مسلم عنه صلى الله عليه و سلم
نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق وفى رواية المقضي بينهم
وقوله فى ربهم اي فى شأن ربهم وصفاته وتوحيده ويحتمل فى رضى ربهم وفى ذاته وقال ص فى ربهم اي فى دين ربهم انتهى ثم بين سبحانه حكم الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذابه الأليم وقطعت معناه جعلت لهم بتقدير كما يفصل الثوب وروى انها من نحاس ويصهر معناه يذاب وقيل معناه ينضج قيل ان الحميم بحرارته يهبط كل ما فى الجوف ويكشطه ويسلته وقد روى ابو هريرة نحوه عن النبى صلى الله عليه و سلم انه يسلته ويبلغ به قدميه ويذيبه ثم يعاد كما كان
وقوله سبحانه كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها روى فيه ان لهب النار اذا ارتفع رفعهم فيصلون إلى أبواب النار فيريدون الخروج فتردهم الزبانية بمقامع الحديد وهى المقارع
وقوله سبحانه ان الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات الآية معادلة لقوله فالذين كفروا واللؤلؤ الجوهر واخبر سبحانه بان لباسهم فيها حرير لأنه من أكمل حالات الدنيا قال ابن عباس لاتشبه أمور الآخرة امور الدنيا الا فى الاسماء فقط واما الصفات فمتبابنة والطيب من القول لا اله الا الله وما جرى معها من ذكر الله وتسبيحه وتقديسه وسائر كلام اهل الجنة من محاورة وحديث طيب فانها لا تسمع فيها لاغية وصراط الحميد هو طريق الله الذى دعا عباده اليه ويحتمل ان يريد بالحميد نفس الطريق فاضاف اليه على حد اضافته فى قوله دار الآخرة وقال البخارى وهدوا الى الطيب اي الهموا الى قراءة القرءان وهدوا الى صراط (3/75)
الحميد اي الى الإسلام انتهى
وقوله سبحانه ان الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله هذه الآية نزلت عام الحديبية حين صد النبى صلى الله عليه و سلم وجاء يصدون مستقبلا اذ هو فعل يديمونه وخبر ان محذوف مقدر عند قوله والبادى تقديره خسروا او هلكوا والعاكف المقيم فى البلد والبادى القادم عليه من غيره
وقوله بالحاد قال ابو عبيدة الباء فيه زائدة ت قال ابن العربى فى احكامه وجعل الباء زائدة لا يحتاج اليه فى سبيل العربية لأن حمل المعنى على القول اولى من حمله على الحروف فيقال المعنى ومن يهم فيه بميل لأن الالحاد هو الميل فى اللغة الا انه قد صار فى عرف الشرع ميلا مذموما فرفع الله الاشكال وبين سبحانه ان الميل بالظلم هو المراد هنا انتهى
قال ع والإلحاد الميل وهو يشمل جميع المعاصى من الكفر الى الصغائر فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك الا فى مكة هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم قال ص وقوله ان لا تشرك ان مفسرة لقول مقدر اي قائلين له او موحين له لا تشرك وفى التقدير الأول نظر فانظر انتهى
وقوله تعالى وطهر بيتي للطائفين والقائمين الآية تطهير البيت عام فى الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك والقائمون هم المصلون وخص سبحانه بالذكر من اركان الصلاة أعظمها وهو القيام والركوع والسجود وروي أن ابراهيم عليه الصلاة و السلام لما امر بالآذان بالحج قال يا رب واذا اذنت فمن يسمعنى فقيل له ناد يا ابراهيم فعليك النداء وعلينا البلاغ فصعد على أبي قبيس وقيل على حجر المقام ونادى ايها الناس ان الله تعالى قد امركم بحج هذا البيت فحجوا فروى ان يوم نادى اسمع كل من يحج الى يوم القيامة فى اصلاب الرجال واجابه كل شيء فى ذلك الوقت من جماد وغيره لبيك اللهم لبيك فجرت التلبية (3/76)
على ذلك قاله ابن عباس وابن جبير ورجالا جمع راجل والضامر قالت فرقة اراد بها الناقة وذلك انه يقال ناقة ضامر وقالت فرقة لفظ ضامر يشمل كل من اتصف بذلك من جمل او ناقة وغير ذلك
قال ع وهذا هو الأظهر وفى تقديم رجالا تفضيل للمشاة فى الحج واليه نحا ابن عباس قال ابن العربى فى احكامه قوله تعالى يأتين رد الضمير الى الابل تكرمة لها لقصدها الحج مع اربابها كما قال تعالى والعاديات ضبحا فى خيل الجهاد تكرمه لها حين سعت فى سبيل الله انتهى والفج الطريق الواسعة والعميق معناه البعيد قال الشاعر ... إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة ...
يمد بها فى السير أشعث شاحب ...
والمنافع فى هذه الآية التجارة فى قول اكثر المتأولين ابن عباس وغيره وقال ابو جعفر محمد بن على اراد الأجر ومنافع الآخرة وقال مجاهد بعموم الوجهين ت واظهرها عندى قول ابى جعفر يظهر ذلك من مقصد الآية والله اعلم وقال ابن العربى الصحيح القول بالعموم انتهى
وقوله سبحانه ويذكروا اسم الله فى ايام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام ذهب قوم الى ان المراد ذكر اسم الله على النحر والذبح وقالوا ان فى ذكر الايام دليلا على ان الذبح فى الليل لا يجوز وهو مذهب مالك واصحاب الرأي وقالت فرقة فيها مالك واصحابه الأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده
وقوله فكلوا ندب واستحب اهل العلم ان ياكل الإنسان من هديه واضحيته وان يتصدق بالأكثر والبائس الذى قد مسه ضر الفاقة وبؤسها والمراد اهل الحاجة والتفث ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعث ونحوه وليوفوا نذورهم وهو ما معهم من هدي وغيره وليطوفوا بالبيت العتيق يعني طواف الإفاضة الذى هو من واجبات الحج قال الطبري ولا خلاف بين (3/77)
المتأولين فى ذلك قال مالك هو واجب ويرجع تاركه من وطنه الا ان يطوف طواف الوداع فإنه يجزيه عنه ويحتمل ان تكون الاشارة بالآية الى طواف الوداع وقد اسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال سألت زهيرا عن قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق فقال هو طواف الوداع وقاله مالك فى الموطإ واختلف فى وجه وصف البيت بالعتيق فقال مجاهد وغيره عتيق اي قديم وقال ابن الزبير لأن الله تعالى اعتقه من الجبابرة وقيل اعتقه من غرق الطوفان وقيل غير هذا
وقوله ذلك يحتمل ان يكون فى موضع رفع بتقدير فرضكم ذلك او الواجب ذلك ويحتمل ان يكون فى محل نصب بتقدير امتثلوا ذلك ونحو هذا الاضمار واحسن الاشياء مضمرا احسنها مظهرا ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير ... هذا وليس كمن يعى بخطبته ... وسط الندى اذا ما ناطق نطقا ...
والحرمات المقصودة هنا هى افعال الحج وقال ابن العربى فى احكامه الحرمات امتثال ما امر الله تعالى به واجتناب ما نهى عنه فإن للقسم الاول حرمة المبادرة الى الامتثال وللثاني حرمة الانكفاف والانزجار انتهى
وقوله فهو خير ظاهره انها ليست للتفضيل وانما هى عدة بخير ويحتمل ان يجعل خير للتفضيل على تجوز فى هذا الموضع ص فهو خير له اي فالتعظيم خير له انتهى
وقوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان يحتمل معنيين احدهما ان نكون من لبيان الجنس اي الرجس الذى هو الأوثان فيقع النهي عن رجس الأوثان فقط وتبقى سائر الأرجاس نهيها فى غير هذا الموضع والمعنى الثاني ان تكون من لابتداء الغاية فكأنه نهاهم سبحانه عن الرجس عموما ثم عين لهم مبدأه الذى منه يلحقهم اذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس ويظهر ان الإشارة الى الذبائح التى كانت للأوثان فيكون هذا مما يتلى عليهم والمروي عن ابن عباس (3/78)
وابن جريج ان الآية نهى عن عبادة الأوثان والزور عام فى الكذب والكفر وذلك ان كل ما عدا الحق فهو كذب وباطل وقال ابن مسعود وغيره ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال
عدلت شهادة الزور بالشرك وتلا هذه الآية والزور مشتق من الزور وهو الميل ومنه فى جانب فلان زور ويظهر ان الإشارة الى زور اقوالهم فى تحريم وتحليل ما كانوا قد شرعوا فى الإنعام وحنفاء معناه مستقيمين او مائلين الى الحق بحسب ان لفظة الحنف من الأضداد تقع على الاستقامة وتقع على الميل والسحيق البعيد
وقوله سبحانه ذلك ومن يعظم شعائر الله التقدير فى هذا الموضع الأمر ذلك والشعائر جمع شعيرة وهي كل شىء لله عز و جل فيه امر اشعر به واعلم قال الشيخ ابن ابى جمرة ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب قال تعظيم شعائر الله كان من البقع او من البشر او ممن شاء الله تعالى زيادة فى الايمان وقوة فى اليقين انتهى وقال العراقى فى ارجوزته
اعلام طاعة هى الشعائر
البيت وقالت فرقة قصد بالشعائر فى هذه الآية الهدى والإنعام المشعرة ومعنى تعظيمها التسمين والاهتبال بأمرها قاله ابن عباس وغيره ثم اختلف المتأولون فى قوله سبحانه لكم فيها منافع الآية فقال مجاهد وقتادة اراد ان للناس فى انعامهم منافع من الصوف واللبن والذبح للأكل وغير ذلك مالم يبعثها ربها هديا فاذا بعثها فهو الأجل المسمى وقال عطاء اراد لكم فى الهدى المبعوث منافع من الركوب والإحتلاب لمن اضطروا لأجل نحرها وتكون ثم من قوله ثم محلها الى البيت العتيق لترتيب ابحمل لان المحل قبل الأجل ومعنى الكلام عند هذين الفريقين ثم محلها الى موضع النحر وذكر البيت لأنه اشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره وقال ابن زيد والحسن وابن عمر ومالك الشعائر فى هذه الآية مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا (3/79)
والمروة والبيت وغير ذلك وفى الآية التى تأتي ان البدن من الشعائر والمنافع التجارة وطلب الرزق او الأجر والمغفرة والأجل المسمى الرجوع الى مكة لطواف الافاضة ومحلها مأخوذ من إحلال المحرم والمعنى ثم اخروا هذا كله الى طواف الافاضة بالبيت العتيق فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه قاله مالك فى الموطإ ت واظهر هذه التاويلات عندى تاويل عطاء وفى الثالث بعض تكلف ثم اخبر تعالى انه جعل لكل امة من الامم المؤمنة منسكا اي موضع نسك وعبادة هذا على ان المنسك ظرف ويحتمل ان يريد به المصدر كأنه قال عبادة والناسك العابد وقال مجاهد سنة فى هراقة دماء الذبائح
وقوله ليذكروا اسم الله معناه امرناهم عند ذبائحهم بذكر الله وان يكون الذبح له لأنه رازق ذلك وقوله فله أسلموا اي ءامنوا ويحتمل ان يريد استسلموا ثم امر سبحانه نبيه صلى الله عليه و سلم ان يبشر بشارة على الإطلاق وهى ابلغ من المفسرة لأنها مرسلة مع نهاية التخيل للمخبتين المتواضعين الخاشعين المؤمنين والخبت ما انخفض من الأرض والمخبت المتواضع الذى مشيه متطامن كأنه فى حدور من الأرض وقال عمرو بن أوس المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا قال ع وهذا مثال شريف من خلق المؤمن الهين اللين وقال مجاهد هم المطمئنون بأمر الله تعالى ووصفهم سبحانه بالخوف والوجل عند ذكر الله تعالى وذلك لقوة يقينهم ومراقبتهم لربهم وكأنهم بين يديه جل وعلا ووصفهم بالصبر وبإقامة الصلاة وإدامتها وروي أن هذه الآية قوله وبشر المخبتين نزلت في ابي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين
وقوله سبحانه والبدن جعلناها لكم من شعائر الله البدن جمع بدنة وهى ما اشعر من ناقة او بقرة قاله عطاء وغيره وسميت بذلك لأنها تبدن اي تسمن وقيل بل هذا الاسم خاص بالإبل والخير هنا قيل فيه ما قيل (3/80)
فى المنافع التى تقدم ذكرها والصواب عمومه فى خير الدنيا والآخرة
وقوله عليها يريد عند نحرها وصواف اي مصطفة وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وغيرهم صوافن جمع صافنة وهي التى رفعت إحدى يديها بالعقل ليلا تضطرب ومنه فى الخيل الصافنات الجياد ووجبت معناه سقطت
وقوله فكلوا منها ندب وكل العلماء يستحب ان يأكل الإنسان من هديه وفيه اجر وامتثال اذ كان اهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم وتحرير القول فى القانع انه السائل والمعتر المتعرض من غير سؤال قاله الحسن ومجاهد وغيرهما وعكست فرقة هذا القول فحكى الطبرى عن ابن عباس انه قال القانع المستغنى بما اعطيته والمعتر هو المتعرض وحكى عنه انه قال القانع المتعفف والمعتر السائل قال ع يقال قنع الرجل بفتح النون يقنع قنوعا فهو قانع اذا سأل فالقانع هو السائل بفتح النون في الماضى وقنع بكسر النون يقنع قناعة فهو قنع اذا تعفف واستغنى ببلغته قاله الخليل بن احمد
وقوله سبحانه لن ينال الله لحومها الآية عبارة مبالغة وهى بمعنى لن ترفع عنده سبحانه وتتحصل سبب ثواب والمعنى ولكن تنال الرفعة عنده وتحصل الحسنة لديه بالتقوى
وقوله تعالى لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين روى ان قوله وبشر المحسنين نزلت فى الخلفاء الأربعة حسبما تقدم فى التى قبلها وظاهر اللفظ العموم فى كل محسن
وقوله سبحانه ان الله يدافع عن الذين ءامنوا الآية وقرأ ابو عمرو وابن كثير يدفع ولولا دفع قال ابو على اجريت دافع مجرى دفع كعاقبت اللص وطارقت النعل قال ابو الحسن الأخفش يقولون دافع دافع الله عنك ودفع عنك الا ان دفع اكثر فى الكلام قال ع ويحسن يدافع لانه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويوذيهم فيجىء دفعه سبحانه مدافعة عنهم وروى ان هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة واذاهم الكفار هم بعضهم (3/81)
ان يقتل من امكنه من الكفار ويغتال ويغدر فنزلت هذه الآية الى قوله كفور ثم اذن الله سبحانه فى قتال المؤمنين لمن قاتلهم من الكفار بقوله اذن للذين يقاتلون
وقوله بأنهم ظلموا معناه كان الاذن بسبب أنهم ظلموا قال ابن جريح وهذه الآية اول ما نقضت الموادعة قال ابن عباس وابن جريج نزلت عند هجرة النبى صلى الله عليه و سلم الى المدينة وقال ابو بكر الصديق لما سمعتها علمت انه سيكون قتال ت وهذا الحديث خرجه الترمذى قال ابن العربى ومعنى اذن أبيح وقرئى يقاتلون بكسر التاء وفتحها فعلى قراءة الكسر تكون الآية خبرا عن فعل الماذون لهم وعلى قراءة الفتح فالآية خبر عن فعل غيرهم وان الإذن وقع من اجل ذلك لهم ففى فتح التاء بيان سبب القتال وقد كان الكفار يتعمدون النبى صلى الله عليه و سلم والمؤمنين بالإذاية ويعاملونهم بالنكاية وقد قتل ابو جهل سمية ام عمار بن ياسر وعذب بلال وبعد ذلك جاء الانتصار بالقتال انتهى ثم وعد سبحانه بالنصر فى قوله وإن الله على نصرهم لقدير
وقوله سبحانه الذين اخرجوا من ديارهم يريد كل من خرج من مكة وءاذاه اهلها حتى اخرجوه باذايتهم طائفة الى الحبشة وطائفة الى المدينة ونسب الإخراج الى الكفار لأن الكلام فى معرض تقرير الذنب وإلزامه لهم
وقوله الا ان يقولوا ربنا الله استثناء منقطع قال ص واجاز ابو اسحاق وغيره ان يكون فى موضع بدلامن حق اي بغير موجب سوى التوحيد الذى ينبغى ان يكون موجب الاقرار لاموجب الاخراج ومثله هل تنقمون منا الا ان آمنا بالله انتهى وهو حسن من حيث المعنى والانتقاد عليه مزيف
وقوله ولولا دفاع الله الناس الآية تقويه للأمر بالقتال وذكر انه متقدم فى الامم وبه صلحت الشرائع فكأنه قال اذن فى القتال فليقاتل المؤمنون ولولا القتال والجهاد لتغلب على الحق (3/82)
فى كل امة هذا اصوب تأويلات الآية والصومعة موضع العبادة وهى بناء مرتفع منفرد حديد الاعلى والأصمع من الرجال الحديد القول وكانت قبل الاسلام مختصة برهبان النصارى وعباد الصابين قاله قتادة ثم استعملت فى مئذنة المسلمين والبيع كنائس النصارى واحدتها بيعه وقال الطبرى قيل هى كنائس اليهود ثم ادخل عن مجاهد مالا يقتضى ذلك والصلوات مشتركة لكل ملة واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطيلها أو أراد موضع صلوات وقال ابو العالية الصلوات مساجد الصابين وقيل غير هذا
وقوله يذكر فيها الضمير عائد على جميع ما تقدم ثم وعد سبحانه بنصره دينه وشرعه وفى ذلك حض على القتال والجد فيه ثم الآية تعم كل من نصر حقا الى يوم القيامة
وقوله سبحانه الذين ان مكناهم فى الارض اقاموا الصلاة الآية قالت فرقة هذه الآية فى الخلفاء الأربعة والعموم فى هذا كله ابين وبه يتجه الأمر فى جميع الناس وانما الآية ءاخذة عهدا على كل من مكن فى الأرض على قدر ما مكن والآية أمكن ما هى فى الملوك
وقوله سبحانه ولله عاقبة الأمور توعد للمخالف عن هذا الامور التى تقتضيها الآية لمن مكن
وقوله سبحانه وان يكذبوك يعنى قريشا فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم وقوم لوط واصحاب مدين وكذب موسى الآية فيها وعيد لقريش وامليت معناه أمهلت والنكير مصدر بمعنى الانكار
وقوله وبير معطلة قيل هو معطوف على العروش وقيل على القرية وهو اصوب ثم وبخهم تعالى على الغفلة وترك الاعتبار بقوله أفلم يسيروا فى الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وهذه الآية تقتضى ان العقل فى القلب وذلك هو الحق ولا ينكر ان للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ
وقوله فتكون نصب بالفاء فى جواب الاستفهام صرف الفعل من الجزم الى النصب (3/83)
وقوله سبحانه فإنها لا تعمى الأبصار لفظ مبالغة كأنه قال ليس العمى عمى العين وإنما العمى كل العمى عمى القلب ومعلوم ان الأبصار تعمى ولكن المقصود ما ذكرنا وهذا كقوله صلى الله عليه و سلم
ليس الشديد بالصرعة وليس المسكين بهذا الطواف والضمير فى انها للقصة ونحوها من التقدير والضمير فى يستعجلونك لقريش
وقوله ولن يخلف الله وعده وعيد وإخبار بان كل شىء الى وقت محدود والوعد هنا مقيد بالعذاب
وقوله سبحانه وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون قالت فرقة معناه وان يوما من ايام عذاب الله كألف سنة من هذه لطول العذاب وبؤسه فكان المعنى اي من هذه السنين فما اجهل من يستعجل هذا وكرر قوله وكأين لأنه جلب معنى آخر ذكر اولا القرى المهلكة دون املاء بل بعقب التكذيب ثم ثنى سبحانه بالممهلة ليلا يفرح هؤلاء بتأخير العذاب عنهم وباقى الآية بين والرزق الكريم الجنة ومعاجزين معناه مغالبين كأنهم طلبوا عجز صاحب الآيات والآيات تقتضي تعجيزهم فصارت مفاعلة
وقوله سبحانه وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبى الا اذا تمنى القى الشيطان فى امنيته الآية ت قال القاضى ابو الفضل عياض وقد توجهت ها هنا لبعض الطاعنين سؤالات منها ما روى من ان النبى صلى الله عليه و سلم لما قرأ سورة والنجم وقال افرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى قال تلك الغرانيق العلى وان شفاعتها لترتجى قال عياض اعلم اكرمك الله ان لنا فى الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين احدهما فى توهين اصله والثانى على تقدير تسليمه اما المأخذ الاول فيكفيك ان هذا حديث لم يخرجه احد من اهل الصحة ولارواه ثقة بسند متصل سليم وانما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم وصدق القاضى ابو بكر (3/84)
ابن العلاء المالكى رحمه الله تعالى حيث يقول لقد بلي الناس ببعض اهل الأهواء والتفسير ثم قال عياض قال ابو بكر البزار هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبى صلى الله عليه و سلم باسناد متصل يجوز ذكره وانما يعرف عن الكلبى قال عياض والكلبى ممن لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه كما اشار اليه البزار وقد اجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه و سلم ونزاهته عن مثل هذا انتهى ونحو هذا لابن عطية قال وهذا الحديث الذى فيه هن الغرانقة وقع فى كتب التفسير ونحوها ولم يدخله البخارى ولا مسلم ولا ذكره فى علمى مصنف مشهور بل يقتضى مذهب اهل الحديث ان الشيطان القى ولا يعينون هذا السبب ولا غيره قال ع وحدثنى ابى رحمه الله تعالى انه لقى بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال هذا لا يجوز على النبى صلى الله عليه و سلم وهو المعصوم فى التبليغ وانما الأمر يعنى على تقدير صحته ان الشيطان نطق بلفظ اسمعه الكفار عند قول النبى صلى الله عليه و سلم
افرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وقرب صوته من صوت النبى صلى الله عليه و سلم حتى التبس الأمر على المشركين وقالوا محمد قرأها هذا على تقدير صحته وقد روى نحو هذا التأويل عن الإمام ابى المعالى ت قال عياض وقد اعاذنا الله من صحته وقد حكى محمد بن عقبة فى مغازيه نحو هذا وقال ان المسلمين لم يسمعوها وانما القى الشيطان ذلك فى اسماع المشركين ومعنى قوله تعالى تمنى اي تلا ومنه قوله تعالى لا يعلمون الكتاب الا امانى اي تلاوة فينسخ الله ما يلقى الشيطان اي يذهبه ويزيل اللبس به ويحكم ءاياته وعبارة البخارى وقال ابن عباس اذا تمنى القى الشيطان فى امنيته اي اذا حدث القى الشيطان فى حديثه فيبطل الله ما يلقى الشيطان ويحكم ءاياته ويقال امنيته قراءته انتهى قال عياض وقيل معنى الآية هو ما يقع للنبى صلى (3/85)
الله عليه وسلم من السهو اذا قرأ فيتنبه لذلك ويرجع عنه انتهى
وقوله سبحانه ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة الفتنة الامتحان والاختبار والذين فى قلوبهم مرض عامة الكفار والقاسية قلوبهم خواص منهم عتاة كأبى جهل وغيره والشقاق البعد عن الخير والكون فى شق غير شق الصلاح والذين اوتو العلم هم اصحاب نبينا محمد صلى الله عليه و سلم والضمير فى انه عائد على القرءان فتخبت له قلوبهم معناه تتطامن وتخضع وهو ماخوذ من الخبت وهو المطمئن من الارض كما تقدم ولا يزال الذين كفروا فى مرية منه اي من القرءان والمرية الشك حتى تأتيهم الساعة يعنى يوم القيامة او يأتيهم عذاب يوم عقيم قيل يوم بدر وقيل الساعة ساعة موتهم واليوم العقيم يوم القيامة
وقوله سبحانه والذين هاجروا فى سبيل الله ثم قتلوا او ماتوا الآية ابتداء معنى آخر وذلك انه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الاسد قال بعض الناس من قتل من المهاجرين افضل ممن مات حتف انفه فنزلت هذه الآية مسوية بينهم فى ان الله تعالى يرزق جميعهم رزقا حسنا وليس هذا بقاض بتساويهم فى الفضل وظاهر الشريعة ان المقتول افضل وقد قال بعض الناس المقتول والميت فى سبيل الله شهيدان ولكن للمقتول مزية ما اصابه فى ذات الله والرزق الحسن يحتمل ان يريد به رزق الشهداء عند ربهم فى البرزخ ويحتمل ان يريد بعد يوم القيامة فى الجنة وقرأت فرقة مدخلا بضم الميم من ادخل فهو محمول على الفعل المذكور وقرأت فرقة مدخلا بفتح الميم من دخل فهومحمول على فعل مقدر تقديره فيدخلون مدخلا ثم اخبر سبحانه عمن عاقب من المؤمنين من ظلمه من الكفرة ووعد المبغى عليه بانه ينصره وذلك ان هذه الآية نزلت فى قوم من المومنين لقيهم كفار فى الاشهر الحرم فابى المؤمنين من قتالهم وابى المشركون الا القتال فلما اقتتلوا جد المومنين ونصرهم الله تعالى فنزلت (3/86)
الآية فيهم وجعل تقصير الليل وزيادة النهار وعكسهما ايلاجا تجوزا وتشبيها وباقى الآية بين
وقوله سبحانه ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ان الله لطيف خبير له ما فى السموات وما فى الارض وان الله لهو الغنى الحميد قوله فتصبح عبارة عن استعجالها اثر نزول الماء وروى عن عكرمة انه قال هذا لا يكون الا بمكة وتهامة قال ع ومعنى هذا انه اخذ قوله فتصبح مقصودا به صباح ليلة المطر وذهب الى ان ذلك الاخضرار فى سائر البلاد يتأخر قال ع وقد شاهدت هذا فى السوس الأقصى نزل المطر ليلا بعد قحط واصبحت تلك الارض الرملة التى تسفيها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف دقيق ت وقد شاهدت انا ذلك بصحراء سواكن بالمشرق وهى فى حكم مكة الا ان البحر قد حال بينهما وذلك ان التعدية من جدة الى سواكن مقدار يومين فى البحر او اقل بالريح المعتدلة وكان ذللك فى اول الخريف واجرى الله العادة ان امطار تلك البلاد تكون بالخريف فقط هذا هو الغالب ولما شاهدت ذلك تذكرت هذه الآية الكريمة فسبحان الله ما اعظم قدرته واللطيف المحكم للأمور برفق
وقوله سبحانه الم تر ان الله سخر لكم ما فى الارض والفلك تجرى فى البحر بامره اي سخر لنا سبحانه ما فى الارض من الحيوان والمعادن وسائر المرافق وباقى الآية بين مما ذكر فى غير هذا الموضع
وقوله سبحانه لكل امة جعلنا منسكا الآية المنسك المصدر فهو بمعنى العبادة والشرعة وهو ايضا موضع النسك وقوله هم ناسكوه يعطى ان المنسك المصدر ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه
وقوله سبحانه وإن جادلوك الآية موادعة محضة نسختها ءاية السيف وباقى الآية وعيد
وقوله سبحانه إن ذلك فى كتاب يعنى اللوح المحفوظ
وقوله إن ذلك على الله يسير يحتمل أن تكون الإشارة الى الحكم فى الاختلاف (3/87)
وقوله سبحانه واذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر يعنى ان كفار قريش كانوا اذا تلى عليهم القرءان وسمعوا ما فيه من رفض ءالهتهم والدعاء الى التوحيد عرفت المساءة فى وجوههم والمنكرمن معتقدهم وعداوتهم وانهم يريدون ويتسرعون الى السطوة بالتالين والسطو ايقاع ببطش ثم امر تعالى نبيه عليه السلام ان يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع افأنبئكم اي اخبركم بشر من ذلكم والإشارة بذلكم الى السطو ثم ابتدأ بخبر كأن قائلا قال له وما هو قال النار اي نار جهنم
وقوله وعدها الله الذين كفروا يحتمل ان يكون اراد ان الله وعدهم بالنار فيكون الوعد فى الشر ويحتمل انه اراد ان الله سبحانه وعد النار بأن يطعمها الكفار فيكون الوعد على بابه اذ الذى يقتضى قولها هل من مزيد ونحو ذلك ان ذلك من مسارها ت والظاهر الأول
وقوله سبحانه وان يسلبهم الذباب شيأ لا يستنقذوه منه الآية ذكر تعالى امر سلب الذباب وذلك انهم كانوا يضمخون اوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يتسلط ويذهب بذلك الطيب وكانوا يتألمون من ذلك فجعلت مثلا واختلف المتأولون فى قوله تعالى ضعف الطالب والمطلوب فقالت فرقة اراد بالطالب الاصنام وبالمطلوب الذباب اي انهم ينبغى ان يكونوا طالبين لما يسلب من طيبهم على معهود الأنفة فى الحيوان وقيل معناه ضعف الكفار فى طلبهم الصواب والفضيلة من جهة الأصنام وضعف الأصنام فى اعطاء ذلك وانالته قال ع ويحتمل ان يريد ضعف الطالب وهو الذباب فى استلابه ما على الأصنام وضعف الأصنام فى ان لامنعه لهم وبالجملة فدلتهم الآية على ان الاصنام فى احط رتبة واخس منزلة لو كانوا يعقلون وما قدروا الله حق قدره المعنى ما وفوه حقه سبحانه من التعظيم والتوحيد
وقوله سبحانه الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس الآية نزلت بسبب (3/88)
قول الوليد بن المغيرة انزل عليه الذكر من بيننا ص ابو البقاء ومن الناس اي رسلا انتهى ثم امر سبحانه بعبادته وخص الركوع والسجود بالذكر تشريفا للصلاة واختلف الناس هل فىهذه الآية سجدة ام لا قال ابن العربى فى احكامه قوله تعالى يا ايها الذين امنوا اركعوا واسجدوا تقبلها قوم على انها سجدة تلاوة فسجدوها وقال ءاخرون هو سجود الصلاة فقصروه عليه ورأى عمر وابنه عبد الله رضى الله عنهما انها سجدة تلاوة وانى لأسجدها واراها كذلك لما روى ابن وهب وغيره عن مالك وغيره انتهى وقوله سبحانه وافعلوا الخير ندب فيما عدا الواجبات ت وهذه الآية الكريمة عامة فى انواع الخيرات ومن اعظمها الرأفة والشفقة على خلق الله ومواساة الفقراء واهل الحاجة وقد روى ابو داود والترمذى عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال
ايما مسلم كسا مسلما ثوبا على عرى كساه الله من خضر الجنة وايما مسلم اطعم مسلما على جوع اطعمه الله من ثمار الجنة وايما مسلم سقى مسلما على ظمإ سقاه الله من الرحيق المختوم انتهى وروى علي بن عبد العزيز البغوى فى المسند المنتخب عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال ايما مسلم كسا مسلما ثوبا كان فى حفظ الله ما بقيت عليه منه رقعة وروى ابن ابى شيبة فى مسنده عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال ايما اهل عرصة ظل فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله انتهى من الكوكب الدرى
وقوله سبحانه وجاهدوا فى الله حق جهاده قالت فرقة الآية فى قتال الكفار وقالت بل هى اعم من هذا وهو جهاد النفس وجهاد الكفار والظلمة وغير ذلك امر الله عباده بأن يفعلوا ذلك فى ذات الله حق فعله قال ع والعموم ااحسن وبين ان عرف اللفظة يقتضى القتال فى سبيل الله
وقوله هو اجتباكم اي تخيركم وما جعل عليكم فى الدين من حرج اي من تضييق وذلك ان الملة حنيفية سمحة ليست (3/89)
كشدائد بنى اسراءيل وغيرهم بل فيها التوبة والكفارات والرخص ونحو هذا مما يكثر عده ورفع الحرج عن هذه الأمة لمن استقام منهم على منهاج الشرع واما السلابة والسراق واصحاب الحدود فهم ادخلوا الحرج على انفسهم بمفارقتهم الدين وليس فى الدين اشد من الزام رجل لاثنين فى سبيل الله ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج وملة نصب بفعل مضمر من افعال الإغراء
وقوله هو سماكم قال ابن زيد الضمير لابراهيم والإشارة الى قوله ومن ذريتنا امة مسلمة لك وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد الضمير لله عز و جل ومن قبل معناه فى الكتب القديمة وفى هذا اي فى القرءان وهذه اللفظة تضعف قول من قال الضمير لابراهيم عليه السلام ولا يتوجه الا على تقدير محذوف من الكلام مستأنف قال ص هو قيل يعود على الله تعالى وقيل على ابراهيم وعلى هذا فيكون وفى هذا القرءان اي وسميتم بسببه فيه انتهى
وقوله سبحانه ليكون الرسول شهيدا عليكم اي بالتبليغ
وقوله وتكونوا شهداء على الناس اي بتبليغ رسلهم اليهم على ما اخبركم نبيكم ثم امر سبحانه بالصلاة المفروضة ان تقام ويدام عليها بجميع حدودها وبالزكاة ان تؤدى ثم امر سبحانه بالاعتصام به اي بالتعلق به والخلوص له وطلب النجاة منه ورفض التوكل على سواه
وقوله سبحانه هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير المولى فى هذه الآية معناه الذى يليكم نصره وحفظه وباقى الآية بين (3/90)
تفسير سورة المؤمنين وهى مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله سبحانه قد افلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون اخبر الله سبحانه عن فلاح المؤمنين وانهم نالوا البغية واحرزوا البقاء الدائم ت وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا نزل عليه الوحى يسمع عند وجهه صلى الله عليه و سلم دوى كدوى النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة وسرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال
اللهم زدنا ولا تنقصنا واكرمنا ولا تهنا واعطنا ولا تحرمنا وءاثرنا ولا تؤثر علينا وارضنا وارض عنا ثم قال انزلت على عشر ءايات من اقامهن دخل الجنة ثم قرأ قد افلح المؤمنون حتى ختم عشر ءايات رواه الترمذى واللفظ له والنساءى والحاكم فى المستدرك وقال صحيح الإسناد انتهى من سلاح المؤمن ت وقد نص بعض ائمتنا على وجوب الخشوع فى الصلاة قال الغزالى رحمه الله ومن مكائد الشيطان ان يشغلك فى الصلاة بفكر الآخرة وتدبير فعل الخيرات لتمتنع عن فهم ما تقرأة واعلم ان كل ما اشغلك عن معانى قراءتك فهو وسواس فإن حركة اللسان غير مقصودة بل المقصود معانيها انتهى من الأحياء وروى عن مجاهد ان الله تعالى لما خلق الجنة واتقن حسنها قال قد افلح المؤمنون ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين فقال الذين هم فى صلاتهم خاشعون والخشوع التطامن وسكون الاعضاء والوقار وهذا انما يظهر فى الأعضاء ممن فى قلبه (3/91)
خوف واستكانه لأنه اذا خشع قلبه خشعت جوارحه وروى ان سبب الآية ان المسلمين كانوا يلتفتون فى صلاتهم يمنة ويسرة فنزلت هذه الآية وأمروا ان يكون بصر المصلى حذاء قبلته او بين يديه وفى الحرم الى الكعبة واللغو سقط القول وهذا يعم جميع ما لا خير فيه ويجمع ءاداب الشرع وكذلك كان النبى صلى الله عليه و سلم واصحابه اي يعرضون عن اللغو وكأن الآية فيها موادعة
والذين هم للزكوة فاعلون ذهب الطبرى وغيره الى انها الزكاة المفروضة فى الأموال وهذا بين ويحتمل اللفظ ان يريد بالزكاة الفضائل كأنه اراد الأزكى من كل فعل كما قال تعالى خير منه زكاة واقرب رحما
وقوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون الى قوله العادون يقتضى تحريم الزنا والاستمناء ومواقعة البهائم وكل ذلك داخل فى قوله وراء ذلك ويريد وراء هذا الحد الذى حد والعادى الظالم والأمانة والعهد يجمع كل ما تحمله الانسان من امر دينه ودنياه قولا وفعلا وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك ورعاية ذلك حفظه والقيام به والأمانة اعم من العهد اذ كل عهد فهو امانة وقرأ الجمهور صلوتهم وقرأ حمزة والكساءى صلاتهم بالافراد والوارثون يريد الجنة وفى حديث ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه و سلم ان الله تعالى جعل لكل انسان مسكنا فى الجنة ومسكنا فى النار فاما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار ويحصل الكفار فى منازلهم فى النار ت وخرجه ابن ماجه ايضا بمعناه عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منكم الا من له منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار فإذا مات يعنى الانسان ودخل النار ورث اهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى اولئك هم الوارثون قال القرطبى فى التذكرة اسناده صحيح انتهى من التذكرة قال ع ويحتمل ان يسمى الله تعالى حصولهم فى الجنة وراثة من حيث حصلوها دون غيرهم وفى الحديث عنه صلى الله عليه (3/92)
وسلم انه قال ان الله احاط حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وغرس غراسها بيده وقال لها تكلمى فقالت قد أفلح المؤمنون فقال طوبى لك منزل الملوك خرجه البغوى فى المسند المنتخب له انتهى من الكوكب الدرى
وقوله سبحانه ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين الآية اختلف فى قوله الانسان فقال قتادة وغيره اراد ءادم عليه السلام لانه استل من الطين وقال ابن عباس وغيره المراد ابن ءادم والقرار المكين من المرأة هو موضع الولد والمكين المتمكن والعلقة الدم الغليظ والمضغة بضعة اللحم قدر ما يمضغ واختلف فى الخلق الآخر فقال ابن عباس وغيره هو نفخ الروح فيه وقال ابن عباس ايضا هو خروجه الى الدنيا وقال ايضا تصرفه فى امور الدنيا وقيل هو نبات شعره قال ع وهذا التخصيص كله لاوجه له وانما هو عام فى هذا وغيره من وجوه النطق والادراك وحسن المحاولة وتبارك مطاوع بارك فكأنها بمنزلة تعالى وتقدس من معنى البركة
وقوله احسن الخالقين معناه الصانعين يقال لمن صنع شيأ خلقه وذهب بعض الناس الى نفى هذه اللفظة عن الناس فقال ابن جريج انما قال الخالقين لأنه تعالى اذن لعيسى فى ان يخلق واضطرب بعضهم فى ذلك قال ع ولا تنفى اللفظة عن البشر فى معنى الصنع وانما هى منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم
وقوله سبحانه ثم انكم بعد ذلك لميتون اي بعد هذه الاحوال المذكورة ويريد بالسبع الطرائق السموات والطرائق كل ما كان طبقات بعضه فوق بعض ومنه طارقت نعلى ويجوز ان تكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الشىء ت وقوله تعالى وانزلنا من السماء ماء بقدر الآية ظاهر الآية انه ماء المطر واسند ابو بكر ابن لخطيب فى اول تاريخ بغداد عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال انزل الله من الجنة الى الارض خمسة انهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر انزلها الله تعالى (3/93)
من عين واحدة من عيون الجنة من اسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل فاستودعها الجبال واجراها فى الأرض وجعل فيها منافع للناس فى اصناف معايشهم فذلك قوله تعالى وانزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه فى الارض فاذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرءان والعلم كله والحج من ركن البيت ومقام ابراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع ذلك كله الى السماء فذلك قوله تعالى وانا على ذهاب به لقادرون فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد اهلها خير الدين والدنيا وفى رواية خير الدنيا والآخرة انتهى فان صح هذا الحديث فلا نظر لأحد معه ونقل ابن العربى فى احكامه هذا الحديث ايضا عن ابن عباس وغيره ثم قال فى ءاخره وهذا جائز فى القدرة ان صحت به الرواية انتهى قال ع قوله تعالى ماء بقدر قال بعض العلماء اراد المطر وقال بعضهم انما اراد الأنهار الأربعة سيحان وجيحان والفرات والنيل قال ع والصواب ان هذا كله داخل تحت الماء الذى انزله الله تعالى
وقوله تعالى لكم فيها فواكه كثيرة يحتمل ان يعود الضمير على الجنات فيشمل انواع الفواكه ويحتمل ان يعود على النخيل والأعناب خاصة اذ فيهما مراتب وانواع والأول اعم لسائر الثمرات
وقوله سبحانه وشجرة عطف على قوله جنات ويريد بها الزيتونة وهى كثيرة في طور سيناء من ارض الشام وهو الجبل الذى كلم فيه موسى عليه السلام قاله ابن عباس وغيره والطور الجبل فى كلام العرب واختلف فى سيناء فقال قتادة معناه الحسن وقال الجمهور هو اسم الجبل كما تقول جبل احد وقرأ الجمهور تنبت بفتح التاء وضم الباء فالتقدير تنبت ومعها الدهن كما تقول خرج زيد بسلاحه وقرأ ابن كثير وابو عمرو تنبت بضم التاء وكسر الباء واختلف فى التقدير على هذه القراءة فقالت فرقة الباء زائدة (3/94)
كما فى قوله تعالى ولا تلقوا بأيدكم الى التهلكة وقالت فرقة التقدير تنبت جناها ومعه الدهن فالمفعول محذوف وقيل نبت وانبت بمعنى فيكون المعنى كما مضى فى قراءة الجمهور والمراد بالآية تعيد ! النعم على الانسان وباقى الآية بين
وقوله سبحانه ولقد ارسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره افلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا الا بشر مثلكم يريد ان يتفضل عليكم الآية هذا ابتداء تمثيل لكفار قريش بامم كفرت بانبيائها فاهلكوا وفى ضمن ذلك الوعيد بان يحل بهؤلاء نحو ما حل بأولائك والملأ الأشراف والجنة الجنون وحتى حين معناه الى وقت يريحكم القدر منه ثم ان نوحا عليه السلام دعا على قومه حين يئس منهم وان كان دعاؤه فى هذه الآية ليس بنص وانما هو ظاهر من قوله بما كذبون فهذا يقتضى طلب العقوبة واما النصرة بمجردها فكانت تكون بردهم الى الايمان
وقوله عز و جل فاوحينا اليه ان اصنع الفلك باعيننا ووحينا فإذا جاء امرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين واهلك الا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا انهم مغرقون فإذا استويت انت ومن معك على الفلك الحمد لله قوله بأعيننا عبارة عن الادراك هذا مذهب الحذاق ووقفت الشريعة على اعين وعين ولا يجوز ان يقال عينان من حيث لم توقف الشريعة على التثنية ووحينا معناه فى كيفية العمل ووجه البيان لجميع حكم السفينة وما يحتاج اليه وامرنا يحتمل ان يكون واحد الأوامر ويحتمل ان يريد واحد الأمور والصحيح من الأقوال فى التنور انه تنور الخبز وانها إمارة كانت بين الله تعالى وبين نوح عليه السلام
وقوله فاسلك معناه فادخل يقال سلك واسلك بمعنى وقرأ حفص عن عاصم من كل بالتنوين والباقون بغير تنوين والزوجان كل ما شأنه الاصطحاب من كل شىء نحوالذكر والانثى من الحيوان ونحو النعال (3/95)
وغيرها هذا موقع اللفظة فى اللغة
وقوله وأهلك يريد قرابته ثم استثنى من سبق عليه القول بأنه كافر وهو ابنه وامرأته ثم أمر نوح ان لا يراجع ربه ولا يخاطبه شافعا فى احد من الظالمين ثم امر بالدعاء فى بركة المنزل
وقوله سبحانه ان فى ذلك لآيات خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم ثم اخبر سبحانه انه يبتلى عباده الزمن بعد الزمن على جهة الوعيد لكفار قريش بهذا الأخبار واللام فى لمبتلين لام تأكيد ومبتلين معناه مصيبين ببلاء ومختبرين اختبارا يؤدى الى ذلك
وقوله سبحانه ثم انشانا من بعدهم قرنا آخرين قال الطبرى رحمه الله ان هذا القرن هم ثمود قوم صالح قال ع وفى جل الروايات ما يقتضى ان قوم عاد اقدم الا انهم لم يهلكوا بصيحة ت وهو ظاهر ترتيب قصص القرءان ان عادا اقدم واترفناهم معناه نعمناهم وبسطنا لهم الأموال والارزاق وقولهم ايعدكم استفهام على جهة الاستبعاد وانكم الثانية بدل من الاولى عند سيبويه وقولهم هيهات هيهات استبعاد وهيهات احيانا تلى الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد اي بعد ذلك ومنه قول جرير ... فهيهات هيهات العقيق ومن به ... وهيهات خل بالعقيق نواصله ...
أحيانا يكون الفاعل محذوفا وذلك عند وجود اللام كهذه الآية التقدير بعد الوجود لما توعدن قال ص ورد بأن فيه حذف الفاعل وحذف المصدر وهو الوجود وذلك غير جائز عند البصريين وذكر ابو البقاء ان اللام زائدة ما فاعل أي بعد ما توعدون قال أبو حيان وهذا تفسير معنى لا اعراب لأنه لم تثبت مصدرية هيهات انتهى وقولهم ان هى الا حياتنا الدنيا ارادوا انه لا وجود لنا غير هذا الوجود وانما تموت منا طائفة فتذهب وتجىء طائفة جديدة وهذا هو كفر الدهرية
وقوله قال عما قليل ليصبحن نادمين المعنى قال الله لهذا النبى الداعي عما قليل يندم قومك على كفرهم حين لا ينفعهم الندم ومن ذكر الصيحة ذهب الطبرى (3/96)
الى انهم قوم ثمود
وقوله بالحق اي بما استحقوا بافعالهم وبما حق منا فى عقوبتهم والغثاء ما يحمله السيل من زبده الذى لا ينتفع به فيشه كل هامد وتالف بذلك قال ابو حيان وبعدا منصوب بفعل محذوف اي بعدوا بعدا اي هلكوا انتهى ثم اخبر سبحانه انه انشأ بعد هؤلاء امما كثيرة كل امة باجل وفى كتاب لا تتعداه فى وجودها وعند موتها وتترى مصدر من تواتر الشىء
وقوله سبحانه فاتبعنا بعضهم بعضا اي فى الإهلاك
وقوله تعالى وجعلناهم احاديث يريد احاديث مثل وقلما يستعل الجعل حديثا الا فى الشر وعالين معناه قاصدين للعلو بالظلم وقولهم وقومهما لنا عأبدون معناه خادمون متذللون والطريق المعد المذلل ومن المهلكين يريد بالغرق
وقوله سبحانه ولقد آتينا موسى الكتاب يعنى التوراة ولعلهم يريد بنى اسراءيل لأن التوراة انما نزلت بعد هلاك فرعون والقبط والربوة المرتفع من الأرض والقرار التمكن وبين ان ماء هذه الربوة يرى معينا جاريا على وجه الأرض قاله ابن عباس والمعين الظاهر الجرى للعين فالميم زائدة وهو الذى يعاين جريه لا كالبير ونحوه ويحتمل ان يكون من قولهم معن الماء اذا كثر وهذه الربوة هى الموضع الذى فرت اليه مريم وقت وضع عيسى عليه السلام هذا قول بعض المفسرين واختلف الناس فى موضع الربوة فقال ابن المسيب هى الغوطة بدمشق وهذا اشهر الأقوال لأن صفة الغوطة انها ذات قرار ومعين على الكمال وقال كعب الاحبار الربوة بيت المقدس وزعم ان فى التوراة ان بيت المقدس اقرب الأرض الى السماء وانه يزيد على الأرض ثمانية عشر ميلا قال ع ويترجح ان الربوة فى بيت لحم من بيت المقدس لأن ولادة عيسى هنالك كانت وحينئذ كان الإيواء وقال ابن العربى فى احكامه اختلف الناس فى تعيين هذه الربوة على اقوال منها ما تفسر لغة ومنها ما تفسر نقلا فيفتقر الى صحة سنده الى النبى صلى الله عليه و سلم الا (3/97)
ان ها هنا نكتة وذلك انه اذا نقل الناس نقل تواتر ان هذا موضع كذا إن هذا الأمر جرى كذا وقع العلم به ولزم قبوله لان الخبر المتواتر ليس من شرطه الإيمان وخبر الآحاد لابد من كونه المخبر به بصفة الإيمان لأنه بمنزلة الشاهد والخبر المتواتر بمنزلة العيان وقد بينا ذلك فى اصول الفقه والذى شاهدت عليه الناس ورأيتهم يعينونه تعيين تواتر موضع فى سفح الجبل فى غربى دمشق انتهى وما ذكره من ان التواتر ليس من شرطه الإيمان هذا هو الصحيح وفيه خلاف الا انا لا نسلم ان هذا متواتر لاختلال شرطه انظر المنتهى لابن الحاجب
وقوله سبحانه يا ايها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا انى بما تعملون عليم يحتمل ان يكون معناه وقلنا يا ايها الرسل وقالت فرقة الخطاب بقوله يا ايها الرسل للنبى صلى الله عليه و سلم قال ع والوجه فى هذا ان يكون الخطاب للنبى صلى الله عليه و سلم وخرج بهذه الصيغة ليفهم وجيزا ان المقالة قد خوطب بها كل نبى أوهى طريقتهم التى ينبغى لهم الكون عليها كما تقول لعالم يا علماء انكم ائمة يقتدى بكم فتمسكوا بعلمكم وقال الطبرى الخطاب لعيسى ت والصحيح فى تاويل الآية انه أمر للمرسلين كما هو نص صريح فى الحديث الصحيح فلا معنى للتردد فى ذلك وقد روى مسلم والترمذى عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
ان الله طيب ولا يقبل الا طيبا وان الله امر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا ايها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا انى بما تعملون عليم وقال يا ايها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر اشعث اغبر يديه الى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك اه
وقوله تعالى وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاتقون فتقطعوا امرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون وهذه (3/98)
الآية تقوى ان قوله تعالى يا ايها الرسل انما هو مخاطبة لجميعهم وانه بتقدير حضورهم واذا قدرت يا ايها الرسل مخاطبة للنبى صلى الله عليه و سلم قلق اتصال هذه واتصال قوله فتقطعوا ومعنى الامة هنا الملة والشريعة والاشارة بهذه الى الحنيفية السمحة ملة ابراهيم عليه السلام وهو دين الاسلام
وقوله سبحانه فتقطعوا يريد الأمم اي افترقوا وليس بفعل مطاوع كما تقول تقطع الثوب بل هو فعل متعد بمعنى قطعوا وقرأ نافع زبرا جمع زبور وهذه القراءة تحتمل معنيين احدهما ان الامم تنازعت كتبا منزلة فانبعت فرقة الصحف وفرقة التوراة وفرقة الانجيل ثم حرف الكل وبدل وهذا قول قتادة والثانى انهم تنازعوا امرهم كتبا وضعوها وضلالة الفوها قاله ابن زيد وقرأ ابو عمروبخلاف زبرا بضم الزاى وفتح الباء ومعناها فرقا كزبر الحديد ومن حيث كان ذكر الأمم فى هذه الآية مثالا لقريش خاطب الله سبحانه نبيه محمد صلى الله عليه و سلم فى شأنهم متصلا بقوله فذرهم اي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم والغمرة ما عمهم من ضلالهم وفعل بهم فعل الماء الغمر بما حصل فيه والخيرات هنا نعم الدنيا
وقوله سبحانه والذين يؤتون ماءاتوا وقلوبهم وجلة الآية اسند الطبرى عن عائشة انها قالت قلت يا رسول الله قوله تعالى يوتون ماءاتوا اهى فى الذى يزنى ويسرق قال لا يابنت ابى بكر بل هى فى الرجل يصوم ويتصدق وقلبه وجل يخاف ان لا يتقبل منه قال ع ولا نظر مع الحديث والوجل نحو الاشفاق والخوف وصورة هذا الوجل اما المخلط فينبغى ان يكون ابدا تحت خوف من ان يكون ينفذ عليه الوعيد بتخليطه واما التقى او التائب فخوفه امر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت وفى قوله تعالى انهم الى ربهم راجعون تنبيه على الخاتمة وقال الحسن معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البر ويخافون ان لا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم وهذه عبارة حسنة (3/99)
وروى عن الحسن ايضا انه قال المومن يجمع احسانا وشفقه والمنافق يجمع اساءة وامنا ت ولهذا الخطب العظيم اطال الأولياء فى هذه الدار حزنهم واجروا على الوجنات مدامعهم قال ابن المبارك فى رقائق اخبرنا سفيان قال انما الحزن على قدر البصيرة قال ابن المبارك واخبرنا مالك بن مغول عن رجل عن الحسن قال ما عبد الله بمثل طول الحزن وقال ابن المبارك ايضا اخبرنا مسعر عن عبد الأعلى التيمى قال ان من اوتى من العلم مالا يبكيه لخليق ان لا يكون اوتى علما ينفعه لأن الله تعالى نعت العلماء فقال ان الذين اوتو العلم من قبله اذا يتلى عليهم الى قوله ويخرون للاذقان يبكون انتهى
وقوله سبحانه اولائك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون اي اليها سابقون وهذا قول بعضهم فى قوله لها وقالت فرقة معناه وهم من اجلها سابقون وقال الطبرى عن ابن عباس المعنى سبقت لهم السعادة فى الأزل فهم لها ورجحه الطبرى بأن اللام متمكنه فى المعنى
وقوله سبحانه ولدينا كتاب ينطق بالحق اظهر ما قيل فيه انه اراد كتاب احصاء الأعمال الذى ترفعه الملائكة وقيل الاشارة الى القرءان والاول اظهر
وقوله سبحانه بل قلوبهم فى غمرة من هذا اختلف فى الإشارة بقوله من هذا هل هى الى القرءان او الى كتاب الإحصاء او الى الدين بجملته او الى النبى صلى الله عليه و سلم ولهم اعمال اي من الفساد هم لها عاملون فى الحال والاستقبال والمترف المنعم فى الدنيا الذى هو منها فى سرف ويجرون معناه يستغيثون بصياح كصياح البقر وكثر استعال الجواز فى البشر ومنه قول الأعشى ... يراوح من صلوات المليك ... طورا سجودا وطورا جؤارا ...
وقال ص جأر الرجل الى الله تعالى اي تضرع قاله الحوفى انتهى وذهب مجاهد وغيره الى ان هذا العذاب المذكور هو الوعيد بيوم بدر وقيل غير هذا
وقوله سبحانه لا تجئروا اليوم اي يقال لهم يوم العذاب لا تجئروا اليوم (3/100)
وقوله قد كانت آياتى تتلى عليكم يعنى القرءان وتنكصون معناه ترجعون وراءكم وهذه استعارة للإعراض والإدبار عن الحق ومستكبرين حال والضمير فى به عائد على الحرم والمسجد وان لم يتقدم له ذكر لشهرته والمعنى انكم تعتقدون فى نفوسكم ان لكم بالمسجد الحرام اعظم الحقوق على الناس والمنزلة عند الله فانتم تستكبرون لذلك وليس الاستكبار من الحق وقالت فرقة الضمير عائد على القرءان المعنى يحدث لكم سماع ءاياتى كبرا وطغيانا وهذا قول جيد وذكر منذر ابن سعيد ان الضمير للنبي صلى الله عليه و سلم وهو متعلق بما بعده كأن الكلام تم في قوله مستكبرين ثم قال بمحمد صلى الله عليه و سلم وهو متعلق بما بعده كأن الكلام تم فى قوله مستكبرين ثم قال بمحمد عليه السلام سامرا تهجرون وسامرا حال وهو مفرد بمعنى الجمع يقال قوم سمر وسمر وسامر ومعناه سهر الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث وهذا اوجب معرفتها بالنجوم لأنها تجلس فى الصحراء فترى الطوالع من الغوارب وقرأ ابو رجاء سمارا وقرأ ابن عباس وغيره سمرا وكانت قريش تسمر حول الكعبة فى اباطليها وكفرها وقرأ السبعة غير نافع تهجرون بفتح التاء وضم الجيم قال ابن عباس معناه تهجرون الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجران المعروف وقال ابن زيد هو من هجر المريض اذا هذى اي تقولون اللغو من القول وقاله ابو حاتم وقرأ نافع وحده تهجرون بضم التاء وكسر الجيم وهى قراءة اهل المدينة ومعناه تقولون الفحش والهجر من القول وهذه اشارة الى سبهم النبى صلى الله عليه و سلم واصحابه قاله ابن عباس ايضا وغيره ثم وبخهم سبحانه بقوله افلم يدبروا القول لأنهم بعد التدبير والنظر الفاسد قال بعضهم شعر وبعضهم سحر وغير ذلك ام جاءهم ما لم يات ءاباءهم الأولين اي ليس ببدع بل قد جاء آباءهم الأولين وهم سالف الامم الرسل كنوح وابراهيم واسماعيل وغيرهم وفى هذا التأويل من التجوز ان جعل سالف المم ءاباء اذ الناس فى الجملة ءاخرهم من اولهم (3/101)
ام لم يعرفوا رسولهم المعنى الم يعرفوا صدقه وامانته مدة عمره صلى الله عليه و سلم
وقوله سبحانه ولو اتبع الحق اهواءهم قال ابن جريج وابو صالح الحق الله تعالى قال ع وهذا ليس من نمط الآية وقال غيرهما الحق هنا الصواب والمستقيم قال ع وهذا هو الأحرى ويستقيم على فساد السموات والأرض ومن فيهن لو كان بحكم هوى هؤلاء وذلك انهم جعلوا لله شركاء واولادا ولو كان هذا حقا لم تكن لله عز و جل الصفات العلية ولو لم تكن له سبحانه لم تكن الصنعة ولا القدرة كما هى وكان ذلك فساد السموات والارض ومن فيهن لو كان فيهما ءالهة الا الله لفسدتا
وقوله سبحانه بل اتيناهم بذكرهم قال ابن عباس بوعظهم ويحتمل بشرفهم وهو مروى ام تسئلهم خرجا الخرج والخراج بمعنى وهو المال الذى يجبى ويؤتى به لأوقات محدودة
وقوله سبحانه فخراج ربك خير يريد ثوابه ويحمل ان يريد بخراج ربك رزقه ويؤيده قوله وهو خير الرازقين والصراط المستقيم دين الاسلام وناكبون اي مجادلون ومعرضون وقال البخارى لناكبون لعادلون انتهى قال ابو حيان يقال نكب عن الطريق ونكب بالتشديد اي عدل عنه انتهى ثم اخبر تعالى عنهم انهم لو زال عنهم القحط ومن الله عليهم بالخصب ورحمهم بذلك لبقوا على كفرهم ولجوا فى طغيانهم وهذه الآية نزلت فى المدة التى اصاب فيها قريشا السنون الجدبة والجوع الذى دعا به النبى صلى الله عليه و سلم فى قوله
اللهم اجعلها عليهم سنين كسنى يوسف الحديث ولقد اخذناهم بالعذاب قال ابن عباس وغيره هو الجوع والجدب حتى اكلوا الجلود وما جرى مجراها وروى انهم لما بلغهم الجهد ركب ابو سفيان وجاء الى النبى صلى الله عليه و سلم بالمدينة فقال يا محمد الست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين قال بلى قال قد قتلت الآباء بالسيف والابناء بالجوع وقد اكلنا العلهز فنزلت الآية واستكانوا معناه تواضعوا وانخفضوا
وقوله سبحانه حتى اذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد الآية (3/102)
توعد بعذاب غير معين وهذا هو الصواب وهذه المجاعة انما كانت بعد وقعة بدر والملبس الذى قد نزل به شر ويئس من زواله ونسخه بخير ثم ابتدا تعالى بتعديد نعم فى نفس تعديدها استدلال بها على عظم قدرته سبحانه فقال وهو الذى أنشأ لكم السمع والأبصار الآية أنشأ بمعنى اخترع والأفئدة القلوب وذرأ بث وخلق
وقوله بل اضراب والجحد قبله مقدر كأنه ليس لهم نظر فى هذه الآيات او نحو والاولون يشير به الى الأمم الكافرة كعاد وثمود
وقوله تعالى لقد وعدنا نحن وءاباؤنا هذا من قبل 6 الآية قولهم وءاباؤنا ان حكى المقالة عن العرب فمرادهم من سلف من العالم جعلوهم ءاباء من حيث النوع واحد وكونهم سلفا وفيه تجوز وان حكى ذلك عن الاولين فالامر مستقيم فيهم
وقوله سبحانه قل لمن الأرض ومن فيها ان كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل افلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه ان كنتم تعلمون سيقولون لله قل فانى تسحرون امر الله تعالى نبيه عليه السلام بتوقيفهم على هذه الاشياء التى لا يمكنهم الا الإقرار بها ويلزم من الاقرار بها توحيد الله واذعانهم لشرعه ورسالة رسله وقرأ الجميع فى الاول لله بلا خلاف واختلف فى الثانى والثالث فقرأ ابو عمرو وحده الله جوابا على اللفظ وقرأ باقى السبعة لله جوابا على المعنى كانه قال فى السؤال لمن ملك السموات السبع
وقوله سبحانه فأنى تسحرون استعارة وتشبيه لما وقع منهم من التخليط ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها ما يقع من المسحور عبر عنهم بذلك وقالت فرقة تسحرون معناه تمنعون وحكى بعضهم ذلك لغة والإجارة المنع والمعنى ان الله اذا اراد منع احد فلا يقدر عليه واذا اراد اخذه فلا مانع له
وقوله سبحانه وانهم لكاذبون اي فيما ذكروه من الصاحبة والولد والشريك تعالى الله (3/103)
عن قولهم علوا كبيرا وفى قوله سبحانه وما كان معه من اله الآية دليل التمانع وهذا هو الفساد الذى تضمنه قوله تعالى لو كان فيهما ءالهة الا الله لفسدتا والجزء المخترع محال ان تتعلق به قدرتان فصاعدا وقد تقدم الكلام على هذا الدليل فاغنى عن اعادته
وقوله اذا جواب لمحذوف تقديره لو كان معه اله اذا لذهب
وقوله عالم الغيب المعنى هو عالم الغيب وقرأ ابو عمرو وغيره عالم بالجر اتباعا للمكتوبة
وقوله سبحانه قل رب اما ترينى ما يوعدون رب فلا تجعلنى فى القوم الظالمين أمر الله تعالى نبيه عليه السلام ان يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة ان كان قضى ان يرى ذلك وان شرط وما زائدة وترينى جزم بالشرط لزمته النون الثقيلة وهى لا تفارق اما عند المبرد ويجوز عند سيبويه ان تفارق ولكن استعمال القرءان لزومها فمن هنالك الزمه المبرد وهذا الدعاء فيه استصحاب الخشية والتحذير من الأمر المعذب من اجله ثم نظيره لسائر الأمة دعاء فى حسن الخاتمة وقوله ثانيا رب اعتراض بين الشرط وجوابه
وقوله سبحانه ادفع بالتى هى احسن السيئة امر بالصفح ومكارم الأخلاق وما كان منها لهذا فهو محكم باق فى الأمة ابدا وما كان بمعنى الموادعة فمنسوخ بآية القتال
وقوله نحن اعلم بما يصفون يقتضى انها ءاية موادعة وقال مجاهد الدفع بالتى هى احسن هو السلام تسلم عليه اذا لقيته وقال الحسن والله لا يصيبها احد حتى يكظم غيظه ويصفح عما يكره وفى الآية عدة للنبى صلى الله عليه و سلم اي اشتغل انت بهذا وكل امرهم الينا ثم امره سبحانه بالتعوذ من همزات الشياطين وهى سورات الغضب التى لا يملك الانسان فيها نفسه وكأنها هى التى كانت تصيب المومنين مع الكفار فتقع المجادلة ولذلك اتصلت بهذه الاية وقال ابن زيد همز الشيطان الجنون وفى مصنف ابى داود ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال اللهم انى اعوذ بك من الشيطان همزه ونفخه ونفثة قال (3/104)
ابوداود همزة الموتة ونفخة الكبر ونفثة السحر قال ع والنزغات وسورات الغضب من الشيطان وهى المتعوذ منها فى الآية واصل الهمز الدفع والوكز بيدا وغيرها ت قال صاحب سلاح المومن وهمزات الشياطين خطراتها التى تخطرها بقلب الانسان انتهى وقال الواحدى همزات الشياطين نزغاتها ووساوسها انتهى
وقوله سبحانه حتى اذا جاء احدهم الموت قال رب ارجعون لعلى اعمل صالحا فيما تركت حتى فى هذا الموضع حرف ابتداء والضمير فى قوله احدهم للكفار وقوله ارجعون اي الى الحياة الدنيا والنون فى ارجعون نون العظمة وقال النبى صلى الله عليه و سلم لعائشة اذا عاين المؤمن الموت قالت له الملائكة نرجعك فيقول الى دار الهموم والأحزان بل قدما الى الله واما الكافر فيقول ارجعون لعلى اعمل صالحا
وقوله كلا رد وزجر
وقوله انها كلمة هو قائلها تحتمل ثلاثة معان احدها الأخبار الموكد بأن هذا الشىء يقع ويقول هذه الكلمة الثانى ان يكون المعنى انها كلمة لا تغنى اكثر من انه يقولها ولا نفع له فيها ولا غوث الثالث ان يكون اشارة الى انه لورد لعاد والضمير فى ورائهم للكفار والبرزخ فى كلام العرب الحاجز بين المسافتين ثم يستعار لما عدا ذلك وهو هنا للمدة التى بين موت الانسان وبين بعثه هذا اجماع من المفسرين
وقوله عز و جل فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم الآية قال ابن مسعود وغيره هذا عند النفخة الثانية وقيام الناس من القبور فهم حينئذ لهول المطلع واشتغال كل امرئى بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائل وزال انتفاع الأنساب فلذلك نفاها سبحانه والمعنى فلا انساب نافعة وروى عن قتادة انه ليس احد ابغض الى الإنسان فى ذلك اليوم ممن يعرف لانه يخاف ان يكون له عنده مظلمة وفى ذلك اليوم يفر المرء من اخيه وامه وابيه وصاحبته وبنيه ويفرح كل احد يومئذ ان يكون له حق على ابنه وابيه وقد ورد بهذا حديث وكأن (3/105)
ارتفاع التساؤل لهذه الوجوه ثم تأتى فى القيامة مواطن يكون فيها السؤال والتعارف قال ع وهذا التأويل حسن وهو مروى المعنى عن ابن عباس وذكر البزار من حديث انس عن النبى صلى الله عليه و سلم قال ملك موكل بالميزان فيؤتى بابن ءادم فيوقف بين كفتى الميزان فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلأن سعادة لا يشقى بعدها ابدا وان خف ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق شقى فلان شقاوة لا يسعد بعدها ابدا انتهى من العاقبة وروى ابو داود فى سننه عن عائشة انها ذكرت النار فبكت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يبكيك قالت ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون اهليكم يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اما فى ثلاثة مواطن فلا يذكر احد احدا عند الميزان حتى يعلم ايخف ميزانه ام يثقل وعند الكتاب حتى يقول هاؤم اقرءوا كتابيه حتى يعلم اين يعطى كتابه افى يمينه ام في شماله ام من وراء ظهره وعند الصراط اذا وضع بين ظهرى جهنم انتهى ولفح النار اصابتها بالوهج والإحراق والكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان وقد شبه ابن مسعود ما فى الآية بما يعترى رءوس الكباش اذا شيطت بالنار فانها تكلح ومنه كلوح الكلب والأسد ت وفى الترمذى عن ابى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه و سلم قال وهم فيها كالحون قال تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخى شفته السفلى حتى تضرب سرته الحديث قال ابو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب انتهى وهذا هو المعول فى فهم الآية واما قول البخارى كالحون معناه عابسون فغير ظاهر ولعله لم يقف على الحديث
وقوله سبحانه الم تكن آياتى اي يقال لهم والآيات هنا القرءان وقرأ حمزة شقاوتنا ثم وقع جواب رغبتهم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله اخسئوا فيها ولا تكلمون ويقال ان (3/106)
هذه الكلمة اذا سمعوها يئسوا من كل خير فتنطبق عليهم جهنم وبقع اليأس عافانا الله من عذابه بمنه
وقوله اخسئوا زجر وهو مستعمل فى زجر الكلاب
وقوله عز و جل انه كان فريق من عبادى يقولون ربنا ءامنا الآية الهاء فى انه مبهمة وهى ضمير الامر والشأن والفريق المشار اليه كل مستضعف من المؤمنين يتفق ان تكون حاله مع كفار مثل هذه الحال ونزلت الآية فى كفار قريش مع صهيب وعمار وبلال ونظرائهم ثم هى عامة فيمن جرى مجراهم قديما وبقية الدهر وقرأ نافع وحمزة والكساءي سخريا بضم السين والباقون بكسرها فقيل هما بمعنى واحد ذكر ذلك الطبرى وقال ذلك ابو زيد الانصارى انهما بمعنى الهزء وقال ابو عبيدة وغيره ان ضم السين من السخرة والاستخدام وكسرها من السخر وهو الاستهزاء ومعنى الاستهزاء هنا اليق الا ترى الى قوله وكنتم منهم تضحكون
وقوله سبحانه كم لبثتم فى الارض عدد سنين الآية قوله فى الأرض قال الطبرى معناه فى الدنيا احياء وعن هذا وقع السؤال ونسوا لفرط هول العذاب حتى قالوا يوما او بعض يوم والغرض توقيفهم على ان اعمارهم قصيرة اداهم الكفر فيها الى عذاب طويل عافانا الله من ذلك بمنه وقال الجمهور ومعناه كم لبثتم فى جوف التراب امواتا قال ع وهذا هو الأصوب من حيث انكروا البعث وكان قولهم انهم لا يقومون من التراب وقوله ءاخرا وانكم الينا لا ترجعون يقتضى ما قلناه ت الآيات محتملة للمعنيين والله اعلم بما اراد سبحانه قال البخارى قال ابن عباس فاسأل العادين اي الملائكة انتهى ص قرأ الجمهور العادين بتشديد الدال اسم فاعل من عد وقرأ الحسن والكساءى فى رواية العادين بتخفيف الدال اي الظلمة وان من قوله ان لبثتم نافية اي ما لبثتم الا قليلا وعبثا معناه باطلا لغير غاية مرادة وخرج ابو نعيم الحافظ عن حنش الصنعانى عن ابن مسعود انه قرأ فى اذن مبتلى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا الى ءاخر السورة فأفاق (3/107)
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
ما قرأت فى اذنه قال قرأت افحسبتم الى آخر السورة فقال النبى صلى الله عليه و سلم لو ان رجلا موقنا قرأها على جبل لزال انتهى وخرجه ابن السنى ايضا ذكره النووى
وقوله سبحانه فتعالى الله الملك الحق المعنى فتعالى الله عن مقالتهم فى دعوى الشريك والصاحبة والولد ثم توعد سبحانه عبده الأوثان بقوله فانما حسابه عند ربه وفى حرف عبد الله عند ربك وفى حرف ابى عند الله ثم امر تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بالدعاء والذكر له فقال وقل رب اغفر وارحم وانت خير الراحمين
تفسير سورة النور وهى مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى سورة انزلناها وفرضناها الآية معنى فرضنا اوجبنا واثبتنا وقال الثعلبى والواحدى فرضناها اي اوجبنا ما فيها من الأحكام انتهى وقال البخارى قال ابن عباس سورة انزلناها بيناها انتهى وما تقدم ابين ص فرضناها الجمهور بتخفيف الراء اي فرضنا احكامها وابو عمرو وابن كثير بتشديد الراء اما للمبالغة فى الايجاب واما لان فيها فرائض شتى انتهى وآلايات البينات امثالها ومواعظها واحكامها
وقوله تعالى الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة الآية هذه الاية ناسخة لآية الحبس باتفاق وحكم المحصنين منسوخ بأية الرجم والسنة المتواترة على ما تقدم فى سورة النساء وقرأ الجمهور (3/108)
رأفة بهمزة ساكنة من رأف اذا رق ورحم والرأفة المنهى عنها هى فى اسقاط الحد اي اقيموه ولابد وهذا تأويل ابن عمر وغيره وقال قتادة وغيره هى فى تخفف الضرب عن الزناة ومن رأيهم ان يخفف ضرب الخمر والفرية دون ضرب الزنا
وقوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المومنين اي اغلاظا على الزناة وتوبيخا لهم ولاخلاف ان الطائفة كلما كثرت فهو اليق بامتثال الامر واختلف فى اقل ما يجزئى فقال الزهرى الطائفة ثلاثة فصاعدا وقال عطاء لابد من اثنين وهذا هو مشهور قول مالك فرءاها موضع شهادة
وقوله تعالى الزانى لا ينكح الا زانية او مشركة مقصد الآية تشنيع الزنا وتشنيع امره وانه محرم على المومنين ويريد بقوله لا ينكح اي لا يطأ فالنكاح هنا بمعنى الجماع كقوله تعالى حتى تنكح زوجا غيره وقد بينه صلى الله عليه و سلم فى الصحيح انه بمعنى الوطء حيث قال لا حتى تذوقى عسيلته الحديث وتحتمل الآية وجوها هذا احسنها
وقوله سبحانه والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء الآية نزلت بسبب القاذفين وذكر تعالى فى الآية قذف النساء من حيث هو اهم وابشع وقذف الرجال داخل فى حكم الآية بالمعنى والاجماع على ذلك والمحصنات هنا العفائف وشدد تعالى على القاذف بأربعة شهداء رحمه بعباده وسترا لهم وحكم شهادة الأربعة ان تكون على معاينة مبالغة كالمرود فى المكحلة فى موطن واحد فإن اضطرب منهم واحد جلد الثلاثة والجلد الضرب ثم امر تعالى ان لا تقبل للقذفة المحدودين شهادة ابدا وهذا يقتضى مدة اعمارهم ثم حكم بفسقهم ثم استثنى تعالى من تاب واصلح من بعد القذف فالاستثناء غير عامل فى جلده بإجماع وعامل فى فسقه بإجماع واختلف فى عمله فى رد الشهادة والجمهور انه عامل فى رد الشهادة فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ثم اختلفوا فى صورة توبته فقيل بان يكذب (3/109)
نفسه والا لم تقبل وقالت فرقة منها مالك توبته ان يصلح وتحسن حاله وان لم يرجع عن قوله بتكذيب واختلف فقهاء المالكية متى تسقط شهادة القاذف فقال ابن الماجشون بنفس قذفه وقال ابن القاسم وغيره لا تسقط حتى يجلد فإن منع من جلده مانع عفو او غيره لم ترد شهادته قال اللخمى شهادته فى مدة الأجل للإثبات موقوفة وتابوا معناه رجعوا وقد رجح الطبرى وغيره قول مالك واختلف ايضا على القول بجواز شهادته فقال مالك تجوز فى كل شىء بإطلاق وكذلك كل من حد فى شىء وقال سحنون من حد فى شىء فلا تجوز شهادته فى مثل ما حد فيه واتفقوا فيما احفظ على ولد الزنا ان شهادته لا تجوز فى الزنا
وقوله سبحانه والذين يرمون ازواجهم ولم يكن لهم شهداء الا انفسهم الآية لما رمى هلال بن امية الواقفى زوجته بشريك بن سحماء عزم النبى صلى الله عليه و سلم على ضربه حد القذف فنزلت هذه الآية حسبما هو مشروح فى الصحاح فجمعهما صلى الله عليه و سلم فى المسجد وتلاعنا وجاء ايضا عويمر العجلانى فرمى امرأته ولاعن والمشهور ان نازلة هلال قبل وانها سبب الآية والأزواج فى هذه الآية يعم المسلمات والكافرات والإماء فكلهن يلاعنهن الزوج للانتفاء من الحمل وتختص الحرة بدفع حد القذف عن نفسها وقرأ السبعة غير نافع ان لعنه وان غضب بتشديد ان فيهما ونصب اللعنة والغضب والعذاب المدرأ فى قول الجمهور هو الحد وجعلت اللعنة للرجل الكاذب لأنه مفتر مباهت فأبعد باللعنة وجعل الغضب الذى هو اشد على المرأة التى باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول والله اعلم واجمع مالك واصحابه على وجوب اللعان بادعاء الرؤية زنا لاوطء من الزوج بعده وذلك مشهور المذهب وقال مالك ان اللعان يجب بنفى حمل يدعى قبله استبراء والمستحب من الفاظ اللعان ان يمشى مع ترتيب القرءان ولفظه فيقول الزوج اشهد بالله (3/110)
لرأيت هذه المرأة تزنى وانى فى ذلك لمن الصادقين ثم يقول فى الخامسة ولعنة الله على ان كنت من الكاذبين واما فى لعان نفى الحمل فيقول ما هذا الولد منى وتقول المرأة اشهد بالله ما زنيت وانه فى ذلك لمن الكاذبين ثم تقول غضب الله علي ان كان من الصادقين فان منع جهلهما من ترتيب هذه الألفاظ واتيا بما فى معناها اجزأ ذلك ومشهور المذهب ان نفس تمام اللعان بينهما فرقه ولا يحتاج معها الى تفريق حاكم وتحريم اللعان ابدى باتفاق فيما احفظ من مذهب مالك وجواب لولا محذوف تقديره لكشف الزناة بأبسر من هذا او لأخذهم بعقابه ونحو هذا
وقوله تعالى إن الذين جاءو بالإفك الآية نزلت فى شأن ام المؤمنين عائشة رضى الله عنها ففى البخارى فى غزوة بنى المصطلق عن عائشة رضى الله عنها قالت وانزل الله العشر الآيات فى براءتى ان الذين جاءو بالإفك الآيات والإفك الزور والكذب وحديث الإفك فى البخارى ومسلم وغيرهما مستوعب والعصبة الجماعة من العشرة الى الأربعين
وقوله سبحانه لا تحسبوه خطاب لكل من ساءه ذلك من المومنين
وقوله تعالى بل هو خير لكم معناه انه تبرئه فى الدنيا وترفيع من الله تعال فى ان نزل وحيه بالبراءة من ذلك واجر جزيل فى الآخرة وموعظة للمؤمنين فى غابر الدهر واكتسب مستعملة فى المأثم والإشارة بقوله تعالى والذى تولى كبره هي الى عبد الله بن ابى ابن سلول وغيره من المنافقين وكبره مصدر كبر الشىء وعظم ولكن استعملت العرب ضم الكاف فى السن
وقوله تعالى لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا الآية الخطاب للمؤمنين حاشى من تولى كبره وفى هذا عتاب للمؤمنين اي كان الانكار واجبا عليهم ويقيس فضلاء المؤمنين الأمر على انفسهم فإذا كان ذلك يبعد فيهم فأم المؤمنين ابعد لفضلها ووقع هذا النظر السديد من ابى ايوب (3/111)
وامرأته وذلك انه دخل عليها فقالت له يا ابا ايوب اسمعت ما قيل فقال نعم وذلك الكذب أكنت انت يا ام ايوب تفعلين ذلك قالت لا والله قال فعائشة والله افضل منك قالت ام ايوب نعم فهذا الفعل ونحوه هو الذى عاتب الله فيه المؤمنين اذ لم يفعله جميعهم والضمير فى قوله لولا جاءو اللذين تولوا كبره
وقوله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته فى الدنيا والآخرة لمسكم فيما افضتم فيه عذاب عظيم هذا عتاب من الله تعالى بليغ فى تعاطيهم هذا الحديث وان لم يكن المخبر والمخبر مصدقين ولكن نفس التعاطى والتلقي من لسان الى لسان والإفاضة فى الحديث هو الذى وقع العتاب فيه وقرأ ابن يعمرو عائشة رضى الله عنها وهى اعلم الناس بهذا الامر إذ تلقونه بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف ومعنى هذه القراءة من قول العرب ولق الرجل ولقا اذا كذب وحكى الطبرى ان هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذى هو اسراعك بالشىء بعد الشىء يقال ولق فى سيره إذا أسرع والضمير فى تحسبونه للحديث والخوض فيه والإذاعة له
وقوله تعالى سبحانك اي تنزيها لله ان يقع هذا من زوج نبيه صلى الله عليه و سلم وحقيقة البهتان ان يقال في الانسان ما ليس فيه والغيبة ان يقال فى الانسان ما فيه ثم وعظهم تعالى فى العودة الى مثل هذه الحالة
وقوله سبحانه ان الذين يحبون ان تشيع الفاحشة فى الذين ءامنوا الآية قال مجاهد وغيره الاشارة بهذة الآية الى المنافقين وعذابهم الاليم فى الدنيا الحدود وفى الآخرة النار وقالت فرقة الآية عامة فى كل قاذف وهذا هو الأظهر
وقوله تعالى والله يعلم معناه يعلم البرىء من المذنب ويعلم سائر الأمور وجواب لولا ايضا محذوف تقديره لفضحكم بذنوبكم او لعذبكم ونحوه
وقوله تعالى يا ايها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان الآية خطوات جمع خطوة وهى ما بين القدمين فى المشى فكان المعنى لا تمشوا فى سبله وطرقه ت وفى قوله سبحانه (3/112)
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من احد ابدا ما يردع العاقل عن الاشتغال بغيره ويوجب له الاهتمام باصلاح نفسه قبل هجوم منيته وحلول رمسه وحدث ابو عمر فى التمهيد بسنده عن اسماعيل بن كثير قال سمعت مجاهدا يقول ان الملائكة مع ابن ءادم فإذا ذكر اخاه المسلم بخير قالت الملائكة ولك مثله واذا ذكره بشر قالت الملائكة ابن ءادم المستور عورته اربع على نفسك واحمد الله الذى يستر عورتك انتهى وروينا فى سنن ابى داود عن سهل بن معاذ بن انس الجهنى عن ابيه عن النبى صلى الله عليه و سلم قال من حمى مؤمنا من منافق اراه قال بعث الله ملكا يحمى لحمه يوم القيامة من نار جهنم ومن رمى مسلما بشىء يريد به شينه حبسه الله عز و جل على جسر جهنم حتى يخرج مما قال وروينا ايضا عن ابى داود بسنده عن جابر بن عبد الله وابى طلحة بن سهل الأنصاريين انهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
ما من امرئى يخذل امرءا مسلما فى موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه الا خذله الله فى موطن يحب فيه نصرته وما من امرئى ينصر مسلما فى موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته الا نصره الله فى موضع يحب فيه نصرته انتهى ثم ذكر تعالى انه يزكى من يشاء ممن سبقت له السعادة وكان عمله الصالح امارة على سبق السعادة له
وقوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم الآية المشهور من الروايات ان هذه الاية نزلت فى قصة ابى بكر رضى الله عنه ومسطح بن اثاثة وكان من قرابة ابى بكر وكان ابو بكر ينفق عليه لمسكنته فلما وقع امر الإفك بلغ ابا بكر أنه وقع مسطح مع من وقع فحلف ابو بكر لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة ابدا فجاء مسطح معتذرا وقال انما كنت اسمع ولا اقول فنزلت الآية والفضل الزيادة فى الدين والسعة هنا هى المال ثم قال تعالى الا تحبون ان يغفر الله لكم الآية اي كما تحبون عفو الله لكم عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم فروينا ان ابا بكر قال (3/113)
بلى انى احب ان يغفر الله لى ورجع الى مسطح ما كان يجرى عليه من النفقة والاحسان قال ابن العربى فى احكامه وفى هذه الآية دليل على ان الحنث اذا رءاه الإنسان خيرا هو اولى من البر ولقول النبى صلى الله عليه و سلم فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه انتهى وقال بعض الناس هذه ارجى ءاية فى كتاب الله عز و جل من حيث لطف سبحانه بالقذفة العصاة بهذا اللفظ قال ع وانما تعطى الآية تفضلا من الله تعالى فى الدنيا وانما الرجاء فى الآخرة إما أن الرجاء فى هذه الآية بقياس اي اذا امر اولى الفضل والسعة بالعفو فطرد هذا التفضل بسعة رحمته سبحانه لا رب غيره انما ءايات الرجاء قوله تعالى قل يا عبادى الذين اسرفوا على انفسهم وقوله تعالى الله لطيف بعباده وسمعت ابى رحمه الله يقول ارجى ءاية فى كتاب الله عندى قوله تعالى وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا وقال بعضهم ارجى ءاية قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى
وقوله تعالى إن الذين يرمون المحصنات الآية قال ابن جبير هذه الآية خاصة فى رماة عائشة وقال ابن عباس وغيره بل ولجميع ازواج النبى صلى الله عليه و سلم لمكانهن من الدين ولم يقرن بآخر الآية توبة قال ع وقاذف غيرهن له اسم الفسق وذكرت له التوبة ولعن الدنيا الأبعاد وضرب الحد والعامل فى قوله يوم فعل مضمر تقديره يعذبون يوم او نحو هذا والدين فى هذه الآية الجزاء وفى مصحف ابن مسعود وابى يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم بتقديم الصفة على الموصوف
وقوله ويعلمون ان الله هو الحق المبين يقوى قول من ذهب ان الآية فى المنافقين عبد الله بن ابى وغيره
وقوله تعالى الخبيثات للخبيثين الآية قال ابن عباس وغيره الموصوف بالخبث والطيب الأقوال والأفعال وقال ابن زيد الموصوف بالخبث والطيب النساء والرجال ومعنى هذا التفريق بين حكم ابن ابى واشباهه وبين حكم النبى صلى الله عليه (3/114)
وفضلاء اصحابه وامته
وقوله تعالى اولئك مبرءون اشارة الى الطيبين المذكورين وقيل الاشارة بأولئك الى عائشة رضى الله عنها ومن فى معناها
وقوله تعالى لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا سبب هذه الآية فيما روى الطبرى ان امرأة من الأنصار قالت يا رسول الله انى اكون فى منزلى على الحال التى لا احب ان يرانى احد عليها لا والد ولا ولد وأنه لا يزال يدخل على رجل من اهلى وانا على تلك الحال فنزلت هذه الآية ثم هى عامة فى الأمة غابر الدهر وبيت الإنسان هو الذى لا احد معه فيه او البيت الذى فيه زوجته او امته وما عدا هذا فهو غير بيته وتستانسوا معناها تستعلموا من فى البيت وتستبصروا تقول آنست اذا علمت عن حس واذا ابصرت ومنه قوله تعالى آنستم منهم رشدا واستانس وزنه استفعل فكان المعنى فى تستأنسوا تطلبوا ان تعلموا ما يؤنسكم ويؤنس اهل البيت منكم واذا طلب الانسان ان يعلم امر البيت الذى يريد دخوله فذلك يكون بالاستيذان على من فيه او بان يتنحنح ويشعر بنفسه بأي وجه أمكنه وبتأنى قدر ما يتحفظ منه ويدخل اثر ذلك وذهب الطبرى فى تستأنسوا الى انه بمعنى حتى تؤنسوا اهل البيت بأنفسكم بالتنحنح والاستيذان ونحوه وتؤنسوا نفوسكم بأن تعلموا ان قد شعر بكم قال ع وتصريف الفعل يأبى ان يكون من انس وقرأ ابى وابن عباس حتى تستأذنوا وتسلموا وصورة الاستيذان ان يقول الانسان السلام عليكم أأدخل فان اذن له دخل وان امر بالرجوع انصرف وان سكت عنه استاذن ثلاثا ثم ينصرف جاءت فى هذا كله ءاثار والضمير فى قوله تجدوا فيها للبيوت التى هى بيوت الغير واسند الطبرى عن قتادة انه قال قال رجل من المهاجرين لقد طلبت عمرى كله هذه الآية فما ادركتها ان استاذن على بعض اخوانى فيقول لى فارجع وانا مغتبط لقوله تعالى هو أزكى لكم
وقوله تعالى والله بما تعملون عليم توعد لأهل التجسس (3/115)
وقوله تعالى ليس عليكم جناح ان تدخلوا بيوتا غير مسكونة الآية اباح سبحانه فى هذه الآية رفع الاستيذان فى كل بيت لا يسكنه احد لأن العلة فى الاستيذان خوف الكشفة على المحرمات فاذا زالت العلة زال الحكم وباقى الآية بين ظاهر التوعد وعن مالك رحمه الله انه بلغه أنه كان يستحب اذا دخل البيت غير المسكون ان يقول الذى يدخله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين انتهى اخرجه فى الموطإ
وقوله تعالى قل للمومنين يغضوا من ابصارهم اظهر ما فى من ان تكون للتبعيض لان اول نظرة لا يملكها الانسان وانما يغض فيما بعد ذلك فقد وقع التبعيض بخلاف الفروج اذ حفظها عام لها والبصر هو الباب الأكبر الى القلب وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه وحفظ الفرج هو عن الزنا وعن كشفه حيث لا يحل ت النواظر صوارم مشهورة فأغمدها فى غمد الغض والحياء من نظر المولى والاجرحك بها عدو الهوى لا ترسل بريد النظر فيجلب لقلبك ردىء الفكر غض البصر يورث القلب نورا واطلاقه يقدح فى القلب نارا انتهى من الكلم الفارقية فى الحكم الحقيقية قال ابن العربى فى احكامه قوله تعالى ذلك ازكى لهم يريد اطهر وانمى يعنى اذا غض بصره كان اطهر له من الذنوب وانمى لعمله فى الطاعة قال ابن العربى ومن غض البصر كف التطلع الى المباحات من زينة الدنيا وجمالها كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم ولا تمدن عينيك الى ما متعنا به ازواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وابقى يريد ما عند الله تعالى انتهى
وقوله تعالى وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن الآية امر الله تعالى النساء فى هذه الآية بغض البصر عن كل ما يكره من جهة الشرع النظر اليه وفى حديث ام سلمة قالت كنت انا وعائشة عند النبى صلى الله عليه و سلم فدخل ابن ام مكتوم فقال النبى صلى الله عليه و سلم احتجبن فقلن انه اعمى فقال صلى الله عليه و سلم (3/116)
افعمياوان انتما ومن الكلام فيها كالتى قبلها قال ابن العربى فى احكامه وكما لا يحل للرجل ان ينظر الى المرأة لا يحل للمرأة ان تنظر الى الرجل فان علاقته بها كعلاقتها به وقصده منها كقصدها منه ثم استدل بحديث ام سلمة المتقدم انتهى وحفظ الفرج يعم الفواحش وستر العورة وما دون ذلك مما فيه حفظ ثم امر تعالى بأن لا يبدين زينتهن الا ما يظهر من الزينة قال ابن مسعود ظاهر الزينة هو الثياب وقال ابن جبير وغيره الوجه والكفان والثياب وقيل غير هذا قال زينتها ع ويظهر لى بحكم الفاظ الآية ان المرأة مأمورة بأن لا تبدى وان تجتهد فى الإخفاء لكل ما هو زينة ووقع الاستثناء فى كل ما غلبها فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لابد منه او اصلاح شأن فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفو عنه وذكر ابو عمر الخلاف فى تفسير الآية كما تقدم قال وروى عن ابى هريرة فى قوله تعالى ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها قال القلب والفتخة قال جرير بن حازم القلب السوار والفتخة الخاتم انتهى من التمهيد
وقوله تعالى وليضربن بخمورهن على جيوبهن قال ابن العربى الجيب هو الطوق والخمار هو المقنعة انتهى قال ع سبب الآية ان النساء كن فى ذلك الزمان اذا غطين رؤوسهن بالأخمرة سدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك فأمر الله تعالى بلى الخمار على الجيوب وهيئة ذلك يستر جميع ما ذكرناه وقالت عائشة رضى الله عنها رحم الله المهاجرات الأول لما نزلت هذه الاية عمدن الى اكثف المروط فشققنها اخمرة وضربن بها على الجيوب
وقوله سبحانه أونسائهن يعنى جميع المؤمنات ويخرج منه نساء المشركين وكتب عمر الى ابى عبيدة بن الجراح ان يمنع نساء اهل الذمة ان يدخلن الحمام مع نساء المسلمين فامتثل
وقوله سبحانه أو ما ملكت أيمانهن يدخل فيه الإماء الكتابيات والعبيد وقال ابن عباس وجماعة لا يدخل العبد على سيدته فيرى شعرهاالا ان يكون (3/117)
وغدا
وقوله تعالى أو التابعين يريد الاتباع ليطعموا وهم فسول الرجال الذين لا إربة لهم فى الوطء ويدخل في هذه الصنيفة المجبوب والشيخ الفانى وبعض المعتوهين والذى لا إربة له من الرجال قليل والإربة الحاجة الى الوطء والطفل اسم جنس ويقال طفل ما لم يراهق الحلم ويظهروا معناه يطلعوا بالوطء
وقوله تعالى ولا يضربن بارجلهن الآية قيل سببها ان امرأة مرت على قوم فضربت برجلها الأرض فصوت الخلخال وسماع صوت هذه الزينة اشد تحريكا للشهوة من ابدائها ذكره الزجاج ثم امر سبحانه بالتوبة مطلقة عامة من كل شىء صغير وكبير
وقوله تعالى وانكحوا الايامى منكم الأيم من لازوجه له او لازوج لها فالأيم يقال للرجل والمرأة
وقوله والصالحين يريد للنكاح وهذا الأمر بالنكاح يختلف بحسب شخص شخص ففى نازلة يتصور وجوبه وفى نازلة الندب وغير ذلك حسبما هو مذكور فى كتب الفقه قال ابن العربى فى احكامه قوله تعالى والصالحين من عبادكم الأظهر فيه انه امر بانكاح العبيد والإماء كما امر بانكاح الايامى وذلك بيد السادة فى العبيد والاماء كما هو فى الإحرار بيد الأولياء انتهى ثم وعد تعالى بإغناء الفقراء المتزوجين طلب رضا الله عنهم واعتصاما من معاصيه ثم امر تعالى كل من يتعذر عليه النكاح ان يستعفف حتى يغنيهم الله من فضله اذ الغالب من موانع النكاح عدم المال فوعد سبحانه المتعفف بالغنى والمكاتبة مفاعلة من حيث يكتب هذا على نفسه وهذا على نفسه ومذهب مالك ان الأمر بالكتابة هو على الندب وقال عطاء ذلك واجب وهو ظاهر مذهب عمر بن الخطاب رضى الله عنه
وقوله إن علمتم فيهم خيرا قالت فرقة الخير هنا المال وقال مالك إنه ليقال الخير القوة والأداء وقال عبيدة السلمانى الخير هو الصلاح فى الدين
وقوله تعالى وءاتوهم قال المفسرون هو امر لكل مكاتب ان يضع عن (3/118)
العبد من مال كتابته ورأى مالك هذا الأمر على الندب ولم ير لقدر الوضيعة حدا واستحسن على بن ابى طالب رضى الله عنه ان يوضع عنه الربع وقيل الثلث وقيل العشر ورأى عمر ان يكون ذلك من اول نجومه مبادرة الى الخير وخوف ان لا يدرك آخرها ورأى مالك وغيره ان يكون الوضع من آخر نجم وعلة ذلك انه ربما عجز العبد فرجع هو وماله الى السيد فعادت اليه وضيعته وهى شبه الصدقة ت والظاهر ان هذا لا يعد رجوعا كما لو رجع اليه بالميراث ورأى الشافعى وغيره ان الوضيعة واجبة يحكم بها وقال الحسن وغيره الخطاب بقوله تعالى وآتوهم للناس اجمعين فى ان يتصدقوا على المكاتبين وقال زيد بن اسلم انما الخطاب لولاه الامور
وقوله سبحانه ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصنا الآية روى ان سبب الآية هو ان عبد الله بن ابى سلول كانت له امة فكان يامرها بالزنا والكسب به فشكت ذلك الى النبى صلى الله عليه و سلم فنزلت الاية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين وقوله ان اردن تحصنا راجع الى الفتيات وذلك ان الفتاة اذا ارادت التحصن فحينئذ يمكن ويتصور ان يكون السيد مكرها ويمكن ان ينهى عن الإكراه واذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور ان يقال للسيد لا تكرهها لأن الاكراه لا يتصور فيها وهى مريدة للفساد فهنا امر فى سادة وفتيات حالهم هذه وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين فقال بعضهم قوله إن أردن راجع الى الأيامى فى قوله وانكحوا الأيامى منكم وقال بعضهم هذا الشرط فى قوله ان اردن ملغى ونحو هذا مما هو ضعيف والله الموفق للصواب برحمته ت وما اختاره ع هو الذى عول عليه ابن العربى ونصه وانما ذكر الله تعالى ارادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو الذى يصور الإكراه فأما اذا كانت هى راغبة فى الزنا لم يتحصل الإكراه فحصلوه ان شاء الله انتهى من الأحكام وقرأ ابن مسعود وغيره فإن الله من بعد اكراههن غفور رحيم (3/119)
ثم عدد سبحانه نعمة على المؤمنين فى قوله ولقد انزلنا اليكم ءايات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم ليقع التحفظ مما وقع اولئك فيه
وقوله تعالى الله نور السموات والأرض الآية النور فى كلام العرب الأضواء المدركة بالبصر ويستعمل مجازا فيما صح من المعانى ولاح فيقال كلام له نور ومنه الكتاب المنير والله تعالى ليس كمثله شىء فواضح انه ليس من الأضواء المدركة ولم يبق الا ان المعنى منور السموات والأرض اي به وبقدرته انارت اضواؤها واستقامت امورها كما تقول الملك نور الأمة اي به قوام امورها وصلاح جملتها والأمر فى الملك مجاز وهو فى صفة الله تعالى حقيقة محضة وقرأ ابو عبد الرحمن السلمى وغيره الله نور بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء والضمير فى نوره يعود على الله تعالى قاله جماعة وهو اضافة خلق الى خالق كما تقول ناقة الله وبيت الله ثم اختلفوا فى المراد بهذا النور فقيل هو محمد صلى الله عليه و سلم وقيل هو المؤمن وقيل هو الإيمان والقرءان وفى قراءة ابى ابن كعب مثل نور المومنين والمشكاة هى الكوة غير النافذة فيها القنديل ونحوه وهذه الأقوال الثلاثة يطرد فيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل فعلى قول من قال الممثل محمد صلى الله عليه و سلم وهو قول كعب الاحبار فرسول الله صلى الله عليه و سلم هو المشكاة او صدره والمصباح هو النبوءة وما يتصل بها من علمه وهداه والزجاجة قلبه والشجرة المباركة هى الوحى والزيت هو الحجج والبراهين وعلى قول من قال ان الممثل به هو المؤمن وهو قول ابى بن كعب فالمشكاة صدره والمصباح الايمان والعلم والزجاجة قلبه والشجرة القرءان وزيتها هو الحجج والحكمة التى تضمنها قول ابى فهو على احسن الحال يمشى فى الناس كالرجل الحى فى قبور الأموات وتحتمل الآية معنى آخر وهو ان يريد مثل نور الله الذى هو هداه فى الوضوح (3/120)
كهذه الجملة من النور الذى تتخذونه انتم على هذه الصفة التى هى ابلغ صفات النور الذى هو بين ايديكم ايها البشر وقال ابو موسى المشكاة الحديدة أو الرصاصة التى يكون فيها القنديل فى جوف الزجاجة والأول اصح
وقوله فى زجاجة لأنه جسم شفاف المصباح فيه انور منه فى غير الزجاجة والمصباح الفتيل بناره
وقوله كأنه كوكب دري اي فى الإنارة والضوء وذلك يحتمل معنيين اما ان يريد انها بالمصباح كذلك واما ان يريد انها فى نفسها لصفائها وجودة جوهرها وهذا التاويل ابلغ فى التعاون على النور قال الضحاك الكوكب الدرى الزهرة وقرأ ابن كثير وابو عمرو توقد بفتح التاء والدال والمراد المصباح وقرأ نافع وغيره يوقد أي المصباح
وقوله من شجرة اي من زيت شجرة والمباركة المنماة
وقوله تعالى لا شرقية ولا غربية قال الحسن اي ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا وانما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره ولو كانت فى الدنيا لكانت اما شرقية واما غربية وقيل غير هذا
وقوله سبحانه يكاد زيتها يضىء الآية مبالغة فى صفة صفائه وحسنه
وقوله نور على نور اي هذه كلها ومعان تكامل بها هذا النور الممثل به وفى هذا الموضع تم المثال وباقى الآية بين
وقوله تعالى فى بيوت اذن الله ان ترفع قال ابن عباس وغيره هى المساجد المخصوصة بعبادة الله التى من عادتها ان تنور بهذا النوع من المصابيح وقوله اذن الله بمعنى امر وقضى وترفع قيل معناه تبنى وتعلى قاله مجاهد وغيره كقوله تعالى واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت وقال الحسن معناه تعظم ويرفع شأنها وذكر اسمه تعالى هو بالصلاة والعبادة قولا وفعلا ويسبح له فيها اي فى المساجد بالغدو والآصال قال ابن عباس اراد ركعتى الضحى والعصر وان ركعتى الضحى لفى كتاب الله وما يغوص عليها الاغواص ثم وصف تعالى المسبحين بانهم لمراقبتهم امر الله تعالى وطلبهم رضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شىء (3/121)
من امور الدنيا ت وعن عمر رضى الله عنه ان النبى صلى الله عليه و سلم قال يجمع الناس فى صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعى فينادى مناد سيعلم اهل الجمع لمن الكرم اليوم ثلاث مرات ثم يقول اين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ثم يقول اين الذين كانوا لا يلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله الى ءاخر الآية ثم ينادى مناد سيعلم اهل الجمع لمن الكرم اليوم ثم يقول اين الحمادون الذين يحمدون ربهم مختصرا رواه الحاكم فى المستدرك على الصحيحين وله طرق عن ابى اسحاق انتهى من السلاح ورواه ايضا ابن المبارك من طريق ابن عباس قال إذا كان يوم القيامة نادى مناد ستعلمون اليوم من اصحاب الكرم ليقم الحامدون لله تعالى على كل حال فيقومون فيسرحون الى الجنة ثم ينادى ثانية ستعلمون من اصحاب الكرم ليقم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون قال فيقومون فيسرحون الى الجنة ثم ينادى ثالثة ستعلمون اليوم من اصحاب الكرم ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار فيقومون فيسرحون الى الجنة انتهى من التذكرة والزكاة هنا عند ابن عباس الطاعة لله وقال الحسن هى الزكاة المفروضة فى المال واليوم المخوف هو يوم القيامة ومعنى الآية ان ذلك اليوم لشدة هوله القلوب والابصار فيه مضطربة قلقة متقلبة ت ومن الكلم الفارقية سعادة القلب اقباله على مقلبه والعالم بحال مئاله ومنقلبه القلوب بحار جواهرها المعارف وسواحلها الألسنة وغواصها الفكرة النافذة غواص بحر الصور يغوص بصورته فى طلب مكسبه والعارف يغوص بمعنى قلبه فى بحار غيب ربه فيلتقط جواهر الحكمة ودرر الدراية قلوب العارفين كالبحار تنعقد فى اصداف ضمائرهم جواهر المعارف والأسرار القلوب كالاراضى الى من اسلمت اليه قلبك (3/122)
بذر فيه ما عنده من بذر نفسه ووسواسة العفن المسوس او بذر فيه معرفته بالرب المقدس انتهى ت فإن اردت سلامتك فى ذلك اليوم فليكن قلبك الآن مقبلا على طاعة مولاك فانه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم قال الواحدى تتقلب فيه القلوب بين الطمع فى النجاة والخوف من الهلاك والإبصار تتقلب فى اي ناحية يوخذ بهم أذات اليمين ام ذات الشمال ومن اي جهة يؤتون كتبهم انتهى
وقوله سبحانه ليجزيهم اي فعلوا ذلك ليجزيهم احسن ما عملوا اي ثواب احسن ما عملوا ولما ذكر تعالى حالة المؤمنين وتنويره قلوبهم عقب ذلك بذكر الكفرة واعمالهم فقال والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة وهى جمع قاع والقاع المنخفض البساط من الأرض ويريد بجاءه جاء موضعه الذى تخيله فيه ويحتمل أن يعود الضمير فى جاءه على السراب ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يدل عليه الظاهر تقديره فكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعا حتى اذا جاءه لم يجده شيأ
وقوله ووجد الله عنده اي بالمجازات والظمير فى عنده عائد على العمل وباقى الآية وعيد بين
وقوله تعالى او كظلمات عطف على قوله كسراب وهذا المثال الأخير تضمن صفة اعمالهم فى الدنيا اي انهم من الضلال فى مثل هذه الظلمات المجتمعة من هذه الأشياء وذهب بعض الناس الى ان فى هذا المثال اجزاء تقابل اجزاء من الممثل به فقال الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة والبحر اللجى صدر الكافر وقلبه واللجى معناه ذو اللجة وهى معظم الماء وغمرة واجتماع ما به اشد لظلمته والموج هو الضلال والجهالة التى قد غمرت قلبه والسحاب هو شهوته فى الكفر وإعراضه عن الإيمان قال ع وهذا التأويل سائغ وان لايقدر هذا االتقابل سائغ
وقوله إذا اخرج يده لم يكد يراها لفظ يقتضى مبالغة الظلمة واختلف فى هذه اللفظة هل معناها انه لم يريده البتة او المعنى انه رءاها (3/123)
بعد عسر وشدة وكاد ان لا يراها ووجه ذلك ان كاد اذا صحبها حرف النفي وجب الفعل الذى بعدها واذا لم يصحبها انتفى الفعل وكاد معناها قارب
وقوله تعالى ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور قالت فرقة يريد فى الدنيا اي من لم يهده الله لم يهتد وقالت فرقة اراد فى الآخرة اي من لم يC وينور حاله بالمغفرة والرحمة فلا رحمة له قال ع والأول ابين واليق بلفظ الآية وايضا فذلك متلازم ونور الآخرة انما هو لمن نور قلبه فى الدنيا
وقوله تعالى الم تر أن الله يسبح له من فى السموات والأرض الآية الرؤية هنا قلبية والتسبيح التنزيه والتعظيم والاية عامة عند المفسرين لكل شىء من العقلاء والجمادات
وقوله تعالى كل قد علم صلاته وتسبيحه قال الزجاج وغيره المعنى كل قد علم الله صلاته وتسبيحه وقال الحسن المعنى كل قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه وقالت فرقة المعنى كل قد علم صلاة الله وتسبيح الله اللذين امر بهما وهدى اليهما فهذه اضافة خلق الى خالق وباقي الآية وعيد ويزجى معناه يسوق والركام الذى يركب بعضه بعضا ويتكاثف والودق المطر قال البخارى من خلاله اي من بين اضعاف السحاب انتهى
وقوله تعالى وينزل من السماء من جبال فيها من برد قيل ذلك حقيقة وقد جعل الله فى السماء جبالا من برد وقالت فرقة ذلك مجاز وانما اراد وصف كثرته وهذا كما تقول عند فلان جبال من مال وجبال من العلم ت وحمل اللفظ على حقيقته اولى ان لم يمنع من ذلك مانع ومن كتاب الفرج بعد الشدة للقاضى ابى على التنوخى احد الرواة عن ابى الحسن الدارقطنى والمختصين به قال اخبرنا ابو بكر الصولى عن بعض العلماء قال رأيت امرأة بالبادية وقد جاء البرد فذهب بزرعها فجاء الناس يعزونها فرفعت رأسها الى السماء وقالت اللهم انت المأمول لأحسن الخلف وبيدك التعويض مما تلف فافعل بنا ما انت أهله فإن أرزاقنا عليك وءامالنا مصروفه اليك قال فلم ابرح حتى مر (3/124)
رجل من الاجلاء فحدث بما كان فوهب لها خمسمائة دينار فأجاب الله دعوتها وفرج فى الحين كربتها انتهى والسنا مقصورا الضوء وبالمد المجد والساء فى قوله بالأبصار يحتمل ان تكون زائدة
وقوله سبحانه والله خلق كل دابة من ماء الآية ءاية اعتبار والدابة كل ما دب من جميع الحيوان وقوله من ماء قال الجمهور يعنى ان خلقة كل حيوان فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين وقال النقاش اراد منى الذكور والمشى على البطن للحيات والحوت والدود وغيره وعلى رجلين للانسان والطير اذا مشى وعلى اربع لسائر الحيوان وفى مصحف ابى بن كعب ومنهم من يمشى على اكثر فعمم بهذه الزيادة جميع الحيوان
وقوله تعالى لقد انزلنا آيات مبينات يعم كل ما نصب الله تعالى من آية
وقوله تعالى ويقولون يعنى المنافقين روى ان رجلا من المنافقين اسمه بشر دعاه يهودى الى التحاكم عند النبى صلى الله عليه و سلم وكان المنافق مبطلا فأبى ودعا اليهودى الى كعب بن الاشرف فنزلت هذه الاية فيه والحيف الميل
وقوله سبحانه انما كان قول المؤمنين الآية المعنى انما كان الواجب ان يقوله المؤمنون اذا دعوا الى حكم الله ورسوله سمعنا واطعنا
وقوله سبحانه ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فاولئك هم الفائزون قال الغزالى في المنهاج التقوى فى القرءان تطلق على ثلاثة اشياء احدها بمعنى الخشية والهيبة قال الله عز و جل واياي فاتقون وقال سبحانه واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله والثانى بمعنى الطاعة والعبادة قال تعالى يا ايها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته قال ابن عباس اطيعوا الله حق طاعته وقال مجاهد هو ان يطاع فلا يعصي وان يذكر فلا ينسى وان يشكر فلا يكفر والثالث بمعنى تنزيه القلب عن الذنوب وهذه هى الحقيقة فى التقوى دون الأوليين الا ترى ان الله تعالى يقول ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فاولئك هم الفائزون ذكر الطاعة والخشية ثم (3/125)
ذكر التقوى فعلمت ان حقيقة التقوى معنى سوى الطاعة والخشية وهى تنزيه القلب عن الذنوب انتهى
وقوله تعالى واقسموا بالله جهد ايمانهم الآية جهد اليمين بلوغ الغاية فى تعقيدها وليخرجن معناه الى الغزو وهذه فى المنافقين الذين تولوا حين دعوا الى الله ورسوله
وقوله تعالى قل لا تقسموا طاعة معروفة يحتمل معانى احدها النهى عن القسم الكاذب اذ قد عرف ان طاعتهم دغلة فكأنه يقول لا تغالطوا فقد عرف ما انتم عليه والثانى ان المعنى لا تتكلفوا القسم فطاعة معروفة على قدر الاستطاعة امثل واجدر بكم وفى هذا التأويل ابقاء عليهم وقيل غير هذا
وقوله تولوا معناه تتولوا والذى حمل النبى صلى الله عليه و سلم هو التبليغ والذى حمل الناس هو السمع والطاعة واتباع الحق وباقى الآية بين
وقوله تعالى وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم الآية عامة لأمة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فى ان يملكهم الله البلاد كما هو الواقع فسبحانه ما اصدق وعده وقال الضحاك فى كتاب النقاش هذه الاية تتضمن خلافه ابى بكر وعمر وعثمان وعلى والصحيح فى الآية انها فى استخلاف الجمهور واللام فى ليستخلفنهم لام القسم
وقوله يعبدوننى فعل مستأنف اي هم يعبدوننى
وقوله ومن كفر يحتمل ان يريد كفر هذه النعم ويحتمل الكفر المخرج عن الملة عياذا بالله من سخطه وباقى الاية بين مما تقدم فى غيرها
وقوله تعالى يا ايها الذين ءامنوا ليستاذنكم الذين ملكت ايمانكم قيل الذين ملكت ايمانهم الرجال والنساء ورجحه الطبرى وقيل الرجال خاصة وقيل النساء خاصة ومعنى الآية عند جماعة من العلماء ان الله تعالى ادب عباده بان يكون العبيد والأطفال الذين عقلوا معانى الكشفة ونحوها يستاذنون على اهليهم فى هذه الأوقات الثلاث وهى الأوقات التى تقتضى عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعرى فى المضاجع وهى عند الصباح وفى وقت (3/126)
م القائلة وهى الظهيرة لأن النهار ويظهر فيها اذا علا واشتد حره وبعد العشاء لأنه وقت التعرى للنوم واما فى غير هذه الأوقات فالعرف من الناس التحرز والتحفظ فلا حرج فى دخول هذه الصنيفة بغير اذن اذ هم طوافون يمضون ويجيئون لا يجد الناس بدا من ذلك
وقوله بعضكم على بعض بدل من قوله طوافون وثلاث مرات نصب على الظرف لانهم لم يومروا بالاستيذان ثلاثا وانما امروا بالاستيذان فى ثلاث مواطن فالظرفية فى ثلاث بينة
وقوله سبحانه كذلك يبين الله لكم آلايات والله عليم حكيم بين للمتأمل
وقوله سبحانه واذا بلغ الاطفال منكم الحلم الآية امر تعالى فى هذه الآية ان يكونوا اذا بلغوا الحلم على حكم الرجال فى الاستيذان فى كل وقت وهذا بيان من الله عز و جل
وقوله تعالى كذلك يبين الله لكم اياته والله عليم حكيم بين لا يحتاج الى تفسير
والقواعد من النساء هن اللواتى قد اسنن وقعدن عن الولد واحدتهن قاعد وقال ربيعة هى هنا التى تستقذر من كبرها قال غيره وقد تقعد المرأة عن الولد وفيها مستمتع ولما كان الغالب من النساء ان ذوات هذا السن لا مذهب للرجال فيهن ابيح لهن ما لم يبح لغيرهن وقرأ ابن مسعود وابى ان يضعن من ثيابهن والعرب تقول امرأة واضع للتى كبرت فوضعت خمارها ثم استثنى عليهن فى وضع الثياب ان لا يقصدن به التبرج وإبداء الزينة فرب عجوز يبدو منها الحرص على ان يظهر لها جمال والتبرج طلب البدو والظهور للعين ومنه بروج مشيدة والذى ابيح وضعه لهن الجلباب الذى فوق الخمار والرداء قاله ابن مسعود وغيره ثم ذكر تعالى ان تحفظ الجميع منهن واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلتزم الشواب من الستر افضل لهن وخير
وقوله تعالى والله سميع عليم اي سميع لما يقول كل قائل وقائلة عليم بمقصد كل احد وفى هاتين الصفتين توعد وتحذير
وقوله تعالى ليس على (3/126)
الأعمى حرج الى قوله كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ظاهر الأية وامر الشريعة ان الحرج عنهم مرفوع فى كل ما يضطرهم اليه العذر وتقتضى نيتهن الاتيان به بالاكمل ويقتضى العذران يقع منهم الأنقص فالحرج مرفوع عنهم فى هذا وللناس اقوال فى الآية وتخصيصات يطول ذكرها وذكر الله تعالى بيوت القرابات وسقط منها بيوت الأبناء فقال المفسرون ذلك لأنها داخلة فى قوله من بيوتكم لان بيت ابن الرجل بيته
وقوله تعالى اوما ملكتم مفاتحه يريد ما خزنتم وصار فى قبضتكم فمعظمه ما ملكه الرجل فى بيته وتحت غلقة وهو تأويل الضحاك ومجاهد وعند جمهور المفسرين يدخل فى الاية الوكلاء والعبيد والاجراء بالمعروف وقرأ ابن جبير ملكتم مفاتيحه مبنيا للمفعول وزيادة ياءبين التاء والحاء وقرن تعالى فى هذه للاية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة لأن قرب المودة لصيق قال معمر قلت لقتادة الا اشرب من هذا الجب قال انت لى صديق فما هذا الاستيذان قال ابن عباس فى كتاب النقاش الصديق اوكد من القرابة الا ترى استغاثة الجهنميين فما لنا من شافعين ولا صديق حميم
وقوله تعالى ليس عليكم جناح ان تاكلوا جميعا او اشتاتا رد لمذهب جماعة من العرب كانت لا تأكل افذاذا البتة نحت به نحو كرم الخلق فأفرطت فى الزامة وان احضار الأكيل لحسن ولكن بأن لا يحرم الانفراد قال البخارى أشتاتا وشتى واحد انتهى وقال بعض اهل العلم هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام
ان دماءكم واموالكم عليكم حرام الحديث وبقوله تعالى لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر
لا يحلبن احدكم ماشية احد الا بإذنه الحديث ت والحق ان لا نسخ فى شى مما ذكر وسيأتى مزيد بيان لهذا المعنى
وقوله سبحانه فاذا دخلتم بيوتا قال النخعى اراد المساجد والمعنى سلموا على من فيها (3/127)
فإن لم يكن فيها احد فالسلام ان يقول السلام على رسول الله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقال ابن عباس وغيره المراد البيوت المسكونة اي سلموا على من فيها قالوا ويدخل فى ذلك غير المسكونة ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ت وفى سلاح المؤمن وعن ابن عباس فى قوله عز و جل فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على انفسكم قال هو المسجد اذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين رواه الحاكم فى المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين يعنى البخارى ومسلما انتهى وهذا هو الصحيح عن ابن عباس وفهم النووى ان الآية فى البيوت المسكونة قال ففى الترمذى عن انس قال قال لى النبى صلى الله عليه و سلم
يا بنى اذا دخلت على اهلك فسلم يكن بركة عليك وعلى اهل بيتك قال الترمذى حديث حسن صحيح وفى ابى داود عن ابى امامة عن النبى صلى الله عليه و سلم قال ثلاثة كلهم ضامن على الله عز و جل رجل خرج غازيا فى سبيل الله عزوجل فهو ضامن على الله تعالى حتى يتوفاه فيدخله الجنة او يرده بما نال من اجر او غنيمة ورجل راح الى المسجد فهو ضامن على الله تعالى حتى يتوفاه فيدخله الجنة او يرده بما نال من اجر وغنيمة ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله تعالى حديث حسن رواه ابو داود باسناد حسن ورواه ءاخرون والضمان الرعاية للشيء والمعنى انه فى رعاية الله عز و جل انتهى وقوله تعالى تحية من عند الله مباركة وصفها تعالى بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه ت وقد ذكرنا فى سورة النساء ما ورد فى المصافحة من رواية ابن السنى قال النووى وروينا فى سنن ابى داود والترمذى وابن ماجة عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان الا غفر لهما قبل ان يقترقا انتهى والكاف من قوله كذلك كاف تشبيه وذك اشارة الى هذه السنن وقال ايضا بعض الناس فى (3/128)
هذه الآية إنها منسوخة بآية الاستيذان المتقدمة قال ع والنسخ لا يتصور فى شىء من هذه الآيات بل هى كلها محكمة اما قوله ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل ففى التعدى والخدع ونحوه واما هذه الاية ففى اباحة طعام هذه الأصناف التى يسرها استباحة طعامها على هذه الصفة واما ءاية الاذن فعله ايجاب الاستيذان خوف الكشفة فإذا استإذن المرء ودخل المنزل بالوجه المباح صح له بعد ذلك اكل الطعام بهذه الاباحة وليس يكون فى الآية نسخ فتأمله
وقوله تعالى انما المومنون الذين ءامنوا بالله ورسوله الآية انما هنا للحصر والأمر الجامع يراد به ما للإمام حاجة الى جمع الناس فيه لمصلحة فالأدب اللازم فى ذلك ان لا يذهب احد لعذر الا بإذنه والإمام الذى يترقب اذنه هو امام الأمارة وروى ان هذه الآية نزلت فى وقت حفر النبى صلى الله عليه و سلم خندق المدينة فكان المؤمنون يستأذنون والمنافقون يذهبون دون اذن ثم امر تعالى نبيه عليه السلام بالاستغفار لصنفى المؤمنين من اذن له ومن لم يؤذن له وفى ذلك تأنيس للمؤمنين ورأفة بهم
وقوله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا اي لا تخاطبوه كمخاطبة بعضكم لبعض وامرهم تعالى فى هذه الآية وفى غيرها ان يدعو رسول الله بأشرف اسمائه وذلك هو مقتضى التوقير فالادب فى الدعاء ان يقول يا رسول الله ويكون ذلك بتوقير وبر وخفض صوت قاله مجاهد واللواذ الروغان ثم امرهم تعالى بالحذر من عذاب الله ونقمته اذا خالفوا امره ومعنى يخالفون عن امره اي يقع خلافهم بعد امره ثم اخبر تعالى انه قد علم ما اهل الارض والسماء عليه وباقى الاية بين والحمد لله (3/129)
تفسير سورة الفرقان وهى مكية فى قول الجمهور بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى تبارك هو مطاوع بارك من البركة وبارك فاعل من واحد ومعناه زاد وتبارك فعل مختص بالله تعالى لم يستعمل فى غيره وهو صفة فعل اي كثرت بركاته ومن جملتها انزال كتابة الذى هو الفرقان بين الحق والباطل والضمير فى قوله ليكون قال ابن زيد هو لمحمد صلى الله عليه و سلم وهو عبده المذكور ويحتمل ان يكون للفرقان
وقوله وخلق كل شىء عام فى كل مخلوق ثم عقب تعالى بالطعن على قريش في اتخاذهم ءالهة ليست لها صفات الألوهية والنشور بعث الناس من القبور
وقال الذين كفروا يعنى قريشا ان هذا الا افك افتراه محمد واعانه عليه قوم آخرون تقدمت الاشارة الى ذلك فى سورة النحل ثم اكذبهم الله تعالى واخبر انهم ما جاءوا الا اثما وزورا اي ما قالوا الا باطلا وبهتانا قال البخارى تملى عليه تقرأ عليه من امليت وامللت انتهى ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام ان يقول ان الذى انزله هو الذى يعلم سر جميع الاشياء التى فى السموات والارض وعبارة الشيخ العارف بالله سيدى عبد الله بن ابى جمرة رضى الله عنه ولما كان المراد منا بمقتضى الحكمة الربانية العبادة ودوامها ولذلك خلقنا كما ذكر مولانا سبحانه فى الاية الكريمة يعنى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون الاية وهو عز و جل غنى عن عبادتنا وعن كل شىء لكن الحكمة اقتضته لامر لا يعلمه (3/130)
الا هو كما قال الله عز و جل الذى يعلم السر فى السموات والارض اي الذى يعلم الحكمة فى خلقها وكذلك فى خلقنا وخلق جميع المخلوقات انتهى
وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام الاية المعنى عندهم ان من كان رسولا فهو مستغن عن الاكل والمشى فى الاسواق ومحاجتهم بهذا مذكورة فى السير ثم اخبر تعالى عن كفار قريش وهم الظالمون المشار اليهم انهم قالوا ان تتبعون الا رجلا مسحورا اي قد سحر ثم نبه تعالى نبيه مسليا له عن مقالتهم فقال انظر كيف ضربوا لك الامثال الاية والقصور التى فى هذه الاية تأولها الثعلبى وغيره انها فى الدنيا والقصور هى البيوت المبنية بالجدرات لانها قصرت عن الداخلين والمستأذنين وباقى الاية بين والضمير فى رأتهم لجهنم
وقوله سبحانه قل اذلك خير ام جنة الخلد المعنى قل يا محمد لهؤلاء الكفرة الصائرين الى هذه الاحوال من النار اذلك خير ام جنة الخلد وهذا استفهام على جهة التوقيف والتوبيخ لان الموقف جائز له ان يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب او بالخطإ
وقوله تعالى ويوم نحشرهم يعنى الكفار وما يعبدون من دون الله يريد كل شىء عبد من دون الله وقرأ ابن عامر فنقول بالنون قال جمهور المفسرين والموقف المجيب كل من ظلم بأن عبد ممن يعقل كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم وقال الضحاك وعكرمة الموقف المجيب الاصنام التى لا تعقل يقدرها الله تعالى على هذه المقالة ويجىء خزى الكفرة لذلك ابلغ وقرأ الجمهور نتخذ بفتح النون وذهبوا بالمعنى الى انه من قول من يعقل وان هذه الاية بمعنى التى فى سورة سبإ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة الاية وكقول عيسى ما قلت لهم الا ما امرتنى به وقولهم حتى نسوا الذكر اي ما ذكر به الناس على السنة الانبياء عليهم 0السلام وقرأ زيد بن ثابت وجماعة نتخذ بضم النون
وقوله تعالى فقد كذبوكم الاية خطاب من الله تعالى للكفرة اخبرهم ان معبوداتهم (3/131)
كذبتهم وفى هذا الاخبار خزى وتوبيخ لهم وقرأ حفص عن عاصم فما تستطيعون بالتاء من فوق قال مجاهد الضمير فى يستطيعون هو للمشركين وصرفا معناه رد التكذيب او العذاب
وقوله تعالى ومن يظلم منكم قيل هو خطاب للكفار وقيل للمؤمنين والظلم هنا الشرك قاله الحسن وغيره وقد يحتمل ان يعم غيره من المعاصي وفى حرف ابى ومن يكذب منكم نذقه عذابا كبيرا
وقوله تعالى وما ارسلنا قبلك من المرسلين الاية رد على قريش فى قولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الاسواق ثم اخبر عز و جل ان السبب فى ذلك انه جعل بعض عبيده فتنة لبعض على العموم فى جميع الناس مؤمن وكافر والتوقيف باتبصرون خاص بالمؤمنين المحققين قال ابن العربى فى الاحكام ولما كثر الباطل فى الاسواق وظهرت فيه المناكر كره علماؤنا دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم فى الدين تنزيها لهم عن البقاع التى يعصى الله تعالى فيها انتهى ثم اعرب قوله تعالى وكان ربك بصيرا عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من دخل السوق فقال لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حى لا يموت بيده الخير وهو على كل شىء قدير كتب الله له الف الف حسنة ومحا عنه الف الف سيئة ورفع له الف الف درجة رواه الترمذى وابن ماجة وهذا لفظ الترمذى وزاد فى رواية اخرى وبنى له بيتا فى الجنة ورواه الحاكم فى المستدرك من عدة طرق انتهى من السلاح
وقوله تعالى وقال الذين لا يرجون لقاءنا الاية الرجاء هنا على بابه وقيل هو بمعنى الخوف ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم اخبر تعالى عنهم انهم عظموا انفسهم وسألوا ما ليسوا له باهل ص لقد جواب قسم محذوف انتهى والضمير فى قوله ويقولون قال مجاهد وغيره هو للملائكة والمعنى يقول الملائكة للمجرمين حجرا محجورا عليكم البشرى اي حراما محرما والحجر الحرام (3/132)
وقال مجاهد ايضا وابن جريج الضمير للكافرين المجرمين قال ابن جريج كانت العرب اذا كرهوا شيأ قالوا حجرا قال مجاهد حجرا عوذا يستعيذون من الملائكة قال ع ويحتمل ان يكون المعنى ويقولون حرام محرم علينا العفو وقد ذكر ابو عبيدة ان هاتين اللفظتين عوذة للعرب يقولها من خاف ءاخر فى الحرم او فى شهر حرام اذا لقيه وبينهما تره قال الداودى وعن مجاهد وقدمنا اي عمدنا انتهى قال ع وقدمنا اي قصد حكمنا وانفاذنا ونحو هذا من الالفاظ اللائقة ومعنى الاية وقصدنا الى اعمالهم التى لا تزن شيأ فصيرناها هباء اي شيأ لا تحصيل له والهباء ما يتطاير فى الهواء من الاجزاء الدقيقة ولا يكاد يرى الا فى الشمس قاله ابن عباس وغيره ومعنى هذه الاية جعلنا اعمالهم لاحكم لها ولا منزلة ووصف تعالى الهباء فى هذه الاية بمنثور ووصفه فى غيرها بمينت فقالت فرقة هما سواء وقالت فرقة المنبث ارق وادق من المنثور لان المنثور يقتضى ان غيره نثره والمنبث كأنه انبث من دقته
وقوله تعالى واحسن مقيلا ذهب ابن عباس والنخعى وابن جريج الى ان حساب الخلق يكمل فى وقت ارتفاع النهار ويقيل اهل الجنة فى الجنة واهل النار فى النار فالمقيل القائلة قال ع ويحتمل ان اللفظة انما تضمنت تفضيل الجنة جملة وحسن هوائها فالعرب تفضل البلاد بحسن المقيل لأن وقت القائلة يبدى فساد هواء البلاد فاذا كان بلد فى وقت فساد الهواء حسنا حاز الفضل وعلى ذلك شواهد
ويوم تشقق السماء يريد يوم القيامة ص بالغمام الباء للحال اي متغيمة او للسبب او بمعنى عن انتهى وفى قوله تعالى وكان يوما على الكافرين عسيرا دليل على انه سهل على المؤمنين وروى عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال ان الله ليهون يوم القيامة على المومن حتى يكون عليه اخف من صلاة مكتوبة صلاها فى الدنيا وعض اليدين هو فعل النادم قال ابن عباس وجماعة من المفسرين الظالم فى هذه الاية (3/133)
عقبة بن ابى معيط وذلك انه كان اسلم او جنح الى الإسلام وكان ابى بن خلف الذى قتله النبى صلى الله عليه و سلم بيده يوم احد خليلا لعقبة فنهاه عن الاسلام فقبل نهيه فنزلت الاية فالظالم عقبة وفلانا ابى قال السهيلى وكنى سبحانه عن هذا الظالم ولم يصرح باسمه ليكون هذا الوعيد غير مخصوص به ولا مقصور عليه بل يتناول جميع من فعل مثل فعله انتهى وقال مجاهد وغيره ! الظالم عام اسم جنس وهذ هو الظاهر وان مقصد الاية تعظيم يوم القيامة وذكر هوله بانه يوم تندم فيه الظلمة وتتمنى انها لم تطع فى دنياها اخلاءها والسبيل المتمناه هى طريق آلاخرة وفى هذه الاية لكل ذى نهية تنبيه على تجنب قرين السوء والاحاديث والحكم فى هذا الباب كثيرة مشهورة والذكر ما ذكر الانسان امر ءاخرته من قرءان او موعظة ونحوه
وكان الشيطان للانسان خذولا يحتمل ان يكون من قول الظالم ويحتمل ان يكون ابتداء اخبار من الله عز و جل على وجه التحذير من الشيطان الذى بلغهم ذذلك المبلغ
وقوله تعالى وقال الرسول حكاية عن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم فى الدنيا وتشكيه ما يلقى من قومه هذا قول الجمهور وهو الظاهر وقالت فرقة هو حكاية عن قوله ذلك فى آلاخرة ومهجورا يحتمل ان يريد مبعدا مقصيا من الهجر بفتح الهاء وهذا قول ابن زيد ويحتمل ان يريد مقولا فيه الهجر بضم الهاء اشارة الى قولهم شعر وكهانة ونحوه قاله مجاهد قال ع وقول ابن زيد منبه للمؤمن على ملازمة المصحف وان لا يكون الغبار يعلوه فى البيوت ويشتغل بغيره وروى انس عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال من علق مصحفا ولم يتعاهده جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب هذا اتخذنى مهجورا اقض بينى وبينه وفى حلية النووى قال وروينا فى سنن ابى داود ومسند الدارمى عن سعد بن عبادة عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال من قرأ القرءان ثم نسيه لقى الله تعالى يوم (3/134)
القيامة اجذم وروينا فى كتاب ابى داود والترمذى عن انس عن النبى صلى الله عليه و سلم قال عرضت على اجور امتى حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب امتى قلم ار ذنبا اعظم من سورة من القرءان او ءاية أوتيها رجل ثم نسيها تكلم الترمذى فيه انتهى ثم سلاه تعالى عن فعل قومه بقوله وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين اي فاصبر كما صبروا قاله ابن عباس ثم وعد تعالى بقوله وكفى بربك هاديا ونصيرا والباء فى بربك للتأكيد دالة على الأمر اذ المعنى اكتف بربك
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة قال ابن عباس وغيره قالوا فى بعض معارضاتهم لو كان من عند الله لنزل جملة كالتوراة والانجيل
وقوله كذلك يحتمل ان يكون من قول الكفار اشارة الى التوراة والانجيل ويحتمل ان يكون من الكلام المستانف وهو اولى ومعناه كما نزل اردناه فالاشارة الى نزوله متفرقا والترتيل التفريق بين الشىء المتتابع ومنه ترتيل القرءان وجعل الله تعالى السبب فى نزوله متفرقا تثبيت قلب نبيه محمد صلى الله عليه و سلم وأن ينزله فى النوازل والحوادث التى قد قدرها وقدر نزوله فيها وان هؤلاء الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة منهم الاجاء القرءان بالحق فى ذلك والجلية ثم هو احسن تفسيرا وافصح بيانا وباقى الاية بين تقدم تفسير نظيره والجمهور ان هذا المشى على الوجوه حقيقة وقد جاء كذلك فى الحديث وقد تقدم ولفظ البخارى عن انس ان رجلا قال يا نبى الله ايحشر الكافر على وجهه يوم القيامة قال اليس الذى امشاه على الرجلين فى الدنيا قادرا على ان يمشيه على وجهه يوم القيامة قال قتادة بلى وعزة ربنا انتهى
وقوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب آلايات تنبيه لكفار قريش وتوعد ان يحل بهم ما حل بهؤلاء المعذبين قال قتادة اصحاب الرس وأصحاب الأيكة قومان ارسل اليهما شعيب وقاله وهب بن مبنه وقيل غير هذا (3/135)
وقوله تعالى وقرونا بين ذلك كثيرا ابهام لا يعلم حقيقته الا الله عز و جل والتبار الهلاك والقرية التى امطرت مطر السوء هى سذوم مدينة قوم لوط وما لم نذكر تفسيره قد تقدم بيانه للفاهم المتيقط ثم ذكر سبحانه انهم اذا رأوا محمدا عليه السلام قالوا على جهة الاستهزاء اهذا الذى بعث الله رسولا قال ص ان يتخذونك ان نافية جواب اذا انتهى ثم انس الله تعالى نبيه بقوله ارأيت من اتخذ الهه هواه الاية المعنى لا تتأسف عليهم ومعنى اتخذ الهه هواه اي جعل هواه مطاعا فصار كالإله ان هم الا كالأنعام اي بل هم كالأنعام ت وعبارة الواحدى ان هم اي ما هم الا كالانعام انتهى
وقوله سبحانه الم تر الى ربك كيف مد الظل الاية مد الظل باطلاق هو ما بين اول الاسفار إلى بزوغ الشمس ومن بعد مغيبها ايضا وقتا يسيرا فان فى هذين الوقتين على الارض كلها ظلا ممدودا
ولو شاء لجعله ساكنا اي ثابتا غير متحرك ولا منسوخ لكنه جعل الشمس ونسخها اياه وطردها له من موضع الى موضع دليلا عليه مبينا لوجوده ولوجه العبرة فيه وحكى الطبرى انه لولا الشمس لم يعلم ان الظل شىء اذ الاشياء انما تعرف بأضدادها
وقوله تعالى قبضا يسيرا يحتمل ان يريد لطيفا اي شيأ بعد شىء لافى مرة واحدة قال الداودى قال الضحاك قبضا يسيرا يعنى الظل اذا علته الشمس انتهى قال الطبرى ووصف الليل باللباس من حيث يستر الاشياء ويغشاها والسبات ضرب من الإغماء يعترى اليقظان مرضا فشبه النوم به والنشور هنا الاحياء شبه اليقظة به ويحتمل ان يريد بالنشور وقت انتشار وتفرق واناسى قيل هو جمع انسان والياء المشددة بدل من النون فى الواحد قاله سيبويه وقال المبرد هو جمع انسى والضمير فى صرفناه عائد على القرءان وان لم يتقدم له ذكر ويعضد ذلك قوله وجاهدهم به جهادا كبيرا
وقوله تعالى وهو الذى مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج مرج معناه خلط (3/136)
قال ع والذى اقول به فى معنى هذه آلاية ان المقصود بها التنبيه على قدره الله تعالى فى ان بث فى الارض مياها عذبه كثيرة جعلها خلال الاجاج وجعل الاجاج خلالها كما هو مر ! ي ! تجد البحر قد اكتنفته المياه العذبة فى ضفته وتجد الماء العذب فى الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الاجاج وكل باق على حاله ومطعمه فالبحران يراد بهما جميع الماء العذب وجميع الماء الاجاج والبرزخ والحجر هو ما بين البحرين من الارض واليبس قاله الحسن والفرات الصافى اللذيذ المطعم والاجاج ابلغ ما يكون من الملوحة
وقوله تعالى وهو الذى خلق من الماء بشرا آلاية تعديد نعم على الناس والنسب هو ان يجتمع انسان مع ءاخر فى اب او ام والصهر هو تواشج المناكحة فقرابة الزوجة هم الاختان وقرابة الزوج هم الاحماء والاصهار يقع عاما لذلك كله
وقوله تعالى وكان الكافر على ربه ظهيرا اي معينا يعينون على ربهم غيرهم من الكفرة بطاعتهم للشيطان وهذا تأويل مجاهد وغيره والكافر هنا اسم جنس وقال ابن عباس هو ابو جهل قال ع فيشبه ان ابا جهل هو سبب آلاية ولكن اللفظ عام للجنس كله ت والمعنى على دين ربه ظهيرا
وقوله تعالى الا من شاء ان يتخذ الى ربه سبيلا الظاهر فيه انه استثناء منقطع والمعنى لكن مسئولى ومطلوبى من شاء ان يهتدى ويومن ويتخذ الى رحمة ربه طريق نجاه
وقوله سبحانه وتوكل على الحي الذى لا يموت قال القشيرى فى التحبير واذا علم العبد ان مولاه حى لا يموت صح توكله عليه قال تعالى وتوكل على الحى الذى لا يموت قيل ان رجلا كتب الى ءاخر ان صديقى فلانا قد مات فمن كثرة ما بكيت عليه ذهب بصري فكتب اليه الذنب لك حين احببت الحى الذى يموت فهلا احببت الحى الذى لا يموت حتى لا تحتاج الى البكاء عليه انتهى وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كربنى امر الا تمثل لى جبريل عليه السلام فقال يا محمد قل توكلت على الحى الذى لا (3/137)
يموت والحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا رواه الحاكم فى المستدرك وقال صحيح الاسناد انتهى من السلاح
وقوله تعالى وسبح بحمده اي قل سبحان الله وبحمده اي تنزيهه واجب وبحمده اقول وصح عنه صلى الله عليه و سلم انه قال من قال فى كل يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر فهذ معنى قوله وسبح بحمده وهى احدى الكلمتين الخفيفتين على اللسان الثقيلتين فى الميزان الحديث فى البخارى وغيره ت وعن جويرية رضى الله عنها ان النبى صلى الله عليه و سلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهى فى مسجدها ثم رجع بعد ان اضحى وهى جالسة فقال ما زلت على الحال التى فارقتك عليها قال نعم قال النبى صلى الله عليه و سلم لقد قلت بعدك اربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته رواه الجماعة الا البخارى زاد النساءى فى ءاخره والحمد لله كذلك وفى رواية له سبحان الله وبحمده ولا اله الا الله والله اكبر عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته انتهى من السلاح
وقوله سبحانه وكفى به بذنوب عباده خبيرا وعيد بين
وقوله تعالى الرحمن يحتمل ان يكون رفعه باضمار مبتدإ اي هو الرحمن ويحتمل ان يكون بدلا من الضمير فى قوله استوى
وقوله فسئل به خبيرا فيه تأويلان احدهما فسئل عنه خبيرا والمعنى اسئل جبريل والعلماء واهل الكتاب والثانى ان يكون المعنى كما تقول لو لقيت فلانا لقيت به البحر كرما اي لقيت منه والمعنى فسئل الله عن كل امر وقال عياض فى الشفا قال القاضى ابو بكر بن العلاء المأمور بالسؤال غير النبى صلى الله عليه و سلم والمسئول الخبير هو النبى صلى الله عليه و سلم انتهى قال ابو حيان والظاهر تعلق به فسئل وبقاء الباء على بابها (3/138)
وخبيرا من صفاته تعالى نحو لقيت بزيد اسدا اي انه الاسد شجاعة والمعنى فسئل الله الخبيرب الأشياء انتهى
واذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن يعنى ان كفار قريش قالوا ما نعرف الرحمن الا رحمن اليمامة وهو مسيلمة الكذاب وكان مسيلمة تسمى بالرحمن
انسجد لما تامرنا وزادهم هذا اللفظ نفورا والبروج هى التى علمتها العرب وهى المشهورة عند اللغويين واهل تعديل الأوقات وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التى ذكرها الله تعالى فى قوله والقمر قدرناه منازل
وهو الذى جعل الليل والنهار خلفه اي هذا يخلف هذا وهذا يخلف هذا قال مجاهد وغيره لمن اراد ان يذكر اي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على ءالائه وقال عمر وابن عباس والحسن معناه لمن اراد ان يذكر ما فاته من الخير والصلاة ونحوه فى احدهما فيستدركه فى الذى يليه وقرأ حمزة وحده يذكر بسكون الذال وضم الكاف ثم لما قال تعالى لمن راد ان بذكر او اراد شكورا جاء بصفات عباده الذين هم اهل التذكر والشكور
وقوله الذين يمشون خبر مبتدإ والمعنى وعباده حق عباده هم الذين يمشون
وقوله يمشون على الارض عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم وهونا بمعنى ان امرهم كله هين اي لين حسن قال مجاهد بالحلم والوقار وقال ابن عباس يالطاعة والعفاف والتواضع وقال الحسن حلماء ان جهل عليهم لم يجهلوا قال الثعلبى قال الحسن يمشون حلماء علماء مثل الأنبياء لا يوذون الذر فى سكون وتواضع وخشوع وهو ضد المختال الفخور الذى يختال فى مشيه اه قال عياض فى صفة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم يخطو تكفؤا ويمشى هونا كأنما ينحط من صبب انتهى من الشفا قال ابو حيان هونا نعت لمصدر محذوف اي مشيا هونا او حال اي هينين انتهى وروى الترمذى عن ابن مسعود ان النبى صلى الله عليه و سلم قال الا اخبركم بمن يحرم على النار او بمن تحرم عليه النار على كل قريب هين (3/139)
سهل قال ابو عيسى هذا حديث حسن انتهى
واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما العامل فى سلاما قالوا والمعنى هذا اللفظ وقال مجاهد معنى سلاما قولا سدادا اي يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين وهذه آلاية كانت قبل ءاية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة وبقى ادبها فى المسلمين الى يوم القيامة قال صاحب الحكم الفارقية اذا نازعك انسان فلا تجبه فان الكلمة الأولى انثى واجابتها فحلها فإن امسكت عنها بترتها وقطعت نسلها وان اجبتها القحتها فكم من نسل مذموم يتولد بينهما فى ساعة واحدة انتهى
والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما هذه ءاية فيها تحريض على قيام الليل بالصلاة قال الحسن لما فرغ من وصف نهارهم وصف فى هذه ليلهم وغراما معناه ملازما ثقيلا ومقاما من الاقامة وعن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة اللهم ادخله الجنة ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار اللهم اجره من النار رواه ابو داود والنساءى وابن ماجه وابن حبان فى صحيحه بلفظ واحد ورواه الحاكم فى المستدرك وقال صحيح الاسناد انتهى من السلاح
وقوله سبحانه والذين اذا انفقوا لم يسرفوا آلاية عبارة اكثر المفسرين ان الذى لا يسرف هو المنفق فى الطاعة وان افرط والمسرف هو المنفق فى المعصية وان قل نفاقه وان المقتر هو الذى يمنع حقا عليه وهذا قول ابن عباس وغيره والوجه ان يقال ان النفقة فى المعصية امر قد حظرت الشريعة قليلة وكثيرة وهؤلاء الموصوفون منزهزن عن ذلك وانما التأديب بهذه آلاية هو فى نفقة الطاعات والمباحات فادب الشريعة فيها ان لا يفرط الانسان حتى يضيع حقا آخر اوعيالا ونمو هذا وان لا يضيق ايضا ويقتر حتى يجمع العيال ويفرط فى الشح والحسن فى ذلك هو القوام اي المعتدل والقوام فى كل واحد بحسب عياله وحاله وخير الأمور اوساطها ولهذا ترك النبى صلى الله عليه و سلم ابا بكر (3/140)
الصديق يتصدق بجميع ماله لان ذلك وسط بنسبة جلده وصبره فى الدين ومنع غيره من ذلك وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة ما نفقتك فقال له عمر الحسنة بين السيئتين ثم تلا آلاية وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه كفى بالمرء سرفا ان لا يشتهى شيأ الا اشتراه فاكله وقواما خبر كان واسمها مقدر اي الانفاق
والذين لا يدعون مع الله الها آخر آلاية فى نحو هذه آلاية قال ابن مسعود قلت يوما يا رسول الله اي الذنب اعظم قال ان تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم اي قال ان تقتل ولدك خشية ان يطعم معك قلت ثم اي قال ان تزانىحليلة جارك ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه آلاية والآثام فى كلام العرب العقاب وبه فسر ابن زيد وقتادة هذه آلاية قال ع يضاعف بالجزم بدل من يلق قال سيبويه مضاعفة العذاب هو لقي الاثام
وقوله تعالى الا من تاب لا خلاف بين العلماء ان الاستثناء عام فى الكافى والزانى واختلفوا فى القاتل وقد تقدم بيان ذلك فى سورة النساء
وقوله سبحانه فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات اي بان يجعل اعمالهم بدل معاصيهم الاولى طاعة قاله ابن عباس وغيره ويحتمل ان يكون فى ذلك فى يوم القيامة يجعل بدل السيئات الحسنات تكرما منه سبحانه وتعالى كما جاء فى صحيح مسلم وهو تأويل ابن المسيب ص والاولى ان يكون الاستثناء هنا منقطعا اي لكن من تاب وءامن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات انتهى ثم اكد سبحانه امر التوبة ومدح المتاب فقال ومن تاب وعمل صالحا فانه يتوب الى الله متابا كأنه قال فإنه يجد بابا للفرج والمغفرة عظيما ثم استمرت آلايات فى صفة عباد الله المؤمنين بان نفى عنهم شهادة الزور ويشهدون فى هذا الموضع ظاهر معناها يشاهدون ويحضرون والزور كل باطل زور واعظمه الشرك وبه فسر الضحاك ومنه الغناء وبه فسر مجاهد وقال على وغيره معناه لا يشهدون بالزور فهى من (3/141)
الشهادة لامن المشاهدة والمعنى الاول اعم واللغو كل سقط من فعل او قول وقال الثعلبى اللغو كل ما ينبغى ان يطرح ويلغى انتهى وكراما معناه معرضين مستحيين يتجافون عن ذلك ويصبرون على الاذى فيه قال ع واذا مر المسلم بمنكر فكره ان يغيره وحدود التغير معروفة
وقوله تعالى والذين اذا ذكروا بئايات ربهم يريد ذكروا بالقرءان امر ءاخرتهم ومعادهم
وقوله لم يخروا عليها صما وعميانا يحتمل تأويلين احدهما ان يكون المعنى لم يكن خرورهم بهذه الصفة بل يكونوا سجدا وبكيا وهذه كما تقول لم يخرج زيد الى الحرب جزعا اي انما خرج جريئا مقداما وكأن الذى يخر اصم اعمى هو المنافق او الشاك والتأويل الثانى ذهب اليه الطبرى وهو ان يخروا صما وعميانا هى صفة للكفار وهى عبارة عن اعراضهم وقال الفراء لم يخروا اي لم يقيموا وهو نحو تأويل الطبرى انتهى وقال ابن العربى فى احكامه قوله تعالى والذين اذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا قال علماؤنا يعنى الذين اذا قرءوا القرءان قرءوه بقلوبهم قراءه فهم وتثبيت ولم ينثروه نثر الدقل فان المرور عليه بغير فهم ولا تثبيت صمم وعمى انتهى وقرة العين من القر وهذا هو الأشهر لأن دمع السرور بارد ودمع الحزن سخن فلهذا يقال اقر الله عينك واسخن الله عين العدو وقرة العين فى الازواج والذرية ان يراهم الانسان مطيعين لله تعالى قاله ابن عباس والحسن وغيرهما وبين المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بانه كان فى اول الاسلام يهتدى الاب والابن كافر او الزوج والزوجة كافرة فكانت قرة اعينهم فى ايمان احبابهم
واجعلنا للمتقين اماما اي اجعلنا يأتم بنا المتقون وذلك بان يكون الداعى متقيا قدوة وهذا هو قصد الداعى قال النخعى لم يطلبوا الرياسة بل ان يكونوا قدوة فى الدين وهذا حسن ان يطلب ويسعى له قال الثعلبى قال ابن عباس المعنى واجعلنا ائمة هدى انتهى وهو حسن لانهم طلبوا ان يجعلهم اهلا لذلك والغرفة (3/142)
من منازل الجنة وهى الغرف فوق الغرف وهى اسم جنس كما قال ... ولولا الحبة السمرا ... لم تحلل بواديكم ...
ت واخرج ابو القاسم زاهر بن طاهر بن محمد بن الشحامى عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان فى الجنة لغرفا ليس لها معاليق من فوقها ولا عماد من تحتها قيل يا رسول الله وكيف يدخلها اهلها قال يدخلونها اشباه الطير قيل هى يا رسول الله لمن قال هى لاهل الاسقام والاوجاع والبلوى انتهى من التذكرة وقرأ حمزة وغيره يلقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف
وقوله تعالى قل ما يعبؤبكم آلاية ما نافية وتحتمل التقرير ثم آلاية تحتمل ان تكون خطابا لجميع الناس فكانه قال لقريش منهم ما يبالى الله بكم ولا ينظر اليكم لولا عبادتكم اياه ان لو كانت اذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من اجله قال تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون وقال النقاش وغيره المعنى لولا استغاثتكم اليه فى الشدائد وقرأ ابن الزبير وغيره فقد كذب الكافرون وهذا يؤيد ان الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس ثم يقول لقريش فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب او التكذيب الذى هو سبب العذاب لزاما ويحتمل ان يكون الخطاب بالآيتين لقريش خاصة وقال الداودى وعن ابن عيينه لولا دعاؤكم معناه لولا دعاؤكم اياه لتطيعوه انتهى قال ابن العربى فى احكامه زعم بعض الادباء ان لولا دعاؤكم معناه لولا سؤالكم اياه وطلبكم منه ورأى انه مصدر اضيف الى فاعل وليس كما زعم وانما هو مصدر اضيف الى مفعول والمعنى قل يا محمد للكفار لولا دعاؤكم ببعثه الرسول اليكم وتبين الأدلة لكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ذكر هذا عند قوله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فى ءاخر سورة النور انتهى ت والحق ان الاية محتملة لجميع ما تقدم ومن ادعى التخصيص فعليه بالدليل والله اعلم ويعبأ مشتق من العبء وهو الثقل الذى يعبأ ويرتب كما (3/143)
يعبأ الجيش قال الثعلبى قال ابو عبيدة يقال ما عبأت به شيأ اي لم اعده شيأ فوجوده وعدمه سواء انتهى وقال العراقى ما يعبأ اي ما يبالى انتى واكثر الناس على ان اللزام المشار اليه هو يوم بدر وقالت فرقة هو توعد بعذاب آلاخرة وقال ابن عباس اللزام الموت وقال البخارى فسوف يكون لزاما اي هلكة انتهى
تفسير سورة الشعراء وهى مكية كلها فى قول الجمهور بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى طسم تلك ءايات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك الا يكونوا مؤمنين تقدم الكلام على الحروف التى فى اوائل السور والباخع القاتل والمهلك نفسه بالهم والخضوع للآية المنزلة اما لخوف هلاك كنتق الجبل على بنى اسراءيل واما لاجل الوضوح وبهر العقول بحيث يقع الاذعان لها والاعناق الجارحة المعلومة وذلك ان خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد وقيل المراد بالاعناق جماعتهم يقال جاء عنق من الناس اي جماعة
وقوله تعالى وما ياتيهم من ذكر من الرحمن محدث الا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا فسيأتيهم انباء ما كانوا به يستهزءون او لم يروا الى الارض كم انبتنا فيها من كل زوج كريم تقدم تفسير هذه الجملة فانظره فى محله وقوله تعالى فسياتيهم وعيد بعذاب الدنيا كبدر وغيرها ووعيد بعذاب الاخرة والزوج النوع والصنف والكريم الحسن المتقن قاله مجاهد وغيره
وقوله تعالى وما كان أكثرهم مؤمنين حتم (3/144)
على اكثرهم بالكفر ثم توعد تعالى بقوله وان ربك لهو العزيز الرحيم اي عزيز فى انتقامه من الكفار رحيم بأوليائه المؤمنين
وقوله تعالى واذ نادى ربك موسى التقدير واذكر اذ نادى ربك موسى وسوق هذه القصة تمثيل لكفار قريش فى تكذيبهم النبى صلى الله عليه و سلم
وقوله فأرسل الى هارون معناه يعيننى ولهم علي ذنب يعنى قتله القبطى
وقوله تعالى كلا ردا لقوله انى اخاف اي لا تخف ذلك وقول فرعون لموسى الم نربك فينا وليدا هو على جهة المن عليه والاحتقار اي ربيناك صغيرا ولم نقتلك فى جملة من قتلنا ولبثت فينا من عمرك سنين فمتى كان هذا الذى تدعيه ثم قرره على قتل القبطى بقوله وفعلت فعلتك والفعلة بفتح الفاء المرة وقوله وانت من الكافرين يريد وقتلت القبطى وانت فى قتلك اياه من الكافرين اذ هو نفس لا يحل قتلها قاله الضحاك او يريد وانت من الكافرين بنعمتى فى قتلك اياه قاله ابن زيد ويحتمل ان يريد وانت الان من الكافرين بنعمتى وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطى وبين رجوعه نبيا الى فرعون احد عشر عاما غير اشهر
وقوله قال فعلتها اذا من كلام موسى والضمير فى قوله فعلتها لقتله القبطى وقوله وانا من الضالين قال ابن زيد معناه من الجاهلين بأن وكزتى اياه تأتى على نفسه وقال ابو عبيدة معناه من الناسين ونزع بقوله ان تضل احداهما وفى قراءة ابن مسعود وابن عباس وانا من الجاهلين ويشبه ان تكون هذه القرءاة على جهة التفسير وحكما يريد النبوءة وحكمتها
وقوله وجعلنى من المرسلين درجة ثانية للنبوءة فرب نبىء ليس برسول
وقوله وتلك نعمة تمنها على الاية قال قتادة هذا من موسى على جهة الانكار على فرعون كأنه يقول او يصح لك ان تعد على نعمة ترك قتلى من اجل انك ظلمت بنى اسراءيل وقتلتهم اي ليست بنعمة لأن الواجب كان الا تقتلنى ولا تقتلهم ولا تستعبدهم وقرأ الضحاك وتلك نعمة (3/145)
ما لك ان تمنها على وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل وقال الطبرى والسدى هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الاقرار بالنعمة كأنه يقول نعم وتربيتك نعمة على من حيث عبدت غيرى وتركتنى ولكن ذلك لا يدفع رسالتى ولما لم يجد فرعون حجة رجع الى معارضة موسى فى قوله ومارب العالمين واستفهمه استفهاما فقال موسى هو رب السموات والارض آلاية فقال فرعون عند ذلك الا تستمعون على معنى الاغراء والتعجب من شنعة المقالة اذ كانت عقيدة القوم ان فرعون ربهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك فزاده موسى فى البيان بقوله ربكم ورب ءابائكم الاولين فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف ان رسولكم الذى ارسل اليكم لمجنون فزاده موسى فى بيان الصفات التى تظهر نقص فرعون وتبين انه فى غاية البعد عن القدرة عليها وهى ربوبية المشرق والمغرب ولم يكن لفرعون الاملك مصر ولما انقطع فرعون فى باب الحجة رجع الى الاستعلاء والتغلب فقال لموسى لئن اتخذت الها غيرى لاجعلنك من المسجونين وفى توعده بالسجن ضعف لأنه خارت طباعة معه وكان فيما روى انه يفزع من موسى فزعا شديدا حتى كان لا يمسك بوله وكان عند موسى من امر الله والتوكل عليه مالا يفزعه توعد فرعون فقال له موسى على جهة اللطف به والطمع فى ايمانه او لو جئتك بشىء مبين يتضح لك معه صدقى فلما سمع فرعون ذلك طمع ان يجد اثناءه موضع معارضة فقال له فات به ان كنت من الصادقين فالقى موسى عصاه فاذا هى ثعبان مبين على ما تقدم بيانه ونزع يده من جيبه فاذا هى تتلألأ كأنها قطعة من الشمس فلما رأى فرعون ذلك هاله ولم يكن له فيه مدفع غير انه فزع الى رميه بالسحر
وقوله يريد ان يخرجكم من ارضكم بسحرة تقدم بيانه وكذلك قولهم وابعث فى المدائن حاشرين ياتوك بكل سحار عليم تقدم بيانه
وقوله تعالى قال نعم وانكم اذا (3/146)
لمن المقربين يريد بتقريبهم الجاه الزائد على العطاء الذى طلبوه
وقوله تعالى فألقى السحرة ساجدين قالوا ءامنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل ان آذن لكم انه لكبيركم الذى علمكم السحر فلسوف تعلمون لأ قطعن ايديكم وارجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير انا الى ربنا منقلبون تقدم بيان هذه الجملة والحمد لله فانظره فى محله قال ابن العربى فى احكامه قال مالك دعا موسى فرعون اربعين سنة الى الاسلام وان السحرة ءامنوا فى يوم واحد انتهى وقولهم لا ضير اي لا يضرنا ذلك مع انقلابنا الى مغفرة الله ورضوانه وقولهم ان كنا اول المومنين يريدون من القبط وصنيفتهم والا فقد كانت بنو اسراءيل ءامنت والشرذمة الجمع القليل المحتقر وشرذمة كل شىء بقيته الخسيسة
وقوله لغائظون يريد بخلافهم الأمر وبأخذهم الاموال عارية وحذرون جمع حذر والضمير فى قوله فأخرجناهم عائد على القبط والجنات والعيون بحافتى النيل من اسوان الى رشيد قاله ابن عمر وغيره والمقام الكريم قال ابن لهيعة هو الفيوم وقيل هو المنابر وقيل مجالس الامراء والحكام وقيل المساكن الحسان ومشرقين معناه عند شروق الشمس وقيل معناه نحو المشرق والطود هو الجبل وازلفنا معناه قربنا وقرأ ابن عباس وأزلقنا بالقاف
واتل عليهم نبأ ابراهيم الاية هذه الاية تضمنت الاعلام بغيت والعكوف الزوم
وقوله فانهم عدو لى الارب العالمين قالت فرقة هو استثناء متصل لان فى الاباءالأقدمين من قد عبد الله تعالى وقالت فرقة هو استثناء منقطع لأنه انما اراد عباد الأوثان من كل قرن منهم واسند ابراهيم عليه السلام المرض الى نفسه والشفاء الى ربه عز و جل وهذا حسن ادب فى العبارة والكل من عند الله واوقف عليه السلام نفسه على الطمع فى المغفرة وهذا دليل على شدة خوفه مع علو منزلته عند الله وروى االترمذى عن ابى هريرة قال قال رسول الله (3/147)
صلى الله عليه و سلم من عاد مريضا او زار اخا له فى الله ناداه مناد ان طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا قال ابو عيسى هذا حديث حسن انتهى وفى صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من عاد مريضا لم يزل فى خرفة الجنة حتى يرجع قيل يا رسول الله وما خرفة الجنة قال جناها انتهى وعنه صلى الله عليه و سلم من عاد مريضا لم يحضر اجله فقال عنده سبع مرات اسأل الله العظيم رب العرش العظيم ان يشفيك الا عافاه الله سبحانه خرجه ابو داود والترمذى والحاكم فى المستدرك على الصحيحين بالاسناد الصحيح انتهى من حلية النووى وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه و سلم قال من عاد مريضا لم يحضر اجله فقال عند رأسه سبع مرات اسأل الله العظيم رب العرش العظيم ان يشفيك الا عافاه الله من ذلك المرض رواه ابو داود واللفظ له والترمذى والنساءى والحاكم وابن حبان فى صحيحيهما بمعناه وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين يعنى البخارى ومسلما وفى رواية النساءى وابن حبان كان النبى صلى الله عليه و سلم اذا عاد المريض جلس عند رأسه ثم قال فذكر مثله بمعناه انتهى من السلاح
وقوله خطيئتى ذهب اكثر المفسرين الى انه اراد كذباته الثلاث قوله هى اختى فى شأن سارة وقوله انى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم وقالت فرقة اراد بالخطيئة اسم الجنس فدعا فى كل امره من غير تعيين قال ع وهذا اظهر عندى
وقوله رب هب لى حكما اي حكمة ونبوءة ودعاؤه فى مثل هذا هو فى معنى التثبيت والدوام ولسان الصدق هو الثناء الحسن واستغفاره لابيه فى هذه الاية هو قبل ان يتبين له انه عدو لله
وقوله بقلب سليم معناه خالص من الشرك والمعاصى وعلق الدنيا المتروكة وان كانت مباحة كالمال والبنين قال سفيان هو الذى يلقى ربه وليس فى قلبه شىء غيره (3/148)
قال ع وهذا يقتضى عموم اللفظة ولكن السليم من الشرك هو الأهم وقال الجنيد بقلب لديغ من خشية الله والسليم اللديع ص الا من اتى الله الظاهر انه استثناء منقطع اي لكن من اتى الله بقلب سليم نفعته سلامة قلبه انتهى وازلفت معناه قربت والغاوون الذين برزت لهم الجحيم هم المشركون ثم اخبر سبحانه عن حال يوم القيامة من ان الاصنام تكبكب فى النار اي تلقى كبه واحدة وقال ص فكبكبوا اي قلب بعضهم على بعض وحروفه كلها اصول عند جمهور البصريين وذهب الزجاج وابن عطيه وغيرهما الى انه مضاعف الباء من كب وقال غيرهما وجعل التكرير من اللفظ دليلا على التكرير فى المعنى وذهب الكوفيون الى ان اصله كبب والكاف بدل من الباء الثانية انتهى والغاوون الكفرة الذين شملتهم الغواية وجنود ابليس نسله وكل من يتبعه لأنهم جند له واعوان ثم وصف تعالى ان اهل النار يختصمون فيها ويتلاومون قائلين لاصنامهم تالله ان كنا لفى ضلال مبين فى ان نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله الذى هو رب العالمين ثم عطفوا يردون الملامة على غيرهم اي ما اضلنا الا كبراؤنا واهل الجرم والجراءة ثم قالوا على جهة التلهف والتأسف حين رأوا شفاعة الملائكة والانبياء والعلماء نافعة فى اهل الايمان عموما وشفاعة الصديق فى صديقه خصوصا فما لنا من شافعين ولا صديق حميم والحميم الولى والقريب الذى يخصك امره وحامة الرجل خاصته وباقى الاية بين وقول نوح عليه السلام انى لكم رسول امين اي امين على وحى الله ورسالته ص قرأ الجمهور واتبعك والجملة حال اي وقد اتبعك ويعقوب واتباعك وعن اليمانى واتباعك بالجر عطفا على الضمير فى لك انتهى والارذلون جمع الأرذل ولا يستعمل الا معرفا او مضافا او بمن قال ع ويظهر من الاية ان مراد قوم نوح بنسبة الرذيلة الى المومنين تهجين افعالهم لا النظر فى صنائعهم (3/149)
وذهب اشراف قوم نوح فى استنقاصهم ضعفة المؤمنين مذهب كفار قريش فى شأن عمار بن ياسر وصهيب وبلال وغيرهم وقولهم من المرجومين يحتمل ان يريدوا بالحجارة او بالقول والشتم وقوله افتح معناه احكم والفتاح القاضى بلغة يمانية والفلك السفينة والمشحون معناه المملوء وقول هود عليه السلام لقومه أتبنون هو على جهة التوبيخ والريع المرتفع من الارض وله فى كلام العرب شواهد وعبر المفسرون عن الريع بعبارات وجملة ذلك انه المكان المشرف وهو الذى يتنافس البشر فى مبانية والاية البنيان قال ابن عباس ءاية علم وقال مجاهد ابراج الحمام وقيل القصور الطوال والمصانع جمع مصنع وهو ما صنع واتقن فى بنيانه من قصر مشيد ونحوه قال البخارى كل بناء مصنعة انتهى
وقوله لعلكم تخلدون اي كأنكم تخلدون وكذا نقله البخارى عن ابن عباس غير مسند انتهى والبطش الآخذ بسرعة والجبار المتكبر ثم ذكرهم عليه السلام بأياد الله تعالى فيما منحهم وحذرهم من عذابه فكانت مراجعتهم ان سووا بين وعظه وتركه الوعظ وقرأ نافع وغيره خلق الأولين بضم اللام فالإشارة بهذا الى دينهم اي ما هذا الذى نحن عليه الاخلق الناس وعادتهم وقرأ ابن كثير وغيره خلق بسكون اللام فيحتمل المعنى ما هذا الذى تزعمه الا اخلاق الأولين من الكذبة فانت على منهاجهم وروى علقمة عن ابن مسعود الا اختلاق الأولين وقول صالح لقومه اتتركون فيما ها هنا تخويف لهم بمعنى اتطمعون ان تقروا فى النعم على معاصيكم والهضيم معناه اللين الرطب والطلع الكفرى وهو عنقود التمر قبل ان يخرج من الكم فى اول نباته فكان الاشارة الى ان طلعها يتم ويرطب قال ابن عباس اذا اينع وبلغ فهو هضيم وقال الزجاج هو قيل الذى رطبه بغير نوى وقال الثعلبى قال ابن عباس هضيم لطيف ما دام فى كفراه انتهى وقرأ الجمهور تنحتون بكسر الحاء وفرهين من الفراهة وهى جودة منظر (3/150)
الشىء وخبرته وقوته
وقوله ولا تطيعوا امر المسرفين خاطب به جمهور قومه وعن بالمسرفين كبراءهم واعلام الكفر والإضلال فيهم قالوا انما انت من المسحرين اي قد سحرت ص قرأ الجمهور شرب بكسر الشين اي نصيب وقرأ ابن ابى عبلة بضم الشين فيهما انتهى
وقوله تعالى كذبت قوم لوط المرسلين اذ قال لهم اخوهم لوط قال النقاش ان فى مصحف ابن مسعود وابى وحفصة اذ قال لهم لوط وسقط اخوهم
وقوله انى لعملكم من القالين القلى البغض فنجاه الله بان امره بالرحلة على ما تقدم فى قصصهم
وقوله تعالى كذب اصحاب ليكة المرسلين قرأ نافع وابن كثير وابن عامر اصحاب ليكة على وزن فعله هنا وفى ص وقرأ الباقون الايكة وهى الدوحة الملتفة من الشجر على الاطلاق وقيل من شجر معروف له غضارة تالفة الحمام والقمارى ونحوها وليكة اسم البلد فى قراءة من قرأ ذلك قاله بعض المفسرين وذهب قوم الى انها مسهلة من الأيكة وانها وقعت فى المصحف هنا وفى ص بغير الف
وقوله تعالى كذبت قوم نوح المرسلين وكذلك ما بعده بلفظ الجمع من حيث ان تكذيب نبيىء واحد يستلزم تكذيب جميع الانبياء لانهم كلهم يدعون الخلق الى الايمان بالله تعالى واليوم الآخر وفى قول الانبياء عليهم السلام الا تتقون عرض رفيق وتلطف كما قال تعالى فقل هل لك الى ان تزكى والجبلة الخليقة والقرون الماضية والكسف القطع واحدها كسفه ويوم الظلة هو يوم عذابهم وصورته فيما روى ان الله امتحنهم بحر شديد وانشأ الله سبحانه فى بعض قطرهم فجاء بعضهم الى ظلها فوجد لها بردا وروحا فتداعوا اليها حتى تكاملوا فاضطرمت عليهم نارا فأحرقتهم عن آخرهم وقيل غير هذا والحق انه عذاب جعله الله ظلة عليهم
وقوله تعالى وانه لتنزيل رب العالمين يعنى القرءان
وقوله بلسان عربى متعلق بنزل اي سمعة النبى صلى الله عليه و سلم (3/151)
من جبريل حروفا عربية وهذا هو القول الصحيح وما سوى هذا فمردود
وقوله سبحانه وانه لفى زبر الاولين اي القرءان مذكور فى الكتب المنزلة القديمة منبه عليه مشار اليه او لم يكن لهم ءاية ان يعلمه علماء بنى اسراءيل كعبد الله بن سلام ونحوه قاله ابن عباس ومجاهد قال مقاتل هذه آلاية مدنية ومن قال ان آلاية مكية ذهب الى ان علماء بنى اسراءيل ذكروا لقريش ان فى التوراة صفة النبى الآمى وان هذا زمانه فهذه الاشارة الى ذلك ان قريشا بعثت الى الاحبار يسئلونهم عن امر النبى صلى الله عليه و سلم ثم اخبر تعالى ان هذا القرءان لو سمعوه من اعجم اي من حيوان غير ناطق او من جماد والاعجم كل ما لا يفصح ما كانوا يؤمنون والاعجمون جمع اعجم وهو الذى لا يفصح وان كان عربى النسب وكذلك يقال للحيوانات والجمادات ومنه الحديث جرح العجماء جبار والعجمى هو الذى نسبه فى العجم وان كان افصح الناس وقرأ الحسن الأعجميين قال ابو حاتم اراد الاعجمى المنسوب الى العجم وقال الثعلبى معنى الاية ولو نزلناه على رجل ليس بعربى اللسان فقرأه عليهم بغير لغة العرب لما ءامنوا به انفة من اتباعه انتهى
وقوله تعالى كذلك سلكناه فى قلوب المجرمين قال ع وسلكناه معناه ادخلناه والضمير فيه للكفر الذي يتضمنه قوله ما كانوا به مؤمنين قاله الحسن وقيل الضمير للتكذيب وقيل للقرءان ورجح بأنه المتبادر الى الذهن والمجرمون اراد به مجرمي كل امة اي ان هذه عادة الله فيهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب فكفار قريش كذلك وهل نحن منظرون اي مؤخرون
وقوله سبحانه افبعذابنا يستعجلون توبيخ لقريش على استعجالهم العذاب وقولهم للنبى صلى الله عليه و سلم اسقط علينا كسفا من السماء وقولهم اين ما تعدنا ثم خاطب سبحانه نبيه عليه السلام بقوله افرأيت ان متعناهم سنين قال عكرمة سنين يريد عمر الدنيا ثم اخبر تعالى انه لم يهلك قرية من القرى الا بعد ارسال (3/152)
من ينذرهم عذاب الله عز و جل ذكرى لهم وتبصرة
وقوله تعالى وما تنزلت به الشياطين الضمير فى به عائد على القرءان
وقوله تعالى انهم عن السمع لمعزولون اي لان السماء محروسة بالشهب الجارية اثر الشياطين ثم وصى تعالى نبيه بالثبوت على التوحيد والمراد امته فقال فلا تجعل مع الله الها آخر الاية
وقوله تعالى وانذر عشيرتك الأقربين الاية وفى صحيح البخارى وغيره عن ابن عباس لما نزلت هذه الاية خرج النبى صلى الله عليه و سلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا من هذا فاجتمعوا اليه فقال أرأيتم ان اخبرتكم ان خيلا تخرج من سفح هذا الجبل اكنتم مصدقى قالوا نعم ما جربنا عليك كذبا قال فانى نذير لكم بين يدي عذاب شديد الحديث وخص بإنذاره عشيرته لانهم مظنة الطواعية واذ يكنه من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيرهم ولان الانسان غير متهم على عشيرته والعشيرة قرابة الرجل وخفض الجناح استعارة معناه لين الكلمة وبسط الوجه والبر والضمير فى عصوك عائد على عشيرته ثم امر تعالى نبيه عليه السلام بالتوكل عليه فى كل اموره ثم جاء بالصفات التى تونس المتوكل وهى العزة والرحمة
وقوله الذى يراك حين تقوم يراك عبارة عن الادراك وظاهر الاية انه اراد قيام الصلاة ويحتمل سائر التصرفات وهو تأويل مجاهد وقتادة
وقوله سبحانه وتقلبك فى الساجدين قال ابن عباس وغيره يريد اهل الصلاة اي صلاتك مع المصلين
وقوله تعالى قل هل أنبئكم اي قل لهم يا محمد هل اخبركم على من تنزل الشياطين والأفاك الكذاب والاثيم الكثير الأثيم ويريد الكهنة لانهم كانوا يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التى سمعت من السماء فيخلطون معها مائة كذبة حسبما جاء فى الحديث وقد ذكرناه فى غير هذا الموضع والضمير فى يلقون يحتمل ان يكون للشياطين ويحتمل ان يكون للكهنة ولما ذكر الكهنة بغفكهم وحالهم التى تقتضى نفى كلامهم عن كلام (3/153)
الله تعالى عقب ذلك بذكر الشعراء وحالهم لينبه على بعد كلامهم من كلام القرءان اذ قال بعض الكفرة فى القرءان انه شعر والمراد شعراء الجاهلية ويدخل فى الاية كل شاعر مخلط يهجو ويمدح شهوة ويقذف المحصنات ويقول الزور
وقوله الغاوون قال ابن عباس هم المستحسنون لأشعارهم المصاحبون لهم وقال عكرمة هم الرعاع الذين يتبعون الشاعر ويغتنمون انشاده
وقوله فى كل واد يهيمون عبارة عن تخليطهم وخوضهم فى كل فن من غث الكلام وباطله قاله ابن عباس وغيره وروى جابر بن عبد الله عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال من مشى سبع خطوات فى شعر كتب من الغاوين ذكره اسد بن موسى وذكره النقاش
وقوله تعالى الا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات الاية هذا الاستثناء هو فى شعراء الاسلام كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكل من اتصف بهذه الصفة ويروى عن عطاء بن يسار وغيره ان هؤلاء شق عليهم ما ذكر قبل فى الشعراء فذكروا ذلك للنبى صلى الله عليه و سلم فنزلت ءاية الاستثناء بالمدينة
وقوله تعالى وذكروا الله كثيرا يحتمل ان يريد فى اشعارهم وهو تأويل ابن زيد ويحتمل ان ذلك خلق لهم وعبادة قاله ابن عباس فكل شاعر فى الاسلام يهجو ويمدح عن غير حق فهو داخل فى هذه الاية وكل تقى منهم يكثر من الزهد ويمسك عن كل ما يعاب فهو داخل فى الاستثناء ت قد كتبنا والحمد لله فى هذا المختصر جملة صالحة فى فضل الأذكار عسى الله ان ينفع به من وقع بيده ففى جامع الترمذى عن ابى سعيد الخدرى قال سئل النبى صلى الله عليه و سلم اي العباد افضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة قال الذاكرون الله كثيرا قلت ومن الغازى فى سبيل الله عز و جل قال لو ضرب بسيفه فى الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله تعالى افضل منه وروى الترمذى وابن ماجة عن ابى الدرداء قال (3/154)
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الا انبئكم بخير اعمالكم وازكاها عند مليككم وارفعها فى درجاتكم وخيرلكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا اعناقهم ويضربوا اعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله تعالى قال الحاكم ابو عبد الله فى كتابة المستدرك على الصحيحين هذا حديث صحيح الاسناد انتهى من حلية النووى
وقوله وانتصروا من بعد ما ظلموا اشارة الى ما رد به حسان وعلى وغيرهما على قريش ت قيل وانصف بيت قالته العرب قول حسان لابى سفيان او لابى جهل ... اتهجوه ولست له بكفو ... فشركما لخيركما الفداء ...
وباقى آلآية وعيد لظلمة كفار مكة وتهديد لهم
تفسير سورة النمل وهى مكية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى طس تلك ءايات القرءان وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين تقدم القول فى الحروف المقطعة وعطف الكتاب على القرءان وهما لمسمى واحد من حيث هما صفتان لمعنيين فالقرءان لانه اجتمع والكتاب لانه يكتب واقامة الصلاة ادامتها واداؤها على وجهها
وقوله تعالى زينا لهم أعمالهم اي جعل سبحانه عقابهم على كفرهم ان حتم عليهم الكفر وحبب اليهم الشرك وزينة فى نفوسهم والعمة الحيرة والتردد فى الضلال ثم توعدهم تعالى بسوء العذاب فمن ناله منه شىء فى الدنيا بقى عليه عذاب الآخرة ومن لم ينله عذاب الدنيا كان سوء عذابه فى موته وفى ما بعده
وقوله تعالى (3/155)
وانك لتلقى القرءان تلقى مضاعف لقى يلقى ومعناه تعطى كما قال وما يلقاها الا ذو حظ عظيم وهذه آلاية رد على كفار قريش فى قولهم ان القرءان من تلقاء محمد ومن لدن معناه من عنده ومن جهته ثم قص تعالى خبر موسى حين خرج بزوجه بنت شعيب عليه السلام يريد مصر وقد تقدم فى طه قصص الاية
وقوله سئاتيكم منها بخبر او آتيكم بشهاب قبس الاية اصل الشهاب الكوكب المنقص فى اثر مسترق السمع وكل ما يقال له شهاب من المنيرات فعلى التشبيه والقبس يحتمل ان يكون اسما ويحتمل ان يكون صفة وقرأ الجمهور باضافة شهاب الى قبس وقرأ حمزة والكساءى وعاصم بتنوين شهاب قبس فهذا على الصفة ص وقوله جاءها ضمير المفعول عائد على النار وقيل على الشجرة انتهى وبورك معناه قدس ونمى خيره والبركة مختصة بالخير
وقوله تعالى من فى النار قال ابن عباس اراد النور وقال الحسن وابن عباس واراد بمن حولها الملائكة وموسى قال ع ويحتمل ان تكون من للملائكة لان ذلك النور الذى حسبه موسى نارا لم يخل من ملائكة ومن حولها لموسى والملائكة المطيفين به وقرأ ابى بن كعب ان بوركت النار ومن حولها
وقوله تعالى وسبحان الله رب العالمين هو تنزيه لله تعالى مما عساه ان يخطر ببال فى معنى النداء من الشجرة اي هو منزه عن جميع ما تتوهمه الاوهام وعن التشبيه والتكييف والضمير فى انه للأمر والشأن
وقوله سبحانه وألق عصاك الاية امره تعالى بهذين الأمرين إلقاء العصا وامر اليد تدريبا ! له فى استعمالهما والجان الحيات لأنها تجن انفسها اي تسترها وقالت فرقة الجان صغار الحيات
وقوله تعالى ولى مدبرا ولم يعقب اي ولى فارا قال مجاهد ولم يرجع وقال قتادة ولم يلتفت قال ع وعقب الرجل اذا ولى عن امر ثم صرف بدنه اووجهه اليه ثم ناداه سبحانه مؤنسا له يا موسى لا (3/156)
تخف انى لا يخاف لدى المرسلون
وقوله تعالى إلا من ظلم قال الفراء وجماعة الاستثناء منقطع وهو اخبار عن غير الانبياء كأنه سبحانه قال لكن من ظلم من الناس ثم تاب فإنى غفور رحيم وهذه الاية تقتضى المغفرة للتائب والجيب الفتح فى الثوب لرأس الانسان
وقوله تعالى فى تسع ءايات متصل بقوله الق وادخل يدك وفيه اقتضاب وحذف والمعنى فى جملة تسع ءايات وقد تقدم بيانها والضمير فى جاءتهم لفرعون وقومه وظاهر قوله تعالى وجحدوا بها واستيقنتها حصول الكفر عنادا وهى مسئلة خلاف قد تقدم بيانها وظلما معناه على غير استحقاق للجحد والعلو فى الارض اعظم ءافة على طالبه قال الله تعالى تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الارض ولا فسادا
وقوله تعالى ولقد آتينا داود وسليمان علما الاية هذا ابتداء قصص فيه غيوب وعبر
وورث سليمان داود اي ورث ملكه ومنزلته من النبوءة بعد موت ابيه وقوله علمنا منطق الطير اخبار بنعمة الله تعالى عندهما فى ان فهمهما من اصوات الطير المعانى التى فى نفوسها وهذا نحو ما كان النبى صلى الله عليه و سلم يسمع اصوات الحجارة بالسلام عليه وغير ذلك حسب ما هو فى الآثار قال قتادة وغيره انما كان هذا الأمر فى الطير خاصة والنملة طائر اذ قد يوجد لها جناحان وقالت فرقة بل مكان ذلك فى جميع الحيوان وانما خص الطير لأنه كان جندا من جنود سليمان يحتاجه فى التظليل من الشمس وفى البعث فى الأمور والنمل حيوان فطن قوى شمام جدا يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين ليلا ينبت ويشق الكزبرة بأربع قطع لأنها تنبت اذا قسمت شقين ويأكل فى عامة نصف ما جمع ويستبقي سائره عدة قال ابن العربى فى احكامه ولا خلاف عند العلماء فى ان الحيوانات كلها لها افهام وعقول وقد قال الشافعى الحمام اعقل الطير انتهى
وقوله وأوتينا من كل شىء معناه يصلح لنا ونتمناه (3/157)
وليست على العموم ثم ذكر شكر فضل الله تعالى واختلف فى مقدار جند سليمان عليه السلام اختلافا شديدا لا ارى ذكره لعدم صحة التحديد غير ان الصحيح فى هذا ان ملكه كان عظيما ملأ الارض وانقادت له المعمورة كلها وكان كرسيه يحمل اجناده من الانس والجن وكانت الطير تظله من الشمس ويبعثها فى الامور ويوزعون معناه يرد اولهم الى ءاخرهم ويكفون قال قتادة فكان لكل صنف وزعة ومنه قول الحسن البصري حين ولى قضاء البصرة لابد للحاكم من وزعة ومنه قول ابى قحافة للجارية ذلك يا بنية الوازع ومنه قول الشاعر ... على حين عاتبت المشيب على الصبا ...
فقلت الما اصح والشيب وازع ...
اي كاف وهكذا نقل ابن العربى عن مالك فقال يوزعون اي يكفون قال ابن العربى وقد يكون بمعنى يلهمون من قوله اوزعنى ان اشكر نعمتك اي الهمنى انتهى من الاحكام
وقوله تعالى فتبسم ضاحكا من قولها التبسم هو ضحك الانبياء فى غالب امرهم لا يليق بهم سواه وكان تبسمه سرورا بنعمة الله تعالى عليه فى أسماعه وتفهيمه وفى قول النملة وهم لا يشعرون ثناء على سليمان وجنوده يتضمن تنزيههم عن تعمد القبيح ثم دعا سليمان عليه السلام ربه ان يعينه ويفرغه لشكر نعمته وهذا معنى ايزاع الشكر وقال الثعلبى وغيره اوزعنى معناه الهمنى وكذلك قال العراقى اوزعنى الهمنى انتهى
وقوله تعالى وتفقد الطير الاية قالت فرقة ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بالمملكة والتهمم بكل جزء منها وهذا ظاهر آلاية انه تفقد جميع الطير وقالت فرقة بل تفقد الطير لان الشمس دخلت من موضع الهدهد فكان ذلك سبب تفقد الطير ليبين من اين دخلت الشمس وقال عبد الله بن سلام انما طلب الهدهد لانه احتاج الى معرفة الماء على كم هو من وجه الارض لانه (3/158)
كان نزل فى مفازة عدم فيها الماء وان الهدهد كان يرى باطن الارض وظاهرها فكان يخبر سليمان بموضع الماء ثم كانت الجن تخرجه فى ساعة وقيل غير هذا والله اعلم بما صح من ذلك ثم توعد عليه السلام الهدهد بالعذاب فروى عن ابن عباس وغيره ان تعذيبه للطير كان بنتف ريشه والسلطان الحجة حيث وقع فى القرءان قاله ابن عباس وفعل سليمان هذا بالهدهد اغلاظا على العاصين وعقابا على اخلاله بنبوته ورتبته والضمير فى مكث يحتمل ان يكون لسليمان اوللهدهد وفى قراءة ابن مسعود فتمكث ثم جاء فقال وفى قراءة ابى فتمكث ثم قال احطت ت وهاتان القراءتان تبينان ان الضمير فى مكث للهدهد وهو الظاهر ايضا فى قراءة الجماعة ومعنى مكث اقام
وقوله غير بعيد يعنى فى الزمن
وقوله احطت اي علمت وقرأ الجمهور سبإ بالصرف على انه اسم رجل وبه جاء الحديث عن النبى صلى الله عليه و سلم من حديث فروة بن مسيك وغيره سئل عليه السلام عن سبإ فقال كان رجلا له عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم اربعة ورواه الترمذى من طريق فروة بن مسيك وقرأ ابن كثير وابو عمرو سبأ بفتح الهمزة وترك الصرف على انه اسم بلدة وقاله الحسن وقتادة
وقوله واوتيت من كل شىء اي مما تحتاجه المملكة قال الحسن من كل امر الدنيا وهذه المرأة هى بلقيس ووصف عرشها بالعظم فى الهيئة ورتبة الملك واكثر بعض الناس فى قصصها بما رأيت اختصاره لعدم صحته وانما اللازم من الاية انها امرأة ملكة على مدائن اليمن ذات ملك عظيم وكانت كافرة من قوم كفار
وقوله الا يسجدوا لله الى قوله العظيم ظاهره انه من قول الهدهد وهو قول ابن زيد وابن اسحاق ويحتمل ان يكون من قول الله تعالى اعتراضا بين الكلامين وقراءة التشديد فى الا تعطي ان الكلام للهدهد وهى قراءة الجمهور وقراءة التخفيف وهى (3/159)
للكساءى تمنعه وتقوى الآخر فتأمله وقرأ الأعمش هلا يسجدون وفى حرف عبد الله الأهل تسجدون بالتاء والخبء الخفى من الامور وهو من خبأت الشىء واللفظة تعم كل ما خفى من الأمور وبه فسر ابن عباس وقرأ الجمهور يخفون ويلعنون بياء الغائب وهذه القراءة تعطي ان الاية من كلام الهدهد وقرأ الكساءى وحفص عن عاصم تخفون وتعلنون بتاء الخطاب وهذه القراءة تعطى ان الاية من خطاب الله تعالى لامة محمد صلى الله عليه و سلم
قوله فألقه اليهم ثم تول عنهم قال وهب بن منبه امره بالتولى حسن ادب ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك بمعنى وكن قريبا حتى ترى مراجعاتهم وليكل الامر الى حكم ما فى الكتاب دون ان تكون للرسول ملازمة ولا الحاح وروى وهب بن منبه فى قصص هذه آلاية ان الهدهد وصل فوجد دون هذه الملكة حجب جدرات فعمد الى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها لمعنى عبادتها اياها فدخل منها ورمى بالكتاب اليها فقرأته وجمعت اهل ملكها فخاطبتهم بما يأتى بعد قالت يا ايها الملأ تعنى الاشراف انى القى الى كتاب كريم وصفت الكتاب بالكريم اما لانه من عند عظيم او لانه بدىء باسم كريم ثم اخذت تصف لهم ما فى الكتاب ثم اخذت فى حسن الادب مع رجالها ومشاورتهم فى امرها فراجعها قومها بما يقر عينها من اعلامهم اياها بالقوة والبأس ثم سلموا الامر الى نظرها وهذه محاورة حسنة من الجميع وفى قراءة عبد الله ما كنت قاضية امرا بالضاد من القضاء ثم اخبرت بلقيس بفعل الملوك بالقرى التى يتغلبون عليها وفى كلامها خوف على قومها وحيطة لهم قال الداودى وعن ابن عباس اذا دخلوا قرية افسدوها قال اذا اخذوها عنوة اخربوها انتهى
وقوله وكذلك يفعلون قالت فرقة هو من قول بلقيس وقال ابن عباس هو من قول الله تعالى معرفا لمحمد عليه السلام وامته بذلك
وانى مرسلة اليهم بهدية الاية روى ان بلقيس قالت (3/160)
لقومها انى اجرب هذا الرجل بهدية فيها نفائس الأموال فإن كان ملكا دنيويا ارضاه المال وان كان نبيا لم يقبل الهدية ولم يرضه منا الا ان نتبعه على دينه فينبغى ان نؤمن به ونتبعه على دينه فبعث اليه بهدية عظيمة
وقوله تعالى فلما جاء سليمان يعنى رسل بلقيس وقول سليمان ارجع خطاب لرسلها لأن الرسول يقع على الجمع والافراد والتذكير والتانيت وفى قراءة ابن مسعود فلما جاءوا سليمان وقرأ ارجعوا ووعيد سليمان لهم مقترن بدوامهم على الكفر قال البخارى لا قبل لهم بها اي لا طاقة لهم انتهى ثم قال سليمان لجمعه يا ايها الملأ ايكم يأتينى بعرشها قال ابن زيد وغرضه فى استدعاء عرشها ان يريها القدرة التى من عند الله وليغرب عليها ومسلمين فى هذا التاويل بمعنى مستسلمين ويحتمل ان يكون بمعنى الإسلام وقال قتادة كان غرض سليمان اخذه قبل ان يعصمهم الاسلام فالإسلام على هذا التأويل يراد به الدين ت والتأويل الأول اليق بمنصب النبوءة فيتعين حمل الاية عليه والله اعلم وروى ان عرشها كان من ذهب وفضة مرصعا بالياقوت والجوهر وانه كان فى جوفه سبعة ابيات عليها سبعة اغلاق والعفريت هو من الشياطين القوى المارد
وقوله قبل ان تقوم من مقامك قال مجاهد وقتادة معناه قبل قيامك من مجلس الحكم وكان يجلس من الصبح الى وقت الظهر فى كل يوم وقيل معناه قبل ان تستوي من جلوسك قائما وقول الذى عنده علم من الكتاب انا ءاتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك قال ابن جبير وقتادة معناه قبل ان يصل اليك من يقع طرفك عليه فى ابعد ما ترى وقال مجاهد معناه قبل ان تحتاج الى التغميض اي مدة ما يمكنك ان تمد بصرك دون تغميض وذلك ارتداده قال ع وهذان القولان يقابلان القولين قبلهما
وقوله لقوى أمين معناه قوى على حمله امين على ما فيه ويروى ان الجن كانت تخبر سليمان بمناقل سير بلقيس فلما قربت قال ايكم ياتينى بعرشها فدعا الذى (3/161)
عنده علم من التوراة وهو الكتاب المشار اليه باسم الله الاعظم الذى كانت العادة فى ذلك الزمان ان لا يدعو به احد الا اجيب فشقت الارض بذلك العرش حتى نبع بين يدي سليمان عليه السلام وقيل بل جىء به فى الهواء وجمهور المفسرين على ان هذا الذى عنده علم من الكتاب كان رجلا صالحا من بنى اسراءيل اسمه آصف بن برخيا روى انه صلى ركعتين ثم قال لسليمان يا نبى الله امدد بصرك نحو اليمن فمد بصره فإذا بالعرش فما رد سليمان بصره الا وهو عنده وقال قتادة اسمه بلخيا وقول سليمان عليه السلام نكروا لها عرشها يريد تجربة ميزها ونظرها وروت فرقة ان الجن احست من سليمان او ظنت به انه ربما تزوجها فكرهوا ذلك وعيبوها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة وان رجلها كحافر دابة فجرب عقلها وميزها بتنكير السرير وجرب امر رجلها بأمر الصرح لتكشف عن ساقيها عنده وتنكير العرش تغيير وضعه وستر بعضه وقولها كانه هو تحرز فصيح وقال الحسن بن الفضل شبهوا عليها فشبهت عليهم ولو قالوا اهذا عرشك لقالت نعم ثم قال سليمان عند ذلك وأوتينا العلم من قبلها الاية وهذا منه على جهة تعديد نعم الله عليه وعلى ءابائه
وقوله تعالى وصدها ما كانت تعبداي عن الايمان وهذا الكلام يحتمل ان يكون من قول سليمان اومن قول الله اخبارا لمحمد عليه السلام قال محمد ابن كعب القرظى وغيره ولما وصلت بلقيس امر سليمان الجن فصنعت له صرحا وهو السطح فى الصحن من غير سقف وجعلته مبنيا كالصهريج وملئى ماء وبث فيه السمك وطبقه بالزجاج الابيض الشفاف وبهذا جاء صرحا والصرح ايضا كل بناء عال وكل هذا من التصريح وهو الاعلان البالغ ثم وضع سليمان فى وسط الصرح كرسيا فلما وصلته بلقيس قيل لها ادخلى الى النبى عليه السلام فلما رأت الصرح حسبته لجة وهو معظم الماء ففزعت (3/162)
وظنت انها قصد بها الغرق وتعجبت من كون كرسيه على الماء ورأت ماهالها ولم يكن لها بد من امتثال الأمر فكشفت عن ساقيها فرأى سليمان ساقيها سليمة مما قالت الجن غير انها كثيرة الشعر فلما بلغت هذا الحد قال لها سليمان انه صرح ممرد من قوارير والممرد المحكوك المملس ومنه الامرد فعند ذلك قالت رب انى ظلمت نفسى واسلمت مع سليمان لله رب العالمين فروى ان سليمان تزوجها عند ذلك واسكنها الشام قاله الضحاك وقيل تزوجها وردها الى ملكها باليمن وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة فولدت له غلاما سماه داود مات فى حياته وروى ان سليمان لما اراد زوال شعر ساقيها امر الجن بالتلطف فى زواله فصنعوا النورة ولم تكن قبل وصنعوا الحمام
وقوله تعالى ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا الاية تمثيل لقريش وفريقان يريد بهما من آمن بصالح ومن كفر به واختصامهم هو تنازعهم وقد ذكر تعالى ذلك فى سورة الأعراف ثم ان صالحا عليه السلام ترفق بقومه ووقفهم على خطإهم فى استعجالهم العذاب قبل الرحمة او المعصية لله قبل الطاعة ثم اجابوه بقولهم اطيرنا بك اي تشاءمنا بك وتسعة رهط هم رجال كانوا من اوجه القوم واعتاهم وهم اصحاب قدار والمدينة مجتمع ثمود وقريتهم
وقوله تعالى تقاسموا قال الجمهور هو فعل امر أشار بعضهم على بعض بأن يتخالفوا على هذا الفعل بصالح وحكى الطبرى انه يجوز ان يكون تقاسموا فعلا ماضيا فى موضع الحال كأنه قال متقاسمين او متحالفين بالله لنبيتنه واهله وتؤيده قراءة عبد الله ولا يصلحون تقاسموا باسقاط 4قالوا قال ع وهذه الألفاظ الدالة على قسم تجاوب باللام وان لم يتقدم قسم ظاهر فاللام فى لنبيتنه جواب القسم وروى فى قصص هذه الاية ان هؤلاء التسعة لما كان فى صدر الثلاثة الأيام بعد عقر الناقة وقد اخبرهم صالح بمجيىء العذاب اتفق هؤلاء التسعة فتحالفوا (3/163)
على ان يأتوا دار صالح ليلا فيقتلوه واهله المختصين به قالوا فإن كان كذبا فى وعيده اوقعنا به ما يستحق وان كان صادقا كنا قد عجلناه قبلنا وشفينا به نفوسنا فجاءوا لذلك فى غار قريب من داره فروى انه انحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعا وروى انها طبقت عليهم الغار فهلكوا فيه حين هلك قومهم وكل فريق لا يعلم بما جرى على الآخر وقد كانوا بنوا على جحود الأمر من قرابة صالح ويعنى بالاهل كل من آمن به قاله الحسن
وقوله سبحانه ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون قال ابن العربى الحاتمي المكر ارداف النعم مع المخالفة وابقاء الحال مع سوء الأدب انتهى من شرحه لالفاظ الصوفية والتدمير الهلاك وخاوية معناه قفرا وهذه البيوت المشار اليها هى التى قال فيها النبى صلى الله عليه و سلم عام تبوك لا تدخلوا بيوت المعذبين الا ان تكونوا باكين الحديث فى صحيح مسلم وغيره
وقوله تعالى ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون ائنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل انتم قوم تجهلون تقدم قصص هؤلاء القوم وتبصرون معناه بقلوبكم قال ابو حيان وشهوة مفعول من اجله انتهى وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن الله من عمل عمل لوط رواه ابو داود والترمذى والنساءى واللفظ له وابن ماجة وابن حبان فى صحيحه انتهى من السلاح
وقوله تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى أآلله خير أما تشركون الايات هذا ابتداء تقرير وتنبيه لقريش والعرب وهو بعد يعم كل مكلف من الناس جميعا وافتتح ذلك بالقول بحمده سبحانه وتمجيده وبالسلام على عباده الذين اصطفاهم للنبوءة والايمان فهذا اللفظ عام لجميعهم من ولد ءادم وكأن هذا صدر خطبة للتقرير المذكور قالت فرقة وفى الاية حذف مضاف فى (3/164)
موضعين التقدير اتوحيد الله خير ام عبادة ما تشركون فما على هذا موصولة بمعنى الذى وقالت فرقة ما مصدرية وحذف المضاف انما هو اولا تقديره اتوحيد الله خير ام شرككم ت ومن كلام الشيخ العارف بالله ابى الحسن الشاذلى قال رحمة الله ان اردت ان لا يصدأ لك قلب ولا يلحقك هم ولا كرب ولا يبقى عليك ذنب فأكثر من قولك سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم لا اله الا الله اللهم ثبت علمها فى قلبى واغفر لي ذنبى واغفر للمؤمنين والمؤمنات وقل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى انتهى
وقوله تعالى أمن خلق وما بعدها من التقريرات توبيخ لهم وتقرير على مالا مندوحة عن الاقرار به والحدائق مجتمع الشجر من الأعناب والنخيل وغير ذلك قال قوم لا يقال حديقة الا لما عليه جدار قد احدق به وقال قوم يقال ذلك كان جدار او لم يكن لان البياض محدق بالاشجار والبهجة الجمال والنضارة
وقوله سبحانه ما كان لكم ان تنبتوا شجرها اي ليس ذلك فى قدرتكم ويعدلون يجوز ان يراد به يعدلون عن طريق الحق ويجوز ان يراد به يعدلون بالله غيره اي يجعلون له عديلا ومثيلا وخلالها معناه بينها والرواسى الجبال والبحران الماء العذب والماء الأجاج على ما تقدم والحاجز ما جعل الله بينهما من حواجز الارض وموانعها على رقتها فى بعض المواضع ولطافتها لولا قدرة الله لغلب المالح العذب
وقوله سبحانه امن يجيب المضطر اذا دعاه الاية وعن حبيب بن سلمة الفهرى وكان مجاب الدعوة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمن بعضهم الا اجابهم الله رواه الحاكم فى المستدرك انتهى من سلاح المؤمن وعن ابى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ادعوا الله وانتم موقنون بالاجابة واعلموا ان الله لا يستجيب دعاء (3/165)
من قلب غافل لاه رواه الترمذى وهذا لفظه قال صاحب السلاح ورواه الحاكم فى المستدرك وقال مستقيم الاسناد انتهى والسوء عام فى كل ضر يكشفه الله تعالى عن عباده قال ابن عطاء الله ما طلب لك شىء مثل الاضطرار ولا اسرع بالمواهب لك مثل الذلة والافتقار انتهى والظلمات عام لظلمه الليل ولظلمة الجهل والضلال والرزق من السماء هو بالمطر ومن الارض بالنبات هذا هو مشهور ما يحسه البشر وكم لله بعد من لطف خفى ثم امر تعالى نبيه ان يوقفهم على ان الغيب مما انفرد الله بعلمه ولذلك سمى غيبا لغيبه عن المخلوقين روى ان هذه الاية من قوله قل لا يعلم انما نزلت لاجل سؤال الكفار عن الساعة الموعود بها فجاء بلفظ يعم الساعة وغيرها واخبر عن البشر انهم لا يشعرون ايان يبعثون ص ايان اسم استفهام بمعنى متى وهى معمولة ليبعثون والجملة فى موضع نصب بيشعرون انتهى وقرأ جمهور القراء بل ادارك اصله تدارك وقرأ عاصم فى رواية ابى بكر بل ادرك على وزن افتعل وهى بمعنى تفاعل وقرأ ابن كثير وابو عمرو بل ادرك وهذه القراءات تحتمل معنيين احدهما ادرك علمهم اي تناهى كما تقول ادرك النبات والمعنى قد تناهى علمهم بالآخرة الى ان لا يعرفوا لها مقدارا فيومنوا وانما لهم ظنون كاذبة او الى ان لا يعرفوا لها وقتا والمعنى الثانى بل ادرك بمعنى اي انهم فى الاخرة يدرك علمهم وقت القيامة ويرون العذاب والحقائق التى كذبوا بها واما فى الدنيا فلا وهذا هو تأويل ابن عباس ونحا اليه الزجاج فقوله فى الآخرة على هذا التاويل ظرف وعلى التأويل الأول فى بمعنى الباء ثم وصفهم عز و جل بأنهم فى شك منها ثم اردف بصفة هى ابلغ من الشك وهى العمى بالجملة عن امر الاخرة وعمون اصله عميون فعلون كحذرون
وقوله تعالى وقال الذين كفروا إذا كنا ترابا وءاباؤنا ائنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن (3/166)
وءاباؤنا من قبل ان هذا الا اساطير الأولين هذه الاية معناها واضح مما تقدم فى غيرها ثم ذكر تعالى استعجال كفار قريش امر الساعة والعذاب بقوله متى هذا الوعد معنى التعجيز وردف معناه قرب وازف قاله ابن عباس وغيره ولكنها عبارة عما يجىء بعد الشىء قريبا منه والهاء فى غائبه للمبالغة اي ما من شىء فى غاية الغيب والخفاء الا فى كتاب عند الله وفى مكنون علمه لا اله الا هو ثم نبه تعالى على ان هذا القرءان يقص على بنى اسراءيل اكثر الأشياء التى كان بينهم اختلاف فى صفتها جاء بها القرءان على وجهها وانه لهدى ورحمة للمؤمنين كما انه عمى على الكافرين المحتوم عليهم ثم سلى نبيه بقوله انك لا تسمع الموتى فشبههم مرة بالموتى ومرة بالصم من حيث ان فائدة القول لهؤلاء معدومة وقرأ حمزة وحده وما انت تهدى العمى بفعل مستقبل ومعنى قوله تعالى واذا وقع القول عليهم اي اذا انتجز وعد عذابهم الذى تضمنه القول الأزلى من الله فى ذلك وهذا بمنزلة قوله تعالى حقت كلمة العذاب فمعنى الاية واذا اراد الله ان ينفذ فى الكافرين سابق علمه لهم من العذاب اخرج لهم دابة من الارض وروى ان ذلك حين ينقطع الخير ولا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يبقى منيب ولا تائب ووقع عبارة عن الثبوت واللزوم وفى الحديث ان الدابة وطلوع الشمس من المغرب من اول الأشراط وهذه الدابة روى انها تخرج من الصفا بمكة قاله ابن عمر وغيره وقيل هذا وقرأ الجمهور تكلمهم من الكلام وقرأ ابن عباس وغيره تكلمهم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم وهو الجرح وسئل ابن عباس عن هذه الاية تكلمهم او نكلمهم فقال كل ذلك والله تفعل تكلمهم وتكلمهم وروى انها تمر على الناس فتسم الكافر فى جبهته وتزبرة وتشتمه وربما خطمته وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه ويعرف بعد ذلك6 (3/167)
الايمان والكفر من اثرها وفى الحديث تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجوه المومنين بالعصا وتختم انف الكافر بالخاتم حتى ان الناس ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر رواه البزار انتهى من الكوكب الدرى وقرأ الجمهور ان الناس بكسر ان وقرأ حمزة الكساءى وعاصم ان بفتحها وفى قرءاة عبد الله تكلمهم بأن وعلى هذه القراءة فيكون قوله ان الناس الى ءاخرها من الكلام الدابة وروى ذلك عن ابن عباس ويحتمل ان يكون من كلام الله تعالى
وقوله تعالى ويوم نحشر من كل امة فوجا هو تذكير بيوم القيامة والفوج الجماعة الكثيرة ويوزعون معناه يكفون فى السوق اي يحبس اولهم على ءاخرهم قاله قتادة ومنه وازع الجيش ثم اخبر تعالى عن توقيفه الكفرة يوم القيامة وسؤالهم على جهة التوبيخ اكذبتم آلاية ثم قال اما ذا كنتم تعلمون على معنى استيفاء الحجج اي ان كان لكم عمل او حجة فهاتوها ثم اخبر عن وقوع القول عليهم اي نفوذ العذاب وحتم القضاء وانهم لا ينطقون بحجة وهذا فى موطن من مواطن القيامة ولما تكلم المحاسبى على اهوال القيامة قال واذكر الصراط بدقته وهوله وزلته وعظيم خطره وجهنم تخفق بأمواجها من تحته فياله من منظر ما افظعه واهوله فتوهم ذلك بقلب فارغ وعقل جامع فإن أهوال يوم القيامة انما خفت على الذين توهموها فى الدنيا بعقولهم فتحملوا فى الدنيا الهموم خوفا من مقام ربهم فخففها مولاهم يوم القيامة عنهم انتهى من كتاب التوهم
ويوم ينفخ فى الصور وهو القرن فى قول جمهور الامة وصاحب الصور هو اسرافيل عليه السلام وهذه النفخة المذكوره هنا هى نفخة الفزع وروى ابو هريرة انها ثلاث نفخات نفخة الفزع وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الاكبر ونفخة الصعق ونفخة القيام من القبور وقالت فرقة انما هما نفختان (3/168)
كأنهم جعلوا الفزع والصعق فى نفخة واحدة مستدلين بقوله تعالى ثم نفخ فيه اخرى الاية قالوا واخرى لا يقال الا فى الثانية قال ع والأول اصح واخرى يقال فى الثالثة ومنه قوله تعالى ومعناه الثالثة الاخرى
وقوله تعالى الا من شاء الله استثناء فيمن قضى الله سبحانه من ملائكته وانبيائه وشهداء عبيده ان لا ينالهم فزع النفخ فى الصور حسب ما ورد فى ذلك من الاثار قال ع واذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم فهم حريون ان لا ينالهم هذه وقرأ حمزة وكل آتوه على صيغة الفعل الماضى والداخر المتذلل الخاضع قال ابن عباس وابن زيد الداخر الصاغر وقد تظاهرت الروايات بأن الاستثناء فى هذه الاية انما اريد به الشهداء لانهم احياء عند ربهم يرزقون وهم اهل للفزع لأنهم بشر لكن فضلوا بالأمن فى ذلك اليوم ت واختار الحليمى هذا القول قال وهو مروى عن ابن عباس ان المستثنى هم الشهداء وضعف ما عداه من الاقوال قال القرطبى فى تذكرته وقد ورد فى حديث ابى هريرة بأنهم الشهداء وهو حديث صحيح انتهى
وقوله تعالى وترى الجبال تحسبها جامدة الاية هذا وصف حال الأشياء يوم القيامة عقب النفخ فى الصور والرؤية هى بالعين قال ابن عباس جامدة قائمة والحسنة الايمان وقال ابن عباس وغيره هى لا اله الا الله وروى عن على بن الحسين انه قال كنت فى بعض خلواتى فرفعت صوتى بلا اله الا الله فسمعت قائلا يقول انها الكلمة التى قال الله فيها من جاء بالحسنة فله خير منها وقال ابن زيد يعطى بالحسنة الواحدة عشرا قال ع والسيئة التى فى هذه آلاية هى الكفر والمعاصى فيمن حتم الله عليه من اهل المشيئة بدخول النار
وقوله انما امرت المعنى قل يا محمد لقومك انما امرت ان اعبد رب هذه البلدة يعنى مكة وان اتلوا القرءان معناه تابع فى قراءتك اى بين ءاياته واسرد قال ص وان (3/169)
اتلوا معطوف على ان اكون وقرأ عبد الله وان اتل بغير واو وقوله ومن ضل جوابه محذوف يدل عليه ما قبله اي فوبال ضلاله عليه او يكون الجواب فقل ويقدر ضمير عائد من الجواب على الشرط لأنه اسم غير ظرف اي من المنذرين له انتهى وتلاوة القرءان سبب الاهتداء الى كل خير
وقوله تعالى سيريكم ءاياته توعد بعذاب الدنيا كبدر ونحوه وبعذاب الاخرة
وما ربك بغافل عما تعملون فيه وعيد
تفسير سورة القصص وهى مكية الا قوله تعالى ان الذى فرض عليك القرءان لرادك الى معاد فإنها نزلت بالجحفة فى وقت هجرة النبى صلى الله عليه و سلم الى المدينة قاله ابن سلام وغيره وقال مقاتل فيها من المدنى الذين ءاتيناهم الكتاب الى قوله لا نبتغى الجاهلين بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى طسم تلك ءايات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى الاية معنى نتلو نقص وخص تعالى بقوله لقوم يؤمنون من حيث انهم هم المنتفعون بذلك دون غيرهم وعلا فى الارض اي علو طغيان وتغلب وفى الارض يريد ارض مصر والشيع الفرق والطائفة المستضعفة هم بنو اسراءيل يذبح ابناءهم خوف خراب ملكه على ما اخبرته كهنته او لاجل رؤيا رءاها قاله السدى وطمع بجهله ان يرد القدر واين هذا المنزع من قول النبى صلى الله عليه و سلم (3/170)
لعمر ان يكنه فلن تسلط عليه وان لم يكنه فلا خير لك فى قتله يعنى ابن صياد اذ خاف عمر ان يكون هو الدجال وباقى الآية بين وتقدم قصصه والأئمة ولاة الأمور قاله قتادة
ونجعلهم الوارثون يريد ارض مصر والشام وقرأ حمزة ويرى فرعون بالياء وفتح الراء والمعنى ويقع فرعون وقومه فيما خافوه وحذروه من جهة بنى اسراءيل وظهورهم وهامان هو وزير فرعون وكبر رجاله وهذا الوحى الى ام موسى قيل وحى الهام وقيل بملك وقيل فى منام وجملة الامر انها علمت ان هذا الذى وقع فى نفسها هو من عند الله قال السدى وغيره امرت ان ترضعه عقب الولادة وتصنع به ما فى . اآلاية لأن الخوف كان عقب كل ولادة واليم معظم الماء والمراد نيل مصر واسم ام موسى يوحانذ وروى فى قصص هذه الاية أن ام موسى لفته فى ثيابه وجعلت له تابوتا صغيرا وسدته عليه بقفل وعلقت مفتاحه عليه واسلمته ثقة بالله وانتظارا لوعده سبحانه فلما غاب عنها عاودها بثها واسفت عليه واقنطها الشيطان فاهتمت به وكادت تفتضح وجعلت الاخت تقصه اي تطلب اثره وتقدم باقى القصة فى طه وغيرها والالتقاط اللقاء عن غير قصد وءال فرعون اهله وجملته واللام فى ليكون لام العاقبة وقال ص ليكون اللام للتعليل المجازى ولمكان مئاله الى ذلك عبر عنه بلام العاقبة وبلام الصيرورة انتهى وقرأ حمزة والكساءى وحزنا بضم الحاء وسكون الزاى والخاطئى متعمد الخطإ والمخطئي الذى لا يتعمده
وقوله وهم لا يشعرون اي بانه هو الذى يفسد ملك فرعون على يده قاله قتادة وغيره
واصبح فؤاد ام موسى فارغا اي فارغا من كل شىء الا من ذكر موسى قاله ابن عباس وقال مالك هو ذهاب العقل وقالت فرقة فارغا من الصبر
وقوله تعالى ان كادت لتبدى به اي امر ابنها وروى ان النبى صلى الله عليه و سلم قال كادت ام موسى ان تقول وابناه (3/171)
وتخرج سائحة على وجهها الربط على القلب تأنيسة وتقويته ولتكون من المؤمنين اي من المصدقين بوعد الله وما اوحى اليها به وعن جنب اي ناحية فمعنى عن جنب بعد لم تدن منه فيشعر لها
وقوله وهم لا يشعرون معناه انها اخته ووعد الله المشار اليه هو الذى اوحاه اليها او لا اما بملك او بمنامة حسبما تقدم والقول بالإلهام ضعيف ان يقال فيه وعد
وقوله واكثرهم يريد به القبط والأشد شدة البدن واستحكام امره وقوته وا4ستوى معناه تكامل عقله وذلك عند الجمهور مع الأربعين والحكم الحكمة والعلم المعرفة بشرع ابراهيم عليه السلام
وقوله تعالى ودخل المدينة على حين غفلة من اهلها قال السدى كان موسى فى وقت هذه القصة على رسم التعلق بفرعون وكان يركب مراكبه حتى انه كان يدعى موسى بن فرعون فركب فرعون يوما وسار الى مدينة من مدائن مصر فركب موسى بعده ولحق بتلك المدينة فى وقت القائلة وهو حين الغفلة قاله ابن عباس وقال ايضا هو بين العشاء والعتمة وقيل غير هذا
وقوله تعالى هذا من شيعته اي من بنى اسراءيل وعدوه هم القبط والوكز الضرب باليد مجموعة وقرأ ابن مسعود فلكزه والمعنى واحد الا ان اللكز فى اللحى والوكز على القلب وقضى عليه معناه قتله مجهزا ولم يرد عليه السلام قتل القبطى لكن وافقت وكزته الأجل فندم ورأى ان ذلك من نزع الشيطان فى يده ثم ان ندامه موسى حملته على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه فغفر الله له ذلك ومع ذلك لم يزل عليه السلام يعيد ذلك على نفسه مع علمه انه قد غفر له حتى انه فى القيامة يقول وقتلت نفسا لم اومر بقتلها حسبما صح فى حديث الشفاعة ثم قال موسى عليه السلام معاهدا لربه رب بنعمتك على وبسبب احسانك وغفرانك فأنا ملتزم ان لا اكون معينا للمجرمين هذا (3/172)
احسن ما تأول وقال الطبرى انه قسم اقسم بنعمة الله عنده قال ع واحتج اهل الفضل والعلم بهذه الاية فى منع خدمة اهل الجور ومعونتهم فى شىء من امورهم ورأواانها تتناول ذلك نص عليه عطاء بن ابى رباح وغيره قال ابن عباس ثم ان موسى مر وهو بحالة الترقب واذا ذلك الإسراءيلى الذى قاتل القبطى بالأمس يقاتل آخر من القبط وكان القبطى قد خفى على الناس واكتتم فلما رأى الإسراءيلى موسى استصرخه بمعنى صاح به مستغيثا فلما رأى موسى قتاله لآخر اعظم ذلك وقال له معاتبا ومؤنبا انك لغوى مبين وكانت ارادة موسى مع ذلك ان ينصر الاسراءيلى فلما دنا منهما وحبس الإسراءيلى وفزع منه وظن انه ربما ضربه وفزع من قوته التى رأى بالامس فناداه بالفضيحة وشهر امر المقتول ولما اشتهر ان موسى قتل القتيل وكان قول الاسراءيلى يغلب على النفوس تصديقه على موسى مع ما كان لموسى من المقدمات اتى رأى فرعون وملائه على قتل موسى وغلب على نفس فرعون انه المشار اليه بفساد المملكة فأنفذ فيه من يطلبه ويأتى به للقتل والهم الله رجلا يقال انه مؤمن من آل فرعون او غيره فجاء الى موسى وبلغه قبلهم ويسعى معناه يسرع فى مسيه قاله الزجاج وغيره وهو دون الجرى فقال يا موسى ان الملأ يأتمرون بك آلاية ت قال الهروى قوله تعالى يأتمرون بك اي يؤامر بعضهم بعضا فى قتلك وقال الأزهرى الباء فى قوله يأتمرون بك بمعنى فى يقال ائتمر القوم اذا شاور بعضا انتهى وعن ابى مجلز واسمه لاحق بن حميد قال من خاف من امير ظلما فقال رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبينا وبالقرءان حكما واماما نجاه الله منه رواه ابن ابى شيبة فى مصنفه انتهى من السلاح وتلقاء معناه ناحية مدين وبين مصر ومدين مسيرة ثمانية ايام (3/173)
وكان ملك مدين لغير فرعون ولما خرج عليه السلام فارا بنفسه منفردا حافيا لاشىء معه ولا زاد وغير عارف بالطريق اسند امره الى الله تعالى وقال عسى ربى ان يهدينى سواء السبيل ومشى عليه السلام حتى ورد ماء مدين ووروده الماء معناه بلوغه ومدين لا ينصرف اذ هو بلد معروف والامة الجمع الكثير ويسقون معناه ماشيتهم ومن دونهم معناه ناحية الى الجهة التى جاء منها فوصل الى المرأتين قبل وصوله الى الامة وتذودان معناه تمنعان وتحبسان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأ قوياء وابونا شيخ كبير اي لا يستطيع لضعفه ان يباشر امر غنمه
وقوله تعالى فسقى لهما قالت فرقة كانت ءابارهم مغطاه بحجارة كبار فعمد الى بير وكان حجرها لا يرفعه الا جماعة فرفعه وسقى للمرأتين فعن رفع الصخرة وصفته احداهما بالقوة وقيل وصفته بالقوة لأنه زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى لهما وقرأ الجمهور يصدر الرعاء على حذف المفعول تقديره مواشيهم وتولى موسى الى الظل وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله رب انى لما انزلت الى من خير فقير ولم يصرح بسؤال هكذا روى جميع المفسرين انه طلب فى هذا الكلام ما يأكله قال ابن عباس وكان قد بلغ به الجوع الى ان اخضر لونه من اكل البقل وريئت خضرة البقل فى بطنه وانه لأكرم الخلق يومئذ على الله وفى هذا معتبر وحاكم بهوان الدنيا على الله تعالى وعن معاذ بن انس قال قال النبى صلى الله عليه و سلم من اكل طعاما فقال الحمد لله الذى اطعمنى هذا الطعام وزرقنيه من غير حول منى ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه ومن لبس ثوبا فقال الحمد لله الذى كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول منى ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر رواه ابو داود واللفظ له والترمذى وابن ماجه والحاكم فى المستدرك وقال صحيح على شرط البخارى وقال الترمذى حسن غريب انتهى من السلاح
وقوله تعالى فجاءته احداهما تمشى على (3/174)
استحياء الآية فى هذا الموضع اختصار يدل عليه الظاهر قدره ابن اسحاق فذهبتا الى ابيهما فأخبرتاه بما كان من الرجل فأمر احدى ابنتيه ان تدعوه له فجاءته على ما فى الاية وقوله على استحياء اي خفرة قد سترت وجهها بكم درعها قاله عمر بن الخطاب رضى الله عنه وروى الترمذى عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الحياء من الايمان والايمان فى الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء فى النار قال ابو عيسى هذا حديث حسن صحيح انتهى والجمهور ان الداعى لموسى عليه السلام هو شعيب عليه السلام وان المرأتين ابنتاه فقالت ان ابى يدعوك الاية فقام يتبعها فهبت ريح ضمت قميصها الى بدنها فتحرج موسى من النظر اليها فقال لها امشى خلفى وارشدينى الى الطريق ففهمت عنه فذلك سبب وصفها له بالأمانة قاله ابن عباس فلما جاءه وقص عليه القصص فانسه بقوله لا تخف نجوت من القوم الظالمين فلما فرغ كلامهما قالت احدى الإبنتين يا ابت استأجره ان خير من استاجرت القوي الأمين فقال لها ابوها ومن اين عرفت هذا منه قالت اما قوته ففى رفع الصخرة واما امانته ففى تحرجه عن النظر الى قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم فقال له الاب عند ذلك انى اريد ان انكحك احدى ابنتي هاتين الاية قال ابن العربى فى احكامه قوله انى اريد ان انكحك احدى ابنتي هاتين يدل على انه عرض لاعقد لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها لأن العلماء وان اختلفوا فى جواز البيع اذا قال له بعتك احد عبدي هذين بثمن كذا فانهم اتفقوا على ان ذلك لا يجوز فى النكاح لأنه خيار وشىء من الخيار لا يلحق بالنكاح وروى انه قال شعيب ايتهما تريد قال الصغرى انتهى وتاجر معناه تثيب وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطا ووكل العامين الى المروءة ولما فرغ كلام شعيب قرره موسى وكرر معناه على جهة التوثق فى ان الشرط انما وقع فى ثمان حجج وايما استفهام (3/175)
نصب بقضيت وما وصلة للتأكيد ولا عدوان معناه لاتباعه علي والوكيل الشاهد القائم بالامر
وقوله تعالى فلما قضى موسى الأجل قال ابن عباس قضى اكملهما عشر سنين وأسنده إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقوله إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر اوجذوة من النار لعلكم تصطلون فلما اتاها نودي الاية تقدم قصصها فانظره فى محاله قال البخارى والجذوة قطعة غليظة من الخشب فيها لهب انتهى قال العراقى وءانس معناه ابصر انتهى
وقوله من الشجرة يقتضى ان موسى عليه السلام ما سمع من جهة الشجرة وسمع وادرك غير مكيف ولا محدد قال السهيلى قيل ان هذه الشجرة عوسجة وقيل عليقة والعوسج اذا عظم قيل له الغرقد انتهى ولم يعقب معناه لم يرجع على عقبه من توليته
وقوله تعالى واضمم اليك جناحك من الرهب ذهب مجاهد وابن زيد الى ان ذلك حقيقة امره بضم عضده وذراعه وهو الجناح الى جنبه ليخف بذلك فزعه ورهبه ومن شأن الانسان اذا فعل ذلك فى اوقات فزعه ان يقوي قلبه وذهبت فرقة الى ان ذلك على المجاز وانه امر بالعزم على ما امر به كما تقول العرب اشدد حيازيمك واربط جأشك اي شمر فى امرك ودع عنك الرهب
وقوله تعالى فذانك برهانان من ربك قال مجاهد والسدى هى اشارة الى العصا واليد وقرأ الجمهور ردأ بالهمز وقرأ نافع وحده ردا بتنوين الدال دون همز وذلك على التخفيف من ردء والردء الوزير المعين وشد العضد استعارة فى المعونة والسلطان الحجة
وقوله بأياتنا متعلق بقوله الغالبون اي تغلبون بأياتنا وهى المعجزات ثم ان فرعون استمر فى الطريق مخرقته على قومه وامر هامان بان يطبخ له الاجر وان يبنى له صرحا اي سطحا فى اعلى الهواء موهما لجهلة قومه ان يطلع بزعمه فى السماء ثم قال وانى لأظنه من الكاذبين يعنى موسى فى انه ارسله مرسل (3/176)
ونبذناهم معناه طرحناهم واليم بحر القلزم فى قول اكثر الناس وهو الاشهر
وقوله تعالى وجعلناهم ائمة يدعون الى النار الاية عبارة عن حالهم وافعالهم وخاتمتهم اي هم بذلك كالداعين الى النار وهم فيه ائمة من حيث اشتهروا وبقى حديثهم فهم قدوة لكل كافر وعات الى يوم القيامة والمقبوحين الذين يقبح كل امرهم قولا لهم وفعلا بهم قال ابن عباس هم الذين قبحوا بسواد الوجوه وزرقة العيون ويوم ظرف مقدم ولقد آتينا موسى الكتاب يعنى التوراة والقصد بهذا الاخبار التمثيل لقريش بما تقدم فى غيرها من الأمم وبصائر نصب على الحال اي طرائق هادية
وقوله تعالى وما كنت بجانب الغربى آلاية اي ما كنت يا محمد حاضرا لهذه الغيوب التى تخبرهم بها ولكنها صارت اليك بوحينا اي فكان الواجب ان يسارعوا الى الايمان بك قال السهيلي وجانب الغربى هو جانب الطور الايمن فحين ذكر سبحانه نداءه لموسى قال وناديناه من جانب الطور الأيمن وحين نفى عن محمد عليه السلام ان يكون بذلك الجانب قال وما كنت بجانب الغربى والغربى هو الأيمن وبين اللفظين فى ذكر المقامين ما لا يخفى فى حسن العبارة وبديع الفصاحة والبلاغة فإن محمد عليه السلام لا يقال له وما كنت بالجانب الأيمن فإنه لم يزل بالجانب الأيمن مذ كان فى ظهر ءادم عليه السلام انتهى
وقوله سبحانه فتطاول عليهم العمر الثعلبى اي فنسوا عهد الله انتهى وقضينا معناها انفذنا والأمر يعنى التوراة وقالت فرقة يعنى به ما اعلمه من امر محمد عليه السلام قال ع وهذا تأويل حسن يلتئم معه ما بعده من قوله ولكنا انشأنا قرونا ت قال ابو بكر بن العربى قوله تعالى اذ قضينا الى موسى الامر معناه اعلمناه وهو احد ما يرد تحت لفظ القضاء مرادا انتهى من كتاب تفسير الأفعال الواقعة فى القرءان والثاوى المقيم
وقوله تعالى وما كنت بجانب الطور يريد وقت انزال التوراة الى موسى (3/177)
وقوله اذ نادينا روى عن ابى هريرة انه نودى يومئذ من السماء يا امة محمد استجبت لكم قبل ان تدعونى وغفرت لكم قبل ان تسئلونى فحينئذ قال موسى عليه السلام اللهم اجعلنى من امة محمد فالمعنى اذ نادينا بأمرك واخبرنا بنبوتك وقال الطبرى معنى قوله اذ نادينا بأن سأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة الاية
وقوله سبحانه ولولا ان تصيبهم مصيبة الاية المصيبة عذاب فى الدنيا على كفرهم وجواب لولا محذوف يقتضيه الكلام تقديره لعاجلناهم بما يستحقونه وقال الزجاج تقديره لما ارسلنا الرسل
وقوله سبحانه فلما جاءهم الحق يريد القرءان ومحمد عليه السلام والمقالة التى قالتها قريش لولا اوتى مثل ما اوتى موسى كانت من تعليم اليهود لهم قالوا لهم لم لايأتى بأية باهرة كالعصا واليد وغير ذلك فعكس الله عليهم قولهم ووقفهم على انهم قد وقع منهم فى تلك آلايات ما وقع من هؤلاء فى هذه فالضمير فى قوله يكفروا لليهود وقرأ الجمهور ساحران والمراد موسى وهارون قال ع ويحتمل ان يريد بما اوتى موسى من امر محمد والإخبار به الذى هو فى التوراة
وقوله وقالوا انا بكل كافرون يؤيد هذا التأويل وقرأ حمزة والكساءى وعاصم سحران والمراد بهما التوراة والقرءان قاله ابن عباس وتظاهرا معناه تعاونا
وقوله أهدى منهما قال الثعلبى يعنى اهدى من كتاب محمد وكتاب موسى انتهى ت ويحتمل ان الضمير فى يكفروا لقريش كما اشار اليه الثعلبى وكذا فى قالوا لقريش عنده وساحران يريدون موسى ومحمدا عليهما السلام وهو ظاهر قولهم انا بكل كافرون لأن اليهود لا يقولون ذلك فى موسى فى عصر نبينا محمد عليه السلام ويبين هذا كله قوله تعالى فان لم يستجيبوا لك الاية فإن ظاهر آلاية ان المراد قريش وعلى هذا كله مر الثعلبى انتهى
وقوله تعالى ولقد وصلنا لهم القول الاية الذين وصل لهم القول هم قريش قاله مجاهد وغيره قال الجمهور (3/178)
والمعنى واصلنا لهم فى القرءان وتابعناه موصولا بعضه ببعض فى المواعظ والزواجر والدعاء الى الاسلام وذهبت فرقة الى ان الإشارة بتوصيل القول انما هى الى الالفاظ فالمعنى ولقد وصلنا لهم قولا معجزا دالا على نبوتك قال ع والمعنى الأول تقديره ولقد وصلنا لهم قولا يتضمن معاني من تدبرها اهتدى ثم ذكر تعالى القوم الذين ءامنوا بمحمد من اهل الكتاب مباهيا بهم قريشا واختلف فى تعيينهم فقال الزهرى الاشارة 2الى النجاشى وقيل الى سلمان وابن سلام واسند الطبرى الى رفاعة القرظى قال نزلت هذه الاية فى اليهود فى عشرة انا احدهم اسلمنا فأوذينا فنزلت فينا هذه آلاية والضمير فى قبله يعود على القرءان واجرهم مرتين معناه على ملتين وهذا المعنى هو الذى قال فيه صلى الله عليه و سلم ثلاثة يؤتون اجرهم مرتين رجل من اهل الكتاب ءامن بنبيه وءامن بى الحديث ويدرءون معناه يدفعون وهذا وصف لمكارم الأخلاق اي يتغابون ومن قال لهم سوءا لاينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه واللغو سقط القول والقول يسقط لوجوه يعز حصرها والمراد منه فى آلاية ما كان سبا واذى ونحوه فأدب الاسلام الإعراض عنه وسلام فى هذا الموضع قصد به المتاركة لا التحية قال الزجاج وهذا قبل الأمر بالقتال ولا نبتغى الجاهلين معناه لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة ت قال ابن المبارك فى رقائقه اخبرنا حبيب بن حجر القيسى قال كان يقال ما احسن الايمان يزينه العلم وما احسن العلم يزينه العمل وما احسن العلم يزينه العمل وما احسن العمل يزينه الرفق وما اضفت شيأ الى شىء مثل حلم الى علم انتهى واجمع جل المفسرين على ان قوله تعالى انك لا تهدى من احببت انما نزلت فى شان ابى طالب فروى ابو هريرة وغيره ان النبى صلى الله عليه و سلم دخل عليه وهو يجود بنفسه فقال له اي عم قل لا اله الا الله كلمة اشهد لك بها عند الله الحديث قد ذكرناه فى سورة براءة فمات ابو طالب على (3/179)
كفره فنزلت هذه الاية فيه قال ابو روق قوله تعالى ولكن الله يهدى من يشاء اشارة الى العباس والضمير فى قوله وقالوا لقريش قال ابن عباس والمتكلم بذلك فيهم الحارث بن نوفل وحكى الثعلبى انه قال له انا لنعلم ان الذى تقول حق ولكن ان اتبعناك تخطفتنا العرب وتجى ! معناه تجمع وتجلب
وقوله كل شىء يريد مما به صلاح حالهم ثم توعد قريشا بقوله وكم اهلكنا من قرية وبطرت معناه سفهت واشرت وطغت قاله ابن زيد وغيره ت قال الهروى قوله تعالى بطرت معيشتها اي فى معيشتها والبطر الطغيان عند النعمة انتهى ثم احالهم على الاعتبار فى خراب ديار الامم المهلكة كحجر ثمود وغيره ثم خاطب تعالى قريشا محقرا لما كانوا يفتخرون به من مال وبنين وان ذلك متاع الدنيا الفانى وان الاخرة وما فيها من النعيم الذى اعده الله للمؤمنين خير وابقى ت وفى الحديث عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضه ما سقى كافرا منها شربة رواه الترمذى من طريق سهل بن سعد قال وفى الباب عن ابى هريرة قال ابو عيسى هذا حديث صحيح انتهى وباقى آلاية بين لمن ابصر واهتدى جعلنا الله منهم بمنه
وقوله سبحانه افمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه الاية معناها يعم جميع العالم ومن المحضرين معناه فى عذاب الله قاله مجاهد وقتادة ولفظه محضر مشيرة الى سوق بجبر
وقوله تعالى ويوم يناديهم الضمير المتصل بينادى لعدة الاوثان والاشارة الى قريش وكفار العرب
وقوله قال الذين حق عليهم القول هؤلاء المجيبون هم كل مغوداع الى الكفر من الشياطين والأنس طمعوا فى التبرى من متبعيهم فقالوا ربنا هؤلاء انما اضللناهم كما ضللنا نحن باجتهاد لنا ولهم واحبوا الكفر كما احببناه تبرأنا اليك ما كانوا ايانا يعبدون ثم اخبر تعالى انه يقال للكفرة العابدين للأصنام ادعوا شركاءكم كم يعنى (3/180)
الاصنام فدعوهم فلم يكن فى الجمادات ما يجيب ورأى الكفار العذاب
وقوله تعالى لو انهم كانوا يهتدون ذهب الزجاج وغيره الى ان جواب لو محذوف تقديره لما نالهم العذاب وقالت فرقة لو متعلقة بما قبلها تقديرة فودوا حين رأوا العذاب لو انهم كانوا يهتدون
وقوله سبحانه ويوم يناديهم فيقول ماذا اجبتم المرسلين هذا النداء ايضا للكفار وعميت عليهم الانباء معناه اظلمت عليم جهاتها
وقوله فهم لا يتساءلون معناه فى قول مجاهد لا يتساءلون بالأرحام ويحتمل ان يريد انهم لا يتساءلون عن الأنباء ليقين جميعهم انه لاحجة لهم
قوله سبحانه فعسى ان يكون من المفلحين قال كثير من العلماء عسى من الله واجبه قال ع وهذا ظن حسن بالله تعالى يشبه كرمه وفضله سبحانه واللازم من عسى انها ترجيه لاواجبة وفى كتاب الله تعالى عسى ربه ان طلقكن ت ومعنى الوجوب هنا الوقوع
وقوله سبحانه وربك يخلق ما يشاء ويختار الاية قيل سببها قول قريش لولا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم ونحو ذلك من قولهم فرد الله عليهم بهذه الاية وجماعة المفسرين ان ما نافية اي ليس لهم الخيرة وذهب الطبرى الى ان ما مفعولة بيختار اي ويختار الذى لهم فيه الخيرة وعن سعد بن ابى وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من سعادة ابن ءادم استخارته الله ومن شقاوته تركه رواه الحاكم فى المستدرك وقال صحيح الاسناد انتهى من السلاح وباقى الاية بين والسرمد من الاشياء الدائم الذى لا ينقطع ت وقوله سبحانه ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله الاية معناها بين وينبغى للعاقل ان لا يجعل ليله كله نوما فيكون ضائع العمر جيفة بالليل بطالا بالنهار كما قيل ... نهارك بطال وليلك نائم ... كذلك فى الدنيا تعيش البهائم (3/181)
فإن اردت ايها الأخ ان تكون من الأبرار فعليك بالقيام فى الأسحار وقد نقل صاحب الكوكب الدرى عن البزار ان النبى صلى الله عليه و سلم قال اتدرون ما قالت ام سليمان لسليمان عليه السلام يا بنى لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل يدع الرجل فقيرا يوم القيامة انتهى وابتغاء الفضل هو بالمشي والتصرف
وقوله تعالى ونزعنا من كل امة شهيدا اي عدول الامم واخيارها فيشهدون على الامم بخيرها وشرها فيحق العذاب على من شهد عليه بالكفر وقيل له على جهة الأعذار فى المحاورة هاتوا برهانكم ومن هذه الاية انتزع قول القاضى عند ارادة الحكم ابقيت لك حجة
وقوله تعالى ان قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم الاية كان قارون من قرابة موسى ممن آمن بموسى وحفظ التوراة وكان عند موسى من عباد المؤمنين ثم ان الله اضله وبغى على قومه بأنواع البغى من ذلك كفره بموسى وقال الثعلبى قال ابن المسيب كان قارون عاملا لفرعون على بنى اسراءيل ممن يبغى عليهم ويظلمهم قال قتادة بغى عليهم بكثرة ماله وولده انتهى ت وما ذكره ابن المسيب هو الذى يصح فى النظر لمتأمل الاية ولولا الاطالة لبينت وجه ذلك والمفاتح ظاهرها انها التى يفتح بها ويحتمل ان يريد بها الخزائن والأوعية الكبار قاله الضحاك لأن المفتح فى كلام العرب الخزانة واما قوله لتنوء فمعناه تنهض بتحامل واشتداد قال كثير من المفسرين ان المراد ان العصبة تنوء بالمفاتح المثقلة لها فقلب ت وقال عريب الاندلسى فى كتاب الأنواء له نوء كذا معناه ميله ومنه لتنوء بالعصبة انتهى وهو حسن ان ساعده النقل وقال الداودى عن ابن عباس لتنوء بالعصبة اولى القوة يقول تثقل وكذا قال الواحدي انتهى واختلف فى العصبة كم هم فقال ابن عباس ثلاثة وقال قتادة هم من العشرة الى الأربعين قال البخارى يقال الفرحين المرحين قال الغزالى فى الأحياء الفرح بالدنيا والتنعم بها سم قاتل يسري فى العروق (3/182)
فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت واهوال القييامة وهذا هو موت القلب والعياذ بالله فاولوا الحزم من ارباب القلوب جربوا قلوبهم فى حال الفرح بمواتاه الدنيا وعلموا ان النجاة فى الحزن الدائم والتباعد من اسباب الفرح والبطر فقطعوا النفس عن ملاذها وعودوها الصبر عن شهواتها حلالها وحرامها واعلموا ان حلالها حساب وهو نوع عذاب ومن نوقش الحساب عذب فخلصوا انفسهم من عذابها وتوصلوا الى الحرية والملك فى الدنيا والآخرة بالخلاص من اسر الشهوات ورقها والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته انتهى قال ابن الحاج فى المدخل قال يمن بن رزق رحمه الله تعالى وانا اوصيك بأن تطيل النظر فى مرءاة الفكرة مع كثرة الخلوات حتى يريك شين المعصية وقبحها فيدعوك ذلك النظر الى تركها ثم قال يمن بن رزق ولا تفرحن بكثرة العمل مع قلة الحزن واغتنم قليل العمل مع الحزن فان قليل حزن الاخرة الدائم فى القلب ينفى كل سرور الفته من سرور الدنيا وقليل سرور الدنيا فى القلب ينفى عنك جميع حزن الاخرة والحزن لا يصل الى القلب الا مع تيقظه وتيقظه حياته وسرور الدنيا لغير الاخرة لا يصل الى القلب الا مع غفلة القلب موته وعلامة ثبات اليقين فى القلب استدامة الحزن فيه وقال رحمه الله اعلم انى لم اجد شيأ ابلغ فى الزهد فى الدنيا من ثبات حزن آلآخرة فى القلب وعلامة ثبات حزن الاخرة فى القلب انس العبد بالوحدة انتهى وقولهم له ولا تنس نصيبك من الدنيا قال ابن عباس والجمهور معناه لا تضيع عمرك فى ان لا تعمل عملا صالحا فى دنياك اذ الاخرة انما يعمل لها فى الدنيا فنصيب الانسان عمره وعمله الصالح فيها فينبغى ان لا يهمله وحكى الثعلبى انه قيل ارادوا بنصيبه الكفن قال ع وهذا كله وعظ متصل ونحو هذا قول الشاعر ... نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداءان تلوى فيهما وحنوط (3/183)
وقال ابن العربى فى احكامه وفى معنى النصيب ثلاثة اقوال الاول لا تنس حظك من الدنيا اي لا تغفل ان تعمل فى الدنيا للآخرة الثانى امسك ما يبلغك فذلك حظ الدنيا وانفق الفضل فذلك حظ الآخرة الثالث لا تغفل عن شكر ما انعم الله به عليك انتهى وقولهم واحسن كما احسن الله اليك امر بصلة المساكين وذوي الحاجات ص كما احسن الكاف للتشبيه او للتعليل انتهى وقول قارون انما اوتيته على علم عندى قال الجمهور ادعى ان عنده علما استوجب به ان يكون صاحب ذلك المال ثم اختلفوا فى ذلك العلم فقال ابن المسيب اراد علم الكيمياء وقال ابو سليمان الدارانى اراد العلم بالتجارة ووجوه تثمير المال وقيل غير هذا
وقوله تعالى ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون قال محمد بن كعب هو كلام متصل بمعنى ما قبله والضمير فى ذنوبهم عائد على من اهلك من القرون اي اهلكوا ولم يسئل غيرهم بعدهم عن ذنوبهم اي كل احد انما يكلم ويعاتب بحسب ما يخصه وقالت فرقة هو اخبار مستأنف عن حال يوم القيامة وجاءت ءايات اخر تقتضى السؤال فقال الناس فى هذا انها مواطن وطرائف وقيل غير هذا ويوم القيامة هو مواطن ثم اخبر تعالى عن خروج قارون على قومه فى زينته من الملابس والمراكب وزينة الدنيا واكثر الناس فى تحديد زينة قارون وتعيينها بما لا صحة له فتركته وباقى آلاية بين فى اغترار الجهلة والإغمار من الناس
وقوله سبحانه وقال الذين اوتو العلم ويلكم الاية اخبر تعالى عن الذين اوتو العلم والمعرفة بالله وبحق طاعته انهم زجروا الإغمار الذين تمنوا حال قارون وحملوهم على الطريقة المثلى من ان النظر والتمنى انما ينبغى ان يكون فى امور آلاخرة وان حالة المؤمن العامل الذى ينتظر ثواب الله تعالى خير من حال كل ذى دنيا ثم اخبر تعالى عن هذه النزعة وهذه القوة فى الخير والدين انها لا يلقاها اي لا يمكن فيها ويخولها الا الطابر على طاعة (3/184)
الله وعن شهوات نفسه وهذا هو جماع الخير كله وقال الطبرى الضمير عائد على الكلمة وهى قوله ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا اي لا يلقن هذه الكلمة الا الصابرون وعنهم تصدر وروى فى الخسف بقارون وداره ان موسى عليه السلام لما امضه فعل قارون به وتعديه عليه استجار بالله تعالى وطلب النصرة فأوحى الله اليه انى قد امرت الارض ان تطيعك فى قارون واتباعه فقال موسى يا ارض خذيهم فأخذتهم الى الركب فاستغاثوا يا موسى يا موسى فقال خذيهم فاخذتهم شيأ فشيأ الى ان تم الخسف بهم فأوحى الله اليه يا موسى لو بى استغاثوا والى تابوا لرحمتهم قال قتادة وغيره روى انه يخسف به كل يوم قامة فهو يتجلجل الى يوم القيامة ت وفى الترمذى عن معاذ بن انس الجهنى ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من اي حلل الإيمان شاء يلبسها وروى الترمذى عن عائشة قالت كان لنا قرام ستر فيه تماثيل على بابى فرءاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال انزعيه فانه يذكرني الدنيا الحديث وروى الترمذى عن كعب ابن عياض قال سمعت النبى صلى الله عليه و سلم يقول ان لكل امة فتنة وفتنة امتى المال قال ابو عيسى هذا حديث حسن صحيح وفيه عن عثمان بن عفان ان النبى صلى الله عليه و سلم قال ليس لابن ءادم حق فى سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يوارى عورته وجلف الخبز والماء قال النضر بن شميل جلف الخبز يعنى ليس معه ادام انتهى فهذه الأحاديث واشباهها تزهد فى زينة الدنيا وغضارة عيشها الفانى
وقوله ويكأن مذهب الخليل وسيبويه ان وى حرف تنبيه منفصلة من كأن لكن اضيفت لكثرة الاستعمال وقال ابو حاتم وجماعة ويك هى ويلك حذفت اللام منها لكثرة الاستعمال وقالت فرقة ويكأن بجملتها كلمة
وقوله تعالى تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا (3/185)
فى الارض ولا فسادا الاية هذا اخبار مستأنف من الله تعالى لنبيه عليه السلام يراد به جميع العالم ويتضمن الحض على السعى حسب ما دلت عليه آلاية ويتضمن الانحناء على حال قارون ونظرائه والمعنى ان الاخرة ليست فى شىء من امر قارون واشباهه وانما هى لمن صفته كذا وكذا والعلو المذموم هو بالظلم والتجبر قال النبى صلى الله عليه و سلم وذلك ان تريد ان يكون شراك نعلك افضل من شراك نعل اخيك والفساد يعم وجوه الشر
وقوله تعالى ان الذى فرض عليك القرءان قالت فرقة معناه فرض عليك احكام القرءان
وقوله تعالى لرادك الى معاد الجمهور معناه لرادك الى الاخرة اي باعثك بعد الموت وقال ابن عباس وغيره المعاد الجنة وقال ابن عباس ايضا ومجاهد المعاد مكة وفى البخارى بسنده عن ابن عباس لرادك الى معاد الى مكة انتهى وهذه آلاية نزلت بالجحفة كما تقدم والمعاد الموضع الذى يعاد اليه
وقوله تعالى وما كنت ترجوا ان يلقى اليك الكتاب الا رحمة من ربك هو تعديد نعم والظهير المعين
ولا يصدنك عن ءايات الله بأقوالهم ولا تلتفت نحوهم وامض لشأنك وادع الى ربك وءايات الموادعة كلها منسوخة
وقوله تعالى كل شىء هالك الا وجهه قالت فرقة المعنى كل شىء هالك الا هو سبحانه قاله الطبرى وجماعة منهم ابو المعالى رحمه الله وقال الزجاج الا اياه
تفسير سورة العنكبوت وهى مكية الا الصدر منها العشر الآيات فإنها مدنية نزلت فى شأن من كان من المسلمين بمكة هذا اصح ما قيل هنا (3/186)
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى ألم تقدم الكلام على هذه الحروف
وقوله تعالى احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون نزلت هذهاآلاية فى قوم من المؤمنين بمكة وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الاسلام فكانت صدورهم تضيق لذلك وربما استنكر بعضهم ان يمكن الله الكفرة من المومنين قال مجاهد وغيره فنزلت هذه الاية مسلية ومعلمة ان هذه هى سيرة الله فى عباده اختبارا للمؤمنين ليعلم الصادق من الكاذب وحسب بمعنى ظن
والذين من قبلهم يريد بهم المؤمنين مع الانبياء فى سالف الدهر
وقوله تعالى ام حسب الذين يعملون السيئات ام معادلة للهمزة فى قوله احسب وكأنه تعالى قرر الفريقين قرر المؤمنين على ظنهم انهم لا يفتنون وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات فى تعذيب المومنين وغير ذلك على ظنهم انهم يسبقون عقاب الله ويعجزونه ثم الاية بعد تعم كل عاص وعامل سيئة من المسلمين وغيرهم وفى آلاية وعيد شديد للكفرة الفاتنين وفى قوله تعالى من كان يرجوا لقاء الله تثبيت للمؤمنين وباقى الاية بين والله الموفق وقال ص قول ع ام معادلة للألف فى قوله احسب يقتضى انها هنا متصلة وليس كذلك بل ام هنا منقطعة مقدره ببل للاضراب بمعنى الانتقال لا بمعنى الإبطال وهمزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ فلا تقتضى جوابا انتهى
وقوله تعالى والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم اخبار عن المؤمنين المهاجرين الذين هم فى اعلى رتبة من البدار الى الله تعالى نوه بهم عز و جل وبحالهم ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة وهم الذين فتنهم الكفار
ولنجزينهم احسن اي ثواب احسن الذى كانوا يعملون
وقوله تعالى ووصينا الانسان بوالديه حسنا وان جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به (3/187)
علم فلا تطعهما روى عن قتادة وغيره انها نزلت فى شأن سعد بن ابى وقاص وذلك انه هاجر فحلفت امه ان لا تستظل بظل حتى يرجع اليها ويكفر بمحمد فلج هو فى هجرته ونزلت الآية وقيل بل نزلت فى عياش بن ابى ربيعة وكانت قصته كهذه ثم خدعه ابو جهل ورده الى امه الحديث فى كتب السيرة وباقى الاية بين ثم كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين ليحرك النفوس الى نيل مراتبهم قال الثعلبى قوله تعالى لندخلنهم فى الصالحين اي فى زمرتهم وقال محمد بن جرير فى مدخل الصالحين وهو الجنة وقيل فى بمعنى مع والصالحون هو الأنبياء والأولياء انتهى
وقوله تعالى ومن الناس من يقول ءامنا بالله الى قوله المنافقين نزلت فى المتخلفين عن الهجرة المتقدم ذكرهم قاله ابن عباس ثم قررهم تعالى على علمه بما فى صدورهم اي لو كان يقينهم تاما واسلامهم خالصا لما توقفوا ساعة ولركبوا كل هول الى هجرتهم ودار نبيهم
وقوله تعالى وليعلمن الله الذين ءامنوا وليعلمن المنافقين هنا انتهى المدنى من هذه السورة
وقوله تعالى وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا الاية روى ان قائل هذه المقالة هو الوليد بن المغيرة وقيل بل كانت شائعة من كفار قريش لاتباع النبى صلى الله عليه و سلم
وقوله تعالى وليحملن اثقالهم الاية لانه يلحق كل داع الى ضلاله كفل منها حسبما صرح به الحديث المشهور
وقوله تعالى ولقد ارسلنا نوحا الى قومه فلبث فيهم الاية العطف بالفاء يقتضى ظاهرة انه لبث هذه المدة رسولا يدعو الى عبادة الله تعالى والطوفان العظيم الطامى ويقال ذلك لكل طام خرج عن العادة من ماء او نار او موت
وقوله وهم ظالمون يريد بالشرك ثم ذكر تعالى قصة ابراهيم وقومه وذلك ايضا تمثيل لقريش
وتخلقون افكا قال ابن عباس هو نحت الاصنام وقال مجاهد هو اختلاق الكذب فى امر الأوثان وغير ذلك
وقوله تعالى او لم يروا كيف يبدئى الله الخلق ثم يعيده آلاية هذه الحالة هى (3/188)
على ما يظهر مع الاحيان من احياء الارض والنبات واعادته ونحو ذلك مما هو دليل على البعث من القبور ثم امر تعالى نبيه محمد عليه السلام ويحتمل ان يكون ابراهيم بان يأمرهم على جهة الاحتجاج بالسير فى الارض والنظر فى اقطارها والنشأة الاخرة نشأة القيام من القبور
وقوله تعالى وما انتم بمعجزين فى الارض ولا فى السماء آلاية قال ابن زيد لا يعجزه اهل الارض فى الارض ولا اهل السماء فى السماء ان عصوه وقيل معناه ولا فى السماء لو كنتم فيها وقيل المعنى ليس للبشر حيلة الى صعود او نزول يفلتون بها قال قتادة ذم الله قوما هانوا عليه فقال 6 اولئك يئسوا من رحمتى الاية قال ع وما تقدم من قوله اولم يروا كيف الى هذه الاية المستأنفة يحتمل ان يكون خطابا لمحمد صلى الله عليه و سلم ويكون اعتراضا فى قصة ابراهيم عليه السلام ويحتمل ان يكون خطابا لابراهيم ومحاورة لقومه وعند ءاخر ذلك ذكر جواب قومه
وقوله تعالى فأنجاه الله من النار اي بان جعلها بردا وسلاما قال كعب الاحبار ولم تحرق النار الا الحبل الذى اوثقوه به وجعل سبحانه ذلك ءاية وعبره ودليلا على توحيده لمن شرح صدره ويسره للايمان ثم ذكر تعالى ان ابراهيم عليه السلام قررهم على ان اتخاذهم الاوثان انما كان اتباعا من بعضهم لبعض وحظا لمودتهم الدنيوية وانهم يوم القيامة يجحد بعضهم بعضا ويتلاعنون لأن توادهم كان على غير تقوى والاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين
وقوله تعالى فئامن له لوط معناه صدق وآمن يتعدى باللام والباء والقائل انى مهاجر هو ابراهيم عليه السلام قاله قتادة والنخعى وقالت فرقة هو لوط عليه السلام
وقوله تعالى ووهبنا له اسحاق ويعقوب وجعلنا فى ذريته النبوءة والكتاب وءاتيناه اجره فى الدنيا الاية الأجر الذى ءاتاه الله فى الدنيا العافية من النار ومن الملك الجائر والعمل الصالح او الثنا الحسن قاله مجاهد ويدخل فى عموم اللفظ غير ما ذكر وانه (3/189)
فى الاخرة لمن الصالحين اي فى عداد الصالحين الذين نالوا رضا الله عز و جل وقول لوط ائنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل قالت فرقة كان قطع الطريق بالسلب فاشيا فيهم وقيل غير هذا والنادى المجلس الذى يجتمع الناس فيه واختلف فى هذا المنكر الذى يأتونه فى ناديهم فقالت فرقة كانوا يخذفون الناس بالحصباء ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم وروته ام هانىء عن النبى صلى الله عليه و سلم وكانت خلقهم مهملة لا يربطهم دين ولا مروءة وقال مجاهد كانوا يأتون الرجال فى مجالسهم وبعضهم يرى بعضا وقال ابن عباس كانوا يتضارطون ويتصافعون فى مجالسهم وقيل غير هذا وقد تقدم قصص الاية مكررا والرجز العذاب
وقوله تعالى ولقد تركنا منها اي من خبرها وما بقى من آثارها وآلاية موضع العبرة وعلامة القدرة ومزدجر النفوس عن الوقوع فى سخط الله تعالى
وقوله تعالى والى مدين اخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الاخر الاية الرجاء فى آلاية على بابه وذهب ابو عبيدة الى ان المعنى وخافوا وتعثوا معناه تفسدوا والسبيل هى طريق الايمان ومنهج النجاة من النار وما كانوا سابقين اي مفلتين اخذنا وعقابنا وقيل معناه وما كانوا سابقين الأمم الى الكفر وباقى الاية بين
وقوله تعالى ان الله يعلم ما تدعون من دونه من شيىء قيل معناه ان الله يعلم الذين تدعون من دونه من جميع الاشياء وقيل ما نافية وفيه نظر وقيل ما استفهامية قال جابر قال النبى صلى الله عليه و سلم فى قوله تعالى وما يعقلها الا العالمون العالم من عقل عن الله تعالى فعمل بطاعته وانتهى عن معصيته
وخلق الله السموات والارض بالحق اي لا للعبث واللعب بل ليدل على سلطانه وتثبيت شرائعه ويضع الدلالة لاهلها ويعم بالمنافع الى غير ذلك مما لا يحصى عدا ثم امر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره وتلاوة القرءان الذى اوحى اليه واقامة الصلاة اي ادامتها والقيام بحدودها ثم اخبر (3/190)
سبحانه حكما منه ان الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر قال ع وذلك عندى بان المصلى اذا كان على الواجب من الخشوع والاخبات وتذكر الله وتوهم الوقوف بين يديه وان قلبه واخلاصه مطلع عليه مرقوب صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك فى اقواله وافعاله وانتهى عن الفحشاء والمنكر ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة اخرى يرجع بها الى افضل حاله فهذا معنى هذا الاخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغى ان تكون وقد روى عن بعض السلف انه كان اذا اقام الصلاة ارتعد واصفر لونه فكلم فى ذلك فقال انى اقف بين يدى الله تعالى قال ع فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر واما من كانت صلاته دائرة حول الأجزاء بلا تذكر ولا خشوع ولا فضائل فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان
وقوله تعالى ولذكر الله اكبر قال ابن عباس وابو الدرداء وسلمان وابن مسعود وابو قرة معناه ولذكر الله اياكم اكبر من ذكركم اياه وقيل معناه ولذكر الله اكبر مع المداومة من الصلاة فى النهى عن الفحشاء والمنكر وقال ابن زيد وغيره معناه ولذكر الله اكبر من كل شيىء وقيل لسليمان اي الاعمال افضل فقال اما تقرأ ولذكر الله اكبر والاحاديث فى فضل الذكر كثيرة لا تنحصر وقال ابن العربى فى إحكامه قوله ولذكر الله اكبر فيه اربعة اقوال الاول ذكر الله لكم افضل من ذكركم له اضاف المصدر الى الفاعل الثانى ذكره الله افضل من كل شيىء الثالث ذكر الله فى الصلاة افضل من ذكره فى غيرها يعنى لأنهما عبادتان الرابع ذكر الله فى الصلاة اكبر من الصلاة وهذه الثلاثة الأخيرة من اضافة المصدر الى المفعول وهذه كلها صحيحة وان للصلاة بركة عظيمة انتهى قال ع وعندى ان المعنى ولذكر الله اكبر على الاطلاق اي هو الذى ينهى عن (3/191)
الفحشاء والمنكر فالجزء الذى منه فى الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل فى غير الصلاة لان الانتهاء لا يكون الا من ذاكر لله تعالى مراقب له وثواب ذلك الذكر ان يذكره الله تعالى كما فى الحديث الصحيح ومن ذكرني فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم والحركات التى فى الصلاة لا تأثير لها فى نهى والذكر النافع هو مع العلم واقبال القلب وتفرغه الا من الله واما ما لا يتجاوز اللسان ففى رتبة اخرى وذكر الله تعالى للعبد هو افاضة الهدى ونور العلم عليه وذلك ثمرة ذكر العبد ربه قال الله عز و جل فاذكرونى اذكركم وعبارة الشيخ ابن ابى جمرة ولذكر الله اكبر معناه ذكره لك فى الأزل ان جعلك من الذاكرين له اكبر من ذكرك انت آلآن له انتهى قال القشيرى فى رسالته الذكر ركن قوى فى طريق الحق سبحانه وهو العمدة فى هذا الطريق ولا يصل احد الى الله سبحانه الا بدوام الذكر ثم الذكر على ضربين ذكر باللسان وذكر بالقلب فذكر اللسان به يصل العبد الى استدامة ذكر القلب والتأثير لذكر القلب فاذا كان العبد ذاكرا بلسانه وقلبه فهو الكامل فى وصفه سمعت ابا على الدقاق يقول الذكر منشور الولاية فمن وفق للذكر فقد وفق للمنشور ومن سلب الذكر فقد عزل والذكر بالقلب مستدام فى عموم الحالات واسند القشيرى عن المظفر الجصاص قال كنت انا ونصر الخراط ليلة فى موضع فتذاكرنا شيأ من العلم فقال الخراط الذاكر لله تعالى فائدته فى اول ذكره ان يعلم ان الله ذكره فبذكر الله له ذكره قال فخالفته فقال لو كان الخضر ها هنا لشهد لصحته قال فاذا نحن بشيخ يجىء بين السماء والارض حتى بلغ الينا وقال صدق الذاكر لله بفضل الله وذكره له ذكره فعلمنا انه الخضر عليه السلام انتهى وباقى الاية ضرب من التوعد وحث على المراقبة قال الباجى فى سنن الصالحين قال بعض العلماء ان الله عز و جل يقول ايما عبد اطلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكرى توليت سياسته (3/192)
وكنت جليسه ومحادثه وانيسه انتهى
وقوله تعالى ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتى هى احسن هذه الاية مكية ولم يكن يومئذ قتال وكانت اليهود يومئذ بمكة وفيما جاورها فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدال واحتجاج فى امر الدين وتكذيب فأمر الله المؤمنين الايجادلوهم الا بالتى هى احسن دعاء الى الله تعالى وملاينة ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين وحصلت منه اذية فإن هذه الصنيفة استثنى لأهل الاسلام معارضتها بالتغيير عليها والخروج معها عن التى هى احسن ثم نسخ هذا بعد بأية القتال وهذا قول قتادة وهو احسن ما قيل فى تأويل الاية ت قال عز الدين بن عبد السلام فى اختصاره لقواعد الأحكام فائدة لا يجوز الجدال والمناظرة الا لاظهار الحق ونصرته ليعرف ويعمل به فمن جادل لذلك فقد اطاع ومن جادل لغرض آخر فقد عصى وخاب ولا خير فيمن يتحيل لنصره مذهبه مع ضعفه وبعد ادلته من الصواب انتهى تنبيه روى الترمذى عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال الحياء والعى شعبتان من الايمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق وروى ابو داود والترمذى عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال ان الله يبغض البليغ من الرجال الذى يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها حديث غريب انتهى وهما فى مصابيج البغوى وروى ابو داود عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال او الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا انتهى
وقوله تعالى وقولوا ءامنا الاية قال ابو هريرة كان اهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية للمسلمين فقال النبى صلى الله عليه و سلم لا تصدقوا اهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا ءامنا بالذى انزل الينا وانزل اليكم والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون وروى ابن مسعود ان النبى صلى الله عليه و سلم قال لا تسئلوا اهل الكتاب عن شىء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا (3/193)
اما ان تكذبوا بحق اما ان تصدقوا بباطل
وقوله تعالى فالذين ءاتيناهم الكتاب يريد التوراة والانجيل كانوا فى وقت نزول الكتاب عليهم يؤمنون بالقرءان ثم اخبر عن معاصرى نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ان منهم ايضا من يومن به ولم يكونوا ءامنوا بعد ففى هذا اخبار بغيب بينه الوجود بعد ذلك
وما يجحد بأياتنا الا الكافرون يشبه ان يراد بهذا الا غناء كفار قريش ثم بين تعالى الحجة واوضح البرهان مما يقوى ان نزول هذا القرءان من عند الله ان محمد عليه السلام جاء به فى غاية الاعجاز والطول والتضمن للغيوب وغير ذلك وهو امى لا يقرأ ولا يكتب ولا يتلو كتابا ولا يخط حروفا ولا سبيل له الى التعلم ولو كان ممن يقرأ او يخط لارتاب المبطلون وكان لهم فى ارتيابهم معلق واما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده بل هو ءايات بينات يعنى القرءان ويحتمل ان يعود على امر محمد صلى الله عليه و سلم والظالمون والمبطلون يعم لفظهما كل مكذب للنبى صلى الله عليه و سلم ولكن عظم الاشارة بهما الى قريش لأنهم الأهم قاله مجاهد
وقالوا لولا انزل عليه ءايات من ربه الضمير فى قالوا لقريش ولبعض اليهود لأنهم كانوا يعلمون قريشا مثل هذه الحجة على ما مر فى غير ما موضع ثم احتج عليهم فى اقتراحهم ءاية بامر القرءان الذى هو اعظم الآيات ومعجز للجن والانس فقال سبحانه او لم يكفهم انا انزلنا عليك الكتاب الاية
وقوله ءامنوا بالباطل يريد الاصنام وما فى معناها
وقوله تعالى ويستعجلونك بالعذاب يريد كفار قريش وباقى الاية بين مما تقدم مكررا والله الموفق بفضله وبغتة فجأة وهذا هو عذاب الدنيا كيوم بدر ونحوه ثم توعدهم سبحانه بعذاب الاخرة فى قوله يستعجلونك بالعذاب وان جهنم الاية
وقوله تعالى يا عبادى الذين ءامنوا ان ارضى واسعة فاياي فاعبدون الايات هذه (3/194)
الايات نزلت فى تحريض المؤمنين الكائنين بمكة على الهجرة قال ابن جبير وعطاء ومجاهد ان الارض التى فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الاية وتلزم الهجرة عنها الى بلد حق وقاله مالك
وقوله سبحانه 6 كل نفس ذائقة الموت ثم الينا ترجعون تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها كان بعض المؤمنين نظر فى عاقبة تلحقه فى خروجه من وطنه انه يموت او يجوع ونحو هذا فحقر الله سبحانه شأن الدنيا اي وانتم لا محالة ميتون ومحشرون الينا فالبدار الى طاعة الله والهجرة اليه اولى يمتثل ذكر هشام بن عبد الله القرطبى فى تاريخه المسمى ببهجة النفس قال بينما المنصور جالس فى منزله فى اعلى قصره اذ جاءه سهم عائد فسقط بين يديه فذعر المنصور منه ذعرا شديدا ثم اخذه فجعل يقلبه فاذا مكتوب عليه بين الريشتين ... اتطمع فى الحياة الى التنادى ... وتحسب ان مالك من معاد ... وستسئل عن ذنوبك والخطايا ... وتسئل بعد ذاك عن العباد ...
ومن الجانب الآخر ... احسنت ظنك بالايام اذ حسنت ... ولم تخف سوء ما ياتى به القدر ... وساعدتك الليالى فاغتررت بها ... وعند صفو الليالى يحدث الكدر ... وفى الاخر ... هى المقادير تجرى فى اعنتها ... فاصبر فليس لها صبر على حال ... يوما تريك خسيس القوم ترفعه ... الى السماء ويوما تخفض العالى ...
ثم قرأ على الجانب الاخر من السهم ... من يصحب الدهر لايامن تصرفه ... يوما فللدهر احلاء وامرار ... لكل شىء وان طالت سلامته ... اذا انتهى مدة لا بد اقصار ...
انتهى وقرأ حمزة لنثوينهم من الجنة غرفا من اثوى يثوى بمعنى اقام وقوله تعالى (3/195)
وكأين من دابة الاية تحريض على الهجرة لان بعض المؤمنين فكر فى الفقر والجوع الذى يلحقه فى الهجرة وقالوا غربة فى بلد لادار لنا فيه ولا عقار ولا من يطعم فمثل لهم بأكثر الدواب التى لا تتقوت ولا تدخر ثم قال تعالى الله يرزقها وإياكم فقوله لا تحمل يجوز ان يريد من الحمل اي لا تنتقل ولا تنظر فى ادخاره قاله مجاهد وغيره قال ع والادخار ليس من خلق الموقنين وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لابن عمر كيف بك اذا بقيت فى حثالة من الناس يخبئون رزق سنة بضعف اليقين ويجوز ان يريد من الحمالة اي لا تتكفل لنفسها قال الداودى وعن على بن الأقمر لا تحمل رزقها اي لا تدخر شيأ لغد انتهى وفى الترمذى عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو انكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا قال ابو عيسى هذا حديث حسن صحيح انتهى ثم خاطب تعالى فى امر الكفار واقامة الحجة عليهم بأنهم ان سئلوا عن الأمور العظام التى هى دلائل القدرة لم يكن لهم الا التسليم بأنها لله تعالى ويوفكون معناه يصرفون
وقوله تعالى وما هذه الحيوة الدنيا الا لهو ولعب وصف الله تعالى الدنيا فى هذه الاية بأنها لهو ولعب اي ما كان منها لغير وجه الله تعالى واما ما كان لله تعالى فهو من الاخرة واما امور الدنيا التى هى زائدة على الضرورى الذى به قوام العيش والقوة على الطاعات فإنما هى لهو ولعب وتأمل ذلك فى الملابس والمطاعم والأقوال والمكتسبات وغير ذلك وانظر ان حالة الغنى والفقير من الامور الضرورية واحدة كالتنفس فى الهواء وسد الجوع وستر العورة وتوقي الحر والبرد هذه عظم امر العيش والحيوان والحياة بمعنى والمعنى لا موت فيها قاله مجاهد وهو حسن ويقال اصله حييان فأبدلت احداهما واوا لاجتماع المثلين ثم وقفهم تعالى على حالهم فى البحر عند الخوف العظيم (3/196)
ونسيانهم عند ذلك للاصنام وغيرها على ما تقدم بيانه فى غير هذا الموضع الموضع وليكفروا نصب بلام كي ثم عدد تعالى على كفرة قريش نعمته عليهم فى الحرم والمثوى موضع الاقامة والفاظ هذه الاية فى غاية الاقتضاب والايجاز وجمع المعانى ثم ذكر تعالى حال اوليائه والمجاهدين فيه
وقوله فينا معناه فى مرضاتنا وبغيه ثوابنا قال السدى وغيره نزلت هذه الاية قبل فرض القتال قال ع فهى قبل الجهاد العرفى وانما هو جهاد عام فى دين الله وطلب مرضاته قال الحسن بن ابى الحسن آلاية فى العباد وقال ابراهيم ابن ادهم هى فى الذين يعلمون بما علموا وقال ابو سليمان الدارانى ليس الجهاد فى هذه الاية قتال العدو وفقط بل هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين واعظمه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومنه مجاهدة النفوس فى طاعة الله عز و جل وهو الجهاد الأكبر قاله الحسن وغيره وفيه حديث عن النبى صلى الله عليه و سلم رجعتم من الجهاد الأصغر الى الجهاد الاكبر والسبل هنا يحتمل ان تكون طرق الجنة ومسالكها ويحتمل ان تكون سبل الاعمال المؤدية الى الجنة قال يوسف بن اسباط هى اصلاح النية فى الاعمال وحب التزيد والتفهم وهو ان يجازى العبد على حسنة بازدياد حسنة وبعلم ينقدح من علم متقدم قال ص والذين جاهدوا مبتدأ خبره القسم المحذوف وجوابه وهو لنهدينهم انتهى وقال الثعلبى قال سهل بن عبد الله والذين جاهدوا فى اقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة انتهى واللام فى قوله لمع لام تاكيد
تفسير سورة الروم وهى مكية اتفاقا (3/197)
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى الم غلبت الروم قرأ الجمهور غلبت بضم الغين وقالوا معنى الاية انه بلغ اهل مكة ان الملك كسرى هزم جيش الروم بأذرعات وهى ادنى الارض الى مكة قاله عكرمة فسر بذلك كفار مكة فبشر الله تعالى المؤمنين بأن الروم سيغلبون فى بضع سنين فخرج ابو بكر رضى الله عنه الى المسجد الحرام فقال للكفار اسركم ان غلبت الروم فإن نبينا اخبرنا عن الله تعالى انهم سيغلبون فى بضع سنين فقال له ابى بن خلف واخوه امية بن خلف يا ابا بكر تعال فلنتناحب اي نتراهن فى ذلك فراهنهم ابو بكر على خمس قلائص والأجل ثلاث سنين وذلك قبل ان يحرم القمار فأخبر النبى صلى الله عليه و سلم بذلك فقال له ان البضع الى التسع ولكن زدهم فى الرهن واستزدهم فى الاجل ففعل ابو بكر فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة اعوام فغلبت الروم فارس فى اثناء الأجل يوم بدر وروى ان ذلك كان يوم الحديبية يوم بيعه الرضوان وفى كلا اليومين كان نصر من الله تعالى للمومنين وذكر الناس سرور المؤمنين بغلبة الروم من اجل انهم اهل كتاب وفرحت قريش بغلبة الفرس من اجل انهم اهل اوثان ونحوه من عبادة النار
وقوله تعالى لله الامر من قبل ومن بعد اي له انفاذ الأحكام من قبل ومن بعد هذه الغلبة التى بين هؤلاء ثم اخبر تعالى ان يوم غلبه الروم للفرس يفرح المؤمنين بنصر الله ولكن اكثر الناس لا يعلمون يريد كفار قريش والعرب اي لا يعلمون ان الأمور من عند الله وان وعده لا يخلف وان ما يورده نبيه حق قال ع وهذا الذى ذكرناه عمدة ما قيل ثم وصف تعالى الكفرة الذين لا يعلمون امر الله وصدق وعده بأنهم انما يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون قال صاحب الكلم الفارقية الدنيا طبق (3/198)
مسموم
لا يعرف ضرره الا ارباب الفهوم
قوة الرغبة فى الدنيا علامة ضعفها فى الاخرة
بحسب انصراف الرغبة الى الشىء يجد الراغب فى طلبه وتتوفر دواعيه على تحصيله
المطلوبات تظهر وتبين اقدار طلابها
فمن شرفت همته شرفت رغبته وعزت طلبته
يا غافل سكر حبك لدنياك
وطول متابعتك نغاوي هواك
انساك عظمه مولاك
وثناك عن ذكره والهاك
وصرف وجه رغبتك عن آخرتك الى دنياك
ان كنت من اهل الاستبصار
فالق ناظر رغبتك عن زخارف هذه الدار
فإنها مجمع الأكدار
ومنبع المضار
وسجن الابرار
ومجلس سرور الاشرار
الدنيا كالحية تجمع فى انيابها
سموم نوائبها
وتفرغه فى صميم قلوب ابنائها انتهى قال عياض فى الشفا قال ابو العباس المبرد رحمه الله قسم كسرى ايامه فقال يصلح يوم الريح للنوم ويوم الغيم للصيد ويوم المطر للشرب واللهو ويوم الشمس للحوائج قال ابن خالويه ما كان اعرفهم بسياسة دنياهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون لكن نبينا محمد صلى الله عليه و سلم جزأها ثلاثة اجزاء جزءا لله تعالى وجزءا لأهله وجزءا لنفسه ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس فكان يستعين بالخاصة على العامة ويقول ابلغوا حاجة من لا يستطيع ابلاغي فإنه من ابلغ حاجة من لا يستطيع امنه الله يوم الفزع الاكبر انتهى والمومن المنهمك فى امور الدنيا التى هى اكبرهمه ياخذ من هذه آلاية بحظ نور الله قلوبنا بهداه ت قد تقدم ما جاء فى الفكرة فى ءال عمران قال ابن عطاء الله الفكرة سراج القلب فإذا ذهبت فلا اضاءة له وقال ما نفع القلب شىء مثل عزله يدخل بها ميدان فكرة انتهى وباقى الاية بين
وقوله عز و جل أو لم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا اشد منهم قوة واثاروا الارض الاية يريد اثاروا الارض بالمبانى والحرث والحروب وسائر الحوادث التى احدثوها (3/199)
هي كلها إثارة للأرض بعضها حقيقة وبعضها بتجوز والضمير في عمروها الأول للماضين وفي الثاني للحاضرين المعاصرين وقوله تعالي ثم كان عاقبة الذين اساءوا السوأى ان كذبوا بئايات الله قرأ نافع وغيره عاقبة بالرفع على انها اسم كان والخبر يجوز ان يكون السوأى ويجوز ان يكون ان كذبوا وتكون السوأى على هذا مفعولا باساءوا واذا كان السوأى خبرا فان كذبوا مفعول من اجله وقرأ حمزة والكساءى وغيرهما عاقبة بالنصب على انها خبر مقدم واسم كان احد ما تقدم والسوأى مصدر كالرجعى والشورى والفتيا قال ابن عباس اساءوا هنا بمعنى كفروا والسوأى هى النار وعبارة البخارى وقال مجاهد السوأى اي الإساءة جزاء المسيئين انتهى والإبلاس الكون فى شر مع اليأس من الخير ص وقال الزجاج المبلس الساكت المنقطع فى حجته اليأس من ان يهتدى اليها انتهى
وقوله جلت عظمته ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون معناه فى المنازل والأحكام والجزاء قال قتادة فرقة والله لا اجتماع بعدها ويحبرون معناه ينعمون قاله مجاهد والحبرة والحبور السرور وقال يحي بن ابى كثير يحبرون معناه يسمعون الأغانى وهذا نوع من الحبرة ت وفى الصحيح من قول ابى موسى لو شعرت بك يا رسول الله لحبرته لك تحبيرا او كما قال وقال ص يحبرون قال الزجاج التحبير التحسين والحبر العالم انما هو من هذا المعنى لأنه متخلق بأحسن اخلاق المؤمنين والحبر المداد انما سمى به لأنه يحسن به انتهى قال الأصمعى ولا يقال روضة حتى يكون فيها ماء يشرب منه ومعنى فى العذاب محضرون اي مجموعون له لا يغيب احد عنه
وقوله تعالى فسبحان الله الاية خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة فى هذه الاوقات كأنه يقول سبحانه اذا كان امر هذه الفرق هكذا من النعمة والعذاب فجد ايها المؤمن فى طريق الفوز برحمة الله وروى ابن عباس عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال (3/200)
من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الى قوله وكذلك تخرجون ادرك ما فاته فى يومه ذلك ومن قالهن حين يمسى ادرك ما فاته فى ليلته رواه ابو داود انتهى من السلاح قال ابن عباس وغيره فى هذه الاية تنبيه على اربع صلوات المغرب والصبح والظهر والعصر قالوا والعشاء الأخيرة هى فى ءاية اخرى فى زلف الليل وقد تقدم بيان هذه مستوفى فى محاله
وقوله تعالى يخرج الحى من الميت الاية تقدم بيانها ثم بعد هذه الأمثلة القاضية بتجويز بعث الاجساد عقلا ساق الخبر سبحانه بان كذلك خروجنا من قبورنا وتنتشرون معناه تتصرفون وتتفرقون والمودة والرحمة هما على بابهما المشهور من التواد والتراحم هذا هو البليغ وقيل غير هذا وقرأ الجمهور للعالمين بفتح اللام يعني جميع العالم وقرأ حفص عن عاصم بكسرها على معنى ان اهل الانتفاع بالنظر فيها انما هم اهل العلم وباقى الاية اطلبه فى محاله تجده ان شاء الله مبينا وهذا شأننا الاحالة فى هذا المختصر على ما تقدم بيانه فاعلمه راشدا ت وهذه الايات والعبر انما يعظم موقعها فى قلوب العارفين بالله سبحانه ومن اكثر التفكر فى عجائب صنع الله تعالى حصلت له المعرفة بالله سبحانه قال الغزالي فى الاحياء وبحر المعرفة لاساحل له والاحاطة بكنة جلال الله محال وكلما كثرت المعرفة بالله تعالى وصفاته وافعاله واسرار مملكته وقويت كثر النيعم فى الاخرة وعظم كما انه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن وقال ايضا فى كتاب شرح عجائب القلب من الاحياء وتكون سعة ملك العبد فى الجنة بحسب سعة معرفته بالله وبحسب ما يتجلى له من عظمه الله سبحانه وصفاته وافعاله انتهى
وقوله تعالى ان تقوم السماء والارض معناه تثبت كقوله تعالى واذا اظلم عليهم قاموا وهذا كثير والدعوة من الارض هى البعث ليوم القيامة قال مكى والاحسن عند اهل النظر ان الوقف فى هذه الاية يكون (3/201)
فى ءاخرها تخرجون لأن مذهب سيبويه والخليل فى اذا الثانية انها جواب الأولى كأنه قال ثم اذا دعاكم خرجتم وهذا اسد الاقوال وقال ص اذا انتم اذا للمفاجأة وهل هى ظرف مكان او ظرف زمان خلاف ومن الارض علقه الحوفى بدعا واجاز ع ان يتعلق بدعوة انتهى وقرأ حمزة والكساءى تخرجون بفتح التاء والباقون بضمها والقنوت هنا بمعنى الخضوع والإنقياد فى طاعته سبحانه واعادة الخلق هو بعثهم من القبور
وقوله تعالى وهو اهون عليه قال ابن عباس وغيره المعنى وهو هين عليه وفى مصحف ابن مسعود وهو هين عليه وفى بعض المصاحف وكل هين عليه وقال ابن عباس ايضا وغيره المعنى وهو ايسر عليه قال ولكن هذا التفضيل انما هو بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر فى الشاهد من ان الإعادة فى كثير من الاشياء اهون علينا من البدءة ولما جاء بلفظ فيه استعارة وتشبيه بما يعهده الناس من انفسهم خلص جانب العظمة بأن جعل له المثل الأعلى الذى لا يلحقه تكييف ولا تماثل مع شىء ثم بين تعالى امر الاصنام وفساد معتقد من يشركها بالله بضربه هذا المثل وهو قوله ضرب لكم مثلا من انفسكم الاية ومعناه انكم ايها الناس اذا كان لكم عبيد تملكونهم فانكم لا تشركونهم فى اموالكم ومهم اموركم ولا فى شىء على جهة استواء المنزلة وليس من شأنكم ان تخافوهم فى ان يرثوا اموالكم او يقاسموكم اياها فى حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض فاذا كان هذا فيكم فكيف تقولون ان من عبيده وملكه شركاء فى سلطانه والوهيته هذا تفسير ابن عباس والجماعة
وقوله تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا الاية اقامه الوجه هى تقويم المقصد والقوة على الجد فى اعمال الدين وخص الوجه لأنه جامع حواس الانسان ولشرفه وفطره الله نصب على المصدر وقيل بفعل مضمر تقديره اتبع او التزم فطرة الله واختلف فى الفطرة ها هنا والذى يعتمد عليه فى تفسير هذه (3/202)
اللفظة انها الخلقة والهيئة التى فى نفس الطفل التى هى معدة مهيئة لأن يميز بها مصنوعات الله ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به فكانه تعالى قال اقم وجهك للدين الذى هو الحنيف وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر لكن تعرضهم العوارض ومنه قوله صلى الله عليه و سلم فى الحديث الصحيح كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه او ينصرانه الحديث ثم يقول فطرة الله الاية الى القيم فذكر الأبوين انما هما مثال للعوارض التى هى كثيرة وقال البخارى فطرة الله هى الاسلام انتهى
وقوله تعالى لا تبديل لخلق الله يحتمل ان يريد بها هذه الفطرة ويحتمل ان يريد بها الانحاء على الكفرة اعترض به اثناء الكلام كأنه يقول اقم وجهك للدين الذى من صفته كذا وكذا فإن هؤلاء الكفرة قد خلق الله لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله اي انهم لا يفلحون وقيل غير هذا وقال البخارى لا تبديل لخلق الله اي لدين الله اي لدين الله وخلق الاولين دينهم انتهى والقيم بناء مبالغة من القيام الذى هو بمعنى الاستقامة ومنيبين يحتمل ان يكون حالا من قوله فطر الناس لا سيما على رأى من رأى ان ذلك خصوص فى المؤمنين ويحتمل ان يكون حالا من قوله اقم وجهك وجمعه لان الخطاب باقامة الوجه هو للنبى صلى الله عليه و سلم ولامته نظيرها قوله تعالى يا ايها النبى اذا طلقتم النساء والمشركون المشار اليهم فى هذه الاية هم اليهود والنصارى قاله قتادة وقيل غير هذا
وقوله تعالى واذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين اليه الاية ابتداء انحاء على عبدة الاصنام قال ع ويلحق من هذه الالفاظ شىء للمؤمنين اذا جاءهم فرج بعد شدة فعلقوا ذلك بمخلوقين او بحذق آرائهم وغير ذلك لان فيه قلة شكر لله تعالى ويسمى تشريكا مجازا والسلطان هنا البرهان من رسول او كتاب ونحوه
وقوله تعالى فهو يتكلم معناه فهو يظهر حجتهم ويغلب مذهبهم وينطق بشركهم ثم قال تعالى واذا اذقنا الناس (3/203)
رحمة فرحوا بها الاية وكل احد يأخذ من هذه الخلق بقسط فالمقل والمكثر الا من ربطت الشريعة جاشه ونهجت السنة سبيله وتأدب بآداب الله فصبر عند الضراء وشكر عند السراء ولم يبطر عند النعمة ولا قنط عند الابتلاء والقنط اليأس الصريح ثم ذكر تعالى الأمر الذى من اعتبره لم ييأس من روح الله وهو انه سبحانه يخص من يشاء من عباده ببسط الرزق ويقدر على من يشاء منهم فينبغى لكل عبد ان يكون راجيا ما عند ربه ثم امر تعالى نبيه عليه السلام امرا تدخل فيه امته على جهة الندب بإيتاء ذى القربى حقه من صلة المال وحسن العاشرة ولين القول قال الحسن حقه المواساة فى اليسر وقول ميسور فى العسر قال ع ومعظم ما قصد امر المعونة بالمال وقرأ الجمهور وما ءاتيتم بمعنى اعطيتم وقرأ ابن كثير بغير مد بمعنى وما فعلتم واجمعوا على المد فى قوله وما ءاتيتم من زكاة والربا الزيادة قال ابن عباس وغيره هذه الاية نزلت فى هبات الثواب قال ع وما جرى مجراها مما يضعه الانسان ليجازى عليه كالسلم وغيره فهو وان كان لا اثم فيه فلا اجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى وما اعطى الانسان تنمية لماله وتطهيرا يريد بذلك وجه الله تعالى فذلك هو الذى يجازى به اضعافا مضاعفة على ما شاء الله له وقرأ جمهور السبعة ليربوا باسناد الفعل الى الربا وقرأ نافع وحده لتربوا وباقى الاية بين ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهر من الفساد بسبب المعاصى قال مجاهد البر البلاد البعيدة من البحر والبحر السواحل والمدن التى على ضفة البحر وظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات ووقوع الرزايا وحدوث الفتن وتغلب العدو وهذه الثلاثة توجد فى البر والبحر قال ابن عباس الفساد فى البحر انقطاع صيده بذنوب بنى ءادم وقلما توجد امة فاضلة مطيعة مستقيمة الاعمال الا يدفع الله عنها هذه الامور والامر بالعكس فى المعاصى وبطر النعمة ليذيقهم عاقبة بعض ما عملوا ويعفوا عن كثير ولعلهم يرجعون اي يتوبون (3/204)
ويراجعون بصائرهم فى طاعة ربهم ثم حذر تعالى من يوم القيامة تحذيرا يعم العالم واياهم المقصد بقوله فاقم وجهك للدين القيم من قبل ان ياتى يوم لا مرد له من الله الاية ولا مرد له معناه ليس فيه رجوع لعمل ويحتمل ان يريد لا يرده راد وهذا ظاهر بحسب اللفظ ويصدعون معناه يتفرقون بعد جمعهم الى الجنة والى النار ثم ذكر تعالى من آياته اشياء وهى ما فى الريح من المنافع وذلك انها بشرى بالمطر وبلقح بها الشجر وغير ذلك وتجرى بها السفن فى البحر ثم انس سبحانه نبيه عليه السلام بقوله ولقد ارسلنا من قبلك رسلا الى قومهم فجاءوهم بالبينات الاية ثم وعد تعالى محمد وامته النصر بقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين وحقا خبر كان قدمه اهتماما
وقوله تعالى الله الذى يرسل الرياح فتثير سحابا الاية الإثارة تحريكها من سكونها وتسييرها وبسطه فى السماء هو نشره فى الآفاق والكسف القطع
وقوله من قبله تأكيد افاد الأعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الابلاس الى الاستبشار والابلاس الكون فى حال سوء مع اليأس من زوالها
وقوله تعالى كيف يحيى الضمير فى يحيى يحتمل ان يكون للأثر ويحتمل ان يعود على الله تعالى وهو اظهر ثم اخبر تعالى عن حال تقلب بنى ءادم فى انه بعد الاستبشار بالمطر ان بعث الله ريحا فاصفر بها النبات ظلوا يكفرون قلقا منهم وقلة تسليم لله تعالى والضمير فى رأوه للنبات واللام فى لئن موذنة بمجىء القسم وفى لظلوا لام القسم
وقوله تعالى 6 إنك لا تسمع الموتى الاية استعارة للكفار وقد تقدم بيان ذلك فى سورة النمل
وقوله تعالى الله الذى خلقكم من ضعف قال كثير من اللغويين ضم الضاد فى البدن وفتحها فى العقل وهذه الاية انما يراد بها حال الجسم والضعف الاول هو كون الانسان من ماء مهين والقوة بعد ذلك الشبيبة وشدة الأسر والضعف الثانى هو الهرم والشيخوخة هذا قول قتادة وغيره وروى ابو داود فى (3/205)
سنته بسند صحيح عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة فى الاسلام الا كانت له نورا يوم القيامة وفى رواية الا كتب الله عز و جل له بها حسنة وحط عنه خطيئة انتهى ثم اخبر عز و جل عن يوم القيامة فقال ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا اي تحت التراب غير ساعة وقيل المعنى ما لبثوا فى الدنيا كأنهم استقلوها كذلك كانوا فى الدنيا يؤفكون اي يصرفون عن الحق قال ص ما لبثوا جواب القسم على المعنى ولو حكى قولهم لكان ما لبثنا انتهى ثم اخبر تعالى ان الكفرة لا ينفعهم يومئذ اعتذار ولا يعطون عتبى وهى الرضى وباقي الاية بين ولله الحمد
تفسير سورة لقمان وهى مكية غير ءايتين قال قتادة اولهما ولو ان ما فى الارض الى ءاخر الايتين وقال ابن عباس ثلاث بسم الله الرحمن الرحيم قوله عز و جل آلم تلك ءايات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين خصه للمحسنين من حيث لهم نفعة والا فهو هدى فى نفسه
وقوله تعالى ومن الناس من يشترى لهو الحديث روى ان الاية نزلت فى شأن رجل من قريش اشترى جارية مغنية لتغنى له بهجاء النبى صلى الله عليه و سلم وقيل انه ابن خطل وقيل نزلت فى النضر بن الحارث وقيل غير هذا والذى يترجح ان آلاية (3/206)
نزلت فى لهو حديث منضاف الى كفر فلذلك اشتدت الفاظ الاية ولهو الحديث كل ما يلهى من غناء وخناء ونحوه وآلاية باقية المعنى فى الأمة غابر الدهر لكن ليس ليضلوا عن سبيل الله ولا ليتخذوا ءايات الله هزؤا ولا عليهم هذا الوعيد بل ليعطلوا عبادة ويقطعوا زمنا بمكروه قال ابن العربى فى احكامه وروى ابن وهب عن مالك عن محمد بن المنكدر ان الله تعالى يقول يوم القيامة اين الذين كانوا ينزهون انفسهم واسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان ادخلوهم فى ارض المسك ثم يقول الله تعالى للملائكة اسمعوهم ثناءى وحمدى واخبروهم ان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون انتهى
وقوله عز و جل واذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كان لم يسمعها كان فى اذنيه وقرا فبشره بعذاب اليم الوقر فى الاذن الثقل الذى يعسر معه ادراك المسموعات والرواسى هى الجبال والميد التحرك يمنه وبسره وما قرب من ذلك والزوج النوع والصنف وكريم مدحه بكرم جوهره وحسن منظره وغير ذلك ثم وقف تعالى الكفرة على جهة التوبيخ فقال هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه
وقوله تعالى ولقد آتينا لقمان الحكمة اختلف فى لقمان هل هو نبى او رجل صالح فقط وقال ابن عمر سمعت النبى صلى الله عليه و سلم يقول لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين احب الله فاحبه فمن عليه بالحكمة وخيره فى ان يجعله خليفة يحكم بالحق فقال رب ان خيرتنى قبلت العافية وتركت البلاء وان عزمت على فسمعا وطاعة فانك ستعصمنى وكان قاضيا فى بنى اسراءيل نوبيا اسود مشقق الرجلين ذا مشافر قاله سعيد بن المسيب وابن عباس وجماعة وقال له رجل كان قد رعى معه الغنم ما بلغ بك يا لقمان ما ارى قال صدق الحديث واداء الأمانة وتركى ما لا يعنينى وحكم لقمان كثيرة مأثورة قال ابن العربى فى احكامه وروى (3/207)
علماؤنا عن مالك قال قال لقمان لابنه يا بنى ان الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهو الى الاخرة سراعا يذهبون وانك قد استدبرت الدنيا مذ كنت واستقبلت الاخرة مع انفاسك وان دارا ستسير اليها اقرب اليك من دار تخرج منها انتهى
وقوله ان اشكر يجوز ان تكون ان فى موضع نصب على اسقاط حرف الجر اي بأن اشكر لله ويجوز ان تكون مفسرة اي كانت حكمته دئراة على الشكر لله وجميع العبادات داخلة فى الشكر لله عز و جل وحميد بمعنى محمود اي هو مستحق ذلك بذاته وصفاته
وقوله تعالى ووصينا الانسان بوالديه حملته امه وهنا على وهن هاتان آلآيتان اعتراض اثناء وصية لقمان ووهنا على وهن معناه ضعفا على ضعف كأنه قال حملته امه والضعف يتزيد بعد الضعف الى ان ينقضى امده وقال ص وهنا على وهن حال من امه اي شدة بعد شدة او جهدا على جهد وقيل وهنا نطفة ثم علقة فيكون حالا من الضمير المنصوب فى حملته انتهى
وقوله تعالى ان اشكر لى ولوالديك قال سفيان بن عيينه من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ومن دعا لوالديه فى ادبار الصلوات فقد شكرهما
وقوله سبحانه وإن جاهداك على أن تشرك بي الاية روى ان هاتين الايتين نزلتا فى شأن سعد بن ابى وقاص وامه حمنة بنت ابى سفيان على ما تقدم بيانه وجملة هذا الباب ان طاعة الأبوين لا تراعى فى ركوب كبيرة ولا فى ترك فريضة على الأعيان وتلزم طاعتهما فى المباحات وتستحسن فى ترك الطاعات الندب
وقوله سبحانه واتبع سبيل من أناب الى وصية لجميع العالم وهذه سبيل الأنبياء والصالحين
وقوله تعالى حاكيا عن لقمان يابنى انها ان تك مثقال حبة آلآية ذكر كثير من المفسرين انه اراد مثقال حبة من اعمال المعاصى والطاعات وبهذا المعنى يتحصل فى الموعظة ترجيه وتخويف منضاف الى تبيين قدرة الله تعالى (3/208)
وقوله واصبر على ما اصابك يقتضى حضا على تغير المنكر وان نال ضرر فهو اشعار بان المغير يوذى احيانا
وقوله ان ذلك من عزم الامور يحتمل ان يريد مما عزمه الله وامر به قاله ابن جريج ويحتمل ان يريد ان ذلك من مكارم الأخلاق وعزائم اهل الحزم السالكين طريق النجاة قاله جماعة والصعر الميل فمعنى الاية ولا تمل خدك للناس كبرا عليهم واعجابا واحتقارا لهم قاله ابن عباس وجماعة وعبارة البخارى ولا تصاعر اي لا تعرض والتصاعر الإعراض بالوجه انتهى والمرح النشاط والمشى مرحا هو فى غير شغل ولغير حاجة واهل هذه الخلق ملازمون للفخر والخيلاء فالمرح مختال فى مشيه وقد ورد من صحيح الأحاديث فى جميع ذلك وعيد شديد يطول بنا سرده قال عياض كان ابو اسحاق الجبنيانى قل ما يترك ثلاث كلمات وفيهن الخير كله اتبع ولا تبتدع
اتضع ولا ترفع
من ورع لا يتسع
انتهى وغض الصوت اوقر للمتكلم وابسط لنفس السامع وفهمه ثم عارض ممثلا بصوت الحمير على جهة التشبيه اي تلك هى التى بعدت عن الغض فهى انكر الاصوات فكذلك ما بعد عن الغض من اصوات البشر فهو فى طريق تلك وفى الحديث اذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فانها رأت شيطانا وقال سفيان الثورى صياح كل شيىء تسبيح الاصياح الحمير ت ولفظ الحديث عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا سمعتم صياح الديكة فسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا واذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا رواه الجماعة الا ابن ماجة وفى لفظ النساءى اذا سمعتم الديكة تصيح بالليل وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير من الليل فتعوذوا بالله من الشيطان (3/209)
الرجيم فإهنا ترى ما لا ترون واقلوا الخروج اذا جدت فان الله يبث فى ليله من خلقه ما يشاء رواه ابو داود والنساءى والحاكم فى المستدرك واللفظ له وقال صحيح على شرط مسلم انتهى من السلاح
وقوله تعالى واسبغ عليكم نعمة ظاهره وباطنه قال المحاسبى رحمه الله الظاهرة نعم الدنيا والباطنةنعم العقبى والظاهر عندى التعميم ثم وقف تعالى الكفرة على اتباعهم دين ءابائهم ايكون وهم بحال من يصير الى عذاب السعير فكأن القائل منهم يقول يتبعون دين ءابائهم ولو كان مصيرهم الى السعير فدخلت الف التوقيف على حرف العطف كما كان اتساق الكلام فيه فتأمله
وقوله تعالى ومن يسلم وجهه الى الله معناه يخلص ويوجه ويستسلم به والوجه هنا الجارحة استعير للمقصد لان القاصد الى شيىء فهو مستقبله بوجهه فاستعير ذلك للمعانى والمحسن الذى جمع القول والعمل وهو الذى شرحه صلى الله عليه و سلم حين سأله جبريل عن الاحسان والمتاع القليل هنا هو العمر فى الدنيا
وقوله قل الحمد لله اي على ظهور الحجة
وقوله تعالى ولو ان ما فى الارض من شجرة اقلام الاية روى عن ابن عباس ان سبب ترولها ان اليهود قالت يا محمد كيف عنينا بهذا القول وما اوتيتم من العلم الا قليلا ونحن قد اوتينا التوراة تبيانا لكل شىء فنزلت الاية وقيل غير هذا قال ع وهذه آلاية بحر نظر وفكرة نور الله قلوبنا بهداه
وقوله تعالى ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة اي لأنه كله بكن فيكون قاله مجاهد
وقوله تعالى كل يجرى الى اجل مسمى يريد القيامة
وقوله بنعمة الله يحتمل ان يريد ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات فالباء للالزاق ويحتمل ان يريد بالريح وتسخير الله البحر ونحو هذا فالباء باء السبب وذكر تعالى من صفات المومن الصبار والشكور لأنهما عظم اخلاقه (3/210)
الصبر على الطاعات وعلى النوائب وعن الشهوات والشكر على الضراء والسراء وقال الشعبى الصبر نصف الايمان والشكر نصفه الآخر واليقين الايمان كله وغشى غطى او قارب والظلل السحاب
وقوله تعالى فمنهم مقتصد قال الحسن منهم مؤمن يعرف حق الله فى هذه النعم والخيار القبيح الغدر وذلك ان منن الله على العباد كانها عهود ومنن يلزم عنها اداء شكرها والعبادة لمسديها فمن كفر ذلك وجحد به فكأنه ختر وخان قال الحسن الختار هو الغدار وكفور بناء مبالغة
وقوله تعالى يا ايها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده الاية يجزى معناه يقضى والمعنى لا ينفعه بشيىء وقرأ الجمهور الغرور بفتح الغين وهو الشيطان قاله مجاهد وغيره واعلم ايها الأخ ان من فهم كلام ربه ورزق التوفيق لم ينخدع بغرور الدنيا وزخرفها الفانى بل يصرف همته بالكلية الى التزود لآخرته ساعيا فى مرضاة ربه وان من ايقن ان الله يطلبه صدق الطلب اليه كما قاله الإمام العارف بالله ابن عطاء الله وانه لا بد لبناء هذا الوجود ان تنهدم دعائمه وان تسلب كرائمه فالعاقل من كان بما هو ابقى افرح منه بما هو يفنى قد اشرق نوره وظهرت تباشيره فصدف عن هذه الدار مغضيا واعرض عنها موليا فلم يتخذها وطنا ولاجعلها سكنا بل انهض الهمة فيها الى الله وصار فيها مستعينا به فى القدوم عليه فما زالت مطية عزمه لا يقر قرارها دائما تسيارها الى ان اناخت بحضرة القدس وبساط الأنس انتهى وروينا فى جامع الترمذى عن ابى امامة عن النبى صلى الله عليه و سلم قال ان اغبط اولياءى عندى لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة احسن عبادة ربه واطاعه فى السر وكان غامضا فى الناس لا يشار اليه بالأصابع وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك ثم نفض بيده فقال عجلت منيته قلت نوائحه قل تراثه قال ابو عيسى وبهذا الاسناد عن النبى صلى الله عليه و سلم قال عرض على ربى ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا قلت لا يا رب ولكن (3/211)
اشبع يوما واجوع يوما او قال ثلاثا او نحو هذا فاذا جعت تضرعت اليك واذا شبعت شكرتك وحمدتك قال ابو عيسى هذا حديث حسن وفى الباب عن فضالة بن عبيد انتهى والغرور التطميع بما لا يحصل وقال ابن حبير معنى الاية ان تعمل المعصية وتتمنى المغفرة وفى الحديث الصحيح عنه صلى الله علليه وسلم قا خمس من الغيب لا يعلمهن الا الله تعالى وتلا الاية ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الى ءاخرها قال ابو حيان بأي ارض الباء ظرفية والجملة فى موضع نصب بتدرى انتهى
تفسير سورة السجدة وهى مكية - غير ثلاث ءايات نزلت بالمدينة وهى قوله تعالى افمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا الى تمام ثلاث ءايات بسم الله الرحمن الرحيم قال جابر ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينام حتى يقرأ آلم السجدة وتبارك الذى بيده الملك وتنزيل يصح ان يرتفع بالابتداء والخبر لا ريب ويصح ان يرتفع على انه خبر مبتدإ محذوف اي ذلك تنزيل والريب الشك وكذلك هو فى كل القرءان الا قوله ريب المنون
وقوله ام يقولون اضراب كأنه قال بل ايقولون ثم رد على مقالتهم واخبر انه الحق من عند الله
وقوله سبحانه ما ءاتاهم اي لم يباشرهم ولا رأوه هم ولا ءاباؤهم العرب
وقوله تعالى وان من امة الا خلا فيها نذير يعم من بوشر من النذر ومن سمع به فالعرب من الامم (3/212)
التى خلت فيها النذر على هذا الوجه لأنها علمت بابراهيم ونبيه وبدعوتهم ولم يأتهم نذير مباشر لهم سوى محمد صلى الله عليه و سلم وقال ابن عباس ومقاتل المعنى لم يأتهم نذير فى الفترة بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه و سلم
وقوله تعالى يدبر الامر من السماء الى الارض الاية الامر اسم جنس لجميع الامور والمعنى ينفذ سبحانه قضاءه بجميع ما يشاءه ثم يعرج اليه خبر ذلك فى يوم من ايام الدنيا مقداره ان لو سير فيه السير المعروف من البشر الف سنة اي نزولا وعروجا لان ما بين السماء والارض خمس مائة سنة هذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما وقيل المعنى يدبر الامر من السماء الى الارض فى مدة الدنيا ثم يعرج اليه يوم القيامة ويوم القيامة مقداره الف سنة من عدنا وهو على الكفار قدر خمسين الف سنة وقيل غير هذا وقرأ الجمهور الذى احسن كل شيىء خلقه بفتح اللام على انه فعل ماض ومعنى احسن اتقن واحكم فهو حسن من جهة ما هو لمقاصده التى اريد لها وقرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر خلقه بسكون اللام وذهب بعض الناس على هذه القرءاة الى ان احسن هنا معناه الهم وان هذه الاية بمعنى قوله تعالى اعطى كل شيىء خلقه ثم هدى اي الهم والانسان هنا ءادم والمهين الضعيف ونفخ عبارة عن افاضة الروح فى جسد ءادم والضمير فى روحه لله تعالى وهى اضافة ملك الى مالك وخلق الى خالق ويحتمل ان يكون الانسان فى هذه الاية اسم جنس وقليلا صفة لمصدر محذوف
وقوله تعالى وقالوا ائذا ضللنا فى الارض اي تلفنا وتقطعت اوصالنا فذهبنا فى التراب حتى لم نوجد انا لفى خلق جديد اي انخلق بعد ذلك خلقا جديدا انكارا منهم للبعث واستبعادا له ويتوفا كم معناه يستوفيكم روى عن مجاهد ان الدنيا بين يدي ملك الموت كالطست بين يدي الانسان ياخذ من حيث امر
وقوله تعالى ولو ترى اذ المجرمون ناكسوا رءوسهم الاية تعجيب (3/213)
لمحمد عليه السلام وامته من حال الكفرة وما حل بهم وجواب لو محذوف لأن حذفه اهول فى النفوس وتنكيس رءوسهم هو من الذل واليأس والهم بحلول العذاب وقولهم ابصرنا وسمعنا اي ما كنا نخبربه فى الدنيا ثم طلبوا الرجعة حين لا ينفع ذلك ثم اخبر تعالى عن نفسه انه لو شاء لهدى الناس اجمعين بأن يلطف بهم لطفا يومنون به ويخترع الايمان فى نفوسهم هذا مذهب اهل السنة والجنة الشياطين ونسيتم معناه تركتم قاله ابن عباس وغيره
وقوله انا نسيناكم سمى العقوبة باسم الذنب ثم اثنى سبحانه على القوم الذين يؤمنون بئاياته ووصفهم بالصفة الحسنى من سجودهم عند التذكير وتسبيحهم وعدم استكبارهم
وقوله تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع الاية تجافى الجنب عن موضعه اذا تركه قال الزجاج وغيره التجافى التنحي الى فوق قال ع وهذا قول حسن والجنوب جمع جنب والمضاجع حوضع الاضطجاع للنوم ت وقال الهروى تتجافى جنوبهم عن المضاجع اي ترتفع وتتباعد والجفاء بين الناس هو التباعد انتهى وروى البخارى بسنده عن ابى هريرة ان عبد الله بن رواحة رضى الله عنه قال ... وفينا رسول الله يتلو كتابه ... اذا انشق معروف من الفجر ساطع ... ارانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات ان ما قال واقع ... يبيت يجافى جنبه عن فراشه ... اذا استثقلت بالكافرين المضاجع ...
انتهى وجمهور المفسرين على ان المراد بهذا التجافى صلاة النوافل بالليل قال ع وعلى هذا التأويل اكثر الناس وهو الذى فيه المدح وفيه احاديث عن النبى صلى الله عليه و سلم يذكر عليه السلام قيام الليل ثم يستشهد بالاية ففى حديث معاذ الا ادلك على ابواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئى الخطيئة كما يطفئى الماء النار وصلاة الرجل من جوف الليل ثم قرأ تتجافى جنوبهم عن المضاجع (3/214)
حتى بلغ يعملون رواه الترمذى وقال حديث حسن صحيح ورجح الزجاج ما قاله الجمهور بأنهم جوزوا باخفاء فدل ذلك على ان العمل اخفاء ايضا وهو قيام الليل يدعون ربهم خوفا اي من عذابه وطمعا اي فى ثوابه قال ص تتجافى اعربه ابو البقاء حالا ويدعون حال او مستانف وخوفا وطمعا مفعولان من اجله او مصدران فى موضع الحال انتهى وفى الترمذى عن معاذ بن جبل قال قلت يا رسور الله اخبرنى بعمل يدخلنى الجنة ويباعدنى عن النار قال لقد سألت عن عظيم وانه ليسير على من يسره الله تعالى عليه تعبد الله لا تشرك به شيأ وتقيم الصلاة وتوتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال الا ادلك على ابواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئى الخطيئة كما يطفئى الماء النار وصلاة الرجل فى جوف الليل ثم تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ يعملون ثم قال الا اخبرك برأس الامر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال راس الامر الاسلام وعموره الصلاة وذروة سنامه الجهاد ثم قال الا اخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله فاخذ بلسانه وقال كف عليك هذا قلت يا رسول الله وانا لمواخذون بما نتكلم به فقال ثكلتك امك وهل يكب الناس فى النار على وجوههم الا حصائد السنتهم قال الترمذى حديث حسن صحيح انتهى وقرأ حمزة وحده اخفى بسكون الياء كانه قال اخفى انا وقرأ الجمهور اخفى بفتح الياء وفى معنى الاية قال صلى الله عليه و سلم قال الله عو وجل اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما اطلعتم عليه واقرءوا ان شئتم فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة اعين الاية انتهى قال القرطبى فى تذكرته وبله معناه غير وقيل هو اسم فعل بمعنى دع وهذا الحديث خرجه البخارى وغيره ت وفى رواية للبخارى قال ابو هريرة واقرءوا ان شئتم فلا تعلم نفس الاية انتهى وقال ابن مسعود فى التوراة (3/215)
مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وباقىآلاية بين والضمير فى قوله تعالى ولنذيقنهم لكفار قريش ولا خلاف ان العذاب الاكبر هو عذاب الاخرة واختلف فى تعيين العذاب الادنى فقيل هو السنون التى اجاعهم الله فيها وقيل هو مصائب الدنيا من الامراض ونحوها وقيل هو القتل بالسيف كبدر وغيرها
وقوله سبحانه انا من المجرمين منتقمون ظاهر الإجرام هنا انه الكفر وروى معاذ بن جبل عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال ثلاث من فعلهن فقد اجرم من عقد لواء فى غير حق ومن عق والديه ومن نصر ظالما
وقوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن فى مرية من لقائه اختلف فى الضمير الذى فى لقائه على من يعود فقال قتادة وغيره يعود على موسى والمعنى فلا تكن يا محمد فى شك من انك تلقى موسى اي فى ليلة الاسراء وهذا قول جماعة من السلف وقالت فرقة الضمير عائد على الكتاب اي فلا تكن فى شك من لقاء موسى للكتاب ص وقيل يعود على الكتاب على تقدير مضمر اي من لقاء مثله اي ءاتيناك مثل ما ءاتينا موسى والتأويل الاول هو الظاهر انتهى والمرية الشك والضمير فى جعلناه يحتمل أن يعود على الكتاب او على موسى قاله قتادة
وقوله تعالى ان ربك هو يفصل بينهم الاية حكم يعم جميع الخلق وذهب بعضهم الى تخصيص الضمير وذلك ضعيف
وقوله تعالى او لم يهد معناه يبين قاله ابن عباس والفاعل بيهدى هو الله فى قول فرقة والرسول فى قول فرقة وقرأ ابو عبد الرحمن نهد بالنون وهى قراءة الحسن وقتادة فالفاعل الله تعالى والضمير فى يمشون يحتمل ان يكون للمخاطبين او للمهلكين والجرز الارض العاطشة التى قد اكلت نباتها من العطش والقيظ ومنه قيل للاكول جروز وقال ابن عباس وغيره الارض الجرز ارض ابين من اليمن وهى ارض تشرب بسيول لا بمطر (3/216)
وفى البخارى وقال ابن عباس الجرز التى لم تمطر الا مطرا لا يغنى عنها شيأ انتهى ثم حكى سبحانه عن الكفرة انهم يستفتحون ويستعجلون فصل القضاء بينهم وبين الرسل على معنى الهزء والتكذيب والفتح الحكم هذا قول جماعة من المفسرين وهو اقوى الاقوال قال مجاهد والفتح هنا هو حكم الاية الاخرة ثم امر تعالى نبيه عليه السلام بالاعراض عن الكفرة وانتظار الفرج وهذا مما نسخته ءاية السيف
وقوله انهم منتظرون اي العذاب بمعنى هذا حكمهم وان كانوا لا يشعرون
تفسير سورة الاحزاب وهى مدنية
باجماع فيما علمت
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى يا ايها النبى ءاتق الله آلاية قوله اتق معناه دم على التقوى ومتى امر احد بشيىء وهو به متلبس فانما معناه الدوام فى المستقبل على مثل الحالة الماضية وحذره تعالى من طاعة الكافرين والمنافقين تنبيها على عداوتهم وان لا يطمئن الى ما يبدونه من نصائحهم والباء فى قوله وكفى بالله زائدة على مذهب سيبويه وكأنه قال وكفى الله وغيره يراها غير زائدة متعلقة بكفى على انه بمعنى اكتف بالله واختلف فى السبب فى قوله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه فقال ابن عباس سببها ان بعض المنافقين قال ان محمدا له قلبان وقيل غير هذا قال ع ويظهر من (3/217)
الاية يحملتها انها نفى لاشياء كانت العرب تعتقدها فى ذلك الوقت واعلام بحقيقة الامر فمنها ان العرب كانت تقول ان الانسان له قلب يأمره وقلب ينهاه وكان تضادا الخواطر يحملها على ذلك وكذلك كانت العرب تعتقد الزوجة اذا ظاهر منها بمنزلة الام وتراه طلاقا وكانت تعتقد الدعى المتبنى ابنا فنفى الله ما اعتقدوه من ذلك
وقوله سبحانه وما جعل ادعياءكم أبناءكم سببها امر زبد بن حارثة كانوا يدعونه زيد بن محمد والسبيل هنا سبيل الشرع والايمان ثم امر تعالى فى هذه الاية بدعاء الادعياء لآبائهم اي الى ءابائهم للصلب فمن جهل ذلك فيه كان مولى واخا فى الدين فقال الناس زيد بن حارثة وسالم مولى ابى حذيفة الى غير ذلك واقسط معناه اعدل
وقوله عز و جل وليس عليكم جناح الاية رفع الحرج عمن وهم ونسى واخطأ فجرى على العادة من نسبة زيد الى محمد وغير ذلك مما يشبهه وابقى الجناح فى المتعمد والخطأ مرفوع عن هذه الامة عقابه قال صلى الله عليه و سلم وضع عن امتى الخطأ مرفوع والنسيان وما اكرهوا عليه وقال عليه السلام ما اخشى عليكم الخطأ وانما اخشى العمد قال السهيلى ولما نزلت الاية وامتثلها زيد فقال انا زيد بن حارثة جبر الله وحشته وشرفه بان سماه باسمه فى القرءان فقال فلما قضى زيد منها وطرا ومن ذكره سبحانه باسمه فى الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرءانا يتلى فى المحاريب فقد نوه به غاية التنويه فكان فى هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم له الا ترى الى قول ابى بن كعب حين قال له النبى صلى الله عليه و سلم ان الله تعالى امرنى ان اقرأ عليك سورة كذا فبكى ابى وقال او ذكرت هنالك وكان بكاؤه من الفرح حين اخبر ان الله تعالى ذكره فكيف بمن صار اسمه قرءانا يتلى مخلدا لا يبيد يتلوه اهل الدنيا اذا قرءوا القرءان (3/218)
واهل الجنة كذلك فى الجنان ثم زاده في الاية غاية الاحسان ان قال واذ تقول للذى انعم الله عليه يعنى بالايمان فدل على انه عند الله من اهل الجنان وهذه فضيلة اخرى هى غاية منتهى امنية الانسان انتهى
وقوله تعالى النبى اولى بالمومنين من انفسهم ازال الله بهذه الاية احكاما كانت فى صدر الاسلام منها ان النبى صلى الله عليه و سلم كان لا يصلى على ميت عليه دين فدكر الله تعالى انه اولى بالمؤمنين من انفسهم فجمع هذا ان المومن يلزم ان يحب النبى صلى الله عليه و سلم اكثر من نفسه حسب حديث عمر بن الخطاب ويلزم ان يمتثل اوامره احبت نفسه ذلك او كرهت وقال النبى صلى الله عليه و سلم حين نزلت هذه الاية انا اولى بالمؤمنين من انفسهم من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا اوضياعا فالى وعلى انا وليه اقرءوا ان شئتم النبى اولى بالمؤمنين من انفسهم ت ولفظ البخارى من رواية ابى هريرة ان النبى صلى الله عليه و سلم قال ما من مؤمن الا وانا اولى به فى الدنيا وآلاخرة اقرءوا ان شئتم النبى اولى بالمؤمنين من انفسهم فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فان ترك دينا اوضياعا فلياتنى فأنا مولاه قال ابن العربى فى احكامه فهذا الحديث هو تفسير الولاية فى هذه الاية انتهى قال ع وقال بعض العارفين هو صلى الله عليه و سلم اولى بالمؤمنين من انفسهم لأن انفسهم تدعوهم الى الهلاك وهو يدعوهم الى النجاة قال ع ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه و سلم فانا ءاخذ بحجزكم عن النار وانتم تقحمون فيها تقحم الفراش قال عياض فى الشفا قال اهل التفسير فى قوله تعالى النبى ءاولى بالمؤمنين من انفسهم اي ما انفذه فيهم من امر فهو ماض عليهم كما يمضى حكم السيد على عبده وقيل اتباع امره اولى من اتباع رأى النفس انتهى وشرف تعالى ازواج نبيه بأن جعلهن امهات (3/219)
المؤمنين فى المبرة وحرمة النكاح وفى مصحف ابى بن كعب وازواجه امهاتهم وهو اب لهم وقرأ ابن عباس من انفسهم وهو اب لهم ووافقه ابى على ذلك ثم حكم تعالى بأن اولى الارحام بعضهم اولى ببعض فى التوارث مما كانت الشريعة وقررته من التوارث باخوة الاسلام وفى كتاب الله يحتمل ان يريد القرءان او اللوح المحفوظ
وقوله من المؤمنين متعلق بأولى الثانية
وقوله تعالى الا ان تفعلوا الى اوليائكم معروفا يريد الاحسان فى الحياة والصلة والوصية عند الموت والكتاب المسطور يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا
وقوله سبحانه وإذ اخذنا من النبيين ميثاقهم 6 المعنى واذكر اذ اخذنا من النبيين وهذا الميثاق قال الزجاج وغيره انه الذى اخذ عليهم وقت استخراج البشر من صلب ءادم كالذر بالتبليغ وبجميع ما تضمنته النبوءة وروى نحوه عن ابى بن كعب وقالت فرقة بل اشار الى اخذ الميثاق عليهم وقت بعثهم والقاء الرسالة اليهم وذكر تعالى النبيين جملة ثم خصص اولى العزم منهم تشريفا لهم واللام فى قوله ليسأل يحتمل ان تكون لام كى او لام الصيرورة
وقوله تعالى يا ايها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ جاءتكم جنود الآيات الى قوله تعالى يا ايها النبى قل لازواجك نزلت فى شأن غزوة الخندق وما اتصل بها من امر بنى قريظة وذلك ان رسول الله صلى الله عليه و سلم اجلى بنى النضير من موضعهم عند المدينة الى خيبر فاجتمعت جماعة منهم ومن غيرهم من اليهود وخرجوا الى مكة مستنهضين قريشا الى حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم وجسروهم على ذلك وازمعت قريش السير الى المدينة ونهض اليهود الى غطفان وبنى اسد ومن امكنهم من اهل نجد وتهامة فاستنفروهم الى ذلك وتحزبوا وساروا الى المدينة واتصل خبرهم بالنبى صلى الله عليه و سلم فحفر الخندق حول المدينة وحصنها فوردت (3/220)
الاحزاب وحصروا المدينة وذلك فى شوال سنة خمس وقيل اربع من الهجرة وكانت قريظة قد عاهدوا النبى صلى الله عليه و سلم وعاقدوه الا يلحقه منهم ضرر فلما تمكن ذلك الحصار وداخلهم بنو النضير غدروا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونقضوا عهده وضاق الحال على المومنين ونجم النفاق وساءت ظنون قوم ورسول الله صلى الله عليه و سلم مع ذلك يبشر ويعد النصر فالقى الله عز و جل الرعب فى قلوب الكافرين وتخاذلوا ويئسوا من الظفر وارسل الله عليهم ريحا وهى الصبا وملائكة تسدد الريح وتفعل نحو فعلها وتلقى الرعب فى قلوب الكفرة وهى الجنود التى لم تر فارتحل الكفرة وانقلبوا خائبين
وقوله تعالى اذ جاءوكم من فوقكم يريد اهل نجد مع عيينه بن حصن ومن اسفل منكم يريد اهل مكة وسائر تهامة قاله مجاهد وزاغت الابصار معناه مالت عن مواضعها وذلك فعل الواله الفزع المختبل وبلغت القلوب الحناجر عبارة عما يجده الهلع من ثوران نفسه وتفرقها ويجد كان حشوته وقلبه يصعد علوا وروى ابو سعيد ان المؤمنين قالوا يوم الخندق يا نبى الله بلغت القلوب الحناجر فهل من شىء نقوله قال نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وامن روعاتنا فقالوها فضرب الله وجوه الكفار بالريح فهزمهم
وقوله سبحانه وتظنون بالله الظنونا الاية عبارة عن خواطر خطرت للمومنين لا يمكن البشر دفعها واما المنافقون فنطقوا ونجم نفاقهم وابتلى المؤمنون معناه اختبروا وزلزلوا معناه حركوا بعنف ثم ذكر تعالى قول المنافقين والمرضى القلوب على جهة الذم لهم ما وعدنا الله ورسوله الاغرورا فروى عن يزيد بن رومان ان معتب بن قشير قال يعدنا محمد ان نفتتح كنوز كسرى وقيصر ومكة ونحن آلان لا يقدر احدنا ان يذهب الى الغائط ما يعدنا الا غرورا وقال غيره من المنافقين نحو هذا
وقوله سبحانه واذ قالت طائفة منهم اي من المنافقين (3/221)
لا مقام لكم اي لا موضع قيام وممانعة فارجعوا الى منازلكم وبيوتكم وكان هذا على جهة التخذيل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والفريق المستأذن هو اوس بن قيظي استأذن فى ذلك على اتفاق من اصحابه المنافقين فقال ان بيوتنا عورة اي منكشفة للعدو فاكذبهم الله تعالى ولو دخلت المدينة من اقطارها اي من نواحيها واشتد الخوف الحقيقى ثم سئلوا الفتنة والحرب لمحمد واصحابه لبادروا اليها واتوها محبين فيها ولم يتلبثوا فى بيوتهم لحفظها الايسيرا قيل قدر ما ياخذون سلاحهم ثم اخبر تعالى عنهم انهم قد كانوا عاهدوا الله اثر احد لا يولون الادبار وفى قوله تعالى وكان عهد الله مسئولا توعد وباقى الاية بين ثم وبخهم بقوله قد يعلم الله المعوقين منكم وهم الذين يعوقون الناس عن نصره الرسول ويمنعونهم بالاقوال والافعال من ذلك ويسعون على الدين واما القائلون لاخوانهم هلم الينا فقال ابن زيد وغيره اراد من كان من المنافقين يقول لاخوانه فى النسب وقرابته هلم اي الى المنازل والاكل والشرب واترك القتال وروى ان جماعة منهم فعلت ذلك واصل هلم ها المم وهذا مثل تعليل رد من اردد والبأس القتال والا قليلا معناه الا اتيانا قليلا واشحة جمع شحيح والصواب تعميم الشح ان يكون بكل ما فيه للمومنين منفعة
وقوله فإذا جاء الخوف قيل معناه فإذا قوى الخوف رأيت هؤلاء المنافقين ينظرون اليك نظر الهلع المختلط الذى يغشى عليه فاذا ذهب ذلك الخوف العظيم وتنفس المختنق سلقوكم اي خاطبوكم بليغة يقال خطيب سلاق ومسلاق ومسلق ولسان ايضا كذلك اذا كان فصيحا مقتدرا ووصف الألسنة بالحدة لقطعها المعانى ونفوذها في الاقوال قالت فرقة وهذا السلق هو فى مخادعة المؤمنين بما يرضيهم من القول على جهة المصانعة والمخاتلة
وقوله اشحة حال من الضمير فى سلقوكم
وقوله على الخير يدل على عموم الشح فى قوله اولا (3/222)
اشحة عليكم وقيل المراد بالخير المال اي اشحة على مال الغنائم والله اعلم ثم اخبر تعالى عنهم انهم لم يؤمنوا وجمهور المفسرين على ان هذه الاشارة الى منافقين لم يكن لهم قط ايمان ويكون قوله فأحبط الله اعمالهم اي انها لم تقبل قط والاشارة بذلك فى قوله وكان ذلك الى حبط اعمال هؤلاء المنافقين والضمير فى قوله يحسبون الاحزاب للمنافقين والمعنى انهم من الفزع والجزع بحيث رحل الاحزاب وهزمهم الله تعالى وهؤلاء يظنون انها من الخدع وانهم لم يذهبوا وان يأت الاحزاب اي يرجعوا اليهم كرة ثانية يودوا من الخوف والجبن لو انهم بادون اي خارجون الى البادية فى الاعراب وهم أهل العمود ليسلموا من القتال يسئلون اي من ورد عليهم ثم سلى سبحانه عنهم وحقر شأنهم بأن اخبر انهم لو حضروا لما اغنوا ولما قاتلوا الا قتالا قليلا لا نفع له ثم قال تعالى على جهة الموعظة لقد كان لكم فى رسول الله اسوة حسنة حين صبر وجاد بنفسه واسوة معناه قدوة ورجاء الله تابع للمعرفة به ورجاء اليوم آلاخر ثمرة العمل الصالح وذكر الله كثيرا من خير الاعمال فنبه عليه ت وعن ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه و سلم قال ان الله عز و جل يقول انا مع عبدى اذا هو ذكرنى وتحركت بى شفتاه رواه ابن ماجة واللفظ له وابن حبان فى صحيحه ورواه الحاكم فى المستدرك من حديث ابى الدرداء وروى جابر بن عبد الله قال خرج علينا النبى صلى الله عليه و سلم فقال يا ايها الناس ان الله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر فى الارض فارتعوا فى رياض الجنة قالوا واين رياض الجنة يا رسول الله قال مجالس الذكر فاغدوا وروحوا فى ذكر الله وذكروه انفسكم من كان يحب ان يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله ينزل العبد منه حيث انزله من نفسه رواه الحاكم فى المستدرك وقال صحيح الإسناد وعن معاذ بن جبل قال سألت النبى صلى الله عليه و سلم اي (3/223)
الاعمال احب الى الله تعالى قال ان تموت ولسانك رطب من ذكر الله رواه ابن حبان فى صحيحه انتهى من السلاح ولولا خشية الاطالة لأتيت فى هذا الباب باحاديث كثيرة وروى ابن المبارك فى رقائقه قال اخبرنا سفيان ابن عيينة عن ابن ابى نجيح عن مجاهد قال لا يكون الرجل من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا انتهى وفى مصحف ابن مسعود يحسبون الاحزاب قد ذهبوا فاذا وجدوهم لم يذهبوا ودوا انهم بادون فى الاعراب
وقوله تعالى ولما رأى المؤمنون الاحزاب الاية قالت فرقة لما امر رسول الله صلى الله عليه و سلم بحفر الخندق اعلمهم بأنهم سيحصرون وامرهم بالاستعداد لذلك واعلمهم بانهم سينصرون بعد ذلك فلما رأوا الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله آلاية وقالت فرقة ارادوا بوعد الله ما نزل فى سورة البقرة من قوله تعالى ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الى قوله قريب قال ع ويحتمل انهم ارادوا جميع ذلك ثم اثنى سبحانه على رجال عاهدوا الله على الاستقامة فوفوا وقضوا نحبهم اي نذرهم وعهدهم والنحب فى كلام العرب النذر والشيء الذى يلتزمه الانسان وقد يسمى الموت نحبا وبه فسر ابن عباس وغيره هذه آلاية ويقال للذى جاهد فى امر حتى مات قضى فيه نحبه ويقال لمن مات قضى فلان نحبه فممن سمى المفسرون انه اشير اليه بهذه الاية انس بن النضر عم انس بن مالك وذلك انه غاب عن بدر فساءه ذلك وقال لئن شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم مشهدا ليرين الله ما اصنع فلما كان احد ابلى بلاء حسنا حتى قتل ووجد فيه نيف على ثمانين جرحا فكانوا يرون ان هذه الاية فى انس بن النضر ونظرائه وقالت فرقة الموصوفون بقضاء النحب هم جماعة من اصحاب (3/224)
النبى صلى الله عليه و سلم وفوا بعهود الاسلام على التمام فالشهداء منهم والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجنة منهم الى من حصل فى هذه المرتبة ممن لم ينص عليه ويصحح هذه المقالة ايضا ما روى ان رسول الله صلى الله عليه و سلم كان على المنبر فقال له اعرابى يا رسول الله من الذى قضى نحبه فسكت عنه النبى صلى الله عليه و سلم ساعة ثم دخل طلحة بن عبيد الله على باب المسجد وعليه ثوبان اخضران فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اين السائل فقال ها انا ذا يا رسول الله قال هذا ممن قضى نحبه قال ع فهذا ادل دليل على ان النحب ليس من شرطه الموت وقال معاوية بن ابى سفيان انى سمعت النبى صلى الله عليه و سلم يقول طلحة ممن قضى نحبه وروت عائشة نحوه
وقوله تعالى ومنهم من ينتظر يريد ومنهم من ينتظر الحصول فى اعلى مراتب الايمان والصلاح وهم بسبيل ذلك وما بدلوا ولاغيروا واللام فى ليجزي يحتمل ان تكون لام الصيرورة او لام كيى وتعذيب المنافقين ثمرة ادامتهم الإقامة على النفاق الى موتهم والتوبة موازية لتلك الإدامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان إدامة على نفاق اوتوبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب او رحمة ثم عدد سبحانه نعمة على المؤمنين فى هزم الاحزاب فقال ورد الله الذين كفروا بغيظهم الاية
وقوله تعالى وانزل الذين ظاهروهم يريد بنى قريظة وذلك انهم لما غدروا وظاهروا الاحزاب اراد الله النقمة منهم فلما ذهب الاحزاب جاء جبريل الى النبى صلى الله عليه و سلم وقت الظهر فقال يا محمد ان الله يامرك بالخروج الى بنى قريظة فنادى رسول الله صلى الله عليه و سلم فى الناس وقال لهم لا يصلين احد العصر الا فى بنى قريظة فخرج الناس اليهم وحصرهم النبى صلى الله عليه و سلم خمسا وعشرين ليلة ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم سعد (3/225)
بان تقتل المقاتلة وتسبى الذرية والعيال والاموال وان تكون الارض والثمار للمهجرين دون الانصار فقالت له الانصار فى ذلك فقال اردت ان يكون للمهاجرين اموال كما لكم اموال فقال له النبى صلى الله عليه و سلم لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة ارقعة فامر صلى الله عليه و سلم برجالهم فضربت اعناقهم وفيهم حيي بن اخطب النضيري وهو الذى كان ادخلهم فى الغدر وظاهر معناه عاونوهم والصياصي الحصون واحدها صيصة وهى كل ما يتمنع به ومنه يقال لقرون البقر الصياصى والفريق المقتول الرجال والفريق الماسور العيال والذرية
وقوله سبحانه وارضا لم تطئوها يريد بها البلاد التى فتحت على المسلمين بعد كالعراق والشام واليمن وغيرها فوعد الله تعالى بها عند فتح حصون بنى قريظة واخبر انه قد قضى بذلك قاله عكرمة
وقوله تعالى يا ايها النبى قل لازواجك ان كنتن تردن الحيوة الدنيا وزينتها الاية ذكر جل المفسرين ان ازواج النبى صلى الله عليه و سلم سألنه شيأ من عرض الدنيا وآذينة بزيادة النفقة والغيرة فهجرهن وءالى ان لا يقربهن شهرا فنزلت هذه الاية فبدأ بعائشة وقال يا عائشة اني ذاكرلك امرا ولا عليك ان لا تعجلى حتى تستأمرى ابويك ثم تلا عليها آلاية فقالت له وفى اي هذا استمر أبوي فانى اريد الله ورسوله والدار الاخرة قالت وقد علم ان ابوى لا يامرانى بفراقه ثم تتابع ازواج النبى صلى الله عليه و سلم على مثل قول عائشة فاخترن الله ورسوله رضى الله عنهن قالت فرقة قوله بفاحشته مبينة يعم جميع المعاصى ولزمهن رضى الله عنهن بحسب مكانتهن اكثر مما يلزم غيرهن فضوعف لهن الاجر والعذاب
وقوله ضعفين معناه يكون العذاب عذابين اي يضاف الى عذاب سائر الناس عذاب آخر مثله ويقنت معناه يطيع ويخضع بالعبودية قاله الشعبى وقتادة والرزق الكريم (3/226)
الجنة ثم خاطبهن الله سبحانه بأنهن لسن كأحد من نساء عصرهن فما بعد بل هن افضل بشرط التقوى وانما خصصنا النساء لان فيمن تقدم ءاسية ومريم فتأمله وقد اشار الى هذا قتادة ثم نهاهن سبحانه عما كانت الحال عليه فى نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم القول ولا تخضعن معناه لا تلن قال ابن زيد خضع القول ما يدخل فى القلوب الغزل والمرض فى هذه آلاية قال قتادة هو النفاق وقال عكرمة الفسق والغزل والقول المعروف هو الصواب الذى لا تنكره الشريعة ولا النفوس وقرأ الجمهور وقرن بكسر القاف وقرأ نافع وعاصم وقرن بالفتح فأما الأولى فيصح ان تكون من الوقار ويصح ان تكون من القرار واما قرءاة الفتح فعلى لغة العرب قررت بكسر الراء اقر بفتح القاف فى المكان وهى لغة ذكرها ابو عبيد فى الغريب المصنف وذكرها الزجاج وغيره فامر الله تعالى فى هذه آلايةنساء النبى بملازمة بيوتهن ونهاهن عن التبرج والتبرج اظهار الزينة والتصنع بها ومنه البروج لظهورها وانكشافها للعيون واختلف الناس فى الجاهلية الاولى فقال الشعبى ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام وقيل غير هذا قال ع والذى يظهر عندى انه اشار الى الجاهلية التى لحقنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهى ما كان قبل الشرع من سبره الكفرة وجعلها اولى بالاضافة الى حاله الاسلام وليس المعنى ان ثم جاهلية آخرة والرجس اسم يقع على الاثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص فاذهب الله جميع ذلك عن اهل البيت قالت ام سلمة نزلت هذه الاية فى بيتى فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فدخل معهم تحت كساء خيبريى وقال هؤلاء اهل بيتى وقرأ الاية وقال اللهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا قالت ام سلمة فقلت وانا يا رسول الله فقال انت من ازواج النبى صلى الله عليه و سلم (3/227)
وانت الى خير والجمهور على هذا وقال ابن عباس وغيره اهل البيت ازواجه خاصة والجمهور على ما تقدم قال ع والذى يظهر لى ان اهل البيت ازواجه وبنته وبنوها وزوجها اعنى عليا ولفظ الاية يقتضى ان الزوجات من اهل البيت لان الاية فيهن والمخاطبة لهن قال ص واهل البيت منصوب على النداء او على المدح او على الاختصاص وهو قليل فى المخاطب واكثر ما يكون فى المتكلم كقوله ... نحن بنات طارق ... نمشى على النمارق ...
انتهى ت واستصوب ابن هشام نصبه على النداء قاله فى المغني
وقوله تعالى واذكرن يعطى ان اهل البيت نساؤه وعلى قول الجمهور هى ابتداء مخاطبة والحكمة السنة فقوله واذكرن يحتمل مقصدين كلا هما موعظة احدهما ان يريد تذكرنه واقدرنه قدرة وفكرن فى ان من هذه حالة ينبغى ان تحسن افعاله والثانى ان يريد اذكرن بمعنى احفظن واقرأن والزمنه السنتكن ت ويحتمل ان يراد باذكرن افشاؤه ونشره للناس والله اعلم وهذا هو الذى فهمه ابن العربى من الاية فانه امر الله ازواج رسوله ان يخبرن بما ينزل من القرءان فى بيوتهن وبما يرين من افعال النبى صلى الله عليه و سلم واقواله حتى يبلغ ذلك الى الناس فيعملوا بما فيه ويقتدوا به انتهى وهو حسن وهو ظاهر آلاية وقد تقدم له نحو هذا في قوله تعالى وان امرأة خافت من بعلها نشوزا او اعراضا الاية ذكره فى احكام القرءان
وقوله تعالى ان المسلمين والمسلمات الاية روى فى سببها ان ام سلمة قالت يا رسول الله يذكر الله تعالى الرجال فى كتابة فى كل شيىء ولا يذكرنا فنزلت آلاية فى ذلك والفاظ الاية فى غاية البيان
وقوله سبحانه والذاكرين الله كثيرا والذاكرات الاية وفى الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم قال سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول (3/228)
الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات رواه مسلم واللفظ له والترمذى وعنده قالوا يا رسول الله وما المفردون قال المستهترون فى ذكر الله يضع الذكر عنهم اثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا قال عياض والمفردون ضبطناه على متقنى شيوخنا بفتح الفاء وكسر الراء وقال ابن الأعرابى فرد الرجل اذا تفقه واعتزل الناس وخلا لمراعاة الامر والنهى وقال الازهرى هم المتخلون من الناس بذكر الله تعالى وقوله المستهترون فى ذكر الله هو بفتح التاءين المثناتين يعنى الذين اولعوا بذكر الله يقال استهتر فلان بكذا اي اولع به انتهى من سلاح المومن
وقوله سبحانه وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله أمرا ان تكون لهم الخيرة الاية قوله وما كان لفظه النفى ومعناه الحظر والمنع والخيرة مصدر بمعنى التحيز قال ابن زيد نزلت هذه الآية بسبب ان ام كلثوم بنت عقبة بن ابى معيط وهبت نفسها للنبى فزوجها من زيد بن حارثة فكرهت ذلك هى واخوها فنزلت الاية بسبب ذلك فأجابا الى تزويج زيد وقيل غير هذا والعصيان هنا يعم الكفر فما دون وفى حديث الترمذى عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال من سعادة ابن ءادم رضاه بما قضاه الله ومن شقاوة ابن ءادم (3/229)
سخطه بما قضاه الله له انتهى
وفقوله تعالى واذ تقول للذى انعم الله عليه وانعمت عليه الاية ذهب جماعة من المتأولين الى ان الاية لا كبير عتب فيها على النبى صلى الله عليه و سلم فروى عن علي بن الحسين ان النبى صلى الله عليه و سلم كان قد اوحى اليه ان زيدا يطلق زينب وانه يتزوجها بتزويج الله اياها له فلما تشكى زيد للنبى صلى الله علليه وسلم خلق زينب وانها لا تطيعه واعلمه بأنه يريد طلاقها قال له النبى صلى الله عليه و سلم على جهة الأدب والوصية اتق الله اي فى قولك وامسك عليك زوجك وهو يعلم انه سيفارقها وهذا هو الذى اخفى صلى الله عليه و سلم فى نفسه ولم يرد ان يأمره بالطلاق لما علم من انه سيتزوجها وخشى صلى الله عليه و سلم ان يلحقه قول من الناس فى ان يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه وقد امره بطلاقها فعاتبه الله على هذا القدر من ان خشي الناس فى شىء قد اباحه الله تعالى له قال عياض وتأويل علي بن الحسين احسن التأويلات واصحها وهو قول ابن عطاء وصححه واستحسنه انتهى
وقوله أنعم الله عليه يعنى بالاسلام وغير ذلك وانعمت عليه يعنى بالعتق وهو زيد بن حارثة وزينب هى بنت جحش بنت اميمة بنت عبد المطلب عمه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم اعلم تعالى نبيه انه زوجها منه لما قضى زيد وطره منها لتكون سنة للمسلمين فى ازواج ادعيائهم وليبين انها ليست كحرمة البنوة والوطر الحاجة والبغية
وقوله تعالى وكان امر الله مفعولا فيه حذف مضاف تقديره وكان حكم امر الله او مضمن امر الله والا فالامر قديم لا يوصف بأنه مفعول ويحتمل ان يكون الأمر واحد الأمور التى شأنها ان تفعل وعبارة الواحدي وكان امر الله مفعولا اي كائنا لا محالة وكان قد قضى فى زينب ان يتزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم انتهى
وقوله تعالى ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له الاية هذه مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة (3/230)
اعلمهم انه لا حرج على نبيه فى نيل ما فرض الله له واباحه من تزويجه لزينب بعد زيد ثم اعلم ان هذا ونحوه هو السنن الأقدم فى الأنبياء من ان ينالوا ما احله الله لهم وعبارة الواحدي ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له اي احل الله له من النساء سنة الله فى الذين خلوا من قبل يقول هذه سنة قد مضت لغيرك يعنى كثرة ازواج داود وسليمان عليهما السلام وكان امر الله قدرا مقدورا قضاء مقضيا الذين يبلغون رسالات الله من نعت قوله فى الذين خلو من قبل انتهى
وقوله تعالى ما كان محمد ابا احد من رجالكم الى قوله كريما اذهب الله بهذه الاية ما وقع فى نفوس المنافقين وغيرهم لانهم استعظموا ان تزوج زوجة ابنه فنفى القرءان تلك البنوة وقوله ابا احد من رجالكم يعنى المعاصرين له وباقى الاية بين ثم امر سبحانه عباده بان يذكروه ذكرا كثيرا وجعل تعالى ذلك دون حد ولا تقرير لسهولته على العبد ولعظم الاجر فيه قال ابن عباس لم يعذر احد فى ترك ذكر الله عز و جل الا من غلب على عقله وقال الذكر الكثير ان لا تنساه ابدا وروى ابو سعيد عن النبى صلى الله عليه و سلم اكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون ت وهذا الحديث خرجه ابن حبان فى صحيحه
وقوله وسبحوه بكرة واصيلا اراد فى كل الأوقات فحدد الزمن بطر فى نهاره وليله والاصيل من العصر الى الليل وعن ابن ابى اوفى قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة لذكر الله رواه الحاكم فى المستدرك انتهى من السلاح
وقوله سبحانه هو الذى يصلى عليكم وملائكته الاية صلاة الله على العبد هى رحمته له وصلاة الملائكة هى دعاؤهم للمؤمنين ثم اخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تانيسا لهم
وقوله تعالى تحيتهم يوم يلقونه سلام قيل يوم القيامة تحي الملائكة المؤمنين بالسلام ومعناه السلامة من كل مكروه وقال قتادة يوم دخولهم الجنة (3/231)
يحي بعضهم بعضا بالسلام والاجر الكريم جنة الخلد فى جوار الله تبارك وتعالى
وقوله تعالى يا ايها النبى انا ارسلناك شاهدا ومبشرا الاية هذه آلاية فيها تانيس للنبى صلى الله عليه و سلم وللمومنين وتكريم لجميعهم
وقوله وداعيا الى الله باذنه اي بأمره وسراجا منيرا استعارة للنور الذى تضمنه شرعه
وقوله تعالى وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا قال ع قال لنا ابى رحمه الله هذه الاية من ارجى ءاية عندى فى كتاب الله عز و جل قال ابو بكر بن الخطيب اخبرنا ابو نعيم الحافظ ثم ذكر سنده الى ابن عباس قال قال النبى صلى الله عليه و سلم انزلت على ءاية يا ايها النبى انا ارسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا قال شاهدا على امتك ومبشرا بالجنة ونذيرا من النار وداعيا الى شهادة ان لا اله الا الله باذنه بأمره وسراجا منيرا بالقرءان انتهى من تاريخ بغداد له من ترجمة محمد بن نصر
وقوله تعالى ودع اذاهم يحتمل ان يريد ان يأمره تعالى بترك ان يؤذيهم هو ويعاقبهم فالمصدر على هذا مضاف الى المفعول ويحتمل ان يريد اعرض عن اقوالهم وما يوذونك به فالمصدر على هذا التأويل مضاف الى الفاعل وهذا تاويل مجاهد وباقي الاية بين
وقوله تعالى يا ايها النبى انا احللنا لك ازواجك الاية ذهب ابن زيد والضحاك فى تفسير هذه الاية الى ان الله تعالى احل لنبيه ان يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها واباح له كل النساء بهذا الوجه وانما خصص هؤلاء بالذكر تشريفا لهن فالاية على هذا التأويل فيها اباحة مطلقة فى جميع النساء حاشى ذوات المحارم المذكور حكمهن فى غير هذه الاية ثم قال بعد هذا تزجى من تشاء منهن اي من هذه الأصناف كلها ثم تجرى الضمائر بعد ذلك على العموم الى قوله تعالى ولا ان نبدل بهن فيجىء هذا الضمير مقطوعا من الاول عائدا على ازواجه التسع فقط على الخلاف فى ذلك وتأول غير ابن زيد فى قوله احللنا لك ازواجك من فى عصمته ممن تزوجها (3/232)
بمهروان ملك اليمين بعد حلال له وان الله اباح له مع المذكورات بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ممن هاجر معه والواهبات خاصة فيجىء الامر على هذا التأويل اضيق على النبى عليه السلام ويؤيد هذا التاويل ما قاله ابن عباس كان النبى صلى الله عليه و سلم يتزوج فى اي النساء شاء وكان ذلك يشق على نسائه فلما نزلت هذه الاية وحرم عليه بها النساء الا من سمى سر نساؤه بذلك
وقوله سبحانه وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبى الاية قال السهيلى ذكر البخارى عن عائشة انها قالت كانت خولة بنت حكيم من اللاتى وهبن انفسهن لرسول الله صلى الله عليه و سلم فدل على انهن كن غير واحدة انتهى
وقوله خالصة لك اي هبة النساء انفسهن خاصة بك دون امتك قال ع ويظهر من لفظ ابى بن كعب ان معنى قوله خالصة لك يراد به جميع هذه الإباحة لأن المؤمنين لم يبح لهم الزيادة على اربع
وقوله تعالى قد علمنا فرضنا عليهم فى ازواجهم يريد هو كون النكاح بالولى والشاهدين والمهر والاقتصار على اربع قاله قتادة ومجاهد
وقوله لكي لا اي بينا هذا البيان لكى لا يكون عليك حرج ويظن بك انك قد اثمت عند ربك
وقوله تعالى ترجي من تشاء منهن الاية ترجى معناه تؤخر وتئوى معناه تضم وتقرب ومعنى هذه الاية ان الله تعالى فسح لنبيه فيما يفعله فى جهة النساء والضمير فى منهن عائد على من تقدم ذكره من الاصناف حسب الخلاف المذكور فى ذلك وهذا الارجاء والإيواء يحتمل معانى منها ان المعنى فى القسم اي تقرب من شئت فى القسمة لها من نفسك وتؤخر عنك من شئت وتكثر لمن شئت وتقل لمن شئت لا حرج عليك فى ذلك فاذا علمن هن ان هذا هو حكم الله لك رضين وقرت اعينهن وهذا تأويل مجاهد وقتادة والضحاك قال ع لان سبب هذه آلاية تغاير وقع بين زوجات النبى (3/233)
صلى الله عليه و سلم تأذى به وقال ابن عباس المعنى فى طلاق من شاء وامساك من شاء وقال الحسن بن ابي الحسن المعنى فى تزوج من شاء وترك من شاء قال ع وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على النبى صلى الله عليه و سلم والاباحة له وذهب هبة الله فى الناسخ المنسوخ له الى ان قوله ترجى من تشاء الآية ناسخ لقوله لا يحل لك النساء من بعد الاية
وقوله تعالى ومن ابتغيت ممن عزلت يحتمل معانى احدها ان تكون من للتبعيض اي من اردت وطلبته نفسك ممن كنت قد عزلته واخرته فلا جناح عليك فى رده الى نفسك وإيواءه اليك ووجه ثان وهو ان يكون مقويا وموكدا لقوله ترجى من تشاء وتئوى من تشاء فيقول بعد ومن ابتغيت ومن عزلت فذلك سواء لاجناح عليك فى رده نفسك وايوائه اليك
وقوله ويرضين بما ءاتيتهن اي من نفسك ومالك واتفقت الروايات على انه عليه السلام مع ما جعل الله له من ذلك كان يسوى بينهن فى القسم تطييبا لنفوسهن واخذا بالفضل وما خصه الله من الخلق العظيم صلى الله عليه و سلم وعلى ءاله غيره ان سودة وهبت يومها لعائشة تقمنا لمسرة رسول الله عليه وسلم
وقوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد قيل كما قدمنا انها حظرت عليه النساء الا التسع وما عطف عليهن على ما تقدم لابن عباس وغيره قال ابن عباس وقتادة وجازاهن الله بذلك لما اخترن الله ورسوله ومن قال بأن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا لا يحل لك النساء معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات ولا ينبغى ان يكن امهات المؤمنين وروى هذا عن مجاهد وكذلك قدر ولا ان تبدل اليهوديات والنصرانيات بالمسلمات وهو قول ابى رزين وابن جبير وفيه بعد
وقوله تعالى يا ايها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبى الا ان يؤذن لكم الى طعام غير ناظرين اناه هذه آلاية تضمنت قصتين احداهما الأدب فى امر الطعام والجلوس والثانية امر (3/234)
الحجاب قال الجمهور سببها ان النبى صلى الله عليه و سلم لما تزوج زينب بنت جحش اولم عليها ودعا الناس فلما طعموا قعد نفر فى طائفة من البيت يتحدثون فثقل على النبى صلى الله عليه و سلم مكانهم فخرج ليخرجوا بخروجه ومر على حجر نسائه ثم عاد فوجدهم فى مكانهم وزينب فى البيت معهم فلما دخل ورءاهم انصرف فخرجوا عند ذلك قال انس بن مالك فاعلم او اعلمته بانصرافهم فجاء فلما وصل الحجرة ارخى الستر بينى وبينه ودخل ونزلت ءاية الحجاب بسبب ذلك قال اسماعيل بن ابى حكيم هذا ادب ادب الله به الثقلاء وقالت عائشة وجماعة سبب الحجاب كلام عمر للنبى صلى الله عليه و سلم مرارا فى ان يحجب نساءه وناظرين معناه منتظرين واناه مصدرانى الشىء يأنى انى اذا فرغ وحان ولفظ البخارى يقال اناه ادراكه انى يأنى اناءه انتهى
وقوله تعالى والله لا يستحى من الحق معناه لا يقع منه ترك الحق ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفى عنه تعالى العلة الموجبة لذلك فى البشر وعن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث لا يحل لأحد ان يفعلهن لا يؤم رجل قوما فيخص نفسه بالدعاء دونهم فان فعل فقد خانهم ولا ينظر فى قعر بيت قبل ان يستاذن فإن فعل فقد خان ولا يصلى وهو حاقن حتى يتخفف رواه ابو داود واللفظ له وابن ماجة والترمذى وقال الترمذى حديث حسن ورواهابو داود ايضا من حديث ابى هريرة انتهى من السلاح
وقوله تعالى واذا سألتموهن متاعا الاية هى ءاية الحجاب والمتاع عام فى جميع ما يمكن ان يطلب من المواعين وسائر المرافق وباقى الاية بين وقد تقدم في سورة النور طرف من بيانه فأغنى عن اعادته
وقوله تعالى ان الله وملائكته يصلون على النبى الاية تضمنت شرف النبى صلى الله عليه و سلم وعظيم منزلته عند الله تعالى قالت فرقة تقدير الاية ان الله يصلى وملائكته يصلون فالضمير فى قوله يصلون للملائكة فقط (3/235)
وقالت فرقة بل الضمير فى يصلون لله والملائكة وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته فلا يرد عليه الاعتراض الذى جاء فى قول الخطيب من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد ضل فقال النبى صلى الله عليه و سلم بئس الخطيب انت وهذا القدر كاف هنا وصلاة الله تعالى رحمة منه وبركة وصلاة الملائكة دعاء وصلاة المؤمنين دعاء وتعظيم والصلاة على النبى صلى الله عليه و سلم فى كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التى لا يسع تركها ولا يغفلها الا من لا خير فيه وفى حديث ابن عباس انه لما نزلت هذه الاية قال قوم من الصحابة هذا السلام عليك يا رسول الله قد عرفناه فكيف نصلى عليك الحديث ت ولفظ البخارى عن كعب بن عجرة قال قيل يا رسول الله اما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة قال قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم انك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى ءال محمد كما باركت على ابراهيم انك حميد مجيد انتهى وفيه طرق يزيد فيها بعض الرواة على بعض وفى الحديث عنه صلى الله عليه و سلم ان من افضل ايامكم يوم الجمعة فأكثروا على من الصلاة فيه فان صلاتكم على الحديث رواه ابو داود والنساءى وابن ماجة واللفظ لأبى داود ورواه الحاكم فى المستدرك من حديث ابى مسعود الأنصارى وقال صحيح الإسناد وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من احد يسلم على الا رد الله على روحى حتى ارد عليه السلام وعنه قال قال النبى صلى الله عليه و سلم صلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم رواهما ابو داود وعن ابن مسعود ان النبى صلى الله عليه و سلم قال اولى الناس بي يوم القيامة اكثرهم على صلاة رواه الترمذى وابن حبان فى صحيحه ولفظهما سواء وقال الترمذى حسن غريب انتهى من السلاح
وقوله سبحانه يدنين عليهن من جلابيبهن الجلباب ثوب اكبر من (3/236)
الخمار وروي عن ابن عباس وابن مسعود انه الخمار واختلف فى صورة ادنائه فقال ابن عباس وغيره ذلك ان تلويه المرأة حتى لا يظهر منها الا عين واحدة تبصر بها وقال ابن عباس ايضا وقتادة ذلك ان تلويه على الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وان ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه
وقوله ذلك ادنى ان يعرفن اي حتى لا يختلطن بالإماء فاذا عرفن لم يقابلن بأذى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرائر وليس المعنى ان تعرف المرأة حتى يعلم من هى وكان عمر اذا رأى امة قد تقنعت قنعها بالدرة محافظة على زى الحرائر
وقوله تعالى لئن لم ينته المنافقون الاية اللام فى قوله لئن هى المؤذنة بمجىء القسم واللام فى لنغرينك هى لام القسم ت وروى الترمذى عن ابن عمر قال صعد رسول الله صلى الله عليه و سلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال يا معشر من قد اسلم بلسانه ولم يفض الايمان الى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فانه من يتبع عورة اخيه المسلم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو فى جوف رحله الحديث اه ورواه ابو داود فى سننه من طريق ابى برزة الأسلمى عن النبى صلى الله عليه و سلم وتوعد الله سبحانه هذه الاصناف فى هذه الآية
وقوله سبحانه والذين فى قلوبهم مرض المرض هنا هو الغزل وحب الزنا قاله عكرمة والمرجفون فى المدينة هم قوم كانوا يتحدثون بغزو العرب المدينة ونحو هذا مما يرجفون به نفوس المؤمنين فيحتمل ان تكون هذه الفرق داخلة في جملة المنافقين ويحتمل ان تكون متباينة ونغرينك معناه نحضك عليهم بعد تعيينهم لك وفى البخارى وقال ابن عباس لنغرينك لنسلطنك انتهى
وقوله تعالى ثم لا يجاورونك اي بعد الاغراء لأنك تنفيهم بالاخافة والقتل
وقوله الا قليلا يحتمل ان يريد الا جوارا قليلا او وقتا قليلا او عددا قليلا كأنه قال الا اقلاء وثقفوا معناه حصروا وقدر عليهم واخذوا معناه اسروا والا خيذ الا سير والذين (3/237)
خلوا هم منافقوا الأمم وباقى الاية متضح المعنى والسبيلا مفعول ثان لأن اضل متعد بالهمزة وهى سبيل الايمان والهدى والذين ءاذوا موسى هم قوم من بنى اسراءيل ابن عباس وابو هريرة وجماعة الاشارة الى ما تضمنه حديث النبى صلى الله عليه و سلم من ان بنى اسراءيل كانوا يغتسلون عراة وكان موسى رجلا ستيرا حييا لا يكاد يرى من جسده شىء فقالوا والله ما يمنع موسى ان يغتسل معنا الا انه ءادر اوبه برص فذهب يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه فلج موسى فى اثره يقول ثوبى حجر ثوبى حجر فمر بهم فنظرواإليه فقالوا والله ما بموسى من بأس الحديث خرجه البخارى وغيره وقيل فى اذايتهم غير هذا فبرأه الله مما قالوا والوجيه المكرم الوجه والقول السديد يعم جميع الخيرات وقال عكرمة اراد لا اله الا الله وباقى الاية بين
وقوله سبحانه انا عرضنا الأمانة على السموات والارض الآية ذهب الجمهور الى ان الأمانة كل شىء يؤتمن الانسان عليه من امر ونهى وشأن دين ودنيا فالشرع كله امانة ومعنى آلآية انا عرضنا على هذه المخلوقات العظام ان تحمل الأوامر والنواهي ولها الثواب ان احسنت والعقاب ان اساءت فابت هذه المخلوقات واشفقت فيحتمل ان يكون هذا بإدراك يخلقه الله لها ويحتمل ان يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة وحمل الانسان الأمانة اى التزم القيام بحقها وهو فى ذلك ظلوم لنفسه جهول بقدر ما دخل فيه وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير قال ابن عباس واصحابه والانسان ءادم تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى وقع فى امر الشجرة وقال بعضهم الانسان النوع كله فعلى تأويل الجمهور يكون قولهما فى لآية الأخرى اتينا طائعين اجابة لامر امرت به وتكون هذه الاية إباية واشفاقا من امر عرض عليها وخيرت فيه
وقوله تعالى ليعذب اللام لام العاقبة وكذا قال ابو حيان اللام فى ليعذب للصيرورة لانه لم يحمل الامانة (3/238)
ليعذب ولكن ءال امره الى ذلك ص ابو البقاء اللام تتعلق بحملها وقرأ الأعمش ويتوب بالرفع على الاستيناف والله اعلم انتهى وباقى الاية بين
تفسير سورة سبإ وهى مكية
واختلف فى قوله تعالى ويرى الذين اوتوا العلم ألاية فقيل ذلك مكى وقيل مدنى بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى الحمد لله الذى له ما فى السموات وما فى الارض الالف واللام فى الحمد لاستغراق جنس المحامد اي الحمد على تنوعه هو لله تعالى من جميع جهات الفكرة ويلج معناه يدخل ويعرج معناه يصعد
وقوله تعالى وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة روى ان قائل هذه المقالة هو ابو سفيان ابن حرب واللام من قوله ليجزى يصح ان تكون متعلقة بقوله لتأتينكم والذين معطوف على الذين الأولى اي وليجزى الذين سعوا ومعاجزين معناه محاولين تعجيز قدرة الله فيهم ثم اخبر تعالى بان الذين اوتوا العلم يرون الوحى المنزل على محمد عليه السلام حقا والذين اوتو العلم قيل هم من اسلم من اهل الكتاب وقال قتادة هم امة محمد المؤمنون به ثم حكى الله تعالى عن الكفار مقالتهم التى قالوها على جهة التعجب والهزء واستبعاد البعث هل ندلكم على رجل يعنون محمدا صلى الله عليه و سلم ينبئكم اذا مزقتم كل ممزق بالبلى وتقطع الاوصال فى القبور وغيرها وجديد بمعنى مجدد وقولهم افترى (3/239)
على الله كذبا هو ايضا من قول بعضهم لبعض ثم اضرب عن قولهم فقال بل الذين لا يؤمنون بالآخرة فى العذاب يريد عذاب الاخرة لأنهم صائرون اليه ويحتمل ان يريد عذاب الدنيا ايضا والضمير فى قوله افلم يروا لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالاخرة وقفهم الله على قدرته وخوفهم من احاطتها بهم والمعنى اليس يرون امامهم ووراءهم سماءى وارضى وباقى الاية بين ثم ذكر الله تعالى نعمته على داود وسليمان احتجاجا على ما منح محمدا واوبى معناه رجعى معه قال ابن عباس وغيره معنها يا جبال سبحى معه اي يسبح هو وترجع هى معه التسبيح اي تردده بالذكر وقال مؤرج اوبى سبحى بلغة الحبشة وقرأ عاصم والطير بالرفع عطفا على لفظ قوله يا جبال وقرأ نافع وابن كثير والطير بالنصب قال سيبويه عطف على موضع قوله يا جبال لأن موضع المنادى المفرد نصب وقيل نصبها باضمار فعل تقديره وسخرنا الطير والنا له الحديد معناه جعلناه لينا وروى قتادة وغيره ان الحديد كان له كالشمع لا يحتاج فى عمله الى نار والسابغات الدروع الكاسيات ذوات الفضول
وقوله تعالى وقدر فى السرد قال ابن زيد الذى امر به هو فى قدر الحلقة اي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا يقوى الدرع على الدفاع ولا تعملها كبيرة فينال لابسها من خلالها وقال ابن عباس التقدير الذى امر به هو فى المسمار وذكر البخارى فى صحيحه ذلك فقال المعنى لا تدق المسمار فيتسلل ولا تغلظه فينقصم بالقاف وبالفاء ايضا رواية ت قال الهروى قوله تعالى وقدر فى السرد السرد متابعة حلق الدرع شيأ بعد شىء حتى يتناسق يقال فلان يسرد الحديث سردا اي يتابعه انتهى
وقوله تعالى ولسليمان الريح المعنى ولسليمان سخرنا الريح وغدوها شهر ورواحها شهر قال قتادة معناه انها كانت تقطع به فى الغدو الى قرب الزوال مسيرة شهر ونقطع فى الرواح من بعد الزوال (3/240)
الى الغروب مسيرة شهر وكان سليمان اذا اراد قوما لم يشعروا حتى يظلهم فى جو السماء
وقوله تعالى واسلنا له عين القطر قال ابن عباس وغيره كانت تسيل له باليمن عين جارية من نحاس يصنع له منها جميع ما احب والقطر النحاس ويزغ معناه يمل اي ينحرف عاصيا وقال عن امرنا ولم يقل عن ارادتنا لانه لا يقع فى العالم شىء يخالف ارادته سبحانه ويقع ما يخالف الامر
وقوله من عذاب السعير قيل عذاب الاخرة وقيل بل كان قد وكل بهم ملك بيده سوط من نار السعير فمن عصى ضربه فاحرقه والمحاريب الابنية العالية الشريفة قال قتادة القصور والمساجد والتماثيل قيل كانت من زجاج ونحاس تماثيل اشياء ليست بحيوان والجوابي جمع جابية وهى البركة التى يجبى اليها الماء وراسيات معناه ثابتات لكبرها ليست مما ينقل او يحمل ولا يستطيع على عمله الا لجن ثم امروا مع هذه النعم بان يعملوا بالطاعات وشكرا يحتمل نصبه على الحال او على جهة المفعول اي اعملوا عملا هو الشكر كأن العبادات كلها هى نفس الشكر وفى الحديث ان النبى صلى الله عليه و سلم صعد المنبر فتلا هذه الاية ثم قال ثلاث من اوتيهن فقد اوتى العمل شكرا العدل فى الرضا والغضب والقصد فى الفقر والغنى وخشية الله فى السر والعلانية وهكذا نقل ابن العربى هذا الحديث فى احكامه وعبارة الداودى وعن النبى صلى الله عليه و سلم انه قرأ على المنبر اعملوا ءال داود شكرا وقال ثلاث من اوتيهن فقد اوتى مثل ما اوتى ءال داود العدل فى الغضب والرضا والقصد فى الفقر والغنى وذكر الله فى السر والعلانية قال القرطبى الشكر تقوى الله والعمل بطاعته انتهى قال ثابت روى ان داود كان قد جزأ ساعات الليل والنهار على اهله فلم تكن تاتى ساعة من ساعات الليل والنهار الا وانسان من آل داود قائم يصلى يتناوبون دائما وكان سليمان عليه (3/241)
السلام فيما روى يأكل الشعير ويطعم اهله الخشكار ويطعم المساكين الدرمك وروى انه ما شبع قط فقيل له فى ذلك فقال اخاف ان شبعت ان انسى الجياع
وقوله تعالى وقليل من عبادى الشكور يحتمل ان تكون مخاطبة لآل داود ويحتمل ان تكون مخاطبة لنبينا محمد عليه السلام وعلى كل وجه ففيها تحريض وتنبيه قال ابن عطاء الله فى الحكم من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها وقال صاحب الكلم الفارقية لا تغفل عن شكر الصنائع وسرعة استرجاع الودائع وقال ايضا ياميتا نشر من قبر العدم بحكم الجود والكرم لا تنس سوالف العهود والذمم اذكر عهد الايجاد وذمة الاحسان والإرفاد وحال الإصدار والإيراد وفاتحة المبدأ وخاتمة المعاد وقال رحمة الله يا دائم الغفلة عن عظمة ربه اين النظر فى عجائب صنعه والتفكر فى غرائب حكمته اين شكر ما افاض عليك من ملابس احسانه ونعمه ياذا الفطنة اغتنم نعمة المهلة وفرصة المكنة وخلسة السلامة قبل حلول الحسرة والندامة انتهى
قوله تعالى فلما قضينا عليه الموت الاية روى عن ابن عباس وابن مسعود فى قصص هذه الاية كلام طويل حاصلة ان سليمان عليه السلام لما احس بقرب اجله اجتهد عليه السلام وجد فى العبادة وجاءه ملك الموت واخبره انه امر بقبض روحه وانه لم يبق له الامدة يسيرة قال الثعلبى وقال سليمان عند ذلك اللهم علي الجن موتى حتى يعلم الانس ان الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الانس انهم يعلمون من الغيب اشياء وانهم يعلمون ما فى غد ولما اعلمه ملك الموت بقرب الاجل امر حينئذ الجن فصنعت له قبة من زجاج تشف ودخل فيها يتعبد ولم يجعل لها بابا وتوكأ على عصاه على وضع يتماسك معه وان مات ثم توفى عليه السلام على تلك الحالة فلما مضى لموته سنة خر عن عصاه والعصا (3/242)
قد اكلتها الارضة وهى الدودة التى تاكل العود فرأت الجن انخراره فتوهمت موته والمنساة العصا وقرأ الجمهور تبينت الجن بإسناد الفعل اليها اي بان امرها كأنه قال افتضحت الجن اي للانس هذا تأويل ويحتمل ان يكون قوله تبينت الجن بمعنى علمت الجن وتحققت ويريد بالجن جمهورهم والخدمة منهم ويريد بالضمير فى كانوا رؤساءهم وكبارهم لانهم هم الذيم يدعون علم الغيب لاتباعهم من الجن والانس وقرأ يعقوب تبينت الجن على بناء الفعل للمفعول اي تبينها الناس والعذاب المهين ما هم فيه من الخدمة والتسخير وغير ذلك والمعنى ان الجن لو كانت تعلم الغيب لما خفى عليها موت سليمان وقد ظهر انه خفي عليها بدوامها فى الخدمة الصعبة وهو ميت فالمهين المذل من الهوان وحكى الثعلبى ان الشياطين قالت للأرضة لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام والشراب ولكنا سننقل اليك الماء والطين فهم ينقلون اليها ذلك حيث كانت شكرا لها انتهى
وقوله تعالى لقد كان لسبإ فى مساكنهم ءاية الاية هذا مثل لقريش بقوم انعم الله عليهم فلم يشكروا فانتقم منهم اي فأنتم ايها القوم مثلهم وسبأ هنا يراد به القبيل واختلف لم سمى القبيل بذلك فقالت فرقة هو اسم امرأة وقيل اسم موضع سمسي به القبيل وقال الجمهور هو اسم رجل هو ابو القبيل كله وفيه حديث فروة بن مسيك المتقدم فى سورة النمل خرجه الترمذى وءاية معناه عبرة وعلامة على فضل الله وقدرته وجنتان مبتدأ وخبره عن يمين وشمال او خبر مبتدإ محذوف تقديره هى جنتان وقيل جنتان بدل من آية وضعف وروي فى قصصهم انه كان فى ناحية اليمن واد عظيم بين جبلين وكانت جنبتا الوادي فواكه وزروعا وكان قد بنى فى رأس الوادى عند اول الجبلين جسر عظيم من حجارة من الجبل الى الجبل فاحتبس الماء فيه وصار بحيرة عظيمة واخذ الماء من جنبتيها فمشى مرتفعا يسقي (3/243)
جنات كثيرة جنبتي الوادى قيل بنته بلقيس وقيل بناه حمير ابو القبائل اليمانية كلها وكانوا بهذه الحال فى ارغد عيش وكانت لهم بعد ذلك قرى ظاهرة متصلة من اليمن الى الشام وكانوا ارباب تلك البلاد فى ذلك الزمان ت وقول ع وكان قد بنى فى رأس الوادى عند اول الجبلين صوابه وكان قد بنى فى اسفل الوادى عند ءاخر الجبلين وكلوا فيه حذف معناه قيل لهم كلوا وطيبة معناه كريمة التربة حسنة الهواء وروى ان هذه المقالة من الامر بالأكل والشكر والتوقيف على طيب البلدة وغفران الرب مع الايمان به هى من قول الانبياء لهم وبعث اليهم فيما روى ثلاثة عشر نبيا فكفروا بهم واعرضوا فبعث الله على ذلك السد جرذا اعمى توالد فيه وخرقة شيأ بعد شىء فانخرق السد وفاض الماء على اموالهم وجناتهم فغرقها واهلك كثيرا من الناس ممن لم يمكنه الفرار واختلف فى العرم فقال المغيرة بن حكيم وابو ميسرة هو كل ما بنى او سنم ليمسك الماء وقال ابن عباس وغيره العرم اسم وادى ذلك الماء بعينه الذى كان السد بنى له وقال ابن عباس ايضا العرم الشديد قال ع فكانه صفة للسيل من العرامة والإضافة الى الصفة مبالغة وهى كثيرة فى كلام العرب وقيل العرم صفة للمطر الشديد الذى كان عنه ذلك السيل
وقوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم جنتين فيه تجوز واستعارة وذلك ان البدل من الخمط والاثل لم يكن جنات لكن هذا كما تقول لمن جرد ثوبا جيدا وضرب ظهره هذا الضرب ثوب صالح لك ونحو هذا والخمط شجر الأراك قاله ابن عباس وغيره وقيل الخمط كل شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة او حموضة او نحوه ومنه تخمط اللبن اذا تغير طعمه والاثل ضرب من الطرفاء هذا هو الصحيح والسدر معروف وهو له نبق العناب لكنه دونه فى الطعم بكثير وللخمط ثمرغث هو البرير وللأثل ثمر قليل الغناء غير حسن الطعم وقرأ نافع وابن كثير اكل بضم الهمزة وسكون الكاف والباقون بضمهما (3/244)
وهما بمعنى الجنى والثمرة ومنه تؤتى اكلها كل حين اي جناها وقرأ ابو عمرو اكل خمط باضافة اكل الى خمط
وقوله تعالى ذلك اشارة الى ما اجارة عليهم
وقوله وهل يجازى اي يناقش ويقارض بمثل فعله قدرا بقدر لأن جزاء المؤمن انما هو بتفضل وتضعيف ثواب واما الذى لا يزاد ولا ينقص فهو الكافر وقرأ حمزة والكساءى وهل نجازى بالنون وكسر الزاى الكفور بالنصب
وقوله تعالى وجعلنا بينهم وبين القرى الاية هذه الاية وما بعدها وصف حالهم قبل مجىء السيل وهى ان الله تعالى مع ما كان منحهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم كان قد اصلح لهم البلاد المتصلة وعمرها وجعلهم اربابها وقدر السير بان قرب القرى بعضها من بعض حتى كان المسافر من مأرب الى الشام يبيت فى قرية ويقيل فى قرية فلا يحتاج الى حمل زاد والقرى المدن والقرى التى بورك فيها هى بلاد الشام بإجماع المفسرين والقرى الظاهرة هى التى بين الشام ومأرب وهى اسم بلدهم قال ابن عباس وغيره هى قرى عربية بين المدينة والشام واختلف فى معنى ظاهرة فقالت فرقة معناه مستعلية مرتفعه فى الأكام وهى اشرف القرى وقالت فرقة معناه يظهر بعضها من بعض فهى ابدا فى قبضة عين المسافر لا يخلو عن رؤية شىء منها قال ع والذى يظهر لى ان معنى ظاهرة خارجة عن المدن فهى عبارة عن القرى الصغار التى هى فى ظواهر المدن والله اعلم وءامنين اي من الخوف والجوع والعطش وآفات السفر ثم حكى سبحانه عنهم مقاله قالوها على جهة البطر والاشر وهى طلب البعد بين الاسفار كأنهم ملوا النعمة فى القرب وطلبوا استبدال الذى هو ادنى بالذى هو خير وظلموا انفسهم ففرق الله شملهم وخرب بلادهم وجعلهم احاديث ومنه المثل السائر تفرقوا أيادي سبأ وأيدي سبأ يقال المثل بالوجهين وهذا هو تمزيقهم كل ممزق فتيامن منهم ستة قبائل وتشاءمت منهم اربعة حسبما فى (3/245)
الحديث ثم اخبر تعالى محمد عليه السلام وامته على جهة التنبيه بأن هذا القصص فيه ءايات وعبر لكل مؤمن متصف بالصبر والشكر
وقوله تعالى ولقد صدق عليهم ابليس ظنه الاية قرأ نافع وابو عمرو وابن عامر ولقد صدق بتخفيف الدال وقرأ حمزة والكساءى صدق بتشديدها فالظن على هذه القراءة مفعول بصدق ومعنى الاية ان ابليس ظن فيهم ظنا حيث قال ولا تجد اكثرهم شاكرين وغير ذلك فصدق ظنه فيهم واخبر تعالى انهم اتبعوه وهو اتباع فى كفر لأنه فى قصة قوم كفار
وقوله ممن هو منها في شك يدل على ذلك ومن فى قوله من المؤمنين لبيان الجنس لا للتبعيض
وقوله وما كان له عليهم من سلطان اي من حجة قال الحسن والله ما كان له سيف ولا سوط ولكنه استمالهم فمالوا بتزيينه
وقوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله يريد الاصنام والملائكة وذلك ان منهم من كان يعبد الملائكة وهذه ءاية تعجيز واقامة حجة ويروى ان الاية نزلت عند الجوع الذى اصاب قريشا ثم جاء بصفة هؤلاء الذين يدعونهم ءالهة أنهم لا يملكون ملك اختراع مثقال ذرة فى السموات ولا فى الارض وانهم لا شرك لهم فيهما وهذان نوعا الملك اما استبداد واما مشاركة فنفى عنهم جميع ذلك ونفي ان يكون منهم لله تعالى معين فى شىء والظهير المعين ثم قرر فى الاية بعد ان الذين يظنون انهم يشفعون لهم عند الله لا تصح منهم شفاعة لهم اذ هؤلاء كفرة ولا يأذن الله فى الشفاعة فى كافر وقرأ حمزة والكساءى وابو عمرو اذن بضم الهمزة
وقوله تعالى حتى اذا فزع عن قلوبهم الاية الضمير فى قلوبهم عائد على الملائكة الذين دعوهم ءالهة قال ع وتظاهرت الاحاديث عن رسول الله صلى الللهعليه وسلم ان هذه آلاية اعنى قوله حتى اذا فزع عن قلوبهم انما هى فى الملائكة اذا سمعت الوحى الى جبريل او الأمر يأمر الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان فتفزع عند ذلك (3/246)
تعظيما وهيبة لله تبارك وتعالى وقيل خوفا ان تقوم الساعة فاذا فرغ ذلك فزع عن قلوبهم اي اطير الفزع عنها وكشف فيقول بعضهم لبعض ولجبريل ماذا قال ربكم فيقول المسئولون قال الحق وهو العلى الكبير ت ولفظ الحديث من طريق ابى هريرة ان النبى صلى الله عليه و سلم قال اذا قضى الله امرا فى السماء ضربت الملائكة باجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فاذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير انتهى وقرأ الجمهور فزع بضم الفاء ومعناه اطير الفزع عنهم وقولهم وهو العلى الكبير تمجيد وتحميد ثم امر الله نبيه صلى الله عليه و سلم على جهة الاحتجاج واقامة الدليل على الرازق لهم من السموات والارض من هو ثم امره ان يقتضب الاحتجاج بأن يأتى بجواب السؤال اذ هم فى بهتة ووجمة من السؤال واذ لا جواب لهم الا ان يقولوا هو الله وهذه السبيل فى كل سؤال جوابه فى غاية الوضوح لان المحتج يريد ان يقتضب ويتجاوز الى حجة اخرى يوردها ونظائرها فى القرءان كثير
وقوله وانا او اياكم تلطف فى الدعوة والمحاورة والمعنى كما تقول لمن خالفك فى مسئلة احدنا مخطىء اي تثبت وتنبه والمفهوم من كلامك ان مخالفك هو المخطئى فكذلك هذا معناه وانا لعلى هدى او فى ضلال مبين وانكم لعلى هدى او فى ضلال مبين فتنبهوا والمقصد ان الضلال فى حيزهم وحذف احد الخبرين لدلالة الباقي عليه
وقوله قل لا تسئلون الاية مهادنة ومتاركة منسوخة
وقوله تعالى قل يجمع بيننا ربنا اخبار بالعبث ويفتح معناه يحكم والفتاح القاضي وهو مشهور فى لغة اليمن وارونى هى رؤية قلب وهذا هو الصحيح اي ارونى بالحجة والدليل
وقوله كلا رد لما تقرر من مذهبهم فى الاشراك
وقوله تعالى وما ارسلناك الا كافة للناس الاية اعلام من الله تعالى بأنه بعث محمدا عليه السلام الى جميع العالم وهى احدى خصائصه التى خص بها من (3/247)
بين سائر الانبياء وباقى الاية بين قال ابو عبيدة الوعد والوعيد والميعاد بمعنى وخولف فى هذا والذى عليه الناس ان الوعد اذا اطلق ففى الخير والوعيد فى المكروه والميعاد يقع لهذا ولهذا
وقوله تعالى وقال الذين كفروا لن نومن بهذا القرءان ولا بالذى بين يديه هذه المقالة قالها بعض قريش وهى انهم لا يؤمنون بالقرءان ولا بالذى بين يديه من التوراة والانجيل والزبور فكأنهم كذبوا بجميع كتب الله عز و جل وانما فعلوا هذا لما وقع الاحتجاج عليهم بما فى التوراة من امر محمد عليه السلام قال الواحدي قوله تعالى يرجع بعضهم الى بعض القول اي فى التلاوم انتهى وباقى الآية بين وقولهم بل مكر الليل والنهار المعنى بل كفرنا بمكركم بنا فى الليل والنهار واضاف المكر الى الليل والنهار من حيث هو فيهما ولتدل هذه الاضافة على الدءوب والدوام والضمير فى اسروا عام لجميعهم من المستضعفين والمستكبرين
وقوله تعالى وما ارسلنا فى قرية من نذير الا قال مترفوها انا بما ارسلتم به كافرون هذه لآية تسلية للنبى صلى الله عليه و سلم عن فعل قريش وقولها اي هذه يا محمد سيرة الامم فلا يهمنك امر قومك والقرية المدينة والمترف الغنى المنعم القليل تعب النفس والبدن فعادتهم المبادرة بالتكذيب
وقوله وقولوا نحن اكثر اموالا لآية يحتمل ان يعود الضمير فى قالوا على المترفين ويحتمل ان يكون لقريش ويكون كلام المترفين قد تم قبله وفى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال ان الله لا ينظر الى صوركم واموالكم ولكن ينظر الى قلوبكم واعمالكم انتهى واعلم ان المال الزائد على قدر الحاجة قل ان يسلم صاحبه من الآفات الا من عصمه الله ولو بسط الله الرزق لعبادة لبغوا فى الارض وقد جاء فى صحيح البخارى وغيره من رواية ابى ذر عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال الاكثرون مالا هم الاقلون يوم القيامة الا من قال بالمال هكذا وهكذا واشار ابن شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم اه (3/248)
وروى ابن المبارك فى رقائقه قال اخبرنا حيوة بن شريح عن عقيل بن خالد عن سلمة بن ابى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن ابيه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان الشيطان قال لن ينجو منى الغنى من احدى ثلاث اما ان ازين ماله فى عينيه فيمنعه من حقه واما ان اسهل له سبيله فينفقه فى غير حقه واما ان احببه فيكسبه بغير حقه انتهى والزلفى مصدر بمعنى القرب
وقوله الا من آمن استثناء منقطع وقرأ الجمهور جزاء الضعف بالاضافة والضعف هنا اسم جنس اي بالتضعيف اذ بعضهم يجازى الى عشرة وبعضهم اكثر صاعدا الى سبع مائة بحسب الاعمال ومشيئة الله فيها
وقوله تعالى والذين يسعون فى ءاياتنا معاجزين تقدم تفسيره ومحضرون من الإحضار والإعداد ثم كرر القول ببسط الرزق لا على المعنى الاول بل هذا هنا على جهة الوعظ والتزهيد فى الدنيا والحض على النفقة فى الطاعات ثم وعد بالخلف فى ذلك اما فى الدنيا واما فى الاخرة وفى البخارى ان ملكا ينادى كل يوم اللهم اعط منفقا خلفا ويقول ملك ءاخر اللهم اعط ممسكا تلفا وروى الترمذى عن ابى كبشة الانصارى انه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ثلاث اقسم عليهن واحدثكم حديثا فاحفظوه قال ما نقص مال عبد من صدقة ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها الا زاده الله عزا ولا فتح عبد باب مسئلة الا فتح الله عليه باب فقر او كلمة نحوها الحديث قال ابو عيسى هذا حديث حسن صحيح انتهى وقوله تعالى ويوم نحشرهم الاية تقدم تفسير نظيرها مكررا وفى القرءان ءايات يظهر منها ان الجن عبدت فى سورة الانعام وغيرها ثم قال تعالى فاليوم اي يقال لمن عبد ومن عبد اليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا
وقوله تعالى وما ءاتيناهم من كتب يدرسونها الاية المعنى ان هؤلاء الكفرة (3/249)
يقولون بئارئهم فى كتاب الله فيقول بعضهم سحر وبعضهم افتراء وذلك منهم تسور لا يستندون فيه الى اثارة علم فانا ما ءاتيناهم من كتب يدرسونها وما ارسلنا اليهم قبلك من نذير يباشرهم ويشافههم فيمكنهم ان يسندوا دعواهم اليه
وقوله تعالى وما بلغوا معشار ما ءاتيناهم الضمير فى بلغوا يعود على قريش وفى ءاتيناهم على الامم الذين من قبلهم والمعنى من القوة والنعم والظهور فى الدنيا قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد والمعشار العشر ولم يأت هذا البناء الا فى العشرة والأربعة فقالوا مرباع ومعشار والنكير مصدر كالانكار فى المعنى وكالعذير فى الوزن وكيف تعظيم للأمر وليست استفهاما مجردا وفى هذا تهديد لقريش اي انهم متعرضون لنكير مثله ثم امر تعالى نبية عليه السلام ان يدعوهم الى عبادة الله تعالى والنظر فى حقيقة نبوته هو ويعظهم بأمر مقرب للافهام فقوله بواحدة معناه بقضية واحدة ايجازا لكم وتقريبا عليكم وهو ان تقوموا لله اي لاجل الله او لوجه الله مثنى اي اثنين اثنين متناظرين وفرادى اي واحدا واحدا ثم تتفكروا هل بصاحبكم جنة او هو بريء من ذلك والوقف عند ابى حاتم تتفكروا فيجيء ما بصاحبكم نفيا مستانفا وهو عند سيبويه جواب ما تنزل منزلة القسم وقيل فى الآية غير هذا مما هو بعيد من الفاظها فتعين تركه
وقوله تعالى قل ما سألتكم من اجر فهو لكم معنى الآية بين واضح لا يفتقر الى بيان
وقوله يقذف بالحق يريد بالوحي وءايات القرءان واستعار له القذف من حيث كان الكفار يرمون بئاياته وحكمه
وقوله سبحانه قل جاء الحق يريد الشرع بجملته وما يبدىء الباطل وما يعيد قالت فرقة الباطل غير الحق من الكذب والكفر ونحوه استعار له الإبداء والإعادة ونفاهما عنه كأنه قال وما يصنع الباطل شيأ
وقوله فبما يوحى يحتمل ان تكون ما بمعنى الذى اومصدرية وقوله (3/250)
تعالى ولو ترى اذ فزعوا آلاية قال الحسن بن ابى الحسن ذلك فى الكفار عند خروجهم من القبور فى القيامة قال ع وهو ارجح الاقوال هنا واما معنى الاية فهو التعجيب من حالهم اذا فزعوا من اخذ الله اياهم ولم يتمكن لهم ان يفوت منهم احد واخذوا من مكان قريب اي ان الآخذ يجيئهم من قرب فى طمأنينتهم وبعقبها بينما الكافر يؤمل ويترجى اذ غشيه الاخذ ومن غشيه اخذ من قريب فلا حيلة له ولا روية وقالوا ءامنا به الضمير فى به عائد على الله تعالى وقيل على محمد وشرعه والقرءان وقرأ نافع وعامة القراء التناوش دون همز ومعناه التناول من قولهم ناش ينوش اذا تناول وعبارة الواحدى وانى لهم التناوش اي كيف يتناولون التوبة وقد بعدت عنهم انتهى وقرأ ابو عمرو وحمزة والكساءى التناوش بالهمز فيحتمل ان يكون تفسيره كالقراءة الاولى ويحتمل ان يكون من الطلب تقول انتأشت الخير اذا طلبته من بعد ت وقال البخارى التناوش الرد من الاخرة الى الدنيا انتهى ويقذفون بالغيب اي يرجمون بظنونهم ويرمون بها الرسول وكتاب الله وذلك غيب عنهم فى قولهم سحر وافتراء وغير ذلك قاله مجاهد وقال قتادة قذفهم بالغيب هو قولهم لا بعث ولا جنة ولا نار
وقوله سبحانه وحيل بينهم وبين ما يشتهون قال الحسن معناه من الايمان والتوبة والرجوع الى الانابة والعمل الصالح وذلك انهم اشتهوه فى وقت لا تنفع فيه التوبة وقاله ايضا قتادة وقال مجاهد وحيل بينهم وبين نعيم الدنيا وقيل معناه حيل بينهم وبين الجنة ونعيمها كما فعل بأشياعهم من قبل والاشياع الفرق المتشابهة فأشياع هؤلاءهم الكفرة من كل امة ص قال ابو حيان ومريب اسم فاعل من آراب اي اتى بريبة وأربته اوقعته فى ريبة ونسبة الأرابة الى الشك مجاز قال ع والشك المريب اقوى ما يكون من الشك واشده اظلاما انتهى (3/251)
تفسير سورة فاطر وهى مكية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله فاطر السموات والارض جاعل الملائكة رسلا أولي اجنحة الآية رسلا معناه بالوحى وغير ذلك من اوامره سبحانه كجبريل وميكاءيل وعزراءيل رسل والملائكة المتعاقبون رسل وغير ذلك ومثنى وثلاث ورباع الفاظ معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة واربعة اربعة عدلت فى حالة التنكير فتعرفت بالعدل فهى لا تنصرف للعدل والتعريف وقيل للعدل والصفة وفائدة العدل الدلالة على التكرار لأن مثنى بمنزلة قولك اثنين اثنين قال قتادة ان انواع الملائكة هم هكذا منها ماله جناحان ومنها ماله ثلاثة ومنها ماله اربعة ويشذ منها ماله اكثر من ذلك وروى ان لجبريل عليه السلام ست مائة جناح منها اثنان يبلغان من المشرق الى المغرب
وقوله تعالى يزيد فى الخلق ما يشاء تقرير لما يقع فى النفوس من التعجب عند الخبر بالملائكة اولى الاجنحة اي ليس هذا ببدع فى قدرة الله تعالى فانه يزيد فى الخلق ما يشاء وروى عن الحسن وابن شهاب انهما قالا المزيد هو حسن الصوت قال الهيثم الفارسى رأيت النبى صلى الله عليه و سلم فى النوم فقال لى انت الهيثم الذى تزين القرءان بصوتك جزاك الله خيرا وقيل من الأقوال فى الزيادة غير هذا وذلك على جهة المثال لا ان المقصد هى فقط
وقوله تعالى ما يفتح الله ما شرط ويفتح مجزوم بالشرط
وقوله من رحمة عام فى كل خير يعطيه الله تعالى لعباده
وقوله من بعده فيه حذف مضاف اي من بعد امساكه ومن هذه آلاية (3/252)
سمت الصوفية ما تعطاه من الاموال والمطاعم وغير ذلك الفتوحات
وقوله تعالى يا ايها الناس خطاب لقريش وهو متوجه لكل كافر
وقوله سبحانه فلا تغرنكم الحيوة الدنيا ت هذه الاية معناها بين قال ابن عطاء الله ينبغى للعبد ان يقلل الدخول فى اسباب الدنيا فقد قال النبى صلى الله عليه و سلم ان قليل الدنيا يلهى عن كثير الآخرة وقال صلى الله عليه و سلم ما طلعت شمس الا وبجنبيها ملكان يناديان يا ايها الناس هلموا الى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر والهى انتهى من لطائف المنن وقرأ جمهور الناس الغرور بفتح الغين وهو الشيطان قاله ابن عباس
وقوله ان الشيطان لكم عدو الاية يقوى قراءة الجمهور فاتخذوه عدوا اي بالمباينة والمقاطعة والمخالفة له باتباع الشرع
وقوله تعالى افمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا توقيف وجوابه محذوف يمكن ان يقدر كمن اهتدى ونحو هذا من التقدير واحسن التقدير ما دل اللفظ بعد عليه وقرأ الجمهور فلا تذهب بفتح التاء والهاء نفسك بالرفع وقرأ قتادة وغيره تذهب بضم التاء وكسر الهاء نفسك بالنصب ورويت عن نافع والحسرة هم النفس على فوات امر وهذه الاية تسلية للنبى صلى الله عليه وسللم عن كفر قومه ووجب التسليم لله عز و جل فى اضلال من شاء وهداية من شاء
وقوله سبحانه والله الذى ارسل الرياح فتثير سحابا فسقناه الى بلد ميت هذه ءاية احتجاج عل الكفرة فى انكارهم البعث من القبور
وقوله تعالى من كان يريد العزة يحتمل ان يريد من كان يريد العزة بمغالبة فلله العزة اي ليست لغيره ولا تتم الا به ونحا اليه مجاهد وقال من كان يريد العزة بعبادة الاوثان قال ع وهذا تمسك بقوله تعالى واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا ويحتمل ان يريد من كان يريد العزة وطريقها القويم وكحب نيلها على وجهها فلله العزة اي به وعن اوامره لا تنال عزته الا بطاعته ونحا اليه قتادة
وقوله تعالى اليه يصعد (3/253)
الكلم الطيب اي التوحيد والتحميد وذكر الله ونحوه
وقوله والعمل الصالح يرفعه قيل المعنى يرفعه الله وهذا ارجح الاقوال وقال ابن عباس وغيره ان العمل الصالح هو الرافع للكلم وهذا التأويل انما يستقيم بأن يتأول على معنى انه يزيد فى رفعة وحسن موقعه ت وعن ابن مسعود قال اذا حدثناكم بحديث اتيناكم بتصديق ذلك فى كتاب الله سبحانه ان العبد اذا قال سبحان الله والحمد لله والله اكبر وتبارك الله قبض عليهن ملك فضمهن تحت جناحه وصعدبهن لايمر بهن على جمع من الملائكة الا استغفروا لقائلهن حتى يجاء بهن وجه الرحمن سبحانه ثم تلا عبد الله بن مسعود اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه رواه الحاكم فى المستدرك وقال صحيح الاسناد انتهى من السلاح ويمكرون السيئات اي المكرات السيئات ويبور معناه يفسد ويبقى لا نفع فيه
وقوله تعالى والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم ازواجا وما تحمل من انثى ولا تضع الا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره الآية قيل معنى الازواج هنا الانواع وقيل اراد تزويج الرجال النساء والضمير فى عمره قال ابن عباس وغيره ما مقتضاه انه عائد على معمر الذى هو اسم جنس والمراد غير الذى يعمر وقال ابن جبير وغيره بل المراد شخص واحد وعليه يعود الضمير اي ما يعمر انسان ولا ينقص من عمره بأن يحصى ما مضى منه اذا مر حول كتب ما مضى منه فاذا مر حول آخر كتب ذلك ثم حول ثم حول فهذا هو النقص قال ابن جبير فما مضى من عمره فهو النقص وما يستقبل فهو الذى يعمره
وقوله تعالى وما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اجاج ومن كل تاكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون تقدم تفسير نظير هذه الآية
وقوله تعالى وسخر الشمس والقمر كل لاجل مسمى الاية الاجل المسمى هو قيام (3/254)
الساعة وقيل ءاماد الليل وءاما النهار والقطمير القشرة الرقيقة التى على نوى التمرة وقال الضحاك وغيره القطمير القمع الذى فى رأس التمرة والاول اشهر واصوب ثم بين تعالى بطلان الاصنام بثلاثة اشياء اولها انها لا تسمع ان دعيت والثانى انها لا تجيب ان لو سمعت وانما جاء بهذه لان القائل متعسف ان يقول عساها تسمع والثالث انها تتبرأ يوم القيامة من الكفرة
وقوله تعالى ولا ينبئك مثل خبير قال المفسرون الخبير هنا هو الله سبحانه فهو الخبير الصادق الخبر ونبأ بهذا فلا شك فى وقوعه
وقوله تعالى يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله الاية ءاية وعظ وتذكير والانسان فقير الى الله تعالى فى دقائق الأمور وجلائلها لا يستغنى عنه طرفة عين وهو به مستغن عن كل احد والله هو الغنى الحميد اي المحمود بالاطلاق
وقوله بعزيز اي بمتنع وتزر معناه تحمل وهذه الاية فى الذنوب وانثت وازرة لانه ذهب بها مذهب النفس وعلى ذلك اجريت مثقلة واسم كان مضمر تقديره ولوكان الداعى ثم اخبر تعالى نبيه انه انما ينذر اهل الخشية ثم حض على التزكى بأن رجى عليه غاية الترجية ثم توعد بعد ذلك بقوله والى الله المصير قال ع وكل عبارة فهى مقصرة عن تفسير هذه الاية وكذلك كتاب الله كله ولكن يظهر الأمر لنا نحن فى مواضع اكثر منه فى مواضع بحسب تقصيرنا
وقوله سبحانه وما يستوى الاعمى والبصير الاية مضمن هذه آلاية الطعن على الكفرة وتمثيلهم بالعمى والظلمات وتمثيل المؤمنين بإزائهم بالبصراء والانوار والحرور شدة الحر قال الفراء وغيره ان السموم يختص بالنهار والحرور يقال فى حر الليل وحر النهار وتأول قوم الظل فى هذه الاية الجنة والحرور جهنم وشبه المؤمنين بالأحياء والكفرة بالأموات من حيث لا يفهمون الذكر ولا يقبلون عليه
وقوله سبحانه وما انت بمسمع من فى القبور تمثيل بما يحسه البشر ويعهده جميعا من ان الميت الشخص (3/255)
الذى فى القبر لا يسمع واما الارواح فلا نقول انها فى القبر بل تتضمن الاحاديث ان ارواح المؤمنين فى شجر عند العرش وفى قناديل وغير ذلك وان ارواح الكفرة فى سجين ويجوز فى بعض الاحيان ان تكون الارواح عند القبور فربما سمعت وكذلك اهل قليب بدر انما سمعت ارواحهم فلا تعارض بين الآية وحديث القليب وقوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير معناه أن دعوة الله تعالى قد عمت جميع الخلق وإن كان فيهم من لم تباشره النذارة فهو ممن بلغته لأن آدم بعث إلى بنيه ثم لم تنقطع النذارة إلى زمن محمد صلى الله عليه و سلم والبينات والزبر والكتاب المنير شيء واحد لكنه أكد أوصاف بعضها ببعض وقوله تعالى ومن الجبال جدد الآية جمع جدة وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولا وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه أنه يقال جدد في جمع جديد ولا معنى لمدخل الجديد في هذه الآية وقال الثعلبي وقيل الجدد القطع جددت الشيء إذا قطعته انتهى
وقوله وغرابيب سود لفظان لمعنى واحد وقدم الوصف الابلغ وكان حقه ان يتأخر وكذلك هو فى المعنى لكن كلام العرب الفصيح يأتى كثيرا على هذا النحو والمعنى ومنها اي من الجبال سود غرابيب وروى عن النبى صلى الله عليه و سلم انه قال ان الله يبغض الشيخ الغربيب يعنى الذى يخضب بالسواد ومن الناس والدواب والانعام اي خلق مختلف الوانه
وقوله تعالى كذلك يحتمل ان يكون من كلام الاول فيجىء الوقف عليه حسنا والى هذا ذهب كثير من المفسرين ويحتمل ان يكون من الكلام الثانى خرج مخرج السبب كأنه قال كما جاءت القدرة فى هذا كله كذلك انما يخشى الله من عبادة العلماء اي المحصلون لهذه العبر الناظرون فيها وفى الحديث عن النبى صلى الله عليه و سلم اعلمكم بالله اشدكم له خشية وقال صلى الله عليه و سلم رأس (3/256)
الحكمة مخافة الله وقال الربيع بن انس من لم يخش الله فليس بعالم وقال ابن عباس فى تفسير هذه الاية كفى بالزهد علما ويقال ان فاتحة الزبور رأس الحكمة خشية الله وقال ابن مسعود كفى بخشية الله علما وبالاغترار به جهلا وقال مجاهد والشعبى انما العالم من يخشى الله وانما فى هذه الاية تحضيض للعملاء لا للحصر قال ابن عطاء الله فى الحكم العلم النافع هو الذى ينبسط فى الصدر شعاعه ويكشف به عن القلب قناعه خير العلم ما كانت الخشية معه والعلم ان قارنته الخشية فلك والا فعليك وقال فى التنوير اعلم ان العلم حيث ما تكرر فى الكتاب العزيز او فى السنة فانما المراد به العلم النافع الذى تقارنه الخشية وتكتنفه المخافة قال تعالى انما يخشى الله من عباده العلماء فبين سبحانه ان الخشية تلازم العلم وفهم من هذا ان العلماء انما هم اهل الخشية انتهى قال ابن عباد فى شرح الحكم واعلم ان العلم النافع المتفق عليه فيما سلف وخلف انما هو العلم الذى يؤدى صاحبه الى الخوف والخشية وملازمة التواضع والذلة والتخلق باخلاق الايمان الى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها وايثار الاخرة عليها ولزوم الادب بين يدى الله تعالى الى غير ذلك من الصفات العلية والمناحى السنية انتهى وهذه المعانى كلها محصلة فى كتب الغزالى وغيره رضى الله عن جميعهم ونفعنا ببركاتهم قال صاحب الكلم الفارقية والحكم الحقيقية العلم النافع ما زهدك فى دنياك ورغبك فى اخراك وزاد فى خوفك وتقواك وبعثك على طاعة مولاك وصفاك من كدر هواك وقال رحمة الله العلوم النافعة ما كانت للهمم رافعة وللاهواء قامعة وللشكوك صارفة دافعة انتهى
وقوله تعالى ان الذين يتلون كتاب الله واقاموا الصلاة وانفقوا مما رزقناهم الاية قال مطرف بن عبد الله بن الشخير هذه ءاية القراء قال ع وهذا على ان يتلون بمعنى يقرءون وان جعلناه بمعنى يتبعون صح معنى الاية وكانت فى القراء وغيرهم (3/257)
ممن اتصف بأوصاف الاية وكتاب الله هو القرءان واقامة الصلاة اي بجميع شروطها والنفقة هى فى الصدقات ووجوه البر ولن تبور معناه لن تكسد ويزيدهم من فضله قالت فرقة هو تضعيف الحسنات وقالت فرقة هو اما النظر الى وجه الله عز و جل واما ان يجعلهم شافعين فى غيرهم ما قال للذين احسنوا الحسنى وزيادة ت وقد خرج ابو نعيم بإسناده عن الثورى عن شقيق عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليوفيهم اجورهم ويزيدهم من فضله قال اجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع اليه المعروف فى الدنيا وخرج ابن ماجة فى سننه عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يصف الناس صفوفا وقال ابن نمير اهل الجنة فيمر الرجل من اهل النار على الرجل من اهل الجنة فيقول يا فلان اما تذكر يوم استسقيتنى فسقيتك شربة قال فيشفع له ويمر الرجل على الرجل فيقول اما تذكر يوم ناولتك طهورا فيشفع له قال ابن نمير ويقول يا فلان اما تذكر يوم بعثتنى لحاجة كذا وكذا فذهبت لك فيشفع له وخرجه الطحاوى وابن وضاح بمعناه انتهى من التذكرة
وقوله تعالى ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا الاية اورثنا معناه أعطيناه فرقة بعد موت فرقة والكتاب هنا يريد به معانى الكتاب وعلمه واحكامه وعقائده فكأن الله تعالى لما اعطى امة محمد القرءان وهو قد تضمن معانى الكتب المنزلة قبله فكأنه ورث امة محمد الكتاب الذى كان فى الأمم قبلها قال ابن عطاء الله فى التنوير قال الشيخ ابو الحسن الشاذلى رحمه الله تعالى اكرم المؤمنين وان كانوا عصاه فاسقين وامرهم بالمعروف وانههم عن المنكر واهجرهم رحمه بهم لا تعززا عليهم فلو كشف عن نور المؤمن العاصى لطبق السماء والارض فما ظنك بنور المؤمن المطيع ويكفيك فى تعظيم المؤمنين وان كانوا عن الله غافلين قول رب العالمين ثم اورثنا الكتاب (3/258)
الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات باذن الله فانظر كيف اثبت لهم الاصطفاء مع وجود ظلمهم واعلم انه لا بد فى مملكته من عباد هم نصيب الحلم ظهور الرحمة والمغفرة ووقوع الشفاعة انتهى والذين اصطفينا يريد بهم امة محمد صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس وغيره واصطفينا معناه اخترنا وفضلنا والعباد عام فى جميع العالم واختلف فى عود الضمير من قوله فمنهم فقال ابن عباس وغيره ما مقتضاه ان الضمير عائد على الذين اصطفينا وان الاصناف الثلاثة هى كلها فى امة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فالظالم لنفسه العاصى المسرف والمقتصد متقى الكبائر وهم جمهور الامة والسابق المتقى على الاطلاق وقالت هذه الفرقة الاصناف الثلاثة فى الجنة وقاله ابو سعيد الخدرى والضمير فى يدخلونها عائد على الاصناف الثلاثة قالت عائشة وكعب دخلوها كلهم ورب الكعبة وقال ابو اسحاق السبيعي اما الذى سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج وقال ابن مسعود هذه الأمة يوم القيامة اثلاث ثلث يدخلون الجنة بغير حساب وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة وثلث يجيئون بذنوب عظام فيقول الله عز و جل ما هؤلاء وهو اعلم بهم فتقول الملائكة هم مذنبون الا انهم لم يشركوا فيقول عز و جل ادخلوهم فى سعة رحمتى وروى اسامة بن زيد ان النبى صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الاية وقال كلهم فى الجنة وقرأ عمر هذه الاية ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له وقال عكرمة والحسن وقتادة ما مقتضاه ان الضمير فى منهم عائد على العباد فالظالم لنفسه الكافر والمقتصد المؤمن العاصى والسابق التقى على الاطلاق وقالوا هذه الاية نظير قوله تعالى وكنتم ازواجا ثلاثة الاية والضمير فى يدخلونها على هذا التأويل خاص بالمقتصد والسابق وباقي الاية بين والحزن فى هذه الاية عام فى جميع انواع الاحزان (3/259)
وقولهم ان ربنا لغفور شكور وصفوه سبحانه بأنه يغفر الذنوب ويجازى على القليل من الاعمال بالكثير من الثواب وهذا هو شكره لارب سواه ودار المقامة الجنة والمقامة الاقامة والنصب تعب البدن واللغوب تعب النفس اللازم عن تعب البدن
وقوله سبحانه والذين كفروا لهم نار جهنم هذه الاية تؤيد التأويل الاول من ان الثلاثة الاصناف هى كلها فى الجنة لأن ذكر الكافرين افرد هاهنا
وقوله لا يقضى عليهم اي لا يجهز عليهم
وقولهم ربنا اخرجنا اي يقولون هذه المقالة فيقال لهم على جهة التوبيخ او لم نعمركم الاية واختلف فى المدة التى هى حد للتذكر فقال الحسن بن ابي الحسن البلوغ يريد انه اول حال التذكر وقال ابن عباس اربعون سنة وهذا قول حسن ورويت فيه ءاثار وروى ان العبد اذا بلغ اربعين سنة ولم يتب مسح الشيطان على وجهة وقال بأبى وجه لا يفلح وقيل الستين وفيه حديث ت وفى البخارى من بلغ ستين سنة فقد اعذر الله اليه لقوله او لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير يعنى الشيب ثم اسند عن ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه و سلم قال اعذر الله امرءا اخراجله حتى بلغ ستين سنة انتهى والنذير فى قول الجمهور الانبياء قال الطبرى وقيل النذير الشيب وهذا ايضا قول حسن
وقوله فعليه كفره اي وبال كفره والمقت احتقارك الانسان من اجل معصيته والخسار مصدر خسر يخسر وارأيتم تتنزل عند سيبويه منزلة اخبرونى ولذلك لا تحتاج الى مفعولين والرؤية فى قوله ارونى رؤية بصر ت قال ابن هشام قوله من الارض من مرادفه فى ثم قال والظاهر انها لبيان الجنس مثلها ما ننسخ من آية انتهى ثم اضرب سبحانه عنهم بقوله بل ان يعد اي بل انما يعدون انفسهم غرورا
وقوله ان تزولا اي ليلا تزولا ومعنى الزوال هنا التنقل من مكانها والسقوط من علوها وعن ابن مسعود ان السماء لا تدور وانما تجرى فيها الكواكب
وقوله تعالى ولئن زالتا (3/260)
قيل اراد يوم القيامة
وقوله تعالى ان امسكهما من احد من بعده اي من بعد تركه الامساك قال ص ان امسكهما ان نافيه بمعنى ما وامسك جواب القسم المقدر قبل اللام الموطئة فى لئن وهو بمعنى يمسك لدخول ان الشرطية كقوله تعالى ولئن اتيت الذين اوتو الكتاب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك اي ما يتبعون وكقوله ولئن ارسلنا ريحا الاية الى قوله لظلوا من بعده اي ليظلون وحذف جواب ان فى هذه المواضع لدلالة جواب القسم عليه
وقوله من احد من زائدة لتأكيد الاستغراق انتهى
وقوله تعالى واقسموا بالله يعنى قريشا لئن جاءهم نذير ليكونن اهدى من احدى الأمم الاية وذلك انه روى ان كفار قريش كانت قبل الاسلام تنكر على اليهود والنصارى وتأخذ عليهم فى تكذيب بعضهم بعضا وتقول لو جاءنا نحن رسول لكنا اهدى من هؤلاء واحدى الأمم يريدون اليهود والنصارى فلما جاءهم نذير وهو محمد صلى الله عليه و سلم ما زادهم الا نفورا وقرأ ابن مسعود ومكرا سيئا ويحيق معناه يحيط ويحل وينزل ولا يستعمل الا فى المكروه وينظرون معنه ينتظرون والسنة الطريقة والعادة
وقوله فلن تجد لسنة الله تبديلا اي لتعذيبة الكفرة المكذبين وفى هذا وعيد بين
وقوله تعالى او لم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا اشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شىء فى السموات ولا فى الارض لما توعدهم سبحانه بسنة الأولين وقفهم فى هذه آلاية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك فى طريق الشام وغيره كديار ثمود ونحوها ويعجزه معناه يفوته ويفلته
وقوله تعالى ولو يواخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة الاية قوله من دابة مبالغة والمراد بنو ءادم لأنهم المجازون وقيل المراد الانس والجن وقيل المراد كل مادب من الحيوان واكثره انما هو لمنفعة ابن ءادم وبسببه والضمير فى ظهرها عائد على الارض والأجل المسمى القيامة (3/261)
وقوله تعالى فإن الله كان بعباده بصيرا وعيد وفيه للمتقين وعد وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله على ما انعم انتهى الجزء الثالث من الجواهر الحسان
فى تفسير القرءان (3/262)
تفسير سورة يس
وهي مكية باجماع إلا ان فرقة قالت ان قوله تعالى ونكتب ما قدموا وءاثارهم نزلت في بني سلمة حين أرادوا أن ينتقلوا إلى جوار مسجد النبي صلى الله عليه و سلم وورد في فضل يس آثار عديدة فعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه و سلم قال قلب القرآن يس لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له أقرؤوها على موتاكم رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم في المستدرك وهذا لفظ النسائي وهو عند الباقين مختصر انتهى من السلاح
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز و جل يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين قد تقدم الكلام في الحروف المقطعة ويختص هذا الموضع بأقوال منها أن ابن جبير قال يس اسم (4/2)
من أسماء محمد عليه السلام وقال ابن عباس معناه يا إنسان بالحبشية وقال أيضا هو بلغة طيء وقال قتادة يس قسم والصراط الطريق والمعنى إنك على طريق هدى ومهيع رشاد واختلف المفسرون في قوله تعالى ما أنذر آباؤهم فقال عكرمة ما بمعنى الذي والتقدير الشيء الذي أنذر ءاباؤهم من النار والعذاب ويحتمل أن تكون ما مصدرية على هذا القول ويكون الآباء هم الأقدمون على مر الدهر قوله فهم مع هذا التأويل بمعنى فإنهم دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة وقال قتادة ما نافية فالآباء على هذا هم الأقربون منهم وهذه الآية كقوله تعالى وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير وهذه النذارة المنفية هي نذارة المباشرة كما قدمنا وحق القول معناه وجب العذاب وسبق القضاء به وهذا فيمن لم يؤمن من قريش كمن قتل ببدر وغيرهم وقوله تعالى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا الآية قال مكي قيل هي حقيقة في الآخرة إذا دخلوا النار وقال ابن عباس وغيره الآية استعارة لحال الكفرة الذين أرادوا النبي صلى الله عليه و سلم بسوء فجعل الله هذه مثلا لهم في كفه إياهم عنه ومنعهم من أذايته حين بيتوه وقالت فرقة الآية مستعارة المعاني من منع الله تعالى إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه وهذا أرجح الأقوال والغل ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب وقوله فهي يحتمل أن تعود على الأغلال أي هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان والذقن مجتمع اللحيين فتضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء وذلك هو الأقماح وهو نحو الإقناع في الهيئة قال قتادة المقمح الرافع رأسه ويحتمل وهو قول الطبري أن تعود هي على الأيدي وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين وروي أن في مصحف ابن مسعود وأبي إنا جعلنا في أيمانهم وفي بعضها في أيديهم وأرى الناس علي بن أبي طالب الأقماح فجعل يديه تحت لحييه وألصقهما ورفع رأسه وقرأ الجمهور (4/3)
سدا بضم السين في الموضعين وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما سدا بفتح السين فقيل هما بمعنى أي حائلا يسد طريقهم وقال عكرمة ما كان مما يفعله البشر فهو بالضم وما كان خلقة فهو بالفتح ومعنى الآية إن طريق الهدى سد دونهم وقوله تعالى إنما تنذر من اتبع الذكر الآية إنما ليست للحصر هنا بل هي على جهة تخصيص من ينفعه الإنذار وإتباع الذكر هو العمل بما في كتاب الله والإقتداء به قال قتادة الذكر القرءان وقوله بالغيب أي بالخلوات عند مغيب الإنسان عن أعين البشر ثم أخبر تعالى بأحيائه الموتى ردا على الكفرة ثم توعدهم بذكر كتب الآثار واحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان فيدخل فيما قدم ويدخل في آثاره لكنه سبحانه ذكر الأمر من الجهتين ولينبه على الآثار التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير وشر وقال جابر بن عبدالله وأبو سعيد أن هذه الآية نزلت في بني سلمة على ما تقدم وقول النبي عليه السلام لهم دياركم تكتب آثاركم والإمام المبين قال قتادة وابن زيد هو اللوح المحفوظ وقالت فرقة أراد صحف الأعمال وقوله واضرب لهم مثلا أصحاب القرية الآية روي عن ابن عباس والزهري وعكرمة أن القرية هنا هي أنطاكية واختلف في هؤلاء المرسلين فقال قتادة وغيره كانوا من الحواريين الذين بعثهم عيسى حين رفع وصلب الذي ألقي عليه شبهه فتفرق الحواريين في الآفاق فقص الله تعالى هنا قصة الذين نهضوا إلى أنطاكية وقالت فرقة بل هؤلاء أنبياء من قبل الله عز و جل قال ع وهذا يرجحه قول الكفرة ما أنتم إلا بشر مثلنا فإنها محاورة إنما تقال لمن ادعى الرسالة من الله تعالى والآخر محتمل وذكر المفسرون في قصص الآية أشياء يطول ذكرها والصحة فيها غير متيقنة فاختصرته واللازم من الآية أن الله تعالى بعث إليها رسولين فدعيا أهل (4/4)
القرية إلى عبادة الله وتوحيده فكذبوهما فشدد الله أمرهما بثالث وقامت الحجة على أهل القرية وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى وقتلوه في آخر أمره وكفروا وأصابتهم صيحة من السماء فخمدوا وقرأ الجمهور فعززنا بشد الزاي على معنى قوينا وشددنا وبهذا فسره مجاهد وغيره وهذه الأمة أنكرت النبوءات بقولها وما أنزل الرحمن من شيء قال بعض المتأولين لما كذب أهل القرية المرسلين أسرع فيهم الجذام وقال مقاتل احتبس عنهم المطر فلذلك قالوا إنا تطيرنا بكم أي تشاءمنا بكم والأظهر أن تطير هؤلاء إنما كان بسبب ما دخل قريتهم من اختلاف كلمتهم وافتتان الناس وقوله أئن ذكرتم جوابه محذوف أي تطيرتم قاله أبو حيان وغيره انتهى وقولهم عليهم السلام طائركم معكم معناه حظكم وما صار لكم من خير وشر معكم أي من أفعالكم ومن تكسباتكم ليس هو من أجلنا وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر أإن ذكرتم بهمزتين الثانية مكسورة وقرأ نافع وغيره بتسهيل الثانية وردها ياء أين ذكرتم وأخبر تعالى عن حال رجل جاء من أقصى المدينة يسعى سمع المرسلين وفهم عن الله تعالى فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم إذ هو الحق فروي عن ابن عباس وغيره أن اسم هذا الرجل حبيب وكان نجارا وكان فيما قال وهب بن منبه قد تجذم وقيل كان في غار يعبد ربه فقال يا قوم اتبعوا المرسلين الآية وذكر الناس في أسماء الرسل صادق وصدوق وشلوم وغير هذا والله أعلم بصحته واختلف المفسرون في قوله فاسمعون فقال ابن عباس وغيره خاطب بها قومه أي على جهة المبالغة والتنبيه وقيل خاطب بها الرسل على جهة الإستشهاد بهم والإستحفاظ للأمر عندهم قال ع وهنا محذوف تواترت به الأحاديث والروايات وهو أنهم قتلوه فقيل له عند موته ادخل الجنة فلما أقر الله عينه بما رأى من الكرامة قال يا ليت قومي يعلمون الآية (4/5)
قيل أراد بذلك الإشفاق والنصح لهم أي لو علموا ذلك لآمنوا بالله تعالى وقيل أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم به ويخزيهم ذلك وهذا موجود في جبلة البشر إذا نال الشخص عزا وخيرا في أرض غربة ودان يعلم ذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم كما قيل ... العز مطلوب وملتمس ... وأحبه ما نيل في الوطن
قال ع والتأويل الأول أشبه بهذا العبد الصالح وفي ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم نصح قومه حيا وميتا وقال قتادة نصحهم على حالة الغضب والرضا وكذلك لا تجد المؤمن إلا ناصحا للناس وقوله تعالى وما أنزلنا على قومه من بعده من جند الآية مخاطبة للنبي صلى الله عليه و سلم فيها توعد لقريش وتحذير أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بقوم حبيب النجار قال مجاهد لم ينزل الله عليهم من جند أراد أنه لم يرسل إليهم رسولا ولا استعتبهم قال قتادة والله ما عاتب الله قومه بعد قتله حتى أهلكهم وقال ابن مسعود أراد لم يحتج في تعذيبهم إلى جند بل كانت صيحة واحدة لأنهم كانوا أيسر وأهون من ذلك واختلف في قوله تعالى وما كنا منزلين فقالت فرقة ما نافية وقالت فرقة ما عطف على جند أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم قبل ذلك وخامدون أي ساكنون موتى وقوله تعالى يا حسرة الحسرة التلهف وذلك أن طباع كل بشر توجب عند سماع حالهم وعذابهم على الكفر وتضييعهم أمر الله أن يشفق ويتحسر على العباد وقال الثعلبي قال الضحاك إنها حسرة الملائكة على العباد في تكذيبهم الرسل وقال ابن عباس حلوا محل من يتحسر عليه انتهى وقرأ الأعرج وأبو الزناد ومسلم بن جندب يا حسرة بالوقف على الهاء وهو أبلغ في معنى التحسر والتشفيق وهز النفس وقوله تعالى ما يأتيهم من رسول الآية تمثيل لفعل قريش وإياهم عني بقوله ألم يروا كم أهلكنا (4/6)
وقرأ جمهور الناس لما جميع بتخفيف الميم وذلك على زيادة ما للتأكيد والمعنى لجميع وقرأ عاصم والحسن وابن جبير لما بشد الميم قالوا هي بمنزلة إلا ومحضرون قال قتادة محشرون يوم القيامة وقوله تعالى وآية لهم الأرض الميتة أحييناها الآية وآية معناه وعلامة على الحشر وبعث الأجساد والضمير في لهم لكفار قريش والضمير في ثمرة قيل هو عائد على الماء الذي تضمنه ذكر العيون وقيل هو عائد على جميع ما تقدم مجملا كأنه قال من ثمر ما ذكرنا وما في قوله وما عملته أيديهم قال الطبري هي اسم معطوف على الثمر أي يقع الأكل من الثمر ومما عملته الأيدي بالغرس والزراعة ونحوه وقالت فرقة هي مصدرية وقيل هي نافية والتقدير أنهم يأكلون من ثمره وهو شيء لم تعمله أيديهم بل هي نعمة من الله تعالى عليهم والأزواج الأنواع من جميع الأشياء وقوله ومما لا يعلمون نظير قوله تعالى ويخلق ما لا تعلمون وقوله تعالى وآية لهم الليل نسلخ منه النهار هذه الآيات جعلها الله عز و جل أدلة على قدرته ووجوب الألوهية له ونسلخ معناه نكشط ونقشر فهي استعارة ت قال الهروي قوله تعالى وآية لهم الليل نسلخ منه النهار أي نخرجه منه إخراجا لا يبقى من ضوء النهار معه شيء انتهى ومظلمون داخلون في الظلام ومستقر في الشمس على ما في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم من طريق أبي ذر بين يدي العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها وهو في البخاري وفي حديث آخر أنها تسجد في عين حمئة ومنازل منصوبة على الظرف وهي المنازل المعروفة عند العرب وهي ثمانية وعشرون منزلة يقطع القمر منها كل ليلة منزلة وعودته هي استهلاله رقيقا وحينئذ يشبه العرجون وهو الغصن من النخلة الذي فيه شماريخ التمر فإنه ينحني ويصفر إذا قدم ويجيء أشبه شيء بالهلال قاله الحسن والوجود يشهد له والقديم معناه العتيق الذي قد مر عليه (4/7)
زمن طويل وينبغي هنا مستعملة فيما لا يمكن خلافه لأنها لا قدرة لها على غير ذلك والفلك فيما روي عن ابن عباس متحرك مستدير كفلكة المغزل فيه جميع الكواكب ويسبحون معناه يجرون ويعومون وقوله تعالى وآية لهم أنا حملنا ذرياتهم في الفلك الآية ذكر الذرية لضعفهم عن السفر فالنعمة فيهم أمكن والضمير المتصل بالذريات هو ضمير الجنس كأنه قال ذريات جنسهم أو نوعهم هذا أصح ما يتجه في هذا وأما معنى الآية فقال ابن عباس وجماعة يريد بالذريات المحمولين أصحاب نوح في السفينة ويريد بقوله من مثله السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة وإياها أراد بقوله وإن نشأ نغرقهم وقال مجاهد وغيره المراد بقوله إنا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة ويريد بقوله وخلقنا لهم من مثله ما يركبون الإبل وسائر ما يركب فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ الأقطار فقط ويعود قوله وإن نشأ نغرقهم على السفن الموجودة في الناس والصريخ هنا بمعنى المصرخ المغيث وقوله تعالى إلا رحمة منا قال الكسائي نصب رحمة على الإستثناء كأنه قال إلا أن نرحمهم وقوله إلى حين يريد إلى آجالهم المضروبة لهم ثم ابتدأ الأخبار عن عتو قريش بقوله وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم قال قتادة ومقاتل ما بين أيديهم هو عذاب الأمم الذي قد سبقهم في الزمن وهذا هو النظر الجيد وقال الحسن خوفوا بما مضى من ذنوبهم وبما يأتي منها قال ع وهذا نحو الأول في المعنى وقوله تعالى وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله الآية الضمير في قوله لهم لقريش وسبب الآية أن الكفار لما أسلم حواشيهم من الموالي وغيرهم والمستضعفين قطعوا عنهم نفقاتهم وصلاتهم وكان الأمر بمكة أولا فيه بعض الإتصال في وقت نزول آيات الموادعة فندب أولئك المؤمنون قراباتهم من الكفار إلى أن يصلوهم وينفقوا عليهم مما رزقهم (4/8)
الله فقالوا عند ذلك أنطعم من لو يشاء الله أطعمه وقالت فرقة سبب الآية إن قريشا شحت بسبب أزمة على المساكين جميعا مؤمن وغير مؤمن فندبهم النبي صلى الله عليه و سلم إلى النفقة على المساكين وقولهم يحتمل معنين أحدهما يخرج على اختيار لجهال العرب فقد روي أن أعربيا كان يرعى إبله فيجعل السمان في الخصب والمهازيل في المكان الجدب فقيل له في ذلك فقال أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله فيخرج قول قريش على هذا المعنى ومن أمثالهم كن مع الله على المدبر والتأويل الثاني أن يكون كلامهم بمعنى الإستهزاء بقول محمد عليه السلام إن ثم إلها هو الرزاق فكأنهم قالوا لم لا يرزقهم إلهك الذي تزعم أي نحن لا نطعم من لو يشاء هذا الإله الذي زعمت لأطعمه وقوله تعالى إن أنتم إلا في ضلال مبين يحتمل أن يكون من قول الكفرة للمؤمنين أي في أمركم لنا بالنفقة وفي غير ذلك من دينكم ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى للكفرة وقولهم متى هذا الوعد أي متى يوم القيامة وقيل أرادوا متى هذا العذاب الذي تتهددنا به وما ينظرون أي ينتظرون وما نافية وهذه الصيحة هي صيحة القيامة وهي النفخة الأولى وفي حديث أبي هريرة أن بعدها نفخة الصعق ثم نفخة الحشر وهي التي تدوم فمالها من فواق واصل يخصمون يختصمون والمعنى وهم يتحاورون ويتراجعون الأقوال بينهم وفي مصحف أبي بن كعب يختصمون ولا إلى أهلهم يرجعون لإعجال الأمر بل تفيض أنفسهم حيث ما أخذتهم الصيحة وقوله سبحانه ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون هذه نفخة البعث والأجداث القبور وينسلون أي يمشون مسرعين وفي قراءة ابن مسعود من أهبنا من مرقدنا وروي عن أبي بن كعب وغيره أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر قال ع وهذا غير صحيح الإسناد وإنما الوجه في قولهم من مرقدنا إنها استعارة كما تقول في (4/9)
قتيل هذا مرقده إلى يوم القيامة وقوله هذا ما وعد الرحمن جوز الزجاج أن يكون هذا إشارة إلى المرقد ثم استأنف ما وعد الرحمن ويضمر الخبر حق أو نحوه وقال الجمهور ابتداء الكلام هذا ما وعد الرحمن واختلف في هذه المقالة من قالها فقال ابن زيد هي من قول الكفرة وقال قتادة ومجاهد هي من قول المؤمنين للكفار وقال الفراء هي من قول الملائكة وقالت فرقة هي من قول الله تعالى على جهة التوبيخ وباقي الآية بين وقوله تعالى إن أصحاب الجنة اليوم في شغل قال ابن عباس وغيره هو افتضاض الأبكار وقال ابن عباس أيضا هو سماع الأوتار وقال مجاهد معناه نعيم قد شغلهم قال ع وهذا هو القول الصحيح وتعيين شيء دون شيء لا قياس له وقوله سبحانه هم وأزواجهم في ظلال جاء في صحيح البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه متعلق بالمسجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه انتهى وهذا الظل المذكور في الحديث هو في المحشر قال الشيخ ابن أبي جمرة رضي الله عنه وظلال الآخرة ما فيها مباح بل كلها قد تملكت بالأعمال التي عملها العاملون الذين هداهم الله تعالى فليس هناك لصعلوك الأعمال ظل انتهى وهو كما قال فشمر عن ساق الجد إن أردت الفوز أيها الأخ والسلام والأرائك السرر المفروشة قيل ومن شرطها أن تكون عليها حجلة وإلا فليست بأريكة وبذلك قيدها ابن عباس وغيره وقوله ما يدعون بمنزلة ما يتمنون قال أبو عبيدة العرب تقول ادع علي ما شئت بمعنى تمن علي وقوله سلام قيل هي صفة أي مسلم لهم وخالص وقيل هو مبتدأ وقيل هو خبر (4/10)
مبتدإ وقوله تعالى وامتازوا اليوم فيه حذف تقديره ونقول للكفرة وامتازوا معناه انفصلوا وانحجزوا لأن العالم في الموقف إنما هم مختلطون ت وهذا يحتاج إلى سند صحيح وفي الكلام إجمال ويوم القيامة هو مواطن ثم خاطبهم تعالى لما تميزوا توبيخا وتوقيفا على عهده إليهم ومخالفتهم له وعبادة الشيطان هي طاعته والإنقياد لإغوائه وقوله هذا صراط مستقيم إشارة إلى الشرائع إذ بعث الله آدم إلى ذريته ثم لم تخل الأرض من شريعة إلى ختم الرسالة بسيدنا محمد خاتم النبيين والجبل الأمة العظيمة ثم أخبر سبحانه نبيه محمدا عليه السلام أخبارا تشاركه فيه أمته بقوله اليوم نختم على أفواههم وذلك أن الكفار يجحدون ويطلبون شهيدا عليهم من أنفسهم حسبما ورد في الحديث الصحيح فعند ذلك يختم الله تعالى على أفواههم ويأمر جوارحهم بالشهادة فتشهد وقوله سبحانه ولو نشاء لطمسنا على أعينهم الضمير في أعينهم لكفار قريش ومعنى الآية تبيين أنهم في قبضة القدرة وبمدرج العذاب قال الحسن وقتادة أراد الأعين حقيقة والمعنى لأعميناهم فلا يرون كيف يمشون ويؤيد هذا مجانسة المسخ للعمي الحقيقي وقوله فاستبقوا الصراط معناه على الفرض والتقدير كأنه قال ولو شئنا لأعميناهم فاحسب أو قدر أنهم يستبقون الصراط وهو الطريق فإني لهم بالأبصار وقد أعميناهم وعبارة الثعلبي وقال الحسن والسدي ولو نشاء لتركناهم عميا يترددون فكيف يبصرون الطريق حينئذ انتهى وقال ابن عباس أراد أعين البصائر والمعنى لو شئنا لحتمنا عليهم بالكفر فلم يهتد منهم أحدا أبدا وبين تعالى في تنكيسه المعمرين وإن ذلك مما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتنكيسه تحول خلقه من القوة إلى الضعف ومن الفهم إلى البله ونحو ذلك ثم أخبر تعالى عن حال نبيه محمد عليه السلام رادا على من قال من الكفرة أنه شاعر وأن القرآن شعر بقوله وما علمناه الشعر الآية (4/11)
وقوله تعالى لتنذر من كان حيا أي حي القلب والبصيرة ولم يكن ميتا لكفره وهذه استعارة قال الضحاك من كان حيا معناه عاقلا ويحق القول معناه يحتم العذاب ويجب الخلود وقوله تعالى أولم يروا أنا خلقنا الآية مخاطبة لقريش أيضا وقوله أيدينا عبارة عن القدرة والله تعالى منزه عن الجارحة وقوله تعالى فهم لها مالكون تنبيه على النعمة وقوله وهم لهم جند محضرون أي يحضرون لهم في الآخرة على معنى التوبيخ والنقمة وسمى الأصنام جندا إذ هم عدة للنقمة من الكفرة ثم أنس الله نبيه عليه السلام بقوله فلا يحزنك قولهم وتوعد الكفرة بقوله إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون وقوله تعالى أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة الآية والصحيح في سبب نزول الآية هو ما رواه ابن وهب عن مالك وقاله ابن إسحاق وغيره أن أبي بن خلف جاء بعظم رميم ففته في وجه النبي صلى الله عليه و سلم وحياله وقال من يحي هذا يا محمد ولأبي هذا مع النبي صلى الله عليه و سلم مقامات ومقالات إلى أن قتله النبي صلى الله عليه و سلم بيده يوم أحد طعنه بحربة في عنقه وقوله ونسي خلقه يحتمل أن يكون نسيان الذهول ويحتمل أن يكون نسيان الترك والرميم البالي المتفتت وهو الرفاث ثم دلهم سبحانه على الإعتبار بالنشأة الأولى ثم عقب تعالى بدليل ثالث في إيجاد النار في العود الأخضر المرتوي ماء وهذا هو زناد العرب والنار موجودة في كل عود غير أنها في المتخلخل المفتوح المسام أوجد وكذلك هو المرخ والعفار وجمع الضمير جمع من يعقل في قوله مثلهم من حيث أن السموات والأرض متضمنة من يعقل من الملائكة والثقلين هذا تأويل جماعة وقيل مثلهم عائد على الناس وباقي الآية بين (4/12)
تفسير سورة الصافات وهي مكية بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز و جل والصافات صفا الآية أقسم الله تعالى في هذه الآية بأشياء من مخلوقاته قال ابن مسعود وغيره الصافات هي الملائكة تصف في السماء في عبادة الله عز و جل وقالت فرقة المراد صفوف بني آدم في القتال في سبيل الله قال ع واللفظ يحتمل أن يعم هذه المذكورات كلها قال مجاهد والزاجرات هي الملائكة تزجر السحاب وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى وقال قتادة الزاجرات هي آيات القرآن والتاليات ذكرا معناه القارئات قال مجاهد أراد الملائكة التي تتلو ذكره وقال قتادة أراد بني آدم الذين يتلون كتبه المنزلة وتسبيحه وتكبيره ونحو ذلك والمقسم عليه قوله إن إلهكم لواحد وقوله ما رد قال العراقي ما رد سخط عليه وهكذا مريد انتهى وهذا لفظه والملأ الأعلى أهل السماء الدنيا فما فوقها وسمي الكل منهم أعلى بالإضافة إلى ملإ الأرض الذي هو أسفل والضمير في يسعون للشياطين وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص لا يسمعون بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون فينتفي على قراءة الجمهور سماعهم وإن كانوا يستمعون وهو المعنى الصحيح ويعضده قوله تعالى إنهم عن السمع لمعزولون ويقذفون معناه يرجمون والدحور الإصفار والإهانة لأن الدحر هو الدفع بعنف وقال البخاري ويقذفون يرمون ودحورا مطردين وقال ابن عباس مدحورا مطرودا انتهى والواصب الدائم قاله مجاهد وغيره وقال أبو صالح الواصب الموجع ومنه الوصب والمعنى هذه الحال هي (4/13)
الغالبة على جميع الشياطين إلا من شذ فخطف خبرا أو نبأ فاتبعه شهاب فأحرقه والثاقب النافذ بضوءه وشعاعه المنير قاله قتادة وغيره وقوله تعالى فاستفتهم أهم أشد خلقا أي فلا يمكنهم أن يقولوا إلا أن خلق من سواهم من الأمم والملائكة والجن والسموات والأرض والمشارق والمغارب وغير ذلك هو أشد من هؤلاء المخاطبين وبان الضمير في خلقنا يراد به ما تقدم ذكره قال مجاهد وقتادة وغيرهما ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود أم من عددنا وكذلك قرأ الأعمش وقوله تعالى إنا خلقناهم من طين أي خلق أصلهم وهو آدم عليه السلام واللازب والازم يلزم ما جاوره ويلصق به وهو الصلصال بل عجبت يا محمد من أعراضهم عن الحق وقرأ حمزة والكسائي بل عجبت بضم التاء وذلك على أن يكون تعالى هو المتعجب ومعنى ذلك من الله تعالى أنه صفة فعل ونحوه قوله صلى الله عليه و سلم يعجب الله من الشاب ليست له صبوة فإنما هي عبارة عما يظهره الله تعالى في جانب المتعجب منه من التعظيم أوالتحقير حتى يصير الناس متعجبين منه قال الثعلبي قال الحسين ابن الفضل التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه وهو لغة العرب انتهى وقوله ويسخرون أي وهم يسخرون من نبوتك وقوله وإذا رأوا آية يستسخرون يريد بالآية العلامة والدلالة وروي أنها نزلت في ركانة وهو رجل من المشركين من أهل مكة لقيه النبي صلى الله عليه و سلم في جبل خال وهو يرعى غنما له وكان أقوى أهل زمانه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم يا ركانة أرأيت أن صرعتك أتؤمن بي قال نعم فصرعه النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثا ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها ونحو ذلك مما اختلفت فيه ألفاظ الحديث فلما فرغ ذلك لم يؤمن وجاء إلى مكة فقال يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت هذه الآية فيه وفي نظرائه ويستسخرون قال مجاهد وقتادة (4/14)
معناه يسخرون ثم أمر تعالى نبيه أن يجيب تقريرهم واستفهامهم عن البعث بنعم وأن يزيدهم في الجواب إنهم مع البعث في صغار وذلة واستكانة والداخر الصاغر الذليل وقد تقدم بيانه غير ما مرة والزجرة الواحدة هي نفخة البعث قال العراقي الزجرة الصيحة بانتهار انتهى والدين الجزاء وأجمع المفسرون على أن قوله تعالى هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ليس هو من قول الكفرة وإنما المعنى يقال لهم وقوله وأزواجهم معناه أنواعهم وضرباؤهم قاله عمر وابن عباس وقتادة ومعهم ما كانوا يعبدون من دون الله من آدمي رضي بذلك ومن صنم ووثن توبيخا لهم وإظهار لسوء حالهم وقال الحسن أزواجهم نساؤهم المشركات وقاله ابن عباس أيضا وقوله تعالى فاهدوهم معناه قدموهم واحملوهم على طريق الجحيم ثم يأمر الله تعالى بوقوفهم على جهة التوبيخ لهم والسؤال قال جمهور المفسرين يسئلون عن أعمالهم ويوقفون على قبحها وقد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم لا تزول قدما عبد الحديث قال ع ويحتمل عندي أن يكون المعنى على نحو ما فسره تعالى بقوله ما لكم لا تناصرون أي أنهم مسئولون عن امتناعهم عن التناصر وهذا على جهة التوبيخ وقرأ خالد لا تتناصرون ت قال عياض في المدارك كان أبو إسحاق الجبنياني ظاهر الحزم كثير الدمعة يسرد الصيام قال ولده أبو الطاهر قال لي أبي إن إنسانا بقي في آية سنة لم يتجاوزها وهي قوله تعالى وقفوهم إنهم مسئولون فقلت له أنت هو فسكت فعلمت أنه هو وكان إذا دخل في الصلاة لو سقط البيت الذي هو فيه ما التفت إقبالا على صلاته واشتغالا بمناجاة ربه وكان رحمه الله من أشد الناس تضييقا على نفسه ثم على أهله وكان يأكل البقل البري والجراد إذا وجده ويطحن قوته بيده شعيرا ثم يجعله بنخالته دقيقا في قدر مع ما وجد من بقل بري وغيره حتى أنه ربما رمى بشيء منه لكلب أو هر فلا يأكله (4/15)
وكان لباسه يجمعه من خرق المزابل ويرقعه وكان يتوطأ الرمل وفي الشتاء يأخذ قفاف المعاصر الملقاة على المزابل يجعلها تحته قال ولده أبو الطاهر وكنا إذا بقينا بلا شيء نقتاته كنت أسمعه في الليل يقول ... ما لي تلاد ولا استطرفت من نشب ... وما أأمل غير الله من أحد ... إن القنوع بحمد الله يمنعني ... من التعرض للمنانة النكد ...
انتهى وقوله تعالى وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون هذه الجماعة التي يقبل بعضها على بعض هي جن وإنس قاله قتادة وتساؤلهم هو على معنى التقريع واللوم والتسخط والقائلون إنكم كنتم تأتوننا إما أن يكون الإنس يقولونها للشياطين وهذا قول مجاهد وابن زيد وإما أن يكون ضعفة الإنس يقولونها للكبراء والقادة واضطراب المتأولون في معنى قولهم عن اليمين فعبر ابن زيد وغيره عنه بطريق الجنة ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى ولا يختص بنفس اللفظة والذي يخصها معان منها أن يريد باليمين القوة أي تحملوننا على طريق الضلالة بقوة ومنها أن يريد باليمين اليمن أي تأتوننا من جهة النصائح والعمل الذي يتيمن به ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا إنكم كنتم تجيئوننا من جهة الشهوات وأكثر ما يتمكن هذا التأويل مع إغواء الشياطين وقيل المعنى تحلفون لنا فاليمين على هذا القسم وقد ذهب بعض العلماء في ذكر إبليس جهات بني آدم في قوله من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم إلى ما ذكرناه من جهة الشهوات ثم أخبر تعالى عن قول الجن المجيبين لهؤلاء بقولهم بل لم تكونوا مؤمنين أي ليس الأمر كما ذكرتم بل كان لكم اكتساب الكفر وما كان لنا عليكم حجة وبنحو هذا فسر قتادة وغيره أنه قول الجن إلى غاوين ثم أخبر تعالى بأنهم جميعا في العذاب مشتركون وأن هذا فعله بأهل الجرم والكفر وقوله سبحانه إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله (4/16)
الآية ت جاء في فضل لا إله إلا الله أحاديث كثيرة فمنها ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال قال موسى يا رب علمني شيأ أذكرك به وأدعوك به قال قل يا موسى لا إله إلا الله قال يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل لا إله إلا الله قال إنما أريد شيأ تخصني به قال يا موسى لو أن السموات السبع والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله رواه النسائي وابن حبان في صحيحه واللفظ لابن حبان وعنه صلى الله عليه و سلم قال وقول لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا يشبهها عمل رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين وقال صحيح الإسناد انتهى من السلاح والطائفة التي قالت أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون هي قريش وإشارتهم بالشاعر إلى النبي صلى الله عليه و سلم فرد الله عليهم بقوله بل جاء بالحق وصدق المرسلين الذين تقدموه ثم أخبر تعالى مخاطبا لهم بقوله إنكم لذائقوا العذاب الأليم الآية وقوله تعالى إلا عباد الله المخلصين استثناء منقطع وهؤلاء المؤمنون وقوله معلوم معناه عندهم وقوله بيضاء يحتمل أن يعود على الكاس ويحتمل أن يعود على الخمر وهو أظهر قال الحسن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن وفي قراءة ابن مسعود صفراء فهذا وصف الخمر وحدها والغول اسم عام في الأذى وقال ابن عباس وغيره الغول وجع في البطن وقال قتادة هو صداع في الرأس وينزفون من قولك نزف الرجل إذا سكر وبإذهاب العقل فسره ابن عباس وقرأ حمزة والكسائي ينزفون بكسر الزاي من أترف وله معنيان أحدهما سكر والثاني نفد شرابه وهذا كله منفي عن أهل الجنة وقاصرات الطرف قال ابن عباس وغيره معناه على أزواجهن أي لا ينظرون إلى غيرهم وعين جمع عيناء وهي الكبيرة العينين في جمال وقوله تعالى كأنهن بيض مكنون قال ابن جبير والسدي شبه ألوانهن بلون قشر البيضة (4/17)
الداخلي وهو المكنون أي المصون ورجحه الطبري وقال الجمهور شبه ألوانهن بلون قشر البيضة من النعام وهو بياض قد خالطته صفرة حسنة ومكنون أي بالريش وقال ابن عباس فيما حكى الطبري البيض المكنون أراد به الجوهر المصون قال ع وهذا يرده لفظ الآية فلا يصح عن ابن عباس وقوله تعالى فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم الآية هذا التساؤل الذي بين أهل الجنة هو تساؤل راحة وتنعم يتذاكرون أمورهم في الجنة وأمر الدنيا وحال الطاعة والإيمان فيها ثم أخبر تعالى عن قول قائل منهم في قصته وهو مثال لكل من له قرين سوء فيعطي هذا المثال التحفظ من قرناء السوء قال الثعلبي قوله إني كان لي قرين قال مجاهد كان شيطانا انتهى وقال ابن عباس وغيره كان هذان من البشر مؤمن وكافر وقال فرات بن ثعلبة البهراني في قصص هذين أنهما كانا شريكين بثمانية آلاف دينار فكان أحدهما مشغولا بعبادة الله وكان الآخر كافرا مقبلا على ماله فحل الشركة مع المؤمن وبقي وحده لتقصير المؤمن في التجارة وجعل الكافر كلما اشترى شيأ من دار أو جارية أو بستان ونحوه عرضه على المؤمن وفخر عليه فيمضي المؤمن عند ذلك ويتصدق بنحو ذلك ليشتري به من الله تعالى في الجنة فكان من أمرهما في الآخرة ما تضمنته هذه الآية وحكى السهيلي أن هذين الرجلين هما المذكوران في قوله تعالى واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب الآية انتهى ومدينون معناه مجازون محاسبون قاله ابن عباس وغيره وقوله تعالى قال هل أنتم مطلعون الآية في الكلام حذف تقديره فقال لهذا الرجل حاضروه من الملائكة أن قرينك هذا في جهنم يعذب فقال عند ذلك هل أنتم مطلعون يخاطب بأنتم الملائكة أو رفقاءه في الجنة أو خدمته وكل هذا حكي المهدوي وقرأ أبو عمرو في رواية حسين مطلعون بسكون الطاء وفتح (4/18)
النون وقريء شاذا مطلعون بسكون الطاء وكسر النون قال ابن عباس وغيره سواء الجحيم وسطه فقال له المؤمن عند ذلك تالله إن كدت لترديني أي تهلكني بإغوائك والردى الهلاك وقول المؤمن أفما نحن بميتين إلى قوله بمعذبين يحتمل أن تكون مخاطبة لرفقائه في الجنة لما رأى ما نزل بقرينه ونظر إلى حاله في الجنة وحال رفقائه قدر النعمة قدرها فقال لهم على جهة التوقيف على النعمة أفما نحن بميتين ولا معذبين ويجيء على هذا التأويل قوله إن هذا لهو الفوز العظيم إلى قوله العاملون متصلا بكلامه خطابا لرفقائه ويحتمل قوله أفما نحن بميتين أن تكون مخاطبة لقرينه على جهة التوبيخ كأنه يقول أين الذي كنت تقول من أنا نموت وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب ويكون قوله تعالى إن هذا لهو الفوز العظيم إلى قوله العاملون يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه وإليه ذهب قتادة ويحتمل أن يكون من خطاب الله تعالى لمحمد عليه السلام وأمته ويقوى هذا قوله لمثل هذا فليعمل العاملون وهو حض على العمل والآخرة ليست بدار عمل وقوله تعالى أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم المراد بالآية تقرير قريش والكفار قال ع وفي بعض البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرة مرة مسمومة لها لبن إن مس جسم أحد تورم ومات منه في أغلب الأمر تسمى شجرة الزقوم والتزقم في كلام العرب البلع على شدة وجهد وقوله تعالى إنا جعلناها فتنة للظالمين قال قتادة ومجاهد والسدي يريد أبا جهل ونظرءاه وقد تقدم بيان ذلك وقوله تعالى كأنه رؤس الشياطين اختلف في معناه فقالت فرقة شبه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لها رؤس الشياطين وهي بناحية اليمن يقال لها الأستن وقالت فرقة شبه برؤوس صنف من الحيات يقال لها الشياطين وهي ذوات أعراف وقالت فرقة شبه بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها وإن كانت لا ترى (4/19)
لأن الناس إذا وصفوا شيأ بغاية القبح قالوا كأنه شيطان ونحو هذا قول امريء القيس ... أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال ...
فإنما شبه بما استقر في النفوس من هيئتها والشوب المزاج والخلط قاله ابن عباس وقتادة والحميم السخن جدا من الماء ونحوه فيريد به هاهنا شرابهم الذي هو طينة الخبال صديدهم وما ينماع منهم هذا قول جماعة من المفسرين وقوله تعالى ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم كقوله تعالى يطوفون بينهما وبين حميم آن وقوله سبحانه إنهم ألفوا آباءهم الآية تمثيل لقريش ويهرعون معناه يسرعون قاله قتادة وغيره وهذا تكسبهم للكفر وحرصهم عليه وقوله تعالى فانظر كيف كان عاقبة المنذرين يقتضي الإخبار بأنه عذبهم ولذلك حسن الإستثناء في قوله إلا عباد الله المخلصين ونداء نوح تضمن أشياء كطلب النصرة والدعاء على قومه وغير ذلك قال أبو حيان فلنعم المجيبون جواب قسم كقوله يمينا لنعم السيدان وجدتما والمخصوص بالمدح محذوف أي فلنعم المجيبون نحن انتهى وقوله تعالى وجعلنا ذريته هم الباقين قال ابن عباس وقتادة أهل الأرض كلهم من ذرية نوح وقالت فرقة إن الله تعالى أبقى ذرية نوح ومد نسله وليس الأمر بأن أهل الدنيا انحصروا إلى نسله بل في الأمم من لا يرجع إليه والأول أشهر عن علماء الأمة وقالوا نوح هو آدم الأصغر قال السهيلي ذكر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال في قوله عز و جل وجعلنا ذريته هم الباقين إنهم سام وحام ويافث انتهى وقوله تعالى وتركنا عليه في الآخرين معناه ثناء حسنا جميلا باقيا آخر الدهر قاله ابن عباس وغيره وسلام رفع بالإبتداء مستأنف سلم الله به عليه ليقتدي بذلك البشر ت قال أبو عمر في التمهيد قال سعيد يعني ابن (4/20)
عبد الرحمن الجمحي بلغني أنه من قال حين يمسى سلام على نوح في العالمين لم تلدغه عقرب ذكر هذا عند قول النبي صلى الله عليه و سلم للأسلمي الذي لدغته عقرب أما لو أنك قلت حين امسيت اعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضركك ان شاء الله قال ابو عمر وروي ابن وهب هذا الحديث عن مالك يعني حديث اعوذ بكلمات الله التامات بإسناده مثل ما في الموطإ إلا انه قال في ءاخره لم يضرك شيء انتهى وقوله تعالى ثم اغرقنا الآخرين قال جماعة من العلماء ان الغرق عم جميع الناس واسندوا في ذلك احاديث قالوا ولم يكن الناس حينئذ بهذه الكثرة لان عهد ءادم كان قريبا وكانت دعوة نوح ونبوته قد بلغت جميعهم لطول المدة واللبث فيهم فتمادوا على كفرهم ولم يقبلوا ما دعاهم اليه من عبادة الرحمن فلذلك اغرق الله جميعهم وقوله تعالى وإن من شيعته قال ابن عباس وغيره الضمير عائد على نوح والمعنى في الدين والتوحيد وقال الطبري وغيره عن الفراء الضمير عائد على محمد والاشارة اليه وقوله أئفكا استفهام بمعنى التقرير اي اكذبا ومحالا ءالهة دون الله تريدون وقوله فما ظنكم توبيخ وتحذير وتوعد وقوله تعالى فنظر في النجوم روي ان قومه كان لهم عيد يخرجون اليه فدعوا ابراهيم عليه السلام إلى الخروج معهم فنظر حينئذ واعتذر بالسقم واراد البقاء ليخالفهم إلى الاصنام وروي ان علم النجوم كان عندهم منظورا فيه مستعملا فاوهمهم هو من تلك الجهة قالت فرقة وقوله اني سقيم من المعاريض الجائزة وقوله تعالى فراغ إلى ءالهتهم راغ معناه مال وقوله ألا تأكلون هو على جهة الاستهزاء بعبدة تلك الاصنام ثم مال عند ذلك إلى ضرب تلك الاصنام بفاس حتى جعلها جذاذا واختلف في معنى قوله باليمين فقال ابن عباس اراد يمنى يديه وقيل اراد بقوته لانه كان يجمع يديه معا بالفاس وقيل اراد باليمين القسم في قوله وتالله لاكيدن اصنامكم (4/21)
والضمير في اقبلوا لكفار قومه ويزفون معناه يسرعون واختلف المتأولون في قوله وما تعملون فمذهب جماعة من المفسرين ان ما مصدرية والمعنى ان الله خلقكم واعمالكم وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق الله تعالى افعال العباد وهو مذهب اهل السنة وقالت فرقة ما بمعنى الذي والبنيان قيل كان في موضع ايقاد النار وقيل بل كان للمنجنيق الذي رمي عنه والله اعلم وقوله اني ذاهب الى ربي الآية قالت فرقة كان قوله هذا بعد خروجه من النار وانه اشار بذهابه الى هجرته من ارض بابل حيث كانت مملكة نمرود فخرج الى الشام وقالت فرقة قال هذه المقالة قبل ان يطرح في النار وانما اراد لقاء الله لأنه ظن ان النار سيموت فيها وقال سيهدين اي الى الجنة نحا إلى هذا المعنى قتادة قال ع وللعارفين بهذا الذهاب تمسك واحتجاج في الصفاء وهو محمل حسن في اني ذاهب وحده والتأويل الأول أظهر في نمط الآية بما يأتي بعد لأن الهداية معه تترتب والدعاء في الولد كذلك ولا يصح مع ذهاب الموت وباقي الآية تقدم قصصها وان الراجح ان الذبيح هو اسماعيل وذكر الطبري ان ابن عباس قال الذبيح اسماعيل وتزعم اليهود انه اسحاق وكذبت اليهود وذكر ايضا ان عمر بن عبدالعزيز سأل عن ذلك رجلا يهوديا كان اسلم وحسن اسلامه فقال الذبيح هو اسماعيل وان اليهود لتعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ان تكون هذه الآيات والفضل والله في ابيكم والسعي في هذه الآية العمل والعبادة والمعونة قاله ابن عباس وغيره وقال قتادة السعي على القدم يريد سعيا متمكنا وهذا في المعنى نحو الأول وقوله إني أرى في المنام الآية يحتمل أن يكون رأى ذلك بعينه ورؤيا الأنبياء وحي وعين له وقت الإمتثال ويحتمل أنه أمر في نومه بذبحه فعبر عن ذلك بقوله إني أرى أي أرى ما يوجب أن أذبحك قال ابن العربي في أحكامه (4/22)
واعلم ان رؤيا الأنبياء وحي فما القى إليهم ونفث به الملك في روعهم وضرب المثل له عليهم فهو حق ولذلك قالت عائشة وما كنت اظن أنه ينزل في قرءان يتلى ولكنى رجوت أن يرى رسول الله ص - رؤيا يبرئنى الله بها وقد بينا حقيقة الرؤيا وأن البارى تعالى يضربها مثلا للناس فمنها أسماء وكنى فمنها رؤيا تخرج بصفتها ومنها رؤيا تخرج بتأويل وهو كنيتها ولما استسلم إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام لقضاء الله أعطي إبراهيم ذبيحا فداء وقيل له هذا فداء ولدك فامتثل فيه ما رأيت فإنه حقيقة ما خطبناك فيه وهو كناية لا اسم وجعله مصدقا للرؤيا بمبادرة الامتثال انتهى وقوله تعالى فلما اسلما أي اسلما أنفسهما واستسلما لله عز و جل وقرأ ابن عباس وجماعة سلما والمعنى فوضا إليه في قضائه وقدره سبحانه فأسلم إبراهيم ابنه واسلم الابن نفسه قال بعض البصريين جواب لما محذوف تقديره فلما اسلما وتله للجبين اجزل اجرهما ونحو هذا مما يقتضيه المعنى وتله معناه وضعه بقوة ومنه الحديث في القدح فتله رسول الله ص - في يده أي وضعه بقوة وللجبين معناه لتلك الجهة وعليها كما يقولون في المثل وخر ضريعا لليدين وللفم وكما تقول سقط لشقه الأيسر والجبينان ما اكتنف الجبهة من هاهنا ومن هاهنا وأن من قوله أن يا إبراهيم مفسرة لا موضع لها من الإعراب وصدقت الرؤيا يحتمل أن يريد بقلبك أو بعملك والرؤيا اسم لما يرى من قبل الله تعالى والمنام والحلم اسم لما يرى من قبل الشيطان ومنه الحديث الصحيح الرؤيا من الله والحلم اسم لما يرى من قبل الله تعالى والمنام والحلم اسم لما يرى من قبل الشيطان ومنه الحديث الصحيح الرؤيا من الله والحلم من الشيطان والبلاء الاختبار والذبح العظيم في قول الجمهور كبش أبيض أعين وجده وراءه مربوطا بسمرة وأهل السنة على أن هذه القصة نسخ فيها العزم على الفعل خلافا للمعتزلة قال أحمد بن نصر الداودي وأن نسخ الله آية قبل العمل بها فإنما قبل العمل بها فإنما ينسخها بعد اعتقاد قبولها وهو عمل انتهى (4/23)
من تفسيره عند قوله تعالى ما ننسخ من آية قال ع ولا خلاف أن إبراهيم أمر الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع والجمهور أن أمر الذبح كان بمنى وقال الشعبي رأيت قرني كبش إبراهيم معلقتين في الكعبة وروى عمران بن حصين أن النبي ص - قال يا فاطمة قومى لأضحيتك فاشهديها فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه قولي إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين قال عمران قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة قال لا بل للمسلمين عامة رواه الحاكم في المستدرك انتهى من السلاح وقوله تعالى وظالم لنفسه توعد لمن كفر من اليهود بمحمد عليه السلام والكتاب المستبين هو التوراة قال قتادة وابن مسعود إلياس هو إدريس عليه السلام وقالت فرقة هو من ولد هارون وقرأ نافع وابن عامر على ءال ياسين وقرأ الباقون على الياسين بألف مكسورة ولام ساكنة فوجهت الأولى على أنها بمعنى أهل وياسين اسم لإلياس وقيل هو اسم لمحمد عليه السلام ووجهت الثانية على أنها جمع الياسي وقرأ ابن مسعود والأعمش وأن إدريس لمن المرسلين وسلام على إدريس قال السهيلي قال ابن جني العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا فياسين وإلياس والياسين شيء واحد انتهى ت وحكى الثعلبي هنا حكاية عن عبدالعزيز بن أبي رواد عن رجل لقي إلياس في أيام مروان بن الحكم وأخبره بعدد الأبدال وعن الخضر في حكاية طويلة لا ينبغي إنكار مثلها فأولياء الله يكاشفون بعجائب فلا يحرم الأنسان التصديق بها جعلنا الله من زمرة أوليائه انتهى وقوله اتدعون بعلا معناه اتعبدون قال الحسن والضحاك وابن زيد بعل اسم ضم كان لهم ويقال له بعلبك وذكر ابن إسحاق عن فرقة إن بعلا اسم امرأة كانت اتتهم بضلالة وقرأ حمزة والكساءي وعاصم الله ربكم (4/24)
ورب ءابائكم كل ذلك بالنصب بدلا من قوله أحسن الخالقين وقرأ الباقون كل ذلك بالرفع على القطع والإستيناف والضمير في كذبوه عائد على قوم إلياس ومحضرون معناه مجموعون لعذاب الله وقوله تعالى وأنكم لتمرون عليهم مخاطبة لقريش ثم وبخهم بقوله أفلا تعقلون وقوله تعالى وأن يونس الآية هو يونس بن متى ص - وهو من بنى إسرائيل وقوله تعالى إذ ابق الآية وذلك أنه لما أخبر قومه بوقت مجيء العذاب وغاب عنهم ثم أن قومه لما رأوا مخايل العذاب أنابوا إلى الله فقبل توبتهم فلما مضى وقت العذاب ولم يصبهم قال يونس لا ارجع إليهم بوجه كذاب وروي أنه كان في سيرتهم أن يقتلوا الكذاب فأبق إلى الفلك أي أراد الهروب ودخل في البحر وعبر عن هروبه بالإباق من حيث أنه فر عن غير إذن مولاه فروي عن ابن مسعود أنه لما حصل في السفينة وابعدت في البحر ركدت ولم تجر وغيرها من السفن يجري يمينا وشمالا فقال أهلها أن فينا لصاحب ذنب وبه يحبسنا الله تعالى فقالوا لنقترع فأخذوا لكل واحد سهما واقترعوا فوقعت القرعة على يونس ثلاث مرات فطرح حينئذ نفسه والتقمه الحوت وروي أن الله تعالى أوحى إلى الحوت إني لم اجعل يونس لك رزقا وإنما جعلت بطنك له حرزا وسجنا فهذا معنى فساهم والمدحض المغلوب في محاجةأو مساهمة وعبارة ابن العربي في الأحكام وأوحى الله تعالى إلى الحوت أنا لم نجعل يونس لك رزقا وإنما جعلنا بطنك له مسجدا الحديث انتهى ولفظة مسجد احسن من السجن فرحم الله عبدا لزم الأدب لا سيما مع أنبيائه واصفيائه والمليم الذي أتى ما يلام عليه وبذلك فسر مجاهد وابن زيد وقوله سبحانه فلولا أنه كان من المسبحين قيل المراد القائلين سبحان الله في بطن الحوت قاله ابن جريج وقالت فرقة بل التسبيح هنا الصلاة قال ابن عباس وغيره صلاته في (4/25)
وقت الرخاء نفعته في وقت الشدة وقال هذا جماعة من العلماء وقال الضحاك بن قيس على منبره اذكروا الله عباد الله في الرخاء يذكركم في الشدة أن يونس كان عبدالله ذاكرا له فلما أصابته الشدة نفعه ذلك قال الله عز و جل فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون وأن فرعون كان طاغيا باغيا فلما أدركه الغرق قال ءامنت فلم ينفعه ذلك فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة وقال ابن جبير الإشارة بقوله من المسبحين إلى قوله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وقوله سبحانه فنبذناه بالعراء الآية العراء الأرض الفيحاء التى لا شجر فيها ولا معلم قال ابن عباس وغيره في قوله وهو سقيم أنه كالطفل المنفوس بضعة لحم وقال بعضهم كاللحم النيء إلا أنه لم ينقص من خلقه شيء فأنعشه الله في ظل اليقطينة بلبن اروية كانت تغاديه وتراوحه وقيل بل كان يتغذى من اليقطينة ويجد منها ألوان الطعام وأنواع شهواته قال ابن عباس وأبو هريرة وعمرو بن ميمون اليقطين القرع خاصة وقيل كل ما لا يقوم على ساق كالبقول والقرع والبطيخ ونحوه مما يموت من عامة ومشهور اللغة أن اليقظين هو القرع فنبت لحم يونس عليه السلام وصح وحسن لونه لأن ورق القرع انفع شيء لمن تسلخ جلده وهو يجمع خصالا حميدة برد الظل ولين الملمس وأن الذباب لا يقربها حكى النقاش أن ماء ورق القرع إذا رش به مكان لم يقربه ذباب وروي أنه كان يوما نائما فأيبس الله تلك اليقطينة وقيل بعث عليها الأرضة فقطعت ورقها فانتبه يونس لحر الشمس فعز عليه شأنها وجزع له فأوحى الله إليه يا يونس جزعت ليبس اليقطينة ولم تجزع لإهلاك مائة ألف أو يزيدون تابوا فتبت عليهم وقوله تعالى وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون قال الجمهور أن هذه الرسالة هي رسالته الأولى ذكرها الله في ءاخر القصص وقال قتادة وغيره هذه رسالة أخرى (4/26)
بعد أن نبذ بالعراء وهي إلى أهل نينوى من ناحية الموصل وقرأ الجمهور أو يزيدون فقال ابن عباس أو بمعنى بل وروي عنه أنه قرأ بل يزيدون وقالت فرقة أو هنا بمعنى الواو وقرأ جعفر بن محمد ويزيدون وقال المبرد وكثير من البصريين قوله أو يزيدون المعنى على نظر البشر وحرزهم أي من رآهم قال مائة ألف أو يزيدون وروى أبي بن كعب عن النبي ص - أنهم كانوا مائة وعشرين ألفا ت وعباره أحمد بن نصر الداودي وعن أبي بن كعب قال سألت النبي ص - عن الزيادتين الحسنى وزيادة وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون قال يزيدون عشرين ألفا واحسبه قال الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عز و جل انتهى وفي قوله فآمنوا فمتعناهم إلى حين مثال لقريش أن آمنوا ومن هنا حسن انتقال القول والمحاورة إليهم بقوله فاستفتهم فإنما يعود على ضميرهم على ما في المعني من ذكرهم والاستفتاء السؤال وهو هنا بمعنى التقريع والتوبيخ في جعلهم البنات لله تعالى الله عن قولهم ثم أخبر الله تعالى عن فرقة منهم بلغ بها الافك والكذب إلى أن قالت ولد الله الملائكة لأنه نكح في سروات الجن تعالى الله عن قولهم وهذه فرقة من بنى مدلج فيما روي وقرأ الجمهور اصطفى البنات بهمزة الاستفهام على جهة التقريع والتوبيخ وقوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا الجنة هنا قيل هم الملائكة لأنها مستجنة أي مستترة وقيل الجنة هم الشياطين والضمير في جعلوا لفرقة من كفار قريش والعرب ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون أي ستحضر أمر الله وثوابه وعقابه ثم نزه تعالى نفسه عما يصفه الكفرة ومن هذا استثنى عباده المخلصين لأنهم يصفونه بصفاته العلى وقالت فرقة استثناهم من قوله لمحضرون وعبارة الثعلبي ولقد علمت الجنة أي الملائكة أن قائلي هذه المقالة من الكفرة لمحضرون في النار وقيل للحساب والأول أولى لأن الأحضار متى (4/27)
جاء في هذه الصورة عني به العذاب الا عباد الله المخلصين فإنهم ناجون من النار انتهى في البخاري لمحضرون أي سيحضرون للحساب انتهى وقوله تعالى فإنكم وما تعبدون بمعنى قل لهم يا محمد إنكم وأصنامكم ما أنتم بمضلين أحدا بسببها وعليها إلا من قد سبق عليه القضاء فإنه يصلى الجحيم في الآخرة وليس لكم اضلال من هدى الله تعالى وقالت فرقة عليه بمعنى به والفاتن المضل في هذا الموضع وكذلك فسره ابن عباس وغيره وحذفت الياء من صال للإضافة ثم حكى سبحانه قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم وهذا يؤيد أن الجنة أراد بها الملائكة وتقدير الكلام وما منا ملك وروت عائشة عن النبي ص - أن السماء ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي وعن ابن مسعود وغيره نحوه والصافون معناه الواقفون صفوفا والمسبحون يحتمل أن يريد به الصلاة ويحتمل أن يريد قول سبحان الله قال الزهراوي قيل أن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة مذ نزلت هذه الآية ولا يصصف أحد من أهل الملل غير المسلمين ثم ذكر تعالى مقالة بعض الكفار قال قتادة وغيره فإنهم قبل نبوة نبينا محمد ص - قالوا لو كان لنا كتاب أو جاءنا رسول لكنا عباد الله المخلصين فلما جاءهم محمد كفروا به فسوف يعلمون وهذا وعيد محض ثم أنس تعالى نبيه وأولياءه بأن القضاء قد سبق والكلمة قد حقت بأن رسله سبحانه هم المنصورن على من ناواهم وجند الله هم الغزاة وقوله تعالى فتول عنهم أمر لنبيه بالموادعة ووعد جميل وحتى حين قيل هو يوم بدر وقيل يوم القيامة وقوله تعالى وابصرهم فسوف يبصرون وعد للنبي ص - ووعيد لهم ثم ونجهم على استعجال العذاب فإذا نزل أي العذاب بساحتهم فساء صباح المنذرين والساحة الفناء وسوء الصباح أيضا مستعمل في ورود الغارات ت ومنه قول النبي ص - لما أشرف على خيبر (4/28)
الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين انتهى وقرأ ابن مسعود صباح والعزة في قوله رب العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين وكذلك قال الفقهاء من أجل أنها مربوبة قال محمد بن سحنون وغيره من حلف بعزة فإن كان أراد صفته الذاتية فهي يمين وإن كان أراد عزته التى خلق بين عباد وهي التى في قوله رب العزة فليست بيمين وروي عن النبي ص - أنه قال إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين فإنما أنا أحدهم ص - وعلى ءاله وعلى جميع النبيين وسلم
تفسير سورة ص وهي مكية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم قرأ أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق صاد بكسر الدال والمعنى ماثل القرءان بعملك وقاربه بطاعتك وكذا فسره الحسن أي انظر أين عملك منه وقال الجمهور أنه حرف معجم يدخله ما يدخل أوائل السور من الأقوال ويختص هذا بأن قال بعض الناس معناه صدق محمد وقال الضحاك معناه صدق الله وقال محمد بن كعب القرظي هو مفتاح أسماء الله صمد صادق ونحوه وقوله والقرءان ذى الذكر قسم قال ابن عباس وغيره معناه ذى الشرف الباقى المخلد وقال قتادة ذى التذكرة للناس والهداية لهم قالت فرقة ذى الذكر للأمم والقصص والغيوب ت ولا مانع من أن يراد الجميع قال ع وأما جواب القسم فاختلف فيه فقالت فرقة الجواب في قوله ص إذ هو بمعنى صدق الله أو صدق محمد وقال الكوفيون والزجاج الجواب في قوله أن (4/29)
ذلك لحق تخاصم أهل النار وقال بعض البصريين ومنهم الأخفش الجواب قي قوله أن كل الأكذب الرسل قال ع وهذان القولان بعيدان وقال قتادة والطبري الجواب مقدر قبل بل وهذا هو الصحيح تقديره والقرآن ما الأمر كما يزعمون ونحو هذا من التقدير فتدبره وقال أبو حيان الجواب انك لمن المرسلين وهو ما أثبت جوابا للقرآن حين أقسم به انتهى وهو حسن قال أبو حيان وقوله في عزة هي قراءة الجمهور وعن الكسائي بالغين المعجمة والراءاي في غفلة انتهى والعزة هنا المعازة والمغالبة والشقاق ونحوه أي هم في شق والحق في شق وكم للتكثير وهي خبر فيه مثال ووعيد وهي في موضع نصب بأهلكنا وقوله فنادوا معناه مستغيثين والمعنى أنهم فعلوا ذلك بعد المعاينة فلم ينفعهم ذلك ولم يكن في وقت نفع ولات بمعنى ليس واسمها مقدر عند سيبويه تقديره ولات الحين حين مناص والمناص المفرناص ينوص اذا فروفات قال ابن عباس المعنى ليس بحين نزولا ولا فرار ضبط القوم والضمير في عجبوا الكفار قريش قوله تعالى وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم الآية روى في قصص هذه الآية أن اشراف قريش اجتمعوا عند مرض أبي طالب وقالوا أن من القبيح علينا أن يموت أبو طالب ونوذي محمدا بعده فتقول العرب تركوه مدة عمه فلما مات ءاذوه ولكن لنذهب الى أبي طالب فينصفنا منه ويربط بيننا وبينه ربطا فنهضوا اليه فقالوا يا أبا طالب أن محمدا يسب آلهتنا ويسفه آراءنا ونحن لا نقاره على ذلك ولكن افصل بيننا وبينه في حياتك بأن يقيم في منزله يعبد ربه الذي يزعم ويدع آلهتنا وسبها ولا يعرض لأحد منا بشيء من هذا فبعث أبو طالب الى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا محمد إن قومك قد دعوك الى النصفة وهي أن تدعهم وتعبد ربك وحدك فقال أو غير ذلك يا عم قال وما هو قال يعطونني كلمة تدين لهم بها العرب (4/30)
وتؤدي اليهم الجزية بها العجم قالوا وما هي فانا نبادر اليها قال لا اله الا الله فنفروا عند ذلك وقالوا ما يرضيك منا غير هذا قال والله لو أعطيتموني الأرض ذهبا ومالا وفي رواية لو جعلتم الشمس في يميني والقمر في شمالي ما أرضاني منكم غيرها فقاموا عند ذلك وبعضهم يقول لبعض اجعل الآلهة الها واحدا أن هذا لشيء عجاب ويرددون هذا المعنى وعقبة بن ابي معيط يقول امشوا واصبروا على آلهتكم فقوله تعالى وانطلق الملأ عن خروجهم عن أبي طالب وانطلاقهم من ذلك الجمع هذا قول جماعة من المفسرين وقوله أن امشوا نقل الامام الفخران أن بمعنى أي انتهى وقولهم أن هذا لشيء يراد يريدون ظهور محمد وعلوه أي يراد منا الانقياد له وأن نكون له اتباعا ويريدون بالملة الآخرة ملة عيسى قال ابن عباس وغيره وذلك أنها ملة شهر فيها التثليث ثم توعدهم سبحانه بقوله بل لما يذوقوا عذاب أي لو أذاقوه لتحققوا أن هذه الرسالة حق وقوله تعالى أم عندهم خزائن رحمة ربك الآية عبارة الثعلبي أم عندهم خزائن رحمة ربك يعني مفاتيح النبؤة حتى يعطوا من اختاروا نظيرها أهم يقسمون رحمة ربك أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما يعني أن ذلك لله تعالى يصطفي من يشاء فليرتقوا في الأسباب فليصعدوا فيما يوصلهم الى السماوات فليأتوا منها بالوحي الى من يختارون وهذا أمر توبيخ وتعجيز انتهى ونحوه كلام ع ثم وعد الله نبيه النصر فقال جند ما هنالك مهزوم أي مغلوب ممنوع من الصعود الى السماء من الأحزاب أي من جملة الاحزاب قال ع وهذا تأويل قوي وقالت فرقة الاشارة بهنالك الى حماية الاصنام وعضدها أي هؤلاء القوم جند مهزوم في هذه السبيل وقال مجاهد الاشارة بهنالك الى يوم بدر وهي من الأمور المغيبة أخبر بها عليه السلام وما في قوله جند ما زائدة موكدة وفيها تخصيص وباقي الآية وقال أبو حيان جند خبر مبتدأ محذوف أي هم جند وما زائدة أو صفة (4/31)
أريد بها التعظيم على سبيل الهزء بهم أو الاستخفاف لأن الصفة تستعمل على هذين المعنيين وهنالك ظرف مكان يشار به الى البعيد في موضع صفة لجند أي كائن هنالك أو متعلق بمهزوم انتهى وقوله تعالى وما ينظر هؤلاء أي ينتظر الاصيحة واحدة قال قتادة توعدهم سبحانه بصيحة القيامة والنفخ في الصور قال الثعلبي وقد روي هذا التفسير مرفوعا وقالت طائفة توعدهم الله بصيحة يهلكون بها في الدنيا ما لها من فواق قرأ الجمهور بفتح الفاء وقرأ حمزة والكسائي فواق بضم الفاء قال ابن عباس هما بمعنى أي ما لها من انقطاع وعودة بل هي متصلة حتى تهلكهم ومنه فواق الحلب وهي المهلة التي بين الشخبين وقال ابن زيد وغيره المعنى مختلف فالضم كما تقدم من معنى فواق الناقة والفتح بمعنى الافاقة أي لا يفيقون فيها كما يفيق المريض والمغشي عليه والقط الحظ والمصيب والقط أيضا الصك والكتاب من السلطان بصلة ونحوه واختلف في القط هنا ما أرادوا به فقال ابن جبير أرادوا به عجل لنا نصيبنا من الخير والنعيم في دنيانا وقال أبو العالية أرادوا عجل لنا صحفنا بأيماننا وذلك لما سمعوا في القرآن أن الصحف تعطي يوم القيامة بالأيمان والشمائل وقال ابن عباس وغيره أرادوا ضد هذا من العذاب ونحوه وهذا نظير قولهم فامطر علينا حجارة من السماء قال ع وعلى كل تأويل فكلامهم خرج على جهة الاستخفاف والهزء واذكر عبدنا داود ذا الأيد أي فتأس به ولا تلتفت الى هؤلاء والأيد القوة في الدين والشرع والصدع به والأواب الرجاع الى طاعة الله وقال مجاهد وابن زيد وفسره السدي بالمسبح وتسبيح الجبال هنا حقيقة والاشراق ضياء الشمس وارتفاعها وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني اسراءيل قال الثعلبي وليس الاشراق طلوع الشمس وإنما هو صفاؤها وضوءها انتهى قال ابن العربي في أحكامه قال ابن عباس ما كنت أعلم صلاة الضحى في القرآن (4/32)
حتى سمعت الله تعالى يقول يسبحن بالعشي والاشراق قال ابن العربي أما صلاة الضحى فهي في هذه الآية نافلة مستحبة ولا ينبغي أن تصلى حتى تتبين الشمس طالعة قد أشرق نورها وفي صلاة الضحى أحاديث أصولها ثلاثة الأولى حديث أبي ذر وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يصبح على كل سلامي من ابن آدم صدقة تسليمه على من لقي صدقة وأمره بالمعروف صدقة ونهيه عن المنكر صدقة وإماطته الأذى عن الطريق صدقة وبضعه أهله صدقة ويجزئي من ذلك كله ركعتان من الضحى الثاني حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول الأخير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر الثالث حديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى يوم الفتح ثماني ركعات انتهى ت وروى أبو عيسى الترمذي وغيره عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة قال الترمذي حديث حسن انتهى قال الشيخ أبو الحسن ابن بطال في شرحه للبخاري وعن زيد بن أسلم قال سمعت عبد الله بن عمر يقول لأبي ذر أوصني يا عم قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سألتني فقال من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ومن صلى أربعا كتب من العابدين ومن صلى ستا لم يلحقه ذلك اليوم ذنب ومن صلى ثمانيا كتب من القانتين ومن صلى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة انتهى والطير عطف على الجبال أي وسخرنا الطير ومحشورة معناه مجموعة والضمير في له قالت فرقة هو عائد على الله عز و جل فكل على هذا يراد به داود والجبال والطير وقالت فرقة هو عائد على داود فكل على (4/33)
هذا يراد به الجبال والطير وقوله تعالى وشددنا ملكه عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وجند ونعمة وفصل الخطاب قال ابن عباس وغيره هو فصل القضاء بين الناس بالحق واصابته وفهمه وقال الشعبي أراد قول أما بعد فإنه أول من قالها قال ع والذي يعطبه اللفظ أنه آتاه الله فصل الخطاب بمعنى أنه اذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف وقوله تعالى وهل أتاك نبأ الخصم الآية مخاطبة للنبي صلى الله عليه و سلم واستفتحت بالاستفهام تعجيبا من القصة وتفخيما لها والخصم يوصف به الواحد والاثنان والجمع وتسوروا معناه علوا سوره وهو جمع سورة وهي القطعة من البناء وتحتمل هذه الآية أن يكون المستور اثنان فقط فعبر عنهما بلفظ الجمع ويحتمل أن يكون مع كل واحد من الخصمين جماعة والمحراب الموضع الأرفع من القصر أو المسجد وهو موضع التعبد وإنما فزع منهم من حيث دخلوا من غير الباب ودون استيذان ولا خلاف بين أهل التأويل أن هذا الخصم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود فاختصموا اليه في نازلة قد وقع هو في نحوها فافتاهم بفتيا وهي واقعة عليه في نازلته ولما شعر وفهم المراد خر راكعا وأناب واستغفر وأما نازلته التي وقع فيها ففيها للقصاص تطويل فلم نر سوق جميع ذلك لعدم صحته وروي في ذلك عن ابن عباس ما معناه أن داود كان في محرابه يتعبد إذ دخل عليه طائر حسن الهيئة فمد يده اليه ليأخذه فزال مطمعا له من موضع الى موضع حتى اطلع على امرأة لها منظر وجمال فخطر في نفسه أن لو كانت من نسائه وسأل عنها فأخبر أنها امرأة أوريا وكان في الجهاد فبلغه فبلغه أنه استشهد فخطب المرأة وتزوجها فكانت أن سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله الخصم ليفتي قالت فرقة من العلماء وإنما وقعت المعاتبة على همه ولم يقع منه شيء سوى الهم وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة (4/34)
وفي كتب بني اسرائيل في هذه القصة صور لا تليق وقد قال علي بن أبي طالب من حديث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله قدره وقوله خصمان تقديره نحن خصمان وبغى معناه اعتدى واستطال ولا تشطط معناه ولا تتعد في حكمك وسواء الصراط معناه وسطه وقوله أن هذا أخي اعراب أخي عطف بيان وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف فانه نعت محض والعامل فيه هو العامل في الموصوف وما كان منها مما ليس يوصف به بتة فهو بدل والعامل فيه مكرر أي تقديرا يقال جاءني أخوك زيد فالتقدير جاءني أخوك جاءني زيد وما كان منها مما لا يوصف به واحتيج الى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان والنعجة في هذه الآية عبر بها عن المرأة والنعجة في كلام العرب تقع على انثى بقر الوحش وعلى انثى الضأن وتعبر العرب بها عن المرأة وقوله اكفلنيها أي ردها في كفالتي وقال ابن كيسان المعنى اجعلها كفلي أي نصيبي وعزني معناه غلبني ومنه قول العرب من عزيز أي من غلب سلب ومعنى قوله في الخطاب أي كان أوجه مني فاذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي وقوته أعظم من قوتي ويروى أنه لما قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك تبسما عند ذلك وذهبا ولم يرهما لحينه فشعر حينئذ للأمر ويروى أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه والخلطاء الشركاء في الاملاك والأمور وهذا القول من داود وعظ وبسط لقاعدة حق ليحذر الخصم من الوقوع في خلاف الحث وقوله تعالى الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم قال أبو حيان وقليل خبر مقدم وما زائدة تفيد معنى التعظيم انتهى وروى ابن المبارك في رقائقه بسنده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أشد الأعمال ذكر الله على كل حال والأنصاف من نفسك ومواساة الأخ في المال انتهى (4/35)
وقوله تعالى وظن داود إنما فتناه معناه شعر للأمر وعلمه وفتناه أي ابتليناه وامتحناه وقال البخاري قال ابن عباس فتناه أي اختبرناه وأسند البخاري عن مجاهد قال سألت ابن عباس عن سجدة ص أين تسجد فقال أو ما تقرأ ومن ذريته داود وسليمان الى قوله أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه و سلم انتهى فتأمله وما فيه من الفقه وقرأ أبو عمرو في رواية على ابن نصر فتناه بتخفيف التاء والنون على اسناد الفعل للخصمين أي امتحناه عن أمرنا قال ابو سعيد الخدري رأيتني في النوم اكتب سورة ص فلما بلغت قوله وخر راكعا وأناب سجد القلم ورأيتني في منام آخر وشجرة تقرأ سورة ص فلما بلغت هذا سجدت وقالت اللهم اكتب لي بها أجرا وحط عني بها وزرا وارزقني بها شكرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود فقال النبي صلى الله عليه و سلم وسجدت أنت يا أبا سعيد قلت لا قال أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة ثم تلا نبي الله الآيات حتى بلغ وأناب فسجد وقال كما قالت الشجرة وأنا معناه رجع ت وحديث سجود الشجرة رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان في صحيحيهما وقال الحاكم وهو من شرط الصحة انتهى من السلاح والزلفى القربة والمكانة الرفيعة والمئاب المرجع في الآخرة من ءاب يئوب اذا رجع وقوله تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض تقدير الكلام وقلنا له يا داود وقال ع ولا يقال خليفة الله الا لرسوله وأما الخلفاء فكل واحد خليفة الذي قبله وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز وغلو الا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرزوا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم وبهذا كان يدعي مدة خلافته فلنا ولي عمر وقالوا يا خليفة خليفة رسول الله فطال الأمر ورأوا أنه في المستقبل سيطول أكثر (4/36)
فدعوه أمير المؤمنين وقصر هذا الاسم على الخلفاء وقوله فيضلك قال أبو حيان منصوب في جواب النهي ص أبو البقاء وقيل مجزوم عطفا على النهي وفتحت اللام لالتقاء الساكنين انتهى وقوله سبحانه إن الذين يضلون عن سبيل الله الى قوله وليتذكر أولوا الألباب اعتراض فصيح بين الكلامين من أمر داود وسليمان وهو خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم وعظة لأمته ونسوا في هذه الآية معناه تركوا ثم وقف تعالى على الفرق عنده بين المؤمنين العاملين بالصالحات وبين المفسدين الكفرة وبين المتقين والفجار وفي هذا التوقيف حض على الايمان والتقوى وترغيب في عمل الصالحات قال ابن العربي نفي الله تعالى المساواة بين المؤمنين والكافرين وبين المتقين والفجار فلا مساواة بينهم في الآخرة كما قاله المفسرون ولا في الدنيا أيضا لأن المؤمنين المتقين معصومون دما ومالا وعرضا والمفسدون في الأرض والفجار مباحو الدم والمال والعرض فلا وجه لتخصيص المفسرين بذلك في الآخرة دون الدنيا انتهى من الأحكام وهذا كما قال وقوله تعالى في الآية الأخرى سواء محياهم ومماتهم يشهد له وباقي الآية بين وقوله تعالى كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته قال الغزالي في الاحياء اعلم أن القرآن من أوله الى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان مؤمنا بما فيه وترى الناس يهذونه هذا ويخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها لا يهمهم الالتفات الى معانيها والعمل بما فيها وهل في العلم غرور يزيد على هذا انتهى من كتاب ذم الغرور واختلف المتأولون في قصص هذه الخيل المعروضة على سليمان عليه السلام فقال الجمهور أن سليمان عليه السلام عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه فأجريت بين يديه عشاء فتشاغل بجريها ومحبتها حتى فاته صلاة العشي فأسف لذلك وقال ردوا علي الخيل (4/37)
فطفق يمسح سوقها وأعناقها بالسيف قال الثعلبي وغيره وجعل ينحرها تقربا الى الله تعالى حيث اشتغل بها عن طاعته وكان ذلك مباحا لهم كما أبيح لنا بهيمة الأنعام قال ع فروي أن الله تعالى أبدله منها أسرع منها وهي الريح قال ابن العربي في أحكامه والخير هنا هي الخيل وكذلك قرأها ابن مسعود أني أحببت حب الخيل انتهى والصافن الذي يرفع احدى يديه وقد يفعل ذلك برجله وهي علامة الفراهية وانشد الزجاج ... ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا ...
قال بعض العلماء الخير هنا اراد به الخيل والعرب تسمى الخيل الخير وفي مصحف ابن مسعود حب الخيل باللام والضمير في توارت للشمس وإن كان لم يتقدم لها ذكر لأن المعنى يقتضيها وأيضا فذكر العشي يتضمنها وقال بعض المفسرين حتى توارت بالحجاب أي الخيل دخلت اصطبلاتها وقال ابن عباس والزهري مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف بل بيده تكريما لها ورجحه الطبري وفي البخاري فطفق مسحا يمسح أعراف الخيل وعراقيبها انتهى وعن بعض العلماء أن هذه القصة لم يكن فيها فوت صلاة وقالوا عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة فأشار اليهم أي أني في صلاة فأزالوها عنه حتى أدخلوها في الاصطبلات فقال لما فرغ من صلاته أني أحببت حب الخير أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي كأنه يقول فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها ردوها علي فطفق يمسح أعرافها وسوقها تكرمة لها أي لأنها معدة للجهاد وهذا هو الراجح عند الفخر قال ولو كان معنى مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم قطعها ت وهذا لا يلزم للقرينة في الموضعين اه قال ابن حيان وحب الخير قال العزاء مفعول به وأحببت مضمن معنى آثرت وقيل منصوب على المصدر التشبيهي أي حبا مثل حب (4/38)
الخير انتهى وقوله عن ذكر ربي عن على كل تأويل هنا للمجاوزة من شيء الى شيء وتدبره فإنه مطرد وقوله تعالى ولقد فتنا سليمان الآية ت اعلم رحمك الله أن الناس قد أكثروا في قصص هذه الآية بما لا يوقف على صحته وحكى الثعلبي في بعض الروايات أن سليمان عليه السلام لما فتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه فأعاده الى يده فسقط وأيقن بالفتنة وأن ءاصف بن برخيا قال له يا نبي الله انك مفتون ولذلك لا يتماسك الخاتم في يدك أربعة عشر يوما ففر الى الله تعالى تائبا من ذنبك وأنا أقوم مقامك في عالمك إن شاء الله تعالى الى أن يتوب الله تعالى عليك ففر سليمان هاربا الى ربه منفردا لعبادته وأخذ ءاصف الخاتم فوضعه في يده فثبت وقيل أن الجسد الذي قال الله تعالى وألقينا على كرسيه جسدا هو ءاصف كاتب سليمان وهو الذي عنده علم من الكتاب واقام ءاصف في ملك سليمان وعياله يسير بسيرته الحسنة ويعمل بعمله أربعة عشر يوما الى أن رجع سليمان الى منزله تائبا الى الله تعالى ورد الله تعالى عليه ملكه فأقام ءاصف عن مجلسه وجلس سليمان على كرسيه وأعاد الخاتم وقال سعيد بن المسيب أن سليمان بن داود عليهما السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله اليه أن يا سليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي ولم تنصف مظلوما من ظالم وذكر حديث الخاتم كما تقدم انتهى وهذا الذي نقلناه أشبه ما ذكر وأقرب الى الصواب والله أعلم وقال عياض قوله تعالى ولقد فتنا سليمان معناه ابتليناه وابتلاؤه هو ما حكي في الصحيح أنه قال لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل ان شاء الله فلم تحمل منهن الا امرأة جاءت بشق رجل الحديث قال اصحاب المعاني والشق هو الجسد الذي القى على كرسيه حين عرض عليه وهي كانت عقوبته ومحنته وقيل بل مات والقي على كرسيه ميتا وأما عدم استثنائه فأحسن (4/39)
الأجوبة عنه ما روي في الحديث الصحيح أنه نسي أن يقول إن شاء الله ولا يصح ما نقله الأخباريون من تشبه الشيطان به وتسلطه على ملكه وتصرفه في أمته لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا وقد عصم الأنبياء من مثله انتهى ت قال ابن العربي والقينا على كرسيه جسدا يعني جسده لا أجساد الشياطين كما يقوله الضعفاء انتهى من كتاب تفسير الأفعال قال ابن العربي في أحكامه وما ذكره بعض المفسرين من أن الشيطان أخذ خاتمه وجلس مجلسه وحكم الخلق على لسانه قول باطل قطعا لأن الشياطين لا يتصورون بصور الأنبياء ولا يمكنون من ذلك حتى يظن الناس أنهم مع نبيهم في حق وهم مع الشياطين في باطل ولو شاء ربك لوهب من المعرفة والدين لمن قال هذا القول ما يزعه عن ذكره ويمنعه من أن يسطره في ديوان من بعده انتهى وقوله وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد الآية قال ع من المقطوع به أن سليمان عليه السلام إنما بذلك قصدا برا لأن للانسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد لا سيما بحسب المكانة والنبوءة وقوله تعالى فسخرنا له الريح الآية كان لسليمان كرسي فيه جنوده وتأتي عليه الريح الاعصار فتنقله من الأرض حتى يحصل في الهواء ثم تتولاه الرخاء وهي اللينة القوية لا تأتي فيها دفع مفرطة فتحمله غدوها شهرا ورواحها شهر وحيث أصاب معناه حيث أراد قاله وهب وغيره قال ع ويشبه أن اصاب معدي صاب يصوب أي حيث وجه جنوده وقال الزجاج معناه قصد ت وعليه اقتصر أبو حيان فانه قال اصاب أي قصد وأنشد الثعلبي ... أصاب الكلام فلم يستطع ... فاخطا الجواب لدي المفصل ...
انتهى وقوله كل بناء بدل من الشياطين ومقرنين معناه موثقين قد قرن بعضهم ببعض والاصفاد القيود والاغلال قال الحسن والاشارة بقوله هذا عطاؤنا الآية الى جميع ما أعطاه الله سبحانه من الملك وأمره بأن يمن على من (4/40)
يشاء ويمسك عن من يشاء فكأنه وقفه على قدر النعمة ثم أباح له التصرف فيه بمشيئته وهذا أصح الأقوال وأجمعها لتفسير الآية وتقدمت قصة أيوب في سورة الأنبياء وقوله انى مسني الشيطان بنصب الآية النصب المشقة فيحتمل أن يشير الى مسه حين سلطه الله على إهلاك ماله وولده وجسمه حسبما روي في ذلك وقيل أشار الى مسه إياه في تعرضه لأهله وطلبه منها أن تشرك بالله فكان أيوب تشكي هذا الفصل وكان عليه أشد من مرضه وهنا في الآية محذوف تقديره فاستجاب له وقال اركض برجلك فروي أن أيوب ركض الأرض فنبعت له عين ماء صافية بادرة فشرب منها فذهب كل مرض في داخل جسده ثم اغتسل فذهب ما كان في ظاهر بدنه وروي أن الله تعالى وهب له أهله وماله في الدنيا ورد من مات منهم وما هلك من ماشيته وحاله ثم بارك له في جميع ذلك وروي أن هذا كله وعد به في الآخرة والأول أكثر في قول المفسرين ت وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قال عبد قط اذا أصابه هم أو حزن اللهم اني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي الا اذهب الله غمه وابدله مكان حزنه فرحا قالوا يا رسول الله ينبغي لنا أن تعلم هذه الكلمات قال أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن قال صاحب السلاح رواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه ت ورويناه من طريق النووي عن ابن السني بسنده عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم وفيه أنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك في قبضتك وفيه فقال رجل من القوم وأن المغبون لمن غبن هؤلاء (4/41)
الكلمات فقال أجل فقولهن وعلموهن من قالهن التماس ما فيهن اذهب الله تعالى حزنه وأطال فرحه انتهى وقوله وذكرى معناه موعظة وتذكرة يعتبر بها أولوا العقول ويتأسون بصبره في الشدائد ولا يئسون من رحمة الله على حال وروي أن أيوب عليه السلام كانت زوجته مدة مرضه تختلف اليه فيتلقاها الشيطان في صورة طبيب ومرة في هيئة ناصح وعلى غير ذلك فيقول لها لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرئ لو ذبح عناقا للصنم الفلاني لبرئ ويعرض عليها وجوها من الكفر فكانت هي ربما عرضت شيا من ذلك على أيوب فيقول لها لقيت عدو الله في طريقك فلما اغضبته بهذا ونحوه حلف عليها لئن برئ من مرضه ليضربنها مائة سوط فلما برئ أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثا فيه مائة قضيب والضغث القبضة الكبيرة من القضبان ونحوها من الشجر الرطب قاله الضحاك وأهل اللغة فيضرب به ضربة واحدة فتبر يمينه وهذا حكم قد ورد في شرعنا عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله في حد الزنا لرجل زمن فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بعذق نخلة فيه شماريخ مائة أو نحوها فضرب ضربة ذكر الحديث أبو داود وقال بهذا بعض فقهاء الأمة وليس يرى ذلك مالك بن أنس وأصحابه وكذلك جمهور العلماء على ترك القول به وأن الحدود والبر في الأيمان لا تقع الا بتمام عدد الضربات وقرأ الجمهور أولي الأيدي يعني أولى القوة في طاعة الله قاله ابن عباس ومجاهد وقالت فرقة معناه أولي الأيدي والنعم التي أسدها الله اليهم من النبوءة والمكانة والأبصار عبارة عن البصائر أي يبصرون الحقائق وينظرون بنور الله تعالى وقرأ نافع وحده بخالصة ذكرى الدار على الاضافة وقرأ الباقون بخالصة على تنوين خالصة فذكرى على هذه القراءة بدل من خالصة فيحتمل ان يكون معنى الآية انا اخلصناهم بان خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ودعاء الناس اليها وهذا قول قتادة وقيل المعنى انا اخلصناهم (4/42)
بأن خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم لها والعمل بحسب ذلك وهذا قول مجاهد وقال ابن زيد المعنى أنا وهبناهم أفضل ما في الدار الآخرة وأخلصناهم به وأعطيناهم اياه ويحتمل أن يريد بالدار دار الدنيا على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس وقوله تعالى هذا ذكر يحتمل معنيين أحدهما أن يشير الى مدح من ذكر وابقاء الشرف له فيتأيد بهذا قول من قال أن الدار يراد بها الدنيا والثاني أن يشير بهذا الى القرآن أي ذكر للعالم وجنات بدل من حسن مئاب ومفتحة نعت الجنات والأبواب مفعول لم يسم فاعله وباقي الآية بين وقوله سبحانه هذا وان للطاغين لشر مآب الآية التقدير الأمر هذا ويحتمل أن يكون التقدير هذا واقع أو نحوه والطغيان هنا في الكفر وقوله تعالى هذا ليذوقوه حميم وغساق قرأ الجمهور غساق بتخفيف السين وهو اسم بمعنى السائل قال قتادة الغساق ما يسيل من صديد أهل النار قال ص الغساق السائل وعن أبي عبيدة أيضا البارد المنتن بلغة الترك انتهى قال الفخر هذا فليذوقوه حميم وغساق فيه وجهان الأول على التقديم والتأخير والتقدير هذا حميم وغساق أي منه حميم وغساق انتهى ت والوجه الثاني أن الآية ليس فيها تقديم ولا تأخير وهو واضح وقرأ الجمهور وآخر بالافراد أي ولهم عذاب آخر ومعنى من شكله أي من مثله وضربه وقرأ أبو عمرو وحده وأخر على الجمع وأزواج معناه أنواع والمعنى لهم حميم وغساق وأغذية أخر من ضرب ما ذكر وقوله تعالى هذا فوج هو مما يقال لأهل النار اذا سيق عامة الكفار والاتباع اليها لأن رؤساءهم يدخلون النار أولا والأظهر أن قائل ذلك لهم ملائكة العذاب وهو الذي حكاه الثعلبي وغيره يحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض فيقول البعض الآخر لا مرحبا بهم أي لا سعة مكان ولا خير يلقونه وقوله بل انتم لا مرحبابكم حكاية لقول الاتباع لرؤسائهم اي انتم قدمتموه (4/43)
لنا بأغوائكم وأسلفتم لنا ما أوجب هذا قال العراقي ... مقتحم أي داخل بشده ... مجاوز لما اقتحم بالشدة ...
انتهى وقوله تعالى قالوا ربنا من قدم لنا هذا الآية هو حكاية لقول الاتباع أيضا دعوا على رؤسائهم بأن يكون عذابهم مضاعفا وقوله تعالى وقالوا ما لنا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار الآية الضمير في قالوا لأشراف الكفار ورؤسائهم وهذا مطرد في كل أمة وروي أن قائلي هذه المقالة أهل القليب كأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة ومن جرى مجراهم وأن الرجال الذين يشيرون اليهم هم كعمار بن ياسر وبلال وصهيب ومن جرى مجراهم قاله مجاهد وغيره والمعنى كنا في الدنيا نعدهم أشرارا وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو اتخذناهم بصلة الألف على أن يكون ذلك في موضع الصفة لرجال وقرأ الباقون اتخذناهم بهمزة الاستفهام ومعناها تقرير أنفسهم على هذا على جهة التوبيخ لها والاسف أي اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك وقرأ نافع وحمزة والكسائي سخريا بضم السين من السخرة والاستخدام وقرأ الباقون سخريا بكسر السين ومعناها المشهور من السخر الذي هو بمعنى الهزء وقولهم أم زاغت معادلة لما في قولهم ما لنا لا نرى والتقدير في هذه الآية أمفقودون هم أم هم معنا ولكن زاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم والزيغ الميل ثم أخبر تعالى نبيه بقوله أن ذلك لحق تخاصم أهل النار والاشارة بقوله تعالى قل هو نبأ عظيم الى التوحيد والمعاد فهي الى القرآن وجميع ما تضمن وعظمه أن التصديق به نجاة والتكذيب به هلكة ووبخهم بقوله أنتم عنه معرضون ثم أمر عليه السلام أن يقول محتجا على صحة رسالته ما كان لي من علم بالملأ الا على لولا أن الله أخبرني بذلك والملأ الأعلى أراد به الملائكة واختلف في الشيء الذي هو اختصامهم فيه فقالت فرقة اختصامهم في شأن ءادم كقولهم أتجعل فيها من (4/44)
يفسد فيها ويدل على ذلك ما يأتي من الآيات وقالت فرقة بل اختصامهم في الكفارات وغفر الذنوب ونحوه فان العبد اذا فعل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه في ذلك حتى يقضي الله بما شاء وروي في هذا حديث فسره ابن فورك يتضمن أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له ربه عز و جل في نومه أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا قال اختصموا في الكفارات والدرجات فأما الكفارات فأسباغ الوضوء في الغدوات الباردة ونقل الاقدام الى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة وأما الدرجات فافشاء السلام واطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام الحديث قال ابن العربي في أحكامه وقد رواه الترمذي صحيحا وفيه قال سل قال اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب من يحبك وعملا يقرب الى حبك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنها حق فارسموها ثم تعلموها انتهى وقوله أن يوحى الي إلا انما أنا نذير مبين قال العزاء ان شئت جعلت انما في موضع رفع كأنه قال ما يوحي الي الا الانذار أو ما يوحي الي الا أني نذير مبين انتهى وهكذا قال أبو حيان أن بمعنى ما وباقي الآية بين مما تقدم في البقرة وغيرها وقوله تعالى بيدي عبارة عن القدرة والقوة وقوله استكبرت المعنى أحدث لك الاستكبار الآن أم كنت قديما ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك وهو على جهة التوبيخ له وقوله تعالى قال فاخرج منها فانك رجيم وان عليك لعنتي الى يوم الدين قال رب فانظرني الى يوم يبعثون قال فانك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم الآية الرجيم أي المرجوم بالقول السيء واللعنة الابعاد وقوله سبحانه فالحق والحق أقول قال مجاهد المعنى فالحق أنا وقرأ الجمهور فالحق والحق بنصب الاثنين فأما الثاني فمنصوب بأقول وأما الأول (4/45)
فيحتمل أن ينتصب على الاغراء ويحتمل ان ينتصب على القسم على اسقاط حرف القسم كأنه قال فوالحق ثم حذف الحرف كما تقول الله لافعلن تريد والله ويقوي ذلك قوله لأملأن وقد قال سيبويه قلت للخليل ما معنى لأفعلن اذا جاءت مبتدأة فقال هي بتقدير قسم منوي وقالت فرقة الحق الأول منصوب بفعل مضمر وقرأ ابن عباس فالحق والحق برفع الاثنين وقرأ عاصم وحمزة فالحق بالرفع والحق بالنصب وهي قراءة مجاهد وغيره ثم أمر الله تعالى نبيه أن يخبرهم بأنه ليس بسائل منهم عليه أجرا وأنه ليس ممن يتكلف ما لم يحبل اليه ولا يحتلى بغير ما هو فيه قال الزبير بن العوام نادى منادي النبي صلى الله عليه و سلم اللهم اغفر للذين لا يدعون ولا يتكلفون الا اني بريء من التكلف وصالحو أمتي وقوله أن هو يريد القرآن وذكر بمعنى تذكرة ثم توعدهم بقوله ولتعلمن نبأه بعد حين وهذا على خلاف تقديره لتعلمن صدق نبإه بعد حين قال ابن زيد اشار الى يوم القيامة وقال قتادة والحسن اشار الى الآجال التي لهم لأن كل واحد منهم يعرف الحقائق بعد موته تفسير سورة الزمر وهي مكية باجماع
غير ثلاث آيات نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب وهي قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآيات وقالت فرقة الى آخر السورة هو مدني وقيل فيها مدني سبع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى تنزيل الكتاب الآية تنزيل رفع بالابتداء والخبر قوله من الله وقالت (4/46)
فرقة تنزيل خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا تنزيل والاشارة الى القرآن قاله المفسرون ويظهر لي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله فكأنه أخبر اخبارا مجردا أن الكتب الهادية الشارعة انما تنزيلها من الله تعالى وجعل هذا الاخبار تقدمة وتوطئة لقوله أنا أنزلنا اليك الكتاب وقوله بالحق معناه متضمنا الحق أي بالحق فيه وفي أحكامه واخباره والدين هنا يعم المعتقدات وأعمال الجوارح قال قتادة والدين الخالص لا اله الا الله وقوله تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء الآية أي يقولون ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى وفي مصحف ابن مسعود قالوا ما نعبدهم وهي قراءة ابن عباس وغيره وهذه المقالة شائعة في العرب في الجاهلية يقولون في معبوداتهم من الاصنام وغيرها ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله قال مجاهد وقد قال ذلك قوم من اليهود في عزير وقوم من النصارى في عيسى وزلفى بمعنى قربة وتوصلة كأنهم قالوا ليقربونا الى الله تقريبا وكان هذه الطوائف كلها حتى نفوسها أقل من أن تتصل هي بالله فكانت ترى أن تتصل بمخلوقاته وزلفى عند سيبويه مصدر في موضع الحال كأنه تنزل منزلة متزلفين والعامل فيه يقربنا وقرأ الجحدري كذاب كفار بالمبالغة فيهما وهذه المبالغة اشارة الى التوغل في الكفر وقوله تعالى لو اراد الله أن يتخذ ولدا معناه اتخاذ التشريف والتبني وعلى هذا يستقيم قوله تعالى لاصطفى مما يخلق وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد فمستحيل أن يتوهم في جهة الله تعالى ولا يستقيم عليه معنى قوله لاصطفى مما يخلق وقوله تعالى وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا لفظ يعم اتخذا النسل واتخاذ الاصطفاء فأما الأول فمعقول وأما الثاني فمعروف بخبر الشرع ومما يدل على أن معنى قوله أن يتخذ انما المقصود به اتخاذ اصطفاء وتبن قوله مما يخلق أي من موجوداته ومحدثاته ثم نزه سبحانه نفسه تنزيها مطلقا عن كل ما لا يليق به (4/47)
سبحانه وقوله تعالى يكور الليل على النهار الآية معناه يعيد من هذا على هذا ومنه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض فكان الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزء فيستره وكأن الآخر الذي يقصر يلج في الذي يطول فيستتر فيه وقوله تعالى خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها قيل هنا لترتيب الاخبار لا لترتيب الوجود وقيل قوله خلقكم من نفس واحدة هو أخذ الذرية من ظهر آدم وذلك شيء كان قبل خلق حواء ت وهذا يحتاج الى سند قاطع وقوله سبحانه في ظلمات ثلاث قالت فرقة الأولى هي ظهر الأب ثم رحم الأم ثم المشيمة في البطن وقال مجاهد وغيره هي المشيمة والرحم والبطن وهذه الآيات كلها فيها عبر وتنبيه على توحيد الخالق الذي لا يستحق العبادة غيره وتوهين لأمر الاصنام وقوله سبحانه أن تكفروا فان الله غني عنكم الآية قال ابن عباس هذه الآية مخاطبة للكفار قال ع وتحتمل أن تكون مخاطبة لجميع الناس لأن الله سبحانه غني عن جميع الناس وهم فقراء اليه واختلف المتأولون من أهل السنة في تأويل قوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر فقالت فرقة الرضى بمعنى الارادة والكلام ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن قضى الله له بالايمان وحتمه له فعباده على هذا ملائكته ومومنوا الانس والجان وهذا يرتكب على قول ابن عباس وقالت فرقة الكلام عموم صحيح والكفر يقع ممن يقع بإرادة الله تعالى الا انه بعد وقوعه لا يرضاه دينا لهم ومعنى لا يرضاه لا يشكره لهم ولا يثيهم به خيرا فالرضى على هذا هو صفة فعل بمعنى القبول ونحوه وتأمل الارادة فانما هي حقيقة فيما لم يقع بعد والرضى فانما هو حقيقة فيما قد وقع واعتبر هذا في آيات القرآن أن تجده وإن كانت العرب قد تستعمل في اشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا وقوله تعالى وأن تشكروا يرضه لكم عموم والشكر الحقيق في ضمنه الايمان قال النووي وروينا (4/48)
في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من قال رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه و سلم رسولا وجبت له الجنة انتهى وقوله تعالى واذا مس الانسان ضر دعا ربه الآية الانسان هنا الكافر وهذه الآية بين تعالى بها على الكفار انهم على كل حال يلجئون اليه في حال الضرورات وخوله معناه ملكه وحكمه فيها ابتداء من الله لا مجازاة ولا يقال في الجزاء خول وقوله تعالى نسي ما كان يدعوا اليه قالت فرقة ما مصدرية والمعنى نسي دعاءه اليه في حال الضرورة ورجع الى كفره وقالت فرقة ما بمعنى الذي والمراد بها الله تعالى أي نسي الله وعبارة الثعلبي قوله نسي ما كان يدعوا اليه من قبل أي ترك عبادة الله تعالى والتضرع اليه من قبل في حال الضر انتهى وباقي الآية بين وقوله تعالى أمن هو قانت بتخفيف الميم هي قراءة نافع وابن كثير وحمزة والهمزة للتقرير والاستفهام وكأنه يقول أهذا القانت خير أم هذا المذكور الذي يتمتع بكفره قليلا وهو من أصحاب النار وقرأ الباقون أمن بتشديد الميم والمعنى أهذا الكافر خيرا من هو قانت والقانت المطيع وبهذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما والقنوت في الكلام يقع على القراءة وعلى طول القيام في الصلاة وبهذا فسره ابن عمر رضي الله عنهما قال الفخر قيل أن المراد بقوله أمن هو قانت آناء الليل عثمان بن عفان لأنه كان يحي الليل والصحيح أنها عامة في كل من اتصف بهذه الصفة وفي هذه الآية تنبيه على فضل قيام الليل انتهى وروي عن ابن عباس أنه قال من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة فليره الله في سواد الليل ساجدا وقائما ت قال الشيخ عبد الحق في العاقبة وعن قبيصة بن سفيان قال رأيت سفيان الثوري في المنام بعد موته فقلت له ما فعل الله بك فقال ... نظرت الى ربي عيانا فقال لي ... هنيئا رضائي عنك يا ابن سعيد (4/49)
لقد كنت قواما اذا الليل قد دجا ... بعبرة محزون وقلب عميد ... فدونك فاختر أي قصر تريده ... وزرني فاني منك غير بعيد ... وكان شعبة بن الحجاج ومسعر بن كدام رجلين فاضلين وكانا من ثقات المحدثين وحفاظهم وكان شعبة أكبر فماتا قال أبو أحمد اليزيزدي فرأيتهما في النوم وكنت الى شعبة أميل مني الى مسعر فقلت يا أبا بسطام ما فعل الله بك فقال وفقك الله يا بني احفظ ما أقول ... حباني الهي في الجنان بقبة ... لها ألف باب من لجين وجوهرا ... وقال لي الجبار يا شعبة الذي ... تبحر في جمع العلوم وأكثرا ... تمتع بقربي انني عنك ذو رضى ... وعن عبدي القوام في الليل مسعرا ... كفى مسعرا عزا بأن سيزورني ... واكشف عن وجهي ويدنو لينظرا ... وهذا فعالي بالذين تنسكوا ... ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا ...
انتهى والآناء الساعات واحدها اني كمعي ويقال اني بكسر الهمزة وسكون النون وانا على وزن قفا وقوله سبحانه يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قال الجوزي في المنتخب يقول الله تعالى لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين من خافني في الدنيا أمنته في الآخرة ومن أمنني في الدنيا خوفته في الآخرة يا أخي امتطى القوم مطايا الدجى على مركب السهر فما حلوا ولا حلوا رحالهم حتى السحر درسوا القرآن فغرسوا بأيدي الفكر أزكى الشجر ومالوا الى النفوس باللوم فلا تسأل عما شجر رجعوا بنيل القبول من ذلك السفر ووقفوا على كنز النجاة وما عندك خبر فاذا جاء النهار قدموا طعام الجوع وقالوا للنفس هذا الذى حضر حذوا عزمات طاحت الارض بينها فصار سراهم في ظهور العزائم تراهم نجوم الليل ما يبتغونه على عاتق الشعرى وهام النعائم مالت بالقوم ريح السحر ميل الشجر بالاغصان وهز (4/50)
الخوف افنان القلوب فانتشرت الافنان فالقلب يخشع واللسان يضرع والعين تدمع والوقت بستان خلوتهم بالحبيب تشغلهم عن نعم ونعمان سرورهم اساورهم والخشوع تيجان خضوعهم حلاهم وماء دمعهم در ومرجان باعوا الحرص بالقناعة فما ملك انوشروان فاذا وردوا القيامة تلقاهم بشر لولاكم ما طاب الجنان يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان اين أنت منهم يا نائم كيقظان كم بينك وبينهم أين الشجاع من الجبان ما للمواعظ فيك نجح موضع القلب باللهو منك ملئان يا أخي قف على باب النجاح ولكن وقوف لهفان واركب سفن الصلاح فهذا الموت طوفان اخواني انما الليل والنهار مراحل ومركب العمر قد قارب الساحل فانتبه لنفسك وازدجر يا غافل يا هذا انت مقيم في مناخ الراحلين ويحك اغتنم ايام القدرة قبل صيحة الانتزاع فما أقرب ما ينتظر وما أقل المكث فيما يزول ويتغير انتهى وقوله تعالى قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم يروي أن هذه الآية انزلت في جعفر بن ابي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة الى أرض الحبشة ووعد سبحانه بقوله للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة فقوله في هذه الدنيا متعلق بأحسنوا والمعنى ان الذين يحسنون في الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة والنعيم قاله مقاتل ويحتمل أن يريد أن الذين يحسنون لهم حسنة في الدنيا وهي العافية والظهور وولاية الله تعالى قاله السدي والأول أرجح أن الحسنة هي في الآخرة وقوله سبحانه وأرض الله واسعة حض على الهجرة ثم وعد تعالى على الصبر على المكاره الخروج من الوطن ونصرة الدين وجميع الطاعات بتوفية الاجور بغير حساب وهذا يحتمل معنيين أحدهما أن الصابر يوتي أجره ولا يحاسب على نعيم ولا يتابع بذنوب ويكون في جملة الذين يدخلون الجنة بغير حساب والثاني من المعنيين أن أجور (4/51)
الصابرين توفى بغير حصر ولا عد بل جزافا وهذه استعارة للكثرة التي لا تحصى والى هذا التأويل ذهب جمهور المفسرين حتى قال قتادة ليس ثم والله مكيال ولا ميزان وفي الحديث أنه لما نزلت والله يضاعف لمن يشاء قال النبي صلى الله عليه و سلم اللهم زد امتي فنزلت بعد ذلك من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة فقال اللهم زد أمتي حتى نزلت انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب قال رضيت يا رب وقوله تعالى قل اني أخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم من المعلوم أنه عليه السلام معصوم من العصيان وانما الخطاب بالآية لأمته يعمهم حكمه ويحفهم وعيده وقوله فاعبدوا ما شئتم من دونه هذه صيغة أمر على جهة التهديد وهذا في القرآن كثير والظلة ما غشي وعم كالسحابة وسقف البيت ونحوه وقوله سبحانه ذلك يخوف الله به عباده يريد جميع العالم وقوله تعالى والذين اجتنبوا الطاغوت الآية قال ابن زيد أن سبب نزولها زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وابو ذر الغفاري والاشارة اليهم ت سلمان انما اسلم بالمدينة فيلزم على هذا التاويل أن تكون الآية مدنية وقال ابن اسحاق الاشارة بها الى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير وذلك أنه لما أسلم أبو بكر وسمعوا ذلك فجاءوه فقالوا أسلمت قال نعم وذكرهم بالله سبحانه فآمنوا بأجمعهم فنزلت فيهم هذه الآية وهي على كل حال عامة في الناس الى يوم القيامة يتناولهم حكمها والطاغوت كل ما عبد من دون الله وقوله سبحانه الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه كلام عام في جميع الأقوال والمقصد الثناء على هؤلاء في نفوذ بصائرهم وقوام نظرهم حتى انهم اذا سمعوا قولا ميزوه واتبعوا أحسنه قال أبو حيان الذين يستمعون صفة لعباد وقيل الوقف على عباد والذين مبتدأ خبره أولائك وما بعده انتهى وقوله تعالى أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في (4/52)
النار قالت فرقة معنى الآية أفمن حقت عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه لكنه زاد الهمزة الثانية توكيدا وأظهر الضمير تشهيرا لهؤلاء القوم واظهارا لخسة منازلهم وقوله تعالى لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف الآية معادلة وتحضيض على التقوى وعادلت غرف من فوقها غرف ما تقدم من الظلل فوقهم وتحتهم والاحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة ثم وقف تعالى نبيه عليه السلام وامته على معتبر من مخلوقاته فقال ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء الآية قال الطبري الاشارة الى ماء المطر ونبع العيون منه وسلكه معناه أجراه وأدخله في الأرض ويهيج معناه ييبس وهاج الزرع والنبات اذا يبس والحطام اليابس المتفتت ومعنى لذكرى أي للبعث من القبور وأحياء الموتى على قياس هذا المثال المذكور وقوله تعالى أفمن شرح صدره للاسلام الآية روي أن هذه الآية نزلت في علي وحمزة وأبي لهب وابنه وهما اللذان كانا من القاسية قلوبهم وفي الكلام محذوف يدل عليه الظاهر تقديره افمن شرح صدره للاسلام كالقاسي القلب المعرض عن أمر الله وشرح الصدر استعارة لتحصيله للنظر الجيد والايمان بالله والنور هداية الله تعالى وهي أشبه شيء بالضوء قال ابن مسعود قلنا يا رسول الله كيف انشراح الصدر قال اذا دخل النور القلب انشرح وانفسخ قلنا يا رسول الله وما علامة ذلك قال الانابة الى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت والقسوة شدة القلب وهي مأخوذة من قسوة الحجر شبه قلب الكافر به في صلابته وقلة انفعاله للوعظ وروى الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فان كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وان أبعد الناس من الله القلب القاسي قال الترمذي هذا حديث حسن غريب انتهى وقال مالك بن دينار ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلبه قال ابن هشام قوله تعالى فويل (4/53)
للقاسية قلوبهم من ذكر الله من هنا مرادفة عن وقيل هي للتعليل أي من أجل ذكر الله لأنه اذا ذكر الله قسن قلوبهم عياذا بالله وقيل هي للابتداء انتهى من المغنى الفخر اعلم أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية وقد يوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية فاذا عرفت هذا فنقول أن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورتبتها هو ذكر الله فاذا اتفق لبعض النفوس ان صار ذكر الله سببا لازدياد مرضها كان مرض تلك النفوس مرضا لا يرجى زواله ولا يتوقع علاجه وكانت في نهاية الشر والرداءة فلهذا المعنى قال تعالى فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين وهذا كلام كامل محقق انتهى وقوله تعالى نزل أحسن الحديث يريد القرآن وروي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن قوما من الصحابة قالوا يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وأخبرنا بأخبار الدهر فنزلت الآية وقوله متشابها معناه مستويا لا تناقض فيه ولا تدافع بل يشبه بعضه بعضا في رصف اللفظ ووثاقة البراهين وشرف المعاني اذ هي اليقين في العقائد في الله وصفاته وأفعاله وشرعه ومثاني معناه موضع تثنية للقصص والأقضية والمواعظ تثنى فيه ولا تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد وقال ابن عباس ثنى فيه والأمر مرارا ولا ينصرف مثاني لأنه جمع لا نظير له في الواحد وقوله تعالى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم عبارة عن قف شعر الانسان عند ما يداخله خوف ولين قلب عند سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه وهذه علامة وقوع المعنى المخشع في قلب السامع وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى الله عليه و سلم فرقت القلوب فقال النبي صلى الله عليه و سلم اغتنموا الدعاء عند الرقة فانها رحمة وقال العباس ابن عبد المطلب قال النبي صلى الله عليه و سلم من اقشعر جلده من خشية الله تعالى (4/54)
تحاتت عنه ذنوبه كما تتحات عن الشجرة اليابسة ورقها وقالت أسماء بنت أبي بكر كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن قيل لها أن أقواما اليوم اذا سمعوا القرآن خر أحدهم مغشيا عليه فقالت أعوذ بالله من الشيطان وعن ابن عمر نحوه وقال ابن سيرين بيينا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط مادا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن كله فان رمي بنفسه فهو صادق ت وهذا كله تغليظ على المراءين والمتصنعين ولا خلاف اعلمه بين أرباب القلوب وائمة التصوف أن المصنع عندهم بهذه الأمور ممقوت وأما من غلبة الحال لضعفه وقوي الوارد عليه حتى أذهبه عن حسه فهو ان شاء الله من السادة الاخيار والأولياء الأبرار وقد وقع ذلك لكثير من الاخيار يطول تعدادهم كابن وهب واحمد بن معتب المالكيين ذكرهما عياض في مداركه وانهما ماتا من ذلك وكذلك مالك بن دينار مات من ذلك ذكره عبد الحق في العاقبة وغيرهم ممن لا يحصى كثرة ومن كلام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله في قواعده الصغرى قال وقد يصبح بعضهم لغلبة الحال عليها والجائها اياه الى الصياح وهو في ذلك معذور ومن صاح لغير ذلك فمتصنع ليس من القوم في شيء وكذلك من أظهر شيأ من الأحوال رياء أو تسميعا فانه ملحق بالفجار دوت الابرار انتهى وقوله تعالى ذلك هدى الله يحتمل أن يشير الى القرآن ويحتمل أن يشير الى الخشية واقشعرار الجلود أي ذلك امارة هدى الله قال الغزالي في الاحياء والمستحب من التالي للقرآن أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغير ذلك ومهما تمت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه انتهى قال الشيخ الولي عبد الله بن أبي جمرة وكان النبي صلى الله عليه و سلم في (4/55)
قيامه يكسوه من كل آية يقرأها حال يناسب معنى تلك الآية وكذلك ينبغي أن تكون تلاوة القرآن وأن لا يكون تاليه كمثل الحمار يحمل اسفارا انتهى وقوله تعالى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب الآية تقرير بمعنى التعجيب والمعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كالمنعمين في الجنة قال مجاهد يتقي بوجهه أي يجر على وجهه في النار وقالت فرقة ذلك لما روي أن الكافر يلقي في النار مكتوفا مربوطة يداه الى رجليه مع عنقه ويكب على وجهه فليس له شيء يتقي به الا وجهه وقال فرقة المعنى في ذلك صفة كثرة ما ينالهم من العذاب يتقيه بكل جارحة منه حتى بوجهه الذي هو أشرف جوارحه وهذا المعنى أبين بلاغة ثم مثل لقريش بالأمم الذين من قبلهم وما نالهم من العذاب في الدنيا المتصل بعذاب الآخرة الذي هو أكبر ونفى الله سبحانه عن القرآن العوج لأنه لا اختلاف فيه ولا تناقض ولا مغمز بوجه وقوله سبحانه ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون الآية هذا مثل ضربه الله سبحانه في التوحيد فمثل تعالى الكافر العابد للأوثان والشياطين بعبد لرجال عدة في أخلاقهم شكاسة وعدم مسامحة فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بتضايقهم في أوقاتهم ويضايقون العبد في كثرة العمل فهو ابدا في نصب منهم وعناء فكذلك عابد الأوثان الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها وبحراسة حاله منها ومتى توهم أنه أرضى ضما بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر فهو ابدا تعب في ظلال وكذلك هو المصانع للناس الممتحن بخدمة الملوك ومثل تعالى المؤمن بالله وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله فهو يعمله على تؤدة وقد ساس مولاه فالمولى يغفر زلته ويشكره على اجادة عمله ومثلا مفعول بضرب ورجلا نصب على البدل ومتشاكسون معناه لا سمح في أخلاقهم بل فيها لجاج وقرأ ابن كثير وأبو عمرو سالما أي سالما من الشركة ثم وقف تعالى الكفار بقوله هل يستويان مثلا (4/56)
ونصب مثلا على التمييز وهذا التوقيف لا يجيب عنه أحدا الا بأنهما لا يستويان فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد أجابوا فقال الحمد لله أي على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم وباقي الآية بين والاختصام في الآية قيل عام في المؤمنين والكافرين قال ع ومعنى الآية عندي أن الله تعالى توعدهم بأنهم سيتخاصمون يوم القيامة في معنى ردهم في وجه الشريعة وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم وروى الترمذي من حديث عبد الله بن الزبير قال لما نزلت ثم انكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قال الزبير يا رسول الله أتكر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال نعم قال أن الأمر أذن لشديد انتهى وقوله تعالى فمن اظلم ممن كذب على الله الآية الاشارة بهذا الكذب الى قولهم أن لله صاحبة وولدا وقولهم هذا حلال وهذا حرام افتراء على الله ونحو ذلك وكذبوا أيضا بالصدق وذلك تكذيبهم بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم ثم توعدهم سبحانه توعدا فيه احتقارهم بقوله اليس في جهنم مثوى للكافرين وقرأ ابن مسعود والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به والصدق هنا القرآن والشرع بجملته وقالت فرقة الذي يراد به الذين وحذفت النون قال ع وهذا غير جيد وتركيب جاء عليه يرد ذلك بل الذى هاهنا هي للجنس والآية معادلة لقوله فمن أظلم قال قتادة وغيره الذي جاء بالصدق هو محمد عليه السلام والذي صدق به هم المؤمنون وهذا اصوب الأقوال وذهب قوم الى أن الذي صدق به أبو بكر وقيل علي وتعميم اللفظ اصوب وقوله سبحانه أولائك هم المتقون قال ابن عباس اتقوا الشرك وقوله تعالى ليكفر يحتمل أن يتعلق بقوله المحسنين اي الذين احسنوا لكي يكفر وقاله ابن زيد ويحتمل ان يتعلق بفعل مضمر مقطوع مما قبله تقديره يسرهم الله لذلك ليكفر لأن التكفير لا يكون الا بعد التيسير للخير وقوله تعالى اليس الله (4/57)
بكاف عبده وتقوية لنفس النبي صلى الله عليه و سلم وقرأ حمزة والكسائي عباده يريد الأنبياء وأنت يا محمد أحدهم فيدخل في ذلك المؤمنون المطيعون والمتولكون على الله سبحانه وقوله سبحانه ويخوفونك بالذين من دونه أي بالذين يعبدون وباقي الآية بين وقد تقدم تفسير نظيره وقوله تعالى فمن اهتدى فلنفسه أي فلنفسه عمل وسعى ومن ضل فعليها جنى ثم نبه تعالى على آية من آياته الكبرى تدل الناظر على الوحدانية وأن ذلك لا شركة فيه لصنم وهي حالة التوفي وذلك أن ما توفاه الله تعالى على الكمال فهو الذي يموت وما توفاه توفيا غير مكمل فهو الذي يكون في النوم قال ابن زيد النوم وفاة والموت وفاة وكثر الناس في هذه الآية وفي الفرق بين النفس والروح وفرق قوم بين نفس التميز ونفس التخيل الى غير ذلك من الأقوال التي هي غلبة ظن وحقيقة الأمر في هذا هي مما استأثر الله به وغيبه عن عباده في قوله قل الروح من أمر ربي ويكفيك أن في هذه الآية يتوفى الأنفس وفي الحديث الصحيح أن الله قبض أرواحنا حين شاء وردها علينا حين شاء وفي حديث بلال في الوادي فقد نطقت الشريعة بقبض الروح والنفس وقد قال تعالى قل الروح من أمر ربي والظاهر أن الخوض في هذا كله عناء وإن كان قد تعرض للقول في هذا ونحوه ائمة ذكر الثعلبي عن ابن عباس أنه قال في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي بها العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحرك فاذا نام العبد قبض الله تعالى نفسه ولم يقبض روحه وجاء في آداب النوم وأذكار النائم أحايث صحيحة ينبغي للعبد أن لا يخلي نفسه منها وقد روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال اذا أوى الرجل الى فراشه ابتدره ملك وشيطان فيقول الملك اختم بخير ويقول الشيطان اختم بشر فان ذكر الله تعالى ثم نام بات الملك يكلؤه فان استيقظ قال (4/58)
الملك افتح بخير وقال الشيطان افتح بشر فان قال الحمد لله الذي رد الي نفسي ولم يمتها في منامها الحمد لله الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا ان امسكهما من أحد من بعده انه كان حليما غفورا الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض الا باذنه ان الله بالناس لرؤوف رحيم فان وقع من سريره فمات دخل الجنة رواه النسائي واللفظ له والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وزاد آخره الحمد لله الذي يحي الموتى وهو على كل شيء قدير انتهى من السلاح وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من قال حين يأوى الى فراشه لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر غفرت له ذنوبه أو خطاياه شك مسعر وإن كانت مثل زبد البحر رواه ابن حبان في صحيحه ورواه النسائي موقوفا انتهى وروى الترمذي عن أبي امامة قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول من أوى الى فراشه طاهرا يذكر الله حتى يدركه النعاس لم ينقلب ساعة من الليل يسئل الله شيئا من خير الدنيا والآخرة الا أعطاه اياه انتهى والأجل المسمى في هذه الآية هو عمر كل انسان والضمائر في قوله تعالى أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون للأصنام وقوله تعالى واذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة الآية قال مجاهد وغيره في قراءة النبي صلى الله عليه و سلم سورة النجم عند الكعبة بمحضر من الكفار وقرأ أفرأيتم اللات والعزى الآية والقي الشيطان يعني في اسماع الكفار تلك الغرانقة العلى على ما مر في سورة الحج فاستبشروا واشمأزت نفوسهم معناه تقبضت كبرا وانفة وكراهية ونفورا وقوله تعالى قل اللهم فاطر السموات الآية أمر لنبيه عليه السلام بالدعاء (4/59)
اليه ورد الحكم الى عدله ومعنى هذا الأمر تضمن الاجابة وقوله تعالى وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون قال الثعلبي قال السدي ظنوا أشياء أنها حسنات فبدت سيئات قال ع قال سفيان الثوري ويل لأهل الرياء من هذه الآية وقال عكرمة بن عمار جزع محمد بن المنكدر عند الموت فقيل له ما هذا فقال أخاف هذه الآية وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وقوله تعالى ثم اذا خولناه نعمة منا الآية قال الزجاج التخويل العطاء عن غير مجازاة والنعمة هنا عامة في المال وغيره وتقوى الاشارة الى المال بقوله انما اوتيته على علم قال قتادة يريد انما اوتيته على علم مني بوجه المكاسب والتجارات ويحتمل أن يريد على علم من الله في واستحقاق حزته عند الله ففي هذا التأويل اغترار بالله وفي الأول اعجاب بالنفس ثم قال الله تعالى بل هي فتنة أي ليس الأمر كما قال بل هذه الفعلة به فتنة له وابتلاء ثم أخبر تعالى عمن سلف من الكفرة أنهم قد قالوا هذه المقالة كقارون وغيره فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون من الأموال والذين ظلموا من هؤلاء المعاصرين لك يا محمد سيصيبهم سيئات ما كسبوا قال أبو حيان فما أغنى يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية فيها معنى النفي انتهى وقوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله الآية هذه الآية عامة في جميع الناس الى يوم القيامة فتوبة الكافر تمحو ذنبه وتوبة العاصي تمحو ذنبه على ما تقدم تفصيله واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال عطاء بن يسار نزلت في وحشي قاتل حمزة وقال ابن اسحاق وغيره نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا وفتنتهم فريش فافتتنوا ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم فنزلت الآية فيهم منهم الوليد بن الوليد وهشام بن العاصي وهذا قول عمر بن الخطاب وأنه كتبها بيده الى هشام بن العاصي الحديث وقالت فرقة نزلت في قوم كفار من (4/60)
أهل الجاهلية قالوا وما ينفعنا الاسلام ونحن قد زنينا وقتلنا النفس واتينا كل كبيرة فنزلت الآية فيهم وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر هذه ارجى آية في القرآن وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي وأسرفوا معناه افرطوا والقنط أعظم اليأس وقرأ نافع والجمهور تقنطوا بفتح النون قال أبو حاتم فيلزمهم أن يقرءوا من بعد ما قنطوا بكسرها ولم يقرأ به أحد وقرأ أبو عمرو تقنطوا بالكسر وقوله أن الله يغفر الذنوب جميعا عموم بمعنى الخصوص لأن الشرك ليس بداخل في الآية اجماعا وهي أيضا في المعاصي مقيدة بالمشيئة وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ أن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي وقرأ ابن مسعود أن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء وأنيبوا معناه ارجعوا وقوله سبحانه واتبعوا أحسن معناه أن القرآن العزيز تضمن عقائد نيرة وأوامر ونواهي منجية وعدات على الطاعات والبر وتضمن أيضا حدودا على المعاصي ووعيدا على بعضها فالأحسن للمرء أن يسلك طريق الطاعة والانتهاء عن المعصية والعفو في الأمور ونحو ذلك من أن يسلك طريق الغفلة والمعصية فيحد أو يقع تحت الوعيد فهذا المعنى هو المقصود بأحسن وليس المعنى أن بعض القرآن أحسن من بعض من حيث هو قرآن ت وروى أبو بكر بن الخطيب بسنده عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قول الله عز و جل يا حسرتي قال الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم من الجنة قال فهي الحسرة انتهى وقوله فرطت في جنب الله أي في جهة طاعته وتضييع شريعته والايمان به وقال مجاهد في جنب الله أي في أمر الله وقول الكافر وان كنت لمن الساخرين ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى وكرة مصدر من كريكر وهذا الكون في هذه الآية داخل في التمني وباقي الآية أنواره لائحة وحججه واضحة ثم خاطب تعالى نبيه بخبر ما (4/61)
يراه يوم القيامة من حالة الكفار وفي ضمن هذا الخبر وعيد بين لمعاصريه عليه السلام فقال ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ترى من رؤية العين وظاهر الآية أن وجوههم تسود حقيقة وقوله سبحانه وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم الآية ذكر تعالى حالة المتقين ونجاتهم ليعادل بذلك ما تقدم من شقاوة الكافرين وفي ذلك ترغيب في حالة المتقين لأن الأشياء تتبين بأضدادها ومفازتهم مصر من الفوز وفي الكلام حذف مضاف تقديره وينجي الله الذين اتقوا بأسباب مفازتهم والمقاليد المفاتيح وقاله ابن عباس واحدها مقلاد كمفتاح وقال عثمان بن عفان سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن مقاليد السماوات والأرض فقال هي لا اله الا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله ولا حول ولا قوة الا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحي ويميت وهو على كل شيء قدير وقوله تعالى ولقد اوحي اليك والى الذين من قبلك قالت فرقة المعنى ولقد أوحي الى كل نبي لئن أشركت ليحبطن عملك ت قد تقدم غير ما مرة أن ما ورد من مثل هذا فهو محمول على ارادة الامة لعصمة النبي صلى الله عليه و سلم وانما المراد من يمكن أن يقع ذلك منه وخوطب هو صلى الله عليه و سلم تعظيما للأمر قال صلى الله عليه و سلم ليحبطن جواب القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه انتهى وقوله تعالى وما قدروا الله حق قدره معناه وما عظموا الله حق عظمته ولا وصفوه بصفاته ولا نفوا عنه مالا يليق به قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كفار قريش الذين كانت هذه الآيات كلها محاورة لهم وردا عليهم وقالت فرقة نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله تعالى فالحدوا وجسموا واتوا بكل تخليط وقوله تعالى والأرض جميعا قبضته معناه في قبضته واليمين هنا والقبضة عبارة عن القدرة والقوة وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل وصعق في هذه الآية معناه خر ميتا (4/62)
والصور القرن وا يتصور هنا غير هذا ومن يقول الصور جمع صورة فانما يتوجه قوله في نفخة البعث وقد تقدم بيان نظير هذه الآية في غير هذا الموضع وقوله تعالى ثم نفخ فيه أخرى هي نفخة البعث وفي الحديث أن بين النفختين أربعين لا يدري أبو هريرة سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة ت ولفظ مسلم عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه و سلم ما بين النفختين أربعون قالوا يا ابا هريرة اربعون سنة قال ابيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون يوما قال ابيت الحديث قال صاحب التذكرة فقيل معنى قوله أبيت أي امتنعت عن بيان ذلك اذ ليس هو مما تدعو اليه حاجة وعلى هذا كان عنده علم ذلك وقيل المعنى أبيت أن أسئل النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك وعلى هذا فلا علم عنده والأول أظهر وقد جاء أن ما بين النفختين اربعين عاما انتهى وقد تقدم أن الصحيح في المستثنى في الآية أنهم الشهداء قال الشيخ أبو محمد بن بزيزة في شرح الأحكام الصغرى لعبد الحق الذي تلقيناه من شيوخنا المحققين أن العوالم التي لا تفنى سبعة العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار والأرواح انتهى واشرقت الأرض بنور ربها معناه أضاءت وعظم نورها والأرض في هذه الآية الأرض المبدلة من الأرض المعروفة وقوله بنور ربها اضافة مخلوق الى خالق والكتاب كتاب حساب الخلائق ووحده على اسم الجنس لأن كل احد له كتاب على حدة وجيء بالنبيين أي ليشهدوا على أممهم والشهداء قيل هو جمع شاهد وقيل هو جمع شهيد في سبيل الله والأول ابين في معنى التوعد والضمير في قوله بينهم عائد على العالم باجمعه اذ الآية تدل عليهم وزمرا معناه جماعات متفرقة واحدتها زمرة وقوله فتحت جواب اذا والكلام هنا يقتضي ان فتحها انما يكون بعد مجيئهم وقي وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم وهكذا هي حال السجون ومواضع الثقاف والعذاب بخلاف قوله في أهل (4/63)
الجنة وفتحت فالواو موذنة بأنهم يجدونها مفتوحة كمنازل الأفراح والسرور وقوله تعالى وقال لهم خزنتها الم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم الآية في قوله منكم أعظم في الحجة أي رسل من جنسكم لا يصعب عليكم مرامهم ولا فهم أقوالهم وقوله تعالى وسيق الذين اتقوا ربهم لفظ يعم كل من يدخل الجنة من المؤمنين الذين اتقوا الشرك والواو في قوله وفتحت مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم اليها وقالت فرقة هي زائدة وقال قوم اشار اليهم ابن الأنباري وضعف قولهم هذه واو الثمانية وقد تقدم الكلام عليها وجواب اذا فتحت وعن المبرد جواب اذا محذوف تقديره بعد قوله خالدين سعدوا وسقطت هذه الواو في مصحف ابن مسعود وسلام عليكم تحية وطبتم معناه أعمالا ومعتقدا ومسقرا وجزاء وأورثنا الأرض يريد أرض الجنة ونتبوأ معناه نتخذ أمكنة ومساكن ثم وصف تعالى حالة الملائكة من العرش وحفوفهم به والحفوف الأحداق بالشيء وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف وهو الجانب قال ابن المبارك في رقائقه أخبرنا معمر عن أبي اسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي أنه تلا هذه الآية وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا حتى اذا جاءوها قال وجدوا عند باب الجنة شجرة يخرج من ساقها عينان فعمدوا الى احداهما كأنما أمروا بها فاغتسلوا بها فلم تشعث رءؤسهم بعدها ابدا ولم تتغير جلودهم بعدها ابدا كأنما دهنوا بالدهن ثم عمدوا الى الأخرى فشربوا منها فطهرت اجواغهم وغسلت كل قذر فيها وتتلقاهم على كل باب من أبواب الجنة ملائكة سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ثم تتلقاهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان الدنيا بالحميم يجيء من الغيبة يقولون أبشر أعد الله لك كذا وكذا واعد الله لك كذا ثم يذهب الغلام منهم الى الزوجة من أزواجه فيقول قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا فتقول له أنت رأيته فيستخفها الفرح حتى تقوم (4/64)
على أسكفة بابها ترجع فيجيء فينظر الى تأسيس بنيانه من جندل اللؤلؤ أخضر وأصفر وأحمر من كل لون ثم يجلس فينظر فاذا زرابي مبثوثة وأكواب موضوعة ثم يرفع راسه فلولا أن الله قدر ذلك لأذهب بصره انما هو مثل البرق ثم يقول الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله انتهى وقوله تعالى يسبحون بحمد ربهم قالت فرقة معناه أن تسبيحهم يتأتى بحمد الله وفضله وقالت فرقة تسبيحهم هو بترديد حمد الله وتكراره قال الثعلبي متلذذين لا متعبدين مكلفين وقوله تعالى وقيل الحمد لله رب العالمين ختم للأمر وقول جزم عند فصل القضاء أي أن هذا الملك الحاكم العادل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه واكمال قضائه بين عباده ومن هذه الآية جعلت الحمد لله رب العالمين خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم قال قتادة فتح الله أول الخلق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وختم القيامة بالحمد في هذه الآية قال ع وجعل سبحانه الحمد لله رب العالمين فاتحة كتابه فيه يبدأ كل أمر وبه يختم وحمد الله تعالى وتقديسه ينبغي أن يكون من المؤمن كما قيل ... وآخر شيء أنت في كل ضجعة ... وأول شيء أنت عند هبوب ...
تفسير سورة غافر وهي مكية
روى أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال الحواميم ديباج القرآن ومعنى هذه العبارة انها خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزجر وطرق (4/65)
الآخرة محضا وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من اراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرإ الحواميم
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى حم تقدم القول في الحروف المقطعة ويختص هذا الموضع بقول آخر قاله الضحاك والكسائي أن حم هجاء حم بضم الحاء وتشديد الميم المفتوحة كأنه يقول حم الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله وقال ابن عباس الروحم ون هي حروف الرحمن مقطعة في سور وسأل اعرابي النبي صلى الله عليه و سلم عن حم ما هو فقال بدأ أسماء وفواتح سور وذي الطول معناه ذي التطول والمن بكل نعمة فلا خير الا منه سبحانه فترتب في هذه الآية وعيد بين وعدين وهكذا رحمته سبحانه تغلب غضبه قال ع سمعت هذه النزعة من أبي رحمه الله وهو نحو من قول عمر رضي الله عنه لن يغلب عسر يسرين ت هو حديث والطول الانعام وعبارة البخاري الطول التفضل وحكى الثعلبي عن اهل الاشارة انه تعالى غافر الذنب فضلا وقابل التوب وعدا شديد العقاب عدلا لا اله الا هو اليه المصير فردا وقال ابن عباس الطول السعة والغنى وتقلب الذين كفروا في البلاد عبارة عن تمتعهم بالمساكن والمزارع والاسفار وغير ذلك وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه أي ليهلكوه كما قال تعالى فأخذتهم والعرب تقول للقتيل أخيذ وللأسير كذلك قال قتادة ليأخذوه معناه ليقتلوه وليدحضوا معناه ليزلقوا ويذهبوا والمدحضة المزلة والمزلقة وقوله فكيف كان عقاب تعجيب وتعظيم وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر وقوله سبحانه وكذلك حقت كلمات ربك على الذين كفروا الآية في مصحف ابن مسعود وكذلك سبقت كلمة ربك والمعنى وكما أخذت أولئك المذكورين (4/66)
فأهلكتهم فكذلك حقت كلماتي على جميع الكفار من تقدم منهم ومن تأخر أنهم أصحاب النار وقوله تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به الآية أخبر الله سبحانه بخبر يتضمن تشريف المؤمنين ويعظم الرجاء لهم وهو أن الملائكة الحاملين للعرش والذين حول العرش وهؤلاء أفضل الملائكة يستغفرون للمؤمنين ويسئلون الله لهم الرحمة والجنة وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية كان على ربك وعدا مسئولا أي سألته الملائكة قال ع وفسر في هذه الآية المجمل الذي في قوله تعالى ويستغفرون لمن في الأرض لأن الملائكة لا تستغفر لكافر وقد يجوز أن يقال أن استغفارهم لهم بمعنى طلب هدايتهم وبلغني أن رجلا قال لبعض الصالحين ادع لي واستغفر لي فقال له تب واتبع سبيل الله يستغفر لك من هو خير مني وتلا هذه الآية وقال مطرف بن الشخير وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة واغش العباد للعباد الشياطين وتلا هذه الآية وروى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال اذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة اذنه وعاقته مسيرة سبعمائة سنة قال الداودي وعن هارون بن رياب قال حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت حسن فأربعة يقولون سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك وأربعة يقولون سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك انتهى وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال اذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش أن ما بين شحمة اذنه الى عاتقه مسيرة سبعمائة عام انتهى وقد تقدم وقوله ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما معناه وسعت رحمتك وعلمك كل شيء وقوله ومن صلح من آبائهم وازواجهم وذرياتهم روي عن سعيد بن جبير في ذلك أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته فيقول أين أبي أين أمي أين ابني أين زوجي فيلحقون به (4/67)
لصلاحهم ولتنبيه عليهم وطلبه اياهم وهذه دعوة الملائكة وقولهم وقهم السيئات معناه اجعل لهم وقاية تقيهم السيئات واللفظ يحتمل أن يكون الدعاء في أن يدفع الله عنهم انفس السيئات حتى لا ينالهم عذاب من أجلها ويحتمل أن يكون الدعاء في دفع العذاب اللاحق من السيئات فيكون في اللفظ عى هذا حذف مضاف كأنه قال وقهم جزاء السيئات قال الفخر وقوله تعالى ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته يعني من تق السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة انتهى وهذا راجع الى التأويل الأول وقوله تعالى أن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم الآية روى أن هذه الحال تكون للكفار عند دخولهم النار فانهم اذا دخلوا فيها مقتوا أنفسهم وتناديهم ملائكة العذاب على جهة التوبيخ لمقت الله اياكم في الدنيا اذ كنتم تدعون الى الايمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم هذا هو معنى الآية وبه فسر مجاهد وقتادة وابن زيد واللام في قوله لمقت يحتمل أن تكون لام ابتداء ويحتمل أن تكون لام قسم وهو أصوب وأكبر خبر الابتداء واختلف في معنى قولهم امتنا اثنتين الآية فقال ابن عباس وغيره أرادوا موتة كونهم في الاصلاب ثم ءاحياءهم في الدنيا ثم أماتتهم الموت المعروف ثم أحياءهم يوم القيامة وهي كالتي في سورة البقرة كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية وقال السدي ارادوا أنه أحياهم في الدنيا ثم اماتهم ثم أحياهم في القبر وقت السؤال ثم أماتهم فيه ثم احياهم في الحشر قال ع وهذا فيه الاحياء ثلاث مرار والأول أثبت وهذه الآية متصلة المعنى بالتي قبلها وبعد قولهم فهل الى خروج من سبيل محذوف يدل عليه الظاهر تقديره لا اسعاف لطلبتكم أو نحو هذا من الرد وقوله تعالى ذلكم يحتمل أن يكون اشارة الى العذاب الذي هم فيه أوالي مقتهم أنفسهم أوالي المنع والزجر والاهانة وقوله تعالى ذلكم بأنه اذا ادعى (4/68)
الله وحده معناه بحالة توحيد ونفي لما سواه كفرتم وأن يشرك به اللات والعزى وغيرهما صدقتم فالحكم اليوم بعذابكم وتخليدكم في النار لله لا لتلك التي كنتم تشركونها معه في الألوهية وقوله سبحانه فادعوا الله مخلصين له الدين الآية مخاطبة للمؤمنين أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وادعوا معناه اعبدوا وقوله تعالى رفيع الدرجات يحتمل أن يريد بالدرجات صفاته العلى وعبر بما يقرب من افهام السامعين ويحتمل ان يريد رفيع الدرجات التي يعطيها للمؤمنين ويتفضل بها على عباده المخلصين في جنته والعرش هو الجسم المخلوق الأعظم الذي السموات السبع والكرسي والأرضون فيه كالدنانير في الفلاة من الأرض وقوله تعالى يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده قال الضحاك الروح هنا هو الوحي القرآن وغيره مما لم يتل وقال قتادة والسدي الروح النبوءة ومكانتهما كما قال تعالى وروحا من أمرنا وسمي هذا روحا لأنه تحي به الأمم والأزمان كما يحي الجسد بروحه ويحتمل أن يكون القاء الروح عاما لكل ما ينعم الله له على عباده المهتدين في تفهيمه الأيمان والمعقولات الشريفة والمنذر بيوم التلاق ففي هذا التأويل هو الله تعالى قال الزجاج الروح كل ما فيه حياة الناس وكل مهتد حي وكل ضال كالميت وقوله من أمره أن جعلته جنسا للأمور فمن لتبعيض أو لابتداء الغاية وان جعلت الأمر من معنى الكلام فمن أما لابتداء الغاية وأما بمعنى الباء ولا تكون للتبعيض بتة وقرأ الجمهور لتنذر بالتاء على مخاطبة النبي صلى الله عليه و سلم وقرأ أبي بن كعب وجماعة لينذر بالياء ويوم التلاق معناه تلاقي جميع العالم بعضهم بعضا وذلك أمر لم يتفق قط قبل ذلك اليوم وقوله يوم هم بارزن معناه في براز من الأرض يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وقوله تعالى لمن الملك اليوم روي ان الله تعالى يقرر هذا التقرير ويسكت العالم هيبة وجزعا فيجيب (4/69)
سبحانه هو نفسه بقوله لله الواحد القهار ثم يعلم الله تعالى أهل الموقف بأن اليوم تجزى كل نفس بما كسبت وباقي الآية تكرر معناه فانظره في موضعه ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بانذار العالم وتحذيرهم من يوم القيامة وأهواله والآزفة القريبة من أزف الشيء اذا قرب والآزفة في الآية صفة لمحذوف قد علم واستقر في النفوس هوله والتقدير يوم الساعة والآزفة أو الطامة الآزفة ونحو هذا وقوله سبحانه اذ القلوب لدى الحناجر معناه عند الحناجر أي قد صعدت من شدة الهول والجزع والكاظم الذي يرد غيظه وجزعه في صدره فمعنى الآية أنهم يطمعون في رد ما يجدونه في الحناجر والحال تغالبهم ويطاع في موضع الصفة لشفيع لأن التقدير ولا شفيع مطاع قال أبو حيان يطاع في موضع صفة لشفيع فيحتمل أن يكون في موضع خفض على اللفظ أو في موضع رفع على الموضع ثم يحتمل النفي أن يكون منسحبا على الوصف فقط فيكون ثم شفيع ولكنه لا يطاع ويحتمل أن ينسحب على الموصوف وصفته أي لا شفيع فيطاع انتهى وهذا الاحتمال الاخير هو الصواب قال ع وهذه الآية كلها عندي اعتراض في الكلام بليغ وقوله يعلم خائنة الأعين متصل بقوله سريع الحساب وقالت فرقة يعلم متصل بقوله لا يخفي على الله منهم شيء وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين ويضعفه بعد الآية من الآية وكثرة الحائل والخائنة مصدر كالخيانة ويحتمل أن تكون خائنة اسم فاعل أي يعلم الأعين اذا خانت في نظرها قال ابو حيان والظاهر أن خائنة الأعين من اضافة الصفة الى الموصوف أي الأعين الخائنة كقوله وان سقيت كرام الناس فاسقينا أي الناس الكرام وجوزوا أن يكون خائنة مصدرا كالعافية أي يعلم خيانة الأعين انتهى وهذه الآية عبارة عن علم الله تعالى بجميع الخفيات فمن ذلك كسر الجفون والغمز بالعين أو النظرة التي تفهم معنى (4/70)
ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه في شأن رجل ارتد ثم جاء ليسلم هلا قام اليه رجل منكم حين تلكأت عنه فضرب عنقه فقالوا يا رسول الله الا أومأت الينا فقال صلى الله عليه و سلم ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين وفي بعض الكتب المنزلة من قول الله عز و جل أنا مرصاد الهمم انا العالم بمجال الفكر وكسر الجفون وقال مجاهد خائنة الأعين مسارقة النظر الى ما لا يجوز ثم قوى تعالى هذا الاخبار بقوله وما تخفي الصدور بما لم يظهر على عين ولا غيرها واسند أبو بكر بن الخطيب عن مولى أم معبد الخزاعية عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يدعو اللهم طهر قلبي من النفاق وعملي من الرياء ولساني من الكذب وعيني من الخيانة فانك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور انتهى قال القشيري في التحبير ومن علم اطلاع الحق تعالى عليه يكون مراقبا لربه وعلامته أن يكون محاسبا لنفسه ومن لم تصح محاسبته لم تصح مراقبته وسئل بعضهم عما يستعين به العبد على حفظ البصر فقال يستعين عليه بعلمه ان نظر الله اليه سابق على نظره الى ما ينظر اليه انتهى وقوله سبحانه والله يقضي بالحق أي يجازي الحسنة بعشر والسيئة بمثلها وينصف المظلوم من الظالم الى غير ذلك من أقضية الحق والعدل والأصنام لا تقضي بشيء ولا تنفذ أمرا ويدعون معناه يعبدون وقوله سبحانه أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق الضمير في يسيروا لكفار قريش والآثار في الارض هي المباني والمآثر والصيت الدنيوي وذنوبهم كانت تكذيب الأنبياء والواقي الساتر المانع مأخوذ من الوقاية وباقي الآية بين وخص تعالى هامان وقارون بالذكر تنبيها على مكانهما من الكفر ولكونهما أشهر رجال فرعون وقيل أن قارون هذا ليس بقارون بني اسرائيل وقيل هو ذلك ولكنه كان (4/71)
منقطعا الى فرعون خادما له مستغنيا معه وقوله ساحر أي في أمر العصا وكذاب في قوله أني رسول الله ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لما جاءهم موسى بالنبوءة والحق من عند الله قال هؤلاء الثلاثة وأجمع رأيهم على أن يقتل ابناء بني اسرائيل اتباع موسى وشبانهم وأهل القوة منهم وأن يستحي النساء للخدمة والاسترقاق وهذا رجوع منهم الى نحو القتل الأول الذي كان قبل ميلاد موسى ولكن هذا الأخير لم تتم لهم فيه عزمة ولا أعانهم الله تعالى على شيء منه قال قتادة هذا قتل غير الأول الذي كان حذر المولود وسموا من ذكرنا من بني اسرائيل أبناء كما تقول لانجاد القبيلة أو المدينة وأهل الظهور فيها هؤلاء أبناء فلانة وقوله تعالى وما كيد الكافرين الا في ضلال عبارة وجيزة تعطي قوتها أن هؤلاء الثلاثة لم يقدرهم الله تعالى على قتل احد من بني اسرائيل ولا نجحت لهم فيهم سعاية وقوله تعالى وقال فرعون ذروني أقتل موسى الآية الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرتهم آيات موسى عليه السلام أنهد ركنه واضطربت معتقدات أصحابه ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره وذلك بين من غير ما موضع من قصتهما وفي هذه الآية على ذلك دليلان أحدهما قوله ذروني فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من انفاذ أوامرهم والدليل الثاني مقالة المؤمن وما صدع به وان مكاشفته لفرعون أكثر من مساترته وحكمه بنبوءة موسى أظهر من توريته في أمره وأما فرعون فانما نحا الى المخرقة والتمويه والاضطراب ومن ذلك قوله ذروني أقتل موسى وليدع ربه أي أني لا أبالي برب موسى ثم رجع الى قومه يريهم النصيحة والحماية لهم فقال اني أخاف أن يبدل دينكم والدين السلطان ومنه قول زهير ... لئن حللت بحي في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك ...
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم أو أن يظهر وقرأ الباقون وأن يظهر فعلى القراءة (4/72)
الأولى خاف فرعون أحد أمرين وعلى الثانية خاف الأمرين معا ولما سمع موسى مقالة فرعون دعا وقال أني عذت بربي وربكم الآية ثم حكى الله سبحانه مقالة رجل مؤمن ومن آل فرعون شرفه بالذكر وخلد ثناؤه في الأمم غابر الدهر قال ع سمعت أبي رحمه الله يقول سمعت ابا الفضل الله الجوهري على المنبر يقول وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة فأطرق ثم رفع رأسه وأنشد ... عن المرء لا تسئل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتد ...
ماذا تريد من قوم قرنهم الله بنبيه وخصهم بمشاهدة وحيه وقد أثنى الله تعالى على رجل مؤمن ومن آل فرعون كتم إيمانه وأسره فجعله تعالى في كتابه وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه اذ جرد سيفه بمكة وقال والله لا أعبد الله سرا بعد اليوم قال مقاتل كان هذا المؤمن ابن عم فرعون قال الفخر قيل انه كان ابن عم لفرعون وكان جاريا مجرى ولي العهد له ومجرى صاحب السر له وقيل كان قبطيا من قومن فرعون وقيل انه كان من بني اسرائيل والقول الأول أقرب لأن لفظ الآل يقع على القرابة والعشيرة انتهى قال الثعلبي قال ابن عباس وأكثر العلماء كان اسمه حزقيل وقيل حزبقال وقيل غير هذا انتهى وقوله يصبكم بعض الذي يعدكم قال ابو عبيدة وغيره بعض هنا بمعنى كل وقال الزجاج هو الزام الحجة بأيسر ما في الأمر وليس فيه نفي اصابة الكل قال ع ويظهر لي أن المعنى يصبكم القسم الواحد مما يعدبه لأنه عليه السلام وعدهم أن آمنوا بالنعيم وان كفروا بالعذاب الأليم فإن كان صادقا فالعذاب بعض ما وعد به وقول المؤمن يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض استنزال لهم ووعظ وقوله في الأرض يريد أرض مصر وهذه الأقوال تقتضي زوال هيبة فرعون (4/73)
ولذلك استكان هو وراجع بقوله ما أريكم الا ما أرى واختلف الناس من المراد بقوله تعالى وقال الذي آمن فقال الجمهور هو المؤمن المذكور قص الله تعالى أقاويله الى آخر الآيات وقالت فرقة بل كلام ذلك المؤمن قد تم وانما أراد تعالى بالذي آمن موسى عليه السلام محتجين بقوة كلامه وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك ولم يكن كلام الأول الا بملاينة لهم وقوله مثل يوم الأحزاب أي مثل يوم من ايامهم لأن عذابهم لم يكن في عصر واحد والمراد بالأحزاب المتحزبون على الأنبياء ومثل الثاني بدل من الأول والدأب العادة ويوم التنادي معناه يوم ينادي قوم قوما ويناديهم الآخرون واختلف في التنادي المشار اليه فقال قتادة هو نداء أهل الجنة أهل النار فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا وقيل هو النداء الذي يتضمنه قوله تعالى يوم ندعوا كل أناس بإمامهم قال ع ويحتمل أن يكون المراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة وذلك كثير وقرأ ابن عباس والضحاك وابو صالح يوم التناد بشد الدال وهذا معنى آخر ليس من النداء بل هو من ند البعير اذا هرب وبهذا المعنى فسر ابن عباس والسدي هذه الآية وروت هذه الفرقة في هذا المعنى حديثا أن الله تعالى اذا طوى السماوات نزلت ملائكة كل سماء فكانت صفا بعد صف مستديرة بالأرض التي عليها الناس للحساب فاذا رأى الخلق هول القيامة وأخرجت جهنم عنقا الى أصحابها فر الكفار وندوا مدبرين الى كل جهة فتردهم الملائكة الى المحشر لا عاصم لهم والعاصم المنجي وقوله ولقد جاءكم يوسف الآية قالت فرقة منهم الطبري يوسف المذكور هنا هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام وروي عن وهب بن منبه أن فرعون موسى هو فرعون يوسف عمر الى زمن موسى وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة وقالت فرقة بل هو فرعون (4/74)
آخر وقوله كبر مقتا أي كبر مقتا جدالهم عند الله فاختصر ذكر الجدال لدلالة تقدم ذكره عليه وقرأ أبو عمرو وحده على كل قلب بالتنوين وقرأ الباقون بغير تنوين وفي مصحف ابن مسعود على قلب كل متكبر جبار ثم ان فرعون لما أعيته الحيل في مقاومة موسى نحا الى المخرقة ونادى هامان وزيره أن يبني له صرحا فيروي أنه طبخ الآجر لهذا الصرح ولم يطبخ قبله وبناه ارتفاع أربعمائة ذراع فبعث الله جبريل فمسحه بجناحه فكسره ثلاث كسر تفرقت اثناتان ووقعت ثالثة في البحر والأسباب الطرق قاله السدي وقال قتادة اراد الأبواب وقيل عنى لعله يجد مع قربه من السماء سببا يتعلق به وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وصد عن السبيل بضم الصاد وفتح الدال عطفا على زين والباقون بفتح الصاد والتباب الخسران ومنه تبت يدا أبي لهب وبه فسرها مجاهد وقتادة ثم وعظهم الذي آمن فدعا الى اتباع أمر الله وقوله اتبعون أهدكم يقوي أن المتكلم موسى وإن كان الآخر يحتمل أن يقول ذلك أي اتبعوني في اتباع موسى ثم زهدهم في الدنيا وانها شيء يتمتع به قليلا ورغب في الآخرة اذ هي دار الاستقرار قال الغزالي في الاحياء من أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته في التلاوة والذكر والتفكر في حسن المئاب ومن اراد أن ترجح كفة حسناته وتثقل موازين خيراته فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته فان خلط عملا صالحا وآخر سيئا فأمره في خطر لكن الرجاء غير منقطع والعفو من كرم الله منتظر انتهى وقوله تعالى ويا قوم مالي أدعوكم الى النجاة الآية قد تقدم ذكر الخلاف هل هذه المقالات لموسى أو لمؤمن آل فرعون والدعاء الى النجاة هو الدعاء الى سببها وهو توحيد الله تعالى وطاعته وباقي الآية بين وقوله أن ما تدعونني المعنى وأن الذي تدعونني اليه من عبادة غير الله ليس له دعوة أي قدر وحق يجب أن يدعي أحد اليه ثم توعدهم (4/75)
بأنهم سيذكرون قوله عند حلول العذاب بهم والضمير في وقاه يحتمل أن يعود على موسى أو على مؤمن آل فرعون على ما تقدم من الخلاف وقال القائلون بأنه مؤمن آل فرعون أن ذلك المؤمن نجا مع موسى عليه السلام في البحر وفر في جملة من فر معه من المتبعين وقوله تعالى في آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا الآية قوله النار رفع على البدل من قوله سوء وقيل رفع بالابتداء وخبره يعرضون قالت فرقة هذا الغدو والعشي هو في الدنيا أي في كل غدو وعشي من ايام الدنيا يعرض آل فرعون على النار قال القرطبي في التذكرة وهذا هو عذاب القبر في البرزخ انتهى وكذا قال الامام الفخر وروي في ذلك أن أرواحهم في أجواف طير سود تروح بهم وتغدوا الى النار وقاله الأوزاعي عافانا الله من عذابه وخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أن أحدكم اذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ان كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقدعك حتى يبعثك الله اليه يوم القيامة انتهى وقوله تعالى ويوم تقوم الساعة أي ويوم القيامة يقال ادخلوا آل فرعون اشد العذاب وآل فرعون اتباعه وأهل دينه والضمير في قوله يتحاجون لجميع كفار الأمم وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون والعامل في اذ فعل مضمر تقديره اذكر ثم قال جميع من في النار لخزنتها ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فراجعتهم الخزنة على معنى التوبيخ والتقرير أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات فاقر الكفار عند ذلك وقالوا بلى أي قد كان ذلك فقال لهم الخزنة عند ذلك ادعوا أنتم اذن وهذا على معنى الهزء بهم وقوله تعالى وما دعاء الكافرين الا في ضلال وقيل هو من قول الخزنة وقيل هو من قول الله تعالى اخبارا منه لمحمد عليه الصلاة و السلام ثم أخبر تعالى أنه ينصر رسله والمؤمنين في الدنيا والآخرة ونصر المؤمنين داخل (4/76)
في نصر الرسل وأيضا فقد جعل الله للمؤمنين الفضلاء ودا ووهبهم نصرا اذا ظلموا وحضت الشريعة على نصرهم ومنه قوله صلى الله عليه و سلم من رد عن أخيه في عرضه كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم وقوله عليه السلام من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله ملكا يحميه يوم القيامة وقوله تعالى ويوم يقوم الأشهاد يريد يوم القيامة قال الزجاج والاشهاد جمع شاهد وقال الطبري جمع شهيد كشريف واشراف ويوم لا ينفع بدل من الأول والمعذرة مصدر كالعذر ثم اخبر تعالى بقصة موسى وما أتاه من النبوءة تأنيسا لمحمد وضرب أسوة وتذكيرا بما كانت العرب تعرفه من أمر موسى فبين ذلك أن محمدا ليس ببدع من الرسل والهدى والنبوءة والحكمة والتوراة تعم جميع ذلك وقوله تعالى واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار قال الطبري الابكار من طلوع الفجر الى طلوع الشمس وقيل من طلوع الشمس الى ارتفاع الضحى وقال الحسن بالعشي يريد صلاة العصر والابكار يريد صلاة الصبح وقوله تعالى أن في صدورهم الأكبر أي ليسوا على شيء بل في صدورهم كبر وأنفة عليك ثم نفي أن يكونوا يبلغون آمالهم بحسب ذلك الكبير ثم أمره تعالى بالاستعاذة بالله في كل أمره من كل مستعاذ منه وقوله تعالى لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس فيه توبيخ لهؤلاء الكفرة المتكبرين كأنه قال مخلوقات الله أكبر وأجل قدرا من خلق البشر فما لأحد منهم يتكبر على خالقه ويحتمل أن يكون الكلام في معنى البعث وأن الذي خلق السمالوات والأرض قادر على خلق الناس تارة أخرى والخلق هنا مصدر مضاف الى المفعول والذين آمنوا وعملوا الصالحات يعادلهم قوله ولا المسيء وهو اسم جنس يعم المسيئين وقوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم آية تفضل ونعمة ووعد لامة محمد صلى الله عليه و سلم بالاجابة عند الدعاء قال (4/77)
النووي وروينا في كتاب الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة الا أتاه الله اياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم اذن تكثر قال الله أكثر قال الترمذي حديث حسن صحيح ورواه الحاكم في المستدرك من رواية أبي سعيد الخدري وزاد فيه أو يدخر له من الاجر مثلها انتهى قال ابن عطاء الله لا يكن تأخر أمد العطاء مع الالحاح في الدعاء موجبا ليأسك فهو ضمن لك الاجابة فيما يختار لك لا فيما تختار نفسك وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد انتهى وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله عز و جل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه اذا دعاني رواه الجماعة الا ابا داود واللفظ لمسلم انتهى من السلاح وقالت فرقة معنى ادعوني اعبدوني واستجب معناه بالنصر والثواب ويدل على هذا قوله ان الذين يستكبرون عن عبادتي الآية ت وهذا التأويل غير صحيح والأول هو الصواب ان شاء الله للحديث الصحيح فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الدعاء هو العبادة وقرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين رواه ابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وابن حيان وفي صحيحيهما وقال الترمذي واللفظ له حديث حسن صحيح وقال الحاكم صحيح الاسناد انتهى من السلاح والداخر الصاغر الذليل وقوله تعالى الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه الآيات هذا تنبيه على آيات الله وعبرة متى املها العاقل أدته الى توحيد الله سبحانه والاقرار بربوبيته وتؤفكون معناه تصرفون عن طريق النظر والهدى كذلك يوفك أي على هذه الهيئة وبهذه الصفة صرف الله تعالى الكفار الجاحدين بآيات الله من الأمم المتقدمة عن طريق الهدى وقوله تعالى (4/78)
هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل الآية تنبيه على الوحدانية بالعبرة في ابن آدم وتدريج خلقه وقوله سبحانه ومنكم من يتوفى من قبل عبارة تردد في الادراج المذكورة فمن الناس من يموت قبل أن يخرج طفلا وآخرون قبل الأشد وآخرون قبل الشيخوخة ولتبلغوا أجلا مسمى أي ليبلغ كل واحد أجلا مسمى لا يتعداه ولعلكم تعقلون الحقائق اذا نظرتم في هذا وتدبرتم حكمة الله تعالى وقوله تعالى الم تر الى الذين يجادلون في آيات الله الآية في الكفار المجادلين في رسالة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ويسحبون معناه يجرون والسحب الجر والحميم الذائب الشديد الحر من النار ويسجرون قال مجاهد معناه توقد النار بهم والعرب تقول سجرت التنور اذا ملأته نارا وقال السدي يسجرون يحرقون ثم أخبر تعالى أنهم يقال لهم أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا فيقولون ضلوا أي تلفوا لنا وغابوا ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون الى الكذب فيقولون بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا ثم يقال لهؤلاء الكفار المعذبين ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بما كنتم تفرحون في الدنيا بالمعاصي والكفر وتمرحون قال مجاهد معناه الأشر والبطر وقوله تعالى ادخلوا أبواب جهنم معناه يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا لأن هذه المخاطبة انما هي بعد دخولهم ثم أنس تعالى نبيه ووعده بقوله فاصبر ان وعد الله حق أي في نصرك واظهار أمرك فان ذلك أمرا اما ان ترى بعضه في حياتك فتقر عينك به واما أن تموت قبل ذلك فالى أمرنا وتعذيبنا يصيرون ويرجعون قال أبو حيان وما في أما زائدة لتأكيد معنى الشرط انتهى وقوله تعالى ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك هذه الآية رد على العرب الذين استبعدوا أن يبعث الله بشرا رسولا وقوله تعالى (4/79)
فاذا جاء أمر الله قضي بالحق الآية يحتمل أن يريد بأمر الله القيامة فتكون الآية توعدا لهم بالآخرة ويحتمل أن يريد بأمر الله ارسال رسول وبعثة نبي قضى ذلك وأنفذه بالحق وخسر كل مبطل ت والاول أبين وقوله تعالى الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها الآية هذه آيات فيها عبر وتعديد نعم والأنعام الازواج الثمانية ومنها الأولى للتبعيض وقال الطبري في هذه الآية الانعام تعم الابل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وغير ذلك مما ينتفع به من البهائم فمنها في الموضعين على هذا للتبعيض وقوله تعالى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا اكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون الآية هذا احتجاج على قريش بما أظهر سبحانه في الأمم السالفة من نقماته في الكفار الذين كانوا أكثر منهم وأشد قوة قال أبو حيان فما أغنى ما نافية أو استفهامية بمعنى النفي انتهى وقوله سبحانه فلما جاءتهم رسلهم بالبينات الآية الضمير في جاءتهم عائد على الأمم المذكورة واختلف المفسرون في الضمير في فرحوا على من يعود فقال مجاهد وغيره هو عائد على الأمم المذكورين أي فرحوا بما عندهم من العلم في ظنهم ومعتقدهم من انهم لا يبعثون ولا يحاسبون قال ابن زيد واغتروا بعلمهم بالدنيا والمعاش وظنوا انه لا آخرة ففرحوا وهذا كقوله تعالى يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وقالت فرقة الضمير في فرحوا عائد على الرسل وفي هذا التأويل حذف وتقديره فلما جاءتهم رسلهم بالبينات كذبوهم ففرح الرسل بما عندهم من العلم بالله والثقة به وبأنه سينصرهم والضمير في بهم عائد على الكفار بلا خلاف ثم حكى سبحانه حالة بعضهم ممن آمن بعد تلبس العذاب بهم فلم ينفعهم ذلك وفي ذكر هذا حض على المبادرة وسنة نصب على المصدر ت وقيل المعنى احذروا سنة لله كقوله ناقة الله قال الفخر وقوله هنالك اسم مكان (4/80)
مستعار للزمان أي وخسروا وقت رؤية البأس انتهى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
تفسير سورة حم السجدة وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
روى أن عتبة بن ربيعة ذهب الى النبي صلى الله عليه و سلم ليحتج عليه ويبين له أمر مخالفته لقومه فلما فرغ عتبة من كلامه قال النبي صلى الله عليه و سلم بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته الى قوله فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأرعد الشيخ وقف شعره وأمسك على فم النبي صلى الله عليه و سلم وناشده بالرحم أن يمسك وقال حين فارقه والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا هو بالكهانة ولا هو بالسحر ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي والرحمن الرحيم صفتا رجاء ورحمة الله عز و جل وفصلت معناه بينت آياته أي فسرت معانيه ففصل بين حلاله وحرامه ووعده ووعيده وقيل فصلت في التنزيل أي نزل نجوما ولم ينزل مرة واحدة وقيل فصلت بالمواقف وأنواع اواخر الآي ولم يكن يرجع الى قافية ونحوها كالسجع والشعر وقوله تعالى لقوم يعلمون قالت فرقة يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل فكان القرآن فصلت آياته لهؤلاء اذ هم أهل الانتفاع بها فخصوا بالذكر تشريفا وقالت فرقة يعلمون متعلق في المعنى بقوله عربيا أي لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنها لم يخرج شيء منها عن كلام (4/81)
العرب وكان الآي على هذا التأويل رادة على من زعم أن في كتاب الله ما ليس في كلام العرب والتأويل الأول أبين وأشرف معنى وبين أنه ليس في القرآن الا ما هو من كلام العرب اما من أصل لغتها وأما مما عربته من لغة غيرها ثم ذكر في القرآن وهو معرب مستعمل وقوله تعالى فهم لا يسمعون نفي لسماعهم النافع الذي يعتد به ثم حكى عنهم مقالتهم التي باعدوا فيها كل المباعدة وأرادوا أن يأيسوه من قبولهم ما جاء به وهي قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه وأكنة جمع كنان والوقر الثقل في الاذن الذي يمنع السمع وقوله تعالى وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة الآية قال الحسن المراد بالزكاة زكاة المال وقال ابن عباس والجمهور الزكاة في هذه الآية لا اله الا الله التوحيد كما قال موسى لفرعون هل لك الى أن تزكي ويرجح هذا التأويل أن الآية مكية وزكاة المال انما نزلت بالمدينة وانما هذه زكاة القلب والبدن أي تطهيره من المعاصي وقاله مجاهد والربيع وقال الضحاك ومقاتل معنى الزكاة هنا النفقة في الطاعة وغير ممنون قال ابن عباس معناه غير منقوص وقالت فرقة معناه غير مقطوع يقال مننت الحبل اذا قطعته وقال مجاهد مهناها غير محسوب قال ع ويظهر في الآية أنه وصفه بعدم المن والأذى من حيث هو من جهة الله تعالى فهو شريف لا من فيه وأعطيات البشر هي التي يدخلها المن والأنداد الأشباه والأمثال وهي اشارة الى كل ما عبد من دون الله وقوله تعالى وبارك فيها أي جعلها منبتة للطيبات والأطعمة وجعلها طهورا الى غير ذلك من وجوه البركة وفي قراءة ابن مسعود وقسم فيها أقواتها واختلف في معنى قوله أقواتها فقال السدي هي أقوات البشر وارزاقهم وأضافها الى الأرض من حيث هي فيها وعنها وقال قتادة هي اقوات الأرض من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها وروى (4/82)
ابن عباس في هذا حديثا مرفوعا فشبهها بالقوت الذي به قوام الحيوان وقال مجاهد اراد أقواتها من المطر والمياه وقال الضحاك وغيره أراد بقوله أقواتها خصائصها التي قسمها في البلاد من الملبوس والمطعوم فجعل في بلد وفي قطر ما ليس في الآخر ليحتاج بعضهم الى بعض ويتقوت من هذه في هذه وهذا قريب من الأول وقوله تعالى في أربعة أيام يريد باليومين الأولين وقرأ الجمهور سواء بالنصب على الحال أي سواء هي وما انقضى فيها وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع سواء بالرفع أي هي سواء وقرأ الحسن سواء بالخفض على نعت الأيام واختلف في معنى السائلين فقال قتادة معناه سواء لمن سأل واستفهم عن الأمر وحقيقة وقوعه وأراد العبرة فيه فانه يجده كما قال تعالى وقال ابن زيد وجماعة معناه مستو مهيأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين اليها من البشر فعبر عنهم بالسائلين بمعنى الطالبين لأنه من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به فهم في حكم من سأل هذه أشيءا اذ هم أهل حاجة اليها ولفظة سواء تجري مجرى عدل وزر في أن ترد على المفرد والجمع والمذكر والؤنث وقوله سبحانه ثم استوى الى السماء معناه بقدرته واختراعه الى خلق السماء وايجادها وقوله تعالى وهي دخان روي أنها كانت جسما رخوا كالدخان أو البخار وروي أنه مما أمره الله تعالى أن يصعد من الماء وهنا محذوف تقديره فأوجدها وأتقنها وأكمل أمرها وحينئذ قال لها وللأرض أيتيا بمعنى ايتيا أمري وإرادتي فيكما وقرأ ابن عباس آتيا بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما والاشارة بهذا كله الى تسخيرهما وما قدره الله من أعمالهما وقوله أو كرها فيه محذوف تقديره ايتيا طوعا وإلا أتيتما كرها وقوله سبحانه قالتا أراد الفرقتين جعل السموات سماء والأرضين أرضا واختلف في هذه المقالة من السماوات والأرض هل هو نطق حقيقة أو هو مجاز لما ظهر عليها من التذلل والخضوع والانقياد (4/83)
الذي يتنزل منزلة النطق قال ع والقول الأول أنه نطق حقيقة أحسن لأنه لا شيء يدفعه وأن العبرة به أتم والقدرة فيه أظهر وقوله تعالى فقضاهن معناه فصنعن وأوجدهن ومنه قول أبي ذؤيب ... وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع ...
وقوله تعالى وأوحى في كل سماء أمرها قال مجاهد وقتادة أوحى الى سكانها وعمرتها من الملائكة واليها هي في نفسها ما شاء الله تعالى من الامور التي بها قوامها وصلاحها وقوله ذلك اشارة الى جميع ما ذكر أي أوجده بقدرته وأحكمه بعلمه وقوله تعالى فإن أعرضوا يعني قريشا والعرب الذين دعوتهم الى عبادة الله تعالى عن هذه الآيات البينات فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود وقرأ النخعي وغيره صعقة فيهما وهذه قراءة بينة المعنى لأن الصعقة الهلاك الوحي وأما الأولى فهي تشبيه بالصاعقة وهي الوقعة الشديدة من صوت الرعد فشبهت هنا وقعة العذاب بها لأن عادا لم تعذب الا بريح وانما هذا تشبيه واستعارة وعبارة الثعلبي صاعقة أي واقعة وعقوبة مثل صاعقة عاد وثمود انتهى قال ع وخص عادا وثمودا بالذكر لوقوف قريش على بلادها في اليمن وفي الحجر في طريق الشام قال الثعلبي ومن بين ايديهم ومن خلفهم يعني قبلهم وبعدهم وقامت الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمتهم خبرا ومباشرة وقال ع قوله ومن خلفهم أي جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم وبعد تقدم وجودهم في الزمن فلذلك قال ومن خلفهم ولا يتوجه أي يجعل ومن خلفهم عبارة عما أتى بعدهم لأن ذلك لا يلحقهم منه تقصير ت وما تقدم للثعلبي وغيره أحسن لأن مقصد الآية اتصال النذارة بهم وبمن قبلهم وبمن بعدهم اذ ما من أمة الا وفيها نذير وكما قال تعالى رسلنا تترا وأيضا فانه جمع في اللفظ عادا وثمودا وبالضرورة أن الرسول الذي أرسل الى ثمود هو بعد عاد فليس لرد ع وجه (4/84)
فتأمله وقوله تعالى فأرسلنا عليهم ريحا الآية تقدم قصص هؤلاء وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير نحسات بسكون الحاء وهي جمع نحس وقرأ الباقون نحسات بكسر الحاء جمع نحس على وزن حذر والمعنى في هذه اللفظة مشائيم من النحس المعروف قاله مجاهد وغيره وقال ابن عباس نحسات معناه متتابعات وقيل معناه شديدة أي شديدة البرد وقوله تعالى فهديناهم معناه بينا لهم قاله ابن عباس وغيره وهذا كما هي الآن شريعة الاسلام مبينة لليهود والنصارى المختلطين بنا ولكنهم يعرضون ويشتغلون بالضد فذلك استحباب العمى على الهدى والعذاب الهون هو الذي معه هوان واذلال قال أبو حيان الهون مصدر بمعنى الهوان وصف به العذاب انتهى وأعداء الله هم الكفار المخالفون لأمر الله سبحانه ويوزعون معناه يكف أولهم حبسا على آخرهم قاله قتادة والسدي وأهل اللغة وهذا وصف حال من أحوال الكفرة في بعض أوقات القيامة وذلك عند وصولهم الى جهنم فانه سبحانه يستقرهم عند ذلك على أنفسهم ويسئلون سؤال توبيخ عن كفرهم فيجحدون ويحسبون أن لا شاهد عليهم ويطلبون شهيدا عليهم من أنفسهم وفي الحديث الصحيح أن العبد يعني الكافر يقول يا رب اليس وعدتني أن لا تظلمني قال فان ذلك لك قال فاني لا أقبل علي شاهدا الا من نفسي قال فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل قال فيقول لهن بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أدافع الحديث قال أبو حيان حتى اذا ما جاءوها ما بعد اذا زائدة للتوكيد انتهى وقوله تعالى وما كنتم تستترون يحتمل أن يكون من كلام الجلود ويحتمل أن يكون من كلام الله عز و جل وجمهور الناس على أن المراد بالجلود الجلود المعروفة وأما معنى الآية فيحتمل وجهين أحدهما أن يريد وما كنتم تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر خوف أن يشهد أو لأجل أن يشهد عليكم سمعكم الآية وهذا هو منحى مجاهد والمعنى (4/85)
الثاني أن يريد وما يمكنكم ولا يسعكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم وهذا هو منحي السدي وعن ابن مسعوج قال اني لمستتر بأستار الكعبة اذ دخل ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم فتحدثوا بحديث فقال أحدهم أترى الله يسمع ما قلنا فقال الآخر يسمع اذا رفعنا ولا يسمع اذا أخفينا وقال الآخر إن كان يسمع منه شيئا فانه يسمعه كله فجئت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته بذلك فنزلت هذه الآية وما كنتم تستترون وقرأ حتى بلغ وان يستعتبوا فما هم من المعتبين قال الشيخ أبو محمد بن ابي زيد في آخر مختصر المدونة له واعلم أن الأجساد التي أطاعت أو عصت هي التي تبعث يوم القيامة لتجازي والجلود التي كانت في الدنيا والألسنة والأيدي والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة على من تشهد انتهى قال القرطبي في تذكرته واعلم أن عند أهل السنة أن تلك الأجساد الدنيوية تعاد بأعيانها وأعراضها بلا خلاف بينهم في ذلك انتهى ومعنى أرادكم أهلككم والردى الهلاك وفي صحيح البخاري ومسلم عن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول قبل وفاته ثلاث لا يموتن أحدكم الا وهو يحسن الظن بالله عز و جل وذكره ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله عز و جل وزاد فيه فان قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله فقال لهم الله تبارك وتعالى وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم ارداكم فأصبحتم من الخاسرين انتهى ونقله أيضا صاحب التذكرة وقوله تعالى فإن يصبروا مخاطبة للنبي صلى الله عليه و سلم والمعنى فان يصبروا أولا يصبروا واقتصر لدلالة الظاهر على ما ترك وقوله تعالى وان يستعتبوا معناه وان طلبوا العتبى وهي الرضا فما هم ممن يعطاها ويستوجبها قال أبو حيان قراءة الجمهور وأن يستعتبوا مبنيا للفاعل ومن المعتبين مبنيا للمفعول أي وأن يعتذروا فما هم من المعذروين انتهى ثم وصف تعالى (4/86)
حالهم في الدنيا وما أصابهم به حين أعرضوا فختم عليهم فقال وقيضنا لهم قرناء أي يسرنا لهم قرناء سوء من الشياطين وغواة الانس وقوله فزينوا لهم ما بين أيديهم أي علموهم وقرروا لهم في نفوسهم ومعتقدات سوء في الأمور التي تقدمتهم من أمر الرسل والنبوءات ومدح عبادة الأصنام واتباع فعل الآباء الى غير ذلك مما يقال أنه بين ايديهم وذلك كل ما تقدمهم في الزمن واتصل اليهم أثره أو خبره وكذلك أعطوهم معتقدات سوء فيما خلفهم وهو كل ما يأتي بعدهم من القيامة والبعث ونحو ذلك وحق عليهم القول أي سبق عليهم القضاء الحتم وأمر الله بتعذيبهم في جملة أمم معذبين كفار من الجن والانس وقالت فرقة في بمعنى مع أي مع أمم قال ع والمعنى يتأدى بالحرفين ولا نحتاج أن نجعل حرفا بمعنى حرف اذ قد أبى ذلك رؤساء البصريين وقوله تعالى وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن الآية حكاية لما فعله بعض كفار قريش كأبي جهل وغيره لما خافوا استمالة القلوب بالقرآن قالوا متى قرأ محمد فالغطوا بالصفير والصياح وانشاد الشعر حتى يخفي صوته فهذا الفعل منهم هو اللغو وقال أبو العالية ارادوا قعوا فيه وعيبوه وقولهم لعلكم تغلبون أي تطمسون أمر محمد وتميتون ذكره وتصرفون عنه القلوب فهذه الغاية التي تمنوها ويأبى الله الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وقوله تعالى فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا الآية قوله لنذيقن الفاء دخلت على لام القسم وهي آية وعيد لقريش والعذاب الشديد هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها والجزاء بأسوأ أعمالهم هو عذاب الآخرة ت حدث ابو عمر في كتاب التمهيد قال حدثنا احمد بن قاسم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا ابراهيم بن موسى بن جميل قال حدثنا عبد الله بن محمد بن ابي الدنيا قال حدثنا العتكي قال حدثنا خالد أبو يزيد الرقي عن يحيى المدني عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال خرجت مرة فمررت (4/87)
بقبر من قبور الجاهلية فاذا رجل قد خرج من القبر يتأجج نارا في عنقه سلسلة ومعي اداوة من ماء فلما رءاني قال يا عبد الله اسقني قال فقلت عرفني فدعاني باسمي أو كلمة تقولها العرب يا عبد الله اذ خرج على أثره رجل من القبر فقال يا عبد الله لا تسقه فانه كافر ثم أخذ السلسلة فاجتذبه فادخله القبر قال ثم أضافني الليل الى بيت عجوز الى جانبها قبر فسمعت من القبر صوتا يقول بول وما بول شن وما شن فقلت للعجوز ما هذا قالت كان زوجا ليس وكان اذا بال لم يتق البول وكنت أقول له ويحك إن الجمل اذا بال تفاج وكان يأبى فهو ينادي من يوم مات بول وما بول قلت فما الشن قالت جاء رجل عطشان فقال اسقني فقال دونك الشن فاذا ليس فيه شيء فخر الرجل ميتا فهو ينادي منذ مات شن وما شن فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرته فنهى أن يسافر الرجل وحده قال ابو عمر هذا الحديث فى اسناده مجهولون ولم نورده للاحتجاج به ولكن للاعتبار وما لم يكن حكم فقد تسامح الناس في روايته عن الضعفاء انتهى من ترجمة عبد الرحمن بن حرملة وكلامه على قول النبي صلى الله عليه و سلم الشيطان يهم بالواحد والاثنين فاذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم وقد ذكرنا الحكاية الاولى عن الوائلي فى سورة اقرأ باسم ربك بغير هذا السند وأن الرجل الأول هو ابو جهل انتهى ثم ذكر تعالى مقالة كفار يوم القيامة اذا دخلوا النار فانهم يرون عظيم ما حل بهم وسوء منقلبهم فتجول أفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم ومبادي ضلالتهم فيعظم غيظهم وحنقهم عليه ويودون ان يحصل فى اشد عذاب فحينئذ يقولون ربنا ارنا اللذين اضلانا وظاهر اللفظ يقتضي أن الذي في قولهم اللذين انما هو للجنس أي ارنا كل مغو من الجن والانس وهذا قول جماعة من المفسرين وقيل طلبوا ولد آدم الذي سن القتل والمعصية من البشر وابليس الأبالسة من الجن وهذا قول لا يخفي ضعفه (4/88)
والأول هو القوي وقولهم نجعلهما تحت اقدامنا يريدون في أسفل طبقة في النار وهي أشد عذابا وقوله تعالى ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا قال سفيان بن عبد الله الثقفي قلت يا رسول الله أخبرني بأمر اعتصم به قال قل ربي الله ثم استقم ت هذا الحديث خرجه مسلم في صحيحه قال صاحب المفهم جوابه صلى الله عليه و سلم من جوامع الكلم وكأنه منتزع من قول الله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا الآية وتلخيصه اعتدلوا على طاعته قولا وفعلا وعقدا انتهى من شرح الأربعين حديثا لابن الفاكهاني قال ع واختلف الناس في مقتضى قوله ثم استقاموا فذهب الحسن وجماعة الى أن معناه استقاموا بالطاعات واحتناب المعاصي وتلا عمر رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال استقاموا والله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب قال ع فذهب رحمه الله الى حمل الناس على الاتم الأفضل وإلا فيلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب أن لا تتنزل الملائكة عند الموت على غير مستقيم على الطاعة وذهب أبو بكر رضي الله عنه وجماعة معه الى أن المعنى ثم استقاموا على قولهم ربنا الله فلم يختل توحيدهم ولا اضطرب ايمانهم قال ع وفي الحديث الصحيح من كان آخر كلامه لا اله الا الله دخل الجنة وهذا هو المعتقد ان شاء الله وذلك أن العصاة من أمة محمد وغيرها فرقتان فاما من غفر الله له وترك تعذيبه فلا محالة أنه ممن تتنزل عليهم الملائكة بالبشارة وهو انما استقام على توحيده فقط وأما من قضى الله بتعذيبه مدة ثم يأمر بادخاله الجنة فلا محالة أنه يلقي جميع ذلك عند موته ويعلمه وليس يصح أن تكون حالة كحالة الكافر واليائس من رحمة الله واذا كان هذا فقد حصلت له بشارة بأن لا يخاف الخلود ولا يحزن منه ويدخل فيمن يقال لهم ابشروا بالجنة التي كنتم توعدون ومع هذا كله فلا يختلف في أن الموحد المستقيم على الطاعة (4/89)
أتم حالا وأكمل بشارة وهو مقصد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وبالجملة فكلما كان المرء أشد استعدادا كان أسرع فوزا بفضل الله تعالى قال الثعلبي قوله تعالى تتنزل عليهم الملائكة أي عند الموت أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا قال وكيع والبشرى في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث وفي البخاري تتنزل عليهم الملائكة أي عند الموت انتهى قال ابن العربي في أحكامه تتنزل عليهم الملائكة قال المفسرون عند الموت وأنا أقول كل يوم وأوكد الأيام يوم الموت وحين القبر ويوم الفزع الأكبر وفي ذلك أثار بيناها في موضعها انتهى قال ع وقوله تعالى أن لا تخافوا ولا تحزنوا آمنة عامة في كل هم مستأنف وتسلية تامة عن كل فائت ماض وقال مجاهد المعنى لا تخافون ما تقدمون عليه ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم ت وذكر أبو نعيم عن ثابت البناني أنه قرأ حم السجدة حتى بلغ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة فوقف وقال بلغنا أن العبد المؤمن حيث يبعث من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له لا تخف ولا تحزن وأبشر بالجنة التي كنت توعد قال فآمن الله خوفه وأقر عينه الحديث انتهى قال ابن المبارك في رقائقه سمعت سفيان يقول في قوله تعالى تتنزل عليهم الملائكة أي عند الموت أن لا تخافوا ما أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفتم من ضيعاتكم وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون قال يبشر بثلاث بشارات عند الموت واذا خرج من القبر واذا فزع نحن أوليائكم في الحياة الدنيا قالوا كانوا معهم قال ابن المبارك وأخبرنا رجل عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى نحن أولياءكم في الحياة الدنيا قال قرناءهم يلقونهم يوم القيامة فيقولون لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة اه وقوله تعالى نحن أولياءكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة المتكلم بنحن أولياءكم هم الملائكة القائلون لا تخافوا ولا تحزنوا أي يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق نحن (4/90)
كنا أولياءكم في الدنيا ونحن هم أولياءكم في الآخرة قال السدي المعنى نحن حفظتكم وأولياؤكم في الآخرة والضمير في قوله فيها عائد على الآخرة وتدعون معناه تطلبون قال الفخر ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين اشارة الى أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية بالالهامات والمكاشفات اليقينية والمناجات الخفية كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح بالقاء الوساوس وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات فهم يقولون كما أن تلك الولايات الحاصلة في الدنيا فهي تكون باقية في الآخرة فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير مائلة الى الزوال بل تصير بعد الموت أقوى وأبقى وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة وهي كالشعلة بالنسبة الى الشمس والقطرة بالنسبة الى البحر وانما التعلقات الجسدانية والتدبيرات البدنية هي الحائلة بينها وبين الملائكة فاذا زالت تلك العلائق فقد زال الغطاء واتصل الأثر بالمؤثر والقطرة بالبحر والشعلة بالشمس انتهى ت وقد نقل الثعلبي من كلام أرباب المعاني هنا كلاما كثيرا حسنا جدا موقظا لأرباب الهمم فانظره ان شئت وروى ابن المبارك في رقائقه بسنده عن النبي صلى الله عليه و سلم إنه قال اذا فنيت أيام الدنيا عن هذا العبد المؤمن بعث الله الى نفسه من يتوفاها قال فقال صاحباه اللذان يحفظان عليه عمله أن هذا قد كان لنا أخا وصاحبا وقد حان اليوم منه فراق فأذنوا لنا أو قال دعونا نثن على أخينا فيقال أثنيا عليه فيقولان جزاك الله خيرا ورضي عنك وغفر لك وأدخلك الجنة فنعم الأخ كنت والصاحب ما كان أيسر مؤنتك وأحسن معونتك على نفسك ما كانت خطاياك تمنعنا أن نصعد الى ربنا فنسبح بحمده ونقدس له ونسجد د له ويقول الذي يتوفى نفسه أخرج أيها الروح الطيب الى خير يوم مر عليك فنعم ما قدمت لنفسك أخرج الى الروح (4/91)
والريحان وجنات النعيم ورب عليك غير غضبان واذا فنيت أيام الدنيا عن العبد الكافر بعث الله الى نفسه من يتوفاها فيقول صاحباه اللذان كانا يحفظان عليه عمله أن هذا قد كان لنا صاحبا وقد حان منه فراق فاذنوا لنا ودعونا نثن على صاحبنا فيقال أثينا عليه فيقولان لعنة الله وغضبه عليه ولا غفر له وأدخله النار فبيس الصاحب ما كان أشد مؤنته وما كان يعين على نفسه إن كانت خطاياه وذنوبه لتمنعنا الى أن نصعد الى ربنا فنسبح له ونقدس له ونسجد له ويقول الذي يتوفى نفسه اخرج أيها الروح الخبيث الى شر يوم مر عليك فبيس ما قدمت لنفسك اخرج الى الحميم وتصلية الجحيم ورب عليك غضبان انتهى وقوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله الآية ابتداء توصية لنبيه عليه السلام وهو لفظ يعم كل من دعا قديما وحديثا الى الله عز و جل من الأنبياء والمؤمنين والمعنى لا أحد أحسن قولا ممن هذه حاله والى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة وقيل أن الآية نزلت في المؤذنين وهذا ضعيف لأن الآية مكية والأذان شرع بالمدينة قال أبو حيان ولا السيئة لا زائدة للتوكيد انتهى وقوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن آية جمعت مكارم الاخلاق وأنواع الحلم والمعنى ادفع ما يعرض لك مع الناس في مخالطتهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن قال ابن عباس أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الاساءة فاذا فعل المؤمنون ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم البخاري ولي حميم أي قريب انتهى وفسر مجاهد وعطاء هذه الآية بالسلام عند اللقاء قال ع ولا شك أن السلام هو مبدأ الدفع بالتي هي أحسن وهو جزء منه والضمير في قوله يلقاها عائد على هذه الخلق التي يقتضيها قوله ادفع بالتي هي أحسن وقالت فرقة المراد وما يلقي لا اله الا الله وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ وقوله سبحانه الا الذين صبروا مدح بليغ (4/92)
للصابرين وذلك بين المتأمل لأن الصبر على الطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها والحظ العظيم يحتمل أن يريد من العقل والفضل فتكون الآية مدحا للمتصف بذلك ويحتمل أن يريد ذو حظ عظيم من الجنة وثواب الآخرة فتكون الآية وعدا وبالجنة فسر قتادة الحظ هنا وقوله تعالى وإما ينزغنك الشيطان نزغ فاستعذ بالله أما شرط وجواب الشرط قوله فاستعذ والنزغ فعل الشيطان في قلب أو يد من القاء غضب أو حقد أو بطش في اليد فمن الغضب هذه الآية ومن الحقد قوله نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي ومن البطش قول النبي صلى الله عليه و سلم لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده فيلقيه في حفرة من حفر النار ومن دعاء الشيخ الولي العارف بالله سبحانه محمد بن مسرة القرطبي اللهم لا تجعل صدري للشيطان مراغا ولا تصير قلبي له مجالا ولا تجعلني ممن استفزه بصوته واجلب عليه بخيله ورجله وكن لي من حبائله منجيا ومن مصائده منقذا ومن غوايته مبعدا اللهم أنه وسوس في القلب وألقى في النفس مالا يطيق اللسان ذكره ولا تستطيع النفس نشره مما نزهك عنه علو عزك وسمو مجدك فازل يا سيدي ما سطر وامح ما زور بوابل من سحائب عظمتك وطوفان من بحار نصرتك واسلل عليه سيف أبعادك وارشقه بسهام أقصائك واحرقه بنار انتقامك واجعل خلاصي منه زائدا في حزنه وموكدا لاسفه ثم قال رحمه الله اعلم أنه ربما كان العبد في خلوته مشتغلا بتلاوته ويجد في نفسه من الوسوسة ما يجول بينه وبين ربه حتى لا يجد لطعم الذكر حلاوة ويجد في قلبه قساوة وربما اعتراه ذلك مع الاجتهاد في قراءته وعلة ذلك أن الذكر ذكران ذكر خوف ورهبة وذكر أمن وغفلة فاذا كان الذكر بالخوف والرهبة خنس الشيطان ولم يحتمل الحملة وأذهب الوسوسة لأن الذكر اذا كان باجتماع القلب وصدق النية لم يكن للشيطان قوة عند ذلك (4/93)
وانقطعت علاق حيله وانما قوته ووسوسته مع الغفلة واذا كان الذكر بالأمن والغفلة لم تفارقه الوسوسة وان استدام العبد الذكر والقراءة لأن على قلب الغافل غشاوة ولا يجد صاحبها لطعم الذكر حلاوة فتحفظ على دينك من هذا العدو وليس لك أن تزيله عن مرتبته ولا أن تزيحه عن وطنه وإنما أبيح لك مجاهدته فاستعن بالله يعنك وثق بالله فانه لا يخذلك قال تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين انتهى من تصنيفه رحمه الله وندب سبحانه في الآية المتقدمة الى الأخذ بمكارم الأخلاق ووعد على ذلك وعلم سبحانه أن خلقة البشر تغلب أحيانا وتثور بهم سورة الغضب ونزغ الشيطان فدلهم في هذه الآية على ما يذهب ذلك وهي الاستعاذة به عز و جل ثم عدد سبحانه آياته ليعتبر فيها فقال ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ثم قال تعالى لا تسجدوا للشمس ولا للقمر وان كانت لكم فيهما منافع لأن النفع منهما انما هو يتسخير الله اياهما فهو الذي ينبغي أن يسجد له والضمير في خلقهن قيل هو عائد على الآيات المتقدم ذكرها وقيل عائد على الشمس والقمر والاثنان جمع وايضا جمع ما لا يعقل يؤنث فلذلك قال خلقهن ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام ساغ أن يعود الضمير مجموعا وقيل هو عائد على الأربعة المذكورة ت ومن كتاب المستغيثين بالله لأبي القاسم بن بشكوال حدث بسنده الى أنس بن مالك قال تقرأ حم السجدة وتسجد عند السجدة وتدعو فانه يستجاب لك قال الراوي وجربته فوجدته مستجابا انتهى ثم خاطب جل وعلا نبيه عليه السلام بما يتضمن وعيدهم وحقارة أمرهم وأنه سبحانه غني عن عبادتهم بقوله فان استكبروا الآية وقوله فالذين يعني بهم الملائكة هم صافون يسبحون وعند هنا ليست بظرف مكان وانما هي بمعنى المنزلة والقربة كما تقول زيد عند الملك جليل ويروى أن تسبيح الملائكة قد صار لهم كالنفس لبني (4/94)
آدم ولا يسئمون معناه لا يملون ثم ذكر تعالى آية منصوبة ليعتبر بها في أمر البعث من القبور ويستدل بما شوهد من هذه على ما لم يشاهد فقال ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة الآية وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشعث بالجدب فهي عابسة كما الخاشع عابس يكاد يبكي واهتزاز الأرض هو تخلخل أجزائها وتشققها للنبات وربوها هو انتفاخها بالماء وعلو سطحها به وعبارة البخاري اهتزت بالنبات وربت ارتفعت اه ثم ذكر الله تعالى بالأمر الذي ينبغي أن يقاس على هذه الآية والعبرة وذلك احياء الموتى فقال ان الذي أحياها لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير والشيء في اللغة الموجود وقوله تعالى أن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا الآية آية وعيد والالحاد الميل وهو هنا ميل عن الحق ومنه لحد الميت لأنه في جانب يقال لحد الرجل والحد بمعنى واختلف في الحادهم هذا ما هو فقال قتادة وغيره هو الحاد بالتكذيب وقال مجاهد وغيره هو بالمكاء والصفير واللغو الذين ذهبوا اليه وقال ابن عباس الحادهم وضعهم للكلام غير موضعه ولفظة الالحاد تعم هذا كله وباقي الآية بين وقوله تعالى اعملوا ما شئتم وعيد في صيغة الأمر باجماع من أهل العلم وقوله تعالى ان الذين كفروا بالذكر الآية يريد الذين كفروا قريشا والذكر القرآن باجماع واختلف في الخبر عنهم أين هو فقالت فرقة هو في قوله أولئك ينادون من مكان بعيد ورد بكثرة الحائل وأن هنالك قوما قد ذكروا يحسن رد قوله أولئك ينادون عليهم وقالت فرقة الخبر مضمر تقديره ان الذين كفروا بالذكر لما جاءهم هلكوا أو ضلوا وقيل الخبر في قوله وإنه لكتاب عزيز وهذا ضعيف لا يتجه وقال عمرة بن عبيد معناه في التفسير ان الذين كفروا بالذكر لما جائهم كفروا به وانه لكتاب عزيز قال ع والذي يحسن في هذا هو اضمار الخبر ولكنه عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدره هؤلاء فيه وانما هو بعد حكيم حميد (4/95)
وهو أشد اظهارا لمذمة الكفار به وذلك لأن قوله وانه لكتاب داخل في صفة الذكر المكذب به فلم يتم ذكر المخبر عنه الا بعد استيفاء وصفه ووصف الله تعالى الكتاب بالعزة لأنه بصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والازراء عليه وهو محفوظ من الله تعالى قال ابن عباس معناه كريم على الله تعالى وقوله تعالى لا يأتيه الباطل قال قتادة والسدي يريد الشيطان وظاهر اللفظ يعم الشيطان وأن يجيء أمر يبطل منه شيئا وقوله من بين يديه معناه ليس فيما تقدم من الكتب ما يبطل شيئا منه وقوله ولا من خلفه أي ليس يأتي بعده من نظر ناظر وفكرة عاقل ما يبطل شيئا منه والمراد باللفظة على الجملة لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات وقوله تنزيل خبر مبتدأ أي هو تنزيل وقوله تعالى ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك يحتمل معنيين أحدهما أن يكون تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم عن مقالات قومه وما يلقاه من المكروه منهم والثاني أن يكون المعنى ما يقال لك من الوحي وتخاطب به من جهة الله تعالى الا ما قد قيل للرسل من قبلك وقوله تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا الآية الأعجمي هو الذي لا يفصح عربيا كان أو غير عربي والعجمي الذي ليس من العرب فصيحا كان أو غير فصيح والمعنى ولو جعلنا هذا القرآن أعجميا لا يبين لقالوا واعترضوا لولا بينت آياته وهذه الآية نزلت بسبب تخليط اكن من قريش في أقوالهم من أجل حروف وقعت في القرآن وهي مما عرب من كلام العجم كسجين واستبرق ونحوه وقرأ الجمهور ءاعجمي وعربي على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف وقرأ حمزة والكسائي وحفص أأعجمي بهمزتين وكأنهم ينكرون ذلك ويقولون أأعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن ثم قال تعالى قل هو يعني القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء واختلف الناس في قوله وهو عليهم عمى فقالت فرقة يريد بهو القرآن وقالت فرقة يريد بهو الوقر وهذه كلها استعارات (4/96)
والمعنى أنهم كالأعمى وصاحب الوقر وهو الثقل في الاذن المانع من السمع وكذلك قوله تعالى أولئك ينادون من مكان بعيد يحتمل معنيين وكلاهما مقول للمفسرين أحدهما أنها استعارة لقلة فهمهم شبههم بالرجل ينادي على بعد يسمع منه الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه وهذا تأويل مجاهد والآخران الكلام على الحقيقة وأن معناه أنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف ليفضحوا على رؤوس الخلائق ويكون أعظم لتوبيخهم وهذا تأويل الضحاك قال أبو حيان عمى بفتح الميم مصدر عمي انتهى ثم ضرب الله تعالى امر موسى مثلا للنبي عليه السلام ولقريش أي فعل أولئك كأفعال هؤلاء حين جاءهم مثل ما جاء هؤلاء والكلمة السابقة هي حتم الله تعالى بتأخير عذابهم الى يوم القيامة والضمير في قوله لفي شك منه يحتمل أن يعود على موسى أو على كتابه وقوله تعالى من عمل صالحا فلنفسه الآية نصيحة بليغة للعالم وتحذير وترجية وقوله تعالى اليه يرد علم الساعة الآية المعنى أن علم الساعة ووقت مجيئها يرده كل مؤمن متكلم فيه الى الله عز و جل وقوله تعالى ويوم يناديهم أين شركائي الآية التقدير واذكر يوم يناديهم والضمير في يناديهم الأظهر والأسبق فيه للفهم أنه يريد الكفار عبدة الأوثان ويحتمل أن يريد كل من عبد من دون الله من انسان وغيره وفي هذا ضعف وأما الضمير في قوله وضل عنهم فلا احتمال لعودته الا على الكفار وءاذناك قال ابن عباس وغيره معناه أعلمناك ما منا من يشهد ولا من شهد بأن لك شريكا وضل عنهم أي نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة والأصنام ويحتمل أن يريد وضل عنهم الاصنام أي تلفت فلم يجدوا منها نصرا وتلاشى لهم أمرها وقوله وظنوا يحتمل أن يكون متصلا بما قبله ويكون الوقف عليه ويكون قوله ما لهم من محيص استئناف نفي أن يكون لهم ملجأ أو موضع روغان تقول (4/97)
حاص الرجل اذا راغ لطلب النجاة من شيء ومنه الحديث فحاصوا حيصة حمر الوحش الى الأبواب ويكون الظن على هذا التأويل على بابه أي ظنوا أن هذه المقالة ما منا من شهيد منجاة لهم أو أمر يموهون به ويحتمل أن يكون الوقف في قوله من قبل ويكون وظنوا متصلا بقوله ما له من محيص أي ظنوا ذلك ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين وقد تقدم البحث في اطلاق الظن على اليقين ت وهذا التأويل هو الظاهر والأول بعيد جدا وقوله تعالى لا يسأم الانسان من دعاء الخير هذه آيات نزلت في كفار قيل في الوليد بن المغيرة وقيل في عتبة بن ربيعة وجل الآية يعطي أنها نزلت في كفار وإن كان أولها يتضمن خلقا ربما شارك فيها بعض المؤمنين ودعاء الخير اضافته اضافة المصدر الى المفعول وفي مصحف ابن مسعود من دعاء بالخير والخير في هذه الآية المال والصحة وبذلك تليق الآية بالكفار وقوله تعالى ليقولون هذا لي أي بعملي وبما سعيت ولا يرى أن النعم انما هي فضل من الله تعالى قال صلى الله عليه و سلم ليقولون قال أبو البقاء هو جواب الشرط والفاء محذوفة وقيل هو جواب قسم محذوف قال صلى الله عليه و سلم قلت هذا هو الحق والأول غلط لأن القسم قد تقدم في قوله ولئن فالجواب له ولأن حذف الفاء في الجواب لا يجوز انتهى وفي تغليط الصفاقسي لأبي البقاء نظر وقوله وما أظن الساعة قائمة قول بين فيه الجحد والكفر ثم يقول هذا الكافر ولئن رجعت الى ربي كما تقولون أن لي عنده للحسنى أي حالا ترضيني من مال وبنين وغير ذلك قال ع والأماني على الله تعالى وترك الجد في الطاعة مذموم لكل أحد فقد قال عليه السلام الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله وقوله تعالى واذا أنعمنا على الانسان أعرض ونئا عن جانبه الآية ذكر سبحانه الخلق الذميمة من الانسان جملة وهي في الكافر بينة متمكنة وأما المؤمن ففي الأغلب يشكر على النعمة (4/98)
وكثيرا ما يصير عند الشدة ونئا معناه بعد ولم يمل الى شكر ولا طاعة وقوله فذو دعاء عريض أي وطويل أيضا وعبارة الثعلبي عريض أي كثير والعرب تستعمل الطول والعرض كليهما في الكثرة من الكلام انتهى ثم أمر تعالى نبيه أن يوقف قريشا على هذا الاحتجاج وموضع تغريرهم بأنفسهم فقال قل أرايتم إن كان من عند الله وخالفتموه ألستم على هلكة فمن أضل ممن يبقي على مثل هذا الغرر مع الله وهذا هو الشقاق ثم وعد تعالى نبيه عليه السلام بأنه سيرى الكفار آياته واختلف في معنى قوله سبحانه في الآفاق وفي أنفسهم فقال المنهال والسدي وجماعة هو وعد بما يفتحه الله على رسوله من الاقطار حول مكة وفي غير ذلك من الأرض كخيبر ونحوها وفي أنفسهم اراد به فتح مكة قال ع وهذا تأويل حسن يتضمن الاعلام بغيب ظهر بعد ذلك وقال قتادة والضحاك ستنريهم آياتنا في الآفاق هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما وفي أنفسهم يوم بدر والتأويل الأول أرجح والله اعلم والضمير في قوله تعالى أنه الحق عائد على الشرع والقرآن فباظهار الله نبيه وفتح البلاد عليه يتبين لهم أنه الحق وقوله بربك قال ابو حيان الباء زائدة وهو فاعل يكف أي أو لم يكفهم ربك انتهى وباقي الآية بين
تفسير سورة الشورى وهي مكية
وقال مقاتل فيها مدني قوله تعالى ذلك الذي يبشر الله عباده الى الصدور (4/99)
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى حم عسق قال الثعلبي قال ابن عباس أن حم عسق هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله المنزلة على كل نبي أنزل عليه كتاب ولذلك قال تعالى كذلك يوحي اليك والى الذين من قبلك وقرأ الجمهور يوحي باسناد الفعل الى الله تعالى وقرأ ابن كثير وحده يوحي بفتح الحاء على بناء الفعل للمفعول والتقدير يوحي اليك القرآن وقوله تعالى والى الذين من قبلك يريد من الأنبياء الذين نزل عليهم الكتاب وقرأ نافع والكسائي يتفطرن وقرأ أبو عمرة وعاصم ينفطرن والمعنى فيهما يتصدعن ويتشققن خضوعا وخشية من الله تعالى وتعظيما وطاعة وقوله من فوقهن أي من أعلاهن وقال الأخفش علي بن سليمان الضمير من فوقهن للكفار أي من فوق الجماعات الكافرة والفرق الملحدة من أجل أقوالها يكاد السماوات يتفطرن فهذه الآية على هذا كالتي في كهيعص يكاد السماوات يتفطرن منه الآية وقالت فرقة معناه من فوق الأرضين اذ قد جرى ذكر الأرض وقوله تعالى ويستغفرون لمن في الأرض قالت فرقة هذا منسوخ بقوله تعالى ويستغفرون للذين آمنوا قال ع وهذا قول ضعيف لأن النسخ في الاخبار لا يتصور وقال السدي ما معناه أن ظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص في المؤمنين فكأنه قال ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين وقالت فرقة بل هي على عمومها لكن استغفار الملائكة ليس بطلب غفران للكفرة مع بقائهم على كفرهم وانما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تؤدي الى الغفران لهم وتأويل السدي أرجح وقوله تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل هذه آية تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم ووعيد للكافرين (4/100)
والمعنى ليس لك الا البلاغ فقط فلا تهتم بعدم ايمان قريش وغيرهم الله هو الحفيظ عليهم كفرهم المحصي لأعمالهم المجازي عليها وأنت لست بوكيل عليهم وما في هذه الألفاظ من موادعة فمنسوخ قال الامام الفخر في شرحه لأسماء الله الحسنى عند كلامه على اسمه سبحانه الحفيظ قال بعضهم ما من عبد حفظ جوارحه الا حفظ الله عليه قلبه وما من عبد حفظ الله عليه قلبه الا جعله حجة على عباده انتهى ثم قال تعالى وكذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا المعنى وكما قضينا أمرك هكذا وأمضيناه في هذه السورة كذلك أوحينا اليك قرآنا عربيا مبينا لهم لا يحتاجون الى آخر سواه اذ فهمه متأت لهم ولم نكلفك الا انذار من ذكر وأم القرى هي مكة ويوم الجمع هو يوم القيامة أي تخوفهم اياه وقوله فريق مرتفع على خبر الابتداء المضمر كأنه قال هم فريق في الجنة وفريق في السعير ثم قوي تعالى تسلية نبيه بأن عرفه أن الأمر موقوف على مشيئة الله من ايمانهم أو كفرهم وأنه لو اراد كونهم أمة واحدة على دين واحد لجمعهم عليه ولكنه سبحانه يدخل من سبقت له السعادة عنده في رحمته وييسره في الدنيا لعمل أهل السعادة وان الظالمين بالكفر الميسرين لعمل الشقاوة ما لهم من ولي ولا نصير قال عبد الحق رحمه الله في العاقبة وقد علمت رحمك الله أن الناس يوم القيامة صنفان صنق مقرب مصان وآخر مبعد مهان صنف نصبت لهم الأسرة والحجال والأرائك والكلال وجمعت لهم الرغائب والآمال وآخرون أعدت لهم الأراقم والصلال والمقامع والأغلال وضروب الاهوال والأنكال وأنت لا تعلم من ايهما أنت ولا في أي الفريقين كنت ... نزلوا بمكة في قبائل نوفل ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل ... وتقلبوا فرحين تحت ظلالها ... وطرحت بالصحراء غير مظلل (4/101)
وسقوا من الصافي المعتق ريهم ... وسقيت دمعة واله متململ ...
بكى سفيان الثوري رحمه الله ليلة الى الصباح فقيل له بكاؤك هذا على الذنوب فأخذ نبتة من الأرض وقال الذنوب أهون من هذا إنما أبكي خوف الخاتمة وبكى غير سفيان وغير سفيان وأنه للأمر يبكي عليه ويصرف الاهتمام كله اليه وقد قيل لا تكف دمعك حتى ترى في المعاد ربعك وقيل يا ابن آدم الأقلام عليك تجري وأنت في غفلة لا تدري يا ابن آدم دع التنافس في هذه الدار حتى ترى ما فعلت في أمرك الأقدار سمع بعض الصالحين منشدا ينشد أيا راهبي نجران ما فعلت هند فبكى ليلة الى الصباح فسئل عن ذلك فقال قلت في نفسي ما فعلت الأقدار في وماذا جرت به علي انتهى وقوله تعالى أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي الآية قوله ام اتخذوا كلام مقطوع مما قبله وليست بمعادلة ولكن الكلام كانه اضرب عن حجة أم لهم أو مقالة مقررة فقال بل اتخذوا هذا مشهور قول النحويين في مثل هذا وذهب عضهم الى أن أم هذه هي بمنزلة ألف الاستفهام دون تقرير اضراب ثم أثبت الحكم بأنه عز و جل هو الولي الذي تنفع ولايته وقوله تعالى وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه الى الله الآية المعنى قل لهم يا محمد وما اختلفتم فيه أيها الناس من تكذيب وتصديق وايمان وكفر وغير ذلك فالحكم فيه والمجازاة عنه ليست الي ولا بيدي وانما ذلك الى الله تعالى الذي صفاته ما ذكر من احياء الموتى والقدرة على كل شيء وقوله تعالى جعل لكم من أنفسكم أزواجا يريد زوج الانسان الأنثى وبهذه النعمة اتفق الذرء وليست الأزواج هاهنا الأنواع وقوله ومن الأنعام أزواجا الظاهر أيضا فيه والمتسق أنه يريد اناث الذكران ويحتمل أن يريد الأنواع والأول أظهر وقوله يذرؤكم أي يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن قاله مجاهد والناس فلفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق (4/102)
معنى آخر ليس في خلق وهو توالي طبقات على مر الزمان وقوله فيه الضمير عائد على الجعل الذي يتضمنه قوله جعل لكم وهذا كما تقول كلمت زيدا كلاما أكرمته فيه وقال القتبي الضمير للتزويج ولفظة في مشتركة على معان وان كان أصلها الوعاء واليه يردها النظر في كل وجه وقوله تعالى ليس كمثله شيء الكاف موكدة للتشبيه فنفي التشبيه أوكد ما يكون وذلك أنك تقول زيد كعمرو وزيد مثل عمرو فاذا أرادت المبالغة التامة قلت زيد كمثل عمرو وجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب وعلى هذا المعنى شواهد كثيرة وذهب الطبري وغيره الى أن المعنى ليس كهو شيء وقالو لفظة مثل في الآية توكيد وواقعة موقع هو والمقاليد المفاتيح قاله ابن عباس وغيره وقال مجاهد هذا أصلها بالفارسية وهي هاهنا استعارة لوقوع كل أمر تحت قدرته سبحانه وقال السدي المقاليد الخزائن وفي اللفظ على هذا حذف مضاف قال قتادة من ملك مقاليد خزائن فالخزائن في ملكه وقوله سبحانه شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية المعنى شرع لكم وبين من المعتقدات والتوحيد ما وصى به نوحا قبل وقوله والذي عطف على ما وكذلك ما ذكر بعد من اقامة الدين مشروع اتفقت النبوءات فيه وذلك في المعتقدات وأما الأحكام بانفرادها فهي في الشرائع مختلفة وهي المراد في قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا واقامة الدين هو توحيد الله ورفض سواه وقوله تعالى ولا تتفرقوا نهي عن المهلك من تفرق الانحاء والمذاهب والخير كله في الألفة واجتماع الكلمة ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام كبر على المشركين ما تدعوهم اليه من توحيد الله ورفض الأوثان قال قتادة كبر عليهم لا اله الا الله وأبى الله الا نصرها ثم سلاه تعالى عنهم بقوله الله يجتبي اليه من يشاء الآية أي يختار ويصطفي قاله مجاهد وغيره وينيب معناه يرجع عن الكفر ويحرص على (4/103)
الخير ويطلبه وما تفرقوا يعني اوائل اليهود والنصارى الا من بعد ما جاءهم العلم وقوله بغيا بينهم أي بغى بعضهم على بعض واداهم ذلك الى اختلاف الراي وافتراق الكلمة والكلمة السابقة قال المفسرون هي حتمة تعالى القضاء بان مجازاتهم انما تقع في الآخرة ولولا ذلك لفصل بينهم في الدنيا وغلب الحق على المبطل وقوله تعالى وان الذين اورثوا الكتاب اشارة الى معاصري نبينا محمد عليه السلام من اليهود والنصارى وقيل هو اشارة الى العرب والكتاب على هذا هو القرآن والضمير في قوله لفي شك منه يحتمل ان يعود على الكتاب او على محمد او على الاجل المسمى أي في شك من البعث على قول من راى ان الاشارة الى العرب ووصف الشك بمريب مبالغة فيه واللام في قوله تعالى فلذلك فادع قالت فرقة هي بمنزلة الى كأنه قال فالى ما وصى به الانبياء من التوحيد فادع وقالت فرقة بل هي بمعنى من اجل كانه قال من اجل ان الامر كذا وكذا ولكونه كذا فادع انت الى ربك وبلغ ما أرسلت به وقال الفخر يعني فلأجل ذلك التفرق ولأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين فادع الى الاتفاق على الملة الحنيفية واستقم عليها وعلى الدعوة اليها كما أمرك الله ولا تتبع أهواءهم الباطلة انتهى وخوطب عليه السلام بالاستقامة وهو قد كان مستقيما بمعنى دم على استقامتك وهكذا الشأن في كل مأمور بشيء هو متلبس به انما معناه الدوام وهذه الآية ونحوها كانت نصب عيني النبي عليه السلام وكانت شديدة الموقع من نفسه أعني قوله تعالى واستقم كما امرت لأنها جملة تحتها جميع الطاعات وتكاليف النبوءة وفي هذا المعنى قال عليه السلام شيبتني هود وأخواتها فقيل له لم ذلك يا نبي الله فقال لأن فيها فاستقم كما أمرت وهذا الخطاب له عليه السلام بحسب قوته في أمر الله عز و جل وقال هو لأمته بحسب ضعفهم استقيموا ولن تحصوا وقوله تعالى ولا تتبع أهواءهم يعني (4/104)
قريشا ت وفرض الفخر هذه القضية في أهل الكتاب وذكر ما وقع من اليهود ومحاجتهم في دفع الحق وجحد الرسالة وعلى هذا فالضمير في اهوائهم عائد عليهم والله اعلم اه ثم امره تعالى أن يقول آمنت بما أنزل الله من كتاب وهو أمر يعم سائر أمته وقوله وأمرت لا عدل بينكم قالت فرقة اللام في لاعدل بمعنى أن أعدل بينكم وقالت فرقة المعنى وأمرت بما أمرت به من التبليغ والشرع لكي أعدل بينكم وقوله لنا أعمالنا ولكم أعمالكم الى آخر الآية ما فيه من موادعة منسوخ بآية السيف وقوله لا حجة بيننا وبينكم أي لا جدال ولا مناظرة قد وضح الحق وأنتم تعاندون وفي قوله الله يجمع بيننا وعيد بين وقوله تعالى والذين يحاجون في الله الآية قال ابن عباس ومجاهد نزلت في طائفة من بني اسرائيل همت برد الناس عن الاسلام واضلالهم وقيل نزلت في قريش لأنها كانت أبدا تحاول هذا المعنى ويحاجون في الله معناه في دين الله أو توحيد الله أي يحاجون فيه بالابطال والالحاد وما أشبهه والضمير في له يحتمل أن يعود على الله تبارك وتعالى ويحتمل أن يعود على الدين والشرع ويحتمل أن يعود على النبي عليه السلام وداحضة معناه زاهقة والدحض الزهق وباقي الآية بين وقوله سبحان الله الذي أنزل الكتاب بالحق معناه مضمنا الحق أي بالحق في أحكامه وأوامره ونواهيه وأخباره والميزان هنا العدل قاله ابن عباس ومجاهد والناس وحكى الثعلبي عن مجاهد أنه قال هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس قال ع ولا شك أنه داخل في العدل وجزء منه وقوله تعالى وما يدريك لعل الساعة قريب وعيد للمشركين وجاء لفظ قريب مذكرا من حيث تأنيث الساعة غير حقيقي واذ هي بمعنى الوقت ت ينبغي للمؤمن العاقل أن يتدبر هذه الآية ونظائرها ويقدر في نفسه أنه المقصود بها ... لاه بدنياه والأيام تنعاه ... والقبر غايته واللحد مأواه (4/105)
يلهو فلو كان يدري ما أعدله ... اذن لأحزنه ما كان الهاه ...
قال الغزالي في الأحياء قال أبو زكريا التيمي بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام اذ أتوي بحجر منقوش فطلب من يقرأه فأوتي بوهب بن منبه فاذا فيه ابن آدم انك لو رأيت قرب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك ولرغبت في الزيادة من عملك ولقصرت من حرصك وحيلك وانما يلقاك غدا ندمك لو قد زلت بك قدمك وأسلمك أهلك وحشمك ففارقك الولد والقريب ورفضك الوالد والنسيب فلا أنت الى دنياك عائد ولا في حسناتك زائد فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة فبكى سليمان بكاء شديدا انتهى وباقي الآية بين ثم رجى تبارك وتعالى عبادع بقوله الله لطيف بعباده ولطيف هنا بمعنى رفيق متحف والعباد هنا المؤمنون وقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة معناه ارادة مستعد عامل لا ارادة متمن مسوف والحرث في هذه الآية عبارة عن السعي والتكسب والاعداد وقوله تعالى نزد له في حرثه وعد متنجز قال الفخر وفي تفسير قوله نزد له في حرثه قولان الأول نزد له في توفيقه واعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه وقال مقاتل نزد له في حرثه بتضعيف الثواب قال تعالى ليوفيهمم أجورهم ويزيدهم من فضله انتهى وقوله ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها معناه ما شئنا منها ولمن شئنا فرب ممتحن مضيق عليه حريص على حرث الدنيا مريد له لا يحس بغيره نعوذ بالله من ذلك وهذا الذي لا يعقل غير الدنيا هو الذي نفى أن يكون له نصيب في الآخرة وقوله تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله أم هذه منقطعة لا معادلة وهي بتقدير بل وألف الاستفهاك والشركاء في هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم ويكون الضمير في لهم للكفار المعاصرين لمحمد عليه السلام فالاشتراك هاهنا هو (4/106)
في الكفر والغواية وليس بشركة الاشراك بالله ويحتمل أن يكون المراد بالشركاء الأصنام والأوثان على معنى أم لهم أصنام جعلوها شركاء لله في ألوهيته ويكون الضمير في شرعوا لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم والضمير في لهم للاصنام الشركاء وشرعوا معناه أثبتوا ونهجوا ورسموا والدين هنا العوائد والأحكام والسيرة ويدخل في ذلك أيضا المعتقدات السوء لأنهم في جميع ذلك وضعوا أوضاعا فاسدة وكلمة الفصل هي ما سبق من قضاء الله تعالى بأنه يؤخر عقابهم للدار الآخرة والقضاء بينهم هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم وقوله تعالى ترى الظالمين هي رؤية بصر ومشفقين حال وليس لهم في هذا الاشفاق مدح لأنهم انما شفقوا حين نزل بهم وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من أمر الساعة كما تقدم وهو واقع بهم أبو حيان ضمير هو عائد على العذاب أو على ما كسبوا بحذف مضاف أي وبال ما كسبوا انتهى والروضات المواضع المونقة النضرة وقوله تعالى ذلك الذي يبشر الله عباده اشارة الى قوله تعالى في الآية الأخرى وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا وقوله تعالى قل لا أسلألكم عليه أجرا الا المودة في القربى اختلف الناس في معناه فقال ابن عباس وغيره هي آية مكية نزلت في صدر الاسلام ومعناها استكفاف شر الكفار ودفع أذاهم أي ما أسالكم على القرآن الا أن تودوني لقرابة بيني وبينكم فتكفوا عني أذاكم قال ابن عباس وابن اسحاق وقتادة ولم يكن في قريش بطن الا وللنبي صلى الله عليه و سلم فيه نسب أو صهر فالآية على هذا فيها استعطاف ما ودفع اذى وطلب سلامة منهم وذلك كله منسوخ بآية السيف ويحتمل هذا التأويل أن يكون معنى الكلام استدعاء نصرهم أي لا اسالكم غرامة ولا شيئا إلا أن تودوني لقرابتي منكم وأن تكونوا أولى بي من غيركم قال ع وقريش كلها عندي قربى وان كانت تتفاضل وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم (4/107)
أنه قال من مات على حب آل محمد مات شهيدا ومن مات على بغضهم لم يشم رائحة الجنة وقال ابن عباس أيضا ما يقتضي أن الآية مدنية وأن الأنصار جمعت لرسول الله صلى الله عليه و سلم مالا وساقته اليه فرده عليهم ونزلت الآية في ذلك وقيل غير هذا وعلى كل قول فالاستثناء منقطع والا بمعنى لكن ويقترف معناه يكتسب ورجل قرفة اذا كان محتالا كسوبا وغفور معناه ساتر عيوب عباده وشكور معناه مجاز على الدقيقة من الخير لا يضيع عنده لعامل عمل وقوله تعالى أن يقولون افترى على الله كذبا أم هذه مقطوعة مضمنة اضرابا عن كلام متقدم وتقريرا على هذه المقالة منهم وقوله تعالى فإن يشأ الله يختم على قلبك معناه في قول قتادة وفرقة من المفسرين ينسيك القرآن والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان ابطالها كأنه يقول وكيف يصح أن تكون مفتريا وأنت من الله بمرأى ومسمع وهو قادر لو شاء أن يختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراءك فمقصد اللفظ هذا المعنى وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصارا واقتصارا وقال مجاهد المعنى فإن يشأ الله يختم على قلبك بالصبر لأذى الكفار ويربط عليك بالجلد فهذا تاويل لا يتضمن الرد على مقالتهم قال أبو حيان وذكر القشيري أن الخطاب للكفار أي يختم على قلبك أيها القائل فيكون انتقالا من الغيبة للخطاب ويمح استئناف اخبار لا داخل في الجواب وتسقط الواو من اللفظ لالتقاء الساكنين ومن المصحف حملا على اللفظ انتهى وقوله تعالى ويمح فعل مستقبل خبر من الله تعالى أنه يمحو الباطل ولا بد أما في الدنيا وأما في الآخرة وهذا بحسب نازلة نازلة وكتب يمح في المصحف بحاء مرسلة كما كتبوا ويدع الانسان الى غير ذلك مما ذهبوا فيه الى الحذف والاختصار وقوله بكلماته معناه بما سبق في قديم علمه وارادته من كون الأشياء فالكلمات المعاني القائمة القديمة التي لا تبديل لها ثم ذكر تعالى النعمة في تفضله (4/108)
بقبول التوبة من عباده وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمانه وأعماله مقطوع به بهذه الآية وأما ما سلف من أعماله فينقسم فأما التوية من الكفر فماحية كل ما تقدمها من مظالم العباد الفائتة وغير ذلك وأما التوبة من المعاصي فلأهل السنة فيها قولان هل تذهب المعاصي السالفة للعبد بينه وبين خالقه فقالت فرقة هي مذهبة لها وقالت فرقة هي في مشيئة الله تعالى وأجمعوا أنها لا تذهب مظالم العباد وحقيقة التوبة الاقلاع عن المعاصي والاقبال والرجوع الى الطاعات ويلزمها الندم على ما فات والعزم على ملازمة الخيرات وقال سري السقطي التوبة العزم على ترك الذنوب والاقبال بالقلب على علام الغيوب وقال يحيى بن معاذ التائب من كسر شبابه على رأسه وكسر الدنيا على راس الشيطان ولزم الفطام حتى أتاه الحمام وقوله تعالى عن عباده بمعنى من عباده وكأنه قال التوبة الصادرة عن عباده وقرأ الجمهور يفعلون بالياء على الغيبة وقرأ حمزة والكسائي تفعلون بالتاء على المخاطبة وفي الآية توعد وقوله تعالى ويستجيب قال الزجاج وغيره معناه يجيب والعرب تقول اجاب واستجاب بمعنى والذين على هذا التأويل مفعول يستجيب وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل ونحوه عن ابن عباس وقالت فرقة المعنى ويستدعي الذين آمنوا الاجابة من ربهم بالأعمال الصالحات ودل قوله ويزيدهم من فضله على أن المعنى فيجيبهم والذين على هذا القول فاعل يستجيب وقالت فرقة المعنى ويجيب المؤمنون ربهم فالذين فاعل بمعنى يجيبون دعوة شرعه ورسالته والزيادة من فضله هي تضعيف الحسنات وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال هي قبول الشفاعات في المذنبين والرضوان وقوله تعالى ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء أنه بعباده خبير بصير قال عمرو ابن حريث وغيره أنها نزلت لأن قوما من أهل الصفة طلبوا من رسول الله (4/109)
صلى الله عليه و سلم أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق فعلمهم الله تعالى أنه لو جاء الرزق على اختيار البشر واقتراحهم لكان سبب بغيهم وافسادهم ولكنه عز و جل أعلم بالمصلحة في كل أحد أنه بعباده خبير بصير بمصالحهم فهو ينزل لهم من الرزق القدر الذي به صلاحهم فرب انسان لا يصلح وتنكف عاديته الا بالفقر ت وقد ذكرنا في هذا المختصر أحاديث كثيرة مختارة في فضل الفقراء الصابرين ما فيه كفاية لمن وفق وقد روى ابن المبارك في رقائقه عن سعيد بن المسيب قال جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة قال هم الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيرا قال يا رسول الله فهم أول الناس يدخلون الجنة قال لا قال فمن أول الناس يدخل الجنة قال الفقراء يسبقون الناس الى الجنة فتخرج اليهم منها ملائكة فيقولون ارجعوا الىالحساب فيقولون على ما نحاسب والله ما أفيضت علينا الأموال في الدنيا فنقبض فيها ونبسط وما كنا أمراء نعدل ونجور ولكنا جاءنا أمر الله فعبدناه حتى أتانا اليقين انتهى وقوله عز و جل وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا الآية تعديد نعم الله الدالة على وحدانيته وانه المولى الذي يستحق أن يعبد دون ما سواه من الأنداد وقرأ الجمهور قنطوا بفتح النون وقرأ الأعمش قنطوا بكسرها وهما لغتان وروي أن عمر رضي الله عنه قيل له أجدبت الأرض وقنط الناس فقال مطروا اذن بمعنى أن الفرج عند الشدة وقوله تعالى وينشر رحمته قيل اراد بالرحمة المطر وقيل اراد بالرحمة هنا الشمس فذلك تعديد نعمة غير الأولى وذلك أن المطر اذا الم بعد القنط حسن موقعه فاذا دام سئم فتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع وقوله تعالى وهو الولي الحميد أي من هذه أفعاله هو الذي ينفع اذا والى وتحمد أفعاله ونعمه قال القشيري اسمه تعالى الولي هو المتولي لأحوال عباده وقيل هو من الوالي (4/110)